المجلد الثاني - كتاب الضمان

وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام دينه ، فإذا قال لرجل ‏:‏ أنا ضامن مالك على فلان ، أو أنا به كفيل أو قبيل أو حميل ، أو هو علي ، صار ضامناً له ، وثبت في ذمته مع بقائه في ذمة المدين ‏.‏ ولصاحب الدين مطالبة من شاء منهما ، لقول الله تعالى ‏{‏وأنا به زعيم‏}‏ ‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الزعيم غارم حديث حسن رواه أبو داود والترمذي ‏.‏ وروى سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أتي برجل ليصلي عليه فقال ‏:‏ هل عليه دين ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم ، ديناران ، قال‏:‏ هل ترك لهما وفاء فقالوا ‏:‏ لا فتأخر فقيل ‏:‏ لم لا تصلي عليه ‏؟‏ فقال ‏:‏ ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه فقام أبو قتادة ‏:‏ هما علي يا رسول الله ، فصلى عليه النبي ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ ولا يبرأ المضمون عنه بمجرد الضمان في الحياة ، رواية واحدة ‏.‏ وفي الميت روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يبرأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم على الميت حين ضمنه أبو قتادة ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يبرأ ‏.‏ وهي أصح لما روى جابر ، أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ ، سأل أبا قتادة عن الدينارين اللذين ضمنهما ، فقال ‏:‏ قد قضيتهما ، فقال ‏:‏ الآن بردت جلدته ‏.‏ رواه أحمد رضي الله عنه ولأنه وثيقة بدين ، فلم يسقطه كالرهن ، وكحال الحياة ‏.‏ ومتى برئ الغريم بأداء أو إبراء ، برئ الضامن لأنه تبع ، فزال بزوال أصله كالرهن ، وإن أبرأ الضامن ، لم بيرأ المضمون عنه ، لأن الوثيقة انحلت من غير استيفاء ، فلم يسقط الدين كالرهن ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح إلا من جائر التصرف ، فأما المحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه ، فلا يصح ضمانه لأنه تبرع بالتزام مال ، فلم يصح منهم، كنذر الصدقة ‏.‏ وخرج بعض أصحابنا ضمان الصبي بإذن وليه ، على الروايتين في صحة بيعه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يصح ضمان السفيه ، ويتبع به بعد فك حجره ، وهذا بعيد ، لأن الضمان مجرد ضرر وتضييع مال ، فلم يصح منهما كالعتق ‏.‏ ولا يصح ضمان العبد والمكاتب بغير إذن سيدهما ، لأنه التزام مال ، يصح منهما بغير إذن كالنكاح ‏‏.‏ ويصح بإذنه ، لأن المنع لحقه ، فزال بإذنه ، ويؤديه المكاتب مما في يده ، وهل يتعلق برقبة العبد أو بذمة سيده ‏؟‏ على وجهين ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره ، لحديث أبي قتادة ‏.‏ ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه ، للخبر ‏.‏ ولا معرفة الضامن لهما ، لأنه لا يعتبر رضاهما ، فأشبها الأجانب ‏.‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل أبا قتاده عن معرفتهما ‏.‏ ويحتمل أن تعتبر معرفتهما ، ليؤدي إلى أحدهما ، ويرجع على الآخر بما غرم عنه ، ويحتمل أن تعتبر معرفة المضمون له ، ليؤدي إليه ، ولا تعتبر معرفة المضمون عنه ، لعدم المعاملة بينه وبينه ، ولا يصح إلا برضى الضامن ، لأنه التزام مال ، فلم يصح من غير رضى الملتزم كالنذر ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح ضمان الدين اللازم ، لخبر أبي قتادة ، وضمان الجعل في الجعالة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏ ‏.‏ وضمان كل حق مالي لازم ، أو مآله إلى اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار وبعدها ، والأجرة والصداق قبل الدخول وبعده ، وأرش الجناية نقداً أو حيواناً ، لأنها حقوق مالية لازمة ، أو مآلها إلى اللزوم ، فصح ضمانها كالدين والجعل ، ويصح ضمان الأعيان المضمونة ، كالمغصوب والعواري ، لأنها مضمونة على من هي في يده ، فأشبهت الدين ، ويصح ضمان عهدة المبيع عن كل واحد منهما لصاحبه ، وهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن ظهر فيه عيب أو استحق أو وجد ذلك في البيع ، غرمه الضامن ، لأن ذلك لازم ، فإنه إنما يتعلق بالضامن حكم لعيب أو غصب ونحوهما ، وهذا كان موجوداً حال الضمان ، فصح ضمانه كالدين ‏.‏ وإن استحق الرجوع لأمر حادث ، كتلف المبيع قبل قبضه ، أو أخذه بشفعة ، فلا شيء على الضامن ‏.‏ وإن ضمن البائع أو غيره للمشتري قيمة ما يحدثه من بناء أو غراس ، أو ما يلزمه من أجرة إن خرج المبيع مستحقاً ، صح ‏.‏ ويرجع على الضامن بما لزمه من ذلك ، لأنه إلى أمر وجودي ، ويصح أن يضمن الضامن ضامن ثالث ، لأن دينه ثابت ، فصح كالأول ، ويصير الثاني فرعاً للضامن ، حكمه معه حكم الضامن مع الأصيل ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها ، لأنها غير مضمونة على من هي في يده ، فكذلك على ضامنه ، وإن ضمن لصاحبها ما يلزم بالتعدي ، فيها صح ، نص عليه أحمد رضي الله عنه ، ولأنها تصير مضمونه على المضمون عنه ، ولا يصح ضمان مال الكتابة ، وعنه ‏:‏ يصح ، لأنه يجوز أن يضمن عنه دين آخر ‏.‏ والمذهب الأول ، لأن مال الكتابة غير لازم ، ولا يفضي إلى اللزوم ، ولأنه يملك تعجيز نفسه ، ولأن الضمان لتوثيق الحق ، وما لا يلزم لا يمكن توثيقه ‏.‏ وفي ضمان مال السلم روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يصح ، لأنه دين لازم فأشبه القرض ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يصح ، لأنه يفضي إلى استيفائه من غير المسلم إليه ، فأشبه الحوالة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده ، لقوله تعالى ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏ ‏.‏ وحمل البعير يختلف ، فهو غير معلوم ، وقد ضمنه قبل وجوبه ، ولأنه التزم حق من غير معاوضة ، فأشبه النذر ، وإن قال ‏:‏ ألق متاعك في البحر ، وعلي ضمانه ، صح ، لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح ، فصح كقوله ‏:‏ اعتق عبدك وعلي ثمنه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح ضمان الحال مؤجلاً ، لأن الغريم يلزمه أداؤه في جميع الأزمنة ، فجاز للضامن التزام ذلك في بعضه ، كبعض الدين ‏.‏ وإن ضمن المؤجل حالاً لم يلزمه ، لأنه لا يلزم الأصيل ، فلا يلزم الضامن ، ويقع الضامن مؤجلاً على صفته في ذمة الضامن ، وإن ضمن الدين المؤجل ‏.‏ وقلنا ‏:‏ إن الدين يحل بالموت فمات أحداهما ، حل عليه الدين ، وبقي في ذمته الآخر إلى أجله ‏.‏ ولا يملك ورثة الضامن الرجوع على المضمون عنه قبل الأجل ، لأنه لم يحل ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قضى الضامن الدين بإذن المضمون عنه ، رجع عليه ، لأنه قضى دينه بإذنه ، فهو كوكيله ، وإن ضمن بإذنه ، رجع عليه ، لأنه تضمن الإذن في الأداء ، فأشبه ما لو أذن فيه صريحاً ، وإن ضمن بغير إذنه وقضى بغير إذنه معتقداً للرجوع ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يرجع أيضاً ، لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به ، فكان على من هو عليه ، كما لو قضاه الحاكم عند امتناعه ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يرجع ، لأنه تبرع فلم يرجع به ، كما لو بنى داره أو علف دابته بغير إذنه ، فإن اختلفا في الإذن ، فالقول قول من ينكره ، لأن الأصل عدمه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويرجع الضامن بأقل الأمرين مما قضى ، أو قدر الدين ، لأنه إن قضاه بأقل منه فإنما يرجع بما غرم ، وإن أدى أكثر منه ، فالزائد لا يجب أداؤه ، فقد تبرع به ‏.‏ وإن دفع عن الدين عرضاً ، رجع بأقل الأمرين عن قيمته ، أو قدر الدين ، وإن قضى المؤجل قبل أجله ، لم يرجع قبل الأجل ، لأنه تبرع بالتعجيل ، وإن أحال به الغريم ، رجع بأقل الأمرين مما أحال به أو دينه ، سواء قبض الغريم من المحال عليه أم لم يقبض ، لأن الحوالة كالتقبيض ‏.‏ وإن ضمن الضامن ضامن آخر ، فقضى الدين ، رجع على الضامن ثم رجع الضامن عن المضمون عنه ، وإن قضاه الضامن ، رجع على الأصيل وحده ، فإن كان الأول ، ضمن بلا إذن ، والثاني ضمن بإذن ، رجع الثاني على الأول ، ولم يرجع الأول على أحد في إحدى الروايتين ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ضمن بإذنه ، فطولب بالدين ، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه ، لأنه لزمه الأداء بأمره ‏.‏ ولا يملك المطالبة قبل ذلك ، لأنه لا يملك الرجوع قبل الغرامة ، فلا يملك المطالبة قبل أن يطالب‏.‏ وإن ضمن بغير إذنه ، لم يملك المطالبة به ، لأنه لا دين له ، ولا هو وكيل صاحب الدين ، ولا لزمه الأداء بإذن الغريم ، فأشبه الأجانب ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا دفع المضمون عنه قدر الدين إلى الضامن عوضاً عما يقضيه في الثاني ، لم يصح ، لأنه جعله عوضاً عما يجب عليه في الثاني فلم يصح ، كما لو دفع إليه شيئاً عن بيع لم يعقده ، ويكون ما قبضه مضموناً عليه ، لأنه قبضه على وجه البدل ، فأشبه المقبوض ببيع فاسد ‏.‏ وفيه وجه أنه يصح ، لأن الرجوع بسببين ، ضمان وغرم ، فإذا وجد أحدهما ، جاز تعجيل المال ، كتعجيل الزكاة ‏.‏ فإن قضى الدين ، استقر ملكه على قبض ‏.‏ وإن برئ قبل القضاء ، وجب رد ما أخذ ، كما يجب رد الثمن إذا لم يتم البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا ادعى الضامن القضاء ، فأنكره المضمون له ، فالقول قوله مع يمينه ، لأن الأصل معه ، وله مطالبة من شاء منهما ‏.‏ فإن استوفى من الضامن ، لم يرجع عن المضمون عنه إلا بأحد القضاءين ، لأنه يدعي أن المضمون عنه ظلمه بالأخذ الثاني ، فلا يرجع به على غيره ‏.‏ وفيما يرجع به وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ بالقضاء الأول ، لأنه قضاء صحيح ، والثاني ظلم ‏.‏

والوجه الثاني ‏:‏ يرجع بالقضاء الثاني ، لأنه الذي أبرأ الذمة ظاهراً ، فأما إن استوفى من المضمون عنه ، فهل للضامن الرجوع عليه ‏؟‏ فإن كذبه المضمون عنه في القضاء ، لم يرجع ، لأنه لم يثبت صدقه ، وكان قد فرط في القضاء ، لم يرجع بشيء ، لأنه أذن له في قضاء مبرئ لم يوجد ، وإن لم يفرط رجع ‏.‏ وسنذكر التفريط في الوكالة إن شاء الله ‏.‏ فإن اعترف المضمون له بالقضاء ، فأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكاره ، لأن الدين حق للمضمون له ، فإذا أقر أنه صار للضامن ‏.‏ ولأنه يثبت القضاء بالإقرار ، فملك الرجوع به ، كما لو ثبت ببينة ‏.‏ وفيه وجه آخر ‏:‏ أن القول قول الضامن عنه لأنه منكر ‏.‏


باب الكفالة


تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحاكم بحق يصح ضمانه ، لأنه حق لازم ، فصحت الكفالة به كالدين ، ولا تصح بمن عليه حد أو قصاص ، لأنه تراد للاستيثاق بالحق ، وهذا مما يدرأ بالشبهات ، ولا تصح بالمكاتب ، لأنه لا يلزمه الحضور ، فلا يلزم غيره إحضاره كالأجانب وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة ، كالغصوب والعواري ، لأنه يصح ضمانها ولا تصح في الأمانات إلا بشرط التعدي فيها كضمانها سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا صحت الكفالة ، فتعذر إحضار المكفول به ، لزمه ما عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الزعيم غارم ولأنها أحد نوعي الكفالة ، فوجب الغرم بها كالضمان ‏.‏ فإن غاب المكفول به ، أمهل كفيله قدر ما يمضي إليه فيعيده ، لأن ما لزم تسليمه لم يلزم إلا بمكان التسليم ، فإن مضى زمن الإمكان ، ولم يفعل ، لزمه ما عليه ، أو بذل العين التي كفل بها ، فإن مات ، أو تلفت العين بفعل الله تعالى ، سقطت الكفالة ، لأن الحضور سقط عن المكفول به ، فبرئ كفيله ، كما يبرأ الضامن ببراءة المضمون عنه ، ويحتمل أن لا يسقط ، ويطالب بما عليه ‏.‏ وإن سلم المكفول نفسه ، أو برئ من الحق بأداء ، أو إبراء ، برئ كفيله ، لأن الحق سقط عن الأصيل ، فبرئ الكفيل كالضمان ، وإن أبرأ الكفيل ، صح كما يصح إبراء الضامن ، ولا يبرأ المكفول به كالضمان ‏.‏ وإن قال رجل ‏:‏ أبرئ الكفيل ، وأنا كفيل بمن تكفل به ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصح لأنه نقل الضمان إلى نفسه ، فصح ، كما لو أحال الضامن المضمون له على آخر ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح لأنه شرط في الكفالة أن يبرئ الكفيل ، وهو شرط فاسد ، فمنع صحة العقد‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قال ‏:‏ أنا كفيل بفلان ، أو بنفسه ،أو بدنه ، أو وجهه ، صحت الكفالة ‏.‏ وإن كفل ببعض جسده ، فقال القاضي ‏:‏ لا يصح ، لأن ما لا يسري إذا خص به بعض الجسد ، لم يصح كالبيع ‏.‏ وقال غيره ‏:‏ إن كفل بعضو لا تبقى الحياة بدونه ، كالرأس والقلب والظهر، صحت ، لأنه لا يمكن تسليمه بدون تسليم البدن ، فأشبه الوجه ، وإن كفل بغيرها ، كاليد والرجل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يصح ، لأن تسليمه بدون البدن ممكن ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح لأنه لا يمكن تسليمه على صفته ، دون البدن ، فأشبه الوجه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا علق الكفالة والضمان على شرط ، أو وقتهما ، فقال ‏:‏أنا كفيل بفلان شهراً ، أو إن قدم الحاج ،أو زيد ، فأنا كفيل بفلان ، أو ضامن ما عليه ، فقال القاضي لا يصح ، لأنه إثبات حق لآدمي ، فلم يجز ذلك فيه ، كالبيع ‏.‏وقال أبو الخطاب والشريف أبو جعفر ‏:‏ يصح ، لأنه ضمان أو كفالة ، فصح تعليقه على شرط ، كضمان العهدة ، فعلى هذا لو قال ‏:‏ كفلت بفلان ، على أني إن جئت به ، وإلا فأنا كفيل بفلان ، أو ضامن ما عليه ، صح فيهما عندهما ، ولم يصح عند القاضي ، لأن الأول مؤقت ، والثاني معلق على شرط ‏.‏

فصل ‏:‏

وتصح الكفالة ببدن الكفيل ، كما يصح ضمان دين الضامن ، وتجوز حالة ومؤجلة كالضمان ، ولا تجوز إلى أجل مجهول ، لأنه حق لآدمي فلم يجز إلى أجل مجهول كالبيع ، وتجوز الكفالة مطلقة ومقيدة بالتسليم في مكان بعينه ، فإن أطلق ، ففي أي موضع أحضره سلمه إليه على وجه لا ضرر فيه برئ ‏.‏ إن كان عليه ضرر لم يبرأ بتسليمه ، وكذلك إذا سلمه قبل المحل ، قياساً على من سلم المسلم فيه قبل محله ، أو غير مكانه ‏.‏ وإن كفل واحد لاثنين ، فسلمه إلى أحدهما ، أو أبرأه أحدهما لم يبرأ من الآخر ، لأنه حق لاثنين فلم يبرأ بأداء حق أحدهما ، كالضمان ‏.‏ وإن كفل اثنان لرجل فأبرأ أحدهما ، لم يبرأ الآخر كما في الضمان ‏.‏ وإن سلمه أحدهما لم يبرأ الآخر ، لأنه برئ من غير استيفاء الحق ، فلم يبرأ صاحبه ، كما لو برئ بالإبراء ، ويحتمل أن يبرأ ، كما لو أدى أحد الضامنين الدين ‏.‏ وإن قال الكفيل أو الضامن ‏:‏ برئت مما كفلت به ، لم يكن إقراراً بقبض الحق ، لأنه قد يبرأ بغير ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا طولب الكفيل بإحضار المكفول به، لزمه أن يحضر معه ، لأنه وكيل في إحضاره ، فإن أراد إحضاره من غير طلب ، والكفالة بإذنه ، لزمه الحضور معه ، لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه ، فكان عليه تخليصه ، كما لو استعار عبده فرهنه ، وإن كفل بغير إذنه ، لم يلزمه الحضور معه ، لأنه لم يشغل ذمته ، ولا له قبله حق ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا كفل إنساناً أو ضمنه ، ثم قال ‏:‏ لم يكن عليه حق ، فالقول قول خصمه ، لأن ذلك لا يكون إلا بمن عليه حق ، فإقراره به إقرار بالحق ، وهل يلزم الخصم اليمين ‏؟‏ فيه وجهان ، مضى توجيههما فيمن أقر بتقبيض الرهن ، ثم أنكره ، وطلب يمين المرتهن ، والله أعلم ‏.‏


كتاب الوكالة


يصح التوكيل في الشراء لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه‏}‏ ‏.‏ ولما روى عروة بن الجعد قال ‏:‏ أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً أشتري له به لو شاة رواه البخاري أو أضحية ‏.‏ ولأن الحاجة داعية إليها ، فإنه لا يمكن كل أحد شراء ما يحتاج إليه ، فدعت الضرورة إليها ‏.‏ وتجوز في سائر عقود المعاملات ، قياساً على الشراء ، وفي تمليك المباحات ، كإحياء الموات والاصطياد لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه ، فجاز التوكيل فيه كالشراء ‏.‏ وتجوز في عقد النكاح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمر بن أمية الضمري ، فتزوج له أم حبيبة وتجوز في الطلاق والعتاق والرجعة ، لأنها في معنى النكاح ‏.‏ وتجوز في إثبات الأموال والحكومة فيها ، حاضراً كان الموكل أو غائباً ‏.‏ لما روي أن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنهم وقال ‏:‏ وما قضى عليه فعلي ، وما قضي له فلي ‏.‏ ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال ‏:‏ إن للخصومة قحماً ، يعني ‏:‏ مهالك وهذه قضايا في مظنة الشهرة ، ولم تنكر فكانت إجماعاً ، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، بأن يكون له حق ، أو عليه ، ولا يحسن الخصومة ، أو لا يحب حضورها ‏.‏ ويجوز التوكيل في الإقرار ، لأنه إثبات حق ، فأشبه البيع ‏.‏ ويجوز في إثبات القصاص ، وحد القذف ، واستيفائهما في حضرة الموكل وغيبته ، لأنه حق آدمي أشبه المال‏.‏ وقال بعض أصحابنا ‏:‏ لا يجوز استيفاؤهما في غيبته ، وقد أومأ إليه أحمد رضي الله عنه بأنه يجوز أن يعفو الموكل ، فيكون ذلك شبهة ‏.‏ ويجوز التوكيل في حقوق الله تعالى المالية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها ، وفي إثبات الحدود واستيفائها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها متفق عليه ‏.‏ ولا تجوز في العبادات البدنية ، لأن المقصود ، فعلها ببدنه ، فلا تحصل من فعل غيره إلا في الحج ، لما سبق في بابه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تجوز في الإيماء والنذور ، ولأنها تتعلق بعين الحالف ، فلا تدخلها النيابة ، ولا في الإيلاء واللعان والقسامة ، لأنها أيمان ، ولا في الشهادة لأن غيره لا يقوم مقامه في مشاهدته ، ولا في الاغتنام لأنه يتعلق بالحضور ، فإذا حضر النائب كان السهم له ، ولا في الالتقاط ، لأنه بأخذه يصير لملتقطه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح التوكيل في شيء مما لا يصح تصرفه فيه ، لأن من لا يملك التصرف بنفسه ، فبنائبه أولى ‏.‏ فلا يصح توكيل طفل ولا مجنون ولا سفيه لذلك ، ولا توكيل المرأة في النكاح ، ولا الفاسق في تزويج ابنته ، ولا المسلم لذمي في شراء خمر لذلك ‏.‏ فأما من يتصرف بالإذن، كالعبد والصبي والوكيل ، فإن أذن لهم في التوكيل ، جاز ، وإن نهو عنه ، لم يجز ، وإن أطلق لهم الإذن فلهم التوكيل فيما لا يتولون مثله بأنفسهم ، أو يعجزون عنه لكثرته ، لأن تفويضه إليهم مع العلم بهذا ، إذن في التوكيل ‏.‏ وفيما سوى ذلك روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يجوز لهم التوكيل ، لأنهم يتصرفون بالإذن ، فاختص بما أذن فيه ، ولم يؤذن في التوكيل ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز ، لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم فملكوه بنائبهم كالمال الرشيد ‏.‏ فإن قال لوكيله ‏:‏ اصنع ما شئت ، ملك التوكيل ، لأنه مما يشاء ‏.‏ وولي اليتيم كالوكيل فيما ذكرناه ، ويملك الولي في النكاح التوكيل فيه من غير إذن المرأة ، لأن ولايته من غير جهتها ، فلم يعتبر إذنها في توكيله كالأب ‏.‏ وخرج القاضي ولايته الإجبار على الروايتين في الوكيل ، والفرق بينهما ظاهر ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي ملك التصرف لنفسه ، جاز له أن يتوكل فيه ، ومن لا فلا فيجوز توكيل الفاسق في قبول النكاح ، ولا يجوز في الإيجاب ، لأنه يجوز أن يقبل النكاح لنفسه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يجوز فيهما ، لأن من لا يجوز أن يكون وكيلاً في إيجابه لا يكون لا يكون وكيلاً في قبوله كالمرأة ‏.‏ ويجوز توكيل المرأة في الطلاق ، لأنه يجوز توكيلها في طلاق نفسها ، فجاز من غيرها ولا يجوز للعبد وللمكاتب التوكيل إلا بإذن سيدهما ، ولا الصبي إلا بإذن وليه ، وإن كان مأذوناً له في التجارة ، لأن التوكيل ليس من التجارة ، فلا يحصل الإذن فيه إلا بالإذن فيهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وتصح الوكالة بكل لفظ دل على الإذن ، وبكل قول أو فعل دل على القبول ، مثل أن يأذن له في بيع شيء فيبيعه ‏.‏ ويجوز القبول على الفور والتراخي ، نحو أن يبلغه أن فلاناً وكله منذ عام ، فيقول ‏:‏ قبلت ، لأنه إذن في التصرف ، فجاز ذلك فيه ، كالإذن في الطعام ‏.‏ ويجوز تعليقها على شرط ، نحو أن يقول ‏:‏ إذا قدم الحاج ، فأنت وكيلي في كذا ، أو فبع ثوبي ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تصح إلا في تصرف معلوم ، فإن وكله في كل قليل وكثير ، لم يصح ، لأنه يدخل فيه كل شيء ، فيعظم الغرر ، وإن كان وكله في بيع ماله كله ، أو ما شاء منه ، أو قبض ديونه كلها ، أو الإبراء منها أو ما شاء منها صح لأنه يعرف ماله ودينه ، فيعرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقبل الغرر ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اشتر لي ما شئت ، أو عبداً بما شئت ، فقال أبو الخطاب لا يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن ، لأن ما يمكن شراؤه يكثر فيكثر الغرر ‏:‏ وإن قدر له أكثر الثمن وأقله ، صح ، لأنه يقل الغرر ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إذا ذكر النوع ، لم يحتج إلى تقدير الثمن ، لأنه إذن في أعلاه ‏.‏ وقد روي عن أحمد فيمن قال ‏:‏ ما اشتريت من شيء فهو بيننا ، إن هذا جائز ، وأعجبه ‏.‏ وهذا توكيل في شراء كل شيء ولأنه إذن في التصرف ، فجاز من غير تعيين ، كالإذن في التجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن الموكل نطقاً أو عرفاً ، لأن تصرفه بالإذن ، فاختص ما تناوله الإذن ، فإن وكله في الخصومة ، لم يملك الإقرار ولا الإبراء ولا الصلح ‏.‏ لأنه إذن لا يقتضي شيئاً من ذلك ‏.‏ وإن وكله في تثبيت حق ، لم يملك قبضه ، لأنه لم يتناوله النطق ولا العرف ، فإنه قد يرضى للتثبت من لا يأمنه على القبض ‏.‏وإن وكل في القبض ، فهل يملك تثبيته ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يملكه ، لأنه طريق القبض ، فكان التوكيل في القبض توكيلاً فيه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يملكه ، لما ذكرنا في التي قبلها ‏.‏ وإن وكله في المبيع ، لم يملك الإبراء من ثمنه ، ويملك تسليم المبيع ، لأن العرف يتناوله ، ولأنه من تمام العقد وحقوقه ، ولا يتهم فيه ، ولا يملك قبض الثمن ، لأن اللفظ لا يتناوله ، وقد يرضى للبيع من لا يرضاه للقبض ، إلا أن تقتضيه الحال ، بأن يكون بحيث لو ترك ضاع ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن وكله في البيع في وقت ، لم يملكه قبله ، ولا بعده ، لأنه قد يختص غرضه به في زمن لحاجته فيه ‏.‏ وإن وكله في بيعه لرجل ، ولم يملك بيعه لغيره ، لأنه قد يقصد نفعه ، أو نفع المبيع بإيصاله إليه ‏.‏ وإن وكله في بيعه في مكان ، الثمن فيه أكثر وأجود ، لم يملكه في غيره ، لأنه قد يفوت غرضه ‏.‏ وإن تساوت الأمكنة ، أو قدر له ثمن ، ملك ذلك ، لأن الغرض فيهما واحد ، فالإذن في أحدهما إذن في الآخر ‏.‏ وإن وكله في بيع فاسد ، لم يملكه ، لأنه منهي عنه ، ولا يملك الصحيح ، لأنه لم يأذن له فيه ‏.‏ وإن قدر له الثمن في البيع لم يملك البيع بأقل منه ، لأنه لا يأذن له فيه نطقاً ولا عرفاً ، ويملك البيع بأكثر منه ، وسواء كانت الزيادة من جنس الثمن أو غيره ، لأنه مأذون فيه عرفاً ، لأنها تنفعه ولا تضره ‏.‏ وإن باع بعضه بدون ثمن جميعه ، لم يجز ، وإن باعه بجميعه ، صح ، لما ذكرناه ‏.‏ وله بيع باقيه لأنه إذن فيه ، ويحتمل أن لا يملكه ، لأنه حصل غرضه ببيع بعضه ، فلا يبقى الإذن فيه باقيه ‏.‏ وإن وكله في شراء شيء ، ولم يملك شراء بعضه ، لأن اللفظ لا يقتضيه ‏.‏ وإن قال له ‏:‏ بعه بمائة درهم ، فباعه بعرض يساوي أكثر منها ، لم يجز لأنه لم يأذن فيه نطقاً ولا عرفاً ‏.‏ وإن باعه بمائة دينار ، أو بتسعين درهماً وعشرة دنانير ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا ينفذ ، لأنه خالفه في الجنس ، كالتي قبلها ‏.‏

والثاني ‏:‏ ينفذ ، لأنه مأذون فيه عرفاً ، لأنه يرضى الدينار مكان الدرهم عرفاً ‏.‏ وإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم ، ملك ذلك صفقة واحدة وصفقات ، لأن العرف جار بكلا الأمرين ‏.‏ وإن أمره بصفقة واحدة ، لم يملك التفريق ‏.‏ فإن اشتراهم صفقة واحدة من رجلين ، جاز ، لأن الصفقة من جهته واحدة‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وكله في البيع وأطلق ، لم يملك البيع بأقل من ثمن المثل ، لأن إذنه تقيد بذلك عرفاً ، لكون غير ذلك تضييعاً لماله ، وهو لا يرضاه ‏.‏ ولو حضر من يطلبه بأكثر من ثمن المثل ، يم يجز بيعه بثمن المثل ، لأنه تضييع لمال أمكن تحصليه ، وإن باع بثمن المثل ، فحضر من يزيد في مدة الخيار ، لم يلزمه الفسخ ، لأنها زيادة منهي عنها ، ولا يأمن رجوع صاحبها عنها ، فإن باع بأقل من ثمن المثل أو بأقل مما قدر له ، فعنه‏:‏ البيع باطل ، لأنه غير مأذون فيه ، وعنه ‏:‏ يصح ، ويضمن الوكيل النقص ، لأنه فوته ، ويصح البيع لأن الضرر يزول بالتضمين ، ولا عبرة بما يتغابن الناس به ، كدرهم في عشرة ، لأنه لا يمكن التحرز منه ، وهل يلزم الوكيل جميع النقص أم بين ما يتغابن الناس به ، وما لا يتغابنون به ‏؟‏ على وجهين ‏.‏ وكل موضع قلنا لا يملك البيع والشراء ، فحكمه فيه حكم الأجنبي ، وقد ذكرناه ، لأن هذا غير مأذون فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وكله في الشراء فأطلق ، لم يجز أن يشتري بأكثر من ثمن المثل ، لما ذكرنا ‏.‏ وإن اشترى بأقل من ثمن المثل ، أو أقل ما قدر له ، صح ، لأنه مأذون فيه عرفاً ‏.‏ فإن قال ‏:‏ لا تشتره بأقل من مائة ، لم يملك مخالفته ، لأن نصه مقدم على دلالة العرف ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اشتره بمائة ، ولا تشتره بخمسين ، فله شراؤه بما فوق الخمسين ، لأنه باق على دلالة العرف ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اشتر لي عبداً وصفه بمائة ، فاشتراه بدونها جاز ، وإن خالف الصفة ، لم يلزم الموكل ‏.‏ وإن لم يصفه ، فاشترى عبداً يساوي مائة بأقل منها ، جاز ، وإن لم يساو المائة ، لم يلزم الموكل ، وإن ساوى ما اشتراه به ، لأنه خالف غرضه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اشتر لي شاة بدينار ، فاشترى شاتين تساوي إحداهما ديناراً ، صح ‏.‏ لحديث عروة ، ولأنه ممتثل للأمر بإحداهما ، والثانية زيادة نفع ، وإن لم تساو ديناراً ، لم يصح ‏.‏ فإن باع الوكيل شاة ، وبقيت التي تساوي ديناراً ، فظاهر كلام أحمد صحته ، لحديث عروة ‏.‏ ولأنه وفى بغرضه فأشبه إذا زاد على ثمن المثل ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وكله في الشراء نسيئة ، فاشترى نقداً ، لم يلزم الموكل ، لأنه لم يأذن له فيه ‏.‏ وإن وكله في الشراء بنقد ، فاشترى بنسيئة أكثر من ثمن النقد ، لم يجز لذلك ، وإن كان بمثل ثمن النقد ، وكان فيه ضرر ، مثل أن يستضر بحفظ ثمنه ، فكذلك ‏.‏ وإن لم يستضر به ، لزمه ، لأنه زاده خيراً ‏.‏ وإن أذن له في البيع بنقد لم يملك بيعه نسيئة ، وإن أذن له في البيع نسيئة ، فباع بنقد ، فهي كمسألة الشراء سواء ‏.‏ وإن عين له نقداً ، لم يبع إلا به ‏.‏ وإن أطلق ، لم يبع إلا بنقد البلد ، لأن الإطلاق ينصرف إليه ‏.‏ فإن كان فيه نقدان ، باع بأغلبهما ، وإن قدر له أجلاً ، لم تجز الزيادة عليه ، لأنه لم يرض بها ‏.‏ وإن أطلق الأجل ، جاز ، وحمل على العرف في مثله ، لأن مطلق الوكالة يحمل على المتعارف ، ولا يملك الوكيل في البيع والشراء شرط الخيار للعاقد معه ، لأنه لا حظ للموكل فيه ، وله شرط الخيار لنفسه ولموكله ، ولأنه احتياط له ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا قال ‏:‏ اشتر لي عيناً من الثمن ، فاشترى له في ذمته ، لم يقع للموكل ، لأنه لم يرض بالتزام شيء في ذمته ، فلم يجز إلزامه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اشتر لي في ذمتك ، ثم انقد هذا فيه ، فاشتراه بعينه ، صح للموكل ، لأنه أمره بعقد يلزمه به دينار مع بقاء الدينار وتلفه ، فعقد له عقداً لا يلزمه مع تلفه ، فزاده خيراً ، ويحتمل ألا يصح ، لأنه أراد عقداً لا يبطل باستحقاقه ، ولا تلفه ففوت ذلك ‏.‏ وإن أطلق ، فله الأمران ، لأن العرف جار بهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وكله في شراء موصوف ، لم يجز أن يشتري معيباً لأن إطلاق البيع يقضي السلامة ، ولذلك يرد بالعيب ، فإن اشترى معيباً يعلم عيبه ، لم يقع للموكل لأنه مخالف له ، وإن لم يعلم بالعيب ، فالبيع صحيح ، كما لو اشترى لنفسه ، فإن علم الموكل فرضي به ، فليس للوكيل رده ، لأن الرد لحقه ، فسقط برضاه ، وللوكيل الرد قبل علمه ، لأنها ظلامة حصلت بعقده ، فملك دفعها ، كالمشتري لنفسه، ولا يلزمه التأخير ، لأنه حق تعجل له ، وله أن يرض به ، ويسقط خياره ‏.‏ وإن حضر الموكل ، فرضي به ، استقر العقد ‏.‏ وإن اختار الرد ، فله ذلك ، لأن الشراء له ، ولم يرض بالعيب ، فإن أنكر البائع كون الشراء للموكل ، فالقول قوله ، ويرد المبيع على الوكيل في أحد الوجهين ، لأنه اتباع المعيب ، ومنعه الرد لرضاه بعينه ‏.‏ والثاني ‏:‏ ليس له الرد عليه ، لأنه غير البائع ، وللمشتري أرش العيب ، لأنه فات الرد به من غير رضاه ‏.‏ فإن تعذر ذلك من البائع ، لزم الوكيل ، لأنه ألزمه المبيع ‏.‏ وإن قال البائع ‏:‏ موكلك قد علم بالعيب فرضي به ، فالقول قول الوكيل مع يمينه ، لأنه لا يعلم ذلك ، لأن الأصل عدمه ، فإن قال ‏:‏ أخر الرد حتى يعلم موكلك ، لم يلزمه التأخير ‏.‏ فإن أخر ، وقلنا ‏:‏ الرد على الفور لم يسقط خياره ، ذكره القاضي ، لأنه لم يرض به ، ويحتمل أن يسقط لتركه الرد مع إمكانه ، فإن رده ، فقال الموكل ‏:‏ قد كنت رضيته معيباً ‏:‏ فصدقه البائع ، انبنى على عزل الوكيل قبل علمه ، لأن هذا كذلك ، وإن أنكره البائع ، فالقول قوله ، أنه لا يعلم ذلك ‏.‏ وإن وكله في شراء شيء عينه ، فاشتراه فوجده معيباً ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يملك الرد ، لأنه معيب لم يرض به العاقد ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يملكه بغير رضى الموكل ، لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ يملكه فحكمه حكم غير المعين ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا وكله في قبض حقه من زيد ، فمات زيد ، لم يملك القبض من وارثه ، لأنه لم يتناوله إذنه نطقاً لأنهم غيره ، ولا عرفاً ، لأنه قد يرضى بقاء حقه عندهم دونه ، وإن قال ‏:‏ اقبض حقي الذي قبل زيد ، فله القبض من وارثه ، لأن لفظه يتناول قبض الحق من غير تعرض للمقبوض منه ‏.‏ وإن وكل وكيلين في تصرف ، لم يكن لأحدهما الانفراد به ، لأنه لم يرض بأحدهما ‏.‏ وإن وكله في قضاء دين بالإشهاد ، لأنه لا يحصل الاحتياط إلا به ، فإن قضاه بغير بينة ، فأنكر الغريم ، ضمن لتفريطه ‏.‏ وإن شهد ببينه عادلة ، فماتت أو غابت ، لم يضمن ، لأنه لا تفريط منه ‏.‏ وإن قضاه بحضرة الموكل من غير إشهاده ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يضمن ، لأنه ترك التحفظ ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يضمن ، لأنه إذا كان المؤدى عنه حاضراً ، فهو التارك للتحفظ ، وإن قضاه ببينة مختلف فيها ، فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يضمن ، لأنه ترك التحفظ ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يضمن ، لأنها بينة شرعية ، أشبهت المجمع عليها ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اشترى لموكله ، ثبت الملك للموكل ، لأنه قبل العقد لغيره ، فوجب أن ينقل الملك إلى ذلك الغير ، كما لو تزوج لغيره ‏.‏ ويثبت الثمن في ذمته أصلاً ، وفي ذمة الوكيل تبعاً ‏.‏ وللبائع مطالبة من شاء منهما ، كالضمان في أحد الوجهين ، وفي الآخر لا يثبت إلا في ذمة الموكل ، وليس له مطالبة غيره ‏.‏ فإن دفع الثمن فوجد به البائع عيباً ، فرده على الوكيل ، فتلف في يده ، فلا شيء عليه ، لأنه أمين ، وللبائع المطالبة بالثمن ، لأنه دين له ، فأشبه سائر ديونه ، وللوكيل المطالبة به لأنه نائب للمالك فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

