المجلد الثاني - كتاب السلم

السلم ‏:‏ أن يسلم عيناً حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل ، وهو نوع من البيع ، ينعقد بلفظ البيع والسلف ، وتعتبره في شروط البيع ، ويزيد بشروط ستة ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يكون مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً ، لأنه بيع بالصفة فيشترط إمكان ضبطها ، فيصح السلم في المكيل والموزون والمزروع لما روى ابن عباس عن رسول الله أنه قدم المدينة ، وهم يسلفون الثمار السنتين والثلاث ، فقال ‏:‏ من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم متفق عليه ‏.‏ وقال عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى ‏:‏ كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام ، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقيل ‏:‏ أكان لهم زرع أم لم يكن ‏؟‏ قال ‏:‏ ما كنا نسألهم عن ذلك ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر ، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة ، لأنه في معناه ، ويصح في الخبر واللبأ والشواء ، لأن عمل النار فيه معتاد ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة ، فصح السلف فيه ، كالمجفف بالشمس وقال القاضي ‏:‏ لا يصح الشواء واللحم المطبوخ ، لأن عمل النار فيه فيختلف فلا ينضبط ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح فيما لا ينضبط ، كالجوهر واللؤلؤ والزبرجد والياقوت والعقيق ونحوها ، لأنها تختلف اختلافاً متبايناً بالكبر والصغر ، وحسن التدوير ، وزيادة ضوئها ، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور ونحوه ، لأنها تختلف ‏.‏ وفي الحوامل من الحيوان ، والشاة اللبون ، والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يصح أن يسلم فيه، لأن الصفة لا تأتي عليه ، والولد واللبن مجهول ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، لأن الحمل واللبن لا حكم لهما مع الأم بدليل البيع ، والأواني يمكن ضبطها بسعة رأسها وأسفلها ، وعلو حائطها ، فهي كالأواني المربعة ، وما فيه خلط من غيره ينقسم أربعة أقسام ‏:‏

أحدها ‏:‏ ما خلطه لمصلحته ، وهو غير مقصود في نفسه ، كالإنفحة في الجبن ، والملح في الخبز والشيرج ، والماء في خل التمر فيصح السلم فيه لأنه يسير للمصلحة ‏.‏

الثاني ‏:‏ أخلاط متميزة مقصود كثوب منسوج من شيئين فيصح السلم فيه لأن ضبطه ممكن ، وفي معناه النبل والنشاب ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ لا يصح السلم فيهما ، لأن فيه أخلاطاً ويختلف طرفاه ووسطه ، فأشبه القسي ، والأول أصح ، لأن أخلاطه متميزة ممكن ضبطها ، والاختلاف فيه يسير معلوم بالعادة ، فهو كالثياب من جنسين بخلاف القسي ‏.‏

الثالث ‏:‏ المغشوش كاللبن المشوب ، والحنطة فيها الزوان ، فلا يصح السلم فيه ، لأن غشه يمنع العلم المقصود فيه ، فيكون فيه غرر ‏.‏

الرابع ‏:‏ أخلاط مقصودة غير متميزة ، كالغالية والند والمعاجين ، فلا يصح السلم فيه ، لأن الصفة لا تأتي عليه ، وفي معناه القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والغزل والتوز ، فلا يصح السلم فيها للعجز عن مقادير ذلك ، وتميز ما فيه منها ، وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيها كالثياب ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي الحيوان روايتان ‏:‏

أظهرها ‏:‏ صحة السلم فيه ، لأن أبا رافع قال ‏:‏ استلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً رواه مسلم ‏.‏ ولأنه يثبت في الذمة صداقاً ، فصح السلم فيه كالثياب ‏.‏

الثانية ‏:‏ لا يصح ، لأنه يختلف اختلافاً متبايناً مع ذكر أوصافه الظاهرة ، فربما تساوى العبدان في الصفات المعتبرة ، وأحدهما يساوي أمثال صاحبه ‏.‏ وإن استقصى صفاته كلها ، تعذر تسليمه ‏.‏ وفي المعدود من الجوز والبيض ، والبطيخ والرمان والبقل ونحوه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح لذلك‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح لأن التفاوت يسير ، ويمكن ضبطه بعضه بالصغر والكبر ، وبعضه بالوزن ‏.‏ وفي الرؤوس والأطراف والجلود من الخلاف مثل ما ذكرنا فيما قبله ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثاني ‏:‏ معرفة قدره بالكيل إن كان مكيلاً ، وبالوزن إن كان موزوناً ، وبالذرع إن كان مذروعاً ، لحديث ابن عباس ، لأنه عوض غير مشاهد ، يثبت في الذمة ، فاشترط معرفة قدره كالثمن ‏.‏ ويجب أن يكون ما يقدر به معلوماً عند العامة ، فإن قدره بإناء ، أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح ، لأنه قد يهلك ، فيجعل قدره ، وهذا غرر لا يحتاج العقد إليه ‏.‏ وإن أسلم في المكيل وزناً ، وفي الموزون كيلاً ، فعنه ‏:‏ لا يصح ، لأته مبيع اشترط معرفة قدره ، فلم يجز بغير ما هو مقدر كالربويات ‏.‏ وعنه ‏:‏ ما يدل على الجواز ، لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض ، ولا بد من تقدير المذروع بالذرع ، فأما المعدود فيقدر بالعدد ، وقيل بالوزن ، لأنه يتباين ، والأولى أولى ، لأنه يقدر به عنده العامة ، والتفاوت يسير ، ويضبط بالصغر والكبر ، ولهذا لا تقع القيمة بين الجوزتين والبيضتين ‏.‏فإن كان يتفاوت كثيراً ، كالرمان والبطيخ والسفرجل والبقول ، قدره بالوزن ، لأنه أضبط لكثرة تفاوته وتباينه ، ولا يمكن ضبطه بالكيل ، لتجافيه في المكيال ، ولا بالحزم ، لأنه يختلف ، ويمكن حزم الكبير والصغير ، فتعين بالوزن لتقديره‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثالث ‏:‏ أن يجعلا له أجلاً معلوماً ، فإن أسلم حالاً لم يصح ، لحديث ابن عباس ، ولأن السلم إنما جاز رخصته للمرافق ، ولا يحصل المرفق إلا بالأجل ، فلا يصح بدونه ، كالكتابة ، فإن كان بلفظ البيع ، صح حالاً ، قال القاضي ‏:‏ ويجوز التفرق قبل قبض رأس المال ، لأنه بيع ، ويحتمل أن لا يجوز لأنه بيع دين بدين ‏.‏ ويشترط في الأجل ثلاث أمور ‏:‏

أحدها ‏:‏ كونه معلوماً ، لقوله تعالى ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ وللخبر ‏.‏ فإن جعله إلى المحرم أو يوم منه ، أو عيد الفطر ونحوها ، جاز لقول الله تعالى ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس‏}‏ وإن قدره بغير ذلك مما يعرفه الناس ، ككانون وعيد للكفار يعرفه المسلمون ، جاز لأنه معلوم لا يختلف ‏.‏ وقال ابن أبي موسى ‏:‏ لا يصح ، لأنه لا يعرفه كثير من الناس ‏.‏ وإن كان مما لا يعرفه المسلمون ، كالشعانين وعيد الفطر ، لم يصح ، وجهاً واحداً ، لأن المسلمين لا يعرفونه ، ولا يجوز تقليد أهل الذمة ، فبقي مجهولاً ‏.‏ وإن جعلا الأجل إلى مدة معلومة كشهر معين تعلق بأولها ‏.‏ ولو قال ‏:‏ محله في رمضان ، فكذلك ، لأنه لو قال لزوجته ‏:‏ أنت طالق في رمضان ، طلقت في أوله ، ولو احتمل غير الأول لم يقع الطلاق بالشك ‏.‏ وإن جعله اسماً يتناول شيئين كربيع ، تعلق بأولها كما لو علقه بشهر ، وإن قال ‏:‏ ثلاثة أشهر انصرف إلى الهلالية ، لأنها الشهور في لسان الشرع ، فإن كان في أثناء شهر ، كمل بالعدد ثلاثين ، والباقي بأهله ‏.‏ الأمر الثاني ‏:‏ أن يكون مما لا يختلف ، فإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والموسم ، لم يصح ، لأن ابن عباس قال ‏:‏ لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم ‏.‏ ولأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد ، فلم يجز جعله أجلاً ، كقدوم زيد ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه قال أرجو أن لا يكون به بأس ، لأن ابن عمر كان يبتاع إلى العطاء ، ولأنه لا يتفاوت تفاوتاً كثيراً ، فإن أسلم إلى العطاء يريد به وقته ، وكان معلوماً ، جاز ، وإن أراد نفس العطاء ، لم يصح لأنه يختلف ‏.‏

الأمر الثالث ‏:‏ أن تكون مدة لها وقع في الثمن ، كالشهر ونصفه ونحوه فأما اليوم ونحوه ، فلا يصح التأجيل به ، لأن الأجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق ولا يتحقق إلا بمدة طويلة ‏.‏ فإن أسلم في جنس إلى أجلين أو آجال ، مثل أن يسلم في خبز أو لحم ، يأخذ كل يوم أرطالاً معلومة، جاز ، لأنه كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى آجال ، كبيوع الأعيان ‏.‏ ويجوز أن يسلم في جنسين إلى أجل واحد كما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الرابع ‏:‏ أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله ، مأمون الانقطاع فيه ، لأن القدر على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك ، فلو أسلم في العنب إلى شباط ، لم يصح ، لأنه لا يوجد فيه إلا نادراً ‏.‏ ولا يصح السلم في ثمرة بستان بعينه ، ولا قرية صغيرة ، لما روي أن زيد بن سعنة أسلف النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين ديناراً في تمر مكيل مسمى من تمر حائط بني فلان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أما من حائط بني فلان فلا ، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى رواه ابن ماجة ‏.‏ ولأنه لا يؤمن تلفه ، فلم يصح ، كما لو قدره بمكيال معين ، ولا يصح السلم في عين لذلك ، ولأن الأعيان لا تثبت في الذمة ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الخامس ‏:‏ أن يضبط بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهراً ، فيذكر الجنس والنوع ، والجودة والرداء، والكبر والصغر ، والطول والقصر والعرض والسمك ، والنعومة والخشونة ، واللين والصلابة، والرقة والصفاقة والذكورية والأنوثية ، والسن والبكارة ، والثيوبة واللون والبلد ، والرطوبة واليبوسة ، ونحو ذلك مما يقبل هذه الصفات ، ويختلف بها ، ويرجع فيما لا يعلم منها تفسير أهل الخبرة ، فإن شرط الأجود منها، لم يصح ، لأنه يتعذر عليه الوصول إليه ، فإن وصل إليه كان نادراً ‏.‏ وإن شرط الأردأ ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يصح لذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، لأنه يمكنه تسليم السلم ، أو خير منه من جنسه ، فيلزم المسلم قبوله ‏.‏ وإن أسلم في جارية وابنتها ، لم يصح ، لأنه يتعذر وجودهما على ما وصف ، وإن استقصى صفات السلم بحيث يتعذر وجوده ، لم يصح ، لأنه يعجز تسليمه ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط السادس ‏:‏ أن يقبض رأس ماله السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم من أسلف فليسلف في كيل معلوم والإسلاف ‏:‏ التقديم ، ولأنه إنما سمي سلماً وسلفاً ، لما فيه من تقديم رأس المال ، فإذا تأخر لم يكن سلماً ، فلم يصح ولأنه يصير بيع دين بدين‏، فإن تفرقا قبل قبضه ، بطل ‏.‏ وإن تفرقا قبل قبض بعضه ‏.‏ بطل فيما لم يقبض ، وفي المقبوض وجهان ، بناء على تفريق الصفقة ، ويجوز أن يكون في الذمة ، ثم يعينه في المجلس ويسلمه ‏.‏ ويجب أن يكون معلوماً ، كالثمن في البيع ، فإن كان معيناً ، فظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي برؤيته ، لأنه عوض معين ، أشبه ثمن المبيع ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا بد من وصفه ، لقول أحمد ‏:‏ ويصف الثمن ، ولأنه عقد لا يمكن إتمامه ، وتسليم المعقود عليه في الحال ، ولا يؤمن انفساخه ،فوجب معرفة رأس المال بالصفات ، ليرد بدله ، كالقرض في الشركة ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز أن يكون مسلماً فيه ، لأنه يعتبر ضبط صفاته ، فأشبه المسلم فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل مالين جاز النساء بينهما ، جاز إسلام أحدهما في الآخر ، وما لا فلا ، فعلى قولنا يجوز النساء في العروض ، يصح إسلام عرض في عرض وفي ثمن ، فإن أسلم عرضاً في آخر بصفته ، فجاءه به عند المحل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلزمه قبوله ، لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته ، فلزمه قبوله كغيره ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يلزمه قبوله ، لأنه يفضي إلى كون الثمن هو المثمن ‏.‏ وإن أسلم صغيراً في كبير، فحل السلم ، وقد صار الصغير على صفته الكبير ، فعلى الوجهين ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يشترط وجود المسلم فيه قبل المحل ، لا حين العقد ولا بعده ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ، فلم ينههم عنه ، وفي الثمار ما ينقطع قي أثناء السنة ، فلو حرم لبينه ، ولأنه يثبت في الذمة ويوجد عند المحل ، فصح السلم فيه ، كالموجود في جميع المدة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حديث ابن عباس ، ولا في حديث زيد بن سعنة ، ولأنه عقد معاوضة ، أشبه البيع ‏.‏ ويكون الإفاء في مكان العقد ، كالبيع فإن كان السلم موضع لا يمكن الوفاء فيه ، كالبرية ، تعين ذكر مكان الإفاء ، ولأنه لا بد من مكان، ولا قرينة تعين ، فوجب تعينه بالقول ‏.‏ وإن كان في موضع يمكن الوفاء فيه ، فشرطه كان تأكيداً ، وإن شرط مكاناً سواه ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح ، لأنه ينافي مقتضى العقد ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح ،لأنه عقد بيع ، فصح شرط مكان الإفاء فيه كالبيع ، وبهذا ينتقض دليل الأولى ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجب تسليم السلم عند المحل على أقل ما وصف به ، سليماً من العيوب والغش ، فإن كان في البر قليل من تراب ، أو دقيق تبن لا يأخذ حظاً من الكيل ، وجب قبوله ، لأنه دون حقه ‏.‏ وإن أحضره بصفته ، وجب قبوله ، وإن تضمن ضرراً ، لأنه حقه ، فوجب قبوله كالوديعة ، فإن امتنع دفعه إلى الحاكم ، وبرئ لذلك ، فإن كان أجود من حقه في الصفة ، لزم قبوله ، لأنه زاده خيراً ، وإن طلب عن الزيادة عوضاً لم يجز ، لأنها صفة ، ولا يجوز إفراد الصفات بالبيع ‏.‏ وإن جاءه بأردأ من حقه ، لم يجب قبوله ، وجاز أخذه ، وإن أعطاه عوضاً عن الجودة الفائتة ، لم يجز لذلك ، ولأنه بيع جزء من السلم قبل قبضه ‏.‏ وإن أعطاه غير المسلم فيه ، لم يجز أخذه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره رواه أبو داود ولأنه بيع للسلم قبل قبضه ، فلم يجز كما لو أخذ عنه ثمناً ، وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى فيمن أسلم في بر ، فرضي مكنه شعيراً مثل كيله ‏:‏ جاز ، ولعل هذا بناء على رواية كون البر والشعير جنساً ، والصحيح غيرها ‏.‏ وإن أعطاه غير نوع السلم ، جاز قبوله ، ولا يلزم ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ يلزم قبوله إذا لم يكن أدنى من النوع الذي شرطه ، لأنه من جنسه ، فأشبه الزائد في الصفة من نوع واحد ، والأول أصح ، لأنه لم يأتي بالشروط ، فلم يلزمه قبوله كالأدنى بخلاف الزائد في الصفة ، فإنه أحضر المشروط مع زيادة ، ولأن أحد النوعين يصلح لما لا يصلح له الآخر بخلاف الصفة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أحضره قبل محله ، أو في مكان الوفاء ، فاتفقا على أخذه ، جاز ‏.‏ إن أعطاه عوضاً عن ذلك أو نقصه من السلم ، لم يجز ، لأنه بيع الأجل والحمل ‏.‏ وإن عرضه عليه ، فأبى أخذه لغرض صحيح ، مثل أن تلزمه مؤنة لحفظه أو حمله أو عليه مشقة ، أو يخاف تلفه ، أو أخذه منه ، لم يلزمه أخذه ‏.‏ وإن أباه لغير غرض صحيح ، لزمه ، لأنه زاد خيراً ، فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ، ليأخذه ، لما روي أن نساً كاتب عبداً له على مال ، فجاءه به قبل الأجل ، فأبى أن يأخذه ، فأتى عمر رضي الله عنه ، فأخذه منه ، قال ‏:‏ اذهب فقد عتقت ‏.‏ ولأنه زاده خيراً ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قبضه بما قدره به من كيل أو غيره ، برئ صاحبه ‏.‏ وإن قبضه جزافاً ، قدره ، فأخذ قدره حقه ، ورد الفضل ، أو طالب بتمام حقه ، إن كان ناقصاً ‏.‏ وهل له التصرف في قدر حقه قبل تقديره ‏؟‏ على وجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له ذلك ، لأنه قدر حقه وقد أخذه ، ودخل في ضمانه ‏.‏

والثاني ‏:‏ ليس له ذلك ، لأنه لم يقبضه القبض المعتبر ‏.‏ وإن اختلفا في القبض ، فالقول قول المسلم ، لأنه منكر ‏.‏ وإن اختلفا في حلول الأجل ، فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن تعذر تسليم السلم عند المحل ، فللمسلم الخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد ، وبين فسخ العقد ، والرجوع برأس ماله ، إن كان موجوداً ، أو مثله ، إن كان مثلياً ، أو قيمته إن يكن مثلياً وقيل ‏:‏ ينفسخ العقد بالتعذر لأن المسلم في ثمرة هذا العام وقد هلكت ، فانفسخ العقد ، كما لو اشترى قفيزاً من صبرة ، فهلكت ‏.‏ والأول أصح ، لأن السلم في الذمة لا في عين ، وإنما لزمه الدفع من ثمرة هذا العام ، لتمكنه من دفع الواجب منها ، فإن تعذر البعض ، فله الخيرة بين الصبر بالباقي ، وبين الفسخ في الجمع ‏.‏ وله أخذ الموجود ، والفسخ في الباقي في أصح الوجهين ، لأنه فسخ في بعض المعقود عليه أشبه البيع ، وفي الآخر ‏:‏ لا يجوز ، لأن السلم يقل فيه الثمن لأجل التأجيل ، فإذا فسخ في البعض ، بقي البعض بالباقي من المثمن ، وبمنفعة الجزء الذي فسخ فيه ، فلم يجز ، كما لو شرطه في ابتداء العقد ‏.‏ وتجوز الإقالة في السلم كله إجماعاً وتجوز في بعضه ، لأن الإقالة معروف ، جاز في الكل ، فجاز في البعض كالإبراء ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يجوز ، لما ذكرنا في الفسخ ، والأول أصح ، لأن باقي الثمن يستحق باقي العوض ‏.‏وإذا فسخ العقد ، رجع بالثمن ، أو ببدله إن كان معدوماً ‏.‏ وليس له صرفه في عقد آخر قبل قبضه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أسلم في شيء ، فلا يصرفه إلى غيره ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ يجوز أخذ العوض عنه ، لأنه عوض مستقر في الذمة ، فأشبه القرض ‏.‏ فعلى هذا يصير حكمه حكم القرض على ما سيأتي ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ، وعن بيع ما لم يضمن ‏.‏ رواه الترمذي وقال ‏:‏ حديث حسن صحيح ، ولفظه ‏:‏ لا يحل ، ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه ، فلم يجز بيعه ، كالطعام قبل قبضه ‏.‏ ولا يجوز التولية فيه ، ولا الشركة ،ن لما ذكرنا في الطعام ، ولا الحوالة به ، لأنها إنما تجوز بدين مستقر ، والسلم بعوض الفسخ ‏.‏ ولا تجوز الحوالة على من عليه سلم ، لأنها معاوضة بالسلم قبل قبضه ‏.‏ ولا يجوز بيع السلم من بائعه قبل قبضه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أسلم من شيء ، فلا يصرفه إلى غيره ولأنه بيع للمسلم فيه ، فلم يجز كبيعه من غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قبضه فوجده مبيعاً ، فله رده وطلب حقه ، لأن العقد يقتضي السلامة وقد أخذ المعيب عما في الذمة ، فإذا رده ، رجع إلى ما في الذمة ‏.‏ وإن حدث فيه عيب عنده ، فهو كما لو حدث العيب في المبيع بعد قبضه على ما مضى ‏.‏
باب القرض


ويسمى سلفاً ، وأجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرض ‏.‏ وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة رواه ابن ماجة ‏.‏ ويصح بلفظ القرض ، وبكل لفظ يؤدي معناه ‏.‏ نحو أن يقول ‏:‏ ملكتك هذا على أن ترد بدله ، فإن لم يذكر البدل ، فهو هبة ‏.‏ وإذا اختلفا ، فالقول قول المملك لأن الظاهر معه لأن التمليك بغير عوض هبة ، ويثبت الملك في القرض بالقبض ، لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه ، كالهبة ‏.‏ ولا خيار فيه ، لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره ، فهو كالواهب ‏.‏ ويصح شرط الرهن فيه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لأهله متفق عليه ‏.‏

وإن شرط فيه الأجل ، لم يتأجل ، ووقع حالاً ‏.‏ لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع ، فلا يلزم ، كتأجيل العارية ‏.‏ ولو أقرضه تفاريق ، ثم طلب به جملة ، لزم المفترض ذلك لما قلنا‏.‏ فإذا أراد المقرض الرجوع في عين ماله ، وبذل المقترض مثله ، فالقول قول المقترض لأن الملك قد زال عن العين بعوض ‏.‏ فأشبه البيع اللازم ‏.‏ وإن أراد المقترض رد عين المال ، لزم المقرض قبوله ، لأنه بصفة حقه ، فلزمه قبوله ‏.‏ كما لو دفع إليه المثل ‏.‏

فصل

ويصح قرض كل ما يصح السلم فيه ، لأنه يملك بالبيع ، ويضبط بالصفة ، فصح قرضه كالمكيل ، إلا بني آدم ، فإن أحمد رضي الله عنه كره قرضهم ، فيحتمل التحريم ‏.‏ اختاره القاضي ، لأنه لم ينقل ، ولا هو من المرافق ، ولأنه يفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ، ثم يردها ، ويحتمل الجواز ‏.‏ لأن السلم فيه صحيح ، فصح قرضهم كالبهائم ‏.‏ فأما ما لا يصح السلم فيه ، كالجواهر ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يجوز ‏.‏ ذكره أبو خطاب ، لأن القرض يقتضي رد المثل وهذا لا مثل له ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجوز ، قاله القاضي ، لأن ما لا مثل له تجب قيمته ‏.‏ والجواهر كغيرها في القيمة ‏.‏

ولا يجوز القرض إلا في معلوم القدر ، فإن أقرضه فضة لا يعلم وزنها ، أو مكيلاً لا يعلم كيله لم يجز لأن القرض يقتضي رد المثل ، وإذا لم يعلم ، لم يتمكن من القضاء ‏.‏ فصل

ويجب رد المثل في المثليات ، لأنه يجب مثله في الإتلاف ، ففي القرض أولى ‏.‏ فإن أعوز المثل ، عليه قيمته حين أعوز ، لأنها حينئذ ثبت في الذمة ‏.‏ وفي غير المثلي وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يرد القيمة ، لأن ما أوجب المثل في المثلي أوجب القيمة في غيره ، كالإتلاف ‏.‏