والوكالة عقد جائز في الطرفين ، لكل واحد منهما فسخها ، لأنه إذن في التصرف ، فملك كل واحد منهما إبطاله ، كالإذن في أكل طعامه ‏.‏ وإن أذن لوكيله في توكيل آخر ، فهما وكيلان للموكل ، لا ينعزل أحدهم بعزل الآخر ، ولا يملك الأول عزل الثاني ، لأنه ليس بوكيله ‏.‏ وإن أذنه في توكيله عن نفسه ، فالثاني وكيل الوكيل ينعزل ببطلان وكالة الأول وعزله له ، لأنه فرعه ‏.‏ فثبت فيه ذلك ، كالوكيل مع موكله ‏.‏ وللموكل عزله وحده ، لأنه متصرف له فملك عزله كالأول ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا خرج الموكل عن أهلية التصرف ، لموت أو جنون أو حجر أو فسق في ولاية النكاح ، بطلت الوكالة ، لأنه فرعه ، فيزول بزوال أصله ‏.‏ فإن وجد ذلك أو عزل الوكيل ، فهل ينعزل قبل علمه ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ ينعزل ، لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه ، فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا ينعزل ، لأنه أمر فلا يسقط قبل علمه بالنهي ، كأمر الشارع ‏.‏ وإن أزال الموكل ملكه عن ما وكله فيه ، بإعتاق أو بيع أو طلاق التي وكله في طلاقها ، بطلت الوكالة ، لأنه أبطل محليته ‏.‏ وإن وطئ الزوجة ، أو دبر العبد أو كاتبه ، بطلت الوكالة ، لأن ذلك يدل على رجوعه ، إذ لا يجتمع مقصود هذه التصرفات مع البيع ، والوطء يدل على رغبته في زوجته ، وإن وكله في الشراء بدينار فتلف ، بطلت الوكالة ، فإن تلف بتفريطه فغرمه هو أو غيره ، لم يملك الشراء ببدله ، لأن الوكالة بطلت بتلفه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تبطل بالنوم والسكر والإغماء ، لأنه تثبت الولاية عليه ، ولا بالردة لأنها لا تمنع ابتداء وكالته ، فلا تمنع استدامتها ، ولا بالتعدي فيما وكل فيه ، كلبس الثوب ، وركوب الدابة ، لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفاً ‏.‏ فإذا بطلت الأمانة ، بقي التصرف كالرهن المتضمن وثيقة وأمانة ، وإن وكله في بيع عبد ، ثم باعه المالك بيعاً فاسداً ، لم تبطل الوكالة ، لأن ملكه فيه لم يزل ، ولا يؤول إلى الزوال وإن وكل زوجته ثم طلقها ، لم تنعزل ، لأن الطلاق لا ينافي الوكالة ، ولا يمنع ابتداءها ‏.‏ وإن وكل عبد ثم أعتقه ، أو باعه ، فكذلك ‏.‏ ويحتمل أن ينعزل ، لأن أمره لعبده استخدام ، وليس بتوكيل في الحقيقة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز التوكيل بجعل ، لأنه تصرف لغير لا يلزمه ، فجاز أخذ العوض عنه ، كرد الآبق ‏.‏ وإذا وكله في البيع بجعل فباع ، استحق الجعل قبل قبض الثمن ، لأن البيع يتحقق قبل قبضه ‏.‏ فإذا قال في التوكيل ‏:‏ فإذا سلمت إلي الثمن ، فلك كذا ، وقف استحقاقه على التسليم إليه ، لاشتراطه إياه ‏.‏ وإن قال‏:‏ بع هذا بعشرة ، فما زاد فهو لك ، صح وله الزيادة ، لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأساً ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس للوكيل في بيع شيء بيعه لنفسه ، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه ، لأن العرف في العقد أن يعقد مع غيره ، فحمل التوكيل عليه ، ولأنه تلحقه تهمة ويتنافى الغرضان ، فلم يجز لكما لو نهاه ‏.‏ وعنه ‏:‏ يجوز ، لأنه امتثل أمره ، وحصل غرضه ، فصح كما لو باع أجنبياً ‏.‏ وإنما يصح بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء ، ويتولى النداء غيره لتنتفي التهمة ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ ويحتمل أن لا يشترط ذلك ، وكذلك الحكم في بيعه لوكيله ، أو طفل يلي عليه أو ولده أو والده ، أو مكاتبه أو تزويجه لابنته إذا وكله أن يتزوج له ، لأنه يتهم في حقه ،ويترك الاستقصاء عليهم ‏.‏ وإن أذن له الموكل في هذا ، جاز لانتفاء التهمة مع صريح الإذن ‏.‏ وإن وكله رجل في بيع عبده ، ووكله آخر في شرائه ، فله أن يتولى طرفي العقد ، كما يجوز للأب ذلك في حق ولده الصغير ‏.‏

فصل ‏:‏

فإذا وكله عبداً في شراء عبد من سيده ، جاز لأنه يجوز أن يشتري من غير سيده ، فجاز منه كالأجنبي ‏.‏ وإن وكله في شراء نفسه ، جاز لأنه يجوز أن يشتري غيره ، فجاز أن يشتري نفسه ، كالأجنبي ، فإن قال السيد ‏:‏ ما اشتريت نفسك إلا لنفسك ، عتق لإقرار سيده بحريته ، والقول قول السيد في الثمن ، لأن الظاهر ممن باشر العقد أنه له ، ولو وكله سيده في إعتاق نفسه ، أو وكل غريمه في إبراء نفسه ، صح ، لأنه وكيله في إسقاط حق نفسه ، فجاز كتوكيل الزوجة في طلاقها ، وإن كان غريمه في إبراء غرمائه ، لم يملك إبراء نفسه ، كما لو وكله في حبسهم لم يملك حبس نفسه ، وإن وكله في تفرقة صدقة ، لم يملك صرفها على نفسه ، لأنه مأمور بإعطاء غيره ، قال أصحابنا ‏:‏ لا يملك إعطاء ولده ووالده ، لأنهم كنفسه ، ويحتمل جواز ذلك ، لأنه لفظ يعمهم ، ولا قرينة تخرجهم ‏.‏

فصل ‏:‏

والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف تحت يده بغير تفريط ، بجعل وبغير جعل ، لأنه نائب المالك ، أشبه المودع ، والقول قوله فيما يدعيه من تلف ، وعدم تفريط وخيانة لذلك ، القول قوله في الرد ، إن كان متطوعاً ، لأن قبض المال لنفع مالكه ، فهو كالمودع ، وإن كان بجعل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقبل قوله ، لأنه أمين أشبه المودع ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يقبل ، لأنه قبضه لنفع نفسه ، أشبه المستعير ‏.‏

وإن قال ‏:‏ بعت وقبضت الثمن ، فتلف في يدي ، ففيه وجهان ‏.‏ ذكرناهما في الرهن ‏.‏ وإن اختلفا في أصل الوكالة ، فالقول قول من ينكرها ، لأن الأصل عدمها ، وإن اختلفا في دفع المال إلى الوكيل ، فالقول قوله لذلك ، فإن أنكره ، ثم اعترف به ، ثم ادعى تلفه أو دره ، لم يقبل ، لأن خيانته ثبتت بجحده ، وكذلك الحكم في المودع ، وإن أقام بدعواه ببينة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تقبل ، لأنها شهدت بما لو قر به لثبت ، فقبلت ‏:‏ كما لو لم ينكر ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تقبل ، لأنه مكذب بها بجحده ، فإن كان جحوده ‏:‏ إنك لا تستحق علي شيئاً ، لتلفه أو رده ‏.‏ وإن اختلفا في صفة الوكالة ، فقال ‏:‏ وكلتني في بيع هذا ، فقال ‏:‏ بل في بيع هذا ، أو قال ‏:‏ وكلتني في بيعه بعشرين ، قال ‏:‏ بل بثلاثين ، أو قال وكلتني في بيعه نسيئة ، قال ‏:‏ بل نقداً ، فالقول قول الموكل ، لأنه منكر للعقد الذي يدعيه الوكيل ، فأشبه ما لو أنكر أصل الوكالة ، ولأنهما اختلفا في صفة قول الموكل ، فكان القول قوله ، كما لو اختلف الزوجان في صفة الطلاق ، ونص أحمد رضي الله عنه في صفة المضارب على أن القول قوله ، والوكيل في معناه ، لأنه أمين في التصرف ، فكان القول قوله في صفته ، كما لو اختلفا في بيع الثوب المأذون في بيعه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اشتريت هذا لك بعشرة قال ‏:‏ بل بخمسة فالحكم فيه كذلك ، وإن قال ‏:‏ اشتريت لك هذه الجارية لك بإذنك بعشرة فأنكر الإذن في شرائها ، فالقول قول الموكل ، فيحلف ويبطل البيع إن كان بعين المال ، ويرد الجارية على البائع إن صدق الوكيل في أنه وكيل ، وإن أنكر الشراء لغيره ، فالقول قوله ، وعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله ، وتبقى الجارية في يده ، ولا تحل له ، لأنها ليست ملكاً له ، فإذا أراد استحلالها ، اشترى ممن هي له في الباطن ، فإن أبى بيعها استحل للحاكم أن يرفق به ، لبيعه إياها ، ولا يجبر ، لأنه عقد مراضاة ، فإن أبى فقد حصلت في يده لغيره ، وله في ذمة صاحبها ثمنها ، فأقرب الوجوه فيها أنه يأذن للحاكم في بيعها ، ويوفيه حقه من ثمنها ، لأن الحاكم باعها في وفاء دينه ، فإن قال صاحبها ‏:‏ إن كانت لي ، فقد بعتكها بعشرين ، فقال القاضي ‏:‏ لا يصح ، لأنه بيع معلق على شرط ‏.‏ ويحتمل أن يصح ، لأن هذا شرط واقع يعلمانه ، فلا يضر جعله شرطاً ، كما لو قال ‏:‏ إن كانت جارية فقد بعتكها ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ تزوجت لك فلانة بإذنك فصدقته المرأة ، وأنكره ، فالقول قول المنكر ، لأن الأصل معه ولا يستحلف ، لأن الوكيل يدعي حقاً لغيره ، وإن ادعته المرأة ، استحلف ، لأنها تدعي صداقها عليه فإن حلف ، برئ من الصداق ، ولم يلزم الوكيل في أحد الوجهين ، لأن حقوق العقد تتعلق بالموكل ، فإن كان الوكيل ضمنه لها ، فلها مطالبته به ، وليس لها نكاح غيره ، لاعترافها أنها زوجته ، فتؤخذ بإقرارها ، ولا يكلف الطلاق ، لأنه لم يثبت في حقه نكاح ، ويحتمل أن يكلفه ، لإزالة احتمال ، لأنه يحتمل صحة ، دعواها ، فينزل منزلة النكاح الفاسد ‏.‏ ولو مات أحدهما ، لم يرثه الآخر ، لأنه لم يثبت صداقها فترث ، وهو ينكر أنها زوجته فلا يرثها ‏.‏


باب الشركة


يجوز عقد الشركة في الجملة ، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله تعالى ‏:‏ انا ثالث الشركين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خان أحدهما صاحبه ، خرجت من بينهما رواه أبو داود ‏.‏

وتكره شركة الذمي إلا أن يكون المسلم يتولى البيع والشراء ، لما روى الخلال بإسناده عن عطاء قال ‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي والنصراني إلا أن يكون البيع والشراء بيد المسلم ، ولأنه لا يأمن معاملتهم بالربا ، والعقود الفاسدة ‏.‏

فصل ‏:‏

والشركة على أربعة أضراب ‏:‏

أحدها ‏:‏ شركة العنان ، وهو أن يشترك اثنان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما ، والربح بينهما ، فإذا صحت ، فما تلف من المالين فهو من ضمانهما ، وإن خسرا ، كانت الخسارة بينهما على قدر المالين ، لأنهما صارا كمال واحد في ربحه ، فكذلك في خسرانه ، والربح بينهما على ما شرطاه ، لأن العمل يستحق به الربح ، وقد يتفاضلان فيه ، لقوة أحدهما وحذقه ، فجاز أن يجعل له حظ من الربح كالمضارب ‏.‏

فصل ‏:‏

وتصح الشركة على الدراهم والدنانير ، لأنهما أثمان البياعات ، وقيم الأموال ‏.‏ ولا تصح بالعروض في إحدى الروايتين ، لأن قيمة أحدهما ربما تزيد قبل بيعه ، فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه ‏.‏ والثانية ‏:‏ تصح الشركة بها ويجعل رأس المال قيمتها وقت العقد ، لأن مقصودها نفوذ تصرفهما في المال المشترك ، وكون ربحه بينهما ، وهذا ممكن في العروض ‏.‏ والحكم في النقرة والمغشوش والمفلس ، كالحكم في العروض ، لأن قيمتها تزيد وتنقص ، فأشبهت العروض ‏.‏ ولا تجوز الشركة بمجهول ولا جزاف ، لأنه لا يمكن الرجوع به عند المفاضلة ، ولا بدين ولا غائب ، لأنه مما لا يجوز والتصرف فيه ، وهو مقصود الشركة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز في المختلفين ، فيكون لأحدهما دنانير وللآخر دراهم ، ولأحدهما صحاح ، وللآخر مكسرة ، أو لأحدهما مائة ، والآخر مائتان ، لأنهما أثمان ، فصحت الشركة بهما كالمتفقين ، ويرجع كل واحد منهما عند المفاضلة بمثل ماله ، نص عليه ، لأنها أثمان ، فيجب الرجوع بمثلها كالمتفقين ‏.‏ وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المالين ، لأنه يقصد بها كون الربح بالمالين ، فلم يشترط خلط المال كالمضاربة ‏.‏

فصل ‏:‏

ومبناها على الوكالة والأمانة ، لأن كل واحد منهما بتفويض المال إلى صاحبه أمنه ، وبإذنه له في التصرف وكله ، ولكل واحد منهما العمل في المالين بحكم الملك في حصته ، والوكالة في حصة شريكه ‏.‏ وحكمها في جوازها وانفساخها حكم الوكالة ، لتضمنها للوكالة ، فإن عزل أحدهما صاحبه قبل أن ينض المال ، فذكر القاضي ‏:‏ أن ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنه لا ينعزل حتى ينض ، كالمضارب إذا عزله رب المال ‏.‏ وقال أبو الخطاب ينعزل ، لأنها وكالة ‏.‏ فإذا عزله فطلب أحدهما البيع ، والآخر القسمة ، أجيب طالب القسمة لأنه يستدرك ما يحصل من الربح بالقسمة ، فلم يجبر على البيع بخلاف المضارب ، وهذا إنما يصح إذا كان الربح على قدر المالين ، فإن زاد ربح أحدهما عن ماله ، لم يستدرك ربحه بالقسمة ، فيتعين البيع كالمضاربة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن مات أحدهما ، فلوارثه إتمام الشركة ، فيأذن للشريك ، ويأذن له الشريك في التصرف ، لأن هذا إتمام للشركة ، وليس بابتداء لها ، فلا تعتبر شروطها ، وكذلك إن مات رب المال في المضاربة ، فلوارثه إتمامها في ظاهر كلامه ، ويحتمل أن لا يجوز إتمامها إلا أن يكون المال ناضاً ، لأن العقد قد بطل بالموت ، وهذا ابتداء عقد ، فلا يجوز بالعروض ‏.‏ وإن مات عامل الضاربة ، لم يجز إتمامها إلا على الوجه الذي يجوز ابتداءها ، لأنه لم يخلف أصلاً يبنى عليه ‏.‏ ولو كان مال الشركة والمضاربة موصى به ، والموصى له كالوارث في هذا ، فإن كانت الوصية لغير معين ، كالفقراء ، فليس للموصي الإذن في التصرف ، لأنه قد وجب دفعه إليهم ‏.‏

فصل ‏:‏

ولكل واحد من الشريكين أن يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة ، ويقبض المبيع والثمن ، ويقبضهما ويطالب بالدين ، ويخاصم فيه ، ويرد بالعيب العقد الذي وليه هو أو صاحبه ، ويحيل ويحتال ويستأجر ، ويفعل كل ما هو من مصلحة التجارة بمطلق الشركة ، لأن هذا عادة التجار ، وقد أذن له في التجارة ‏.‏ وهل لأحدهما أن يبيع نساء أو يبضع أو يودع أو يسافر بالمال ‏؟‏ يخرج على روايتين ‏:‏

إحداهما ‏:‏ له ذلك ، لأنه عادة التجار ، ولأن المقصود الربح ، وهو في هذه أكثر ‏.‏

والأخرى ‏:‏ لا يجوز ، لأن فيه تغريراً بالمال ‏.‏ وهل له التوكيل ‏؟‏ يخرج على الروايتين في الوكيل ، لأنه وكيل ‏.‏ وإذا وكل أحدهما ، فللآخر عزله ، لأنه وكيله ‏.‏ وهل له أن يرهن ويرتهن ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له ذلك ، لأن الرهن يراد للإيفاء والارتهان يراد للاستيفاء ، وهو يملكهما ، فيملك ما يراد لهما ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجوز ، لأن فيه خطراً ، وفي الإقالة وجهان ‏.‏ أصحهما ‏:‏ أنه يملكها ، لأنه إن كانت بيعاً فقد أذن فيه ، وإن كانت فسخاً ، ففسخ البيع المضر من مصلحته التجارة فملكه ، كالرد بالعيب ‏.‏ والآخر لا يملكها ، لأنها فسخ فلا تدخل في الإذن في التجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس له أن يكاتب رقيقه ، ولا يزوجه ، ولا يعتقه بمال ، ولا يقرض ولا يحابي ، لأن ذلك ليس بتجارة، وليس له المشاركة بمال الشركة ، ولا المضاربة به ، ولا خلطه بماله ، ولا مال غيره ، لأنه يثبت بالمال حقوقاً ، وليس هو من التجارة المأذون فيها ،ولا يأخذ به سفتجة ولا يعطيها، لأن فيه خطراً ‏.‏ ولا يستدين على مال الشركة ، ولا يشتري ما ليس عنده ثمنه ، لأنه يؤدي إلى الزيادة في مال الشركة ،ولم يؤذن فيه ، فإن فعل ، فعليه ثمن ما اشتراه ويختص بملكه وربحه وضمانه ، وكذلك ما استدانه أو اقترضه ‏.‏ ويجوز أن يشتري نساء ما عنده ثمنه ، لأنه لا يفضي إلى الزيادة فيها ، وإن أقر على مال الشركة ، قبل في حقه دون صاحبه ، سواء أقر بعين أو دين ، لأن الإقرار ليس من التجارة ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يقبل إقراره على مال الشركة ، ويقبل إقراره بعيب في عين باعها ، كما يقبل إقرار الوكيل على موكله به ، نص عليه ، لأنه تولى بيعها ، فقبل إقراره بالعيب ،كمالها ‏.‏ فإن رد عليه المعيب فقبله ، أو دفع أرشه ، أو أخر ثمنه ، أو حط بعضه لأجل العيب ، جاز ، لأن العيب يجوز الرد، وقد يكون ما يفعله من هذا أحظ من الرد، فأما إن حط بعض الثمن ابتداء ، أو أسقط ديناً عن غريمهما ، أو أخره عليه ، لزم في حقه دون صاحبه ، لأنه تبرع فجاز في حقه دون شريكه كالصدقة ‏.‏ فإن قال له ‏:‏ اعمل برأيك فله عمل ما يقع في التجارة من الرهن والارتهان والبيع نساء ، والإبضاع بالمال ، والمضاربة به والشركة ، وخلطه بماله ، والسفر به وإيداعه ، وأخذ السفتجة ودفعها ونحوه ، لأنه فوض إليه الرأي في التصرف في التجارة ، وقد يرى المصلحة في هذا ‏.‏ وليس له التبرع والحطيطة والقرض وكتابة الرقيق ، وعتقه وتزويجه ، لأنه ليس بتجارة ، وإنما فوض إليه العمل برأيه في التجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

الضرب الثاني ‏:‏ شركة الأبدان ، وهو أن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما ، كالصانعين يشتركان على أن يعملا في صناعتهما أو فيما يكتسبان من مباح كالحشيش والحطب والمعادن ، والتلصص على دار الحرب ، فما رزق الله هو بينهما ، فهو جائز ، لما روى عبد الله بن مسعود قال ‏:‏ اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر ، قال ‏:‏ فلم أجئ أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين ‏.‏ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ، واحتج به أحمد ‏.‏ ومبناها على الوكالة ، لأن كل واحد منها وكيل صاحبه ، وما يتقبله كل واحد من الأعمال ، فهو من ضمانهما ، يطالب به كل واحد منهما ، ويلزمه عمله ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ ويحتمل أن لا يلزم كل واحد منهما ما لزم صاحبه ، كالوكيلين ‏.‏ ويصح مع اتفاق الصنائع واختلافها ، لأنهما اتفقا في مكسب واحد ، كما لو اتفقت الصنائع ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ لا تصح مع اختلافها ، لأن الشركة تقتضي أن ما يتقبله أحدهما يلزمه صاحبه ، ولا يمكن أن يلزمه عمل صناعة لا يحسنها ‏.‏

فصل ‏:‏

والربح بينهما ، على ما شرطاه من مساواة أو تفاضل ، لأنهما يستحقان بالعمل ، والعمل يتفاضل ، فجاز أن يكون الربح متفاضلاً ‏.‏ وما لزم أحدهما من ضمان لتعديه وتفريطه ، فهو عليه خاصة ، لأن ذلك لا يدخل في الشركة ‏.‏ ولكل واحد منهما طلب الأجرة ، وللمستأجر دفعها إلى أيهما شاء ‏.‏ وإن تلفت في يد أحدهما بغير تفريط ، فلا ضمان عليه ، لأنه وكيل ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن عمل أحدهما دون صاحبه ، فالكسب بينهما ، لحديث ابن مسعود حين جاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران ‏.‏ وإن ترك أحدهما العمل لعجز أو غيره ،فللآخر مطالبته بالعمل ، أو بإقامة من يعمل عنه أو يفسخ ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا كان لرجلين دابتان ، فاشتركا على أن يحملا عليهما ، فما رزق الله تعالى من الأجرة ، فهو بينهما صح‏.‏ ثم إن تقبلا حمل شيء في ذمتهما فحملاه عليهما ، صح ، والأجرة على ما شرطاه ، لأن تقبلهما الحمل أثبته في ذمتهما وضمانهما ، والشركة تنعقد على الضمان كشركة الوجوه ، وإن أجراهما على حمل شيء ، اختص كل واحد منها بأجرة دابته ، ولا شركة ، لأنه لم يجب الحمل في ذمته ، وإنما استحق المكتري منفعة هذه البهيمة التي استأجرها ، ولهذا تنفسخ الإجارة بموتها ‏.‏ ولا يصح أن يكون كل واحد منهما وكيل صاحبه في إجارة دابة نفسه ، ولهذا لو قال ‏:‏ أجر دابتك وأجرها بيتي وبيتك ، لم يصح ‏.‏ فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل ، فله أجرة مثله ، لأنها منافع وفاها بشبه عقد ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن دفع دابة إلى رجل يعمل عليها ، أو عبده ليكتسب ، ويكون ما يحصل بينهما نصفين ، أو أثلاثاً ،صح ،نص عليه ‏.‏ لأنها عين تنمى بالعمل عليها ، فجاز العقد عليها ببعض نمائها ، كالشجر في المساقاة ‏.‏ ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي الفرس على نصف الغنيمة ‏:‏ أرجو أن لا يكون به بأس ، ووجهه ما ذكرناه ‏.‏ وإن دفع ثياباً إلى خياط ليخيطها ويبيعها ، وله جزء من ربحها ، أو غزلاً لينسجه ثوباً بثلث ثمنه ، أو ربعه ، جاز ،وإن جعل معه دراهم ، لم يجز ‏.‏ وعنه ‏:‏ الجواز ، والأول المذهب ‏.‏ لأنه لا يجوز أن يشترط في المساقاة دراهم معلومة ، وإنما أجاز أحمد ذلك تشبيهاً بالمساقاة ، قال ‏:‏ نراه جائزاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر‏.‏

فصل ‏:‏

وإن دفع رجل بغله ، وآخر راوية إلى رجل ، ليستقي ما رزقهم الله بينهم ، فقياس المذهب صحته ، لأن كل واحدة منها عين تنمى بالعمل عليها ، فصح دفعها بجزء من النماء كالتي قبلها ، وقال القاضي ‏:‏ لا يصح ،لأن المشاركة بالعروض لا تصح ‏.‏ والأجرة للعامل ، لأنه ملك الماء باغترافه في الإناء ، ولصاحبيه أجرة المثل ، لأنه استوفى منافع ملكهما بشبه عقد ‏.‏ ولو اشترك صانعان على أن يعملا بأداة أحدهما في بيت الآخر ، والكسب بينهما، صح ، لأن الأجرة على عملهما ، وبه يستحق الربح ، ولا يستحق بالآلة والبيت شيء ، إنما يستعملانها في العمل ، فصارا كالدابتين في الشركة ‏.‏ ولو اشترك صاحب بغل وراوية على أن يؤجراهما ، والأجرة بينهما ، لم يصح ، لأن حاصله أن كل واحد منهما يؤجر ملكه ، ويعطي الآخر من أجرته ، وليس بصحيح ، والأجرة كلها لمالك الدابة ، لأنه صاحب الأصل ، والآخر أجرة مثله ‏.‏

فصل ‏:‏

الضرب الثالث ‏:‏ شركة الوجوه وهو ‏:‏ أن يشترك رجلان فيما يشتريان بجاههما ، وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال ، على أن ما اشترياه فهو بينهما على ما اتفقا عليه من مساواة ، أو تفاضل ‏.‏ ويبيعان فما رزق الله تعالى من الربح ، فهو بينهما على ما اتفقا عليه ، فهو جائز، سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه ، أو قال ‏:‏ ما اشتريت من شيء فهو بيننا ، نص عليه ‏.‏ والربح بينهما على ما اشترطاه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى ‏.‏ ولنا أنهما شريكان في المال فجاز تفاضلهما في الربح ، مع تساويهما في الملك ‏.‏ كشركي العنان ، والوضيعة على قدر ملكيهما في المشترى ، لأنه رأس مال ‏.‏ ومبناها على الوكالة ، لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه فيما يشتريه ويبعه ‏.‏ وحكمهما في جواز ما يجوز لكل واحد منهما ، أو يمنع منه حكم شركة العنان ‏.‏

فصل ‏:‏

الضرب الرابع ‏:‏ شركة المفاوضة ، وهو أن يشتركا في كل شيء يملكانه ، وما يلزم كل واحد منهما من ضمان غصب ، أو جناية أو تفريط ، وفي ما يجدان من ركاز أو لقطة ، فلا يصح ، لأنه يكثر فيها الغرر ، ولأنها لا تصح بين المسلم والكافر ، فلا تصح بين المسلمين ، كسائر العقود المنهي عنها ، ولأنه يدخل فيها أكساب غير معتادة ، وحصول ذلك وهم لا يتعلق به حكم ‏.‏
باب المضاربة


وهو أن يدفع إنسان ماله إلى آخر يتجر فيه ، والربح بينهما ‏.‏ وهي جائزة بالإجماع ، يروى إباحتها عن عمر وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام رضي الله عنهم في قصص مشتهرة ، ولا مخالف لهم فيكون إجماعاً ‏.‏ وتسمى مضاربة وقراضاً ، وتنعقد بلفظهما ، وبكل ما يؤدي معناهما ، لأن القصد المعنى ، فجاز بما دل عليه كالوكالة ‏.‏ وحكمها حكم شركة العنان في جوازها وانفساخها ،وفي ما يكون رأس المال فيها ، وما لا يكون ، وما يملكه العالم ، وما يمنع منه ، وكون الربح بينهما على شرطاه ، لأنها شركة ، فيثبت فيها ذلك ، كشركة العنان ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط تقدير نصيب العامل ، ونصيب كل واحد من الشريكين في الشركة بجزء مشاع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها والمضاربة في معناها ‏.‏ فإن قال ‏:‏ خذه مضاربة والربح بيننا، صح وهو بينهما نصفين ، لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح لأحدهما ، فاقتضى التسوية ، كقوله ‏:‏ هذه الدار بيني وبينك ، وإن قال ‏:‏ على أن لك ثلث الربح ، صح ، والباقي لرب المال ، لأنه يستحقه ، لكونه نماء ماله ، فلم يحتج إلى شرطه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ على أن لي ثلث الربح ، ولم يذكر نصيب العامل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يصح ، لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولا شرط له ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، والباقي للعامل ، لأنه يدل بخطابه على ذلك كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وورثه أبواه فلأمه الثلث‏}‏ دل على أن باقيه للأب ‏.‏ وإن قال ‏:‏ لي النصف ولك الثلث ، وترك السدس ، فهو لرب المال ، لأنه يستحقه بماله ‏.‏ وإن قال ‏:‏ خذه مضاربة بالثلث ، صح ، وهو للعامل ، لأن الشرط يراد من أجله ، ورب المال يأخذه بماله لا بالشرط ‏.‏ ومتى اختلفا لمن الجزء المشروط ، فهو للعامل لذلك ، واليمين على مدعيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن لم يذكر الربح ، أو قال لك جزء من الربح ، أو شركة ، لم تصح المضاربة ، لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب ‏.‏ وإن قال‏:‏ لك مثل ما شرط لفلان وهما يعلمانه ، صح ، وإن جهلاه أو أحدهما ، ، لم يصح ‏.‏ ولا يجب أن يجب أن يشرط لأحدهما دراهم معلومة ، لأنه يحتمل أن لا يربحها ، أو لا يربح غيرها ‏.‏ فيختص أحدهما بجمع الربح ‏.‏ ولو شرط لأحدهما ربح أحد الألفين ، أو أحد الكيسين ، أو أحد العبدين ، وللآخر ربح الآخر ، أو جعل حقه في عبد يشتريه ، أو أنه إذا اشترى عبداً، أخذه برأس المال ، لم يصح ، لإفضائه إلى اختصاص أحدهما بالربح ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قال ‏:‏ خذه مضاربة والربح كله لك ، أو قال ‏:‏ لي ، لم يصح ، لأن موضوعها على الاشتراك في الربح ، فشرطه كله له‏.‏ ينافي مقتضى العقد ، فبطل ‏.‏ وإن قال ‏:‏ خذه فاتجر به ، والربح كله لك ، فهو قرض ، لأن اللفظ يصح للقرض ، وقد قرن به حكمه ، فتعين له ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والربح كله لي ، فهو إبضاع ، لأنه قرن به حكمه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال لغريمه ‏:‏ ضارب بالدين الذي عليه ، لم يصح ، لأن ما في يد الغريم ،لنفسه لا يصير لغريمه إلا بقبضه ‏.‏ فإن عزل شيئاً واشترى به ، فالشراء له ، لأنه اشترى بماله ، ويحتمل أن تصح المضاربة ، لأنه اشترى له بإذنه ، ودفع المال إلى من أذن له ، في دفعه إليه ، فبرئت به ذمته ، وإن كانت له وديعة ، فقاتل للمودع ‏:‏ ضارب بها ، صح ، لأنه عين ماله ‏.‏ وإن كان عرضاً فقال ‏:‏ بعه وضارب بثمنه ، صح ، لأن الثمن عين مال رب المال ، وإن قال ‏:‏ اقبض ما لي على فلان ، فضارب به ففعل ، صح لأنه وكيل في قبضه فيصير كالوديعة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال ، ولا يتجر به إلا في بلد بعينه ، أو نوع بعينه أو لا يعامل إلا رجلاً بعينه ، لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة ‏.‏ ويصح توقيتها ، فيقول ‏:‏ ضاربتك بهذه الدراهم سنة لذلك ، نص عليه ، وعنه ‏:‏ لا يصح ، اختارها أبو حفص ، لأنه عقد يجوز مطلقاً ، فلم يجز توقيته كالنكاح ‏.‏ ويصح أن يشرط نفقة نفسه حضراً وسفراً قاسياً على الوكيل ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد ، نحو أن يشرط لزوم المضاربة ، أو لا يعزله مدة بعينها ، أو لا يبيع إلا برأس المال ، أو أقل ، أو يوليه ما يختار من السلع ، لأنه يفوت المقصود من العقد ‏.‏ وإن شرط أن يتجر له في مال آخر مضاربة ، أو بضاعة أو خدمة في شيء ، أو يرتفق بالسلع ، أو شرط على العامل الضمان ، أو الوضيعة أو سهماً منها ، أو متى باع سلعة ، فهو أحق بها بالثمن ، فالشرط فاسد ، لأنه ليس في مصلحته العقد ولا مقتضاه ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل شرط يؤثر في جهالة الربح يبطل المضاربة ، لأنه يمنع التسليم الواجب ، وما لا يؤثر فيه ، لا يبطلها في قياس قوله ، لنصه فيما إذا شرط سهماً من الوضيعة أن المضاربة صحيحة ، لأنه إذا حذف الشرط ، بقي الإذن بحاله ويحتمل البطلان، لأنه إنما رضي بالعقد بهذا الشرط ، فإذا فسد ، فات الرضى به ففسد ، كالمزارعة إذا شرط البذر من العامل ، وكالشروط الفاسدة في البيع ‏.‏ ومتى فسدت ، فالتصرف صحيح ، لأنه بإذن رب المال والوضيعة عليه ، لأن كل عقد لا ضمان له في صحيحه لا ضمان في فاسده ، والربح لرب المال ، لأنه نماء ماله ، وإنما يستحق بالشرط وهو فاسد ها هنا لا يستحق به شيء ، وللعامل أجر مثله ، لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له ‏.‏ وإن فسدت الشركة ، قسم الربح على رؤوس أموالهما ، ورجع كل واحد منهما على الآخر بأجر عمله ، لما ذكرنا ‏.‏ وقال الشريف أبو جعفر ‏:‏ الربح بينهما على ما شرطاه ، لأنه عقد لا يجوز أن يكون عوضه مجهولاً ، فوجب المسمى في فاسده كالنكاح ‏.‏