والثاني ‏:‏يرد المثل ، لما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً ، فقدمت عليه إبل للصدقة ، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع ، فقال ‏:‏ يا رسول الله لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً ، فقال ‏:‏ أعطه إياه ، فإن من خير الناس أحسنهم قضاء رواه مسلم ‏.‏ ولأن ما يثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي ، بخلاف الإتلاف ، فإنه عدوان ، فأوجب القيمة ، لأنه أحصر ‏.‏ والقرض ثبت للرفق ، فهو أسهل ‏.‏ فعلى هذا يعتبر مثله في الصفات تقريباً ، فإن قلنا ‏:‏ يرد القيمة اعتبرت حين القرض ، لأنها حينئذ تجب‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز قرض الخبز ، ورد مثله عدداً بغير وزن في الشيء اليسير ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يجوز إلا بالوزن ، قياساً على الموزونات ووجه الأول ما روت عائشة قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله إن الجيران يقترضون الخبز والخمير ، ويردون زيادة ونقصاناً ‏.‏ فقال ‏:‏ لا بأس ، إنما ذلك من مرافق الناس وعن معاذ ‏:‏ أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير فقال ‏:‏ سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق ، فخذ الكبير وأعط الصغير ، وخذ الصغير وأعط الكبير ، خيركم أحسنكم قضاء ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ‏.‏ روهما أبو بكر في الشافي ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أقرضه فلوساً ، أو مكسرة ، فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها ، فعليه قيمتها يوم أخذها ، نص عليه ، لأنه منع إنفاقها ، فأشبه تلف أجزائها ‏.‏ فإن لم تترك المعاملة بها ، لكن رخصت ، فليس له إلا مثلها ، لأنها لم تتلف ، إنما تغير سعرها ، فأشبهت الحنطة إذا رخصت ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز أن يشترط في القرض شرطً يجر به نفعاً ، مثل أن يشترط رد أجود منه أو أكثر ، أو أن يبيعه ، أو أن يشتري منه ، أو يؤجره ، أو يستأجر منه ، أو يهدي له ، أو يعمل له عملاً ونحوه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف ‏.‏ رواه الترمذي وقال ‏:‏ حديث حسن صحيح ‏.‏ وعن أبي كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ‏.‏ ولأنه عقد إرفاق ، وشرط ذلك يخرجه عن موضوعه ‏.‏ وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر ، أو يكتب له به سفتجة إلى بلد في حمله إليه نفع ، لم يجز لذلك ، فإن لم يكن لحمله مؤنة ، فعنه ‏:‏ الجواز ، لأن هذا ليس بزيادة قدر ولا صفة ، فلم يفسد به القرض ، كشرط الأجل ‏.‏ وعنه ‏:‏ في السفتجة مطلقاً روايتان ‏.‏ لأنها مصلحة لهما جميعاً ‏.‏ وإن شرط رد دون ما أخذ ، لم يجز لأنه ينافي مقتضاه ، وهو رد المثل ، فأشبه شرط الزيادة ‏.‏ ويحتمل أنه لا يبطله ، لأنه نفع المقترض لا يمنع منه ، لأن القرض إنما شرع رفقاً به ، فأشبه شرط الأجل ، بخلاف الزيادة ‏.‏ وكل موضوع بطل الشرط فيه ، ففي القرض وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يبطل ، لأنه قد روي كل قرض جر منفعة ، فهو ربا ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يبطل ، لأن القصد إرفاق المقترض ‏.‏ فإذا بطل الشرط ، بقي الإرفاق بحاله ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وفى خيراً من القدر ، أو الصفة من غير شرط ، ولا مواطأة ، جاز لحديث أبي رافع ‏.‏ وإن كتب له به سفتجة ، أو قضاه في بلد آخر ، أو أهدى إليه هدية بعد الوفاء ، فلا بأس لذلك‏.‏ وقال ابن أبي موسى ‏:‏ إن زاده مرة ، لم يجز أن يأخذ في المرة الثانية ، زيادة ، قولاً واحداً ‏.‏ ولا يكره قرض المعروف ، لحسن القضاء ‏.‏ وذكر القاضي وجهاً في كراهته ، لأنه يطمع في حسن عادته ‏.‏ والأول أصح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفاً بحسن القضاء ، فلم يكن قرضه مكروهاً ، ولأن خير الناس أحسنهم قضاء ، ففي كراهة قرضه تضييق على خير الناس ، وذوي المروءات ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أهدى له قبل الوفاء من غير عادة ، أو استأجر منه بغير الأجرة ، أو أجره شيئاً بأقل ، أو استعمله عملاً ، فهو خبيث إلا أن يحسبه من دينه ، كما روى الأثرم ‏:‏ أن رجلاً كان له على سماك عشرون درهماً ، فجعل يهدي إليه السمك ويقومه ، حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً ، فسأل ابن عباس فقال ‏:‏ أعطه سبعة دراهم ‏.‏ وروى ابن ماجة عن أنس أنه قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه ، أو حمله على الدابة ، فلا يركبها ولا يقبله ، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك فإن كان بينهما عادة بذلك قبل القرض ، أو كافأه ، فلا بأس ، لهذا الحديث ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أفلس غريمه ، فأقرضه ليفيه كل شهر شيئاً منه ، جاز ، لأنه إنما انتفع باستيفاء ما يستحق استيفاؤه ‏.‏ ولو كان له طعام عليه ، فأقرضه ما يشتريه به ويوفيه ، جاز لذلك ‏.‏ ولو أراد تنفيذ نفقة إلى عياله ، فأقرضها رجلاً ليوفيها لهم ، فلا بأس ‏.‏ لأنه مصلحة لهما ، لا ضرر فيه ، ولا يرد الشرع بتحريم ذلك ‏.‏

قال القاضي ‏:‏ ويجوز قرض مال اليتيم للمصلحة ، مثل أن يقرضه في بلد ليوفيه في بلد آخر ، ليربح خطر الطريق ‏.‏ وفي معنى هذا ‏:‏ قرض الرجل فلاحه حباً يزرع في أرضه ، أو ثمناً يشتري به بقراً وغيرها ، لأنه مصلحة لهما ‏.‏ وقال ابن أبي موسى ‏:‏ هذا خبيث ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قال المقرض ‏:‏ إذا مت ، فأنت في حل ، فهي وصية صحيحة ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إن مت ، فأنت في حل ، لم يصح ، لأنه إبراء علق على شرط ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اقترض لي مائة ولك عشرة ، صح ، لأنها جعالة على ما بذله من جاهه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ تكفل عني بمائة ولك عشرة ، لم يجز لأنه يلزمه أداء ما كفل به ، فيصير له على المكفول ، فيصير بمنزلة من أقرضه مائة ، فيصير قرضاً جر نفعاً ‏.‏ ولو أقرضه تسعين عدداً بمائة عدداً ، وزنهما واحد ، وكانت لا تتفق برؤوسها ، فلا بأس به ، لأنه لا تفاوت بينهما في قيمة ولا وزن ، وإن كانت تتفق في موضع برؤوسها ، لم يجز ، لأنها زيادة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أقرضه نصف دينار ، فأتاه بدينار صحيح ، وقال ‏:‏ خذ نصفه وفاء ، ونصفه وديعة ، أو سلماً ، جاز ‏.‏ وإن امتنع من أخذه ، لم يلزمه ، لأن عليه ضرراً في الشركة ‏.‏ والسلم عقد يعتبر فيه الرضى ، ولو أقرضه نصفاً قراضة على أن يوفيه نصفاً صحيحاً ، لم يجز ، لأنه شرط زيادة والله أعلم ‏.‏



باب الرهن


وهو المال يجعل وثيقة بالدين المستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين ويجوز في السفر لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن كنتم على سفر‏}‏ ‏{‏ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة‏}‏ وفي الحضر لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه متفق عليه ولأنه وثيقة جازت في السفر ، فتجوز في الحضر كالضمان والشهادة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز الرهن بعوض القرض ، للآية ‏.‏ وبثمن المبيع ، للخبر ‏.‏ وكل دين يمكن استيفاؤه منه ‏.‏ كالأجرة ، والمهر ، وعوض الخلع ، ومال الصلح ، وأرش الجناية والعيب ، وبدل المتلف ‏.‏ قياساً على الثمن ، وعوض القرض وفي دين السلم روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يصح الرهن به للآية والمعنى ‏.‏

والأخرى ‏:‏ لا يجوز لأنه لا يأمن هلاك الرهن بعدوان ، فيصير مستوفياً حقه من غير المسلم فيه ‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أسلم من شيء ، فلا يصرفه إلى غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز الرهن بمال الكتابة ، لأنه غير لازم ‏.‏ فإن للعبد تعجيز نفسه ، ولا يمكن استيفاؤه من الرهن ،لأنه لو عجز ، صار هو والرهن لسيده ‏.‏ ولا يجوز بما يحمل العاقلة من الدية قبل الحول ، لأنه لم يجب ، ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب ، فإنه يحتمل حدوث ما يمنع وجوبه ‏.‏ ويجوز الرهن به بعد الحول ‏.‏ لأنه دين مستقر ‏.‏ ولا يجوز بالجعل في الجعالة قبل العمل ، لعدم الوجوب ، ويجوز بعده ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ يحتمل جواز الرهن به قبل العمل لأن مآله إلى الوجوب ‏.‏ ولا يصح الزهن بما ليس بثابت في الذمة ، كالثمن المتعين ، والأجرة المتعينة ، والمنافع المعينة ‏.‏ نحو أن يقول ‏:‏ أجرتك داري هذه شهراً ، لأن العين لا يمكن استيفاؤها من الرهن ، ويبطل العقد بتلفها ‏.‏ وقياس هذا أنه لا يصح الرهن بالأعيان المضمونة ، كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم ، لتعذر استيفاء العين من الرهن ‏.‏ وإن جعله بقيمتها كان رهناً بما لم يجب ‏.‏ ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ قياس المذهب صحة الرهن بها ، لصحة الكفالة بها ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح الرهن بالحق بعد ثبوته ‏.‏ لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين‏}‏ ‏.‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏فرهان مقبوضة‏}‏ ‏.‏ ومع ثبوته وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع أو القرض ، لأن الحاجة داعية إليه ‏.‏ فإنه لو لم يشترطه ، لم يلزم الغريم الرهن ‏.‏ وإن رهن قبل الحق ، لم يصح في ظاهر المذهب ‏.‏ اختاره أبو بكر والقاضي ، لأنه تابع للدين ، فلا يجوز قبله كالشهادة ‏.‏ واختار أبو الخطاب ‏:‏ صحته ‏.‏ فإذا دفع إليه رهناً على عشرة دراهم يقرضه إياه ، ثم أقرضه ، لزم الرهن ، لأنه وثيقة بحق ، فجاز عقدها قبله كالضمان ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن ، لأن العقد لحظه وحده ، فكان له فسخه كالمضمون له ‏.‏ ويلزمه من جهة الراهن ، لأن الحظ لغيره فلزمه من جهته ، كالضمان في حق الضامن ، ولأنه وثيقة فأشبه الضمان‏.‏ ولا يلزمه بالقبض ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فرهان مقبوضة‏}‏ ‏.‏ ولأنه عقد إرفاق ، فافتقر إلى القبض كالقرض ‏.‏ وعنه في غير المكيل والموزون ‏:‏ أنه يلزم بمجرد العقد ، قياساً على البيع ‏.‏ والأول ‏:‏ المذهب ، لأن البيع معاوضة ، وهذا إرفاق ، فهو أشبه بالقرض ‏.‏ وإذا كان الرهن في يد الراهن ، لم يجز قبضه إلا بإذنه ، لأنه له قبل القبض ، فلا يملك المرتهن إسقاط حقه بغير إذنه ، كالموهوب ‏.‏ وإن كان في يد المرتهن ، فظاهر كلامه لزومه ، بمجرد العقد ، لأن يده ثابتة عليه ، وإنما يعتبر الحكم فقط ، فلم يحتج إلى قبض ، كما لو منع الوديعة صارت مضمونة ‏.‏ وقال القاضي وأصحابه ‏:‏ لا يلزمه حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها ، ولو كان غائباً ، ولا يصير مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله ، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها ، لأن العقد يفتقر إلى القبض ، ولا يحصل القبض إلا بفعله ، أو إمكانه ، ثم هل يفتقر إلى إذن الراهن في القبض ، على وجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يفتقر إليه ‏.‏ لأن إقراره عليه كإذنه فيه ‏.‏

والثاني ‏:‏يفتقر، لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم ، فافتقر إلى الإذن كما لو لم يكن في يده ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أذن في القبض ، ثم رجع عنه قبل القبض ، قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها، لما

في يده ،فهو كمن لم يأذن ، لأن الإذن قد زال ‏.‏ وإن أذن فيه ثم جن أو أغمي عليه،

زال الإذن ، لخروجه عن كونه من أهله ‏.‏ ويقوم ولي المجنون مقامه ، إن رأى الحظ في القبض ، أذن فيه ، وإلا فلا ‏.‏ وإن تصرف الراهن في الرهن قبل قبضه ، بعتق أو هبة أو بيع أو جعله مهراً ، بطل الرهن ، لأن هذه التصرفات تمنع الرهن ، فانفسخ بها ‏.‏ وإن رهنه ، بطل الأول ‏.‏ لأن المقصود منه ينافي الأول ‏.‏ وإن دبره ، أو أجره أو زوج الأمة ، لم يبطل الرهن لأن هذه التصرفات لا تمنع البيع ، فلا تمنع صحة الرهن ‏.‏ وإن كاتب العبد ،ـ وقلنا ‏:‏ يصح رهن المكاتب ـ، لم يبطل بكتابه ‏.‏ لأنه لا ينافيها ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ لا يصح رهنه ، بطل بها لتنافيها‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات أحد المتراهنين ، لم يبطل الرهن ، لأنه عقد لا يبطله الجنون ، أو مآله إلى اللزوم ، فلم يبطله الموت كبيع الخيار ‏.‏ ويقوم وارث الميت مقامه في الإقباض والقبض ، فإن لم يكن على الراهن دين سوى دين الرهن ، فلورثه إقباضه ‏.‏ وإن كان عليه دين سواه ،فليس له إقباضه ، لأنه لا يملك تخصيص بعض الغرماء برهن ‏.‏ وعنه ‏:‏ له إقباضه ، لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة ، بخلاف غيره ‏.‏ والأول أولى ، لأن حقوق الغرماء تعلقت بالتركة قبل لزوم حقه ، فلم يجز تخصيصه بغير رضاهم ، كما لو أفلس الراهن ، فإن أذن الغرماء في إقباضه ، جاز لأن الحق لهم ، فإذا قبضه ، لزم ، سواء مات قبل الإذن في القبض أو بعده ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن حجرعلى الراهن قبل القبض ، لم يملك إقباضه فإن كان الحجر لسفه ، قام وليه مقامه كما لو جن ، وإن كان لفلس ، لم يجز لأحد إقباضه إلا بإذن الغرماء ، لأن فيه تخصيص المرتهن بثمنه دونهم ‏.‏

فصل ‏:‏

ومتى امتنع الراهن من إقباضه ، وقلنا ‏:‏ إن القبض ليس بشرط في لزومه أجبره الحاكم ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ هو شرط ، لم يجبره ، وبقي الدين بغير رهن ‏.‏ وهكذا إن انفسخ الرهن قبل القبض ، إلا أن يكون مشروطاً في بيع ، فيكون للبائع الخيار بين فسخ البيع وإمضائه، لأنه لم يسلم له ما شرط ، فأشبه ما لو شرط صفة في المبيع فبان بخلافها ‏.‏ وإن قبض الرهن ، فوجد معيباً ، فله الخيار ، لأنه لم يسلم له ما شرطه ‏.‏ فإن رضيه معيباً ، فلا أرش له ، لأن الرهن إنما لزم فيما قبض دون الجزء الفائت ‏.‏ وإن حدث العيب ، أو تلف الرهن في يد المرتهن ، فلا خيار له ، لأن الراهن وفى له بما شرط ، فإن تعب عنده ، ثم أصاب به عيباً قديماً ، فله رده ، وفسخ البيع ، لأن العيب الحادث عنده لا يجب ضمانه على المرتهن وخرجه القاضي على الروايتين في البيع ‏.‏ وإن علم بالعيب بعد تلفه ، لم يملك فسخ البيع ، لأنه قد تعذر عليه رد الرهن ، لهلاكه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا ينفك شيئ من الرهن حتى يقضي جميع ديونه ، لأنه وثيقة به ، فكان وثيقة بكل جزء منه كالضمان ‏.‏ فإن رهن شيأً من رجلين ، أو رهن رجلان رجلاً شيئاً ، فبرئ أحدهما ، أو برئ الراهن من دين أحدهما ، انفك نصف الراهن ، لأن الصفقة التي في أحد طرفيها عقدان فلا يقف انفكاك أحدهما على فكاك الآخر ، كما لو فرق بين العقدين ‏.‏ وإن أراد الراهن مقاسمة المرتهن في الأولى ، أو أراد الراهنان القسمة في الثانية ولا ضرر فيها ، كالحبوب والأدهان ، أجبر الممتنع عليها ، وإن كان فيها ضرر ، لم يجبر عليها ، كغير الرهن ، ويبقى الرهن مشاعاً ‏.‏

فصل ‏:‏

واستدامة القبض كابتدائه في الخلاف في اشتراطه للآية ، ولأنها إحدى حالتي الرهن ، فأشبهت الابتداء ، فإن قلنا باشتراطه ، فأخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الراهن ، زال لزومه ، وبقي كالذي لم يقبض ، مثل أن أجره إياه ، أو أودعه ، أو أعاره أو غير ذلك ‏.‏ فإن رده الراهن إليه ، عاد اللزوم بحكم العقد السابق ، لأنه أقبضه باختياره ، فلزم به كالأول ‏.‏ وإن أذيلت يد المرتهن بعدوان ، كغضب ونحوه ، فالراهن بحاله ، لأن يده ثابتا حكماً ، فكأنها لم تزل ‏.‏

فصل

والرهن أمانة في يد المرتهن ، إن تلفت من غير تعد منه ، لم يضمنه ، ولم يسقط شيء من دينه لما روى الأثرم عن سعيد بن المسيب قال ‏:‏قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرهن لا يغلق ، والرهن ممن رهنه ‏.‏ ولأنه وثيقة بدين ليس بعوض عنه ، فلم يسقط بهلاكه كالضامن ‏.‏ وإن كان الرهن فاسداً ، لم يضمنه ، لأن ما لا يضمن بالعقد الصحيح ، لا يضمن بالعقد الفاسد ‏.‏ وإن وقت الرهن ، فتلف بعد الوقت ، ضمنه ، لأنه مقبوض بغير عقد ‏.‏ وإن رهنه مغصوباً ، لم يعلم به المرتهن ، فهل للمالك تضمين المرتهن ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏لا يضمنه ، لأنه دخل على أنه أمين ‏.‏

والثاني ‏:‏ يضمنه ، لأنه قبضه من يد ضامنه ، فإذا ضمنه رجع على الراهن في أحد الوجهين ، لأنه غره ‏.‏ والثاني ‏:‏ لا يرجع ، لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه ، وإن ضمن الراهن ،فهل يرجع على المرتهن ‏؟‏على وجهين إن قلنا ‏:‏ يرجع المرتهن ، لم يرجع الراهن ، وإن قلنا ‏:‏ لا يرجع ثم رجع هاهنا وإن انفك الرهن بقضاء أو إبراء ، بقي الرهن أمانة ، لأن قبضه حصل بإذن مالكه ، لا لتخصيص القابض بنفعه فأشبه الوديعة ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا حل الدين فوفاه الرهن ، انفك الرهن ‏.‏ وإن لم يوفه وكان قد أذن في بيع الرهن ، بيع واستوفي الدين من ثمنه ‏.‏وما بقي ، فله ‏.‏ وإن لم يأذن ، طولب بالإيفاء أو ببيعه فإن أبى ، أو كان غائباً ، فعلى الحاكم ما يراه من إجباره على البيع ، أو القضاء ، أو بيع الرهن بنفسه ، أو بأمينه والله أعلم ‏.‏


باب ما يصح رهنه وما لا يصح


يصح رهن كل عين يصح بيعها ، لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين باستيفائه من ثمنه عند استيفائه من الراهن ، وهذا يحصل مما يجوز بيعه ‏.‏ ويصح رهن المتاع ، لأنه يجوز بيعه ، فجاز رهنه كالمفرز ، ثم إن اتفقا على جعله في يد المرتهن ، أو يد عدل وديعة للمالك ، أو بأجره ، جاز ‏.‏ وإن اختلفا ، جعله الحاكم في يد عدل وديعة لهما،أو يؤجره لهما محبوساً قدرالرهن للمرتهن ، وإن رهن نصيبه من جزء من المشاع وكان مما لا ينقسم ، جاز‏.‏وإن جازت قسمته ، احتمل جواز رهنه ، لأنه يصح بيعه واحتمل أن لا يصح ، لاحتمال أن يقتسماه ، فيحصل المرهون في حصة الشريك ‏.‏ ويصح رهن العبد المرتد والجاني ، لأنه يجوز بيعهما ‏.‏ وفي رهن القاتل في المحاربة وجهان ، بناء على بيعه ‏.‏ ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب ، لظهوره في بيعه ‏.‏ ويصح رهن من علق عتقه بصفة توجد بعد حلول الدين ، لإمكان استيفائه من ثمنه ‏.‏ وإن كانت الصفة توجد قبل حلول الدين ، لم يجز رهنه ، لأنه لا يمكن استيفاؤه من ثمنه ‏.‏ وإن كانت تحتمل الأمرين ، احتمل أن يصح رهنه ، لأن الأصل بقاء العقد ، والعتق قبله مشكوك فيه ، فهو كالمدبر واحتمل أن لا يصح رهنه، لأنه يحتمل العتق قبل حلول الحق ، وهذا غرر لا حاجة إليه ‏.‏ فإن مات سيد المدبر وهو يخرج من الثلث ، أو وجدت الصفة ، عتق ، وبطل الرهن ‏.‏ ولا يصح رهن المكاتب، لتعذر استدامة قبضه ‏.‏ ويتخرج أن يصح إن قلنا ‏:‏ استدامة القبض غير مشترطة ، وأنه يصح بيعه ، ويكون ما يؤديه من نجوم كتابته ، رهناً معه ‏.‏ وإن عتق ، بقي ما أداه رهناً ، كالقن إذا مات بعد الكسب ، وجميع هذه المعاني عيوب ، لها حكم غيرها من العيوب ‏.‏