فصل ‏:‏

وعلى العامل عمل ما جرت العادة بعمله له ، من نشر وطي ، وإيجاب وقبول ، وقبض ثمن ، ووزن ما خف ، كالنقود والمسك والعود ، لأن لإطلاق الإذن يحتمل على العرف ، والعرف أن هذه الأمور يتولاها بنفسه ، وإن استأجر من يفعلها، فعليه الأجرة في ماله ، لأنه بذلها عوضاً عما يلزمه ، وما جرت العادة أن يستنيب فيه ، كحمل المتاع ووزن ما يثقل والنداء ، فله أن يستأجر من مال القراض من يفعله ، لأنه العرف ‏.‏ فإن فعله بنفسه ليأخذ أجرة لم يستحقها ، نص عليه ، لأنه تبرع بفعل ما لم يلزمه ، فلم يكن له أجر كالمرأة تستحق على زوجها خادماً إذا خدمت نفسها ‏.‏ ويتخرج أن له الأجر، لأنه فعل ما يستحق الأجر فيه ، فاستحقه كالأجنبي ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس له أن يشتر أكثر من رأس المال ، لأن الإذن لم يتناول غيره ‏.‏ فإن كان ألفاً فاشترى عبداً بألف ، فهو للمضاربة ، لأنه مأذون فيه ‏.‏ فإن اشترى آخر ، لم يدخل في المضاربة ، لأنه غير مأذون فيه ‏.‏ وحكمه حكم ما لو اشترى لغيره شيئاً بغير إذنه ‏.‏ فإن تلف الألف قبل نقده في الأول ، فعلى رب المال الثمن ، لأن الشراء بإذنه ، ويصير رأس المال الثمن الثاني ، لأن الأول تلف قبل تصرفه فيه ، وإن تلف قبل الشراء ، لم يدخل المشتري في المضاربة ، لأنها انفسخت قبل الشراء ، لتلف رأس المال وزوال الإذن ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس له التصرف إلى على الاحتياط ، كالوكيل ، لأنه وكيل رب المال إلا أن له شراء المعيب ، لأن مقصودها الربح ، وقد يربح في المعيب بخلاف الوكالة فإن الشراء فيها يراد للقنية ‏.‏ فإن اشترى شيئاً فبان معيباً ، فله رده ، فإن اختلف هو ورب المال في رده ، فعل ما فيه النظر ، لأن مقصود الحظ لهما ، فإذا اختلفا ، قدم الأحظ ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اشترى من يعتق على رب المال ، صح ، لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه ، كالذي نذر رب المال عتقه ، ويعتق ، وعلى العامل الضمان ، علم أو لم يعلم ، لأن مال المضاربة تلف بتفريطه ‏.‏ وفي قدر ما يضمن وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ثمنه ، لأنه فات فيه ‏.‏

والثاني ‏:‏ قيمته ، لأنها التالفة ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ إن لم يعلم ، لم يضمن ، لأنه معذور ، فلم يضمن ، كما لو اشترى معيباً لم يعلم عيبه ، ويتخرج أن لا يصح شراؤه ، لأن الإذن تقيد بالعرف لما يمكن بيعه والربح فيه ، فلا يتناول غيره ، ولأنه تقيد بما يظن الحظ فيه ، وهذا لا حظ للتجارة فيه ، ولهذا جعلناه مفرطاً ، وألزمناه الضمان ‏.‏ وإن اشترى زوجة رب المال ، أو زوج ربة المال ، صح وانفسخ النكاح لملكه إياه فإن كان قبل الدخول ، فعلى العامل نصف الصداق ، لأنه أفسد نكاحه بالرضاع ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اشترى من يعتق على نفسه ، ولا ربح في المال ، لم يعتق ‏.‏ وإن ظهر فيه ربح ، وقلنا ‏:‏ لا يملك العامل إلى بالقسمة ، لم يعتق أيضاً ، وإن قلنا ‏:‏ يملكه بالظهور ، عتق عليه قدر حصته منه ، وسرى إلى باقيه إن كان موسراً ، وغرم قيمته ، وإن كان معسراً ، لم يعتق عليه إلى ما ملك ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا يعتق بحال لأنه لم يتم ملكه لأنه لم يتم ملكه في الربح ، لكونه وقاية لرأس المال ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس له وطء جارية من المال ، فإن فعل ، فعليه المهر ، لأنها مملوكة غيره ويعزر،نص عليه، ولا حد عليه لشبهة حقه فيها ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏عليه الحد إن لم يظهر ربح ،لأنه لا ملك له فيها ، والأول أولى ، لأن ظهور الربح ينبني على التقويم ، وهو غير متحقق فيكون شبهة ‏.‏فإن ولدت منه ،ولم يظهر ربح ،فالولد مملوك ،ولا تصير به الجارية أم ولد ، لأنها علقت به في غير ملك ، وإن ظهر ربح ، فالولد حر ،وأمه أم ولد ، وعليه قيمتها ، ويسقط من القيمة والمهر قدر حصة العامل منها ‏.‏ وإن أذن له رب المال في التسري فاشترى جارية ، خرجت من المضاربة ، وصار ثمنها قرضاً ، لأن استباحة البضع لا تكون إلا بملك أو نكاح ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس لرب المال وطء جارية من المضاربة ، لأن لغيره فيها حقاً ، فإن فعل ،‏ فلا حد عليه ، لأنها ملكه ‏.‏وإن لم تعلق منه ، فالمضاربة بحالها ، وإن علقت منه ، فالولد حر ، وتصير أم ولد له ، وتخرج من المضاربة ، وتحسب عليه قيمتها ، ويأخذ المضارب حصته من الربح مما بقي ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس له دفع المال مضاربة ، لأنه إنما دفع إليه المال ليضارب به ، وبهذا يخرج عن كونه مضارباً ،فإن فعل فهو مضمون على كل واحد منهما ، على الأول لتعديه ، وعلى الثاني لأخذه مال غيره بغير إذنه ، فإن غرم الأول ، ولم يعلم الثاني بالحال ، لم يرجع عليه ، لأنه دفعه إليه أمانة ، وإن علم ، رجع عليه ، وإن غرم الثاني مع علمه ، لم يرجع على أحد ، وإن لم يعلم فهل يرجع على الأول ‏؟‏على وجهين ، بناء على المشتري من الغاصب ، وإن ربح ، فالربح لرب المال ، لأنه نماء ماله ولا أجرة لواحد منهما ، لأن الأول لم يعمل ، والثاني عمل في مال غيره بغير إذنه ، فأشبه الغضب ‏.‏ وعنه ‏:‏ له أجرة مثله ، لأنه عمل في المال بشبهة المضارب ، فأشبه المضاربة الفاسدة ‏.‏ ويحتمل أنه إن اشترى في الذمة ، كان الربح له ، فأما إن دفعه إلى غيره بإذن رب المال ، صح ، ويصير الثاني هو المضارب ‏.‏ فإن شرط الدافع لنفسه شيئاً من الربح ، لم يستحق شيئاً ، لأن الربح يستحق بمال ، أو عمل ، وليس له واحد منهما ، فإن قال له رب المال ‏:‏ اعمل برأيك ، فعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ جواز دفعه مضاربة كما ذكرنا في الشركة ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له ، فهو ضمان ، لأنه تصرف بغير إذن المالك فضمن كالغاصب ، والربح لرب المال ولا أجرة له ، لأنه عمل بغير إذن ، أشبه الغاضب ‏.‏ وعنه له أجرة مثله ما لم تحط بالربح ،كالإجارة الفاسدة ‏.‏ وعنه ‏:‏ له أقل الأمرين من أجرته أو ما شرط له ، لأنه رضي بما جعل له فلا يستحق أكثر منه ، ولا يستحق أكثر من أجرة المثل ، لأنه لم يفعل ما جعل له الربح فيه ، وقال القاضي ‏:‏ إن اشترى في الذمة ، ثم نقد المال ، فكذلك ، وإن اشترى بعين المال ، فالشراء باطل في رواية ، والنماء للبائع ، وفي رواية يقف على إجازة المالك ، فإن لم يجزه ، فالبيع باطل أيضاً ، وإن أجازه ، صح والنماء له ، وإن أخذ الربح ، كان إجازة منه للعقد ، لأنه دل على رضاه ‏.‏ وفي أجرة المضارب ما ذكرناه ‏.‏

فصل ‏:‏

ونفقة عامل على نفسه حضراً وسفراً ، لأنها تختص به فكانت عليه كنفقة زوجته ، ولأنه دخل على أن له جزءاً مسمى فلم يستحق غيره ، كالمساقي ‏.‏ وإن اشترط نفقته ، فله ذلك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون على شروطهم ويستحب تقديرها ، لأنه أبعد من الغرر ، فإن أطلق ، جاز ، لأن لها عرفاً تنصرف إليه ، فأشبه إطلاق الدينار في بلد له فيه عرف ‏.‏ قال أحمد ينفق على ما كان ينفق غير متعد بالنفقة ، ولا مضر بالمال ، وله نفقة من المأكول خاصة ، إلا أن يكون سفره طويلاً يحتاج لى تجديد كسوة ، فله أن يكتسي ، فإن كان معه مال آخر ، فالنفقة على المالين بالحصص ، لأن النفقة للسفر ، والسفر لهما ‏.‏ وإن مات لم يجب تكفينه ، لأنه لم يبق عاملاً ، وإن لقيه رب المال في السفر ، ففسخ المضاربة ، فلا نفقة له لرجوعه لذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

وللمضاربة أن يأخذ مضاربة آخرى ، إذا لم يكن فيه ضرر على الأولى ، لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها ، فلم يملك عقد آخر كالوكالة ‏.‏ فإن كانت الثانية ، تشغله عن الأولى ، لم يجز ، لأنه تصرف يضر به ، فلم يجز كالبيع بغبن ، فإن فعل ضم نصيبه من الربح في الثاني ربح الأول ، فاقتسماه لأن ربحه الثاني حصل بالمنفعة الي اقتضاها العقد الأول ‏.‏ وإن فعل ذلك بإذن الأول ، جاز ، لأن الحق له فجاز بإذنه ‏.‏ فإن أخذ مالين من رجلين ، واشترى بكل مال عبداً فاشتبها عليه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يكونا شريكين فيهما ، كما لو اشتركا في عقد البيع ‏.‏

والثاني ‏:‏ يأخذهما العامل ، وعليه رأس المال ، لأنه تعذر ردهما بتفريطه ، فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا دفع إليه ألفاً ، ثم دفع إليه ألفاً آخر ، لم يجز له ضم أحدهما إلى الآخر لأنه أفرد بكل واحد بعقد له حكم ، فلم يملك تغييره ، فإن أمره بضمهما قبل التصرف فيهما ، أو بعد أن نضا ، جاز وصارا مضاربة واحدة ‏.‏ وإن كان بعد التصرف أن ينضا ، لم يجز ، لأن حكم ما تصرف فيه قد استقر ، فصار ربحه وخسرانه مختصاً به ، فضم الآخر إليه يوجب جبر وضيعة أحدهما بربح الآخر ، فلم يجز ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس للمضارب ربح حتى يوفي رأس المال ، لأن الربح هو فاضل عن رأس المال ‏.‏ فلو ربح في سلعة ، وخسر في أخرى ، جبرت الوضيعة من الربح ‏.‏ وإن تلف بعض المال قبل التصرف ، فتلفه من رأس المال ، لأنه تلف قبل التصرف ، أشبه التالف قبل القبض ، وإن تلف بعد التصرف ، حسب من الربح ، لأنه دار في التجارة ،فإن اشترى عبدين بمائة ، فتلف أحدهما ، وباع الآخر بخمسين ، فأخذ منها رب المال خمسة وعشرين بقي رأس المال خمسين ، لأن رب المال أخذ نصف المال الموجود ، فسقط نصف الخسران ‏.‏ ولو لم يتلف العبد ، وباعهما بمائة وعشرين ، فأخذ رب المال ستين ، ثم خسر العامل فيما معه عشرين ، فله من الربح خمسة ، لأن سدس ما أخذه رب المال ربح ، للعامل نصفه ، وقد انفسخت المضاربة فيه ، فلا يجبر به خسران الباقي ‏.‏ وإن اقتسما العشرين الربح خاصة ، ثم خسر عشرين ، فعلى العامل رد ما أخذه ، وبقي المال تسعين ، لأن العشرة الباقية مع رب المال تحسب من رأس المال ‏.‏ ومهما بقي العقد على رأس المال ، وجب جبر خسرانه من ربحه ‏.‏ وإن قسما الربح قال أحمد ‏:‏ إلا أن يقبض رأس المال صاحبه ، ثم يرده إليه ، أو يحتسبها حساباً كالقبض ، وهو أن يظهر المال ، ويجئ به فيحتسبان عليه ، فإن شاء صاحبه قبضه ، ولا يكون ذلك إلا في الناض ، دون المتاع ، لأن المتاع قد يتغير سعره ، وأما قبل ذلك ، فالوضيعة تجبر من الربح ، ولذلك لو طلب أحدهما القسمة دون رأس المال ، لم يلزم الآخر إجابته ، لأنه لا يأمن الخسران في الثاني ، وإن اتفقا على قسمة أو قسم بعضه ، أو على أن يأخذ كل واحد منهما كل يوم قدراً معلوماً ، جاز ، لأن الحق لهما ، ولو تبين للمضارب ربح ، لم يجز له أخذ شيء منه إلى بإذن رب المال ‏.‏

فصل ‏:‏

ويملك العامل الربح بالظهور ، وعنه ‏:‏ لا يملكه ، لأنه لو ملكه اختص بربحه ‏.‏ والأول المذهب ، لأنه يملك المطالبة بقسمه فملكه كالمشتري ، وإنما لم يختص بربحه ، لأنه وقاية من رأس المال ‏.‏

فصل ‏:‏

ولكل واحد منهما فسخ المضاربة ، لأنها عقد جائز ‏.‏ فإذا فسخ والمال عرض فاتفق على قسمه ، أو بيعه ، جاز ‏.‏ وإن طلب العامل البيع وأبى رب المال وفيه ربح ، أجبر عليه ، لأن حقه في الربح لا يظهر عليه إلا بالبيع ‏.‏ وإن لم يكن فيه ربح ، لم يجبر ، لأنه لا حق له فيه ، وإن طلب رب المال البيع ، وأبى العامل ، أجبر في أحد الوجهين ، لأنه يستحق عليه رد المال كما أخذه ، والآخر لا يجبر ، لأنه متصرف لغيره حكم عقد جائز ، فلم يلزمه التصرف كالوكيل ‏.‏ وإن كان ديناً ، لزم العامل تقاضيه ، لأن المضاربة تقتضي رد المال على صفته ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز أن يدفع المال إلى اثنين مضاربة ، فإن شرط لهما جزءاً من الربح ، ولم يبين كيف هو بينهما، فهو بينهما نصفين ، لأن إطلاق لفظ ‏:‏ لهما ، يقتضي التسوية ‏.‏ وإن شرط لأحدهما ثلث الربح ، وللآخر سدسه ، صح لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان ‏.‏ وإن قارض اثنان واحداً بألف لهما ، ، جاز ، وكان بمنزلة عقدين ، فإذا شرطا له جزءاً من الربح ، والباقي لهما على قدر ملكيهما ، فإن كان بينهما نصفين ، فشرط أحدهما للمضارب نصف ربح نصيبه وشرط له الآخر الثلث ، والباقي بينهما نصفين ، فشرط أحدهما للمضارب نصف ربح نصيبه وشرط له الآخر الثلث ، والباقي بينهما نصفين ، لم يجز لأن كل وحد منها يستحق ما بقي من الربح بعد شرطه ، فإذا شرطا التسوية ، فقد شرط أحدهما جزءاً من ربح مال صاحبه بغير عمل ‏.‏ وإن دفع إليه ألفاً ، وقال ‏:‏ أضف إليها ألفاً من مالك ، والربح بيننا ، لك ثلثه ولي ثلثه ، جاز ، وكان شركة وقراضاً ، وللعامل النصف بماله ، والسدس بعمله ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والربح بيننا نصفين نظرنا في لفظه ، فإن قال ‏:‏ خذه مضاربه ، فسد ، لأنه جعل ربح ماله كله له ، وذلك ينافي مقتضى المضاربة ‏.‏ وإن لم يقل مضاربة ، صح ، وكان إبضاعاً ‏.‏ وإن قال ‏:‏ ولي الثلثان ، فسد ، لأنه يشرط لنفسه جزءاً من ربح مال صاحبه بغير عمل ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أخرج ألفاً وقال ‏:‏ أتجر أنا وأنت فيها والربح بيننا ، صح ، نص عليه ، وذكره الخرقي بقوله ‏:‏ أو بدنان بمال أحدهما ‏.‏ وقال ابن حامد والقاضي ‏:‏ لا يصح ، لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى العامل ، وهذا الشرط ينفي ذلك ‏.‏ والأول أظهر ، لأن العمل أحد ما تتم به المضاربة ، فجاز انفراد أحدهما به ، كالمال ، ومقتضى المضاربة إطلاق التصرف في المال والمشاركة في الربح ، وهذا لا ينفيه ‏.‏ فإن شرط المضارب أن يعمل معه غلام رب المال ، فهو أولى بالجواز ، لأن عمل الغلام يصح أن يكون تابعاً لعمل العامل ، كالحمل على بهيمته ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يجوز ، لأن يد العبد كيد سيده ‏.‏

فصل ‏:‏

والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد ، لأنه متصرف في المال بإذن المالك لا يختص بنفعه ، فأشبه الوكيل ‏.‏ والقول قوله فيما يدعيه من تلف ، أو يدعي عليه من جناية لذلك ‏.‏ إن قال ‏:‏ هذا اشتريته لنفسي ، أو للمضاربة ، أو اختلفا في نهي رب المال له عن شرائه ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدم النهي ، وهو أعلم بنيته في الشراء ، وإن اختلفا في رد المال ، فالقول قول المالك ، لأنه قبض المال لنفع نفسه ، فلم يقبل قوله في الرد ، كالمستعير ‏.‏ وإن اختلفا فيما شرط له من الربح ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ القول قول المالك ، لأن الأصل عدم ما اختلفا فيه ‏.‏

والثانية ‏:‏ إن ادعى العامل أجرة المثل ، أو قدراً يتغابن الناس به ، فالقول قوله ، لأن الظاهر صدقه ‏.‏ وإن ادعى أكثر ، فالقول قول المالك ، لأن الظاهر صدقة ، فأشبها الزوجين إذا اختلفا في المهر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أقر بربح ثم قال ‏:‏ خسرته ، أو تلف ، قبل قوله ‏.‏ وإن قال ‏:‏ غلطت أو نسيت ، لم يقبل ، لأنه مقر بحق لآدمي ، فلم يقبل رجوعه ، كالمقر بدين ، ولو اقترض العامل شيئاً ، تمم به رأس المال ، ثم عرضه على رب المال فأخذه ، لم يقبل رجوع العامل ، ولم يملك المقرض مطالبة رب المال ، لأن العامل ملكه بالقرض ، وأقر به لرب المال ، ويرجع المقرض على العامل ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال المالك ‏:‏ دفعت إليك المال قرضاً ، قال‏:‏ بل قرضاً ، أو بالعكس ، أو قال ‏:‏ غصبتنيه قال ‏:‏ بل أودعتنيه ، أو بالعكس ‏.‏ أو قال ‏:‏ أعرتكه قال ‏:‏ أجرتنيه ، أو بالعكس ، فالقول قول المالك ، لأنه ملكه ، فالقول قوله في صفة خروجه عن يده ‏.‏ وإن قال المضارب ‏:‏ شرطت لي النفقة فأنكره ، فالقول قول رب المال ، لأن الأصل عدمه ‏.‏ وإن اتفقا على الشرط فقال المضارب ‏:‏ إنما أنفقت من مالي ، فالقول قوله ، لأنه أمين فقبل قوله في الإنفاق ، كالوصي ‏.‏ وله الرجوع سواء كان المال في يده أو لم يكن ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترى رب المال شيئاً من مال المضاربة ، لم يصح في إحدى الروايتين ، لأنه ملكه ، فلم يجز له شراؤه ، كماله الذي مع وكيله ‏.‏ والثانية ‏:‏ يصح ، لأنه قد تعلق به حق غيره ، فأشبه مال مكاتبه ، ويصح أن يشتري المضارب من مال المضاربة لنفسه ، لأنه ملك غيره ، فصح شراؤه له ، كشراء الوكيل من موكله ‏.‏ ولا يصح شراء السيد من عبده ، المأذون ، لأنه ماله ، ويحتمل أن يصح إذا ركبته الديون ‏.‏ وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة ، بطل في نصيبه ،وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة ، ويحتمل أن يصح في الجميع ، بناء على شراء رب المال من مال المضاربة ‏.‏ وإن استأجر أحد الشريكين من شريكه داراً ليحرز فيها مال الشركة ، أو غرائر ، صح ، نص عليه ‏.‏ وإن استأجره أو غلامه أو دابة لنقل المتاع ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز قياساً على الدار ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجوز ، لأن الحيوان لا تجب له الأجرة إلا بالعمل ولا يمكن إبقاؤه في المشترك لعدم تميز نصيب أحدهما من الآخر ، بخلاف الدار ، فإن الواجب موضع العين من الدار ، فيمكن تسليم العقود عليه‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز قسمة الدين في الذمم ، لأنها لا تتكافأ ، والقسمة بغير تعديل بيع ، ولا يجوز بيع دين بدين وعنه ‏:‏ يجوز ، لأن الاختلاف لا يمنع القسمة قياساً على اختلاف الأعيان ، ولا يمكن قسمة الدين في ذمة واحدة ، لأن معناها إفراز الحق ‏.‏ ولا يتصور في ذمة واحدة ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا كان لاثنين دين في ذمة رجل بسبب واحد ، فقبض أحدهما منهم شيئاً فهو بينهما ، إذ لا يجوز أن يكون المقبوض نصيب من قبضه ، لما فيه من قسمة الدين في ذمة واحدة ، وللشريك القابض مطالبته بنصيبه منه لذلك ‏.‏ وله مطالبة الغريم ، لأنه لم يبرأ من حقه بتسليمه إلى غيره بغير إذنه ، ومن أيهما أخذ ، لم يرجع على الآخر ، لأنه حقه ثبت في أحد المحلين ‏.‏ فإذا اختار أحدهما ، سقط حقه من الآخر ‏.‏ وإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ، ولم يضمنه للغريم ، لأنه قدر حقه فما تعدى بالقبض ‏.‏ وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته مشتركاً ‏.‏ وإن أبرأ أحدهما الغريم ، برئ من نصيبه ، ولم يرجع عليه الآخر بشيء ، لأنه كتلفه ‏.‏ وإن أبرأه من نصف حقه ثم قبضا شيئاً ، اقتسماه أثلاثاً ‏.‏ وإن أخر أحدهما حقه ، جاز ، لأنه يملك إسقاطه فتأخيره أولى ، وإن اشترى بنصيبه شيئاً ، فهو كما لو اشترى بعين مال مشترك بينهما ‏.‏ وإن كان الحق ثابتاً بسببين ، كعقدين ، أو إتلافين ، فلا شركة بينهما ، ولك واحد استيفاء حقه مفرداً ، فلا يشاركه الآخر فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا ملكا عبداً ، فباعه أحدهما بأمر الآخر ، فادعى المشتري أنه قبض ثمنه ، فأنكر البائع وصدقه الآخر ، برئ من نصف ثمنه لاعتراف صاحبه بقبض وكيله له ، والقول قول البائع مع يمينه في أنه لم يقبض ، لأن الأصل عدمه ‏.‏ ولا تقبل شهادة شريكه عليه ، لأن له فيها نفعاً ، فإذا حلف ، قبض نصيبه من المشتري ، ولم يشاركه شريكه فيه ، لأنه يدعي أنه يأخذه ظلماً ‏.‏ وإن كان البائع ادعى أن شريكه قبض الثمن كله فأنكر ، لم تبرأ ذمة المشتري ، لأنه لم يوكله في القبض ، وليس للبائع مطالبة المشتري بأكثر من نصيبه ، لاعترافه بأن ذمته برئت من نصيب صاحبه ‏.‏ فإذا قبض نصيبه ، فلصاحبه مشاركته فيه ، لأن دينهما واحد ‏.‏ فإذا رجع عليه ، لم يكن للمقبوض منه مطالبة المشتري بشيء آخر ، لاعترافه بقبضه لجميع حقه ، وأن ما يأخذه صاحبه منه ظلم ‏.‏ ويحتمل أنه ليس لصاحبه مشاركته ، لأنه ملك لاثنين ، وعقد الواحد مع الاثنين كعقدين ‏.‏


باب العبد المأذون


لا يجوز للعبد التجارة بغير إذن مولاه ، لأن منافعه مملوكة له ، فلا يملك التصرف فيما بغير إذنه ، فإن رآه يتجر فسكت ، لم يصر مأذوناً له ، لأنه بيع يفتقر إلى الإذن ، فلم يكن السكوت إذناً فيه كبيع مال الأجنبي ‏.‏ وإن اشترى في ذمته ، لم يصح ، لأنه عقد معاوضة ، فأشبه النكاح ‏.‏ فإن قبض المبيع فتلف في يده ، تعلقت برقبته ، كجنايته ، لأنه تلف ، في يده على وجه يلزمه ضمانه فأشبه ما لو أتلفه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أذن له المولى ، جاز ، لأن الحجر لحقه فملك إزالته ، ولا يملك التجارة إلا فيما أذن فيه ، لأن تصرفه بالإذن فلم يملك إلا ما دخل فيه ، كالوكيل ‏.‏ فإن عين له نوعاً أو قدراً ، لم يملك التجارة في غيره ‏.‏ وإن أذن له في التجارة مطلقاً ، جاز ولم يكن له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل ، لأنه عقد على نفسه فلم يملكه ، كبيع نفسه وتزوجه ‏.‏ ولا ينصرف إلا على النظر والاحتياط كالمضارب ، لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف ، وهو ما قلناه ، ولا يبطل الإذن الإباق لأنه لا يمنع ابتداء الإذن فلا يقطع استدامته كما لو غصبه غاصب ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز تبرع المأذون له بالدراهم والكسوة ، لأنه ليس بتجارة ولا من توابعها ، فلم يدخل في الإذن فيها وتجوز هديته المأكول ، واتخاذ الدعوة وإعارة دابته ما لم يسرف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب دعوة المملوك ‏.‏ ولأن العادة جارية به بين التجارة ، فجاز ، كصدقة المرأة بالكسرة من بيت زوجها ‏.‏

فصل ‏:‏

وما كسب العبد من المباح ، أو وهب له فقبله ، ملكه مولاه ، لأنه كسب ماله فملكه ، كصيد فهده ، وإن ملكه سيده مالاً ، ملكه ، لقول النبيصلى الله عليه وسلم من باع وله مال ، فماله للبائع ولأنه يملك البضع فملك المال ، كالحر ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يملك ، لأنه مال فلم يملك المال كالبهيمة ‏.‏ فإن ملكه سيده جارية لم يملك وطأها قبل الإذن فيه ، لأن ملكه غير تام ، فإن أذن له فيه ، ملكه ‏.‏ قال أبو بكر ‏:‏ على كلتا الروايتين ، لأنه يملك الاستمتاع بالنكاح ، فملكه بالشراء كالحر ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ بل هذا بناء على الرواية التي يملك المال ، ولا يملك ذلك على الأخرى ، لقول الله تعالى ، ‏{‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ ‏.‏ وإن لزمته كفارة ، فكفارته الصيام لا غير إن لم يأذن له سيده في التكفير بالمال ‏.‏ وإن أذن له فيه ، انبنى على الروايتين في ملكه ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ لا يملك ، لم يكفر بغير الصيام ، وإن قلنا ‏:‏ يملك ، فله التفكير بالإطعام والكسوة ، وفي العتق وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يملكه ، قياساً على الإطعام والكسوة ‏.‏

والثاني ، لا يملكه ، لأنه يتضمن الولاء ،والعبد ليس من أهله ‏.‏ فعلى الأول إن أذن له في التفكير بإعتاق نفسه فهل يجزئه ‏؟‏ على وجهين ‏.‏ والله تعالى أعلم ‏.‏


باب المساقاة


تجوز المساقاة على النخل ، وسائر الشجر بجزء معلوم ، يجعل للعامل من الثمر ، لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع متفق عليه ‏.‏ ولأنه مال ينمى بالعمل عليه ، فجازت المعاملة عليه ببعض نمائه ، كالأثمان ، ولا تجوز على ما لا يثمر ‏.‏ كالصفصاف ، لأن موضوعها على أن العامل جزءاً من الثمرة ، وفي المساقاة بعد ظهور الثمرة روايتان ، حكاهما أبو الخطاب ‏.‏

إحداهما ‏:‏ الجواز إذا بقي من العمل ما تزيد به الثمرة ، لأنها جازت في المعدومة ، معه كثرة الغرر ، فمنع قتله أولى ‏.‏

والثانية ‏:‏ المنع ، لإفضائها إلى أن يستحق جزءاً من النماء الموجود قبل العمل ، فلم يصح ، كمضاربة بعد الربح ‏.‏ وإن ساقاه على شجر يغرسه ، ويعمل عليه حتى يحمل ، فيكون له جزء من الثمرة ، جاز‏.‏ نص عليه ، لأن الثمرة تحصل بالعمل عليها كما تحصل ، على النخل المغروس ، ولا تصح إلا على شجر معين معلوم برؤية ، أو صفة ، لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان ، فأشبهت المضاربة ‏.‏ ولو قال ‏:‏ ساقيتك على أحد هذين الحائطين ، لم يصح ‏.‏

فصل ‏:‏

وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه ‏:‏ أنها عقد جائز ، لما روي عن ابن عمر أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نقركم على ذلك ما شئنا رواه مسلم ‏.‏ فلو كانت لازمة ، لقدر مدتها ، ولم يجعل إخراجهم إليه إذا شاء ، ولأنه عقد على مال بجزء من نمائه فكان جائزاً كالمضاربة فلذلك لا يفتقر إلى ضرب مدة ‏.‏ وإن وقتاها، جاز ، كالمضاربة ، وتنفسخ بموت كل واحد منها وجنونه ،وفسخه لها ‏.‏ فإن انفسخت ، بعد ظهور الثمرة ، فهي بينهما ، لأنها حدثت على ملكهما ، وعلى العامل تمام العمل ، كعامل المضاربة إذا انفسخت قبل أن ينض المال ‏.‏ وإن انفسخت قبل ظهورها ، بفسخ العامل ، فلا شيء له ، لأنه رضي بإسقاط حقه ، وإن انفسخت بغير ذلك ، فللعامل أجرة مثله ، لأنه منع إتمام عمله الذي يستحق به العوض ، فصار كعامل الجعالة ‏.‏

وقال بعض أصحابنا ‏:‏ هو لازم ، لأنه عقد معاوضة فكان لازماً ، كالإجارة ، فعلى هذا يفتقر إلى تقدير مدتها كالإجارة ‏.‏ ويجب أن تكون المدة تكمل الثمرة في مثلها ، لأن المقصود اشتراكهما بالثمرة ‏.‏ فلا يحصل بدون ذلك ‏.‏ فإن شرطا مدة لا تكمل الثمرة فيها ، فعمل العامل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا شيء له ، لأنه رضي بالعمل بغير عوض ، فأشبه المتطوع ‏.‏

والثاني ‏:‏ له أجرة مثله ، لأنه يقتضي العوض ، فلم يسقط بالرضى بتركه ، كالوطء في النكاح ‏.‏ وإن جعلا في مدة تحمل في مثلها ، فلا شيء له ، لأنه عقد صحيح ، فيه مسمى صحيح ، فلم يستحق غيره ‏.‏ كعامل المضاربة إذا لم يربح ‏.‏ وإن جعلا مدة قد تكمل فيها ، وقد لا تكمل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصح لأنها مدة يرجى وجود الثمرة فيها ، فصح العقد عليها ، كالتي قبلها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده ، فلم يصح ، كالسلم في مثله ‏.‏ فعلى هذا، إن عمل استحق الأجر ، ، لأنه لم يرض بالعمل بغير عوض ، ولم يسلم له ، فرجع إلى بدله ، كالإجارة الفاسدة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز عقد المساقاة والإجارة على مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت ، لأنه عقد يجوز عاماً ، فجاز أكثر منه ، كالكتابة ‏.‏ فإن عقدها على أكثر من عام ، لم يجب ذكر قسط كل سنة ، كما لو اشترى أعياناً بثمن واحد ‏.‏ وإن قدر قسط كل سنة ، جاز ‏.‏ وإن اختلفت ، نحو أن يقول ‏:‏ ساقيتك ثلاثة أعوام على أن لك نصف ثمرة العام الأول ، وثلث الثانية ، وربع الثالثة ‏.‏ فإن انقضت المدة قبل طلوع ثمرة العام الآخر ، فلا شيء للعامل منها ، لأنها حدثت بعد موته ، وإن ظهرت في مدته تعلق حقه بها لحدوثها في مدته ‏.‏

فصل ‏:‏

وحكم المساقاة والمزارعة حكم المضاربة في الجزء المشروط للعامل في كونه معلوماً مشاعاً من جميع الثمرة ‏.‏ وفي الاختلاف في قدره وفساد العقد بجهله ، وشرط دراهم لأحدهما ، أو ثمرة شجر معين ، أو عمل رب المال ، أو غلمانه ، في ملكه للنماء بالظهور ، لأنه عقد على العمل في مال ببعض نمائه ، فأشبه المضاربة ، ولو شرط له ثمرة عام غير الذي عامله فيه ، لم يصح ، كما لو شرط للمضارب ربح غير مال المضاربة ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إن سقيته سيحاً ، فلك الثلث ، وإن سقيته بنضح ، فلك النصف ، وإن وزرعت في الأرض حنطة فلك النصف ، وإن زرعت شعيراً ، فلك الثلث ، لم يصح ، لأنه عقد على مجهول ، فلم يصح ،كبيعتين في بيعة ‏.‏ ويتخرج أن يصح بناء على قوله في الإجارة‏:‏ إن خطته رومياً ، فلك درهم ، وإن خطته فارسياً ، فلك نصف درهم ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ساقاه على بستانين بالنصف من هذا ،والثلث من الآخر صح ، أو على أنواع جعله له من كل نوع قدراً ، أو جعل له في المزارعة نصف الحنطة وثلث الشعير ، وهما يعلمان قدر كل نوع ، أو كان البستان لاثنين ، فساقياه على نصف ثمرة نصيب أحدهما ، وثلث ثمرة الآخر ، وهم يعلمونه ، صح ، لأنه معلوم فصح ، كما لو كانا في عقدين ، وإن لم يعلموا ، لم يصح ، لأنه مجهول ‏.‏ ولو قال ‏:‏ ما زرعت فيها من حنطة فلك نصفه ‏.‏ وما زرعت من شعير فلك ثلثه ، لم يصح لأنه مجهول ‏.‏

فصل ‏:‏

وينعقد بلفظ المساقاة ، لأنه موضوعها وبما يؤدي معناه ، لأنه المقصود المعنى ، ولا يثبت فيها خيار الشرط ، وإن قلنا بلزومها ، لأنه لا يمكن رد المعقود عليه إذا فسخ ‏.‏ وفي خيار المجلس وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يثبت ، لأنه لا يثبت فيه خيار الشرط ، فأشبه النكاح ‏.‏

والثاني ‏:‏ يثبت ، لأنه عقد لازم يقصد به المال ، فأشبه البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها ، كالحرث وآلته وبقره واستقاء الماء ، وإصلاح طرقه وقطع الشوك ، والحشيش المضر ، واليابس من الشجرة ، وزبار الكرم ، وتسوية الثمرة ، والحفظ والتشميس ، وإصلاح موضعه ، ونحو ذلك ‏.‏ وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل ، كسد الحيطان وإنشاء الأنهار ، وحفر بئر الماء ، وعمل الدولاب ونصبه ، قال أصحابنا ‏:‏ والثور الذي يديره ، لأن هذا يراد لحفظ الأصل ، ولهذا من أراد إنشاء بستان ، عمل هذا كله ‏.‏ وقيل ‏:‏ ما يتكرر من كل عام ، فعلى العامل ، وما لا يتكرر فعلى رب المال ‏.‏ والجذاذ والحصاد واللقاط على العامل ، نص عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود ، على أن يعملوها من أموالهم ، وهذا من العمل مما لا تستغني عنه الثمرة ، أشبه التشميس ‏.‏ وعنه ‏:‏ إن الجذاذ عليهما ، لأنه يوجد لعد تكامل الثمر ،وهذا ينتقض بالتشميس فإن شرط على أحدهما ما يلزم الآخر ، فقد نص أحمد رضي الله عنه ‏:‏على الجذاذ عليهما ‏.‏ ويصح شرطه على العامل ، فيخرج في سائر العمل مثل ذلك ، قياساً عليه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ تفسد المساقاة ، لأنه ينافي مقتضاها ، أشبه ما لو شرط عمل المضاربة على رب المال ‏.‏