فصل

ويصح رهن ما يسرع إليه الفساد ، لأنه مما يجوز بيعه ، وإيفاء الدين من ثمنه ، فأشبه الثياب ، فإن كان الدين يحل قبل فساده ، بيع وقضي من ثمنه ‏.‏ وإن كان يفسد قبل الحلول ، وكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف ، كالعنب ، جفف ‏.‏ ومؤنة تجفيفه على الراهن ، لأنه من مؤنة حفظه ، فأسبه نفقة الحيوان ‏.‏ وإن كان مما لايجفف ، فشرطا بيعه ، وجعل ثمنه رهناً ، فعلا ذلك ‏.‏ وإن لم يشرطاه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصح الرهن ويباع كما لو شرطاه ، لأن الحال يقتضي ذلك لكون المالك لا يعرض ملكه للتلف ، فحمل مطلق العقد عليه ، كما يحمل على تجفبف العنب ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، لأن البيع إزالة ملكه قبل حلول الحق ، فلم يجبر عليه كغيره ‏.‏ وإن شرط أن لا يباع ، فسد وجهاً واحداً ، لأنه إن وفى بشرطه ، لم يمكن إيفاء الدين من ثمنه ، وإن رهنه عصيراً ، صح لذلك ، فإن تخمر خرج من الرهن ، لأنه لا قيمة له ‏.‏ فإن عاد خلاً ، عاد رهناً لأن العقد كان صحيحاً ، فلما طرأ عليه معنى ، أخرجه من حكمه ، ثم زال المعنى ، عاد الحكم كما لو ارتد أحد الزوجين ، ثم عاد في العدة عادت الزوجية ‏.‏ وإن كان استحالته قبل القبض ، لم يعد رهناً ، لأنه ضعيف ، فأشبه الردة قبل االدخول ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح رهن الثمر قبل بدو صلاحها ، والزرع الأخضر مطلقاً وبشرط التبقية ، لأن الغرر يقل فيه ، لاختصاصه بالوثيقة مع بقاء الدين بحاله ، بخلاف البيع ، قال القاضي ‏:‏ وبصح رهن المبيع المكيل والموزون قبل قبضه ، لأن قبضه مستحق للمشتري ، فيمكنه قبضه ، ثم يقبضه وإنما منع من بيعه ، لئلا يربح فيما لم يضمنه وهو منهي عنه ‏.‏ وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز ، فالرهن باطل ، لأنه مجهول حين حول الحق فلا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه ‏.‏ وإن رهنها بدين حال ، أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها ، جاز ، لأنه لا غرر فيه ، فإن لم يقطعها حتى اختلطت ، لم يبطل الرهن لأنه وفع صحيحاً لكن إن سمح الراهن ببيع الجميع ، أو اتفقا على قدر منه ، جاز ‏.‏ وإن اختلفا وتشاحا ، فالقول قول الراهن مع يمينه ، لأنه منكر ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح رهن الجارية دون ولدها ، لأن الرهن لا يزيل الملك ، فلا يحصل التفريق فيه ‏.‏ فإن احتيج إلى بيعها ، بيع ولدها معها ، لأن التفريق بينهما محرم ، والجمع بينهما في البيع جائز ، فتعين ‏.‏ وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة الجارية منه ، وكونها ذات ولد عيب ، لأنه ينقص من ثمنها ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه ، غير ما ذكرنا ، كالوقف وأم الولد ، والكلب ونحوها ، لأنه لا يمكن إيفاء الدين منه وهو المقصود ‏.‏ ولا يصح رهن ما لا يقدر على تسليمه ‏.‏ ولا المجهول الذي لا يجوز بيعه ، لأن الصفات مقصودة في الرهن لإيفاء الدين ، كما تقصد في البيع للوفاء بالثمن ‏.‏ ولا رهن مال غيره بغير إذنه ، ويتخرج جوازه ويقف على إجازة مالكه ، كبيعه ‏.‏ فإن رهن عيناً يظنها لغيره وكانت ملكه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصح ، لأنه صادف ملكه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، لأنه عقده معتقداً فساده ‏.‏ ولا يصح رهن الرهون من غير إذن المرتهن ، لأنه لا يملك بيعه من الدين الثاني ، فإن رهنه عند المرتهن بدين آخر ، مثل أن رهنه عبداً على ألف ، ثم استدان منه ديناً آخر ، وجعل العبد رهناً بهما ، لم يصح ، لأنه رهن مستحق بدين ، فلم يجز رهنه بغيره كما لو رهنه عند غير الرتهن ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه من أرض الشام والعراق ونحوهما مما فتح عنوة في ظاهر المذهب ، لأنها وقف ‏.‏ وما فيه من بناء من ترابها ، فحكمه حكمها ‏.‏ وما جدد فيها من غراس وبناء من غراس وبناء من غير ترابها ، إن أفرد بالرهن ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح ، لأنه تابع لما لا يجوز رهنه ، فهو كأساسات الحيطان ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز ، لأنه مملوك غير موقوف ، وإن رهنه مع الأرض ، بطل في الأرض ، والغراس والبناء وجهان بناء على تفريق الصفقة ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي رهن المصحف ، روايتان ، كبيعه ‏.‏ وإن رهنه أو رهن كتب الحديث ، أو عبداً مسلماً لكافر ، لم يصح ، لأنه لا يصح بيعه له ، ويحتمل أن يصح إذا شرطا كونه في يد مسلم ، ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه ، لأن الرهن لا ينقل الملك إلى الكافر ، بخلاف البيع ، ولا يجوز رهن المنافع ، لأنها تهلك إلى حلول الحق ‏.‏ ولو رهنه أجرة داره شهراً ، لم يصح ، لأنه مجهول ‏.‏ ولو رهن المكاتب من يعتق عليه ، لم يصح ، لأنه لا يملك بيعه ‏.‏


باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن ، وما لا يملكه ، وما يلزمه وما لا يلزمه

جميع نماء الرهن المنفصل يدخل في الرهن ويباع معه ، لأنه عقد وارد على الأصل ، فثبت حكمه في نمائه كالبيع ، أو نماء حادث من غير الرهن ، أشبه المتصل ‏.‏ ولو ارتهن أرضاً ، فنبت فيها شجر ، دخل في الرهن ، لأنه من نمائها ، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن ‏.‏ ويدخل فيه الصوف واللنب الموجودان ، والحادثان ، لدخولهما في البيع ‏.‏ وإن رهنه أرضاً ذات شجر ، أو شجراً مثمراً ، فحكمه في ذلك حكم البيع ‏.‏ وإن رهنه داراً فخربت ، فأنقاضها رهن ، لأنها من أجزائها ‏.‏ وإن رهنه شجراً ، لم تدخل أرضه في الرهن ، لأنها أصل فلا تدخل تبعاً ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يملك الراهن التصرف في الرهن ، باستخدام ولا سكنى ، ولا إجارة ولا إعارة ، ولا غيرها بغير رضا المرتهن ، ولا يملك المرتهن ذلك بغير رضا الراهن ‏.‏ فإن لم يتفقا على التصرف ، كانت منافعه معطلة تهلك تحت يد المرتهن حتى يفك ، لأن الرهن غير محبوس على استيفاء حق ، فأشبهت المبيع المحبوس على ثمنه ‏.‏ وإن اتفقا على إجارته أو إعارته ، جاز في قول الخرقي وأبو الخطاب ، لأن يد المستأجر والمستعير نائبة عن يد المرتهن في الحفظ ، فجاز ، كما لو جعلاه في يد عدل ‏.‏ ولا فائدة في تعطيل المنافع ، لأنه تضييع مال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا يجوز إجارته ‏.‏ فإن فعلا بطل الرهن ، لأن الرهن يقتضي الحبس عن المرتهن أو نائبه ‏.‏ فمتى وجد عقد يقتضي زوال الحبس ، بطل الرهن ‏.‏ وقال أبو موسى ‏:‏ إن أجره المرتهن ، أو أعاره بإذن الراهن ، جاز ‏.‏ وإن فعل ذلك الراهن بإذن المرتهن ، فكذلك في أحد الوجهين ‏.‏ وفي الآخر يخرج من الرهن ، لأن المستأجر قائم مقام الراهن ، فصار كما لو سكنه الراهن ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ، كمداواته بما لا يضر ، وفصده وحجمه عند حاجته إليه ، وودج الدابة وتبزيغها ، وإطراق الإناث عند حاجتها ، لأنه إصلاح لماله من غير ضرر ، فلم يمنع منه كالعلف ‏.‏ وإن أراد قطع شيء من بدنه ، لخبيثة فيه ، وقال أهل الخبرة ‏:‏ الأحوط قطعها ، فله فعله ‏.‏ وإن ساووا الخوف في قطعها ، وتركها ، فامتنع أحدهما من قطعها ، فله ذلك ، لأن فيه خطراً بحقه ‏.‏ وللرهن مداواة الماشية من الجرب بما لا ضرر فيه ، كالقطران بالزيت اليسير ، وإن خيف ضرره كالكثير لم يملكه ‏.‏ وليس له قطع الأصبع الزائدة والسلعة ، لأنه يخاف منه الضرر ، وتركها لا يضر ، وليس له الختان إن كان لا يبرأ منه قبل محل الحق ، لألنه ينقص ثمنه ، وإن كان يبرأ قبله والزمان معتدل ، لم يمنع منه ، لأنه يزيد به الثمن ، ولا يضر المرتهن ‏.‏ وليس للمرتهن فعل شيء من ذلك بغير رضى الراهن ‏.‏

فصل

ولا يملك الراهن بيع الرهن ، ولا هبته ، ولا جعله مهراً ،ولا أجرة ولا كتابة العبد ، ولا وقفه ، لأنه تصرف يبطل به حق المرتهن من الوثيقة ، فلم يصح من الراهن بنفسه ، كالفسخ ‏.‏ وفي الوقف وجه آخر ‏:‏ أنه يصح ، لأنه يلزم لحق الله تعالى ، أشبه العتق ‏.‏ والأول‏:‏ الصحيح ، لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير ، فلم يصح كالهبة ‏.‏

ولا يصح تزويج الرقيق ‏.‏ وقال القاضي ، له تزويج الأمة ‏.‏ ويمنع الزوج وطأها ، والأول‏:‏ أصح ، لأنه ينقص ثمنها فلم يصح ، كتزويج العبد ‏.‏

فصل

ولايجوز له عتق الرهن ، لأن فيه إضراراً بالمرتهن ، وإسقاط حقه اللازم ، فإن فعل ،نفذ عتقه ، نص عليه ، لأنه محبوس ، لاستيفاء حق فنفذ فيه عتق المالك، كالمحبوس على ثمنه ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا ينفذ عتق المعسر ، لأنه عتق في ملكه ، يبطل به حق غيره ، فاختلف فيه الموسروالمعسر ،كالعتق في العبد المشترك ‏.‏ فإن أعتق الموسر ، فعليه قيمته تجعل مكانه رهناً ، لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن ، فلزمته قيمته ، كما لو قتله ‏.‏ وإن أعتق المعسر ، فالقيمة في ذمته ، إن أيسر قبل حلول الحق ، أخذت منه رهناً ، وإن أيسر بعد حلول الحق ، طولب به خاصة ، لأن ذمته تبرأ به من الحقين معاً وتعتبر القيمة حين الإعتاق ، لأنه حال الإتلاف ‏.‏

فصل

وليس للراهن وطء الجارية ‏.‏وإن كانت لا تحبل ، لأن من حرم وطؤها يستوي فيه من تحبل ، ومن لا تحبل ، كالمستبرأة ‏.‏ فإن وطىء فلا حد عليه لأنها ملكه ‏.‏ فإن نقصها لكونها بكراً أو أفضاها ، فعليه ما نقصها ، إن شاء جعله رهناً ، وإن شاء جعله قصاصاً من الحق ‏.‏ وإذا لم تحمل منه ، فهي رهن بحالها ، كما لو استخدمها ‏.‏ وإن ولدت منه ، فولده حر ، وصارت أم ولد له ، لأنه أحبلها بحر في ملكه ‏.‏ وتخرج من الرهن ، موسراً كان ،أو معسراً رواية واحدة ، لأن الإحبال أقوى من العتق ، ولذلك ينفذ إحبال المجنون ، دون عتقه ‏.‏ وعليه قيمتها يوم إحبالها ، لأنه وقت إتلافها ‏.‏ وإن تلفت بسبب الحمل ، فعليه قيمتها ، لأنها تلفت بسبب كان منه ‏.‏

فصل

وكل ما منع الراهن منه ، لحق المرتهن ، إذا أذن فيه ، جاز له فعله ، لأن المنع لحقه ، فجاز بإذنه ، فإإن رجع عن الإذن قبل الفعل ، سقط حكم الإذن ‏.‏ فإن لم يعلم بالرجوع حتى فعل ، فهل يسقط الإذن ‏؟‏ فيه وجهان ‏.‏ بناء على عزل الوكيل بغير علمه ‏.‏ فإن تصرف بإذنه فيما ينافي الرهن من البيع والعتق ونحوهما ، صح تصرفه وبطل الرهن ، لأنه لا يجتمع مع ما ينافيه ، إلا البيع ، فله ثلاثة أحوال ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يبيعه بعد حلول الحق فيتعلق حق المرتهن بالثمن ، ويجب قضاء الدين منه إلا أن يقضيه غيره ، لأن مقتضى الرهن بيعه ، واستيفاء الحق من ثمنه ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يبيعه قبل حلول الحق بإذن مطلق ، فيبطل الرهن ويسقط حق المرتهن من الوثيقة ، لأنه تصرف في عين الرهن تصرفاً لا يستحقه المرتهن، فأبطله كالعتق ‏.‏

والثالث ‏:‏ أن يشترط جعل الثمن رهناً ، ويجعل دينه من ثمنه ، فيصح البيع والشرط ، لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق ، جاز ، فكذلك قبله ‏.‏ وإن أذن له في الوطء والتزويج ، جاز ، لأنه منع منه لحقه ، فجاز بإذنه ، فإن فعل لم يبطل الرهن ،لأنه لا ينافيه ‏.‏ فإن أفضى إلى الحمل أو التلف ، فلا شيء على الراهن ، لأنه مأذون في سببه وإن أذن له في ضربها ، فتلفت به ، فلا ضمان عليه ، لأنه تولد من المأذون فيه ، كتولد الحمل من الوطء ‏.‏

فصل

ويلزم الراهن مؤنة الرهن كلها، من نفقة وكسوة وعلف ، وحرز وحافظ وسقي ، وتسوية وجذاذ وتجفيف ‏.‏ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه ‏.‏ وهذا من غرمه ‏.‏ ولأنه ملكه فكانت نفقته عليه ‏.‏ كالذي في يده ‏.‏ فإن احتاج إلى دواء ، أو فتح عرق ، لم يلزمه ، لأن الشفاء بيد الله تعالى ، وقد يحيا بدونه ، بخلاف النفقة ، ولا يجبر على إطراق الماشية ، لأنه ليس مما يحتاج إليه لبقائها ، وليس عليه ما يتضمن زيادة الرهن ‏.‏ فإن احتاجت إلى راع ، لزمه ، لأنه لا قوام لها بدونه ‏.‏ فإن أراد السفر بها ليرعاها ولها في مكانها مرعى تتماسك به ، فللمرتهن منعه ، لأن فيه إخراجها عن يده ونظره ، وإن أجدب مكانها ، فللراهن السفر بها لأنه موضع حاجة ‏.‏ فإن اتفقا على السفر بها ، واختلفا في مكانها ، قدمنا قول من يطلب الأصلح ، فإن استويا ، قدم قول المرتهن ‏.‏لأنه أحق باليد ‏.‏

فصل

وليس للمرتهن أن ينتفع من الرهن بشيء بغير إذن الراهن ، لقول النبيصلى الله عليه وسلم ‏:‏ الرهن من راهنه ، له غنمه وعليه غرمه ومنافعه من غنمه ، ولأن المنافع ملك للراهن ، فلم يجز أخذذها بغير اذنه ، كغير الرهن ، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هو كغيره لما ذكرناه ‏.‏

والثانية ‏:‏للمرتهن الإنفاق عليه ، ويركب ويحلب بقدر نفقته ، متحرياً للعدل في ذلك ، سواء تعذر الإنفاق من المالك أو لم يتعذر ‏.‏ لما روى أبو هريرة قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرهن يركب بنفقته ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة رواه البخاري ‏.‏وفي لفظ ‏.‏ فعلى المرتهن علفها ، ولبن الدر يشرب ، وعلى الذي يشرب نفقته ، ويركب ‏.‏ فإن أنفق متبرعاً ، فلا شيء له ‏.‏ رواية واحدة ‏.‏ وليس له استخدام العبد بقدر نفقته ‏.‏ وعنه ‏:‏ له ذلك إذا امتنع مالكه من الإنفاق عليه ، كالمركوب والمحلوب ‏.‏ قال أبو بكر ‏:‏خالف حنبل الجماعة ‏.‏ والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء ، لأن القياس يقتضي ذلك ، خولف في المركوب والمحلوب للأثر ، ففي غيره يبقى على القياس ‏.‏

فصل

وإن أنفق المرتهن على الرهن متبرعاً ، لم يرجع ، وإن أنفق بإذن الراهن بنية الرجوع ، رجع بما أنفق ، لأنه نائب عنه ، فأشبه الوكيل ، وإن أنفق بغير إذنه ، معتقداً للرجوع نظرنا ، فإن كان مما لا يلزم الراهن ، كعمارة الدار ،لم يرجع بشيء ، لأنه تبرع بما لا يلزمه ، فلم يرجع به كغير المرتهن ، وإن كان مما يلزمه ، كنفقة الحيوان ، وكفن العبد ، فهل يرجع به ‏؟‏ على روايتين ، بناء على من قضى دينه بغير إذنه ‏.‏

فصل

فإذا أذن الراهن للمرتهن فيالانتفاع به بغير عوض ، والرهن في قرض ، لم يجز ، لأنه يصير قرضاً منفعة ، وإن كان في غير قرض ، جاز لعدم لذلك ‏.‏ وإن أذن له في الانتفاع بعوض ، مثل أن أجره إياه ، فإن حاباه في الأجرة ، فهو كالانتفاع بغير عوض ، وإن لم يحابه فيها ، جاز في القرض وغيره ، لكونه ما انتفع بالقرض ، إنما انتفع بالإجارة ‏.‏وقال القاضي ‏:‏ ومتى استأجره المرتهن أو استعاره ، خرج من الرهن في مدتهما ، لأنه طرأ عليه عقد أوجب استحقاقه في الإجارة برضاهما ، فإذا انقضى العقد عاد الرهن بحكم العقد السابق ، والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن الرهن ، لأن القبض مستدام فلا تنافي بين العقدين ، لكنه في العارية ، يصير مضموناً ، لكون العارية مضمونة ‏.‏

فصل

وإن انتفع به بغير إذن الراهن، فعليه أجرة ذلك في ذمته ‏.‏فإن كان الدين من جنسها تقاصت هي وقدرها من الدين وتساقطا ، وإن تلف الرهن ضمنه ، لأنه تعدى فيه فضمنه كالوديعة ‏.‏
باب جناية الرهن والجناية عليه


إذا جنى الرهن على أجنبي ، تعلق حق المجني عليه برقبته ، وقدم على المرتهن ، لأنه يقدم على المالك ، فأولى أن يقدم على المرتهن ‏.‏ فإن سقط حق المجني عليه بعفو أو فداء ، بقي حق المرتهن ، لأنه لم يبطل دائماً ، وإنما قدم حق المجني عليه ، لقوته فإذا زال ، ظهر حق المرتهن ، وإن كان الحق قصاصاً في النفس ، اقتص منه ، وبطل الرهن ، وإن كان في الطرف ، اقتص له الرهن في باقيه ‏.‏ وإن كان مالاً أو قصاصاً ، فعفى عنه إلى مال فأمكن إيفاء حقه ، ببيع بعضه ، بيع منه بقدر ما يقضي به حقه ، وباقيه رهن ‏.‏ وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه ، بيع ، فإن استغرق ثمنه ، بطل الرهن ، وإن فضل منه شيء ، تعلق به حق المرتهن ‏.‏ وإن كان أرش الجناية عليه أكثر من ثمنه ، فطلب المجني عليه تسليمه للبيع ، وأراد الراهن فداءه ، فله ذلك ، لأن حق المجني عليه في قيمته لا في عينه ، ويفديه بأقل الأمرين من قيمته ، أو أرش جنايته في أحد الوجهين ، لأن ما يدفعه عوض عنه ، فلم يلزمه أكثر من قيمته ،وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه ، لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته ، وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه ، لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته فينتفع به المجني عليه ‏.‏ وإن أبى الراهن فداءه ، فللمرتهن فداؤه بمثل ما يفديه به الراهن ، وحكمه في الرجوع بذلك حكم ما يقضي به دينه ، فإن شرط جعله رهناً بالفداء مع الدين الأول ، لم يصح ، لأنه رهن فلم يجز رهنه بدين سواه ، وأجاز القاضي ، لأن المجني عليه يملك إبطال الرهن بالبيع ، فصار كالجائز قبل القبض ‏.‏ والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة ‏.‏ ولأن الحق متعلق به ، وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن ‏.‏ بخلاف غيره ‏.‏

فصل

فإن جنى على سيده جناية لا توجب قصاصاً ، فهي هدر ، لأنه مال لسيده فلا يثبت له في ماله ، كما لو لم يكن رهناً ‏.‏ وإن كانت موجبة للقود فيما دون النفس ، فعفي على مال ، سقطت مطلقاً لذلك ‏.‏ وإن أحب القصاص ، فله ذلك ، لأن القصاص يجب للزجر، والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده ‏.‏ وإن كانت على النفس ، فللورثة القصاص ‏.‏ وليس لهم العفو على مال في أحد الوجهين ، لما ذكرنا في السيد ، ولأنهم يقومون مقام الموروث ، ولم يكن له العفو على مال ، فكذلك وارثه ، والثاني ‏:‏ لهم ذلك ، لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فأشبه الجناية على أجنبي ‏.‏

فصل

فإن جنى على موروث سيده ، ولم ينتقل الحق إلى سيده ، فهي جناية على أجنبي ، وإن انتقل إليه ، وكانت الجناية موجبة للقصاص في طرف ، فمات المجني عليه ، فللسيد القصاص والعفو على مال ، لأن المجني عليه ملك ذلك فملكه وارثه ‏.‏ وإن كانت على النفس فكذلك في أحد الوجهين ‏.‏ والثاني ‏:‏ ليس له العفو على مال ، كما لو كانت الجناية على نفسه وأصلهما ‏:‏ هل يثبت للموروث ثم ينتقل إلى الوارث ، أم للوارث ابتداء ‏؟‏ فليس له العفوعلى مال كالجناية على طرف نفسه وإن قلنا يثبت للموروث فله العفو على مال ، لأن الحق ينتقل إليه على الصفة التي كان لموروثه ، لكون الاستدامة أقوى من الابتداء ‏.‏ وإن كانت الجناية موجبة للمال ، أو كان الموروث قد عفي على مال ، ثبت ذلك للسيد ‏.‏ لذلك فيقدم به على المرتهن‏.‏

فصل

وإن جنى على عبد لسيده غير مرهون ، فحكمه حكم الجناية على طرف سيده ‏.‏ وإن كان مرهوناً عند مرتهن القاتل بحق واحد ، والجناية موجبة للمال ، أو عفا السيد على مال ، ذهب هدراً ‏.‏ كمالو مات حتف أنفه ‏.‏ وإن كان رهناً بحق آخر ، تعلق دين المقتول برقبة القاتل ‏.‏ إن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل ، أو مساوية لها‏.‏ وإن كانت أقل تعلق برقبة القاتل بقدر قيمة المقتول ، فأي الدينين حل أولاً ، بيع فيه ،فيستوفى من ثمنه ، وباقيه رهن بالآخر ، وإن كان المقتول رهناً عند غير مرتهن القاتل ، وكانت الجناية موجبة للقصاص ، فللسيد الخيرة بين القصاص والعفو على مال ، لأنه يتعلق به حق غيره ، ويثبت المال في رقبة العبد ‏.‏ فإن كان لا يستغرق قيمته ، بيع منه بقدر أرش الجناية ويكون رهناً عند مرتهن المجني عليه ، وباقيه رهن بدينه ‏.‏ وإن لم يمكن بيع بعضه ، بيع كله ، وقسم ثمنه بينهما على حسب ذلك ، وإن كانت الجناية تستغرق قيمته ، فالثاني أحق به ‏.‏ وهل يباع ، أو ينقل فيجعل رهناً عنده ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يباع لعدم الفائدة في بيعه ‏.‏

والثاني ‏:‏يباع ، لأنه ربما زاد فيه مزايد فاشتراه بأكثر من قيمته فكل موضع قلنا ‏:‏ للسيد القصاص ، أو ، لوارثه ، فاقتص ، فقال‏:‏ بعض أصحابنا عليه قيمته ، تجعل مكانه ،لأنه أتلف الرهن باختياره ، ويحتمل أن لا يجب عليه شيء، لأنه اقتص بإذن الشارع ،فلم يلزمه شيء ، كالأجنبي ‏.‏

فصل

وجنايته بإذن سيده كجنايته بغير إذنه ، إلا أن يكون صبياً ، أو أعجمياً لا يعلم تحريم الجناية ، فيكون السيد هو الجاني يتعلق به القصاص والدية ‏.‏ كالمباشر لها ، ولا يباع العبد فيها ، وقيل ‏:‏ يباع إذا كان معسراً ، لأنه باشر الجناية والأول أصح ، لأن العبد آلة ، ولو تعلقت به الجناية ، بيع فيها وإن كان سيده موسراً ‏.‏

فصل

وإن جنى على الرهن ، فالخصم الراهن ، لأنه مالكه ومالك بدله ، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص ، فله أن يقتص ، أو يعفو ، فإن اقتص ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ عليه قيمته تجعل مكانه ، لأنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف ‏[‏ الرهن ‏]‏ فغرم قيمته ، كما لو كانت الجناية موجبة للمال ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا شيء عليه ، لأنه لم يجب بالجناية مال ، ولا استحق بحال ، وليس على الراهن السعي للمرتهن في اكتساب مال ، وإن عفا على مال ، أو كانت الجناية موجبة للمال ، كان رهناً مكانه ‏.‏ فإن عفا الراهن عن المال ، لم يصح عفوه ، لأنه محل تعلق به حق المرتهن ، فلم يصح عفو الراهن عنه ‏.‏ كما لو قبضه المرتهن ، وقال أبو الخطاب ‏.‏ يصح وتؤخذ منه قيمته وتكون رهناً ، لأنه أتلفه بعفوه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ تؤخذ قيمته من الجاني ، فتجعل مكانه ، فإذا زال الرهن ، ردت إلى الجاني ، كما لو أقر على عبده المرهون بالجناية ، وإن عفا الراهن عن الجناية الموجبة للقصاص إلى غير مال ، انبنى على موجب العمد ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ أحد شيئين ، فهو كالعفو عن المال ، وإن قلنا ‏:‏ القصاص ، فهو كالاقتصاص ، فيه وجهان ‏.‏

فصل

إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه ، فكذبه المرتهن ، وولي الجناية ، لم يسمع قوله ، وإن صدقه ولي الجناية وحده ، قبل إقراره على نفسه دون المرتهن ، فيلزمه أرش الجناية ، لأنه حال بين المجني عليه ، وبين رقبة الجاني بفعله ما لو قتله ، فإن كان معسراً ، قمتى انفك الرهن ، كان المجني عليه أحق برقبته ، وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك ، فإن نكل ، قضي عليه ‏.‏ وفيه وجه آخر، أنه يقبل إقرار الراهن ، لأنه غير متهم ، لأنه يقر بما يخرج الرهن من ملكه ، وعليه اليمين ، لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه ، وإن أقر أنه كان أعتقه ، عتق ، لأنه يملك عتقه ، فملك الإقرار به ، فيخرج العبد من الرهن ، ويؤخذ من الراهن قيمته ، تجعل مكانه ، ولا يقبل قوله في تقديم عتقه ، لأنه يسقط به حق المرتهن من عوضه ‏.‏

فصل

وإن أقر رجل بالجناية على الرهن ، فكذبه الراهن والمرتهن ، فلا شيء لهما ‏.‏ وإن صدقه الراهن وحده فله الأرش ، ولا حق للمرتهن فيه لإقراره بذلك ‏.‏ وإن صدقه المرتهن وحده ، أخذ الأرش فجعل رهناً عنده ، فإذا خرج من الرهن ،رجع إلى الجاني ، ولا حق للراهن فيه ‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏


باب الشروط في الرهن


يصح شرط جعل الرهن في يد عدل ، فيقوم قبضه مقام قبض المرتهن ، لأنه قبض في عقد ، فجاز التوكيل فيه ، كقبض الموهوب ، وما دام العدل حاله ، فليس لأحدهما ، ولا للحاكم نقله عن يده ، لأنهما رضياه ابتداء ، وإن اتفقا على نقله ، جاز ، لأن الحق لهما لا يعدوهما ‏.‏ وإن تغيرت حاله بفسق ، أو ضعف عن الحفظ ، أو عداوة لهما ، أو لأحدهما ، فمن طلب نقله منهما فله ذلك ، لأنه متهم في حقه ، ففي بقائه في يده ضرر ، ثم إن اتفقا على من يضعانه عنده ، جاز ، وإن اختلفا ، وضعه الحاكم في يد عدل ، وإن اختلفا في تغير حاله ، بعث الحاكم وعمل بما يظهر له ، وإن مات العدل ، لم يكن لوارثه إمساكه إلا بتراضيهما ، لأنهما ما ائتمناه ، وإن رده العدل عليهما ، لزمهما قبوله ، لأنه متطوع بحفظه ، فلم يلزمه المقام عليه ، فإن امتنعا أجبرهما الحاكم ، فإن تغيبا ، أو كانا غائبين ، نصب الحاكم أميناً يقبضه لهما ، لأن للحاكم ولاية على الغائب الممتنع من الحق ، وإن دفعه الحاكم إلى أمين من غير امتناعهما ، ولا غيبتهما ، ضمن الحاكم والأمين معاً ، لأنه لا ولاية له على غير الممتنع والغائب ، فإن امتنعا ، أو غابا ، فلم يجد الحاكم ، ضمن ، لأنه يقوم مقامهما ‏.‏ وكذلك لو أودعه من غير امتناعهما ، ولا غيبتهما ، ضمن هو والقابض معاً ‏.‏ وإن امتنع أحدهما ، ولم يجد حاكماً ، لم يكن له دفعه إلى الآخر ، فإن فعل ، ضمن ، لأنه يمسكه لنفسه ‏.‏ والعدل يمسكه لهما ، فإن رده إلى يده ، زال الضمان ‏.‏

فصل

وإن شرط جعله في يد اثنين ، صح الشرط ، ولم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه ، لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معاً ، فلم يجز لأحدهما الانفراد به ، كالوصيين ، فإن سلمه أحدهما إلى صاحبه ، ضمن نصفه ، لأنه القدر الذي تعدى فيه ، فإن مات أحدهما ، أو تغير حاله ، أقيم مقامه عدل ‏.‏

فصل

وكل من جاز توكيله ، جاز جعل الرهن على يديه ، مسلماً كان أو كافراً ، عدلاً أو فاسقاً ، ذكراً أو أنثى ، لأنه جاز توكيله في غير الرهن ، فجاز فيه ، كالعدل ‏.‏ ولا يجوز أن يكون صبياً أو مجنوناً ، لأنه غير جائز التصرف ، فإن فعلا ، كان قبضه له وعدمه واحداً ‏.‏ وإن كان عبداً ، فله حفظه بإذن سيده ، ولا يجوز بغير إذنه ، لأن منافعه لسيده ، فلا يجوز تضييعها في الحفظ من غير إذنه ، وإن كان مكاتباً وكان بغير جعل ، لم يجز ، لأنه ليس له التبرع ، وإن كان بجعل ‏.‏ جاز ، لأن له الكسب بغير إذن سيده ، فإن لم يشرط جعله في يد أحد ، فهو في يد المرتهن ، لأنه المستوجب للعقد ، فكان القبض له كالمتهب ، فإن قبضه ثم تغيرت حاله في الثقة ، أو الحفظ ، أو حدث بينهما عداوة ، فللراهن دفعه إلى الحاكم ، ليزيل يده ، ويجعل في يد عدل ، لأنه لم يرض بحفظه في هذه الحال ‏.‏ وإن اختلفا في تغير حاله ، بحث الحاكم ، وعمل بما بان له ، وإن مات المرتهن ، نقل عن الوارث إلى عدل ، لأن الراهن لم يرض بحفظه ‏.‏

فصل

إذا شرط أن يبيعه المرتهن ، أو العدل عند حلول الحق ، صح شرطه ، لأن ما صح توكيل غيرهما فيه ، صح توكيلهما فيه ، كبيع عين أخرى ‏.‏ فإن عزلهما الراهن ، صح عزله ، لأن الوكالة عقد جائز ، فلم يلزم المقام عليهما ، كما لو وكل غيرهما ، أو وكلهما في بيع غيره ، ولو مات المرتهن ، لم يكن لوارثه البيع ، لأنه لم يؤذن له ، ويتخرج أنه لا يملك عزلهما ، لأنه يفتح باب الحيلة ، فإن عزل المرتهن العدل عن البيع ، لم يملكه إلا في الحال الذي يملكه الراهن ، لأنه وكيله خاصة ، وإن أذنا له في بيع الرهن ، فتلف بجناية نمائه تبعاً ، فبيع قيمته أولى ، والصحيح أنه لا يملك بيعها ، لأنه لم يؤذن له فيه ، ولا هي تبع لما أذن فيه ، بخلاف النماء ‏.‏

فصل

وإن أذنا له في البيع بنقد ، لم يكن له خلافهما ، لأنه وكيلهما ، وإن أطلقا أو اختلفا ، باع بنقد البلد ، لأن الحظ فيه ، لأن الغرض تحصيل الحظ ، فإن تساوت ، باع بجنس الدين ، لأنه يمكن القضاء منه ، فإن لم يكن فيها جنس الدين ، عين له الحاكم ما يبيع به ‏.‏ وحكمه حكم الوكيل في جوب الاحتياط في الثمن على ما سنذكره ، فإذا باع وقبض الثمن ، فتلف في يده من غير تعد ، فلا ضمان عليه ، لأنه أمين وهو من ضمان الراهن ، لأنه ملكه ‏.‏ فإن أنكر الراهن تلفه ، فالقول قول العدل مع يمينه ، لأنه أمين فهو كالمودع ‏.‏ فإن قال ‏:‏ ما قبضته من المشتري ، فالقول قول العدل لذلك ، ويحتمل أن لا يقبل قوله ، لأن هذا إبراء للمشتري ‏.‏ وإن خرج الرهن مستحقاً ، فالعهدة على الراهن دون العدل ، لأنه وكيل ، وإن استحق بعد تلف الثمن في يد العدل ، رجع المشتري على الراهن دون العدل ، لأنه قبض منه على أنه أمين في قبضه ، وتسليمه إلى المرتهن ، وإن كان الثمن باقياً في يد العدل ، أو المرتهن ، رجع المشتري فيه ، لأنه عين ماله قبض بغير حق ، وإن وجد المشتري بالمبيع عيباً فرده بعد قبض المرتهن ثمنه ، لم يرجع عليه ، لأنه قبضه بحق ولا على العدل ، لأنه أمين ، ويرجع على الراهن ، إلا أن يكون العدل لم يعلم المشتري أنه وكيل ، فيكون رجوعه عليه ، ثم يرجع هو على الراهن ، فإن تلف المبيع في يد المشتري ، ثم بان مستحقاً ، فلمالكه تضمين من شاء من الراهن والعدل والمرتهن ، لأن كل واحد منهم قبض ماله بغير حق ، ويستقر الضمان على المشتري ، لأن التلف حصل في يده ، ويرجع على الراهن بالثمن الذي أخذ منه ، وإذا باع العدل الرهن بيعاً فاسداً ، وجب رده ، فإن تعذر رده ، فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري أقل الأمرين ، من قيمة الرهن ، أو قدر الدين ، لأنه يقبض ذلك مستوفياً لحقه ، لا رهناً ، فلم يكن له أكثر من دينه ، وما بقي للراهن يرجع به على من شاء منهما ، وإن وفى الراهن المرتهن ، رجع بقيمته على من شاء منهما ، ويستقر الضمان على المشتري ، لحصول التلف في يده ‏.‏

فصل

وإذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن ، فأنكره ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ القول قول العدل ، لأنه أمين ‏.‏ فإذا حلف برئ ويرجع المرتهن على الراهن ‏.‏

والثاني ‏:‏ القول قول المرتهن ، لأنه منكر ‏.‏ والعدل إنما هو أمينه في الحفظ ، لا في دفع الثمن إليه ‏.‏ فإذا حلف ، رجع على من شاء منهما ، فإذا رجع على العدل ، لم يرجع العدل على الراهن ، لأنه يقر ببراءة ذمته منه ، ويدعي أن المرتهن ظلمه وغصبه ‏.‏ وإن رجع على الراهن ، رجع الراهن على العدل ، لتفريطه في القضاء بغير بينة ، إلا أن يكون قضاؤه بحضرة الراهن ، أو ببينة فماتت ، أو غابت فلا يرجع عليه ، لعدم تفريطه ، وعنه ‏:‏ لا يرجع عل العدل بحال ، لأنه أمين ، ولو غابت فلا يرجع عليه ، لعدم تفريطه ، وعنه ‏:‏ لا يرطع على العدل بحال ، لأنه أمين ، ولو غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه ، زال الضمان ، لأنه رده إلى وكيل الراهن في إمساكه ، فأشبه ما لو أذن له في دفعه إليه ‏.‏ ولو كان الرهن في يده ، فتعدى فيه ، ثم زال التعدي ، لم يزل الضمان ، لأن استئمانه زال بذلك ، فلم يعد بفعله ‏.‏

فصل

وإذا رهن أمة رجلاً ، وشرط جعلها في يد امرأة ، أو ذي رحم لها ، أو ذي زوجة أو أمة ، جاز ، لأنه لا يفضي إلى الخلوة بها ‏.‏ وإن لم يكن كذلك ، فسد الرهن ، لإفضائه إلى خلوة الأجنبي بها ، ولو اقترض ذمي من مسلم مالاً ، ثم رهنه خمراً ، لم يصح ، لأنها ليست مالاً ، وإن باعها الذمي أو وكيله ، وأتاه بثمنها ، فله أخذه ، فإن امتنع ، لزمه ، وقيل له ‏:‏ إما أن تقبض ، أو أن تبرئ ، لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة ، جرى مجرى الصحيح ‏.‏

فصل

فإن شرطما ينافي مقتضى الرهن ، نحو أن يشترط أن لا يسلمه ، أو لا يباع عند الحلول ، أو لا يستوفى الدين من ثمنه ، أو شرط أن يبيعه بما شاء ، أو لا يبيعه إلا بما يرضيه ، فسد الشرط ، لأن المقصود مع الوفاء به مفقود ‏.‏ وإن شرط أنه متى حل الحق ، ولم توفني ، فالرهن لي بالدين ، أو بثمن سماه ، فسد ، لما روي عن النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم ‏)‏ أنه قال ‏:‏ لا يغلق الرهن رواه الأثرم ‏.‏ ومعناه ‏:‏ استحقاق المرتهن له لعجز الراهن عن فكاكه ، ولأنه علق البيع على أن تزيدني في الأجل ، لم يصح ، لأن الدين الحال لا يتأجل ، وإذا لم يثبت الأجل فسد الرهن ، لأنه في مقابلته ‏.‏ وإن شرط أن ينتفع المرتهن بالرهن في دين القرض ، لم يجز ، وإن كان بدين مستقر في مقابلة تأخيره عن أجله ، لم يجز ، لأنه بيع للأجل ، وإن كان في بيع ، فعن أحمد جوازه إذا جعل المنفعة معلومة ، كخدمة شهر ونحوه ، فيكون بيعاً وإجارة ‏.‏ وإن لم تكن معلومة ، بطل الشرط للجهالة ، وبطل البيع لجهالة ثمنه ،وما عدا هذا ، فهو إباحة لا يلزم الوفاء به ، وإن قال ‏:‏ رهنتك ثوبي هذا يوماً ، ويوماً لا أوقته ، فالرهن فاسد ، لأن ينافي مقتضاه ، وكل شرط يسقط به دين الرهن يفسده ، وما لا يؤثر في ضرر أحدهما كاشتراط جعل الأمة في يد أجنبي عزب ، لا يفسده ‏.‏ وفي سائر الشروط الفاسدة وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يفسد بها الرهن ‏.‏

والآخر ‏:‏ لا يفسد بناء على الشروط الفاسدة في البيع ، ويحتمل أن ما ينقص المرتهن ، يبطله وجهاً واحداً ، وفي سائرها وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يبطل الرهن ، لأنه شرط فاسد ، فأبطله كالأول ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يبطله ، لأنه زائد ، فإذا بطل ، بقي العقد بأحكامه ‏.‏


باب اختلاف المتراهنين


إذا قال ‏:‏ رهنتني كذا فأنكر ، أو اختلفا في قدر الدين ، أو قدر الرهن ، فقال ‏:‏ رهنتني هذين ، قال ‏:‏ بل هذا وحده ، أو قال ‏:‏ رهنتني هذا بجميع الدين قال ‏:‏ بل نصفه ، أو قال رهنتنيه بالحال ، قال ‏:‏ بل بالمؤجل ، فالقول قول الراهن ، لأنه منكر ‏.‏ والأصل عدم ما أنكره ‏.‏ ولأن القول قوله في أصل العقد ، فكذلك في صفته ، فإن قال ‏:‏ رهنتني عبدك هذا ‏.‏ وخرج بيمينه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أرسلت وكيلك فرهن عبدك على ألفين قبضها مني ، فقال ‏:‏ ما أذنت له في رهنه إلا ألف ، سئل الرسول ، فإن صدق الراهن ، حلف على أنه ما رهنه بألف ، ولا قبض غيرها ، ولا يمين على الراهن ، لأن الدعوى على غيره ‏.‏ وإن صدق المرتهن ، حلف الراهن ، وعلى الرسول ألف ، لأنه أقر بقبضها ، ويبقى العبد رهناً على ألف واحدة ‏.‏ ومن توجهت عليه اليمين فنكل ، فهو كالمقر سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ رهنتني عبدك هذا بألف ، فقال ‏:‏ بل بعتكه بها ، أو قال ‏:‏ بعتنيه بألف ، فقال ‏:‏ بل رهنتكه بها ، حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه ، فسقط ، ويأخذ السيد عبده ، وتبقى الألف بغير رهن ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قال الراهن ‏:‏ قبضت الرهن بغير إذني فقال ‏:‏ بل بإذنك ، فالقول قول الراهن ، لأنه منكر ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أذنت لك ، ثم رجعت قبل القبض ، فأنكر المرتهن ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدم الرجوع ، وإن كان الرهن في يد الراهن ، فقال المرتهن ‏:‏ قبضته ثم غصبتنيه ، فأنكر الراهن ، فالقول قوله ، لأن الأصل معه ‏.‏ وإن أقر بتقبيضه ، ثم قال ‏:‏ احلفوه لي أنه قبض بحق ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يحلف ، لأن ما ادعاه محتمل ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يحلف ، لأنه مكذب لنفسه ‏.‏ وإن رهنه عصيراً ، ثم وجد خمراً ، فقال المرتهن ‏:‏ إنما أقبضني خمراً ، فلي فسخ البيع ‏.‏ وقال الراهن ‏:‏ بل كان عصيراً فقال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ فالقول قول الراهن ، لأنه يدعي سلامة العقد ، وصحة القبض ، فظاهر حال المسلم استعمال الصحيح ، فكان القول قول من يدعيه ، كما لو اختلفا في شرط يفسد المبيع ‏.‏ ويحتمل أن القول قول المرتهن بناء على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب ‏.‏ ولو كان الرهن حيواناً فمات ، واختلفا في حياته وقت الرهن ، أو القبض ، فحكمه حكم العصير ‏.‏ وإن أنكر المرتهن قبضه ، فالقول قوله ، لأن الأصل معه ‏.‏ وإن وجد معيباً واختلفا في حدوثه ، ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان لرجل على آخر ألف برهن ، وألف بغير رهن ، فقضاه ألفاً وقال ‏:‏ قضيت دين الرهن ، فقال ‏:‏ هي عن الألف الآخر ، فالقول قول الراهن ، سواء اختلفا في لفظه أو نيته ، لأنها تنتقل منه ، فكان القول قوله في صفة النقل ، وهو أعلم بنيته ‏.‏ ولو دفعها بغير لفظ ولا نية ، فله صرفها إلى أيهما شاء ، كما لو دفع زكاة أحد الألفين ، فإن أبرأه المرتهن من أحدهما ، فالقول قول المرتهن لذلك ‏.‏ وإن أطلق ، فله صرفها إلى أيهما شاء ‏.‏ ذكره أبو بكر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان عليه ألفان لرجلين ، فادعى كل واحد منهما أنه رهنه بدينه فأنكرهما ، حلف لهما ‏.‏ وإن صدق أحدهما ، أو قال ‏:‏ هو السابق ، سلمه إليه وحلف للآخر ‏.‏ وإن نكل والعبد في يد أحدهما ، فعليه للآخر قيمته تجعل رهناً ، لأنه فوته على الثاني بإقراره للأول ، أو بتسليمه إليه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ هل يرجح صاحب اليد ، أو المقر له ‏؟‏ يحتمل على وجهين ‏.‏ فإن قال ‏:‏ لا أعلم المرتهن منهما ، أو السابق ، حلف على ذلك ، والقول قول من هو في يد منهما مع يمينه ‏.‏ وإن كان في أيديهما ، أو يد غيرهما ، فالحكم في ذلك كالحكم فيما إذا ادعيا ملكه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن ادعى على رجلين أنهما رهناه عبدهما بدينه فأنكراه ، فالقول قولهما ‏.‏ وإن شهد كل واحد مهما على الآخر ، قبلت شهادته ، لأنه لا يجلب بهذه الشهادة نفعاً ، ولا يدفع بها ضرراً ‏.‏ وإن أقر أحدهما وحده ، لزم في نصيبه ، وتسمع شهادته على صاحبه لما ذكرناه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن بغير تفريط ، فالقول قوله ، لأنه أمين فأشبه المودع ‏.‏ وإن ادعى الرد ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقبل قوله لذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يقبل ، لأنه قبضه لنفسه ، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر ‏.‏ وإن أعتق الراهن الجارية ، أو وطئها ، فادعى أنه بإذن المرتهن فأنكره ، فالقول قول المرتهن ، لأن الأصل معه ، فإن نكل ، قضي عليه ‏.‏ وإن صدقه فأتت بولد ، فأنكر المرتهن مدة الحمل ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدمها ، وإن وطئها المرتهن بإذن الراهن ، وادعى الجهالة ، وكان مثله يجهل ذلك ، ، فلا حد عليه ، لأن الحد يدرأ بالشبهات ‏.‏ ولا مهر ، لأنه حق للسيد فسقط بإذنه ، والولد حر يلحق نسبه ، لأنه من وطء شبهة ، ولا تصير أم ولد ، لأنه لا ملك له فيها ‏.‏ وإن لم تكن له شبهة ، فعليه الحد والمهر وولده رقيق ‏.‏


كتاب التفليس


ومن لزمه دين مؤجل ، لم يجز مطالبته به ، لأنه لايلزمه أداؤه قبل أجله،ولا يجوز الحجر عليه به ، لأنه لا يستحق المطالبة به ، فلم يملك منعه من ماله بسببه ، فإن أراد سفراً يحل دينه قبل قدومه منه ، فلغريمه منعه ، إلا برهن أو ضمين مليء ، لأنه ليس له تأخير الحق عن محله ، وفي السفر تأخيره ‏.‏ وإن لم يكن كذلك ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ له منعه ، لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر ، فملك منعه منه كالأول ‏.‏

والثانية ‏:‏ ليس له منعه ، لأنه لا يملك المطالبة به في الحال ، ولا يعلم أن السفر مانع منها عند الحلول ، فأشبه السفر القصير ‏.‏ وإن كان الدين حالاً ، والغريم معسراً ، لم تجز مطالبته ، لقول الله تعالة ‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏}‏ ولا يملك حبسه ولا ملازمته ، لأنه دين لا يملك المطالبة به ، فلم يملك به ذلك ، كالمؤجل ‏.‏ فإن كان ذا صنعة ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجبر على إجارة نفسه ، لما روي أن رجلاً دخل المدينة ،وذكر أن وراءه مالاً ، فداينه الناس ، ولم يكون وراءه مال ، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقا ، وباعه بخمسة أبعر وروى الدارقطني نحوه وفيه أربعة أبعرة‏.‏ والحر لا يباع ، فعلم أنه باع منافعه ، ولأن الأجارة عقد معاوضة ، فجاز أن يجبر عليه ، كبيع ماله ، وإجارة أم ولده ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجبر ، لما روى أبو سعيد ‏:‏ أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال النبي ‏(‏ ص‏)‏ تصدقوا عليه فتصدقوا عليه ، فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك رواه مسلم ‏.‏ ولأنه نوع تكسب ، فلم يجز عليه كالتجارة ‏.‏