فصل ‏:‏

والعامل أمين ، والقول قول فيما يدعيه من تلف ، أو يدعى عليه من خيانة ، أو تفريط ‏.‏ وإن ثبتت خيانته ، ضم إليه من يشرف عليه ، ولا تزال يده عن العمل ، لأنه يمكن استيفاؤه منه ، فإن لم ينحفظ ، استؤجر من ماله من يعمل عنه ، لأنه تعذر استيفاؤه منه ، فاستوفي بغيره ‏.‏ وإن هرب ، فهو كفسخه إن قلنا بجواز العقد ، وإن قلنا بلزومه ، رفع الأمر إلى الحاكم ، ليستأجر من ماله من يعمل عنه ‏.‏فإن لم يكن له مال ،اقترض عليه ، فإن لم يجد ، فللمالك الفسخ ، لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه ، فأشبه ما لو استأجر داراً فتعذر تسليمها ، ثم إن فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء للعامل ، لأن الفسخ لأمر من جهته ، وإن كانت ظاهرة ، فهي بينهما ‏.‏ وإن لم يفسخ رب المال ، استأذن الحاكم في الإنفاق ، ثم رجع بما أنفق ، فإن لم يجد حاكماً ، أشهد على الإنفاق بشرط الرجوع ، ورجع به ، لأنه حال ضرورة ‏.‏ وإن أنفق من غير استئذان الحاكم مع إمكانه ، ففي الرجوع وجهان ، بناء على قضاء دينه بغير إذنه ‏.‏ وإن عجز العامل عن العمل ، لضعفه أو عن بعضه ، أقام مقامه من يعمله ، فإن لم يفعل ، فهو كهر به ، وإن استأذن رب المال ، فأنفق بإذنه ، رجع عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن مات العامل ، أو رب المال ، وقلنا ‏:‏ يلزم العقد ، قام الوارث مقامه ، لأنه عقد لازم ، أشبه الإجارة ‏.‏ فإن كان الميت العامل ، فأبى الوارث الإتمام ،أو لم يكن وارث ، استؤجر من التركة من يعمل ، فإن لم يجد ، تركة ، فلرب المال الفسخ ، ولا يقترض عليه ، لأنه لا ذمة له ‏.‏ وإذا فسخ ، فالحكم على ما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن بان الشجر مستحقاً ، رجع العامل على من ساقاه بالأجرة ، لأنه لم يكن له العوض ، فرجع على من استعمله ‏.‏ فإن كانت الثمرة باقية ، أخذها ربها ، وإن كانت تالفة ، ضمنها لمن شاء منهما ، فإن ضمنها للغاصب ، ضمنه جميعها ، لأنه حال بينه وبينه ، وإن ضمنها العامل ، ضمنه النصف ، لأنه لم يحصل في يده غيره ، ويحتمل أن يضمنه الجميع ، لأن يده تثبت عليه ، وعمل فيه ، فضمنه ، كالعامل في القراض ‏.‏


باب المزارعة


وهي ‏:‏ دفع الأرض إلى من يزرعها بجزء من الزرع ‏.‏ وتجوز في الأرض البيضاء والتي بين الشجر ، لخبر ابن عمر رضي الله عنه ، وما ذكرنا في المساقاة ‏.‏ وأيهما أخرج البذر ، جاز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر معاملة ، ولم يذكر البذر ‏.‏ وفي ترك ذكره دليل على جوازه من أيهما كان ، وفي بعض لفظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم ، لقول ابن عمر ‏:‏ دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعملوها من أموالهم ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها ‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه ‏:‏ أنه كان يدفع الأرض على أن من أخرج البذر ، فله كذا ، ومن لم يخرجه ، فله كذا ‏.‏ وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه ‏:‏ انه يشترط كون البذر من رب الأرض ، لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه ، فوجب أن يكون رأس المال من رب المال ، كالمساقاة والمضاربة ، فإن شرطه على العامل أو شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي ، فسدت المزارعة ، ومتى فسدت ، فالزرع لصاحب البذر ، لأنه من عين ماله ، ولصاحبه عليه أجرة مثله ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن دفع بذراً إلى ذي أرض ليزرعه فيها بجزء ، لم يصح ، لأن البذر لا من العامل ولا من رب الأرض ‏.‏فإن قال ‏:‏ أنا أزرع أرضي ببذري وعواملي على أن سقيها من مائك بجزء ، لم يصح ، لأن المزارعة معاملة على الأرض ، فيجب أن يكون العمل فيها من غير صاحبها ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه يصح ، اختارها أبو بكر لأنه لما جاز أن يكون عوض العمل جزءاً مشاعاً ، جاز أن يكون عوض المال كذلك ‏.‏ وإن كانوا ثلاثة ، من أحدهم الأرض ، ومن آخر العمل ، ومن آخر البذر ، والزرع بينهم ، فهي فاسدة ، لما ذكرنا في أول الفصل ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ أجرتك هذه الأرض بثلث الخارج منها ‏.‏ فقال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ يصح ‏.‏ واختلف أصحابه ، فقال أكثرهم ‏:‏ هي إجارة صحيحة ، يشترط فيها شروط الإجارة ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ هذه مزارعة بلفظ الإجارة ، فيشترط فيها شروط المزارعة ، وحكمها حكمها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من كانت له أرض ، فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث، ولا بربع ، ولا بطعام مسمى رواه أبو داود ‏.‏ ولأن هذا مجهول فلم يجز أن يكون عوضاً في الإجارة ‏.‏ كثلث نماء أرض أخرى ‏.‏

فصل ‏:‏

وحكم المزارعة حكم المساقاة فيما ذكرناه ، ومن الجواز واللزوم ، وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها ، لأنها معاملة على الأرض ببعض نمائها ، وإن كانت الأرض شجر فقال ‏:‏ ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف ، أو قال ‏:‏ ساقيتك على الشجر بالنصف ، وزارعتك الأرض بالثلث ، جاز ، لأنهما عقدان يجوز إفرادهما ، فجاز جمعهما ، كعينين ‏.‏

فصل ‏:‏

ومتى سقط من الحب شيء ، ثم نبت في عالم آخر ، أو سقط من حب المستأجر ، ثم نبت في عام آخر ، فهو لصاحب الأرض ، لأن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف ، بدليل أن لكل أحد التقاطه ، فسقط ، كما لو سقط النوى ، فنبت شجراً ‏.‏


كتاب الإجارة


وهي بيع المنافع ، وهي جائزة في الجملة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏قالت إحداهما يا أبت استأجره‏}‏ ‏.‏ الآيتين ‏.‏ وقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏}‏ ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان ، فلما جاز عقد البيع على الأعيان ، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع ‏.‏ وينعقد بلفظ الإجارة والكري ، لأنه لفظ موضوع لها ‏.‏ وفي لفظ البيع وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ينعقد به ، لأنها صنف منه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تنعقد به ، لأنها تخالفه في الاسم والحكم ، فلم تنعقد بلفظه ، كالنكاح ‏.‏

فصل ‏:‏

وتجوز إجارة الظئر للرضاع ، والراعي لرعاية الغنم ، للآيتين ‏.‏ واستئجار الدليل ، ليدل على الطريق ، لأنه ثبت ‏(‏‏(‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش ، وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا ‏)‏‏)‏ ‏.‏ رواه أحمد والبخاري ‏.‏ وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها دائماً ، قياساً على المنصوص عليه ‏.‏ وتجوز إجارة النقود للتحلي والوزن ، واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب ، والغنم لتدوس الزرع والطين ، لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ العوض عنها في غير هذه الأعيان ، فجاز فيها ، كالبيع ‏.‏ ولا يجوز عقدها على ما لا نفع فيه ، مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا تنبت ، أو لا ماء لها يكفي ‏.‏ فإن كان لها ماء معتاد ، كماء العيون والأنهار ، والمد بالبصرة ، والمطر في موضع يكتفى به ، جاز ‏.‏ وإن كانت الأرض على نهر يستقى بزيادته ، كالنيل والفرات ، وتسقيها الزيادة المعتادة ، جازت إجارتها ، لأن الغالب وجودها ، فهي كالمطر لغيرها ، وإن كان لا يسقيها إلا زيادة نادرة فاستأجرها بعد الزيادة ، صح لأنها معلومة ‏.‏ وإن استأجرها قبلها ، لم يصح ، لأنه لا يعلم وجودها ، فهي كبيع الطير في الهواء ‏.‏ وإن استأجرها ، ولم يذكرها للزراعة ، وكانت تصلح لغيرها ، صح ‏.‏ وإن لم تصلح لغيرها ، لم يصح ، لأن نفعها معدوم ‏.‏ وإن غرقت الأرض فاكتراها لزرع ما لا ينبت في الماء ، كالحنطة ، وللماء مغيض يمكن فتحه فينحسر الماء ، ويمكن زرعها ، صح ، لأنه يمكن زرعها بفتحه ، كما يمكن سكنى الدار بفتحها ‏.‏ وإن علم أنه ينحسر عادة ، صح ‏.‏ لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع ‏.‏ فإن لم يعلم هل ينحسر أو لا ‏؟‏ لم يصح ، لما ذكرنا ، وإن اكترى أرضاً على نهر تغرق بزيادته المعتادة ، لم يصح ، لأنه غير منتفع بها عادة ‏.‏ فإن كانت بخلاف ذلك ، صح ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة ، كالغناء والنياحة والزمر ، ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة ، أو بيت نار ، أو يبيع فيها الخمر ونحوه ، لأنه محرم ، فلم تجز الإجارة لفعله ، كإجارة الأمة للزنا ‏.‏ ولا يجوز استئجار رجل ليكتب له غناء أو نوحاً ، أو شيئاً محرماً لذلك ، ولا يجوز استئجاره ليحمل خمراً ، ليشربها لذلك ‏.‏ وعنه ‏:‏ فيمن حمل خنزيراً ، أو ميتة لنصراني ، أكره أكل كرائه ‏.‏ ولكن يقضى له بالكراء ، وإذا كان لمسلم ، فهو أشد ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ هذا محمول على أنه استأجره ليرقيها ، أما للشرب ، فمحظور ، لا يحل أخذ الأجرة عليه ‏.‏ وإن استأجر حجاماً ليحجمه ، جاز ، ‏(‏‏(‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة ، فأعطاه أجره صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه‏)‏‏)‏ ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ قال ابن عباس ‏:‏ ولو كان حراماً ما أعطاه أجره ‏.‏ ويكره للحر أكل أجره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏ كسب الحجام خبيث ‏:‏ وقال ‏:‏ أطعمه عبدك أو خادمك ‏)‏‏)‏

وقال القاضي ‏:‏ لا تصح إجارته لهذا الحديث ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تجوز إجارة الفحل للضراب ، لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل ‏.‏ أخرجه البخاري ‏.‏ ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه الولد ، وهو محرم ، لا قيمة له ، فلم يجز أخذ عوضه ، كالدم ‏.‏ ولا يجوز إجارة النقود ، ليجمل بها الدكان ، لأنها لم تخلق لذلك ، ولا تراد له ، فبذل العوض فيه من السفه ، وأخذه من أكل المال بالباطل ، وكذلك استئجار الشمع للتجميل به ، أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به ، كالمطعوم والمشروب ، والشمع ليسرجه ، والشجر يأخذ ثمرته ، والبهيمة يحلبها ،لأن الإجارة عقد على المنافع ، فلا تجوز لاستيفاء عين ، كما لو استأجر ديناراً لينفقه إلا في الظئر تجوز للرضاع ، لأن الضرورة تدعو إليه ، لبقاء الآدمي ، ولا يقوم غيرها مقامها ‏.‏ ،

فصل ‏:‏

ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده ، كالرياحين ، لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها دائماً، فجرت مجرى المطعوم ، فإن كانت مما تبقى عينه دائماً كالعنبر ، جازت إجارته للشم ، لما تقدم ‏.‏

فصل ‏:‏

وما يخص فاعله أن يكون من أهل القربة ، وهم المسلمون ، كالحج وتعليم القرآن ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز الاستئجار عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ وأباح أخذ الجعل عليه ، ولأنه فعل مباح ، فجاز أخذ الأجرة عليه ، كتعليم الفقه ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجوز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله ، فلم يجز أخذ العوض عليه كالصلاة ‏.‏ فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز ، لأن فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة ، فجاز كبناء المساجد ‏.‏ وفي إجازة المصحف وجهان ، بناء على بيعه ‏.‏

فصل ‏:‏

قال بعض أصحابنا ‏:‏ لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك ، إلا أن يؤجراه معاً ، لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر ، إلا بموافقة الشريك ‏.‏ وقال أبو حفص ‏:‏ يجوز ، لأنه يصح بيعه ورهنه ، فصحت إجارته ، كالمفرد ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي ، نص عليه ، لأن علياً رضي الله عنه أجر نفسه يهودياً ، يسقي له كل دلو بتمرة ، وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره ، وأكل أجرته ‏.‏ ولا يؤجر نفسه لخدمته ، لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم يجز، كبيعه إياه ، ويتخرج الجواز ، لأنه عاوضه عن منفعة ، فجاز ، كإجارته لعمل شيء ‏.‏

فصل ‏:‏

و الإجارة على ثلاثة أضرب ‏.‏ إجارة عين معينة ، كالدور ، وموصوفة في الذمة ، كبعير للركوب ، وعقد على عمل في الذمة ، كخياطة ثوب وحمل متاع ، لأن البيع يقع في عين حاضرة وموصوفة ، ومقدر معلوم ، كقفيز من صبرة ، فكذلك الإجارة ‏.‏ فإن كانت الإجارة لعين معينة ، اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت تنضبط بالصفات ، كالحيوان ، فإن لم تنضبط كالدار ، والأرض ، فلا بد من رؤيتها ، كما يشترط ذلك في البيع ‏.‏ وفي استئجار عين لم يرها ، ولم توصف له وجهان ، بناءً على بيعها ‏.‏ ويشترط معرفة المنفعة ، فإن كان لها عرف ، كسكنى الدار ، لم يحتج إلى ذكرها ، لأنها لا تكترى إلا لذلك فاستغنى عن ذكرها ، كالبيع بثمن مطلق ، في موضع فيه نقد معروف ، وإن اكترى أرضاً ، احتاج إلى ذكر ما يكتري له ، من غراس أو بناء ، أو زرع ، لأنها تكترى لذلك كله ، وضرره يختلف ، فوجب بيانه ، وإن أجرها للزرع مطاقاً صح ، وله زرع ما شاء ، لأنه يجوز أن يستأجرها لأعظم الزرع ضرراً ، فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه ، ودخل فيه ما دونه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ لتزرعنها ما شئت ، فهو أولى بالصحة ، لتصريحه بذلك ‏.‏ وإن اكتراها لزرع معين ، فله زرعه ومثله في الضرر ودونه ، لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة الأرض ، فلم يتعين ، كما لو اكترى للسكنى ، كان له أن يسكن غيره ‏.‏ وإن قال ‏:‏ لتزرعها أو تغرسها لم يصح ، لأنه لم يعين ، أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين ‏.‏ وإن قال ‏:‏ لتزرعها وتغرسها ما شئت ، صح، وله ما شاء منهما ، لأنه جعلهما له ، فملكهما كالنوع الواحد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اكترى ظهراً للركوب ، اشترط معرفته ، برؤية أو يصح بيعه بهما ، وذكر المهملج والقطوف من الخيل ، لأن سيرهما يختلف ، ومعرفة ما يركب به من سرج أو غيره ، لأنه يختلف بالمركوب والراكب ، ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية والأنوثية ، لأن التفاوت بينهما يسير ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يفتقر إلى معرفته لتفاوتهما ‏.‏ ولا بد من معرفة الراكب برؤية أو صفة ، ذكره الخرقي ، لأن الصفة تكفي في بيع مثله ، وقال الشريف ‏:‏ لا يجزئ فيه إلا الرؤية ، لأن الصفة لا تأتي عليه ‏.‏ ولا بد من معرفة المحامل والأغطية ، والأوطئة والمعاليق ، كالقدر والسطيحة ونحوهما ، إما برؤية أو صفة أو وزن ‏.‏ وإن اكترى ظهراً لعمل في مدة ، كالحراثة والدياس والسقي والطحن ، اشترط معرفة الظهر بالتعيين أو الصفة ، لأن العمل يختلف باختلافه ‏.‏ وإن استأجره على عمل معين ، كحراثة قدر من الأرض ، ودياس زرع معين ، وطحن قفزان معلومة ، لم يحتج إلى معرفة الظهر، لأنه لا يختلف ‏.‏ ويحتاج في الطحن إلى معرفة الحجر ، وفي السقي إلى معرفة البئر ، والدولاب ، لأنه يختلف ‏.‏ وإن اكترى لحمل متاع ، لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر ، لعدم الغرض في معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة ، فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه ، لأن ضرره يختلف ، وقدره بالوزن إن كان موزوناً ، أو بالكيل إن كان مكيلاً ، لأن البيع يصح بكلا الطريقين ‏.‏ وإن ذكر وزن المكيل ، ، فهو أحصر ‏.‏ ، وإن دخلت الظروف في وزن المتاع ، استغني عن ذكرها ، وإن لم تدخل وكانت معروفة لا تختلف كثيراً ، صح من غير تعيينها ، لأن تفاوتها يسير ، وإن اختلفت كثيراً ، اشترط معرفتها بالرؤية ، أو الصفة لذلك ، ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء ، لم يصح ، لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة، وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها ، لم يصح ، لأنه لا ضابط له ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن استأجر راعياً مدة ، صح ، لأن موسى عليه السلام أجر نفسه لرعاية الغنم ثماني سنين ‏.‏ ويشترط معرفة الحيوان ، لأن لكل جنس تأثيراً في إتعاب الراعي ، ويجوز أن يكون على معين ، وعلى موصوف في الذمة ، فإن كان على موصوف في الذمة اشترط ذكر العدد ، لأن العمل يختلف به ‏.‏ وإن استأجر ظئراً ، اشترط معرفة الصبي بالتعيين ، لأن الرضاع يختلف به ، ولا تأتي عليه الصفة ‏.‏ وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً ، أو نهراً ، اشترط معرفة الأرض ، لأن الغرض يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض ، والعمق ، لأن الغرض يختلف بذلك كله ‏.‏ وإن استأجره لبناء حائط ، اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه ، وآلته من لبن أو طين أو غيره ، لأن الغرض يختلف بذلك كله ‏.‏ وإن استأجره لضرب لبن ، اشترط معرفته الماء والتراب والطول والسمك والعرض والعدد ‏.‏ وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها ‏.‏ فإن كان في ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه ، رجع فيه إلى أهل الخبرة به ، ليعقد على شرطه ، كما لو أراد النكاح ، من لا يعرف شروطه ، رجع إلى من يعرفه ليعرفه شروطه ‏.‏ وإن عجز عن معرفته ، وكل فيه من يعرفه ليعقده ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط معرفة قدر المنفعة ، لأن الإجارة بيع ، والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر ، ولمعرفتها طريقان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تقدير العمل ، كخياطة ثوب معين ، والركوب ، أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين ‏.‏

والثاني ‏:‏ تقدير المدة كسكنى شهر ، فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل ، كالتطيين والتجصيص ، فإن مقداره يختلف في الغلظ والرقة ‏.‏ وما يروي الأرض من الماء ، يختلف باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء ‏.‏ وما يشبع الصبي في الرضاع ، يختلف باختلاف الصبيان ، والأحوال ، والسكنى ونحوها ، فلا يجوز تقديره إلا بالمدة ، لتعذر تقديره بالعمل ‏.‏ وما يتقدر بالعمل ، كاستئجار الظهر للحرث والحمل والطحن والدياس ، والعبد للخدمة ، جاز تقديره بالعمل ، فإن شرط تقديره بالعمل والمدة فقال ‏:‏ استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر ، لم يصح ، لأنه إن حرثها في أقل من شهر ، أو فرغ الشهر قبل حرثها ، فطولب بتمام ما بقي ، كان زيادة على المشروط ‏.‏ وإن لم يتمم ، كان نقصاً ‏.‏ وعن أحمد ما يدل على الصحة ، لأن الإجارة معقودة للعمل ، والمدة مذكورة للتعجيل ، فجاز كالجعالة ‏.‏ ويشترط فيما قدر بمدة ، معرفة المدة ، لأنها الضابطة للمعقود عليه ، فإن قدرها بسنة أو شهر ، كان ذلك بالأهلة ، لأنها المعهودة بالشرع ، فوجب حمل المطلق عليها ، فإن كان ذلك في أثناء شهر ، عد باقيه ، ثم عد أحد عشر شهراً بالهلال ، ثم كمل الأول بالعدد ثلاثين يوماً ، لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل بالعدد ، وحكي فيه رواية أخرى ‏:‏ أنه يستوفي الجميع بالعدد ، لأنه يجب إتمام الشهر مما يليه، فيصير ابتداء الثاني في أثنائه ، وكذلك ما بعده ‏.‏ وإن عقد على سنة رومية ، وهي ‏:‏ ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع ، وهما يعلمان ذلك ، جاز ، وإن جهلاها أو أحدهما ، لم يصح ، لأن المدة مجهولة عنده ‏.‏ والحكم في مدة الإجارة ، كالحكم في مدة السلم على ما مضى فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وتجوز الإجازة مدة لا تلي العقد ، مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر ، سواء كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر ، أو غيره ، لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها ، فجاز عليها مفردة ، كالتي تلي العقد ، ويحتاج إلى ذكر ابتدائها ، لأنها أحد طرفي المدة ، فاحتيج إلى معرفتها كالانتهاء ، فإن كانت تلي العقد فابتداؤها منه ، ولا يحتاج إلى ذكرها ، لأنها معلومة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ أجرتكما كل شهر بدرهم ، فالمنصوص أنه صحيح ، وذهب إليه الخرقي والقاضي ‏.‏ لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد ، لأنه معلوم يلي العقد وأجرته معلومة ، وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به ، ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر ، لأن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة ، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه ، وذهب أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى بطلانه ، لأن العقد على كل الشهور ، وهي مبهمة مجهولة ، فلم يصح ، كما لو جعل أجرتها في الجميع شيئاً واحداً ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجر ، لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره كالبيع ‏.‏ ويشترط أن تكون معلومة لذلك ، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع ، ويشترط أن تكون معلومة لذلك ، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع ، وفي وجه آخر ، لا بد من ذكر قدره وصفته ، لأنه ربما انفسخ العقد ، ووجب رد عوضه بعد تلفه ، فاشترط معرفة قدره ليعلم بكم يرجع ، كرأس مال السلم ، وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم ‏.‏ وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة ، لأن الإجارة كالبيع ، وذلك جائز فيه ، فإن أطلق العقد وجبت به حالة ، ويجب تسليمها بتسليم العين ، لأنها عوض في معاوضة ، فتستحق بمطلق العقد كالثمن ‏.‏ وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة ، استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ولأنه أحد العوضين ، فلزم تسليمه عند تسليم الأجر كالبيع ، وإن شرطا تأجيلها ، جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجوز لأنه عوض في الإجازة ، فجاز تأجيله ، كما لو كان على عين ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجوز ، لأنه عقد على ما في الذمة ، فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته ، سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رحم الله أخي موسى ، أجر نفسه ثماني سنين ، على طعام بطنه وعفة فرجه رواه ابن ماجة ولأن العادة جارية به من غير نكير ، فأشبه الإجماع ‏.‏ فإن قدر الطعام والكسوة ، فحسن ، وإن أطلق ، جاز ‏.‏ ويرجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة ، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ، ولأن لذلك عرفاً في الشرع ، فحمل الإطلاق عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا استوفى المنفعة ، استقرت الأجرة ، لأنه قبض المعقود عليه ، فاستقر بدله ، كما لو قبض المبيع ‏.‏ وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها ، استقرت الأجرة عليه ، لأن المعقود عليه تلف تحت يده ، وإن عرض عليه العين ومضت مدة ، يمكن الاستيفاء فيها ، استقرت الأجرة ، لأن المنافع تلفت باختياره ، فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري ، وإن كان العقد على عمل في الذمة ، لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل ، لأنه عقد على ما في الذمة ، فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسداً ، لم يستقر ببذل التسليم ، كما لا يستقر المبيع ، ويجب باستيفائها ، لأنه استوفاها بشبهة عقد ‏.‏ وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يجب شيء ، لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها ، فلم يجب العوض كالنكاح ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجب أجر المثل ، لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل ، فكذلك الإجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً ، يتعاقبان عليه ، وأن يكتري الرجل عقبة يركب في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوماً ، لأنه يجوز العقد على جميعه ، فجاز على بعضه ، كالزمان ، فإن كان في طريق فيه عادة في الركوب والنزول ، جاز العقد مطلقاً ، وحمل على العادة ، كالنقد في البيع ، وإن لم يكن فيه عادة ، اشترط بيان ما يركب ، لأنه غير معلوم ، ،فوجب بيانه كالثمن ‏.‏ وإن اختلفا في البادئ منهما ، أقرع بينهما لأنهما تساويا في الملك ، فقدم أحدهما بالقرعة ، كما في القسمة ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا دخل حماماً ، أو قعد مع ملاح في سفينة ، فعليه أجرهما وإن لم يعقدا معه إجارة ، لأن العرف جار بذلك ، فجرى مجرى الشرط ، كنقد البلد ‏.‏ وكذلك إن دفع ثوبه إلى خياط ، أو قصار ، منتصبين لذلك ، أو مناد ، أو رجل معروف بالبيع بالأجر ليبيعه ، فلهم أجر أمثالهم لذلك ‏.‏ وإن دفع كتاباً إلى رجل ليحمله إلى صاحب له بأجر ، فحمله فوجد صاحبه غائباً فله الأجر للذهاب ، لأنه فعل ما استأجره عليه ، وللرد ، لأنه بإذنه تقديراً إذ ليس سوى رده إلا تضييعه ، وقد علم أنه لا يرضى تضييعه ، فتعين رده ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا آجره مدة تلي العقد ، ،لم يجز شرط الخيار ، ، لأنه يمنع التصرف فيها أو في بعضها فينقص عما شرطاه ‏.‏ وفي خيار المجلس وجهان ‏:‏

أحدهما ، ‏:‏لا يثبت لذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ يثبت لأنه يسير ‏.‏ وإن كانت لا تلي العقد ، ثبت فيها الخياران لأنها بيع ولا مانع من ثبوته فيها ‏.‏ وكذلك إن كانت على عمل في الذمة ، أو على منفعة عين في الذمة ثبتا فيها لذلك‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏


باب ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه


وهي ‏:‏ عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها ، لأنها بيع فأشبهت بيوع الأعيان ، إلا أن يجد العين معيبة ، فيملك الفسخ بما يحدث من العيب ، لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا بالاستيفاء ، فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه ، فإن بادر المكتري إلى إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر، كدار تشعثت فأصلحها ، فلا خيار للمستأجر لعدم الضرر ، وإلا فله الفسخ ، فإن سكنها مع عيبها ، ،فعليه الأجرة علم أو لم يعلم ، لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيباً ، مع علمه به ، فلزمه البدل ، كالمبيع المعيب إذا رضيه ، وإن كان العقد على موصوف في الذمة فرد بعيب ، لم ينفسخ العقد ، ويطالب ببدله ، فإن تعذر بدله ، فله الفسخ ، لتعذر المعقود عليه ، كما لو وجد بالسلم عيباً فرده ‏.‏ والعيب ما تنقص به المنفعة ، كانهدام حائط الدار ، وتعيبه وانقطاع ماء بئرها أو تغيره ، وانقطاع ماء الأرض أو نقصه ، وتغير الظهر في المشي ، وعرجه الفاحش وربضه ، وكونه عضوضاً أو جموحاً ، وضعف بصر الأجير في الخدمة ومرضه ‏.‏ فأما كون الظهر خشن المشي ، فليس بعيب ، لأن المنفعة فيه كاملة ، وإن اختلفا في العيب ، رجع فيه إلى أهل الخبرة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن تلفت العين في يده ، انفسخت الإجارة ، كما لو تلف المكيل قبل قبضه ، وإن تلفت قبل مضي شيء من المدة فلا أجرة عليه ، لأنه لم يقبض شيئاً من المعقود عليه ‏.‏ وإن تلفت بعد مضي شيء منها ، فعليه من الأجرة بقدر ما استوفى ، ويسقط بقدر ما بقي ، فإن كان أجرها في بعض المدة أكثر ، قسمت على القيمة ، وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة ، لم تنفسخ بالتلف ، وله البدل كما لو تعيب ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اكترى أرضاً للزرع ، فانقطع ماؤها ، أو داراً فانهدمت ، انفسخ العقد في أحد الوجهين ، لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت ، فأشبه تلف العبد ‏.‏ والآخر ‏:‏ لا ينفسخ ، لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة ، أو يجمع فيها حطباً أو متاعاً ، لكن له الفسخ لأنها تعيبت ‏.‏ وإن ماتت المرضعة ، انفسخت الإجارة ‏.‏ وعن أبي بكر ‏:‏ لا تنفسخ ويجب في مالها أجر رضاعه والمذهب الأول ، لأن المعقود عليه تلف ، فأشبه تلف عبد الخدمة ‏.‏ وإن مات المرتضع ، انفسخ العقد ، لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه ، لأن غيره لا يقوم مقامه لاختلافهم في الرضاع ، ولذلك وجب تعيينه ‏.‏ ولم استأجر رجلاً ليقلع ضرسه فبرئ ، أو ليكحل عينه فبرئت ، أو ليقتص له فمات المقتص منه ، أو عفي عنه ، انفسخ العقد ، لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ ، كما لو تعذر بالموت ‏.‏ وإن استأجر للحج فمات ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تنفسخ الإجارة ، لأنه تعذر الاستيفاء بموته ، أشبه موت المرتضع ‏.‏

والثاني‏:‏ لا تنفسخ ويقوم وارثه مقامه ، كما لو كان المستأجر داراً ، وإن لم يمت لكن تلف ماله ، لم تنفسخ الإجارة ، لأن المعقود عليه سليم ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن غصبت العين المستأجرة ، فللمستأجر الفسخ ، لأن فيه تأخير حقه ، فإن فسخ ، فالحكم فيه كالفسخ بتلف العين ، وإن لم ينفسخ حتى انقضت المدة ، خير بين الفسخ والرجوع على المؤجر بالمسمى ، ويرجع المؤجر على الغاصب بأجر المثل ، وبين إمضاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل ، لأن المنافع تلفت في يد الغاصب ، فأشبه ما لو أتلف المبيع أجنبي ، وإن كان العقد على موصوف في الذمة ، طولب المؤجر بإقامة عين مقامها ، فإن تعذر ، فله الفسخ ، لأن فيه تأخير حقه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أجر نفسه ثم هرب ، أو اكترى عيناً ثم هرب بها ، فللمستأجر الخيار بين الصبر والفسخ ، لأن فيه تأخير حقه ، فأشبه ما لو اشترى مكيلاً فمنعه قبضه ، وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة ، استؤجر من ماله من يعمله ، كما لو هرب قبل تسليم المسلم فيه ، فإن لم يكن ، فللمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل ، كما لو تعذر تسليم المسلم فيه ‏.‏ وإن كانت الإجارة على مدة انقضت في هربه ، بطلت الإجارة ، لأنه أتلف المعقود عليه ، فأشبه ما لو باعه مكيلاً فأتلفه قبل تسليمه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أجر عبده ، ثم أعتقه ، لم تنفسخ الإجارة ، لأنه عقد على المنفعة فلم تنفسخ بالعتق ، كالنكاح ، ولا يرجع العبد بشيء ، لأن منفعته استحقت بالعقد قبل العتق ، فلم يرجع ببدله ، كما لو زوج أمته ، ثم أعتفها ، ونفقته على سيده ، لأنه يملك بدل منفعته ، فهو كالباقي على ملكه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أجر عيناً ، ثم باعها ، صح البيع ، لأنه عقد على المنفعة فلم يمنع البيع كالنكاح ، ولا تبطل الإجارة قياساً على النكاح ، وإن باعها من المستأجر ، صح لذلك ‏.‏ وفي الإجارة وجهان‏:‏

أحدهما ‏:‏ تبطل لأنها عقد على المنفعة ، فأبطلها ملك الرقبة كالنكاح ، فعلى هذا يسقط من الأجرة بقدر ما بقي من المدة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تبطل لأنه عقد على الثمرة ، فلم تبطل بملك الأصل ، كما لو اشترى ثمرة شجرة ثم ملك أصلها ‏.‏ ومتى وجد المستأجر عيباً ففسخ به ، رجع على المؤجر ، لأن عوض الإجارة له ، فالرجوع عليه ، وإن كان المستأجر هو المشتري فكذلك ، إن قلنا ‏:‏ لا تنفسخ الإجارة ، وإن قلنا ‏:‏ تنفسخ ، لم يرجع على أحد ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين ، ولا موت أحدهما ، لأنه عقد لازم ، ،فلا يبطل بموت المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه كالبيع ‏.‏ وإن أجر عيناً موقوفة عليه ، ثم مات ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا تبطل لأنه أجر ما له إجارته شرعاً ، فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه ، ولكن يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجر المدة الباقية ، إن كان قبضها ، لأن المنافع لهم فاستحقوا أجرتها ‏.‏

والثاني ‏:‏ تبطل فيما بقي من المدة ، لأننا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره ، فإن المنافع بعد موته لغيره بخلاف المالك ، فإن ورثته إنما يملكون ما خلفه ، وما خرج عن ملكه بالإجارة في حياته ، غير مخلف فلم يملكوه ، والأمر إلى من انتقل إليه الوقف في إجارته أو تركه ، فعلى هذا يرجع المستأجر على المؤجر بأجرة بقية المدة ‏.‏ وإن أجر الولي الصبي ، أو ماله مدة في أثنائها ففيه وجهان أيضاً كهذين ‏.‏
باب ما يلزم المتكارين وما لهما فعله


يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين ،من الانتفاع ،كمفتاح الدار ،وزمام الجمل والقتب والحزام ،ولجام الفرس وسرجه ،لأن عليه التمكين من الانتفاع،ولا يحصل إلا بذلك ،وما تلف من ذلك في يد المكتري ،لم يضمنه ،كما لا يضمن العين ،وعلى المكري بدله ،لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري المنفعة ‏.‏ فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع ، كالحبل والدلو والمحمل والغطاء ، والحبل الذي يقرن به بين المحملين فهو على المكتري ، لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع فأشبه بسط الدار ‏.‏

فصل ‏:‏

وعلى المكري المحمل وحطه ، ورفع الأحمال وسوق الظهر وقوده ، لأن ذلك العادة ، فحمل العقد عليه‏.‏ وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض ، لأنه لا يمكن فعله راكباً ، وليس ذلك عليه للأكل والنفل ، لأنه ممكن على الظهر ، وعليه أن يبرك الجمل للمرأة وللمريض والضعيف ‏.‏ وإن كانت الإجارة على تسليم الظهر،لم يكن عليه شيء من ذلك ، فأما أجرة الدليل ، فإن كنت الإجارة على تحصيل الراكب في البلد فعلى المكري ، لأنه من مؤنة التحصيل ، وإن كانت على تسليم الظهر ، أو على مدة ، فهو على المكتري ، لأن الذي على المكري تسليم الطهر وقد فعل ‏.‏ وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش والبالوعة ، لأنه من التمكن ، فإن امتلأ في يد المتري ، فعليه كسحه ، لأنه ملأه فكان عليه إزالته ، كتنظيف الدار ‏.‏ وعلى المكري إصلاح ما إنهدم من الدار ، وتكسر من خشب ، لأنه من التمكين وإذا استأجر ظئراً للرضاع وشرط الحضانة ، وهي خدمة الصغير وغسل خرقه ، لزمها ، وإن لم يشترطه عليها ، لم يلزمها إلا الرضاع ، لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى ، فلم تلزمها إحداهما بالعقد على الأخرى ‏.‏ وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح له ، وللمكتري مطالبتها به ، لأنه من التمكين ، ويضر الصبي تركه ‏.‏