فصل

وإن كان موسراً ، فلغريمه مطالبته ، وعليه قضاؤه ‏.‏ لقول النبي صلى الله عليه وسلم مطل الغني ظلم متفق عليه ‏.‏ فإن أبى ، فله حبسه ، لقول النبي ‏(‏ص ‏)‏ لي الواجد يحل عقوبته وعرضه من المسند ‏.‏ فإن لم يقضه ، باع الحاكم ماله وقضى دينه ، لما روي أن عمر رضي الله عنه قال ‏:‏ إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال ‏:‏ سابق الحاج ، فادان معرضاً ، فمن كان له عليه مال فليحضر ، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه رواه مالك في الموطأ بنحوه فإن غيب ماله ، حسبه وعزره حتى يظهره ‏.‏ ولا يجوز الحجر عليه مع إمكان الوفاء ، لعدم الحاجة إليه ‏.‏ وإن تعذر الوفاء ، وخيف من تصرفه في ماله ، حجر عليه إذا طلبه الغرماء ، لئلا يدخل الضرر عليهم ‏.‏

فصل

فإن ادعى الإعسار من لم يعرف له مال ، فالقول قوله مع يمينه ، لأن الأصل عدمه ‏.‏ وإن عرف له مال ، أو كان الحق لزمه في مقابلة مال ، كثمن مبيع ، أو قرض ، لم يقبل قوله إلا ببينة ، لأن الأصل بقاء المال ، ويحبس حتى يقيم البينة ‏.‏ فإن قال‏:‏ غريمي يعلم إعساري ، فعلى غريمه اليمين أنه لايعلم ذلك ‏.‏ وإن أقام البينة ‏.‏ على تلف المال فعليه اليمين معها أنه معسر ، لأنه صار بهذه البينة كمن لم يعرف له مال ‏.‏وإن شهدت بإعساره ، فادعى غريمه أن له مالاً باطناً ، لم يلزمه يمين ، لأنه أقام البينة على ما ادعى ، وتسمع البينة على التلف ‏.‏ وإن لم يكن ذا خبرة باطنة‏.‏ لأنه أمر يعرف بالمشاهدة ولا تسمع على الإعسار إلا من أهل الخبرة بحاله ، لأنه من الأمور الباطنة ‏.‏ فإن كان في يده مال فأقر به لغيره ، سئل المقر له ، فإن كذبه ، بيع في الدين ، وإن صدقه ، سلم إليه ‏.‏ فإن قال الغريم ‏:‏ أحلفوه أنه صادق لم يستحلف ، لأنه لو رجع عن الإقرار ، لم يقبل منه ‏.‏ وإن طلب يمين المقر له ، لأنه لو رجع قبل رجوعه ‏.‏

فصل

فإن كان ماله لا يفي بدينه ، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه ، لزمته إجابتهم ، لما روى كعب بن مالك ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ، وباع ماله رواه سعيد بن منصور بنحوه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ولأن فيه دفعاً للضرر عن الغرماء ، فلزم ذلك كقضائهم ‏.‏ ويستحب الإشهاد على الحجر ، ليعلم الناس حاله ، فلا يعاملوه إلا على بصيرة ، ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام ‏:‏

أحدها ‏:‏ منع تصرفه في ماله ، فلا يصح بيعه ولا هبته ، ولا وقفه ، ولا غير ذلك ، لأنه حجر ثبت بالحاكم ، فمنع تصرفه ، كالحجر للسفه ‏.‏ وفي العتق روايتان ‏:‏

إحدهما ‏:‏ لا يصح لذلك ، ولأن حق الغرماء تعلق بماله ، فمنع صحة عتقه ، كما لو كان مريضاً ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح ، لأنه عتق من مالك رشيد صحيح ‏.‏ أشبه عتق الراهن ‏.‏ وإن أقر بدين ، أو عين في يده ، كالقصار والحائك يقر بثوب ، لم يقبل إقراه لذلك ، ويلزم في حقه ، يتبع به بعد فك الحجر عنه ، وإن توجهت عليه يمين فنكل عنها ، فهو كإقراره ‏.‏ وإن تصرف في ذمته بشراء ، أو اقتراض أو ضمان ، أو كفالة ، صح ، لأنه أهل للتصرف ، والحجر إنما تعلق بماله دون ذمته ‏.‏ ولا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء ، لأن من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك ، ومن لم يعلم ، فهو مفرط ‏.‏ ويبيعونه بعد فك الحجر عنه كلمقر له ، وهل للبائع والمقرض الرجوع في أعيان أموالهما إن وجداها ‏؟‏ على وجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لهما ذلك ، للخبر ، ولأنه باعه في وقت الفسخ، فلم يصقط حقه منه ، كما لو تزوجت المرأة معسراً بنفقتها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا فسخ لهما ، لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة ، أشبها من اشترى معيباً يعلم عيبه ‏.‏

وإن جنى المفلس جناية توجب مالاً ، لزمه وشارك صاحبه الغرماء ، لأنه حق ثبت بغير رضى مستحقه ، فوجب قضاؤه من المال كجناية عبده وإن ثبت عليه حق بسبب قبل الفلس ببينة ، شارك صاحبه الغرماء ، لأنه غريم قدديم ، فهو كغيره ‏.‏

فصل

الحكم الثاني ‏:‏ أنه يتعلق حقوق الغرماء بعين ماله ، فليس لبعضهم الاختصاص بشيء منه سوى ما سنذكره ‏.‏ ولو قضى المفلس أو الحاكم بعضهم وحده ، لم يصح ‏.‏ لأنهم شركاؤه فلم يجز اختصاصه دونهم ‏.‏ ولو جنى عليه جناية أوجبت مالاً ، أو ورث مالآً تعلقت حقوقهم به ‏.‏ وإن أوجبت قصاصاً لم يملكوا إجباره على العفو إلى مال ، لأن فيه ضرراً بتفويت القصاص الواجب لحكمة الإحياء ، ولا يجبر على قبول هبة ، ولا صدقة ، ولا قرض عرض عليه ، ولا الرأة على التزوج ، لأنه فيه ضرراً بلحوق المنة ، أو التزوج من غير رغبة ‏.‏ ولو باع بشرط الخيار ، لم يجز على ما فيه الحظ من رد ، أو إمضاء، لأن الفلس يمنعه إحداث العقود ، لا إمضاؤها وليس للغرماء الخيار ، لأن الخيار لم يشرط لهم ‏.‏ وإن وهب هبة بشرط الثواب ، لزم قبوله ، لأنه عوض عن مال ، فلزم قبوله ، كثمن المبيع ‏.‏ ولا يملك إسقاط ثمن مبيع ولا أجرة ، ولا أخذه رديئاً ،ولا قبض المسلم فيه صفة ، إلا بإذن الغرماء ، لما ذكرناه ‏.‏ وإن ادعى مالاً له به شاهد ، حلف وثبت المال ، وتعلقت حقوقهم به ، وإن نكل لم يكن للغرماء أن يحلفوا ، لأن دعواهم لهذا المال غير مسموعة ، فلا يثبت بأيمانهم ، كالأجانب ،ولأنهم لو حلفوا لحلفوا على إثبات مال لغيرهم ،وكذلك الحكم في غرماء الميت ، إذا لم يحلف الوارث ، لم يحلفوا لما ذكرنا ‏.‏

فصل

والحكم الثالث ‏:‏ أن للحاكم بيع ماله ، وقضاء دينه ‏.‏ ويستحب أن يحضره عند البيع ، لأنه أعرف بثمن ماله ، وجيده ورديئه ، فيتكلم عليه ، وهو أطيب لقلبه ، ويحضر الغرماء ، لأنه أبعد من التهمة ، ربما رغب بعضهم بشراء شيء، فزاد في ثمنه ، أو وجد في عين ماله فأخذها ، فإن لم يفعل جاز ، لأن ذلك موكول إليه ، ويقيم منادياً ينادي على المتاع ‏.‏ فإن عين المفلس والغرماء منادياً ثقة ، أمضاه الحاكم ‏.‏ وإن لم يكن ثقة ، رده ، لأن للحاكم نظراً ،فإنه ربما ظهر غريم آخر ‏.‏ وإن اختلفوا في المنادي ، قدم الحاكم أوثقهما وأعرفهما ، فإن تطوع بالنداء ثقة ، لم يستأجر ، لأن فيه بذل الأجرة من غير حاجة ، وإن عدم ، بذلك الأجرة من مال المفلس ، لأن االبيع حق عليه ، ويقدم على الغرماء بها ، لأنه لو لم يعط ، لم يناد ‏.‏ وكذلك أجرة من يحفظ المتاع والثمن ، ويحمله ويباع كل شيء في سوقه ، لأن أهل السوق أعرف بقيمة المتاع وأرغب ، وطلابه فيه أكثر ‏.‏ فإن باعه في غيره بثمن مثله ، جاز ، لأنه ربما أداه اجتهاد إلى ذلك لمصلحة فيه ، ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد ، لأن في تأخيره هلاك ثم بالحيوان ، لأنه يحتاج إلى العلف ، ويخشى عليه التلف ، ثم بالأثاث ، لأنه يخشى تلفه ، وتناله اليد ، ثم بالعقار ، لأنه أبعد تلفاً ، وتأخيره أكثر لطالبيه ، فيزداد ثمنه ‏.‏ ومن وجد من الغرماء عين ماله ، فهو أحق بها ‏.‏ ومن اكترى من المفلس داراً ، أو ظهراً بعينه قبل الحجر عليه ، فهو أحق به ، لأنه استحق عينه قبل إفلاسه ، فأشبه ما لو اشترى منه عبداً ‏.‏ وإن اكترى منه ظهراً في الذمة، فهو أسوة الغرماء ، لأن دينه في الذمة أشبه سائر الغرماء ، وإن كان في المتاع رهن ، أو جان ، قدم الراهن والمجني عليه بثمنه ، لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة ، بخلاف سائر الغرماء ، وحق المجني عليه يقدم على حق المرتهن ، فعلى غيره أولى ‏.‏ وإن فضل منه فضل ، رده على التركة ، وإن لم يف بحقهما ، فلا شيء للمجني عليه ، لأنه لا حق في غير الجاني ، ويضرب المرتهن مع الغرماء بباقي دينه ، لأن حقه متعلق بالذمة مع تعلقه بالعين ، وإن بيع له متاع ، فهلك ثمنه ،أو استحق المبيع ، رجع المشتري بثمنه ‏.‏ وهل يقدم على الغرماء ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقدم ، لأن في تقديمه مصلحة ، فإنه لو لم يقدم ، تجنب الناس شراء ماله خوفاً من الاستحقاق ، فيقل ثمنه ، فقدم به ، كأجرة المنادي ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يقدم ، لأنه حق لزمه بغير رضى صاحبه ، أشبه أرش جنايته ، ثم يقسم ما اجتمع من ماله بين الغرماء على قدر ديونهم ‏.‏ فإن ظهر غريم بعد القسمة، نقضت وشاركهم ، لأنه غريم ، لو كان حاضراً لشاركهم ، فإذا ظهر بعد ذلك ، قاسمهم كما لو ظهر للميت غريم بعد قسم ماله ‏.‏ وإن أكرى داره عاماً ، وقبض أجرتها فقسمت ، ثم انهدمت الدار ، رجع المكتري على المفلس بأجرة ما بقي وشاركهم فيما اقتسموه ، لأنه دين وجب بسبب قبل الحجر ، فشارك به الغرماء كما لو انهدمت قبل القسمة ‏.‏

فصل

الحكم الرابع ‏:‏ أن من وجد عين ماله عنده ، فهو أحق به ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس ، فهو أحق به متفق عليه ‏.‏ وله الخيار بين أخذه أو تركه ، وله أسوة الغرماء ، سواء كانت السلعة مساوية لثمنها ، أو أقل أو أكثر ، لأن الإعسار ثبت للفسخ فلا يوجبه كالعيب ، ولا يفتقر إلى حاكم ، للخبر ، ولأنه فسخ ثبت بنص السنة ، فلم يفتقر إلى حاكم ، كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد وفيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن الخيار على التراخي ، لأنه رجوع إلى عوض ، كان على التراخي كالرجوع في الهبة ‏.‏

والثاني ‏:‏ هو على الفور ‏.‏ اختاره القاضي ، لأن في تأخيره إضراراً بالغرماء ، لتأخير حقوقهم ، ولأنه خيار يثبت في المبيع ، لنقص في العوض ، أشبه الرد بالعيب ، فإن حكم حاكم بسقوط الخيار ، فقال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ينقض حكمه ، لأنه يخالف صريح السنة ، ويحتمل أن لا ينقض ، لأنه مختلف فيه ‏.‏ ولو بذل الغرماء لصاحب السلعة ثمنها ليتركها ، لم يلزمه قبول للخبر ، ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه ، فلم يجبر المستحق على قبوله ، كما لو أعسر بنفقة زوجته فبذلها غيره ‏.‏ وسواء ملكها المفلس ببيع ، أو قرض ، لعموم الخبر ‏.‏ ولو أصدق امرأة مالاً ، وأفلست قبل دخوله بها ، ثم ارتدت ، أو طلقها ، ووجد عين ماله فهو أحق بها ‏.‏ ولو استأجر شيئاً فأفلس قبل مضي شيء من المدة ، فللمؤجر الرجوع فيه ، لأنه وجد عين ماله ، وإن كان بعد مضي المدة ، فهو غريم بالأجرة ، وإن كان بعد مضي شيء منها ، فهو غريم ، لأن المدة كالمبيع ، ومضي بعضها ، كتلف بعضه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ له الفسخ ‏.‏ فإن كان للمفلس زرع فعليه تبقيته بأجرة مثله ‏.‏

فصل

ولا يملك الرجوع إلا بشروط خمسة ‏:‏

أحدها‏:‏ ‏أن يجدها سالمة ‏.‏فإن تلف بعضها ، أو باعه المفلس، أو وهبه ،أو وقفه ، فله أسوة الغرماء ، لقوله عليه السلام ‏:‏ من أدرك متاعه فهو أحق به والذي تلف بعضه لم توجد عينه ‏.‏ فن كان المبيع عبدين ، أو ثوبين ، فتلف أحدهما أو بعضه ، ففي السالم منهما روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ له الرجوع فيه بقسطه لأنه وجده بعينه ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يرجع لأنه لم يجد المبيع بعينه ، أشبه العين الواحدة ‏.‏ وإن كان المبيع شجرة مثمرة ، فتلفت ثمرتها ، فله أسوة الغرماء ، لأنهما كالعين الواحدة ، إلا أن تكون الثمرة مؤبرة حين البيع ، فاشترطها المبتاع ، فهما كالعينين ، لأن الثمرة لا تتبع الأصل ، فهي كالولد المنفصل ‏.‏ وإن نقص المبيع صفة ، مثل أن هزل ، أو نسي صناعة ، أو كبر ، أو كان ثوباً فخلق ، لم يمنع الرجوع ، لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين المال ، فيتخير بين أخذه ناقصاً ، أو يكون أسوة الغرماء بكل الثمن ‏.‏ وإن فقئت عينه ، فهو كتلف بعضه ، وإن شج ، أو جرح ، أو اقتضت البكر ، فكذلك في قول أبي بكر ، لأنه نقص جزء ينقص قيمته ، فأشبه ما لو فقئت عينه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ قياس المذهب أن له الرجوع ، لأنه فقد صفة ، فهو كالهزال ، ثم إن كان لا أرش له لكونه حصل بفعل الله تعالى ، أو فعل المفلس ، فلا شيء للبائع مع الرجوع ، وإن كان له أرش ، فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من ثمنه ، فينظر ما نقص من قيمته فيرجع بقسطه من الثمن ، لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن والأرش للمفلس على الجاني ‏.‏

فصل

فإن كان المبيع زيتاً ، فخلطه بزيت آخر ، أو لت به سويقاً ، أو صبغاً فصبغ به ثوباً ، أو مسامير فسمر بها باباً ، أو حجراً فبنى به ، أو لوحاً فجعله في سفينة ، أو سقف أو نحو ذلك ، لم يكن له الرجوع ، لأنه لا يقدر على أخذ عين ماله في بعض الصور ، ولا بقدر في بعضها إلا بإتلاف مال المفلس ، ولا يزال الضرر بالضرر ‏.‏ وإن كانت حنطة ، فطحها أو زرعها ، أو دقيقاً فخبزه ، أو زيتاً فعمله صابوناً ، أو عزلاً فنسجه ، أو ثوباً فجعله قميصاً ، أو حباً فصار زرعاً ، أو بيضاً فصار فرخاً ، أو نوى فنبت شجراً ، أو نحوه مما يزيل اسمه ، فلا رجوع له ، لأنه لم يجد متاعه بعينه ، لتعذر اسمه وصفته ‏.‏

فصل

وإن اشترى ثوباً فصبغه أو قصره ، وسويقاً فلته بزيت ، فلصاحبهما الرجوع فيهما ، لأن عين مالهما قائمة مشاهدة ، لم يتغير اسمها ، ولا صفتها ، ويصير المفلس شريكهما بما زاد عن قيمتهما ، لأن ما حصل من زيادة القيمة بالصبغ ويغره ، فهي للمفلس ، لأنها حصلت فعله في ملكه ‏.‏ وإن نقص الثوب ، لم يمنع الرجوع ، لأنه نقص صفة ، فهو كالهزال ‏.‏ وإن لم يزد بالقصارة ، سقط حكمها ، لعدم أثرها في الزيادة ‏.‏ وإن اشترى أرضاً فزرعها ، ثم أفلس ، فللبائع الرجوع فيها ، لما ذكرنا ، ويكون الزرع مبقى إلى الحصاد بغير أجرة ، لأن العوض في مقابلة الأرض ، لا في مقابلة المنفعة فإذا فسخ ، عادت إليه الرقبة دون المنفعة المستثناة شرعاً ، كما لو باعه أمة فزوجها ثم رجع فيها دون منفعة بضعها ‏.‏

فصل

الشرط الثاني ‏:‏ أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً ، فإن قبض بعضه ، فلا رجوع له ، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ أيما رجل باع سلعة ، فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ، ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً ، فهي له ، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئاً ، فهو أسوة الغرماء رواه أبو داود ‏.‏ ولأن في الرجوع بالباقي تبعيض الصفقة على المفلس ، فلم يجز ، كما لو لم يقبض شيئاً ‏.‏

فصل

الشرط الثالث ‏:‏ أن لا يتعلق بها حق غير المفلس ، فإن خرجت عن ملكه ببيع أو غيره ، لم يرجع ، لأنه تعلق بها حق غيره ، أشبه ما لو أعتقها ‏.‏ وإن رهنها ، سقط الرجوع لذلك ، وإن تعلق بها أرض جناية ، سقط الرجوع ، لأنه يقدم على حق المرتهن ،فهو أولى بالمنع ، ويتوجه أن لا يمنع ، لأنه لا يمنع تصرف المشتري بخلاف الرهن ، فعلى هذا إن شاء رجع فيه ناقصه بعيب الجناية ، وإن شاء فله أسوة الغرماء ، فإن كان دين الرهن ، أو أرش الجناية بقدر بعضه ، منع الرجوع في الجميع ، لأنه معنى منع الرجوع في بعضها ، فمنعه في جميعها ، كبيع بعضها ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يرجع في باقيها بقسطه ، لأنه لا مانع فيه ، وإن كان المبيع شقصاً مشفوعاً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ للبائع الرجوع ، اختاره ابن حامد ، للخبر ، ولأنه إذا رجع فيه ، عاد الشقص إليه ، فزال الضرر عن المبيع ، لعدم شركه غير البائع ‏.‏

والثاني ‏:‏ الشفيع أحق ، لأن حقه آكد بدليل أنه ينزع الشقص من المشتري ، وممن نقله إليه المشتري ، بخلاف البائع ‏.‏ وإن باعه المفلس أو وهبه ، ثم عاد إليه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له الرجوع للخبر ، ولأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره ، أشبه إذا لم يبعه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يرجع ، لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه ، فلم يملك فسخه ‏.‏ وإن كان المبيع صيداً ، فوجده البائع بعد أن أحرم ، سقط الرجوع ، لأنه تملك للصيد ، فلم يجز مع الإحرام كشرائه ‏.‏

فصل

الشرط الرابع ‏:‏ كون المفلس حياً ، فإن مات فالبائع أسوة الغرماء ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ فإن مات فصاحب المتاع أسوى الغرماء رواه أبو داود ‏.‏ وفي لفظ أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه ، اقتضى من ثمنه شيئاً ، أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء رواه ابن ماجة ‏.‏ ولأن الملك انتقل عن المفلس ، فسقط الرجوع فيه كما لو باعه ‏.‏

فصل

الشرط الخامس ‏:‏ أن لا يزيد زيادة متصلة ، كالسمن والكبر ، وتعلم صنعة ، فإن وجد ذلك ، منع الرجوع ، ذكره الخرقي ، لأنه فسخ بسبب حادث ، فمنعته الزيادة المتصلة ، كالرجوع في الصداق للطلاق قبل الدخول ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ له الرجوع للخبر ، ولأنه فسخ فلم تمنعه الزيادة ، كالرد بالعيب ‏.‏ فأما الزيادة المنفصلة ، كالولد والثمرة الظاهرة والكسب ، فلا يمنع الرجوع ، لأنه يمكن الرجوع في العين دونها ، والزيادة للمفلس في ظاهر المذهب ، لأنها نماء ملكه المنفصل ، فكانت له ، كما لو ردها بعيب ، ورجعت إلى الزوج بالطلاق ، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الخراج بالضمان رواه أبو داود يدل على أن النماء للمشتري ، لكون الضمان عليه ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ هي للبائع قياساً على المتصلة ، والفرق ظاهر ، لأن المتصلة تتبع في الفسوخ دن المنفصلة ‏.‏

فصل

فإن باعها حائلاً فحملت ، فالحمل زيادة متصلة ، لأنه يتبع أمه في العقود والفسوخ ، ولا يمكن الرجوع فيها دونه ، فهو كالسمن ، ويحتمل أن يرجع فيها دون ولدها ، يتربص به حتى تضع ، لأنه جزء لانفصاله غاية ، فأشبه الثمرة ‏.‏ وإن أفلس بعد وضعها ، فهو زيادة منفصلة ، له الرجوع في الأم دون الولد ، إلا أن تكون أمة ، فلا يجوز التفريق بينهما ، ويخير بين دفع قيمة الولد ليملكهما ، وبين بيعهما معاً ، فيكون له من الثمن ما يخص الأم ‏.‏ وإن باعها حاملاً ، فلم تزد قيمتها ، فله الرجوع ، وإن زادت القيمة لكبر الحمل أو وضعه ، فهي زيادة متصلة ‏.‏ وإن زاد أحدهما خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين ، فتلفت إحداهما ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ له الرجوع فيهما على كل حال ‏.‏ ومن جعل الحمل لا حكم له ، جعل حكمها حكم المبيعة حائلاً سواء ‏.‏

فصل

فإن باع نخلاً حائلاً فأطلعت ، ثم أفلس المشتري قبل تأبيرها ، فالطلع زيادة متصلة ، لأنها تتبع في البيع ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ حكمها حكم المنفصل ، لأنه يمكن فصله ، وإفراده بالبيع بخلاف السمن ، وإن أفلس بعد تأبيرها ، فهي زيادة منفصلة ، تكون للمفلس متروكة إلى الجذاذ ، كما لو اشترى النخل ، وكذلك الحكم في سائر الشجر ، وفي الأرض ينبت فيها الزرع ، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيته أو قطعه ، فلهم ذلك ، وإن اختلفوا ، وله قيمته مقطوعاً ، قدم قول من طلب القطع ، لأنه أقل عذراً ، ولأن الطالب للقطع ، إما غريم يطلب حقه ، أو مفلس يطلب تبرئة ذمته ، فإن أقر المفلس للبائع بالطلع ، لم يقبل إقراره ، لأنه يسقط به حق الغرماء ، فلم يقبل كإقراره بغريم آخر ، وعلى الغرماء اليمين ، لأنهم لا يعلمون برجوع البائع قبل التأبير ، لأن اليمين تثبت في جنبهم ابتداء ‏.‏ وإن أقر الغرماء ، لم يقبل ، لأن الملك للمفلس ، ويحلف المفلس ، ويثبت الطلع له ، ينفرد به دونهم ، لإقرارهم أنه لا حق لهم فيه ، وله تخصيص بعضهم به ، وقسمته بينهم ، فمن أباه قيل له ‏:‏ إما أن تأخذه أو تبرئه ، لأنه للمفلس حكماً ، فقد قضاهم ما ثبت له ، فلزمهم ، قبوله ، كما لو أدى المكاتب نجومه ، فادعى سيده تحريمه ‏.‏ فإن قبضوا الثمرة بعينها ، لزمهم ردها إلى البائع لإقرارهم له بها ، وإن قبضوا ثمنها ، لم يلزمهم رده ، لأنهم إنما اعترفوا له بالعين له بالثمن ‏.‏ وإن شهد الغرماء للبائع بالطلع ، وهم عدول ، قبلت شهادتهم لأنهم غير متهمين ‏.‏

فصل

وإن اشترى أرضاً فغرسها ، أو بنى فيها ، ثم أفلس ، فللبائع الرجوع في الأرض ، ثم إن طلب المفلس والغرماء ، قلع الغراس والبناء ، فلهم ذلك ، وعليهم ضمان ما نقصها القلع وتسوية الحفر ، لأنه نقص حصل بفعلهم ، لتخليص ملكهم ، فأشبه المشتري مع الشفيع ‏.‏ وإن أبوا القلع ، فللبائع دفع قيمته ويملكه ، لأنه حصل لغيره في ملكه بحق ، فملك ذلك ، كالشفيع ، فإن أبى ذلك سقط الرجوع ، لأن فيه ضرراً على المشتري ، ولأن عين ماله مشغولة بملك غيره ، أشبه الحجر المبني عليه ، هذا قول ابن حامد ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ يحتمل أن له الرجوع ، لأن شغل ملكه بملك غيره لا يمنع الرجوع إذا كان أصلاً ، كالثوب إذا صبغ ، فإذا رجع ، فاتفق الجميع على البيع ، بيع ، وأعطي كل واحد حقه ، وإن أبى بعضهم احتمل أن يجبر عليه ، لأنه معنى ينفصل به أحدهما عن صاحبه ، أشبه بيع الثوب المصبوغ ، واحتمل أن لا يجبر صاحب الأرض ، ويباع الشجر وحده ، لأنه ممكن بخلاف الصبغ ‏.‏

فصل

وإن اشترى غراساً فغرسه ، ثم أفلس فلم يزد ، فللبائع الرجوع فيه ، ويقلعه ، ويضمن النقص ، فإن أتى قلعه فبذل المفلس والغرماء قيمته ليملكوه ، فلهم ذلك كالتي قبلها ، وإن أرادوا قلعه ، فلهم ذلك ، ولا ضمان عليهم ، لأن المفلس اشتراه مقلوعاً ، فلم يلزمهم مع رده لذلك شيء آخر ، ولا إبقاء في أرضهم بغير استحقاق ‏.‏ وإن زاد سقط الرجوع في قول الخرقي ، وعلى رواية الميموني يحتمل ذلك أيضاً ، لأن النماء فيه قد حصل من أرض المفلس ، فلم يملك البائع أخذه ، ويحتمل أن له الرجوع ، كما لو سمن العبد من طعامه ‏.‏ وإن اشترى من رجل أرضاً ، ومن آخر غرساً ، فغرسه فيها ، فلصاحب الأرض الرجوع ، وفي صاحب الغرس التفصيل الذي ذكرناه ، فإن رجعا معاً ، فالحكم فيهما ، كما لو كان الغرس في أرض المفلس ‏.‏

فصل

وإن أفلس ، وعليه دين مؤجل لم يحل ، لأنه التأجيل حق له ، فلم يبطل بفلسه ، كسائر حقوقه ، قال القاضي ‏:‏ لا يحل رواية واحدة ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ فيه رواية أخرى أنه يحل ، لأن الفلس معنى يوجب تعلق الدين بماله ، فأسقط الأجل كالموت ، فإن قلنا ‏:‏ لا يحل اختص أصحاب الديون الحالة بماله دونه ، لأنه لا يستحق استيفاء حقه قبل أجله ، وإن حل دينه قبل القسمة ، شاركهم لمساواته إياهم في استيفائه ، فأشبه من تجدد له دين بجناية المفلس عليه ، وإن أدرك بعض المال ، شاركهم فيه لذلك ، فإن كان المؤجل برهن خص به ، لأن حقه تعلق بعينه ، فإن وجد عين ماله ، فقال أحمد ‏:‏ يكون موقوفاً إلى أن يحل فيختار الفسخ أو الترك ، لأن حقه تعلق بالعين ، فقدم على غيره كالمرتهن ، فإن كان ماله سلماً ، فأدرك عين ماله ، رجع فيها ، وإن لم يدركها ، وحل دينه قبل القسمة ، ضرب بالمسلم فيه ، وأخذ بقسطه من جنس حقه إن كان في المال وإلا اشترى به من جنس حقه ، ودفع إليه ، ولا يجوز أن يأخذ غير ما أسلم فيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره رواه ابن ماجة وأبو داود ‏.‏

فصل

فإن مات إنسان ، وعليه دين مؤجل ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يحل اختارها الخرقي ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من ترك حقاً فلورثته والتأجيل حق له ‏.‏ فينتقل إلى ورثته لأنه لا يحل له ماله ، فلا يحل ما عليه كالجنون ‏.‏

والثاني ‏:‏ يحل لأن بقاءه ضرر على الميت لبقاء ذمته مرتهنة به ، وعلى الوارث لمنعه التصرف في التركة ، وعلى الغريم تأخير حقه ، وربما تلفت التركة ، وعلى كلتا الروايتين يتعلق الحق بالتركة ، كتعلق الأرش بالجاني ، ويمنع الوارث التصرف فيها إلا برضى الغريم ، أو توثيق الحق بضمين مليء ، أو رهن يفيء بالحق إن كان مؤجلاً ، فإنهم قد يكونون أملياء ، فيؤدي تصرفهم إلى فوات الحق ، فإن تصرفوا قبل ذلك ، صح تصرفهم كتصرف السيد في الجاني ، ويلزمهم أقل الأمرين من قضاء الدين ، أو قيمة التركة ، لأنه لا يلزمهم أكثر من وفاء الدين ، ولا أكثر من التركة ، ولهذا لو كانت باقية ، لم يلزمهم أكثر من تسليمها ‏.‏ وإن تلفت التركة قبل التصرف فيها والتوثيق منها ، سقط الحق كما لو تلف الجاني ‏.‏ وإن قضى الورثة الدين من غير التركة ، أو منها ، جاز ‏.‏ وإن أبى الجميع ، باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين ‏.‏ وإن مات المفلس وعليه دين مؤجل ، فوثق الورثة للمؤجل ، اختص أصحاب الحالة بالتركة ، وإن أبوا ذلك ، حل دينه فشاركهم ، لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكية ‏.‏

فصل

وإذا حجر على المفلس ، وهو ذو كسب يفيء بمؤنته ومؤنة من تلزمه مؤنته ، فلذلك في كسبه ، لأن ماله لا يخرج فيما لا حاجة إلى إخراجه فيه ‏.‏ وإن لم يف كسبه بمؤنته ، كملناها من ماله ‏.‏ وإن لم يكن ذا كسب ، أنفق عليه وعلى من تلزمه مؤنته من ماله بالمعروف في مدة الحجر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وفيمن يعوله من تكون نفقته ديناً ، كالزوجة ‏.‏ وإذا قدما نفقة نفسه على نفقة الزوجة ، وجب تقديمها على سائر الديون ، ولأن تجهيز الميت يقدم على دينه اتفاقاً ، فنفقة الحي أولى ، لأن حرمته آكد من حرمة الميت ‏.‏ ويقدم نفقة من تلزمه مؤنته من أقاربه ، لأنهم جروا مجراه ، وكذلك عتقوا عليه إذا ملكهم ‏.‏ وكذلك نفقة زوجته ، لأنها آكد من نفقة أقاربه ، وتجب كسوتهم أيضاً ، لأن ذلك مما لا بد منه ، ويكون ذلك من أدنى ما ينفق على مثلهم ، أو يكتسي مثلهم ، فإن كانت له ثياب هي أرفع من كسوة مثله ، بيعت واشتري لهم كسوة مثلهم ، ورد الفضل على الغرماء ‏.‏ وإن مات منهم ميت ، كفن من ماله ، لأنه يجري مجرى كسوة الحي ، ويكفن في ثلاثة أثواب كغيره ، ويحتمل أن يكفن في ثوب واحد ، لأن الزائد فضل يستغنى عنه ‏.‏ ولا تباع داره التي لا غناء له عن سكناها ، لأنه لا بد منه أشبه الكسوة ، فإن كانت واسعة ، يكفيه بعضها بيع الفاضل منها إن أمكن وإلا بيعت كلها ، واشتر له مسكن مثله ، وإن لم يكن له مسكن ، استؤجر له مسكن ، لأن ذلك مما لا بد منه ‏.‏ ورد الفضل على الغرماء ولا باع خادمه الذي لا يستغني عن خدمته ‏.‏ وإن كان مسكنه وخادمه وثيابه أعيان أموال الناس ، أفلس بها ووجدوها ، فلهم أخذها للخبر ، ولأن حقوقهم تعلقت بالعين ، فكانت أقوى من غيرها ‏.‏ ويحتمل أن من لم يكن له مسكن ، ولا خادم ، فاستدان ما اشتراهما به ، وأفلس بذلك الدين أن يباع مسكنه وخادمه ، لأنهما بأموال الغرماء ، فتبقيتهما له إضرار بهم ، وفتح باب الحيلة للمفاليس في استدانة ما يشترون به ذلك فيبقى لهم ‏.‏

فصل

وإذا قسم ماله بين غرمائه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يزول الحجر عنه ، لأن المعنى الذي حجر عليه من أجله حفظ المال ، وقد زال ذلك ، فيزول الحجر ، لزوال سببه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يزول إلا بفك الحاكم له ، لأنه حجر ثبت بالحاكم فلا يزول إلا به ، كالحجر على السفيه ‏.‏ وإذا فك الحجر عنه فلزمته ديون ثم حجر عليه ثانياً ، شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني ، إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم ، والآخرون يضربون بجميع ديونهم ‏.‏
باب الحجر


يحجر على الإنسان لحق نفسه لثلاثة أمور ، صغر ، وجنون ، وسفه ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏.‏ فدل على أن لا تسلم إليهم قبل الرشد ، وقوله ‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏ ‏.‏ ولأن إطلاقهم في التصرف يفضي إلى ضياع أموالهم ، وفيه ضرر عليهم ‏.‏ ويتولى الأب مال الصبي والمجنون لأنها ولاية على الصغير ، فقدم فيها الأب ، كولاية النكاح ‏.‏ ثم وصيه بعده ، لأنه نائبه ‏.‏ فأشبه وكيله في الحياة ، ثم الحاكم ، لأن الولاية من جهة القرابة قد سقطت ، فثبت للسلطان ، كولاية النكاح ‏.‏ ولا تثبت لغيرهم ، لأن المال محل الخيانة ، ومن سواهم قاصر الشفقة ، غير مأمون على المال ، فلم يله كالأجنبي‏.‏ ومن شرط ثبوت الولاية العدالة بلا خلاف ، لأن في تفويضها إلى الفاسق تضييعاً لماله ، فلم يجز ، كتفويضها إلى سفيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس لوليه التصرف في ماله بما لا حظ له فيه ، كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ وقوله عليه السلام ‏:‏ لا ضرر ولا ضرار من المسند ‏.‏ وفي هذه إضرار ،فلا يملكه ولا يأكل من ماله إن كان غنياً ، لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف‏}‏ ‏.‏ ومن كان فقيراً جاز لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ وليس له إلا أقل الأمرين من أجرته ، أو قدر كفايته ، لأنه لا يستحقه بالعمل والحاجة معاً ، فلم يملك إلا ما وجدا فيه ‏.‏ ثم إن كان أباً ، فلا شيء عليه ، لأن له أن يأخذ من مال ولده ، وإن كان غيره ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يضمن عوض ما أكله إذا أيسر ، لأنه استباحة للحاجة ، فلزمه عوضه كالمضطر ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا شيء عليه ، لأن الله تعالى أمر بالأكل ولم يذكر عوضاً ، ولأنه أجيز له الأكل بحق الولاية ، فلم يضمنه ، كرزق الإمام في بيت المال ‏.‏ وإن كان خلط مال اليتيم بماله أرفق له ، مثل أن يكون ألين في الخبز ، وأمكن في الأدم ، خلطه ‏.‏ وإن كان إفراده خيراً له ، أفرده ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ ‏.‏

فصل ‏:‏

وله أن يتجر بماله ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من ولي يتيماً فليتجر بماله ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة رواه الترمذي ‏.‏ ولأنه أحظ لليتيم ، لتكون نفقته في ربحه ، كما يفعل البالغ في ماله ، ولا يتجر إلا في المواضع الآمنة ‏.‏ لئلا يغرر بماله ، والربح كله لليتيم ، لأن المضارب إنما يستحق بعقد ، وليس له أن يعقد مع نفسه لنفسه ‏.‏ فإن أعطاه لمن يضارب له به ، جاز ، لأن العلاء بن عبد الرحمن روى عن أبيه عن جده ‏:‏ أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة ‏.‏ ولأن ذلك يفعله الإنسان في مال نفسه طلباً للحظ ، وللمضارب في الربح ما وافقه الولي عليه ، لأن الولي نائبه فيما فيه مصلحته ، وهذا من مصلحته ، فجاز كفعله له في ماله ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز أن يشتري له العقار ، لأن الحظ فيه يحصل منه الفضل ويبقى الأصل ، فهو أحظ من التجارة ، وأقل غرراً ، وله أن يبنيه ، لأنه في معنى الشراء ، قال أصحابنا ‏:‏ ويبنيه بالآجر والطين ، ليسلم الآجر عند انهدامه ‏.‏ والصحيح أنه يبنيه بما جرت عادة أهل بلده ، لأنه أحظ وأقل ضرراً ‏.‏ ولا يجوز تحمل ضرر عاجل ، لتوهم نفع عند الهدم فالظاهر أنه لا ينهدم إلا بعد زوال ملكه عنه ‏.‏ ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة ، لما فيه من تفويت الحظ الحاصل به ،- ويجوز للحاجة ‏.‏ قال أصحابنا ‏:‏ لا يجوز إلا لحاجة إلى نفقة ، أو قضاء دين ، أو غبطة لزيادة كثيرة في ثمنه ، كالثلث فما فوقه ، والمنصوص ‏:‏ أن للوصي بيعه إذا كان نظراً لهم من غير تقييد بهذين ‏.‏ وقد يكون الحظ في بيعه لغير هذا ، لكونه في مكان لا غلة له ، أو له غلة يسيرة ، فيبيعه ويشتري بثمنه ما يكثر عليه ، أو يكون له عقاران ، يعمر أحدهما بثمن الآخر ، فلا وجه لتقييده بهذين ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز أن يودع ماله إلا لحاجة ، ولا يقرضه إلا لحظه ، مثل أن يخاف هلاكه ، أو نقصانه ببقائه ، فيقرضه ليستوفيه كاملاً ، لا يقرضه إلا لمليء يأمن جحده ، أو مطله ‏.‏ ويأخذ بالعوض رهنا استيثاقاً له ، وإن لم يأخذ ، جاز في ظاهر كلامه ، وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله ، لأنه يخاطر به ، لكنه يقرضه ، أو يودعه أميناً ، والقرض أولى ، لأنه مضمون بخلاف الوديعة ‏.‏

فصل ‏:‏

وله كتابة رقيقه وعتقه على مال ، للحظ فيه ، مثل أن يكاتبه ، أو يعتقه بمثلي قيمته ، لأنها معاوضة فتجوز للحظ فيها كالبيع ، ولا يجوز ذلك بمثل قيمته لأنه لا حظ فيه ‏.‏ قال أبو بكر ‏:‏ يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ ، مثل أن يكون له جارية وابنتها تساويان مائة ، لأجل اجتماعهما ، وتساوي إحداهما مفردة مائتين ، فتساوي قيمة الباقية مثلي قيمتها مجتمعتين ‏.‏

فصل ‏:‏

وينفق عليه نفقة مثله بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا‏}‏ ‏.‏ ويقعده في المكتب بغير إذن الحاكم ، ويؤدي أجرته ، لأن من مصالحه العامة فجرى مجرى نفقته ‏.‏ ويشتري له الأضحية إن كان موسراً ، لأن فيه توسعة للنفقة عليه في يوم جرت فيه العادة بها ، وتطبيقاً لقلبه ، فجرى مجرى رفيع الثياب لمن عادته ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

وللأب بيع ماله بماله ، لأنه غير متهم عليه ، لكمال شفقته ، وليس ذلك للوصي ولا للحاكم ، لأنهما متهمان في طلب الحظ لأنفسهما ، فلم يجز ذلك لهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا زال الحجر عنه فادعى وليه الإنفاق عليه ، أو تلف ماله ، فالقول قوله ، لأنه أمين عليه ، فقبل قوله ، كالمودع ‏.‏ وإن ادعى أنه لا حظ له في بيع عقار لم يقبل إلا ببينة ‏.‏ وإن قال الولي‏:‏ أنفقت عليك عامين ، فقال ‏:‏ ما مات إلا منذ عام ، فالقول قول الغلام ، لأن الأصل حياة أبيه ، وقد اختلفا فيما ليس الوصي أميناً فيه ، فكان القول قول مدعي الأصل ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن بلغ الصبي ، وعقل المجنون ، ورشد ، وانفك الحجر عنهما من غير حاكم ، ولا يفك قبل ذلك ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏.‏ وقسنا عليه المجنون ، لأنه في معناهم ‏.‏ والبلوغ للغلام يأخذ ثلاثة أشياء ‏:‏

أحدها ‏:‏ إنزال المني ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا‏}‏ ‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة ‏:‏ عن الصبي حتى يحتلم ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

والثاني ‏:‏ كمال خمسة عشر سنة ، لما روى ابن عمر قال ‏:‏ ‏(‏‏(‏ عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فلم يجزني في القتال ، وعرضت عليه وأنا ابن خمسة عشر فأجازني ‏)‏‏)‏ متفق عليه ‏.‏

والثالث ‏:‏ إنبات الشعر الخشن حول القبل ، لما روى عطية القرظي‏.‏ قال ‏:‏ عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة ، فشكوا في فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى هل أنبت ‏؟‏ فنظروا فلم يجدوني أنبت ، فخلوا عني وألحقوني بالذرية ‏.‏ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح ‏.‏ ولأنه خارج يلازمه البلوغ يستوي فيه الذكر والأنثى ، فكان بلوغاً كالاحتلام ، وبلوغ الجارية بهذه الثلاث ‏.‏ وتزيد بشيئين ‏:‏ الحيض ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ‏.‏ رواه الترمذي ‏.‏ وقال ‏:‏ حديث حسن ، ولأنه خارج يلازم البلوغ غالباً ، أشبه المني ‏.‏ والثاني ‏:‏ الحمل ، لأنه لا يكون إلا من المني ‏.‏ فإذا ولدت المرأة ، حكمنا ببلوغها حين حكمنا بحملها ‏.‏ فإن كان خنثى مشكل ، فحيضه علم على بلوغه ، وكونه امرأة ، وخروج المني من ذكره ، علن على بلوغه ، وكونه رجلاً ، لأن الحيض من الرجل ومني الرجل من المرأة مستحيل ، أو نادر ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ ليس ذلك بدليل ، لجواز أن يكون من خلقة زائدة ، لكن إن اجتمعا ، فقد بلغ ، لأنه إن كان رجلاً فقد أمنى ، وإن كانت امرأة فقد حاضت ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستوي الذكر والأنثى في أنه ينفك عنه الحجر برشده وبلوغه ، للآية ، لأن المرأة أحد نوعي الآدميين ، فأشبهت الرجل ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يدفع إليها مالها حتى تلد ، أو تتزوج ويمضي عليها حول في بيت الزوج ، لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ، فإن لم تتزوج ، فقال القاضي ‏:‏ عندي أن يدفع إليها مالها إذا عنست ، وبرزت للرجال ‏.‏

فصل ‏:‏

والرشد الصلاح في المال، لأن ابن عباس قال في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً ‏}‏ قال ‏:‏ إصلاحاً في أموالهم ، ولأن الحجر عليه ، لحفظ ماله ، فيزول بصلاحه ‏.‏ كالعدل ‏.‏ ولأن الفسق معنى ، لو طرأ به الرشد ، لم يوجب الحجر ، فلم يمنع من الرشد ‏.‏ كالمرض ‏.‏ فإن كان فسقه يؤثر في تلف ماله ، كشراء الخمر ودفعها في الغناء والقمار ، فليس برشيد ، لأنه مفسد لماله ‏.‏