فصل ‏:‏

وعلى المكتري علف الظهر ، وسقيه ، لأنه من التمكين ، فإن هرب ، وترك جماله ، رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف ، فإن لم يجد له مالاً ، اقترض عليه ، فإن اقترض من المكتري ، أو أذن له في الإنفاق عليها قرضاً ، جاز ، لأنه موضع حاجة ‏.‏ وإن كان في الجمال فضل عن المكتري ، باعه وأنفق منه ، فإذا رجع الجمال ، أو اختلفا في النفقة ، فالقول قول المنفق ، لأنه أمين إذا كانت دعواه لقدر النفقة بالمعروف ، وما زاد لا يرجع به ، لأنه متطوع ،فإن أنفق من غير إذن الحاكم مع إمكانه ، وأشهد على ذلك ، فهل يرجع به ‏؟‏ على وجهين بناء على من ضمن دينه بغير ذلك ، وإن لم يجد من يشهد فأنفق ، ففي الرجوع وجهان ‏.‏ أصحهما‏:‏ يرجع به ، لأنه موضع ضرورة فأشبه ما لو أنفق على الآبق في رده ، وإذا وصل دفع الجمال إلى الحاكم ، ليوفي المنفق نفقته منها ، ويفعل في سائرها ما يرى الحظ فيه لصاحبها ، من بيعها وحفظ ثمنها ، أو بيع بعضها ، وإنفاقه على باقيها ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس على المكتري مؤنة رد العين ، لأنها أمانة ، فلم يلزم مؤنة ردها كالوديعة ، ويحتمل أن يلزمه ، لأنه غير مأذون له في إمساكها بعد انقضاء مدتها فلزمه مؤنة ردها كالعارية ‏.‏

فصل ‏:‏

وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف ، لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف ، فصار كالمشروط ، فإذا استأجر داراً للسكنى ، فله وضع متاعه فيها لأنه متعارف في السكنى ، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به لذلك ، وليس جعلها مخزناً للطعام ، لأنه غير متعارف وفيه ضرر ، لأن الفأر تنقب الحيطان للحصول إليه ، ولا يجوز أن يربط ، فيها الدواب ، ولا يطرح فيها الرماد التراب ، لأنه غير متعارف به ، وإن اكترى قميصاً ليلبسه ، لم يكن له أن ينام فيه ليلاً ، وله ذلك نهاراً ، لأن العادة الخلع لنوم الليل دون النهار ، وليس له أن يتزر به ، لأنه يعتمد عليه أكثر من البس ، وله أن يرتدي به في أحد الوجهين ، لأنه أخف ، والآخر ليس له ذلك ، لأنه غير متعارف في لبس القميص ‏.‏ وإن اكترى ظهراً في طريق ، العادة السير في زمناً دون زمن لم يسر إلا فيه ، لأنه المتعارف ، وإن كانت العادة النزول للرواح، وكان رجلاً قوياً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلزمه ذلك ، لأنه المتعارف ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يلزمه ، لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق ، فلم يلزمه تركه في بعضه ‏.‏ وإن اكتره إلى مكة ، لم يجز أن يحج عليه ، لأنه زيادة ، وإن اكتراه ليحج عليه فله الركوب إلى منى ، ثم إلى عرفة ، ثم إلى مكة ‏.‏ وهل له أن يركبه عائداً إلى منى ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يجوز ، لأنه قد حل من الحج ‏.‏

والثاني ‏:‏ له ذلك ، لأنه من تمام الحج ‏.‏

فصل ‏:‏

وله ضرب الظهر ، وكبحه باللجام ، وركضه برجله للمصلحة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب جمل جابر حين ساقه ، ولأنه لا يتوصل إلى استيفاء المنفعة إلا به ، فملكه كركوبه ‏.‏ وإن شرط حمل أرطال من الزاد ، فله إبدال ما يأكل ، لأن له غرضاً في أن يشتري الزاد من الطريق ، ليخفف عليه حمله فملك بدله ، كالذي يشرب من الماء ‏.‏

فصل ‏:‏

وله أن يستوفي النفع المعقود ومثله ودونه في الضرر ، ولا يملك فوقه ، ولا ما يخالف ضرر ضرره،لأنه يأخذ فوق حقه ، أو غير حقه ‏.‏ فإن اكترى ظهراً في طريق ، فله ركوبه في ذلك البلد في مثله ، ودونه في الخشونة ، والمسافة والمخافة ، ولا يركبه في أخشن منه ، ولا أبعد ، ولا أخوف ‏.‏ وإن اكترى أرضاً للغراس والبناء ، فله زرعها ، لأنه أقل ضرراً ، وإن استأجره لأحدهما لم يملك الآخر ، لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر ، وإن استأجرها للزرع لم يغرس ، ولم يبين ، لأنهما أضر منه ،وإن استأجرها لزرع الحنطة ، فله زرعها ، وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى، كالشعير ، والبقلاء ، ولا يملك زرع الدخن والذرة والقطن ، لأن ضررها أكثر ، وإن اكترى ظهراً ليحمل عليه قطناً ، لم يجز ليحمل عليه حديداً ، لأنه أضر على الظهر لاجتماعه وثقله ، وإن اكتراه للحديد ، لم يحمل عليه قطناً ، لأنه أضر لتجافيه ، وهبوب الريح فيه ، وإن اكتراه ليركبه ، لم يحمل عليه ، لأن الراكب يعين الظهر بحركته ، وإن اكتراه للحمل ، لم يملك ركوبه ، لأن الراكب يقعد في موضع واحد ، والحمل يتفرق على جنبيه ، وإن شرط ركوبه عرياناً ، لم يركب بسرج ، لأنه زيادة ، وإن شرط ركوبه بسرج ، لم يركبه عرياناً ، لأنه يضر بظهر الحيوان ، والعارية كالإجار في هذا ، لأنها تمليك للمنفعة ، فأشبهت الإجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبمثله ، فإن اكترى داراً ، فله أن يسكنها مثله ، ومن هو دونه في الضرر ، ولا يسكنها من هو أضر منه ، وإن اكترى ظهراً يركبه ، فله أن يركبه مثله ، ومن هو أخف منه ، لما ذكرنا في الفصل قبله ، فإن شرط لا يستوفي المنفعة بنفسها ، ولا يستوفي مثلها ، ولا دونها ، ولا يستوفيها بمثله ، ولا بدونه ، صح الشرط ، لأنه يملك المنافع ، فلا يملك إلا ما ملكه ، ويحتمل أن لا يصح ، لأنه ينافي ، موجب الإجارة ، ولا يبطل العقد ، لأن الشرط لا يؤثر المؤجر ، فلغي ويبقي العقد على مقتضاه ‏.‏

فصل ‏:‏

وله أن يؤجر العين ، لأن الإجارة كالبيع ، وبيع المبيع جائز ، وكذلك إجارة المستأجر، ويجوز أن يؤجرها للمؤجر وغيره ، كما يجوز بيع المبيع للبائع وغيره ،فإن أجرها قبل قبضها ، لم يجز ، ذكره القاضي ، لأنها لم تدخل في ضمانه ، فلم تجز إجارتها ، كبيع الطعام قبل قبضه ، ويحتمل الجواز ، لأن المنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين ، فلم يؤثر قبض العين فيها ، ويحتمل أن تجوز إجارتها للمؤجر ، لأنها في قبضه ، ولا تجوز من غيره لعدم ذلك ، وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة ، كالبيع برأس المال وزيادة ، وعنه ‏:‏ إن أحدث في العين زيادة ، جازت أجرتها بزيادة ، وإن لم يفعل لم يؤجرها بزيادة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن ، فإن فعل تصدق بالزيادة ، وعنه ‏:‏ يجوز بإذن المالك ، ولا يجوز بغير إذنه ، والمذهب الأول ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن استوفى أكثر من المنفعة بزيادة متميزة مثل إن اكترى إلى مكان ، فجاوزه ، أو ليحمل قفيزاً فحمل اثنين لزمه المسمى ، لما عقد عليه ، وأجرة المثل للزيادة ، لأنه استوفى المعقود عليه ، فاستقر المسمى ولزمته أجرة الزيادة ، كما لو اشترى قفيزاً ، فقبض اثنين ، وإن كانت الزيادة لا تتميز ، كرجل اكترى أرضاً ليزرع حنطة فزرع دخناً فكذلك قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ، ما بين الحنطة والشعير ، فيعطي رب الأرض ، فأوجب المسمى وزيادة ، لأنه لما عين الحنطة تعلق العقد بما يماثله في الضرر ، فصار مستوفياً للمعقود عليه وزيادة كالتي قبلها ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ عليه أجرة المثل للجميع ، لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره ، فلزمته أجرة المثل ، كما لو زرع غير الأرض ، ولرب الأرض منع المستأجر من زرع الأرض ، فإن زرع فحكمه في ذلك في حكم الغاصب على ما سيأتي ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اكترى أرضاً للزرع مدة ، فليس له زرع ما لا يستحصد فيها ، لأن عليه تسليمها ، فارغة عند انتهائها ، وهذا يمنع ذلك ، وللمالك منعه من زرعه لذلك ، فإن فعل ، لم يجز ، على قلعه في المدة ، لأنه مالك لمنفعة الأرض ، فإذا انقضت ولم يحصد ، خير المالك بين أخذه ، ودفع نفقة ، وبين تركه بالأجرة لأنه تعدى بزرعه ، فأشبه الغاصب ‏.‏ وإن كان بقاؤه بغير تفريط ، إما لشدة برد ، أو قلة مطر ونحوه ، فعلى المؤجر تركه بالأجرة ، لأنه زرعه بحق ، فكان عليه المسمى للمدة، وأجرة المثل للزائد لا غير ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اكتراها لمدة ليزرع فيها زرعاً لا يكمل فيها ، وشرط قلعه في آخرها ، صح العقد والشرط ، لأنه قد يكون له غرض صحيح فيه ، وإن شرط تبقيته حتى يكمل فسد العقد لجهل المدة، ولأن شرط تبقيته تنافي تقدير مدته ، وللمؤجر منعه من الزرع ، لأن العقد فاسد ، فإن زرعه ، لزم إبقاؤه بشرطه ، لأنه زرعه بإذن المالك ‏.‏ وإن أطلق العقد ، صح ، لأن الانتفاع بالأرض في هذه المدة ممكن ، فإذا انقضت ، والزرع باق ، احتمل أن يكون حكمه حكم المفرط لزرع في مدة الإجارة ما لا يكمل فيها ، واحتمل أن يكون حكمه حكم غير المفرط لتفريط المؤجر بإجارة مدة لا يكمل فيها‏.‏

فصل ‏:‏

وأن استأجرها للغراس مدة ، جاز ، وله الغرس فيها ، ولا يغرس بعدها ، لأن العقد ، يقتضي التصرف في المدة دون ما بعدها ، فإن غرس ، فانقضت المدة ، وكان مشروطاً عليه القلع عند انقضائها ، أخذ بما شرطه ، ولم يلزمه تسوية الحفر ، لأنه لما شرط القلع ، مع علمه بأنه يحفر الأرض كان راضياً ، وإن لم يكن شرط القلع ، لم يجب ، لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة ، والعادة ترك الغراس حتى ييبس ، وللمستأجر قلع غرسه ، لأنه ملكه ، فإن قلعه ، لزمه تسوية الحفر ، لأنه حفرها لتخليص ملكه من ملك غيره بغير إذنه ، وإن لم يقلعه ، فللمؤجر دفع قيمته ليملكه ، لأن الضرر يزول عنهما به ، أشبه الشفيع في غراس المشتري ، وإن أراد قلعه ، وكان لا ينقص بالقلع ، أو ينقص لكنه يضمن ، أرش النقص ، فله ذلك ، لأن الضرر يزول عنهما به ، وإن اختار إقراره بأجرة مثله ، فله ذلك ، لأن الضرر يزول عنهما به ، ولصاحب الشجر بيعه لمالك ولغيره ، فيكون بمنزلته ، لأن ملكه ثابت عليه ،فأشبه النقص المشفوع ، والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا ‏.‏


باب تضمين الأجير واختلاف المتكاريين


الأجير على ضربين ‏:‏ خاص ومشترك ، فالخاص ‏:‏ هو الذي يؤجر نفسه مدة ، فلا ضمان عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط ، مثل أن يأمره بالسقي ، فيكسر الجرة ، أو بكيل شيء ، فيكسر الكيل ، أو بالحرث ، فيكسر آلته نص عليه ، أو بالرعي ، فتهلك الماشية بغير تفريطه ‏.‏ والمشترك ‏:‏ الذي يؤجر نفسه على عمل ، فظاهر كلام الخرقي ، أنه يضمن ما تلف بعمله ، ونص عليه أحمد رضي الله عنه في حائك دفع إلى غزل ، فأفسد حياكته يضمن ‏.‏ والقصار ضامن لما يتخرق من مده ودقه وعصره وبسطه ، والطباخ ضامن لما أفسد من طبخه ، لما روى جلاس بن عمرو أن علياً رضي الله عنه كرم الله وجهه ‏:‏ كان يضمن الأجير ، ولأنه قبض العين لمنفعة من غير استحقاق ، فكان ضامناً لها كالمستعير ، وقال القاضي وأصحابه ‏:‏ إن كان يعمل في ملك المستأجر ، كخياط أو خباز ، أخذه إلى دار ليستعمله فيها ، فلا ضمان عليه ما لم يتعد فيه ، مثل أن يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته ، أو يتركه بعد وقته فيضمن ، لأنه أتلفه بعدوانه ، وما لا فلا ضمان عليه ، لأنه سلم نفسه لصاحب العمل ، فأشبه الخاص ، وإن كان العمل في غير ملك المستأجر ، ضمن ما جنت يداه لما ذكرناه ، ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه ، لأنها أمانة في يده ، فأشبه المودع ، وإن حبسها على أجرتها فتلفت ، ضمنها ، لأنه متعد بإمساكها إذ ليست رهناً ولا عوضاً عن الأجرة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا ضمان على المستأجر في عين المستأجرة إن تلفت بغير تفريط ، لأنه قبضها ليستوفي ما ملكه فيها ، فلم يضمنها كالزوجة ، والنخلة التي اشتراها ليستوفي ثمرتها ، وإن تلفت بفعله بغير عدوان ، كضرب الدابة وكبحها ، لم يضمن ، لأنها تلفت من فعل مستحق ، فلم يضمنها ، كما لو تلفت تحت الحمل ، وإن تلفت بعدوان ، كضربها من غير حاجة ، أو لإسرافه فيه ، ضمن ، لأنه جناية عن مال الغير ، وإن اكترى إلى مكان ، فتجاوزه ، فهلك الظهر ، ضمنه ، لأنه متعد ، أشبه الغاصب ‏.‏ وإن هلك بعد نزوله عنه ، وتسليمه إلى صاحبه ، لم يضمنه ، لأنه برئ بتسليمه إليه إلا أن يكون هلاكه ، لتعب الحمل فيضمنه ، لأنه هلك بدونه ‏.‏ وإن حمل عليه أكثر مما استأجره ، فتلف ، ضمنه لذلك ، وإن اكترى دابة ليركبها فركب معه آخر بغير إذن فتلف ، ضمانها الآخر كلها ، لأن عدوانه سبب تلفها فضمنها ، كمن ألقى حجراً في سفينة موقرة فغرقها ، وإن تلفت الدابة ، بعد عودها إلى المسافة ، ضمنها ، لأن يده صارت ضامنة ، فلم يسقط عنه ذلك إلا بإذن جديد ، ولم يوجد ‏.‏

فصل ‏:‏

ولو قال لخياط ‏:‏ إن كان هذا يكفيني قميصاً فاقطعه فقطعه ، فلم يكفه ، ضمنه ، لأن إنما أذن له في قطعة بشرط الكفاية ولم يوجد ، وإن قال ‏:‏ هو يكفيك قميصاً فقال ‏:‏ اقطعه ، فقطعه ، فلم يكفه ، لأنه قطعه بإذن مطلق ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن أجر عيناً فامتنع من تسليمها فلا أجرة له ، لأنه لم يسلم المعقود عليه ، فلم يستحق عوضه ، كالمبيع إذا لم يسلمه ، وإن سلمه بعض المدة ، ومنعه بعضاً ، فقال أصحابنا ‏:‏ لا أجرة له ، لأنه لم يسلم ما تناوله العقد ، فأشبه الممتنع عن تسليم الجميع ، ويحتمل أن يلزمه عوض ما استوفاه ، كما باعه مكيلاً فسلم إليه بعضه ، ومنعه من باقيه ‏.‏ وإن أجر نفسه على عمل ، وامتنع من إتمامه ، فكذلك ، وإن أجر عبده فهرب ، أو دابة فشردت في بعض المدة فله من الأجرة بقدر ما استوفي من المدة ، لأن الامتناع بغير فعله ، فأشبه ما لو مات ‏.‏ وإن تلف الثوب في يد الصانع بغير تفريطه ، فلا أجرة له فيما عمل ، لأنه لم يسلمه إلى المستأجر ، فلم يستحق عوضه ، وإن تلف بتفريطه خير المالك بين تضمنه إياه معمولاً ، ويدفع إليه أجرته ، وبين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له ، وإن استأجر الأجير المشترك أجيراً خاصاً ، فأتلف الثوب ، فلا ضمان على الخاص ، ويضمنه المشترك ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا ختلف المتكاريان في قد الأجرة أو المنفعة ، تحالفا ، لأنه عقد معاوضة ، أشبه البيع ، ثم الحكم في فسخ الإجارة ، كالحكم في فسخ البيع ، لأنها بيع ،وإن اختلفا ، في العدوان ، فالقول قول المستأجر ، لأن الأصل عدم العدوان ، والبراءة من الضمان ،وإن اختلفا في رد العين ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ القول قول المؤجر ، لأن الأصل عدم الرد ، ولأن المستأجر قبض العين لنفسه ،أشبه المستعير‏.‏

والثاني ‏:‏ القول قول الأجير، لأنه أمين ، فأشبه المودع وإن هلكت العين ، فقال الأجير ‏:‏ هلكت بعد العمل فلي الأجرة ، فأنكره المستأجر ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدم العمل ‏.‏ وإن دفع ثوباً إلى خياط ، فقطعه قباء ، وقال ‏:‏ بهذا أمرتني ، فلي الأجرة ، ولا ضمان علي وقال صاحبه ‏:‏ إنما أمرتك بقطعه قميصاً ، فالقول قول الأجير ، نص عليه ، لأنه مأذون له في القطع ، والخلاف في صفته ، فكان القول قول المأذون له كالمضارب لأن الأصل عدم وجوب الغرم ، فكان القول قول من ينفيه ، ويتخرج أن يقبل قول المالك ، لأن والقول قوله في أصل الإذن ، فكذلك في صفته ، ولأن الأصل عدم ما ينفيه ، فكان القول قوله فيه ‏.‏


باب الجعالة


وهي أن يجعل جعلاً لمن يعمل له عملاً من رد آبق أو ضالة ، أو بناء ، أو خياطة ، وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال فيجوز ذلك ، لقول الله تعلى ‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏ ولما روى أبو سعيد أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حياً من أحياء العرب ، فلم يقروهم ، فبينا هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك ، فقالوا‏:‏ هل فيكم من راق ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ لم تقرونا فلا نفعل ، أو تجعلوا لنا جعلاً ، فجعلوا لهم قطيع شياه ،فجعل رجل يقرأ بأم القرآن ، ويجمع بزاقة ويتفل فبرئ الرجل ، فأتوه بالشياه ، فقالوا ‏:‏ لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي منها بسهم ‏.‏متفق عليه ‏.‏ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها ، فجاز كالإجارة ‏.‏ ويجوز عقد الجعالة لعامل غير معين ، وعمل مجهول ، فيقول ‏:‏ من رد ضالتي فله كذا للآية ،ولأن الحاجة داعية إليه مع الجهل ، فجاز كالمضاربة ‏.‏ ولا يجوز إلا بعوض معلوم ، لأنه عقد معاوضة ، فاشترط العلم بعوضه كالإجارة ، فإن شرط مجهولاً فسد ، وله أجرة المثل ، لأنه عقد يجب المسمى في صحيحه ، فوجبت أجرة المثل في فاسده كالإجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

وهي عقد جائز ، لأنها تنعقد على مجهول ، فكانت جائزة كالمضاربة ، وأيهما فسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل ، وإن فسخه العامل قبل تمام العمل ، فلا شيء له ، إنما يستحق بعد الفراغ من عمله وقد تركه ، وإن فسخ الجاعل بعد التلبس به ، فعليه أجرة ما عمل العامل ، لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له ، وإن تم العمل ، لزم العقد ووجب الجعل ، لأنه استقر بتمام العمل ، فأشبه الربح في المضاربة ، وإن زاد في الجعل ، أو النقص منه قبل الشروع في العمل ، جاز ، لأنه عقد جائز ، فجازت الزيادة فيه والنقصان قبل العمل كالمضاربة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يستحق الجعل إلا بعد فراغه من العمل ، لأنه كذا شرط ، وإن جعل له جعلاً على رد آبق فرده إلى باب الدار ، فهرب ، أو مات قبل تسليمه لم يستحق شيئاً ، لأنه لم يأت بما جعل الجعل فيه ، وإن قال ‏:‏ من رده من مصر فله دينار ، فرد من نصف طريقها ، أو قال ‏:‏ من رد عبدي ، فله دينار ، فرد أحدهما ، فله نصف الدينار ، لأنه عمل نصف العمل ، وإن رده من أبعد من مصر ، لم يستحق إلا الدينار ، لأنه لم يضمن لما زاد شيئاً ‏.‏ وإن رده جماعة اشتركوا في الدينار ، لأنهم اشتركوا في العمل ‏.‏ فإن جعل لواحد في رده ديناراً ، ولآخر اثنين ، ولآخر ثلاثة ، فلكل واحد منهم ثلث جعله ‏.‏ وإن جعل لواحد منهم ثوباً ، فله ثلث أجرة المثل ، لأنه عوض مجهول ، فاستحق ثلث أجرة المثل ، وإن جعل لواحد جعلاً ، فأعانه آخر ، فالجعل كله للمجعول له ، لأن العمل كله له ‏.‏ فإن قال الآخر ‏:‏ شاركته لأشاركه في الجعل ، فللعامل نصف الجعل ، لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للآخر ، لأنه لم يشرط له شيء ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن عمل لغيره عملاً بغير جعل ، فلا شيء له ، لأنه بذل منفعته بغير عوض ، فلم يستحقه ، وإن التقط لقطة قبل الجعل ، ثم بلغه الجعل لم يستحقه ، لأنه وجب عليه ردها بالتقاطها ، فلم يجز له أخذ العوض عن الواجب ، وإن التقطها بعد الجعل ، ولم يعلم بذلك لم يستحقه ، لأنه تطوع بالالتقاط ‏.‏ وإن نادى غير صاحب الضالة ‏:‏ من ردها ، فله دينار ، فردها رجل ، فالدينار على المنادي ، لأنه ضمن العوض وإن قال في النداء ‏:‏ فال فلان ‏:‏ من رد ضالتي فاله دينار ، فردها رجل ، لم يضمن المنادي ، لأنه لم يضمن ، إنما حكى قول غيره ‏.‏

فصل

وإن اختلفا في الجعل أو في قدره ، أو في المجعول فيه الجعل ، فالقول قول المالك ، لأنه منكر ما يدعى عليه والأصل عدمه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن رد آبقاً من غير شرط ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما‏:‏ لا جعل له فيما ذكرنا ‏.‏

والثانية‏:‏ له الجعل ، لأن ذلك يروى عن عمر ، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ‏.‏ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أنه جعل في الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً ‏.‏ ولأن في ذلك حثاً على رد الإباق ، وصيانة عن الرجوع إلى دار الحرب ، وردتهم عن دينهم ، فينبغي أن يكون مشروعاً ، وقدر الجعل ديناراً أو اثني عشر درهماً ، لما روينا ‏.‏ ولأن ذلك يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ أنه إن رده من خارج المصر فله أربعون درهماً ، وإن رده من المصر ، فله دينار، لأنه يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه وسواء كان ذلك كقيمة العبد أو أقل أو أكثر ، فإن مات السيد ، استحق الجعل في تركته ‏.‏ وما أنفقه على الآبق في قوته ، رجع به على سيده ، سواء رده أو هرب منه في بعض الطريق ‏.‏


باب المسابقة


تجوز المسابقة على الأقدام والدواب وبالسهام والحراب والسفن وغيرها ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ‏:‏ ‏(‏‏(‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع ، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ‏)‏‏)‏ متفق عليه ‏.‏ وسابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها على قدميه ، وسابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار بين يديه ، ومر النبيصلى الله عليه وسلم بقوم يربعون حجراً أي يرفعونه بأيديهم ليعلم الشديد منهم فلم ينكر عليهم ‏.‏ ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر رواه أبو داود ‏.‏ فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعاً بينه وبين ما روينا ، والمراد بالحافر الخيل خاصة ، وبالخف الإبل ، وبالنصل السهام ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ليس من اللهو إلا ثلاث ‏:‏ تأديب الرجل فرسه ، وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ونبله ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر والفر والقتال ، وغير السهام لا يعتاد الرمي بها ، فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس ‏.‏

فصل ‏:‏

والمسابقة بعوض جعالة فيه ، لأنه عقد على ما لا لم يعلم القدرة على تسليمه ، فأشبه رد الآبق ، ولكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في المسابقة ، وما لم يظهر فضل أحدهما ، فإن ظهر ، فللفاضل الفسخ والنقصان والزيادة ولا يجوز للمفضول ، لئلا يفوت غرض المسابقة ، فإنه متى بان له أنه مسبوق ، فسخ ‏.‏ وذكر القاضي وجهاً آخر ، أنها عقد لازم ، لأن من شرطها العلم بالعوضين فكانت لازمة كالإجارة ‏.‏ ويجوز بذل العوض من بيت المال ، ومن السلطان ، ومن المتسابقين وآحاد الرعية ، لأنه إخراج مال لمصلحة ، فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله ، فإن بذل العوض فيها تحريض على التعلم ، والاستعداد للجهاد ‏.‏ ومن شرط العوض كونه معلوماً لما ذكرنا في الجعالة له ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تجوز المسابقة بين جنسين ، كالخيل والإبل ، لأن تفاضل الجنسين معلوم ‏.‏ فأما النوعان كالعربي والهجين ، والبختي والعرابي ، فقال القاضي ‏:‏ تجوز المسابقة بينهما ، لأن الجنس يشملهما ، فأشبها النوع الواحد ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ لا تصح ، لأنهما يختلفان في الجري عادة ، فأشبها الجنسين ‏.‏ وكذا الخلاف في المناضلة بنوعين من القسي ، كالعربي والفارسي وقوس الجرح النبل لذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط تعيين المركوبين ، لأن القصد جوهرهما ، وتعيين الراميين ، لأن القصد معرفة حذقهما ، ولا يعتبر تعيين الراكبين ولا القوسين ، لأنهما آلة للمقصود فلم يعتبر تعيينهما ، كسرج الدابة ‏.‏ ويعتبر تحديد المسافة ، لحديث ابن عمر ، ولأنهما إذا أجريا إلى غير غاية ، لم يؤمن أن يسبق أحدهما حتى يعطبا أو أحدهما ‏.‏ ولا يجوز إجراؤهما إلا بتدبير الراكبين ، لأنهما إذا جريا لأنفسهما ، تنافرا ولم يمضيا إلى الغاية ‏.‏ ولا يجوز أن يستبقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام ،فهو السابق ، لأن هذا لا ينضبط ، فإن الفرسين لا يقفان عند الغاية ليقدر ما بينهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا كان الجعل من غيرهم فقال ‏:‏ من سبق منكم ، فله عشرة ، صح ، فإن سبق واحد ، فهي له ، لأنه سبق ‏.‏ وإن سبق اثنان أو أكثر ، اشتركوا في السبق ، وإن جاء الكل معاً ، فلا شيء لهم ، لأنهم لا سابق فيهم ‏.‏ وإن جعل السبق للمصلي وحده ، أو فضله عن السابق ، لم يصح ، لأن كل واحد منهم يجتهد أن لا يسبق فيفوت الغرض ‏.‏ وكذلك إن جعل للسابق عشرة وللثالث أربعة ، ولم يجعل للمصلي شيئاً ، لم يصح ، لأن من عدا السابق يجتهد أن لا يسبق صاحبه ‏.‏ وإن سوى بين السابق والمصلي ، ولا ثالث معهما ، لم يصح لفوات الغرض به ‏.‏ وإن كان معهما ثالث نقص عنهما ، صح ، لأن كل واحد منهم يجتهد في أن لا يكون الثالث ‏.‏ وإن جعل للمجلي وهو الأول مائة ،وللمصلي وهو في الثاني تسعين ، وللمسلي وهو الثالث ثمانين ، وللتالي وهو الرابع سبعين ، وللمرتاح وهو الخامس ستين ، وللعاطف وهو السادس خمسين ، وللحظي وهو السابع أربعين ، وللمؤمل وهو الثامن ثلاثين ‏.‏ وللطيم وهو التاسع عشرين ، وللحظي وهو العاشر عشرة ، وللفسكل وهو الأخير خمسة ، صح ، لأن الغرض حاصل وكل واحد يجتهد في سبق الآخر ، لينال أعلى من رتبته ‏.‏ وإن جعل كل رتبة يشترك فيه جميع من بلغها ، احتمل أن يصح لذلك ، واحتمل أن لا يصح ، لأنه قد يشترك في السبق جماعة ، وينفرد المصلي فيفضلهم بكثرة ما جعل له فيفوت الغرض ‏.‏ وإن قال ‏:‏ من بلغ الغاية فله عشرة ، لم يكن ذلك مسابقة ، لأن مقصود المسابقة التحريض على السبق وتعلم الفروسية ، وهذا يفوت بالتسوية ، ولكنه جعالة محضة ، لأنه بذل العوض في أمر فيه غرض صحيح ‏.‏ وكذلك إن قال ‏:‏ ارم عشرة اسهم ، فإن كانت إصابتك أكثر من خطئك ، فلك كذا ، أو قال ‏:‏ إن أصبت بهذا السهم ، فلك كذا ، صح ولم يكن مناضلة لذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أخرج الجعل أحد المتسابقين ، جاز ، لأن فيهما من يأخذ ولا يعطي ، فلا يكون قماراً ‏.‏ فإن سبق من أخرج ، أحرز سبقه ، ولم يأخذ من صاحبه شيئاً ، وإن سبق الآخر ، أحرز الجعل ، لأنه سابق ‏.‏ وإن جاءا معاً فالجعل لصاحبه ، لأنه لا سبق فيهما ‏.‏ وإن أخرجا معاً ، لم يجز ، لأنه يكون قماراً ، لأنه ليس فيهما إلا من يأخذ إذا سبق ، ويعطي إذا سبق ، إلا أن يدخلا معهما ثالثاً يساوي فرسه فرسيهما ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق ، فليس بقمار ، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق، فهو قمار رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه مع وجود المحلل المكافئ فيهم من يأخذ ولا يعطي ، فيخالف القمار ‏.‏ فإن كان لا يكافئهما ، فوجوده كعدمه ، لأنه معلوم أنه لا يأخذ شيئاً ، وسواء كان المحلل واحداً أو اكثر ، والمسابقة بين اثنين أو حزبين ، لأن الغرض الخروج من القمار وقد حصل على أي صفة كان ‏.‏ فإذا تسابقوا فجاؤوا معاً ، أو جاء المستبقان معاً قبل المحلل ، أحرز كل واحد منهما سبقه ، ولا شيء للمحلل ، لأنه لم يسبق ولم يسبق أحدهما صاحبه ، وإن سبقهما المحلل أخذ سبقيهما ، لأنه سبقهما ، وإن سبق أحد المستبقين وحده ، أحرز السبقين لسبقه ، ولم يأخذ من المحلل شيئاً ، وإن سبق أحدهما مع المحلل ، أحرز المستبق سبق نفسه ، لأنه غير مسبوق ، وكان سبق الآخر بينه وبين المحلل نصفين ، لاشتراكهما في سبقه ‏.‏

فصل ‏:‏

وترسل الفرسان معاً من أول المسافة في حال واحدة ، ولا يجوز لأحدهما أن يجنب مع فرسه فرساً يحرضه على العدو ، ولا يصلح به ولا يجلب عليه ، لما روى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا جلب ولا جنب في الرهان رواه أبو داود وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا فإن استوى الفرسان في طول العنق فسبق أحدهما برأسه ، فهو سابق ‏.‏ وإن اختلفا في طول العنق ، أو كان بعيرين اعتبر السبق بالكتف ، فمن سبق به أو ببعضه ، فهو سابق ، ولا عبرة بالعنق ، وإن عثر أحدهما ، أو ساخت قوائمه في الأرض ، أو وقف لعلة ، فسبقه الآخر لم يحكم له بالسبق ، لأن سبقه إياه للعارض ، لا لفضل جريه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات أحد المركوبين ، بطلت المسابقة ، لأن العقد تعلق بعينه ، فأشبه تلف المعقود عليه في الإجارة ‏.‏ وإن مات الراكب ، لم تبطل ، لأنه غير المعقود عليه ، وللوارث أن يقوم مقامه ، وله أن لا يفعل ، لأن العقد حائز ، ومن جعله لازماً ، ألزمه ‏.‏ أن يقوم مقامه ، كالإجارة ‏.‏


باب المناضلة


وهي المسابقة بالرمي وتجوز بين اثنين وحزبين ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحاب له يتناضلون فقال ‏:‏ ارموا وأنا مع بني فلان ، فأمسك الآخرون ، فقالوا‏:‏ يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم فقال ‏:‏ ارموا وأنا معكم كلكم رواه البخاري ولأنه إذا جاز على اثنين ، جاز على ثلاثة كسباق الخيل‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط لصحتها شروط ثمانية ‏:‏