فصل ‏:‏

وإنما يعرف رشده باختياره ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ ‏.‏ يعني ‏:‏ اختبروهم ‏.‏ واختبارهم ‏:‏ تفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثالهم إليهم ، من تجارية أو نيابة ‏.‏ ويفوض إلى المرأة ما يفوض إلى ربة البيت ، من استئجار الغزالات ، وتوكيلها في شراء الكتان ، والاستيفاء عليهن ‏.‏ ووقت الاختيار قبل البلوغ في ظاهر المذهب ، لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏ ‏.‏ ولأن تأخيره يؤدي إلى الحجر على البالغ الرشيد حتى يختبره ، ولا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء ، فإذا تصرف بإذن وليه ، صح تصرفه ، لأنه متصرف بأمر الله تعالى ، فصح تصرفه كالرشيد ‏.‏ وفيه رواية أخرى لا يختبر إلا بعد البلوغ ، لأنه قبله ليس بأهل للتصرف لأنه لم يوجد البلوغ الذي هو مظنة العقل ، فكان عقله بمنزلة المعدوم ‏.‏ وفي تصرف الصبي المميزة بإذن وليه روايتان ‏.‏ بناء على هذا ‏.‏ فأما غير المأذون ، فلا يصح تصرفه إلا في الشيء اليسير ، لأن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن لم يؤنس من رشد ، لم يدفع إليه ماله ، ولم ينفك الحجر عنه ، وإن صار شيخاً ، للآية ‏.‏ ولأنه غير مصالح لماله ، فلم يدفع إليه ، كالمجنون ‏.‏ وإن فك الحجر عنه فعاود السفه ، أعيد عله الحجر ، لما روى عروة بن الزبير ‏:‏ أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعاً ، فأتى الزبير فقال ‏:‏ إني قد ابتعت بيعاً ، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي ، فقال الزبير ‏:‏ أنا شريكك في البيع ، فأتى علي عثمان فقال ‏:‏ إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه ، فقال الزبير ‏:‏ أنا شريكه ، فقال عثمان ‏:‏ كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ‏؟‏ وهذه قصة يشتهر مثلها ، ولم تنكر فتكون إجماعاً ‏.‏ ولأن السفه يقتضي الحجر لو قارن ، فيقتضيه إذا طرأ ، كالجنون ‏.‏ ولا يحجر عليه إلا الإمام ، أو نائبه ، لأن علياً سأل عثمان الحجر على ابن جعفر ، ولم يفعله بنفسه ‏.‏ ولأن معرفة التبذير تحتاج إلى نظر ، لأن الغبن قد يكون تبذيراً ، وقد يكون غير تبذير ، فيحتاج إلى نائب الإمام ، كالحجر للفلس ، ولأنه مختلف فيه ، أشبه الحجر للفلس ، ولا يلي عليه إلا الإمام ، أو نائبه ، لأنه حجر ثبت به ، فكان هو الولي ، كحجر المفلس ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب الإشهاد عليه والجهاد بالحجر ، لتجتنب معاملته ‏.‏ فمن عامله ببيع ، أو قرض ، لم يصح ، ولم يثبت به الملك ‏.‏ فإن وجد المعامل له مالاً ، أخذه ‏.‏ وإن أتلفه السفيه ، فهو من ضمان مالكه ، علم أو لم يعلم ، لأنه سلطه عليه برضاه ‏.‏ وإن غصب مالاً أو أتلفه ، أو ضمنه، لأن صاحبه لم يرض ذلك ، ولأن الحجر على الصبي والمجنون لا يسقط عنهما ضمان المتلف ، فهذا أولى ‏.‏ وإن أودع مالاً فتلف ، لم يضمنه ، سواء فرط في الحفظ أو لم يفرط ، لأنه تلف بتفريط صاحبه بتسليمه إليه ‏.‏ وإن أتلفه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يضمنه ، لأن صاحبه لم يرض إتلافه ، أشبه المغصوب ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يضمنه ، لأن صاحبه فرط في التسليم إليه ‏.‏ وإن أقر بمال ، لم يلزمه حال حجره ، لأنه حجر عليه لحظه ، فلم يقبل إقراره بالمال ، ، كالصبي والمجنون ‏.‏ ولأن قبول إقراره يبطل معنى الحجر ، لأنه يداين الناس ، ويقر لهم ‏.‏ قال أصحابنا ‏:‏ ويلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه ، كالمفلس ‏.‏ وفيه نظر ، لأن الحجر عليه لعدم رشده ، فهو كالصبي ‏.‏ ولأن ثبوت إقراره في ذمته لا يفيد الحجر معه إلا تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه إلا أن يريدوا أن يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى ‏:‏ فإن ما كان ثابتاً في ذمته لا يسقط بالحجر عليه ‏.‏ وإن أقر بحد أو قصاص ، لزمه ، لأنه محجور عليه في ماله لا في نفسه ‏.‏ فإن عفا ولي القصاص إلى ماله ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له ذلك ‏.‏ لأن من ثبت له القصاص ثبتت له الخبرة ‏.‏ كما لو ثبت ببينة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، لئلا يواطئ من يقر له بالقصاص ، ليعفو عن مال يأخذه ‏.‏ وإن أقر بنسب قبل ، لأنه ليس بمال ، وينفق على الغلام من بيت المال ، لأن إقرار السفيه بما يوجب المال غير مقبول ‏.‏ وإن طلق امرأته ، صح ، لأن الحجر يحفظ المال ، والطلاق يوفره ولا يضيعه ‏.‏ فإن خالع ، جاز ، لأنه إذا جاز الطلاق بغير مال فبالمال أولى ولا تدفع المرأة إليه المال ، فإن فعلت ، لم يصح القبض ، ولم تبرأ منه إلا بالدفع إلى وليه ‏.‏ وإن تلف ، كان من ضمانها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أذن له في النكاح ، صح منه ، لأن حاجته تدعو إلى ذلك ‏.‏ وليس بآلة للتبذير ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يصح من غير إذن الولي ، لما ذكرنا ‏.‏ وإن أذن له في البيع ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصح منه ، لأنه عقد معاوضة صح منه بالإذن ‏.‏ كالنكاح ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، المقصود منه المال وهو محجور عليه فيه ‏.‏ ولأن الحجر عليه لتبذيره ، فالإذن له إذن فيما لا مصلحة فيه ‏.‏ وإن حلف ، انعقدت يمينه ، لأنه مكلف ‏.‏ ويكفر بالصوم ، لأنه ممنوع من التصرف في المال فأشبه العبد ‏.‏ وإن أحرم بالحج ، صح ‏.‏ لأنه من أهل العبادات ، فإن كان فرضاً ، لزمه إتمامه ويجب الإنفاق عليه إلى أن يفرغ منه ، لأنه مال يحتاج إليه لأداء الفرض فوجب ‏.‏ وإن كان تطوعاً لا تزيد نفقته على نفقة الإقامة ، أو تزيد له كسب ، إذا أضافه إليه ، أمكنه الحج ، لزمه إتمامه ‏.‏ وإن لم يكن كذلك ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ على الولي تحليله ، لأن في إتمامه تضييعاً للمال فيما لا يلزمه ‏.‏

والثاني ‏:‏ ليس له تحليله بناء على إحرام العبد بغير إذن سيده ، ويتحلل بالصوم كالعبد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وجب له القصاص ، فله استيفاؤه ، لأن القصد التشفي ودرك الثأر ، وله العفو على مال ، لأنه تحصيل ‏.‏ فإن عفا إلى غير مال ، وقلنا ‏:‏ الواجب القصاص عيناً ، سقط إلى غير شيء ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ الواجب أحد شيئين ، وجبت الدية ، لأن ليس له إسقاط المال ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا ينفذ عتقه ، لأنه إتلاف لماله ‏.‏ وحكي عنه ‏:‏ أنه يصح ، لأنه مكلف مالك ، أشبه الراهن ‏.‏ ويصح تدبيره ووصيته ، لأنه محض مصلحة ، لتقربه به إلى الله تعالى عند غناه عن المال ‏.‏ وإن نذر عبادة بدنه انعقد نذره ، لأنه لا حجر عليه في بدنه ‏.‏ وإن نذر صدقة مال ، لم يصح ، ويكفر عن نذره بالصيام ‏.‏ وقياس قول أصحابنا ‏:‏ أنه يلزمه الوفاء به عند فك حجره كالإقرار‏.‏

فصل ‏:‏

وهل للمرأة الرشيدة التبرع في مالها بغير إذن زوجها ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لها ذلك لقوله تعالى ‏:‏‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن وقبوله لصدقتهن حين تصدقن ، ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده ، نفذ تصرف فيه بغير إذن غيره كالرجل ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا تهب شيئاً إلا بإذن زوجها ، ولا ينفذ عتقها ، لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ‏.‏ رواه أبو داود ، وكلام أحمد رضي الله عنه عام في القليل والكثير ‏.‏ وقال أصحابنا ‏:‏ لها التبرع في الثلث فما دون ، وما زاد فعلى روايتين ‏.‏

فصل ‏:‏

وهل لها الصدقة في ماله بالشيء اليسير بغير إذنه ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لها ذلك ، لأن عائشة قالت ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة لها أجرها ، وله مثله بما كسب ، ولها بما أنفقت ، وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم شيء وعن أسماء أنها قالت ‏:‏ يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير ، فهل علي جناح أن أرضخ مما أدخل علي ‏؟‏ قال ‏:‏ ارضخي ما استطعت ، ولا توعي ، فيوعي الله عليك متفق عليهما ‏.‏

ولأن العادة السماح بذلك ، فجرى مجرى صريح الإذن ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجوز لما روى أبو أمامة قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها ، قيل ‏:‏ يا رسول الله ولا الطعام ، قال ‏:‏ ذلك أفضل أموالنا رواه سعيد والترمذي ‏.‏ ولأنه تبرع بمال غيرها ، فلم يجز ، كالصدقة بثيابه والله تعالى أعلم ‏.‏


كتاب الصلح


وهو ضربان‏:‏

أحدهما ‏:‏ الصلح في الأموال وذلك نوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ الصلح على الإنكار ‏.‏ مثل أن يدعي على إنسان عيناً في يده ، أو ديناً في ذمته ، لمعاملة أو جناية ، أو إتلاف أو غصب ، أو تفريط في وديعة ، أو مضاربة ونحو ذلك ، فينكره ثم يصالحه بمال ، فإنه يصح إذا كان المنكر معتقداً بطلان الدعوى ، فيدفع المال افتداءً ليمينه ، ودفعاً للخصومة عن نفسه ‏.‏ والمدعي يعتقد صحتها ، فيأخذه عوضاً عن حقه الثابت له ، لأنه يصح مع الأجنبي ، فيصح بين الخصمين ، كالصلح في الإقرار ويكون بيعاً في حق المدعي ، لأنه يأخذ المال عوضاً عن حقه ‏.‏ فيلزمه حكم إقراره ، حتى لو كان العوض شقصاً ، وجب الشفعة ‏.‏ وإن وجد به عيباً ، فله رده ويكون إبراء في حق المنكر ، لاعتقاده أن ملكه للمدعى لم يتجدد بالصلح ، وأنه إنما دفع المال افتداء لنفسه لا عوضاً ، فلو كان المدعي شقصاً ، لم تجب فيه شفعة ‏.‏ ولو وجد به عيباً ، لم يملك رده ، كمن اشترى عبداً قد أقر بحريته ، فإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح باطل في الباطن ، وما يأخذه بالصلح حرام ، لأنه يأكل مال أخيه بباطله ويستخرجه منه بشره ، وهو في الظاهر صحيح ، لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق ، فإن صالح عن المنكر أجنبي ، صح ‏.‏ فإن كان بإذنه ، فهو وكيله وقائم مقامه ‏.‏ وإن كان بغير إذنه ، فهو افتداء له ، وإبراء لذمته من الدين أو الدعوى ، وذلك جائز بغير إذنه ، بدليل أن أبا قتادة قضى دين الميت ‏.‏ ولا إذن له ‏.‏ لكن إذا كان بغير إذنه لم يرجع عليه ، لأن الدين لم يثبت عليه ، ولأنه أدى عنه ما يلزمه أداؤه ، فكان متبرعاً ، وإن كان بإذنه ، رجع عليه ‏.‏ لأنه وكيله ‏.‏

وإن صالح الأجنبي عن نفسه ليصير الحق له من غير اعتراف للمدعي بصحة الدعوى ، لم يصح ، لأنه يشتري ملك غيره ‏.‏ وإن اعترف بصحة دعواه ، والمدعى دين ، لم يصح ، لأن بيع الدين لا يصح مع الإقرار ، فمع الإنكار أولى ‏.‏ وإن كان عيناً لا يقدر المصالح على تخليصها ، لم يصح ، لأن بيعها لا يصح مع الإقرار ، فمع الإنكار أولى ‏.‏ وإن كان يقدر على استنقاذها ، صح ، لأنه اشترى منه ماله الممكن تسلمه ، فصح كما قلنا في بيع المغصوب ‏.‏ ثم إن قدر على انتزاعها ، استقر الصلح ، وإن عجز ، فله الفسخ ، لأنه لم يسلم له المعقود عليه ، فرجع في بدله ‏.‏ فإن قال الأجنبي للمدعي ‏:‏ أنا وكيل المنكر في صلحك ، وهو معترف لك في الباطن ، جاحد في الظاهر فصالحه ، لم يصح ، لأن الصلح في هذه الحال لا يصح من المنكر، فكذلك من وكيله ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يصح ‏.‏ ومتى صدقه المنكر ، ملك العين ، ولزمه ما أدى عنه ‏.‏ وإن أنكر، حلف وبرئ ‏.‏ وإن دفع المدعي إلى المنكر مالاً ليقر له ففعل ، ثبت الحق ، وبطل الصلح ، لأنه يجب عليه الإقرار بالحق ‏.‏ فلم يحل له أخذ العوض عما وجب عليه ‏.‏ ولو صالح امرأة لتقر له بالزوجية ، أو بالرق ، لم يصح لذلك ، ولأنه يحرم عليها بذل نفسها لمن يطأها بعوض ‏.‏ وإن بذلت عوضاً للمدعي عن دعواه ، صح ، لأنها تدفع شره عن نفسها ، ويأخذ العوض عن حقه فيها ، كعوض الخلع ‏.‏ وقيل ‏:‏ لا يصح في الزوجية ، لأن الزوج لا يأخذ عوضاً عن الزوجية في غير الخلع ‏.‏ ولو صالح شاهداً ليترك الشهادة عليه ، أو سارقاً ، لئلا يرفعه إلى السلطان ، فالصلح باطل ، لأنه لا يحل أخذ العوض عن ترك الشهادة الواجبة ، وليس رفعه إلى السلطان حقاً يجوز الاعتياض عنه ‏.‏

فصل ‏:‏

النوع الثاني ‏:‏ الصلح مع الاعتراف ، وهو ثلاثة أقسام ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يعترف له بدين فيبرئه من بعضه ، ويستوفي باقيه ، فلا بأس بذلك ، لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه ، ولا من استيفائه ‏.‏ قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ولو شفع فيه شافع ، لم يأثم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر ، فوضعوا عنه الشطر ‏.‏ وكلم كعب ابن مالك ، فوضع عن غريمه الشطر ‏.‏ ويجوز للقاضي فعل ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ‏.‏ وإن أمكن الغريم الوفاء ، فامتنع حتى أبرئ من بعضه ، لم يجز ، لأنه هضم للحق ، وأكل مال بالباطل ‏.‏ ولو قال الغريم ‏:‏ أبرأتك من بعضه ، بشرط أن توفيني بقيته ، أو على أن يوفيني ، أو لتوفيني باقيه لم يصح لأنه جعل إبراءه عوضاً عما أعطاه ، فيكون معاوضاً لبعض حقه ببعض ، ولا يصح بلفظ الصلح ، لأن معنى صالحني على المائة بخمسين ، أي بعني ، وذلك غير جائز ، لما ذكرناه ، ولأنه ربا ‏.‏ ولو صالحه عن مائة مؤجلة بخمسين حالة ، لم يجز لذلك ، لأن بيع الحلول غير جائز ‏.‏ وإن صالحه عن الحالة بأقل منها مؤجلة ، لم يصح ، لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل ، وما يسقطه لا مقابل له ، إلا أن يسقطه اختياراً منه بغير عوض ولو اعترف له بداره ، فصالحه على أن يسكنه فيها مدة ، أو يبني عليها غرفة ، ونحو ذلك ، لم يصح لأنه لا عوض له ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثاني ‏:‏ أن يعترف له بعين في يده ، فيهب له بعضها ، ويستوفي باقيها ، فيصح ، لما ذكرناه في الإبراء إذا فعل هذا اختياراً من غير منع الغريم ، ووهب له بغير شرط ، كما ذكرنا في الإبراء ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثالث ‏:‏ أن يعترف له بعين ، أو دين ، فيصالحه على غيره ‏.‏ وذلك ثلاثة أضرب ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يعترف له بنقد ، فيصالحه على نقد ، فهذا صرف يعتبر له شروطه ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يعترف له بنقد ، فيصالحه ، على عرض ، أو بعرض فيصالحه على نقد ، أو عرض ، فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن يعترف له بنقد أو عرض ، فيصالحه على منفعة كسكنى دار ، أو خدمة ، فهذا إجارة تثبت فيه أحكامها ‏.‏ ولو تلفت العين التي صالح عليها ، بطل الصلح ‏.‏ فإن كان قد قضى بعض المدة ، بطل فيما بقي بقسطه ‏.‏ ولو اعترفت المرأة بدين فصالحته على أن تزوجه نفسها، صح ، وكان صداقاً لها ، ولو اعترفت له بعيب في مبيع ، فصالحته على نكاحها ، صح ‏.‏ فإن زال العيب ، رجعت بأرشه ، لأنه الصداق ولم يسم الخرقي الصلح في الإنكار صلحاً ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اعترف له بشيء ، لم يجز أن يصالح بأكثر منه من جنسه ، لأن الزائد لا مقابل له ‏.‏ ولو اعترف بقتل خطأ فصالحه بأكثر من الدية من جنسها ، لم يجز ‏.‏ وإن كان من غير جنسها ، جاز ، لأنه معاوضة ‏.‏ ولو أتلف شيئاً قيمته مائة ، فصالحه على مائة وعشرة ، لم يجز لذلك ‏.‏ وإن صالحه على عرض جاز ، وإن كثر ، لأنه بيع ‏.‏ ولو أجل العوض الواجب بالإتلاف ، لم يصر مؤجلاً بتأجيله ‏.‏

فصل ‏:‏

وصلح المكاتب والمأذون له ، من العبيد والصبيان من دين لهم ببعض ، لا يصح إلا إذا كان لهم به بينة ، أو أقر لهم به ، لأنه تبرع وليس لهم التبرع ‏.‏ فإن كان على الإنكار ، صح ، لأن استيفاءهم للبعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح الصلح عن المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته ، عيناً كان أو ديناً ‏.‏ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما إليه في مواريث درست‏:‏ استهما وتوخيا الحق ، وليحلل أحدكما صاحبه رواه أبو دواد وسواء كان الجهل من الجانبين كالحقوق الدارسة ، أو ممن عليه الحق ، الحاجة تدعو إليه ‏.‏ فأما ما يمكن معرفته ، فلا يجوز، قال أحمد ‏:‏ إن صالحوا امرأة من ثمنها ، لم يصح ‏.‏ ولو قال الوارث لبعضهم ‏:‏ نخرجك عن الميراث بألف ، أكره ذلك ، حتى يعرفه ‏.‏ ويعلم ما هو ‏؟‏ إنما يصالح الرجل عن الشيء لا يعرفه ، ولا يدري ما هو ‏؟‏ أو يكون رجلاً يعلم ماله على الآخر ، والآخر لا يعرفه فيصالحه ‏.‏ فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه ‏.‏ ولأن هذا لا حاجة إليه ، فلم يجز كبيع المجهول ‏.‏


باب الصلح فيما ليس بمال


يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد على الدية وينقص عنها ، لأن المال لم يتعين فإن خرج العوض حراً أو مستحقاً ، رجع بقيمته ‏.‏ ولو صالح عن دار فخرج العوض مستحقاً ، رجع في الدار ، لأنه بيع ، فإذا فسد عوضه تبينا فساده ، والصلح في الدم إسقاط ، فلم يعد بعد سقوطه ، ورجع ببدل العوض وهو القيمة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أراد أن يجري في أرض غيره ماء ، له غنى عن إجرائه فيها ، لم يجز إلا برضاه لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه ، فلم يجز ، كالزرع فيها ، فإن صالحه على ، موضع القناة ، جاز ، إذا بينا موضعها وطولها وعرضها لأنه بيع لموضع من أرضه ، ولا حاجة إلى بيان عمقها ، لأن قرارها لمشتريها يعمق ما شاء ، وإن شرط أن أرضهما لرب الأرض ، كان إجارة ، يفتقر إلى معرفة عمقها ، ومدتها كإجارتها للزرع ، إن كان رب الأرض مستأجراً لها، جاز أن يصالح على إجراء ماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تتجاوز مدة إجارته ، وليس له حفر ساقية ، لأنه إحداث شيء لم تتناوله الإجارة ، وكذلك إن كانت الأرض وقفاً عليه ‏.‏ وإن صالح رجلاً على أن يجري على سطحه ، أو أرضه ماء المطر ، جاز ، إذا كان السطح الذي يجري ماؤه معلوماً ، لأن الماء يختلف بصغره ، وكبره ، ومعرفة موضع الميزاب الذي يجري الماء إليه ، لأن ضرره يختلف ‏.‏ ولا يفتقر إلى ذكر المدة ، لأن الحاجة تدعو إلى هذا ، ولأن هذا لا يستوفي به منافع السطح ، بخلاف الساقية ‏.‏ ومن كانت له أرض ، لها ماء ، لا طريق له ، إلى في أرض جاره ، وفي إجرائه ضرر بجاره ، لم يجز إلا بإذنه ، لأنه لا يملك الإضرار به ، بالتصرف في ملكه ، بغير إذنه ، وإن لم يكن فيه ضرر ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يجوز ، لما تقدم ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز ، لما روي أن الضحاك بن الخليفة ، ساق خليجاً من العريض ، فأراد أن يمر به على محمد بن مسلمة فمنعه ، فقال له عمر ‏:‏ لم تمنع جارك ما ينفعه ولا يضرك، تشربه أولاً وآخراً ‏؟‏ فقال له محمد ‏:‏ لا والله ، فقال عمر ‏:‏ والله ليمرن به ولو على بطنك ، فأمره عمر رضي الله عنه أن يمر به ، ففعل ‏.‏ رواه سعيد بن منصور ‏.‏ ولأنه نفع لا ضرر فيه ، فأشبه الاستظلال بحائطه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز أن يشرع إلى الطريق النافذ جناحاً ، وهو الروشن ، على أطراف خشب مدفونة في الحائط ، ولا ساباطاً ، وهو المستولي على هواء الطريق على حائطين ، لأنه بناء في ملك غيره ، بغير إذنه ، فلم يجز ، كالبناء في أرض الطريق ، ولا ميزاباً ، ولا يبني فيها دكة لذلك ، ولأنه يضر بالمارة ، أشبه بناء بيت ، ولا يباح ذلك بإذن الإمام ، لأنه ليس له الإذن فيما يضر المسلمين ، وسواء أضر في الحال ، أو لم يضر ، لأن هذا يراد للدوام ، وقد يحدث الضرر فيه ‏.‏ وقال ابن عقيل ‏:‏ يجوز أن يأذن الإمام فيما لا ضرر فيه ، لأنه نائب عن المسلمين ، فجرى مجرى إذنه في الجلوس ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز أن يفعل هذا في ملك إنسان ، ولا درب غير نافذ ، إلا بإذن أهله ،لأنه حقهم ، فلم يجز التصرف فيه بذلك ، بغير إذنهم ، فإن صالحه المالك ، أو أهل الدرب بشيء معلوم ، جاز ، لأنه يجوز بإذنهم بغير عوض ، فجاز بعوض ، كما في القرار ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يصح الصلح عن الجناح والساباط لأنه بيع للهواء دون القرار ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره ، فطالبه بإزالتها ، لزمه ذلك ، لأن هواء ملكه ملكه ، فإن لم يزله ، فلمالك الأرض إزالتها ، بالقطع وغيره ، كما لو دخلت بهيمة جاره داره ، ملك إخراجها ، فإن صالحه على تركها بعوض ، جاز عند ابن حامد ، وابن عقيل ، لأن الجهالة هاهنا لا تمنع التسليم ، فلم تمنع الصحة ، كالصلح عن المواريث الدارسة ، ولأن هذا مما يحتاج إليه ، ويسامح فيه ، فجرى سمن المستأجر للركوب ، وهزاله ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ يصح في اليابس ، المعتمد على حائط ، ولا يصح في الرطب ، لأنه يزيد ، ويتغير ، ولا في غير المعتمد ، لأنه لا قرار له ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ لا يصح في الجميع ، لأن الرطب يزيد ويتغير ، واليابس ينقص ، ويذهب ‏.‏ وإن صالحه بجزء من ثمرتها معلوم ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ المنع ، للجهالة فيه وفي عوضه ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجوز ، لأن هذا يكثر في الأملاك المتجاورة ، وفي القطع إتلاف وإضرار ، فدعت الحاجة إلى الصلح بجزء من الثمرة ، لأنه أسهل ، ولو امتدت عروق شجرة ، حتى أثرت في بناء غيره ، أو بئره ، فعليه إزالته ‏، لأن قرار ملك الإنسان ملكه ، فهو كهوائه، ولو مال حائطه إلى جاره ، أو طريق ، لزمه إزالته ‏.‏