أحدهما ‏:‏تعيين الرماة ، لأن الغرض معرفة الحذق في الرمي ، فلا يتحقق مع عدم التعيين ، كسباق الخيل ، فإن عقد اثنان نضالاً على أن يكون مع كل واحد منهما ثلاثة لم يصح لذلك ‏.‏ وإن عقد جماعة نضالاً ليتناضلوا حزبين ، احتمل أن لا يصح ، لأن التعيين لا يتحقق قبل التفاضل ، وقال القاضي ‏:‏ يصح ويجعل لكل حزب رئيس ، فيختار أحدهما واحداً ، ويختار الآخر آخر كذلك حتى يتناضلوا ، فإن اختلقا في المبتدئ منهما بالخيار ، أقرع بينهما ، ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة ، لأنها ربما وقعت على الحذاق في أحد الحزبين ، ولا يجوز أن يجعل زعيم الحزبين واحداً ، لأنه قد يميل إلى أحدهما فتلحقه التهمة ، ولا يجوز أن يجعل الخيرة في تمييز الحزبين إلى واحد ، ولا يجوز أن يجعل إلى واحد ، والسبق عليه ، لأنه يختار الحذاق فيبطل معنى النضال ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثاني ‏:‏ تعيين نوع القسي ،لأن الأغراض تختلف باختلافها ، فقد يكون الرامي أحذق بنوع منه بالنوع الآخر ، وإن لم يكن في البلد إلا نوع واحد ، لم يحتج إلى التعيين ، لأن الإطلاق ينصرف إليه كالنقد ، فإن عقدا على نوع ، فأراد أحدهما أن ينتقلا إلى غيره ، أو ينتقل أحدهما ، لم يجز لما ذكرناه وإن عقدا على قوس بعينه ، فانتقل أحدهما إلى غيره من نوعه ، جاز لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان‏.‏ وإن شرط عليه أن لا ينتقل خرج على الوجهين فيما إذا شرط في الإجارة أن لا يستوفي المنفعة بمثله ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثالث ‏:‏ أن يرميا غرضاً ، وهو ما يقع فيه السهم المصيب من جلد أو ورق أو نحوه ، وإن قالا ‏:‏ السيف لأبعدنا رمياً لم يصح ، لأن القصد بالرمي الإصابة لا الإبعاد ، فلم يجز أخذ العوض من غير المقصود ، والسنة أن يكون لهما غرضان في هدفين متقابلين يرميان من أحدهما الآخر ، ثم يرميان من الآخر الأول ، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك كانوا يرمون ، فروي عن حذيفة ، وابن عمر أنهما كانا يشتدان بين الغرضين إذا أصاب أحدهما خصلة قال ‏:‏ أنا بها في قميص ‏.‏ رواه سعيد ‏.‏ ويروى أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة ‏.‏ والهدف ‏:‏ اسم لما ينصب الغرض فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الرابع ‏:‏ أن يكون قدر الغرض معلوماً طوله وعرضه وانخفاضه وارتفاعه ، لأن الإصابة تختلف باختلافه ، فوجب علمه كتعيين النوع ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أطلقا العقد ، حمل على إصابته أي موضع كان من الغرض من أطرافه وعراه وغيرها ، وإن أصاب علاقته ، لم يحسب له ، لأن العلاقة ما يعلق به ، والغرض‏:‏ هو المعلق ‏.‏ وإن شرطا إصابة موضع من الغرض ، كالدارة التي في وسطه ، أو الخاتم الذي في الدارة ، لم يحتسب بإصابة غيره ، ويستحب أن يصفا الإصابة ، فيقولا ‏:‏ خواصل ، وهو اسم للإصابة كيفما كانت ، أو خوارق وهو ما ثقب الأرض ، أم خواسق ، وهو ما ثقبه وثبت فيه ، أو موارق ، وهو ما ثقبه ونفذ منه ، أو خوارم وهو ما قطع طرفه ، فإن أطلقا الإصابة حمل على الخواصل ، والقرع كالخصل ، فإن أصاب سهماً في الغرض قد عرق إلى فوقه حسب له ، لأنه لولاه لوقع السهم في الغرض ، وإن كان السهم معلقاً بنصله ، وباقيه خارج من الغرض، لم يحسب له ولا عليه ، لأن بينه وبين الغرض طول السهم ، فلا يدري أكان يصيب أم لا ، فإن أطارت الريح الغرض ، فأصاب السهم موضعه ، حسب له ، وإن وقع في الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ ، لأنه أخطأ في الرمي ، وإنما أصاب بفعل الريح ، وإن عرضت ريح شديدة ، لم يحسب له السهم في إصابة ولا خطأ ، لأن ذلك من أجل الريح ، وإن كانت لينة حسب في الإصابة والخطأ ، لأنها لا تمنع ‏.‏ وإن وقع السهم دون الغرض ، ثم ازدلف فأصابه حسب خاطئاً ، لأن هذا لسوء رميه، وإن عرض عارض ، من كسر قوس أو انقطاع وتر ، أو ريح في يده ، فأصاب ، حسب له ، لأن إصابته مع اختلال الآلة أدل على حذقه ، وإن أخطأ لم يحسب عليه ، لأنه للعارض ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يحسب له ، لأنه لا يحسب عليه في الخطأ ، فلا يحسب له في الإصابة كما في الريح الشديدة ‏.‏ وإن انكسر السهم فوقع دون الغرض ، لم يحسب عليه ، لأنه لعارض ، وإن أصاب بنصله حسب له لما ذكرناه ، وإن أصاب بغيره ، لم يحسب له ، وإن أعرق الرامي في النزع حتى أخرج السهم من الجانب الآخر ، احتسب له وعليه ، لأنه لسوء رميه أخطأ ، ولحذقه أصاب ، ولأن ما حسب عليه في الخطأ حسب له في الإصابة كغيره ‏.‏ وإن مرت بهيمة بين يديه ، وتشوش رميه ، لم يحسب عليه في الخطأ ، لأنه لذلك العارض وإن خرقه وأصاب ، حسب له لأن هذا لقوة نزعه ، وسداد رميه ، وإن شرطا الخسق ، فأصاب الغرض ، وثبت فيه ، حسب له ، فإن سقط بعد ، لم يؤثر ، كما لو نزعه إنسان ‏.‏ وإن ثقب ولم يثبت ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يحسب له لأن الخاسق ما ثبت ، ولم يوجد ‏.‏

والثاني ‏:‏ يحسب له ، لأنه ثقب ما يصلح له ، فالظاهر أنه لم يثبت لعارض من سعة الثقب ، أو غلظ لقيه ‏.‏ وإن مرق منه ، حسب له ، لأنه لقوة رميه ، وإن خدشه ، ولم يثبت فيه لمانع من حجر ، أو غلظ الأرض ، فعلى الوجهين ، لكن إن لم يحسب له لم يحسب عليه ، لأن العارض منعه ، وإن لم يكن مانع حسب عليه ، فإن اختلفا في العارض ، وعلى موضع السهم ، وفيه مانع ، فالقول قول صاحب السهم ، وإلا فالقول قول رسيله ، ولا يمين ، لأن الحال تشهد بصدق المدعي ، وإن لم يعلم موضع السهم ، ولم يوجد وراء الغرض مانع ، فالقول قول رسيله لذلك ، وإن كان وراءه مانع ، فقال الرسيل ‏:‏ لم يثقب موضع المانع ، أو أنكر الثقب ، فالقول قوله مع يمينه، لأن الأصل عدم ما يدعيه صاحبه ، لكنه محتمل فأحلفناه لذلك ، وإن كان في الغرض خرق ، أو موضع بال ، فوقع السهم فيه ، وثبت في الهدف ، وكان صلابته كصلابة الغرض ، حسب له ، لأنه لولا الخرق لثبت في الغرض ، وإن لم يكن كذلك ، لم يحسب له ولا عليه ، لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض أو لا ‏؟‏ وإن ثبت في الهدف ، فوجد في نصله قطعة من الغرض ، فقال الرامي ‏:‏ هذا الجلد قطعه سهمي لقوته ، وقال رسيله ‏:‏ بل هذه جلدة كانت منقطعة من قبل ، فالقول قول الرسيل ، لأن الأصل عدم الخسق والله أعلم ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الخامس ‏:‏ أن يكون مدى الغرض معلوماً مقدراً بما يصيب مثلهما وفي مثله عادة ، لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد ، فاشترط العلم به كالنوع ، وإن جعلاه قدراً لا يصيبان في مثله ، أو لا يصيبان إلا نادراً ، كالزائد على ثلاثمائة ذراع ، لم يجز ، لأن الإصابة تندر في مثل هذا فيفوت الغرض ‏.‏

الشرط السادس ‏:‏ أن يكون الرشق معلوماً ‏.‏ والرشق بكسر الراء ‏.‏ عدد الرمي ، لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط السابع‏:‏ أن يكون عدد الإصابة معلوماً ، كخمسة من عشرين ونحوها، ويعتبر أن يكون إصابة لا يندر مثلها ، فإن شرطا إصابة الجميع ، أو تسعة من عشرة ، لم يصح ، لأن هذا يندر ، فيفوت الغرض ‏.‏ ويستحب أن يبينا حكم الإصابة هل هي مبادرة أو محاطة ‏؟‏ والمبادرة ‏:‏ أن يقولا‏:‏ من سبق إلى إصابتين أو نحوهما ، فهو السابق ، فأيهما سبق إليهما مع تساويهما في الرمي ، فهو السابق ، فإذا رمى كل واحد عشرة ، فأصاب أحدهما إصابتين دون الآخر ، فهو السابق ‏.‏ ولا يلزم إتمام الرمي ، لأن المقصود قد حصل ، وإن أصاب كل واحد منهما من العشرة إصابتين ، فلا سابق فيهما ، وبطل النضال ،لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها ، فإن رميا العشرين ، فلم يصب واحداً منهما إصابتين ، أو أصاباهما معاً ، فلا سابق فيهما‏.‏ وأما المحاطة ، فهي أن يشترطا حط ما تساويا فيه من الإصابة ، ثم من فضل صاحبه بإصابة معلومة ، فقد سبق ، فإن شرطا فضل ثلاث إصابات ، فرميا خمسة عشر ، أصابها أحدهما كلها ، أو أخطأها الآخر ، فالمصيب سابق ‏.‏ ولا يجب إتمام الرمي ، لعدم الفائدة فيه ، لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب المخطئ الخمسة الباقية ، ويخطئها الأول ، ولا يخرج الثاني بذلك عن كونه مسبوقاً ، وإن كان في إتمامه فائدة مثل أن يكون الثاني أصاب من الخمسة عشر تسعة ، فإذا أصاب الخمسة الباقية ، وأخطأها الأول ، لم يكن مسبوقاً ، وجب إتمام الرمي ، فإن أطلقا العقد ، انصرف إلى المبادرة لأن العقد على المسابقة ، والمبادر سابق ، ذكر هذا القاضي ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ يشترط بيان ذلك في المسابقة ، لأن الغرض يختلف به ، فمن الناس من تكثر إصابته في الأول دون الثاني ، فوجب اشتراطه ، كقدر مدى الغرض ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثامن ‏:‏ التسوية بين المتناضلين في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي ، فإن تفاضلا في شيء منه ، أو شرطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر أو أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه ، أو يحسب له خاصل بخاسق ، أو لا يحسب عليه سهم خاطئ ، لم يصح ، لأن القصد معرفة حذقهما ، ولا يعرف مع الاختلاف ، لأنه ربما فضله بشرطه لا بحذقه ، وإن شرطا بحسب خاسق كل واحد منهما بخاصلين ، أو يسقط القريب من إصابة أحدهما ما هو أبعد منها من رمي الآخر فمن فضل بعد بثلاث إصابات فهو السابق صح ، لأنه لا فضل لأحدهما في عدد ولا صفة ، وهذه نوع محاطة فصحت كاشتراط حط ما تساويا فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان الرماة حزبين ، اشترط كون الرشق يمكن قسمته عليهم ، إن كان كل حزب ثلاثة ، وجب أن يكون له ثلث صحيح ، لأنه يجب التسوية بينهما في عدد الرمي ، ولا يمكن إلا بذلك ، فوجب ‏.‏ وإذا نضل أحد الحزبين صاحبه ، فالجعل بين الناضلين سواء من أصاب ومن لم يصب ‏.‏ ويحتمل أن يكون بينهما على قدر إصابتهم ، لأنهم بها يستحقون ‏.‏ والجعل على المنضولين بالسوية وجهاً واحداً ، لأنه لزمهم بالتزامهم لإصابتهم بخلاف الناضلين ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي ، بطل العقد فيه ، لأنها لا تنعقد على من لا يحسن الرمي ، ويخرج من الحزب الآخر بإزائه ، كما إذا بطل البيع في بعض المبيع ، بطل في ثمنه ‏.‏ وهل يبطل العقد في الباقين ‏؟‏ إلى وجهين بناء على تفريق الصفقة ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ لا يبطل ، فلهم الخيار في الفسخ والإمضاء ، لأن الصفقة تفرقت عليهم ‏.‏ فإن اختاروا إمضاءه ، ورضوا بمن يخرج بازائه وإلا انفسخ العقد ‏.‏

فصل ‏:‏

ويرمي واحد بعد الآخر ، لألأن رميهما يفضي إلى التنازع بالمصيب ‏.‏ فإن اتفقا على المبتدئ منهما ، جاز‏.‏ وإن كان بينهما شرط ، عمل به ‏.‏ وإن اختلفا ولا شرط بينهما ، قدم المخرج ، فإن كان المخرج غيرهما ، اختار منهما ، فإن لم يختر أقرع بينهما ‏.‏ وإذا بدأ أحدهما في وجه ، بدأ الآخر في الثاني تعديلاً بينهما ‏.‏ فإن شرطا البداية لأحدهما في كل الوجوه ، لم يصح، لأنه تفضيل وإن فعلاه بغير شرط ، جاز لأنه لا أثر له في إصابة ، ولا تجويد رمي ويرميان مراسلة سهماً وسهماً ، أو سهمين وسهمين ‏.‏ وإن اتفقا على غير هذا ، جاز لعدم تأثيره في مقصود المناضلة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات أحد الراميين ، أو ذهبت يده ، بطل العقد ، لأن المعقود عليه تلف ، فأشبه موت الفرس في السباق ‏.‏ وإن مرض أو رمد ، لم تبطل ، لأنه يمكن الاستيفاء بعد زوال العذر ‏.‏ وله الفسخ ، لأن فيه تأخير المعقود عليه ، فملك الفسخ كالإجارة ‏.‏ وإن عرض مطر ، أو ريح أو ظلمة ، أخر إلى زوال العارض ‏.‏ وإن أراد أحدهما التأخير لغير عذر ، فله ذلك إن قلنا ‏:‏ هي جعالة ، لأنها جائزة وليس له ذلك إن قلنا ‏:‏ هي إجارة ، ويكره للأمين مدح أحدهما أو زجره ، لأن فيه كسر قلبه أو قلب صاحبه ‏.‏
باب اللقطة


وهي المال المضاع عن ربه وهي ضربان ‏:‏ ضال وغيره ، فأما غير الضال فيجوز التقاطه بالإجماع ‏.‏ وهو نوعان ‏:‏ يسير يباح التصرف فيه بغير تعريف ، لما روى جابر قال ‏:‏ رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

ولا تحديد في اليسير إلا أنه ينبغي أن يعفى عما رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث وشبهه ‏.‏ وقال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ما كان مثل التمرة والكسرة والخرقة وما لا خطر له ، فلا بأس ‏.‏ ويحتمل أن لا يجب تعريف ما لا يقطع فيه السارق ، لأنه تافه ‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ كانوا لا يقطعون في الشيء التافه ‏.‏

والنوع الثاني ‏:‏ الكثير فظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أن ترك التقاطه أفضل ، لأنه أسلم من خطر التفريط وتضييع الواجب من التعريف ، فأشبه ولاية اليتيم ‏.‏ واختار أبو الخطاب ‏:‏ أن أخذه أفضل إذا وجد بمضيعة ، وأمن نفسه عليه ، لما فيه من حفظ مال المسلم ، فكان أولى كتخليصه من الغرق ، ولا يجب أخذه ، لأنه أمانة ، فلم يجب كالوديعة ‏.‏ ومن لم يأمن نفسه عليه ، ويقوى على أداء الواجب ، لم يجز له أخذه ، لأنه تضييع لمال غيره ، فحرم كإتلافه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا أخذها ، عرف عفاصها ، وهو‏:‏ وعاؤها ‏.‏ ووكاءها وهو ‏:‏ الذي تشد به ، وجنسها وقدرها ، لما روى بن خالد الجهني قال ‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال ‏:‏ اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف ، فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك ‏.‏ فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه متفق عليه ‏.‏ نص على الكاء والعفاص ، وقسنا عليهما القدر والجنس ‏.‏ ولألنه إذا عرف هذه الأشياء ، لم تختلط بغيرها ، وعرف بذلك صدق مدعيها ، أو كذبه‏.‏ وإن أخر معرفة صفتها إلى مجيىء مدعيها ، أو تصرفه فيها ، جاز ، لأن المقصود يحصل ، وقد جاء ذلك في حديث أبي ، ولا يحل له التصرف فيها إلا بعد معرفة صفتها ، لأن عينها تذهب ، فلا يعلم صدق مدعيها إلا من حفظ صفتها ‏.‏ ويستحب أن يشهد عليها ، نص عليه ، لما روى عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من وجد لقطة فليشهد ذا عدل ، أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب رواه أبو داود ‏.‏ ولأن فيه حفظها من ورثته إن مات وغرمائه إن أفلس ، وصيانته من الطمع فيها ، ولا يجب ذلك لتركه في حديث زيد ، ولأنه أمانة فلا يجب الإشهاد عليها كالوديعة ‏.‏ قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ولا يبين في الإشهاد كم هي ، لكن يقول ‏:‏ أصبت لقطة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجب تعريفها ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به ، ولأنه طريق وصولها إلى صاحبها فوجب كحفظها ‏.‏ ويجب التعريف حولاً من حين التقاطها متوالياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به عند وجدانها ، والأمر يقتضي الفور ، ولأن الغرض وصول الخبر وظهور أمرها ، وإنما يحصل بذلك ، لأن صاحبها إنما يطلبها عقيب ضياعها ويكون التعريف في مجامع الناس ، كالأسواق وأبواب المساجد ، وأوقات الصلوات ، لأن المقصود إشاعة أمرها ، وهذا طريقه ، ويكثر منه في موضع وجدانها ، وفي الوقت الذي يلي التقاطها ، ولا يعرفها في المسجد ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله تعالى عليك فإن المساجد لم تبن لهذا رواه مسلم ويقول‏:‏ من ضاع منه كذا ، يذكر جنسها ‏:‏ أو يقول ‏:‏ شيء ولا يزيد في صفتها ، لئلا يفوت طريق معرفة صاحبها ‏.‏ وأجرة المعرف على الملتقط ، لأن التعريف عليه ، ولأنه سبب تملكها ، فكان على متملكها ، قال أبو الخطاب ‏:‏ إن التقطها للحفظ لصاحبها لا غير ، فالأجرة على مالكها يرجع بها عليه ‏.‏ وقاله ابن عقيل فيما لا يملك بالتعريف ‏.‏

فصل ‏:‏

فإذا جاء مدعيها ، فوصفها بصفاتها المذكورة ، لزم دفعها إليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به ، ولأنها لو لم تدفع بالصفة لتعذر وصول صاحبها إليها ، لتعذر إقامة البينة فإن وصفها اثنان ، أقرع بينهما ، فمن قرع صاحبه ، حلف وسلمت إليه ، كما لو ادعى الوديعة اثنان ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ تقسم بينهما ، وإن وصفها أحدهما وللآخر بينة ، قدم ذو البينة ، لأنها أقوى من الوصف ، فإن كان الواصف سبق فأخذها نزعت منه وإن تلفت في يده ، فلصاحبها تضمين من شاء منهما ، لأن الواصف أخذ مال غيره بغير إذنه والملتقط دفعه إليه بغير إذن مالكه ويستقر الضمان على الواصف ، لأن التلف حصل في يده ، فإن ضمن ، لم يرجع على أحد ‏.‏ وإن ضمن الملتقط رجع عليه ، إلا أن يكون الملتقط دفعها بحكم حاكم فلا يضمن ، لأنها تؤخذ منه قهراً ‏.‏ وإن أتلفها الملتقط ، فغرمه الواصف عوضها ، ثم جاء صاحب البينة ، لم يرجع إلا على الملتقط ، لأن الواصف إنما أخذ مال الملتقط ولم يأخذ اللقطة ، ثم يرجع الملتقط على الواصف‏.‏

فصل ‏:‏

فإن لم تعرف، دخلت في ملك الملتقط عند الحول حكماً ،كالميراث ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد ‏:‏ وإن لم تعرف فاستنفقها وفي لفظ وإلا فهي كسبيل مالك ولأنه كسب مال بفعل ، فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد ‏.‏ واختار أبو الخطاب ، أنه لا يملكها إلا باختياره ، لأنه تملك مال ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك ، كالبيع ‏.‏ والغني والفقير سواء في هذا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق ، ولأنه تملك مال بعوض ، أشبه البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

وما جاز التقاطه ووجب تعريفه ، ملك به ، نص عليه أحمد رضي الله عنه في الصياد يقع في شبكته الكيس والنحاس يعرفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا فهو كسائر ماله ‏.‏ وهذا ظاهر كلام الخرقي ‏.‏ وقال أكثر أصحابنا ‏.‏ لا يملك غير الأثمان ، لأن الخير ورد فيها ، ومثلها لا يقوم مقامها من كل وجه ، لعدم تعلق الغرض بعينها فلا يقاس عليها غيرها ، وقال أبو بكر ‏:‏ ويعرفها أبداً وقال القاضي ‏:‏ هو مخير بين ذلك وبين دفعها إلى الحاكم ‏.‏ وقال الخلال ‏:‏ كل من روى عن أبي عبد الله أنه يعرفها سنة ، ثم يتصدق بها ، والذي نقل عنه أنه يعرفها أبداً ، قول قديم رجع عنه ‏.‏ والأول أولى ، لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال ‏:‏ أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا رسول الله كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء ، أو في قرية مسكونة ‏؟‏ قال ‏:‏ عرفه سنة فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به رواه الأثرم ‏.‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عيبة - والعيبة ‏:‏ هي وعاء من أدم يوضع فيه الثياب - ‏:‏ عرفها سنة ‏.‏ فإن عرفت وإلا ، فهي لك ‏.‏ أمرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنه مال يجوز التقاطه ويجب تعريفه فملك به ، كالأثمان وقد دل الخبر على جواز أخذ الغنم مع تعلق الغرض بعينها فيقاس عليها غيرها ‏.‏

فصل ‏:‏

ولقطة الحرم تملك بالتعريف في ظاهر كلامه ، لظاهر الخبر ، ولأنه أحد الحرمين أشبه المدينة، وعنه ‏:‏ لا تملك بحال ، ويجب تعريفها أبداً أو يدفعها إلى الحاكم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ‏:‏ لا تحل ساقطتها إلا لمنشد متفق عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

واللقطة مع الملتقط قبل تملكها أمانة ، عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة ، وإن ردها إلى موضعها ، ضمنها ، لأنه ضيعها ، وإن تلفت بغير تفريط ، لم يضمنا ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولتكن الوديعة وديعة عندك ولأنه يحفظها لصاحبها بإذن الشرع ، أشبه الوديعة ‏.‏ وإن جاء صاحبها ، أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة ، لأنها ملكه ‏.‏ وإن جاء بعد تملكها ، أخذها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه ويأخذها بزيادتها المتصلة، لأنها تتبع في الفسوخ ، وزيادتها المنفصلة بعد تملكها لملتقطها ، لأنها حدثت على ملكه ، فأشبه نماء المبيع في يد المشتري ، فإن تلفت بعد تملكها ، ضمنها ، لأنها تلفت من ماله ، وإن نقصت بعد التملك ، فعليه أرش نقصها ، وإن باعها أو وهبها بعد تملكها ، صح ، لأنه تصرف صادف ملكه، فإن جاء صاحبها في مدة الخيار ، وجب فسخ البيع وردها إليه ، لأنه يستحق العين ، وقد أمكن ردها إليه ‏.‏ وإن جاء بعد لزوم البيع ، فهو كتلفها ، لأنه تعذر ردها ‏.‏

فصل ‏:‏

الضرب الثاني ‏:‏ الضوال وهي الحيوانات الضائعة ، وهى نوعان‏:‏

أحدهما ‏:‏ ما يمتنع من صغار السباع إما بقوته ، كالإبل والخيل،أو بجناحه كالطير،أو بسرعته ، كالظباء ، أو بنابه كالفهد ، فلا يجوز التقاطه، لما روى زيد بن خالد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل فقال ‏:‏ ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها متفق عليه ‏.‏وللإمام أخذها ، ليحفظها لأربابها ، لأن للإمام ولاية في حفظ أموال المسلمين، ولهذا كان لعمر حظيرة يحفظ فيها الضوال ، فإذا أخذها ، وكان له حمى ترعى فيه ، تركها ، وأشهد عليها ، ورسمها بسمة الضوال ، وإن لم يكن له حمى ، خلاها وحفظ صفاتها ، ثم باعها ، وحفظ ثمنها لصاحبها ، لأنها تحتاج إلى علف ، فربما استغرق ثمنها ، وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ، ضمنها ولم يملكها ، وإن عرفها ، فإن دفعها إلى الإمام ، برئ من ضمانها ، لأنه دفعها إلى من له الولاية عليها ، أشبه دفعها إلى صاحبها ، وإن ردها إلى موضعها ، لم يبرأ ، لأن ما لزمه ضمانه ، لا يبرأ منه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق ‏.‏

فصل ‏:‏

النوع الثاني ‏:‏ ما لا ينحفظ من صغار السباع ، كالشاة وصغار الإبل والبقر ونحوها ، فعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ لا يجوز التقاطها ، لأنه روي عن النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ لا يؤوي الضالة إلا ضال رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه حيوان أشبه الإبل ‏.‏ والمذهب جواز التقاطها ، لما روى زيد بن خالد أن النبي ‏(‏ص‏)‏ سئل عن الشاة ، فقال ‏:‏ خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ‏.‏متفق عليه ‏.‏ وهذا يخص عموم الحديث الآخر ، ولأنه يخشى عليها التلف ، أشبه غير الضالة ، وسواء وجدها في المصر أو في مهلكة ، لأن الحديث عام فيهما ، ولأنه مال يجوز التقاطه ، فاستويا فيه ، كالأثمان ، والعبد الصغير ، كالشاة في جواز التقاطه ، لأنه لا ينحفظ بنفسه ، فأما الحمر فألحقها أصحابنا في النوع الأول ، لأن لها قوة ، فأشبهت البقر ، وظاهر حديث زيد إلحاقها بالغنم ، لأنه علل أخذ الشاة بخشية الذئب عليها ، والحمر مثلها في ذلك ، وعلل المنع من الإبل بقوتها على ورود الماء ، وصبرها بقوله ‏:‏ معها سقاءها والحمر بخلافها ‏.‏ ومتى التقط هذا النوع خير بين أكله في الحال ، وحفظه لصاحبه وبيعه ، وحفظ ثمنه ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ هي لك ولم يأمره بحفظها ، ولأن إبقاءها يحتاج إلى غرامة ، ونفقة دائمة فيستغرق قيمتها ، فإن اختار إبقاءها وحفظها لصاحبها ، فهو الأولى ، متفق عليه وينفق عليها ، لأن به بقاءها ، فإن لم يفعل ضمنها ، لأنه فرط فيها وإن أنفق عليها متبرعاً ، لم يرجع على صاحبها ، وإن نوى الرجوع على صاحبها ، وأشهد على ذلك ، ففي الرجوع به روايتان ، بناء على الوديعة ‏.‏ وإن اختار أكلها أو بيعها ، لزمه حفظ صفتها ، ثم يعرفها عاماً ، فإذا جاء صاحبها ، دفع إليه ثمنها ، أو غرمه له إن أكلها ، ولا يلزمه عزل ثمنها إذا أكلها ، لأنه لا يخرج من ذمته بعزله ، فلم يلزمه كسائر ما يلزمه ضمانه ، وإن أراد بيعها ، فله أن يتولى ذلك بنفسه ، لأن ما ملك أكله ، فبيعه أولى ‏.‏ فإذا عرفها حولاً ، ولم تعرف ، ملكها إن كانت باقية ، أو ثمنها إن باعها ، لأن حديث زيد يدل على ملكه لها ، لأنه أضاف إليها بلام التمليك ، ولأنه مال يجوز التقاطه ، فيملك بالتعريف ، كالأثمان ‏.‏ وعنه‏:‏ لا يملكها ، والمذهب الأول ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن التقط ما لا يبقى عاماً ، كالبطيخ والطبيخ ، لم يجز تركه ليتلف ، فإن فعل ، ضمنه ، لأنه فرط في حفظه ، فإن كان مما لا يبقى بالتجفيف ، كالطبيخ خير بين بيعه وأكله ، وإن كان يبقى بالتجفيف ، كالعنب والرطب ، فعل ما فيه الحظ لصاحبه من بيعه وأكله وتجفيفه ، فإن احتاج في التجفيف إلى غرامة ، باع بعضه فيها ، وإن أنفقها من عنده ، رجع بها ، لأن النفقة هاهنا لا تتكرر بخلاف نفقة الحيوان ، فإنها تتكرر ، فربما استغرقت قيمته ، فلا يكون لصاحبها حظ في إمساكها إلا بإسقاط النفقة عنه ‏.‏ وإن أراد بيعها ، فله البيع بنفسه لما ذكرنا في الضوال ‏.‏ وعنه ‏:‏ له بيع اليسير ، وأما الكثير ، فإنه يرفعه إلى السلطان ، والقول في تعريفه ، وسائر أحكامه ، كالقول في الشاة ‏.‏

فصل ‏:‏

قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ من اشترى سمكة ، فوجد في بطنها درة ، فهي للصياد ، وإن وجد دراهم ، فهي لقطة ، لأنها لا تبتلع الدراهم إلا بعد ثبوت اليد عليها ، وقد تبتلع درة من البحر مباحة ، فيملكها الصياد بما فيها ، فإن باعها ولم يعلم بالدرة ، لم يزل ملكه عن الدرة ، كما لو باع داراً له فيها مال لم يعلم به ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن وجد اللقطة اثنان ، فهي بينهما ، لأنهما اشتركا في السبب ، فاشتركا في الحكم ، وإن ضاعت من واجدها ، فوجدها آخر ردها على الأول ، لأنه قد ثبت له الحق فيها ، فوجبر ردها إليه ، كالملك ‏.‏ وإن رآها اثنان ، فرفعها أحدهما فهي له ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم ، فهو له وإن رآها أحدهما فقال للآخر ‏:‏ ارفعها ففعل ، فهي لرافعها، لأنه مما لا يصح التوكيل فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه ، صح التقاطه ، لأنه كسب بفعل ، فصح منه كالصيد ، فإن تلفت في يده بغير تفريط ، لم يضمنها ، لأنه أخذ ماله ، وإن تلفت بتفريط ضمنها ، ومتى علم وليه بها ، لزمه نفعها منه وتعريفها ، لأنه أمانة ، والمحجور عليه ليس من أهلها ، فإن تم تعريفها ، دخلت في ملك واجدها حكماً ، كالميراث ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح التقاط العبد بغي إذن سيده ، لعموم الخير ، ولما ذكرنا في الصبي ويصح تعريفه لها ، لأن له قولاً صحيحاً ، فصح تعريفه كالحر ، فإذا تم تعريفها ملكها سيده ، لأنها كسب عبده ، ولسيده انتزاعها منه قبل تعريفها لأن كسب عبده له ، ويتولى تعريفها ، أو إتمامه ، وله إقرارها في يد عبده الأمين ، ويكون مستعيناً به في حفظها وتعريفها ، ولا يجوز إقراراها في يد من ليس بأمين ، لأنها أمانة وإن فعل ، فعليه الضمان ، وإن علم العبد أن سيده غير مأمون عليها ، لزمه سترها عنه ، وتسليمها إلى الحاكم ليعرفها ، ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان ‏.‏ وإن أتلفها العبد ،فحكم ذلك حكم جنايته ، وإن عتق العبد بعد الالتقاط ، فلسيده أخذها ، لأنها كسبه ‏.‏

فصل ‏:‏

والمكاتب كالحر ، لأن كسبه لنفسه ، والمدبر وأم الولد كالقن ، ومن نصفه حر فلقطته بينه وبين سيده ككسبه ، فإن كانت بينهما مهايأة ، لم تدخل في المهايأة في أحد الوجهين لأنهما من الأكساب النادرة ، فأشبهت الميراث ، والآخر تدخل ، لأنهما من كسبه فهي كصيده ، وفي الهدية والوصية وسائر الأكساب النادرة ‏.‏ وجهان كاللقطة ‏.‏

فصل ‏:‏

والذمي كالمسلم للخبز ، ولأنه كسب يصح من الصبي ، فصح من الذمي كالصيد والفاسق كالعدل لذلك ، لكن إن أعلم الحاكم بهما ، ضم إليه أميناً يحفظها ، ويتولى تعريفها ، لأنها أمانة فلا يؤمن خيانته فيها ، فإذا عرفها ، ملكها ملتقطها ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن التقط لقطة لغير التعريف ،ضمنها ولم يملكها ، وإن عرفها ، لأنه أخذها على وجه يحرم عليه ، فلم يملكها كالغاصب ، ومن ترك التعريف في الحول الأول ، لم يملكها وإن عرفها بعد، لأن السبب الذي يملكها به قد فات ولم يبرأ منها إلا بتسليمها إلى الحاكم ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن ترك دابة بمهلكة ، فأخذها إنسان ، فخلصها ، ملكها ، لما روى الشعبي قال ‏:‏ حدثني غير واحد عن أصحاب رسول الله ‏(‏ص‏)‏ أن رسول الله ‏(‏ص‏)‏ قال ‏:‏ من وجد دابة عجز عنها أهلها فسيبوها ، فأخذها فأحياها فهي له ولأن فيه إنقاذ للحيوان من الهلاك ، مع نبذ صاحبه له ،فأشبه السنبل الساقط ‏.‏ فإن كان مكانها عبداً ، لم يملكه ، لأنه في العادة يمكنه التخلص ، وإن كان متاعاً ، لم يملكه ، لأنه لا حرمة له في نفسه ‏.‏


باب اللقيط


وهو الطفل المنبوذ ، والتقاطه فرض على الكفاية ، لأنه إنجاء آدمي من الهلاك فوجب ، كتخليص الغريق ‏.‏ وهو محكوم بحريته ، لما روى ، سنين أبو جميلة ، قال ‏:‏ وجدت ملقوطاً فأتيت به عمر رضي الله عنه فقال ‏:‏ اذهب فهو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته ‏.‏ رواه سعيد في سننه ولأن الأصل في الآدميين الحرية ، ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم ، لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيها ‏.‏ وإن وجد في بلد فيه كفار ، ولا مسلم فيه فهو كافر ، لأن الظاهر أنه ولد كافرين ، وإن وجد في بلد الكفار ، وفيه مسلمون ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو كافر ، لأه في دارهم ‏.‏

والثاني ‏:‏ هو مسلم تغليباً لإسلام المسلم الذي فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وما يوجد عليه من ثياب أو حلي ، أو تحته من فراش أو سرير أو غيره ، أو في يده من نفقة أو عنان دابة ، أو مشدود في ثيابه ، أو ببعض جسده ، أو مجعولاً فيه ، كدار وخيمة ، فهو له ، لأنه آدمي حر فما في يده له ، كالبالغ ، وإن كان مطروحاً بعيداً منه ، أو قريباً مربوطاً بغيره ، لم يكن له ، لأنه لا يد له عليه وكذلك المدفون تحته ، لأن البالغ لو جلس على دفين ، لم يكن له ‏.‏ وقال ابن عقيل وإن كان الحفر طرياً ، فهو له ، لأن الظاهر أنه حفر النابذ له ، وإن وجد بقربه مال موضوع ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو له إن لم يكن له غيره ، لأن الإنسان يترك ماله بقربه ‏.‏

والثاني ‏:‏ ليس هو له ، لأنه لا يد له عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

وينفق عليه من ماله ، لأنه حر فينفق عليه من ماله كالبالغ ، ويجوز للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم ، لأنه ولي فملك ذلك ، كولي اليتيم ‏.‏ ويستحب استئذانه ، لأنه أنفى للتهمة ، فإن بلغ واختلفا في النفقة ، فالقول قول المنفق ‏.‏ وإن لم يكن له مال فنفقته في بيت المال ، لقول عمر رضي الله عنه وعلينا نفقته ، ولأنه آدمي حر له حرمة ، فوجب على السلطان القيام به عند حاجته كالفقير ‏.‏ وليس على الملتقط نفقته ، لحديث ، عمر ، ولأنه لا نسب بينهما ولا ملك فأشبه الأجنبي ‏.‏ وإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال ، فعلى من علم حاله الإنفاق عليه فرض كفاية ، لأن به بقاءه فوجب ، كإنقاذ الغريق ‏.‏ فإن اقترض الحاكم ما أنفق عليه ، ثم بان رقيقاً ، أو له أب موسر ، رجع عليه ، لأنه أدى الواجب عنه ، فإن لم يظهر له أحد ، وفي من بيت المال ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان الملتقط أميناً حراً مسلماً ، أقر في يده ، لحديث عمر رضي الله عنه ، ولأنه لا بد له من كافل ‏.‏ والملتقط أحق للسبق ‏.‏ وفي الإشهاد عليه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يجب ، كما لا يجب في اللقطة ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب ، لأن القصد به حفظ النسب والحرية ، فوجب ، كالإشهاد في النكاح ‏.‏ وإن التقطه فاسق ، نزع منه ، لأنه ليس في حفظه إلا الولاية ، ولا ولاية لفاسق ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ هذا المذهب وظاهر قول الخرقي ، أنه يقر في يده ، لقوله ‏:‏ إن لم يكن من وجد اللقيط أميناً منع من السفر به ‏.‏ فعلى هذا يضم إليه أمين يشارفه ، ويشهد عليه ، ويشيع أمره ، لينحفظ بذلك ‏.‏ وليس لكافر التقاط محكوم بإسلامه ، لأنه لا ولاية لكافر على مسلم ، فإن التقطه ، نزع منه ، وله التقاط المحكوم بكفره ، ويقر في يده ، لثبوت ولايته عليه ‏.‏ وليس للعبد الالتقاط إلا بإذن سيده ، فتكون الولاية للسيد ، والعبد نائب عنه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أراد الملتقط السفر به وهو ممن لم تختبر أمانته في الباطن ، نزع منه ، لأنه ما لا يؤمن أن يدعي رقه ‏.‏ وإن علمت أمانته باطناً فأراد نقله من الحضر إلى البدو ، منع منه ، لأنه ينقله إلى العيش في الشقاء ومواضع الجفاء ‏.‏ وإن أراد النقلة إلى بلد آخر يقيم فيه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقر في يده لأنهما سواء فيما ذكرنا ‏.‏