فصل ‏:‏

ليس للإنسان أن يفتح في حائط جاره طاقاً ، ولا يغرز فيه وتداً ، ولا مسماراً ، ولا يحدث عليه حائطاً ، ولا سترة بغير إذنه ، لأنه يصرف في ملك غيره ، بما يضر به ، فلم يجز ، كهدمه ‏.‏ وليس له وضع خشبة عليه ، إن كان يضر بالحائط ، أو يضعف عن حمله لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا ضرار ولا ضرار وإن كان لا يضر ، وبه غنى عنه ،لم يجز عند أكثر أصحابنا ، لأنه تصرف في ملك غيره ، بما يستغني عنه ، فلم يجز ، كفتح الطاق ، وغرز المسمار ، وأجازه ابن عقيل لخبر أبي هريرة ‏.‏ ولأن ما أبيح لا تعتبر له حقيقة الحاجة ، كانتزاع الشقص المشفوع ، والفسخ بالعيب ‏.‏ وإن احتاج إليه ، بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به جاز، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا يمنع أحدكم جاره ، أن يضع خشبة على جداره متفق عليه ‏.‏ ولأنه انتفاع ، لا ضرر فيه ، دعت الحاجة إليه ، فوجب بذله ، كفضل الماء لبهائم غيره ، وذكر القاضي ، وأبو الخطاب ‏:‏ أنه لا يجوز ، إلا لمن ليس له إلا حائط واحد، ولجاره ثلاثة ، وقد يتعذر التسقيف على الحائطين غير المتقابلين ، فالتفريق تحكم ، فأما وضع الخشب في حائط المسجد مع الشرطين ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز، لأن تجويزه في ملك الآدمي المبني حقه على الضيق ، تنبيه على جوازه في حق الله ، المبني على المسامحة والسهولة ‏.‏

والثانية ‏:‏ المنع ، اختارها أبو بكر ، لأن الأصل المنع ، خولف في الآدمي المعين ، فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل ، ويتخرج من هذه الرواية ، أن يمنع من وضعه في ملك الجار إلا بإذنه ، لما ذكرنا للرواية الأولى ، فإن صالحه المالك على وضع خشبه بعوض في الموضع الذي يجوز له وضعه ، لم يجز ، لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بذله ، وإن كان في غيره ، جاز ، سواء كانت إجارة في مدة معلومة ، أو على التأبيد ، بشرط كون الخشب معلوماً برؤية ، أو صفة ، والبناء معلوم ، والآلة معلومة ، ومتى زال الخشب ، لسقوط الحائط ، أو غيره فله إعادته ، لأنه استحق بقاءه ، بعوض ، ولو كان له رسم طرح خشب ، فصالحه المالك بعوض ، على أن لا يعيده عليه ، أو ليزيله عنه ، جاز ، لأنه لما جاز أن يصالح على وضعه ، جاز على نزعه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان له دار ، بابها في زقاق غير نافذ ، وظهرها إلى الشارع ، فله فتح باب إلى الشارع ، لأن له حقاً في الاستطراق فيه ، وإن كان بابها إلى الشارع لم يكن له فتح باب إلى الزقاق ، للاستطراق ، لأنه لا يجوز له أن يجعل لنفسه حق الاستطراق ، في مكان مملوك لأهله ، لاحق له فيه ، ويحتمل الجواز لما نذكره في الفصل الذي يليه ، وله أن يفتح مكاناً للضوء والنظر لا يصلح للاستطراق ، لأن له رفع جميع حائطه ، فرفع بعضه أولى ‏.‏ وإن فتحه باباً ، يصلح للاستطراق ، وقال ‏:‏ لا أجعله طريقاً ، بل أغلقه وأسمره ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له ذلك ، لما ذكرنا ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجوز ، لأن الباب دليل على الاستطراق فيجعل لنفسه حقاً ‏.‏ وإن كان له داران ، باب إحداهما ، أو بابهما في زقاقين ، غير نافذين ، بينهما حائط ، فأنفذ إحداهما إلى الأخرى ، جاز في أحد الوجهين ، لأن رفع الحائط من بينهما ، وجعلهما داراً واحدة ، فرفع بعضه أولى ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجوز ، لأنه يجعل الزقاقين ، ويجعل الاستطراق في كل واحد منهما من دار ، لاحق لها فيه ‏.‏ وكل موضع لا يجوز إذا صالح أهل الدرب بعوض ، أو أذنوا له بغير عوض ، جاز لأن المنع لحقهم ، فجاز لهم أخذ العوض عنه ، كسائر حقوقهم ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان بابه في زقاق ، غير نافذ ، فأراد تقديمه نحو أوله ، جاز ، لأنه يترك بعض حقه ، وإن قدمه نحو آخره ، لم يجز ، لأنه يجعل لنفسه الاستطراق في موضع ، لم يكن له ويحتمل الجواز، لأن له رفع حائطه كله ، فيملك رفع بعضه ، ولأن ما يلي حائطه فيئاً له ، فملك فتح الباب فيه، كحالة ابتداء البناء ، فإن له في ابتداء البناء جعل بابه حيث شاء ، فتركه له لا يسقط حقه منه ‏.‏ ولو تنازع صاحبا البابين في الدرب ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الأول لهما ، لأن يدهما عليه ، واستطراقهما فيه ، وسائر الدرب للآخر ، لأن اليد له لاستطراقة وحده ‏.‏

والثاني ‏:‏ هو بينهما ، لأن لهما جميعا يداً وتصرفاً ، فعلى الوجه الأول لصاحب الباب الصدراني جعل آخر الدرب دهليزاً يختص به عن سائر أهل الدرب ، لأنه ملكه خاصة ، وعلى الثاني لا يجوز ، لأنه مشترك بين الجميع ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا كان بينهما حائط مشترك ، فانهدم ، فدعا أحدهما صاحبه إلى عمارته ، فأبى ، أجبر ، لأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما ، فأجبر عليه كإطعام العبد المشترك ولأن في تركه ضرراً فأجبر عليه كالقسمة ، فإن لم يفعل ، باع الحاكم ماله ، وأنفق عليه ، فإن لم يكن له مال ، اقترض عليه وأنفق ، وإن أنفق الشريك بإذنه ، أو إذن الحاكم ، رجع عليه بالنفقة والحائط بينهما ، كما كان قبل انهدامه ، وعنه ‏:‏ لا يجبر ، لأنه إنفاق على ملك لا يجب لو انفد به ، فلم يجب مع الاشتراك ، كزرع الأرض ، وإن أراد شريكه بناءه ،لم يمنع ، لأنه يعيد رسماً في مشترك ، فلم يمنع كوضع الخشب الذي له رسم ،فإن بناه بآلته ، عاد بينهما كما كان برسومه وحقوقه ، لأنه عاد بعينه ، وليس للباني فيه إلا أثر تأليفه ، وإن بناه بآلة من عنده ، فهو للباني ليس لشريكه الانتفاع به ، وللباني نقضه إن شاء ، لأنه ملكه خاصة ‏.‏ ولو بذل له شريكه نصف قيمته ، لئلا ينقضه ، لم يجبر على قبولها ، لأنه لما لم يجبر على إنشائه ، لم يجبر على إبقائه ، وعلى الرواية الأولى يجبر على تركه ، لأنه يجبر على إنشائه ، فيجبر على إبقائه‏.‏ فإن كان للشريك على الحائط رسم انتفاع قلنا للباني ‏:‏ إما أن تأخذ منه نصف القيمة ، وتمكنه من إعادة رسمه ، وأما أن تأخذ بناءك ليبني معك ، لأن القرار مشترك بينهما ، فلم يجز أن يسقط حق شريكه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان السفل لأحدهما ، والعلو للآخر ، فانهدم السقف الذي بينهما ، فالحكم فيه كالحائط المشترك سواء ، لأنه ينفعهما فهو كالحائط بينهما ، وأيهما هدم الحائط أو السقف ، فعليه ‏إعادته إلا أن يخاف سقوطه ، ويجب هدمه ، فيصر كالمنهدم بنفسه ‏.‏ وإن انهدمت حيطان صاحب السفل ، لم يملك صاحب إجبار صاحب العلو على مباناته ، لأنه ملكه خاصة ، وعنه ‏:‏ يجبر لأنهما ينتفعان به ، فأشبه الحائط المشترك ‏.‏ وهل لصاحب العلو إجبار صاحب على بنائه ‏؟‏ على روايتين ‏.‏ وليس لصاحب السفل منع صاحب العلو من بنائه إن أراده ، فإن بناه بآلته ، فهو على ما كان لا يملك أحدهما نقضه ، و‏إن بناه بغير آلته ، قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ لا ينتفع به صاحب السفل حتى يؤدي القيمة ، فيحتمل أن ليس له السكنى ، لأن فائدة الحيطان أكثر للسكنى ، ويحتمل أن ليس له طرح الخشب ، ونصب الوتد ونحوه دون السكنى ، لأن ذلك هو الانتفاع بالحائط مباشرة ولبانيه نقضه لأن ملكه ، ولا يجبر على إبقائه بالقيمة ، لأنه لا يجبر على ابتدائه ‏.‏

فصل ‏:‏

فأن كان بينهما دولاب ، أو ناعورة يحتاج إلى عمارة ، فذلك كالحائط المنهدم سواء ‏.‏ وإن كان بينهما قناة أو عين ، ففي إجبار الممتنع من عمارتهما روايتان ‏.‏ فأن بناها أحدهما ، لم يملك منع صاحبه من نصيبه ، لأنه ليس له فيها إلا أثر الفعل ‏.‏

فصل ‏:‏

ليس للمالك التصرف في ملكه بما يضر جاره ، نحو أن يبنيه حماماً بين الدور ،أو مخبزاً بين العطارين ، أو يجعله دار قصارة تهز الحيطان ، أو يحفر بئراً تجتذب ماء بئر جاره ، لقول النبي ‏(‏ ص‏)‏ ‏:‏ لا ضرر ولا ضرار رواه ابن ماجة والدارقطني بنحوه ولأنه تصرف يضر بجيرانه ، فمنع منه ، كالدق الذي يهز الحيطان ‏.‏

وليس له سقي أرضه بما يهدم حيطانه ، وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره ،فعلى الأعلى بناء سترة بين ملكيهما ، ليدفع عنه ضرر نظره إذا صعد سطحه ‏.‏


باب الحوالة


وهو نقل الدين من ذمة المحيل إلى المحال عليه ‏.‏ وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعاً ، بدليل جوازها في الدين بالدين وجواز التفرق قبل القبض ، واختصاصها بالجنس الواحد واسم خاص ، فلا يدخلها خيار ، لأنها ليست بيعاً ولا في معناه، لكونها لم تبن على المغابنة ‏.‏ ولأصل فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ مطل الغني ظلمه ، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع متفق عليه ‏.‏ ولا تصح إلا بشروط أربعة ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يحيل على دين مستقر ، لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقاً ، ولا يثبت ذلك فيما هو بغرض السقوط ، ولا يعتبر استقرار المحال به ، لجواز أداء غير المستقر ‏.‏ فلا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه ، لأنه لا تجوز المعارضة عنه به، ولا عنه ‏.‏ ولو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها ، صح ، وإن أحالت المرأة به عليه ، لم يصح ، لأنه غير مستقر ‏.‏ وإن أحال المشتري البالغ بثمن المبيع في مدة الخيار ، صح ، وإن أحال البائع به عليه ، لم يصح لذلك ‏.‏ وإن أحال الكاتب سيده بنجم ،فدخل عليه ، صح ، وإن أحال سيده به عليه ، لم يصح لذلك ‏.‏ وإن أحيل على المكاتب بدين غير مال الكتابة، صح ، لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات ‏.‏ وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه ‏.‏ فهو توكيل في الاقتراض ، وإن أحال على من له عليه دين ، فهو كتوكيل في الاستيفاء ، وإن أحال من عليه دين على من لا عليه دين ، فهو ملتمس إيفاء دينه وليس شيء من ذلك حوالة ، إذ الحوالة تحول الحق وانتقاله ، ولا حق هاهنا يتحول ، وإنما جاز التوكيل بلفظ الحوالة لاشتراكهما في معنى ، وهو تحول المطالبة من الموكل إلى الوكيل ، كتحولها من المحيل إلى المحتال ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثاني ‏:‏ تماثل الحقين ‏، لأنها تحويل الحق ، فيعتبر تحويل على صفته ، ويعتبر التماثل في ثلاثة أشياء ‏.‏ الجنس ، فلو أحال من أحد النقدين بالآخر ، لم يصح ‏.‏ والصفة ‏.‏ فلو أحال عن المصرية بأميرية ، أو عن المكسرة بصحاح ، لم يصح ‏.‏ والحلول والتأجيل ، فإن كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً ، أو أجل أحدهما مخالفاً لأجل الآخر ، لم يصح ‏.‏ وإن صحت الحوالة ، فتراضيا على خير مما أحيل به ، أو دونه أو تعجيله ، تأخيره ، أو الاعتياض عنه ،جاز ، لأنه دين ثابت ، فجاز فيه ذلك كغير المحال به ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثالث ‏:‏ أن يكون بمال معلوم على مال معلوم ، لأنه فيهما التسليم والتماثل والجهالة تمنعها ‏.‏ ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه ، لأنه لا يثبت في الذمة ، وإنما تجب قيمته بالإتلاف ‏.‏ ويصح في كل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف ،من الأثمان والحبوب والأدهان ، وفيما يصح السلم فيه غير ذلك ، كالمذروع والمعدود وجهان ‏:‏ أحدهما ‏:‏ لا تصح الحوالة به، لأن المثل لا يتحرر فيه ، ولهذا لا يضمن بمثله ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، لأنه يثبت في الذمة ، ويحتمل أن يبنى الحكم فيه على القرض ،إن قلنا يقضى في هذا بمثله صحت الحوالة به ، لأنه يثبت في الذمة بغير السلم ، وإلا فلا، لأنه لا يثبت في الذمة إلا بالسلم ، ولا تصح الحوالة في السلم ‏.‏ وإن كان عليه إبل من قرض وله مثل ذلك على آخر ، صحت الحوالة بها ، لأنه إن ثبت في الذمة مثلها صحت الحوالة ، وإن ثبت قيمتها فالحوالة بها صحيحة ‏.‏ وإن كان له إبل من دية ، فأحال بها على من له عليه مثلها ، من دية أخرى ، صح ويلزمه إعطاؤه أدنى ما يتناوله الاسم وقال أبو الخطاب ‏:‏ فيه وجه آخر ، أ نه لا يصح ‏.‏ وإن كان عليه إبل من الدية ، وله ممثلها قرضاً ، فأحال بها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما‏:‏ يصح ، لأن الخيرة في التسليم إلى المحيل ، وقد رضي بتسليم ماله في ذمة المقترض ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، لأن الواجب القرض في إحدى الروايتين القيمة ، فقد اختلف الجنس ‏.‏ وإن أحال المقرض من له الدية بها ، لم يصح ، وجهاً واحداً ، لأننا ‏.‏ إن قلنا الواجب القيمة ، فالجنس مختلف ، إن قلنا يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، وقيمته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الرابع‏:‏ أن يحيل برضاه ، لأن الحق عليه ، فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها ،ولا يعتبر رضى المحال عليه ، لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله ، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه ، كما لو وكله في الاستيفاء منه ‏.‏ وأما المحتال ، فإن كان المحال عليه مليئاً، وهو الموسر غير المماطل ، لم يعتبر رضاه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله ،وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء ، فلم يكن للمحتال الامتناع ‏.‏ وإن لم يكن مليئاً ، لم يلزمه ‏.‏ أن يحتال للحديث ‏.‏ ولأن عليه ضرراً في قبولها ، فلم يلزمه ‏.‏ كما لو بذل له دون حقه في الصفة ، فإن رضي بها مع ذلك ، صحت ، كما لو رضي بدون حقه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين ‏.‏ لأنه قد تحول من ذمته ، فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه ، لموت أو فلس حادث ، أو مطل ، لم يرجع على المحيل ، كما لو أبرأه ‏.‏ وإن كان مفلساً حين الحوالة ، ولم يرض المحتال بالحوالة ، فحقه باق على المحيل ‏.‏ لأنه لا يلزمه الاحتيال على مفلس ‏.‏ وإن رضي مع العلم بحاله ، لم يرجع ‏.‏ لأن الذمة برئت من الحق ، فلم يعد إلى الشغل ، كما لو كان مليئاً ‏.‏ وإن رضي مع الجهل بحاله ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يرجع ، لذلك ‏.‏

والثانية ‏:‏ يرجع ، لأن الفلس عيب في المحال عليه ، فكان له الرجوع كما لو اشترى معيباً ثم علم عبيه ‏.‏ وإن شرط ملاءة المحال عليه ، فله شرطه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ المؤمنون على شروطهم رواه أبو داود والمسلمون ولأنه شرط شرطاً مقصوداً ، فإذا بان خلافه ، ملك الرد ‏.‏ كما لو شرطه في المبيع ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اشترى عبداً، فأحال البائع بثمنه ، أو أحال البائع عليه بثمنه ، فبان حراً أو مستحقاً، فالحوالة باطلة ، لأن البيع باطل، ولا دين على المشتري يحيل به ولا يحال به عليه ، فإن اتفق المحيل والمحال عليه على ذلك ، وكذبهما المحتال ، لم يسمع قولهما ، كما لو باعا عبداً ثم أقرا بحريته ، ولا تسمع لهما بينة ، لأنهما أكذباها بدخولهما في البيع ، وإن أقامها العبد ،سمعت وبطلت الحوالة ‏.‏ وإن صدقهما المحتال في حرية العبد ، وادعى أن الحوالة بدين أخر ، فالقول قوله مع يمينه ‏.‏ لأن الأصل صحة الحوالة ، فكان صدقه أظهر ، فإن أقاما بنية بذلك ، سمعت لأنهما لم يكذباها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترى عبداً وأحال البائع بثمنه ، ثم وجده معيباً فرده قبل قبض المحتال من المحال عليه ، بطلت الحوالة لأنها بالثمن ، وقد سقط بالفسخ ، ذكره القاضي ‏.‏ ويحتمل أن لا يبطل ، لأن المشترى نقل حقه إلى ما في ذمة المحال ‏.‏ عليه ، فلم يبطل بالفسخ ، كما لو أعطاه عن الثمن ثوباً ‏.‏ثم فسخ العقد ، لم يرجع في الثوب ‏.‏ وإن كان الرد بعد قبض المحتال ، لم تبطل ، لأنه ذمة المحال عليه برئت بالقبض منه ، ويرجع المشتري على البائع وإن اشترى عبداً فأحال البائع عليه أجنبياً بالثمن ، فرده المشتري بعيب ، لم تبطل الحوالة ، لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من البائع ، فصار كأنه قبض منه ، وتعلق به هاهنا حق غير المتعاقدين ، هو المحتال بخلاف التي قبلها ، ويرجع المشتري على البائع بالثمن ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أمر رجلاً بقبض دين له من غريمه ، ثم اختلفا ، فقال أحدهما ‏:‏ كانت وكالة بلفظها ، وقال الآخر ‏:‏ كانت حوالة بلفظها ، فالقول قول مدعي الوكالة ، لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان ، وينكر انتقاله ‏.‏ وإن اتفقا على أنه قال ‏:‏ أحلتك بألف ، وقال أحدهما ‏:‏ كنت حوالة حقيقية ، وقال الآخر ‏:‏ كانت وكالة بلفظ الحوالة ، ففيه ووجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ القول قول مدعي الوكالة لذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ القول قول مدعي الحوالة ، لأن الظاهر معه ، لموافقته الحقيقة ، ودعوى الآخر المجاز ، وإن قال ‏:‏ أحلتك بدينك ، فهي حوالة بكل حال ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قال المدين لغريمه ‏:‏ قد أحلت بدينك فلاناً فأنكر ، فالقول قوله مع يمينه ‏.‏ فإن أقام المدين بينة بذلك ، سمعت ليسقط عنه حق المحيل ‏.‏ فإن كانت بحالها ، فادعى أجنبي على المدين أن رب الدين أحاله به ، فأنكره فأقام الأجنبي بينة ، ثبت في حقه وحق الغائب ، لأن البينة يقضى بها على الغائب ، ولزم دفع الدين إليه ، فإن لم تكن له بينة ، فاعترف المدين له بصحة دعواه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلزمه الدفع إليه ، لاعترافه له بوجوب حقه عليه ، وانتقال دينه إليه ، فأشبه ما لو قامت به بينة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يلزمه الدفع إليه ، لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه ، فكان له الاحتياط في تخليص نفسه ، كما لو ادعى الوكالة ،فإن دفعه إليه ، ثم أنكر المحيل الحوالة ،وحلف ورجع على المحال عليه ، فأخذ منه ، لم يرجع المحال عليه على المحتال ، لأنه معترف له أنه استوفى حقه ، وإنما المحيل ظلمه ‏.‏ وإن أنكر المدين الحوالة ، انبنى على الوجهين ،إن قلنا ‏:‏ يلزمه الدفع مع الإقرار ، لزمته اليمين على الإنكار ، وتكون على العلم ، لأنها على نفي فعل الغير ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ لا يلزمه الدفع مع الإقرار ،لم تلزمه اليمين مع الإنكار ، لعدم فائدتها ‏.‏ وليس للمحتال الرجوع على المحيل ، لاعترافه ، ببراءة ذمته ، ويسأل المحيل ، فإن صدق المحتال ، ثبتت الحوالة ، لأن رضى المحال عليه غير معتبر ، وإن كذبه ، حلف له ، وسقطت الحوالة ‏.‏ وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه ، واستوفى منه ،ثم أنكر المحيل الحوالة ، فله أن يستوفي من المحال عليه ، لأنه معترف له بالألف ، مدع أن المحتال ظلمه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان عليه دين ، فادعى رجل أنه وكيل ربه في قبضه ، فصدقه ، لم يلزمه دفعه إليه لما ذكرنا في الحوالة ‏.‏ وإن أنكر ، لم تلزمه اليمين ، لأنه لا يلزمه الدفع مع الإقرار ، فلم تلزمه اليمين مع الإنكار ‏.‏ فإن دفعه إليه ، فأنكر رب الدين الوكالة ، حلف ورجع على الدافع ،ثم رجع الدافع على الوكيل ، إن لم يكن اعترف بصدقه ، لأنه لم يثبت أنه وكيل ، وإن كان اعترف له ، لم يرجع عليه ، لأنه اعترف بصحة دعواه ، وأن الموكل ظلمه ، فلم يرجع على غير ظلمه وإن كان المدفوع وديعة ، فوجده ربها ، أخذها ، وإن تلفت في يد الوكيل تلزمه مطالبة من شاء منهما ، فإن طالب الوكيل ، لم يرجع على أحد ، لأن التلف حصل في يده ، فاستقر الضمان عليه ‏.‏ وإن طالب المودع ، وكان قد اعترف بالوكالة ، لم يرجع على أحد لما ذكرناه في الدين ، وإن لم يكن اعترف للوكيل رجع عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان عند رجل دين أو وديعة ، فجاء رجل ، فادعى أنه وارث صاحبهما ، وقد مات ولا وارث له سواه ، فصدقه ، لزمه الدفع إليه ،لأنه لا يخشى تبعة ، وإن كذبه ، فعليه اليمين أنه لا يعلم ذلك ، لأنه لزمه الدفع مع الإقرار ، فلزمته اليمين مع الإنكار ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان لرجل ألف على اثنين ، كل واحد منهما ضامن لصاحبه ، فأحاله أحدهما بها ، برئا منها ، لأن الحوالة كالتقبيض ‏.‏ وإن أحال صاحب الألف به على أحدهما، صحت الحوالة ، لأنها مستقرة في ذمة كل واحد منهما ‏.‏ وإن أحال عليهما جميعاً ، ليستوفي من كل واحد منهما نصفها ، صحت ، لأن ذلك للمحيل ، فملك الحوالة به ، وإن أحل عليهما ليستوفي من أيهما شاء ، صحت أيضاً ، لأنه لا فضل في نوع ولا عدد ولا أجل ، وإنما هو زيادة استيثاق ، فأشبه حوالة المعسر على المليء ، ولهذا لو أحالاه على واحد ، صح ‏.‏