والثاني ‏:‏ يمنع منه ، لأن بقاءه في بلده أرجى لظهور نسبه ‏.‏ وإن كان اللقيط في بدو ، فله نقله إلى الحضر ، لأنه أرفق به ، وله الإقامة به في البدو ‏.‏ وفي حلة لا تنتقل عن مكانها ، لأن الحلة كالقرية ‏.‏ وإن كان متنقلاً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقر في يده ، لأنه أرجى لكشف نسبه ‏.‏

والثاني ‏:‏ ينزع منه ، لأنه يشقى في التنقل ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن التقطه موسر ومعسر ، قدم الموسر ، لأنه أحظ للطفل ، فإن تساويا وتشاحا ، أقرع بينهما ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم‏}‏ ولأنهما تساويا في الحق ، فأقرع بينهما ، كالعبدين في العتق ‏.‏ وإن ترك أحدهما نصيبه ، كلفه الآخر ‏.‏ والرجل والمرأة في هذا سواء ، لأن المرأة أجنبية ، والرجل يحضنه بأجنبية ، فهما سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اختلفا في الملتقط وهو في يد أحدهما ، فالقول قوله ‏.‏ وهل يستحلف ‏؟‏ فيه وجهان ‏.‏ وإن كان في يديهما ، قدم أحدهما بالقرعة ‏.‏ وهل يستحلف ‏؟‏ على وجهين ‏.‏ وإن لم يكن في يد واحد منهما ، سلمه السلطان إلى من يرى منهما ، أو من غيرهما ، لأنه لا يد لأحدهما ‏.‏ وإن كان لأحدهما بينة ، قضى بها ، لأنها أقوى ، فإن كانت لكل واحد منهما بينة ، قدم أسبقهما تاريخاً ، لأنه يثبت بها السبق إلى الالتقاط ‏.‏ وإن تساويا وهو في يد أحدهما انبنى على بينة الداخل والخارج ، وإن تساويا في اليد أو عدمها ، سقطتا وأقرع بينهما فقدم بها أحدهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ادعى نسبه رجل لحق به ، لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه إلى أحد فقبل ، كما لو أقر له بمال ، ويأخذ من الملقط إن كان من أهل الكفالة ، لأن الوالد أحق بكفالة ولده ‏.‏ وإن كان كافراً ، لم يتبعه في الدين ، لأنه محكوم بإسلامه بالدار ، فلا يزول ذلك بدعوى كافر ، ولا يدفع إليه ، لأنه لا ولاية لكافر على مسلم ‏.‏ ويثبت نسبه منه ، لأن الكافر كالمسلم في ثبوت النسب منه ‏.‏ ولا ضرر على أحد في انتسابه إليه ، وإن كانت له بينة بولادته على فراشه ، ألحق به نسباً وديناً ، لأنه ثبت أنه ابنه ببينة ، ذكره بعض أصحابنا ‏.‏ وقياس المذهب أنه لا يلحقه في الدين إلا أن تقوم البينة أنه ولد كافرين حيين ، لأن الطفل يحكم بإسلامه بإسلام أحد أبويه ، أو موته ‏.‏ وإن ادعت المرأة نسبه ، ففيها ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ يقبل قولها ، لأنها أحد الأبوين فثبت النسب بدعواها كالأب ، ويلحق بها دون زوجها ‏.‏

والثنية ‏:‏ إن كان لها زوج ، لم تقبل دعواها ، لأنه يؤدي إلى أن تلحق بزوجها نسباً لم يقر به أو ينسب إليها ما تتعد به وإن لم يكن ، قبل ، لعدم ذلك ‏.‏

والثالثة ‏:‏ إن كان لها أخوة ونسب معروف ، لم تقبل دعوتها لأن ولادتها لا تخفى عليهم وإن لم يكن ، قبلت ‏.‏ والأمة كالحرة ، إلا أننا إذا ألحقنا النسب بها ، لم يثبت رق ولدها ، لأنه محكوم بحريته ، فلا يثبت رقه بمجرد الدعوى ، كما لم يثبت كفره ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن ادعى نسبه رجلان ، ولأحدهما بينة ، فهو ولده ، لأن له حجة ‏.‏ فإن كان لهما بينتان ، أو لا بينة لهما ، عرض على القافة معهما ، أو من عصبتهما عند فقدهما ‏.‏ فإن ألحقته بأحدهما ، ألحق به ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال ‏:‏ ألم تري أن مجززاً المدلجي نظر أنفاً إلى زيد وأسامة ، وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما ، فقال ‏:‏ إن هذه الأقدام بعضها من بعض متفق عليه ‏.‏ فلولا أن ذلك حق ، لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وإن ألحقته بهما ، لحقهما ، لما روى سليمان بن يسار‏:‏ عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف ‏:‏ قد اشتركا فيه ، فجعله عمر بينهما رواه سعيد‏.‏ وعن علي مثله ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ ويرثهما ويرثانه ، ونسبه من الأول قائم لا يزيل شيء ، قال ‏:‏ ويلحق بثلاثة ، وينبغي أن يلحق بمن ألحقه منهم وإن كثروا ، لأن المعنى في الاثنين موجود فيما زاد فيقاس عليه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يلحق بأكثر من ثلاثة ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ لا يلحق بأكثر من اثنين ، لأننا صرنا إلى ذلك ، للأثر فيجب أن نقتصر عليه ‏.‏ فإن لم توجد قافة ، أو أشكل عليهم ، أو نفته عنهما ، أو تعارضت أقوالهما ، فقال أبو بكر ، يضيع نسبه لأنه لا دليل لأحدهما ‏.‏ فأشبه من لم يدع نسبه أحد ‏.‏ وقال ابن حامد يترك حتى يبلغ ، ويؤاخذان بنفقته ، لأن كل واحد منهما مقر به ، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه ، لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ، ولأن الطبع يميل إلى الوالد ما لا يميل إلى غيره ‏.‏ فإذا تعذرت القافة ، رجعنا إلى اختياره ‏.‏ ولا يصح انتسابه قبل بلوغه ، لأنه قول يتعين له النسب ، وتلزم به الأحكام ، فلا يقبل من الصبي ، كقول القائف ‏.‏ وسواء كان المدعيان مسلمين حرين ، أو كافرين رقيقين ، أو مسلماً وكافراً ، وحراً وعبداً لأن كل واحد منهم لو انفرد صحت دعواه ‏.‏ فإن ادعاه امرأتان ، وقلنا بصحة دعوتيهما ، فهما كالرجلين ، إلا أنه لا يلحق بأكثر من واحدة ، لأنه يستحيل ولد من أنثيين وإن كانت إحداهما تسمع دعواها دون الأخرى ، فهي كالمنفردة به ‏.‏ وإن ألحقته القافة بكافر وأمة ، لم يحكم برقه ، ولا كفره ، لأنه ثبت إسلامه وحريته بظاهر الدار ، فلا يزول ذلك بظن لا شبهة ، كما لم تزل بمجرد الدعوة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان لامرأتين وابن وبنت ، فادعت كل واحدة أنها أم الابن ، احتمل أن يعرض معهما على القافة ، واحتمل أن يعرض لبنهما على أهل الخبرة ، فمن كان لبنها لبن ابن ، فهو ابنها ‏.‏ وقد قيل ‏:‏ إن لبن الابن ثقيل ، ولبن البنت خفيف ، فيعتبر ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

و القافة ‏:‏ قوم من العرب عرفت منهم الإصابة في معرفة الأنساب ، واشتهر ذلك في بني مدلج رهط مجزز ، وسراقة بن مالك بن جعشم ‏.‏ ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة ، لأن ذلك يجري مجرى الحكم ، فاعتبر ذلك فيه ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ يترك الغلام مع عشرة غير مدعيه ، ويرى القائف ، فإن ألحقه بأحدهم ، سقط قوله ، وإن نفاه عنهم، جعلناه مع عشرين فيهم مدعيه ‏.‏ فإن ألحقه بمدعيه ، علمت إصابته ‏.‏ وهل يكتفى بواحد ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يكتفى به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز وحده ، لأنه بمنزلة الحاكم يجتهد ويحكم ، كما يجتهد الحاكم ويحكم ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يقبل إلا اثنان ، لأنه حكم بالشبهة والخلقة ، فلا يقبل من واحد ، كالحكم بالمثل في جزاء الصيد ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن ادعى رجل رقه ، لم يقبل ، لأن الأصل الحرية ، فإن شهدت هل بينة بالملك ، قبلت ، وإن لم يذكر السبب ، كما لو شهدت له بملك مال ‏.‏ وإن شهدت باليد للملتقط ، لم يحكم له بالملك ، لأن سبب يده قد علم ‏.‏ وإن شهدت بها لغيره ، ثبت ‏.‏ والقول قوله في الملك مع يمينه كما لو كان في يده مال فحلف عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن حكمنا بإسلامه لإسلام أحد أبويه ، أو موته ، أو إسلام سابيه ، فحكمه حكم سائر المسلمين في حياته وموته ، ووجوب القود على قاتله قبل البلوغ ، أو بعده ‏.‏ وإن كفر بعد بلوغه ، فهو مرتد يستتاب ثلاثاً ، فإن تاب وإلا قتل ، لأنه محكوم بإسلامه ، يقيناً ، فأشبه غيره من المسلمين ‏.‏ ومن حكمنا بإسلامه للدار وهو اللقيط ، فكذلك ، لأنه محكوم بإسلامه ظاهراً ، فهو كالثابت يقيناً ، وذكر القاضي وجهاً آخر ‏:‏ أنه يقر على كفره ، لأنه لم يثبت إسلامه يقيناً ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن بلغ اللقيط فقذف إنسان ، أو جنى عليه ، أو ادعى رقه ، فكذبه اللقيط ، فالقول قول اللقيط ، لأنه حر في الحكم ‏.‏ ويحتمل أن يقبل قول المدعي في درء حد القذف خاصة ، لأنه مما يدرأ بالشبهات ، بخلاف القصاص ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن بلغ فتصرف ، ثم ثبت رقه ، فحكم تصرفه حكم تصرف العبيد ، لأنه ثبت أنه مملوك ‏.‏ وإن أقر بالرق على نفسه بعد أن كان أقر بالحرية ، لم يقبل إقراره بالرق ، لأنه قد لزمه بالحرية أحكام من العبادات والمعاملات ، فلم يملك إسقاطها ‏.‏ وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية وكذبه المقر له ، بطل إقراره ، لأنه لا يثبت رقه لمن لا يدعيه ‏.‏ فإن أقر بعده لغيره ، قبل ، كما لو أقر له بمال ، ويحتمل أن لا يقبل ، لأن في إقراره الأول اعترافاً بأنه ليس لغيره ، فلم يقبل رجوعه عنه ، كما لا يقبل رجوعه عن الحرية ‏.‏ وإن صدقه الأول ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يقبل ، لأنه محكوم بحريته ، فلا يقبل إقراره بما يبطلها ، كما لو أقر بها ‏.‏

والثاني ‏:‏ يقبل ، لأنه مجهول الحال أقر بالرق فقبل ، كما لو قدم رجلان من دار الحرب ، فأقر أحدهما لصاحبه بالرق ، فعلى هذا يحتمل أن يقبل إقراره في جميع أحكامه ، لأنه معنى يثبت الرق ، فأثبته في جميع أحكامه ، كالبينة ‏.‏ ويحتمل أن يقبل فيما عليه دون ما له ، لأنه أقر بما يوجب حقاً له ، وعليه ، فيثبت ما عليه دون ما له ، كما لو قال ‏:‏ لفلان علي ألف على رهن لي عنده ، فإن قلنا بالأول وكان قد نكح ، فهو فاسد ، حكمه حكم ما لو تزوج العبد أو الأمة بغير إذن سيده ‏.‏ وإن تصرف بغير النكاح ، فسدت عقوده كلها ، وترد الأعيان إلى أربابها إن كانت باقية ، وإن كانت تالفة ، ثبتت قيمتها في ذمته ، لأنها ثبتت برضى أصحابها ‏.‏ وإن قلنا‏:‏ لا يقبل في ما له وهي أمة ، فنكاحها صحيح ، ولا مهر لها إن كان قبل الدخول ، وإن كان بعده ، فلها الأقل من المسمى ، أو مهر المثل ، ولزوجها الخيار بين المقام معها على أنها أمة ، أو فراقها إن كانت ممن يجوز له نكاح الأمة ، لأنه قد ثبت كونها أمة في المستقبل ‏.‏ وإن كان المقر ذكراً ، فسد نكاحه ، لإقراره أنه عبد ، نكح بغير إذن سيده ، وحكمه حكم الحر في وجوب المسمى ، أو نصفه إن كان قبل الدخول ‏.‏ ولا تبطل عقوده ، وما عليه من الحقوق ، والأثمان ، يؤدى مما في يده ، وما فضل ففي ذمته ، وما فضل معه ، فلسيده ‏.‏ وإن جنى جناية توجب القصاص ، اقتص منه ، حراً كان المجني عليه أو عبداً ‏.‏ وإن كان خطأ تعلق أرشها برقبته ، لأنه عبد ، وإن جنى عليه حر ، فلا قود لأنه عبد ‏.‏


باب الوديعة


قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة ، لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته ، وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما ‏.‏ وإن كان عاجزاً عن حفظها ، أو خائفاً من نفسه عليها ، لم يجز له قبولها ، لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك فيرضاه ، فإن الحق له ، فيجوز بذله ‏.‏ ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال ، فإن استودع من صبي غير مأذون له ، فيجوز بذله ‏.‏ ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال ، فإن استودع من صبي غير مأذون له ، أو سفيه أو مجنون ، ضمن ، لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي فضمنه كما لو غصبه ‏.‏ ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه ، كما لو غصبه إياه ‏.‏ فإن خاف أنه إن لم يأخذ منهم أتلفوه ، لم يضمنه إن أخذه ، لأنه قصد تخليصه من الهلاك فلم يضمنه ، كما لو وجده في سيل فأخرجه منه ‏.‏

فصل ‏:‏

والوديعة أمانة إذا أتلفت من غير تفريط ، لم يضمن المودع بالإجماع ، لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ليس على المستودع ضمان فإن تلف من بين ماله ، ففيها روايتان ‏.‏ أظهرهما لا يضمن للخبر ، ولأنه أمين لم تظهر منه خيانة ، فلم يضمن ، كما لو ذهب معها شيء من ماله ‏.‏ والأخرى ‏:‏ يضمن ، لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضمن أنساً وديعة ، ذهبت بين ماله ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن لم يعين لها صاحبها الحرز ، لزمه حفظها في حرز مثلها ، فإن أخر إحرازها فتلفت ، ضمنها ، لتركه الحفظ من غير عذر ‏.‏ وإن تركها في دون حرز مثلها ، ضمن ، لأن الإيداع يقتضي الحفظ ‏.‏ فإذا أطلق ، حمل على المتعارف وهو حرز المثل ‏.‏ وإن أحرزها في حرز مثلها ، أو فوقه ، لم يضمن ، لأن من رضي بحرز مثلها رضي بما فوقه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن عين له الحرز ، فقال ‏:‏ أحرزها في هذا البيت ، فتركها فيما دونه ، ضمن ، لأنه لم يرضه ‏.‏ وإن تركها في مثله ، أو أحرز منه فقال القاضي ‏:‏ لا يضمن ، لأن من رضي شيئاً رضي مثله وفوقه ‏.‏ وظاهر كلام الخرقي ‏:‏ أنه يضمن ، لأنه خالف أمره لغير حاجته ، فأشبه ما لو نهاه ‏.‏ فإن قال ‏:‏ احفظها في هذا البيت ولا تنقلها عنه ، فنقلها لغير حاجة ، ضمنها سواء نقلها إلى مثله ، أو أحرز منه ، لأنه خالف نص صاحبها ‏.‏ وإن خاف عليها نهباً أو هلاكاً وأخرجها ، لم يضمنها ، لأن النهي للاحتياط عليها ، والاحتياط في هذا الحال نقلها ‏.‏ فإن تركها فتلفت ضمنها ، لأنه فرط في تركها ‏.‏ ويحتمل أن لا يضمن ، لأنه امتثال أمر صاحبها ‏.‏ فإن قال ‏:‏ لا تخرجها ، وإن خفت عليها ، فأخرجها لخوفه عليها ، لم يضمن ، لأنه زاده خيراً ، وإن تركها فتلفت ، لم يضمن ، لأن نهيه مع خوف الهلاك إبراء من الضمان ، فأشبه ما لو أمره بإتلافها ، فأتلفها ، فإن أخرجها فتلفت ، فادعى أنني أخرجتها خوفاً عليها ، فعليه البينة على ما ادعى وجوده من تلك الناحية ، لأنه مما لا يتعذر إقامة البينة عليه ، ثم القول قوله في خوفه عليها ، وفي التلف مع يمينه لتعذر إقامة البينة عليها ، فإن قال ‏:‏ لا تقفل عليها قفلين ، ولا تنم فوقها فخالفه ، فالمذهب أنه لا يضمن ، لأنه زاد في الحرز ، فأشبه ما لو قال له ‏:‏ اتركها في صحن الدار فتركها في البيت ‏.‏ ويحتمل أن يضمن ، لأنه نبه اللص عليها وأغراه بها ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أودع نفقة ، فربطها في كمه ، لم يضمن ، وإن تركها فيها بغير رباط ، وكانت خفيفة لا يشعر بسقوطها ، ضمن لتفريطه ‏.‏ وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم يضمن ، وإن تركها في جيبه أو شدها على عضده ، لم يضمنها ، لأن العادة جارية بالإحراز بهما ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اربطها في كمك ، فأمسكها في يده ، ضمن ، لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان ويحتمل أن لا يضمن لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار بالبط ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ اليد أحرز عند المغالبة ، والكم أحرز عند غيرها ، فإن تركها في يده عند المغالبة ، فلا ضمان عليه ، لأنه زادها احتياطاً ، وإلا ضمنها لنقلها إلى أدنى مما أمره به ، وهذا صحيح ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اجعلها في كمك ، فتركها في جيبه ، لم يضمن ، لأنه أحرز ، لأنه ربما نسي ، فسقطت من الكم ، وإن قال ‏:‏ اجعلها في جيبك ، فتركها في كمه ، ضمن ‏.‏ وإن قال ‏:‏ اتركها في بيتك فشدها في ثيابه ، واخرجها معه ، ضمن ، لأن البيت أحرز ، وإن شدها على عضده مما يلي جنبه ، لم يضمن ، لأنه أحرز من البيت ، فإن شدها مما يلي الجانب الآخر ، ضمن ، لأن البيت أحرز منه ، ولأنه ربما يبطها الطرار ‏.‏ وإن قال ‏:‏ احفظها في البيت ، ودفعها إليه في غيره ، فمضى بها إليه في الحال ، لم يضمن ، وإن قعد وتوانى ، ضمنها ، لأنه توانى عن حفظها فيما أمر به مع الإمكان ، فإن قال ‏:‏ احفظ هذا الخاتم في البنصر ، فجعله في الخنصر ، ضمن لأنه دون البنصر ، فالخاتم فيها أسرع إلى الوقوع ، وإن جعله في الوسطى ، وأمكن إدخاله في جميعها ، لم يضمن ، لأنها أغلظ ، فهي أحفظ ، وإن انكسر أو بقي في رأسها ، ضمن لتعديه فيه ، وإن قال ‏:‏ لا تدخل أحداً البيت الذي فيه الوديعة ، فخالفه فسرقت ، ضمن ، لأن الداخل ربما دل السارق عليها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أراد المودع السفر ، أو عجز عن حفظها ، ردها على صاحبها أو وكيله ، ولم يجز دفعها إلى الحاكم ، لأنه لا ولاية للحاكم على حاضر ، فإذا سافر بها في طريق مخوف ، أو إلى بلد مخوف ، أو نهاه المالك عن السفر بها ، ضمن ، لأنه مفرط أو مخالف ، وإن لم يكن كذلك ، لم يضمن ، لأنه نقلها إلى موضع مأمون ، أشبه ما لو نقلها في البلد ، وإن لم يرد السفر بها ، ولم يجد مالكها ، دفعها إلى الحاكم ، لأنه متبرع بالحفظ ، فلا يلزمه ذلك في الدوام ، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته ، فإن دفعها إلى غيره مع قدرته عليه ، ضمنها ، لأنه كصاحبها عند غيبته ، وإن لم يجد حاكماً أودعها ثقة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن ، ولأنه موضع الحاجة ‏.‏

وعنه ‏:‏ يضمن ، قال القاضي ‏:‏ يعني إن أودعها من غير حاجة ، فإن دفنها في الدار ، وأعلم بها ثقة يده على المكان ، فهو كإيداعها إياه ، وإن لم يعلم بها أحد ، فقد فرط ، لأنه لا يأمن الموت في سفره ، وإن أعلم بها من لا يد له على المكان ، فكذلك ، لأنه ما أودعها ، وإن أعلم بها غير ثقة ضمنها ، لأنه عرضها للذهاب ، وإن حضره الموت ، فهو كسفره ، لأنه يعجز عن حفظها ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة ، لأن صاحبها لم يرض أمانة غيره ، فإن فعل ، فتلفت عند الثاني مع علمه بالحال ، فله تضمين أيهما شاء ، لأنهما متعديان ، ويستقر ضمانها على الثاني ، لأن التلف حصل عنده ، وقد دخل على أنه يضمن ، وإن لم يعلم الحال ، فقال القاضي ‏:‏ يضمن أيهما شاء ، ويستقر ضمانها على الأول ، لأن الثاني يدخل على أنه أمين ‏.‏ وظاهر كلام أحمد أنه لا يملك تضمين الثاني لذلك ‏.‏ وإن دفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله ، كزوجته وأمته وخازنه ، لم يضمن ، لأنه حفظها بما يحفظ به ماله ، فأشبه حفظها بنفسه ، وإن استعان بغيره في حملها ، ووضعها في الحرز ، وسقي الدابة وعلفها ، لم يضمن لأن العادة جارية بذلك ، أشبه فعله بنفسه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن خلطها بما لا تتميز منه ، ضمنها ، لأنه لا يمكنه رد أعيانه ، وإن خلطها بما تتميز منه ، كصحاح بمكسرة ، وسود ببيض ، لم يضمن ، لأنها تتميز من ماله ، أشبه ما لو تركها مع أكياس له في صندوقه ، وعنه فيمن خلط بيضاً بسود ‏:‏ يضمن ، وهذا محمول على أن السود تؤثر في البيض ، فيضمنها لذلك ، وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية ‏:‏ أنه يضمنها إذا خلطها مع التمييز ‏.‏ وإن أودعه دراهم في كيس مشدود ، فحله ، أو خرق ما تحت الشد ، أو كسر الختم ضمن ما فيه ، لأنه هتك الحرز لغير عذر ، فإن كانت من غير وعاء ، فأخذ منها درهماً ، ضمنه وحده ، لأنه تعدى فيه وحده ، فإن رده إليها ، لم يزل ضمانه ، لأنه ثبت بتعديه فيه ، فلم يزل إلا برده إلى مالكه ، وإن رد بدله ، وكان متميزاً لم يضمن غيره لذلك ، وإن لم يتميز ، ضمن الكل لخلطه الوديعة بما لا يتميز ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يضمن غيره ، لأنه لا يعجز عن ردها ، ورد ما يلزمه رده معها ‏.‏ ومن لزمه الضمان بتعديه ، فترك التعدي ، لم يبرأ من ضمانها ، لأن الضمان تعلق بذمته ، فلم يبرأ بترك التعدي ، كما لو غصب شيئاً من داره ، ثم رده إليها ، وإن ردها إلى صاحبها ، ثم ردها صاحبها إليه ، برئ ، لأن هذا وديعة ثانية ‏.‏ وإن أبرأه من الضمان ، برئ ، لأن الضمان حقه ، فبرئ منه بإبرائه كدينه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن أودع بهيمة ، فلم يعلفها ، ولم يسقها حتى ماتت ، ضمنها ، لأن في ذلك هلاكها ، فأشبه ما لو لم يحرزها ، وإن نهاه المالك عنه ، فتركه ، أثم لحرمة الحيوان ، ولم يضمن ، لأن مالكها أذن في إتلافها ، فأشبه ما لو أمره بقتلها ، والحكم في النفقة والرجوع كالحكم في نفقة البهائم المرهونة ، لأنها أمانة مثلها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها ، كإخراج الثياب للنشر ، والدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة ، لم يضمن ، لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد ، وإن نوى جحد الوديعة ، أو إمساكها لنفسه ، أو التعدي فيها ، ولم يفعل ، لم يضمن ، لأن النية المجردة معفو عنها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلم به أو تعمل به رواه البخاري ومسلم بمعناه ‏.‏

وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها ، لأن تصرف فيها بما ينفي مقتضاها فضمنها ، كما لو أحرزها من غير حرزها ، إن أخذت منه قهراً ، لم يضمن ، لأنه غير مفرط ، أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى ‏.‏ وإن أكره حتى سلمها ، لم يضمن ، لأنه مكره ، أشبه الأول ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن طولب في الوديعة فأنكرها ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدمها ، وإن أقر بها وادعى ردها ، أو تلفها بأمر خفي ، قبل قوله مع يمينه ، لأن قبضها لنفع مالكها ‏.‏ وإن كان بأمر ظاهر ، فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك الناحية ، ثم القول قوله مع يمينه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن طالبه برد الوديعة ، فأخره لعذر ، لم يضمن ، لأنه لا تفريط من جهته ، وإن أخره لغير عذر ، ضمنها لتفريطه ، ومؤنة ردها على مالكها ، لأن الإيداع لحظة ‏.‏


باب العارية


وهي هبة المنافع ، وهي مندوب إليها ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البر والتقوى‏}‏ ولأن فيها عوناً لأخيه المسلم وقضاء حاجته ‏(‏‏(‏ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ‏)‏‏)‏ وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها ، ‏(‏‏(‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً فركبها ‏.‏ واستعار من صفون بن أمية أدراعاً ‏)‏‏)‏ ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وسئل عن حق الإبل فقال‏:‏ إعارة دلوها وإطراق فحلها فثبتت إعارة ذلك بالخبر ، وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه ‏.‏ فيجوز إعارة الفحل للضراب ، للخبر ، والكلب للصيد قياساً عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر ، لأنه لا يجوز أن يستخدمه ، ولا الصيد لمحرم ، لأنه لا يجوز له إمساكه ، ولا الجارية الجميلة لغير ذي محرم منها على وجه يفضي إلى خلوته بها لأنه لا يؤمن عليها ، فإن كانت شوهاء ، أو كبيرة لا يشتهى مثلها ، فلا بأس ، لأنه يؤمن عليها ‏.‏ ويكره الاستعارة والدية للخدمة ، لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما كذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قبض العين ضمنها ، لما روى صفوان بن أمية ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعاً يوم حنين ، فقال ‏:‏ أغصباً يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ بل عارية مضمونة وروي مؤادة رواه أبو داود ، ولأنه قبض مال غيره لنفع نفسه ، لا للوثيقة ‏.‏ فضمنه كالمغصوب ، وعليه مؤنة ردها لذلك ، فإن شرط نفي الضمان ، لم ينتف ، لأن ما يضمن لا ينتفى بالشرط ‏.‏ وقال أبو حفص العكبري ‏:‏ يبرأ ، لأن الضمان حقه فسقط بإسقاطه ، كالوديعة التي تعدى فيها ، فإن استخلف الثوب ، أو نقصت قيمتها ، لم يضمن ، لأنه مأذون فيه ، لدخوله فيما هو من ضرورته ‏.‏ ولو تلفت ، ضمنها بقيمتها يوم تلفها ، لأن نقصها قبل ذلك غير مضمون ، بدليل أنه لو ردها ، لم يضمنه ‏.‏ فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كحمل المنشفة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يضمنه ، لما ذكرنا ‏.‏

والثاني ‏:‏ يضمنه ، لأنه من أجزائها فيضمنه كسائر أجزائها ‏.‏ وإن تلف ولد العارية ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يضمنه ، لأنه تابع لما يجب ضمانه ، فيجب ضمانه ، كولد المغصوب ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يضمن ، لأنه لم يدخل في العارية فلم يدخل في الضمان ، بخلاف المغصوب ‏.‏ فإن ولدها داخل في الغصب ‏.‏

فصل ‏:‏

والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها ، لأنها إباحة ، فأشبهت إباحة الطعام ، وعليه ردها إلى المعير ، أو من جرت عادته أن يجري ذلك على يديه كرد الدابة إلى سائسها ، فإن ردها إلى غيرهما ، أو دار المالك ، أو اصطبله ، لم يبرأ من الضمان ، لأن ما وجب رده ، لم يبرأ برده إلى ذلك ، كالمغصوب ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن استعار شيئاً ، فله استيفاء نفعه بنفسه ، ووكيله ، لأنه نائب عنه ‏.‏ وليس له أن يعيره ، لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره ، كإباحة الطعام ‏.‏ فإن أعاره فتلف عند الثاني ، فللمالك تضمين أيهما شاء ، ويستقر الضمان على الثاني ، لأنه قبضه على أنه ضامن له ، وتلف في يده ، فاستقر الضمان عليه ، كالغاصب من الغاصب ‏.‏

فصل ‏:‏

وتجوز العارية مطلقة ومعينة ، لأنها إباحة ، فأشبهت إباحة الطعام ‏.‏ فإن أطلقها ، فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له ، فإن كانت أرضاً ، فله أن يبني ويغرس ويزرع ، لأنها تصلح لذلك كله ‏.‏ وإن عين نفعاً ، فله أن يستوفيه ومثله ودونه ، وليس له استيفاء أكثر منه على ما ذكرنا في الإجارة ‏.‏

فصل ‏:‏

وتجوز مطلقة ومؤقتة ، فإن أعارها لغراس سنة ، لم يملك للغرس بعدها ‏.‏ فإن غرس بعدها ، فحكمه حكم غرس الغاصب ، لأنه بغير إذنه ، وإن رجع قبل السنة ، لم يملك الغرس بعد الرجوع ، لأن الإذن قد زال ‏.‏ فأما ما غرسه بالإذن فإن كان قد شرط عليه قلعه ، لزمه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ المسلمون على شروطهم حديث حسن صحيح ‏.‏ وإن شرط عليه تسوية الحفر ، لزمه ، للخبر ، وإلا لم يلزمه ، لأنه أذن في حفرها باشتراطه القلع ، ولم يشترط تسويتها ‏.‏ وإن لم يشترط عليه قلعه لكن لا تنقص قيمته بقلعه ، لزم قلعه ، لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب ، وإن نقصت قيمته بالقلع فاختار المستعير ، فله ذلك ، لأنه ملكه فملك نقله ، وعليه تسوية الأرض ، لأن القلع باختياره لو امتنع منه ، لم يجبر عليه ، لأنه فعله لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية ، كالمشتري مع الشفيع إذا أخذ غرسه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا تلزمه التسوية ، لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي لا يزول إلا بالحفر عليه ‏.‏وإن أبى قلعه فبذل المعير قيمته ليملكه ، أجبر على قبولها ، لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق ، فأشبه الشفيع مع المشتري ‏.‏ولو بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه ، لم يجبر المعير عليه ، لأن الغرس يتبع الأرض في الملك ، بخلاف الأرض ‏.‏ فإنها لا تتبع للغرس فإن بذل المعير أرش النقص الحاصل بالقلع ، أجبر المستعير على قبوله ، لأنه رجوع في العارية من غير إضرار ‏.‏ وإن لم يبذل القيمة ، ولا أرش النقص ، وامتنع المستعير من القلع ، لم يقلع ، لأنه إذن له فيما يتأبد ، فلم يملك الرجوع على وجه يضر به ، كما لو أذن له في وضع خشبة على حائطه ‏.‏ ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة لأن بقاء غرسه بحكم العارية ، وهي انتفاع بغير أجرة ، كالخشب على الحائط ‏.‏ وذكروا في الزرع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع ، لأنه لا يملك الانتفاع بأرض غيره بعد الرجوع بغير أجرة ، وهذا يقتضي وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع ‏.‏ وللمعير دخول أرضه كيف شاء لأن بياضها له ، لا حق للمستعير فيها ، وللمستعير دخولها ، للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة ، لأن الإذن في الغراس إذن بما يعود في صلاحه ، وأخذ الثمرة وليس له دخولها للتفرج ونحوه ، ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون بمنزلته ، لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه ، كالشقص المشفوع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن رجع في العارية وفي الأرض ، زرع مما يحصد قصيلاً ، حصده ، لأنه أمكن الرجوع من غير إضرار ‏.‏ وإن لم يكن ، لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده ، لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير ‏.‏ وإن حمل السيل بذر رجل إلى أرض آخر فنبت فيه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ حكمه حكم العارية ، لأنه بغير تفريط من ربه إلا أن عليه أجرة الأرض ، لأنه لا يجوز استيفاء نفع أرش إنسان بغير إذنه من غير أجرة ، فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ ليس عليه أجرة ، لأنه حصل بغير تفريطه ، أشبه مبيت بهيمته في دار غيره ‏.‏

والثاني ‏:‏ حكمه حكم الغصب ، لأنه حصل في ملكه بغير إذنه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أعاره حائطاً ليضع عليه أطراف خشبه ، لم يكن له الرجوع ما دام الخشب على الحائط ، لأن هذا يراد لبقاء ، وليس له الإضرار بالمستعير ‏.‏ فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه ، لم يكن له ، لأن معظمه في ملك صاحبه ، فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط ، لم يجز رده إلا بإذن مستأنف ، لأن الإذن تناول الوضع الأول ، فلا يتعدى إلى غيره ‏.‏ وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ، ثم نقلت ، جاز إعادتها ، لأن الظاهر أنها بحق ثابت ‏.‏ وإن استعار سفينة ، فحمل متاعه فيها ، لم يملك صاحبها الرجوع فيها حتى ترسي ‏.‏ وإن أعاره أرضاً للدفن ، لم يملك الرجوع فيها ما لم يبل الميت لما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن استعار شيئاً يرهنه مدة معلومة على دين معلوم ،صح ، لأنه نوع انتفاع ‏.‏ فإن أطلق الإذن من غير تعيين ، صح ، لأن العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع ‏.‏ فإن عين فخالفه ، فالرهن باطل ، لأنه رهنه بغير إذن مالكه ‏.‏ وإن أذن له في رهنه بمائة ، فرهنه بأقل منها ، بطل في الكل في أحد الوجهين ، لأنه مخالف ، أشبه ما لو خالف في الجنس ‏.‏ وفي الآخر ‏:‏ يصح في المأذون ، ويبطل في الزائد ، كتفريق الصفقة ‏.‏

وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال ، سواء أجله أو أطلق ، لأن العارية لا تلزم ‏.‏ وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفى الدين من ثمنه ، لأن هذا مقتضى الرهن ، ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثلياً ، لأن العارية مضمونة بذلك ، ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة ، لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها ‏.‏ وإن بيع بأكثر من قيمته ، رجع به ، لأن ثمن العين ملك لصاحبها ، وقيل ‏:‏ لا يرجع بالزيادة ‏.‏ وإن تلف في يد المرتهن ، رجع المعير على المستعير ، ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى ، وإلا فلا ‏.‏

فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن ، رجع عليه ، وإن كان بغير إذنه متبرعاً ، لم يرجع ‏.‏ وإن قضاه محتبساً بالرجوع ، ففيه روايتان ، بناء على قضاء دينه بغير إذنه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال ‏:‏ أعرتنيها فقال ‏:‏ بل أجرتكها عقيب العقد ، والدابة قائمة ، فالقول قول الراكب ، لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة ‏.‏ وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة ، فالقول قول المالك ، لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره ، فأشبه ما لو اختلفا في العين فقال ‏:‏ وهبتنيها وقال ‏:‏ بل بعتكها ، فيحلف المالك ، ويجب له المسمى في أحد الوجهين ، لأنه ادعاه وحلف عليه ‏.‏ والآخر تجب أجرة المثل ، لأنهما لو اتفقا على الإجارة ، واختلفا في قدر الأجرة ، لم يجب أكثر من أجرة المثل ، فمع الاختلاف أولى ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أكريتنيها ‏.‏ قال ‏:‏ بل أعرتكها ، بعد تلفها أو قبله ، فالقول قول المالك مع يمينه ، لأنهما اختلفا في صفة القبض ، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان ، لقوله عليه السلام ‏:‏ على اليد ما أخذت حتى ترده حديث حسن ‏.‏ والقول قول الراكب في قدر القيمة مع يمينه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ غصبتنيها ‏.‏ قال ‏:‏ بل أعرتنيها أو أكريتنيها ، فالقول قول المالك لذلك ، ولأن الراكب يدعي انتقال المنافع إلى ملكه بالعارية أو الكراء ‏.‏و المالك ينكر ذلك والأصل معه ‏.‏


باب الغصب


وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق ، وهو محرم بالإجماع ‏.‏ وقد روى جابر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر ‏:‏ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا رواه مسلم ‏.‏ ومن غصب شيئاً ، لزمه رده ، لما روى سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ على اليد ما أخذت حتى ترده وإن نقصت لتغير الأسعار ، لم يضمنها ، لأن حق المالك في العين ، وهي باقية لم تتغير صفتها ، فلا حق له في القيمة مع بقاء العين ، وإن نقصت القيمة لنقص المغصوب نقصاً مستقراً ، كثوب استخلق ، أو تخرق ، وإناء تكسر أو تشقق ، وشاة ذبحت ، وحنطة طحنت ، فعليه رده وأرش نقصه ، لأنه نقص عين نقصت به القيمة ، فوجب ضمانه ، كذراع من الثوب ‏.‏ وإن طالب المالك ببدله ، لم يملك ذلك ، لأن عين ماله باق ، فلم يملك المطالبة ببدله ، كما لو قطع من الثوب جزءاً ، وإن كان النقص غير مستقر ، كطعام ابتل أو عفن ، فله بدله في قول القاضي ، لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ يخير بين ذلك وبين تركه حتى يستقر فيه الفساد ، ويأخذه مع أرشه ، لأن عين ماله باقية ، فلا يمنع من أخذها مع أرشها ، كالثوب الذي تخرق ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه ، كنقصه لكبر ، أو مرض ، أو شجة دون الموضحة ، ففيه ما نقص مع الرد لذلك ، وإن كان أرشه مقدراً ، كذهاب يده ، فكذلك في إحدى الروايتين ، لأنه ضمان مال ، أشبه ضمان البهيمة ‏.‏والأخرى ‏:‏ يرده وما يجب بالجناية ، لأنه ضمان في الرقيق فوجب فيه المقدر ، كضمان الجناية ، فإن قطع الغاصب يده ، فعلى هذه الرواية الواجب نصف قيمته ، كغير المغصوب ‏.‏ وعلى الأولى عليه أكثر الأمرين من نصف قيمته ، أو قدر نصفه ، لأنه قد وجد اليد والجناية ، فوجب أكثرهما ضماناً ‏.‏ وإن غصب عبداً ، فقطع أجنبي يده ، فللمالك تضمين أيهما شاء ‏.‏ فعلى الأولى ‏:‏ إن ضمن الغاصب ، ضمنه أكثر الأمرين ، ويرجع الغاصب على القاطع بنصف قيمته لا غير ، لأن ضمانه ضمان الجناية ‏.‏ وإن ضمن الجاني ، ضمنه نصف القيمة وطالب الغاصب بتمام النقص ‏.‏ وعلى الثانية ‏:‏ يطالب أيهما شاء ، ويستقر الضمان على القاطع ، لأنه المتلف فيكون الرجوع عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

وروي عن أحمد فيمن قلع عين فرس ‏:‏ أنه يضمنها بربع قيمتها ، لأنه يروى عن عمر رضي الله عنه والصحيح أن يضمنها بنقصها ، لأنها بهيمة فلم يكن فيها مقدر ، كسائر البهائم أو كسائر أعضائها ، ويحمل ما روي عن عمر رضي الله عنه على أن عين الدابة التي قضى فيها نقصها ربع القيمة ‏.‏ ولو غصب دابة قيمتها مائة ، فزادت فصارت قيمتها ألفاً، ثم جنى عليها جناية نقصت نصف قيمتها ، لزمه خمسمائة ، لأن الواجب قيمة ما أتلف يوم التلف ، وقد فوت نصفها ، فضمن خمسمائة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن نقصت العين دون القيمة ، وكان الذاهب يضمن بمقدر ، كعبد خصاه وزيت أغلاه ، فذهب نصفه ، ولم تنقص قيمته ، فعليه قيمة العبد ، ومثل ما نقص من الزيت مع ردهما ، لأن الواجب فيهما مقدر بذلك ، فإن لم يكن مقدراً ، كعبد سمين هزل فلم تنقص قيمته ، لم يلزمه أرش هزاله ، لأن الواجب فيه ما نقص من القيمة ، ولم تنقص ‏.‏ فإن أغلى عصيراً فنقص ، فهو كالزيت ، لأنه في معناه ، ويحتمل أنه لا يضمن ، لأن الغليان عقد أجزائه وجمعها ، وأذهب مائيته فقط ، بخلاف الزيت ، فإن نقصت عينه وقيمته ، فعليه مثل ما نقص من العين وأرش نقص الباقي في العصير والزيت ، لأن كل واحد من النقصين مضمون منفرد فكذلك إذا اجتمعا ‏.‏ ولو شق ثوباً ينقصه الشق نصفين ، ثم تلف أحدهما ، رد الباقي وتمام قيمة الثوب قبل قطعه ، وإن غصب خفين ، فتلف أحدهما ، فكذلك في أحد الوجهين ، لأن نقص الباقي بسبب تعديه ‏.‏ والآخر ‏.‏ لا يلزمه إلا رد الباقي ، وقيمة التالف ، لأنه لم يتلف إلا أحدهما ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا غصب عبداً مرض ، أو ابيضت عينه ثم برئ ، لم يلزمه إلا رده ، لأن نقصه زال ، فأشبه ما لو انقلعت سنه ، ثم عادت ‏.‏ وإن هزل ثم سمن ، أو نسي صناعته ثم علمها ، فكذلك في أحد الوجهين ، لأن نقصه زال ، فأشبهت التي قبلها ‏.‏ والآخر ‏:‏ يضمن النقص ، لأن السن الثاني غير الأول ، فلا يسقط به ما وجب بزوال الأول ، فعلى هذا الوجه ، لو سمن ثم هزل ، ضمنهما معاً ، لأن الثاني غير الأول ، وعلى الوجه الأول ، يضمن أكثر السمنين قيمة ، لأن عود السمن أسقط ما قابله من الأرش ، فإن كانت الزيادة الثانية ، من غير جنس الأولى ، كعبد هزل فنقصت قيمته ، ثم تعلم فعادت قيمته ، ضمن الأولى ، لأن الثانية من غير جنس الأولى ، فلا تنجبر بها ، وإن نسي الصناعة أيضاً ، ضمن النقصين جميعاً ، لما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن جنى العبد المغصوب ، لزم الغاصب ما يستوفي من جنايته ، لأنه بسبب كان في يده ، وإن أقيد منه في الطرف ، فحكمه حكم ذهابه بفعل الله تعالى ، لكونه ضماناً وجب باليد لا بالجناية ، فإن القطع قصاصاً ليس بجناية ، وأن تعلق الأرش برقبته ، فعليه فداؤه ، لأنه حق تعلق برقبته في يده ، فلزمه تخليصه منه ‏.‏ وإن جنى على سيده ، ضمن الغاصب جنايته ، لأنها من جملة جناياته ، فأشبه الجناية على أجنبي ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن زاد المغصوب في يده ، كجارية سمنت ، أو ولدت ، أو كسبت ، أو شجرة أثمرت ، أو طالت ، فالزيادة للمالك مضمونه على الغاصب ، لأنها حصلت في يده بالغصب ، فأشبهت الأصل ، وإن ألقت الولد ميتاً ، ضمنه بقيمته ، يوم الوضع لو كان حياً ، لأنه غصب بغصب الأم ‏.‏ وإن صاد العبد والجارية صيداً ، فهو لمالكهما ، لأنه من كسبهما ‏.‏ وهل تجب أجرة العبد الكاسب أو الصائد في مدة كسبه ، أو صيده ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا تجب لأن منافعه صارت إلى سيده ، فأشبه ما لو كان في يده ‏.‏

والثاني ‏:‏ تجب لأن الغاصب أتلف منافعه ‏.‏ وإن أغصب فرساً ، أو قوساً ، أو شركاً ، فصاد به ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو لصاحبه ، لأن صيده حصل به ، أشبه صيد الجارحة ‏.‏

والثاني ‏:‏ للغاصب ، لأنه الصائد ، وهذه آلة ‏.‏ وإن غصب منجلاً ، فقطع به حطباً ، أو خشباً أو حشيشاً ، فهو للغاصب ، لأن هذا آلة ، فهو كالحبل يربطه به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب أثماناً ، فاتجر بها ، فالربح لصاحبها ، لأنه نماء ماله ،وإن اشترى في ذمته ، ثم نقدها فيه ، فكذلك في إحدى الروايتين ‏.‏ والأخرى ‏:‏ هو للغاصب ، لأن الثمن ثبت في ذمته ، فكان الشراء له ، والمبيع ربحه له ، لأنه بذل ما وجب عليه ‏.‏ وقياس المذهب ‏:‏ إنه إذا اشترى بعينه كان الشراء باطلاً ، والسلعة للبائع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب عيناً ، فاستحالت ، كبيض صار فرخاً ، وحب صار زرعاً ، وزرع صار حباً ، ونى صار شجراً ، وجب رده ، لأنه عين ماله ، فإن نقصت قيمته ، ضمن أرش نقصه ، لحدوثه في يده ، وإن زاد ، فالزيادة لمالكه ولا شيء للغاصب بعمله فيه ، لأنه غير مأذون فيه ، وإن غصب عصيراً فتخمر ، ضمن العصير بمثله ، لأنه تلف في يده ، فإن عاد خلاً ، رده ، وما نقص من قيمة العصير ، لأنه عين العصير ، أشبه النوى يصير شجراً ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن عمل فيه عملاً ، كثوب قصره ، أو فصله وخاطه ، أو قطن غزله ، أو غزل نسجه ، أو خشب نجره ، أو ذهب صاغه ، أو ضربه ، أو حديد جعله إبراً ، فعليه رده ، لأنه عين ماله ، ولا شيء للغاصب ، لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه ، فلم يستحق شيئاً ، كما لو أغلى الزيت ‏.‏ وإن نقص بذلك ، فعليه ضمان نقصه ، لأنه حدث بفعله ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه إن زاد يكون شريكاً للمالك بالزيادة ، لأن منافعه أجريت مجرى الأعيان ، أشبه ، ما لو صبغ الثوب والأول أصح ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن غصب شيئاً ، فخلطه بما يتميز منه ، كحنطة بشعير ، أو زبيب أحمر بأسود ، فعليه تمييزه ورده ، لأنه أمكن رده ، فوجب ، كما لو غصب عيناً فبعدها ، وإن خلطه بمثله مما لا يتميز ، كزيت بزيت ، لزمه مثل كيله منه ، لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه ، فلم ينتقل إلى البدل في الجميع ، كما لو غصب شيئاً ، فتلف بعضه ‏.‏ وهذا ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه ، لأنه نص على أنه شريك إذا خلطه بغير جنسه ، فنبه على الشركة إذا كان مثله ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ قياس المذهب ، أنه يلزمه مثله ، إن شاء الغاصب منه أو من غيره ، لأنه تعذر رد عينه ، أشبه ما لو أتلفه ‏.‏ وإن خلط بأجود منه ، لزمه مثله من حيث شاء الغاصب ، فإن دفع إليه منه ، لزمه أخذه ، لأنه أوصل إليه خيراً من حقه من جنسه ‏.‏ وإن خلطه بدونه ، لزمه مثله ، فإن اتفقا على أخذ المثل منه ، جاز ‏.‏ وإن أباه المالك ، لم يجبر ، لأنه دون حقه ‏.‏ وإن طلب ذلك ، فأباه الغاصب ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يجبر ، لأن الحق انتقل إلى ذمته ، فكانت الخيرة إليه في التعيين ‏.‏

والثاني ‏:‏ يلزمه ، لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه من غير ضرر ، فلزمه ، كما لو كان مثله‏.‏ وإن خلطه بغير جنسه ، كزيت بشيرج ، لزمه مثله من غيره ، وأيهما طلب الدفع منه ، فأبى الآخر ، لم يجبر ، وقد قال أحمد في رجل له رطل زيت اختلط برطل شيرج لآخر ‏:‏ يباع الدهن كله ، ويعطى كل واحد منهما قدر حصته ، فيحتمل أن يختص هذا بما لم يخلطه أحدهما، ويحتمل أن يعم سائر الصور ، لأنه أمكن أن يصل إلى كل واحد بدل عين ماله ، فأشبه ما لو غصب ثوباً فصبغه ‏.‏ فإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته مفرداً ، ضمن الغاصب نقصه ، لأنه بفعله ، وإن خلطه بما لا قيمة له ، كزيت بماء وأمكن تخليصه ، وجب تخليصه ورده مع أرش نقصه ، وإن لم يمكن تخليصه ، أو كان ذلك يفسده ، وجب مثله ، لأنه أتلفه ‏.‏ ولو أعطاه بدل الجيد أكثر منه رديئاً ، أو أقل منه وأجود صفة ، لم يجز ، لأنه ربا ، إلا أن يكون اختلاطه بغير جنسه ، فيجوز ، لأن الربا لا يجوز في جنسين ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن غصب ثوباً فصبغه ، فلم تزد قيمة الثوب والصبغ ولم تنقص ، فهما شريكان يباع الثوب ويقسم ثمنه بينهما ، لأن الصبغ عين مال ، له قيمة ، فلم يسقط حقه فيها باتصالها بمال غيره ‏.‏ وإن زادت قيمتهما ، لأنها نماء مالهما ‏.‏ وإن نقصت القيمة ، ضمنها الغاصب ، لأن النقص حصل بسببه ‏.‏ وإن زادت قيمة أحدهما لزيادة قيمته في السوق ، فالزيادة لمالك ذلك ، لأنها نماء ماله ‏.‏ وإن بقيت للصبغ قيمة ، فأراد الغاصب إخراجه ، وضمان النقص ، فله ذلك ، لأن عين ماله ، أشبه ما لو غرس في أرض غيره ، ويحتمل أن لا يملك ذلك ، لأنه يضر بملك المغصوب منه لنفع نفسه ، فمنع منه ، بخلاف الأرض ، فإنه يمكن إزالة الضرر بتسوية الحفر ، ولأن قلع الغرس معتاد ، بخلاف قلع الصبغ ‏.‏ وإن أراد المالك قلعه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يملكه ولا شيء عليه ، كما يملك قلع الشجر من أرضه ‏.‏

والآخر ‏:‏ لا يملكه ، لأن الصبغ يهلك به ، أشبه قلع الزرع ‏.‏ وإن بذل المالك قيمة الصبغ ليملكه ، لم يجبر الغاصب عليه ، لأنه بيع ماله ، ويحتمل أن يجبر ‏.‏ كما يملك أخذ زرع الغاصب بقيمته ، وكالشفيع يأخذ غرس المشتري ‏.‏ وإن وهبه الغاصب لمالكه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلزمه قبوله ، لأنه صار صفة للعين ، فأشبه قصارة الثوب ‏.‏

والآخر ‏:‏ لا يلزمه ، لأن الصبغ عين يمكن إفرادها فأشبه الغراس ، فإن أراد المالك بيع الثوب، فله ذلك ، لأنه ملكه ، فلم يمنع بيعه ، وإن طلب الغاصب بيعه ، فأباه المالك ، لم يجبر ، لأن الغاصب متعد ، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك صاحب الثوب عنه ، كما لو طلب الغارس في أرض غيره بيعها ‏.‏ ويحتمل أن يجبر ، ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه ، وإن غصب ثوباً وصبغاً من رجل فصبغه به ، فعليه رده وأرش نقصه إن نقص ، لأنه بفعله والزيادة للمالك ، لأنه عين ماله ليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل ‏.‏ وإن صبغه بصبغ غصبه من غيره ، فهما شريكان في الأصل والزيادة ، وإن نقص ، فالنقص من الصبغ ، لأنه تبدد ، ويرجع صاحبه على الغاصب لأنه بدده ‏.‏ وإن غصب عسلاً ونشاء ، فعمله حلواء ، فحكمه كحكم غصب الثوب وصبغه سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب أرضاً ، فغرسها ، أو بنى فيها ، لزمه قلعه ‏.‏ لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ليس لعرق ظالم حق قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث حسن ‏.‏ ولأنه شغل ملك غيره ، بملك لا حرمة له في نفسه فلزمه تفريغه ، كما لو ترك فيها قماشاً ، وعليه تسوية الحفر ، ورد الأرض إلى ما كانت عليه ‏.‏ وضمان نقصها إن نقصت ، لأنه حصل بفعله ‏.‏ وإن بدل له المالك قيمة غرسه ، وبنائه ، ليملكه ، فأبى إلا القلع ، فله ذلك ، لأنها معاوضة ، فلم يجبر عليها ‏.‏ وإن وهبه الغاصب الغراس ، أو البناء ، لم يجبر على قبوله ، إن كان له غرض في القلع ، لأنه يفوت غرضه ، وإن لم يكن فيه غرض ، احتمل أن يجبر ، لأنه يتخلص كل واحد منهما من صاحبه بغير ضرر ، واحتمل أن لا يجبر ، لأن ذلك عين يمكن إفرادها ، فلم يجبر على قبولها ، كما لو يكن في أرضه ‏.‏ وإن غرسها من ملك صاحب الأرض فطالبه بالقلع ، وله فيه غرض ، لزمه ، لأنه فوت عليه غرضاً بالغرس ، فلزمه رده، كما لو ترك فيها حجراً ، ولم يكن فيها حجراً ، وإن لم يكن فيه غرض ، لم يجبر عليه ، لأنه سفه ، ويحتمل أن يجبر ، لأن المالك محكم في ملكه ، وإن أراد الغاصب قلعه ، فللمالك منعه، لأنه ملكه ، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن حفر فيها بئراً ، فطالبه المالك بطمها ، لزمه ، لأنه نقل ملكه ، وهو التراب من موضعه ، فلزمه رده ، وإن طلب الغاصب طمها لدفع ضرر ، مثل إن جعل ترابها في غير أرض المالك ، فله طمها ، لأنه لا يجبر على إبقاء ما يتضرر به ، كإبقاء غرسه ، وإن جعل التراب في أرض المالك ، لم يبرئه من ضمان ما يتلف بها ، فله طمها ، لأنه يدفع ضرر الضمان عنه ، وإن أبرأه من ضمان ما يتلف بها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يبرأ لأنه لما سقط الضمان بالإذن في حفرها ، سقط بالإبراء منها ، فعلى هذا لا يملك طمها ، لأنه لا غرض فيه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يبرأ بالإبراء ، لأنه إنما يكون من واجب ، ولم يجب بعد شيء فعلى هذا يملك طمها لغرضه فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن زرعها ، وأخذ زرعه ، فعليه أجرة الأرض ، وما نقصها ، والزرع له ، لأنه عين بذره نما ، وإن أدركها ربها ، والزرع قائم ، فليس له إجبار الغاصب على القلع ، ويخير بين تركه إلى الحصاد بالأجرة ، وبين أخذه ، ويدفع إلى الغاصب نفقته ، لما روى رافع بن خديج قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء ، وله نفقته قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث حسن ‏.‏ ولأنه أمكن الجمع في الحقين بغير إتلاف ، فلم يجز الإتلاف ، ، كما لو غصب لوحاً ، فرقع به سفينة ملججة في البحر ، وفارق الغراس ، لأنه لا غاية له ينتظر إليها ‏.‏ وفيما يرد في النفقة روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ القيمة ، لأنه بدل عنه ، فتقدرت به ، كقيم المتلفات ‏.‏

والثانية ‏:‏ ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع من الحرث وغيره ، لظاهر الحديث ، ولأن قيمة الزرع زادت في أرض المالك ، فلم يكن عليه عوضها ، وإن أدرك رب الأرض شجر الغاصب مثمراً ، فقال القاضي ‏:‏ للمالك أخذه ، وعليه ما أنفقه الغاصب من مؤنة الثمر ، كالزرع ، لأنه في معناه ، وظاهر كلام الخرقي ‏:‏ أنه للغاصب ، لأنه ثمر شجره ، فكان له كولد أمته ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن جصص الدار ، وزوقها ، فالحكم فيه كالحكم في البناء سواء ، وإن وهب ذلك لمالكها ، ففي إجباره على قبول الهبة وجهان ، كالصبغ في الثوب ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب عيناً فبعدت بفعله أو بغيره ، فعليه ردها ، وإن غرم أضعاف قيمتها ، لأنه بتعديه‏.‏ وإن غصب خشبة فبنى عليها فبليت ، لم يجب ردها ووجب قيمتها ، لأنها هلكت فسقط ردها ‏.‏ وإن بقيت على جهتها ، لزم ردها ، وإن انتقض البناء ، لأنه مغصوب يمكن رده ، فوجب ، كما لو بعدها ‏.‏ وإن غصب خيطاً فخاط به ثوباً ، فهو كالخشبة في البناء ‏.‏ وإن أخاط به جرحه ، أو جرح حيوان يخاف التلف بقلعه ، أو ضرراً كثيراً ، لم يقلع ، لأن حرمة الحيوان آكد من حرمة مال الغير ، ولهذا جاز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان دون غيره ، إلا أن يكون الحيوان مباح القتل كالمرتد والخنزير فيجب رده ، لأنه لا حرمة للحيوان ‏.‏ وإن كان الحيوان مأكولاً للغاصب ، فيجب رده ، لأنه يمكن ذبح الحيوان الانتفاع بلحمه ‏.‏ ويحتمل ألا يقلع ، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكله ‏.‏ وإن كان الحيوان لغير الغاصب لم يقلع بحال ، لأن فيه ضرراً بالحيوان وبصاحبه ‏.‏ وإن مات الحيوان ، وجب رد الخيط ، إلا أن يكون آدمياً ، لأن حرمته باقية بعد موته ‏.‏ والحكم فيما إذا بلع الحيوان جوهرة كالحكم في الخيط سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب لوحاً فرقع به سفينة ، وخاف الغرق بنزعه ، لم ينزع ، لأنه يمكنه رده بغير إتلاف ماله ، بأن تخرج إلى الشط ، فلم يجز إتلافه ، سواء كان فيما ماله ، أو مال غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ادخل فصيلاً أو غيره إلى داره ، فلم يمكن إخراجه إلا بنقض الباب نقض ، كما ينقض البناء لرد الخشبة ، وإن دخل الفصيل من غير تفريطه ، فعلى صاحب الفصيل ما يصلح به الباب ، لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب ، وهكذا الحكم إن وقع الدينار في محبرة إنسان بتفريط أو غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب عبداً فأبق أو دابة فشردت ، فللمغصوب منه المطالبة بقيمته لأنه تعذر رده فوجب بدله ، كما لو تلف ‏.‏ فإذا أخذ البدل ، ملكه ، لأنه بدل ماله ، كما يلمك بدل التالف ‏.‏ ولا يملك الغاصب المغصوب ، لأنه لا يصح تمليكه بالبيع ، فلا يملكه بالتضمين ، كالتالف ، فإذا قدر عليه ، رده وأخذ القيمة ، لأنها استحقت بالحيلولة ، وقد زالت ، فوجب ردها ، وزيادة القيمة المتصلة للغاصب ، لأنها تتبع الأصل ، والمنفصلة للمغصوب منه ، لأنها لا تتبع الأصل في الفسخ بالعيب ، وهذا فسخ ‏.‏ فأما المغصوب فيرد بزيادته المتصلة والمنفصلة ، لأن ملك صاحبه لم يزل عنه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب أثماناً ، فطالبه مالكها بها في بلد آخر ، لزم ردها إليه ، لأن الأثمان قيم الأموال ، فلم يضر اختلاف قيمتها ‏.‏ وإن كان المغصوب من المتقومات ، لزم دفع قيمتها في بلد الغصب ، وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة ، أو هي أقل في البلد الذي لقيه فيه ، فله مطالبته بمثله ، لأنه لا ضرر على الغاصب فيه ‏.‏ وإن كانت أكثر فليس له المثل ، لأننا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصبه فيه ، وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب ، وفي جميع ذلك متى قدر على المغصوب ، أو المثل في بلد الغصب ، رده وأخذ القيمة كما لو كان عبداً فأبق ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا تلف المغصوب ، وهو مما له مثل ، كالأثمان والحبوب والأدهان ، فإنه يضمن بمثله ، لأنه يماثله من حيث الصورة والمشاهدة والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد ، فكان المثل أولى ، كالنص مع القياس ، فإن تغيرت صفته كرطب صار تمراً ، أو سمسم صار شيرجاً ، ضمنه المالك بمثل أيهما شاء ، لأنه قد ثبت ملكه على واحد من المثلين ، فرجع بما شاء منهما ‏.‏ وإن وجب المثل وأعوز ، وجبت قيمته يوم عوزه ، لأن يسقط بذلك المثل ، وتجب القيمة ، فأشبه تلف المتقومات ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ تجب قيمته يوم قبض البدل ، لأن التلف لم ينقل الوجوب إلى القيمة ، بدليل ما لو وجد المثل بعد ذلك ، وجب رده ، وإن قدر على المثل بأكثر من قيمته ، لزمه شراؤه ، لأنه قدر على أداء الوجوب ، فلزمه ، كما لو قدر على رد المغصوب بغرامة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان مما لا مثل له ، وجبت قيمته ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أعتق شركاً له في عبد ، فكان له ما يبلغ ثمن العبد ، قوم وأعطى شركاؤه حصصهم متفق عليه ، فأوجب القيمة ، لأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن ، لاختلاف الجنس والواحد ، فكانت القيمة أقر إلى إبقاء حقه ‏.‏ فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ، نظرت ، فإن كان ذلك لمعنى فيه وجبت قيمته أكثر ما كانت ، لأن معانيه مضمونة مع رد العين ، فكذا مع تلفها ، وإن كان لاختلاف الأسعار ، فالواجب قيمته يوم تلف ، لأنها حينئذ ثبتت في ذمته ، وما زاد على ذلك ، لا يضمن مع الرد ، فكذلك في التلف ، كالزيادة في القيمة ‏.‏ وتجب القيمة من نقد البلد الذي أتلف فيه ، لأنه موضع الضمان ، وإن كان المضمون سبيكة ، أو نقرة أو مصوغاً ، ونقد البلد من غير جنسه ، أو قيمته كوزنه ، وجبت ، لأن تضمينه بها لا يؤدي إلى الربا ، فأشبه غير الأثمان ‏.‏ وإن كان نقد البلد من جنسه وقيمته مخالفة لوزنه ، قوم بغير جنسه كي لا يؤدي إلى الربا ‏.‏ وإن كانت الصياغة محرمة ، فلا عبرة بها ، لأنها لا قيمة لها شرعاً ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أن ما زادت قيمته لصناعة مباحة ، جاز أن يضمن بأكثر من وزنه ، لأن الزيادة في مقابل الصنعة ، فلا يؤدي إلى الربا ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة ، فعليه الأجرة ‏.‏

وعنه ‏:‏ إن منافع الغصب لا تضمن ‏.‏و المذهب الأول ، لأنه يطلب بدلها بعقد المعاينة ، فتضمن بالغصب ، كالعين ‏.‏ وسواء رد العين أو بدلها ، لأن ما وجب مع ردها ، وجب مع بدلها ، كأرش النقص ‏.‏ فإن تلفت العين ، لم تلزمه أجرتها بعد التلف ، لأنه لم يبق لها أجرة ‏.‏ ولو غصب داراً ، فهدمها ، أو عرصة فبناها ، أو داراً فهدمها ثم بناها وسكنها ، فعليه أجرة عوضه ، لأنه لما هدم البناء لم يبق لها أجرة لتلفها ، ولما بنى العرصة ‏.‏ كان البناء له ، فلم يضمن أجرة ملكه ، إلا أن يبنيها بترابها ، أو آلة للمغصوب منه فيكون ملكه ، لأنها أعيان ماله ، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل ، فتكون أجرتها عليه‏.‏ وكل ما لا تستباح منافعه بالإجارة أو تندر إجارته ، كالغنم ، والشجر ، والطير ، فلا أجرة له‏.‏ ولو أطرق فحلاً ، أو غصب كلباً لم تلزمه أجرة ، لذلك ، لأنه لا يجوز أخذ العوض من منافعه بالعقد ، فلا جوز بغيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب ثوباً فلبسه وأبلاه ، فعليه أجرته وأرش نقصه ، لأن كل واحد منهما يضمن منفرداً فيضمن مع غيره ، ويحتمل أن يضمن أكثر الأمرين من الجرة وأرش النقص ، لأن ما نقص حصل بالانتفاع الذي أخذ المالك أجرته ، ولذلك لا يضمن المستأجر أرش هذا النقص ، وإن كان الثوب مما لا أجرة له كغير المخيط ، فعليه أرش نقصه حسب ‏.‏ وإن كان المغصوب عبداً فكسب ، ففي أجرة مدة كسبه وجهان ، كذلك ‏.‏ وإن أبق العبد فغرم قيمته ، ثم وجده فرده ، ففي أجرته من حين دفع قيمته إلى رده وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يلزمه ، لأن المغصوب منه ملك بدل العين ، فلا يستحق أجرتها ‏.‏

والثاني ‏:‏ يلزمه ، لأن منافع ماله تلفت بسبب كان في يد الغاصب ، فلزمه ضمانها ، كما لو لم يدفع القيمة ‏.‏ وإن غصب أرضاً فزرعها ، فأخذ المالك زرعها ، لم تكن على الغاصب أجره ، لأن منافع ملكه عادت إليه ، إلا أن يأخذ بقيمته فتكون له الأجرة إلى وقت أخذه ، لأن القيمة زادت بذلك للغاصب ، فكان نفعها عائداً إليه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا غصب عيناً فباعها لعالم بالغصب ، فتلفت عند المشتري ، فللمالك تضمين أيهما شاء ، قيمتها وأجرتها مدة مقامها في يد المشتري فيضمن الغاصب لغصبه ، والمشتري لقبضه ملك غيره بغير إذنه ، فإن ضمن الغاصب ، رجع على المشتري ، وإن ضمن المشتري ، لم يرجع على أحد ، لأنه غاصب تلف المغصوب في يده فاستقر الضمان عليه ، كالغاصب إذا تلف تحت يده ‏.‏ فأما أجرتها أو نقصها قبل بيعها ، فعلى الغاصب وحده ، ولا شيء على المشتري منه ‏.‏ وإن كان جارية فوطئها ، لزمه الحد والمهر ، وردها مع ولدها ، وأجرتها ، أرش نقصها ، وولده رقيق ، لأن وطأه زنا ، فأشبه الغاصب ، وإن لم يعلم المشتري بالغصب ، فلا حد عليه ، وولده حر ، وعليه فداؤه بمثله يوم وضعه ، لأنه مغرور ، فأشبه ما لو تزوجها على أنها حرة ‏.‏ وللمالك تضمين أيهما شاء ، لما ذكرنا ، فإن ضمن الغاصب ، رجع على المشتري بقيمة العين ونقصها وأرش بكارتها ، لأنه دخل وع البائع ، على أن يكون ضماناً لذلك بالثمن ، فلم يغره فيه ، ولا يرجع عليه ببدل الولد إذا ولدت منه ونقص الولادة ، لأنه دخل معه على أن لا يضمنه فغره بذلك ‏.‏ فأما ما حصلت له به منفعة ولم تلزم ضمانه ، كالأجرة والمهر ، ففيه روايتان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يرجع به ، لأن المشتري دخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض ، فقد غره فاستقر الضمان على الغاصب ، كعوض الولد ‏.‏

والثانية ‏:‏ يرجع به ، لأن المشتري استوفى بدل ذلك فتقرر ضمانه عليه ، وإن ضمن المشتري ، رجع على الغاصب بما لا يرجع به الغاصب عليه ، لأنه استقر ضمانه على الغاصب ، ولم يرجع بما يرجع به الغاصب عليه ، لأنه لا فائدة في رجوعه عليه بما يرجع به الغاصب عليه‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب ، أو أطعمه إياه ، استقر الضمان على المتهب ، ولم يرجع على أحد لما ذكرنا في المشتري ، وإن لم يعلم ، رجع بما غرم على الغاصب ، لأنه غره بدخوله معه ، على أنه لا يضمن ‏.‏

وعنه ‏:‏ فيما إذا أكله أتلفه ‏:‏ لا يرجع به لأنه غرم ما أتلف ، فعلى هذا إن غرم الغاصب ، رجع على الأكل ، لأنه أتلف ، فاستقر الضمان عليه ‏.‏ وإن أجر الغاصب العين ، ثم استردها المالك ، رجع على من شاء منهما بأجرتها ، ويستقر الضمان على المستأجر علم أو جهل ، لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة ، ويسقط عنه المسمى في الإجارة ‏.‏ وإن تلف العين فغرمها ، رجع به على الغاصب إذا لم يعلم ، لأنه دخل معه ، على أنه لا يضمن ‏.‏ وإن كان رجلاً في بيعها ، أو أودعها ، فللمالك تضمين من شاء ، لما ذكرنا ‏.‏ وإن ضمنهما ، رجعا بما غرما على الغاصب ، إلا أن يعلما بالغصب فيستقر الضمان عليهما ‏.‏ وإن أعارها ، استقر الضمان على المستعير ، علم أو جهل ، لأنه دخل معه ، على أنها مضمونة عليه ، وإن غرمه الأجرة ، ففيه وجهان ‏.‏ مضى توجيههما في المشتري ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالماً به ، برئ الغاصب ، لأنه أتلف ماله برضاه ، عالماً به ‏.‏ وإن لم يعلم ، فالمنصوص أنه يرجع ‏.‏ قيل لأحمد رضي الله عنه في رجل له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية ، ولم يعلم ، فقال ‏:‏ كيف هذا ‏؟‏ هذا يرى أنه هدية ‏.‏ ويقول ‏:‏ هذا لك عندي هدية لأنه بالغصب أزال سلطانه ، وبالتقديم إليه لم يعد ذلك السلطان ، فإنه إباحة لا يملك بها التصرف في غير ما أذن له فيه ‏.‏ ويتخرج أنه يبرأ ، لأنه رد إليه ماله فبرئ ، كما لو وهبه إياه ‏.‏ ويحتلم كلام أحمد رضي الله عنه ، على أنه أوصل إليه بدله ، فأما إذا وهبه إياه ، فالصحيح ، أنه يبرأ ، لأنه قد تسلمه تسليماً صحيحاً ، ورجع إليه سلطانه به ، وزالت يد الغاصب بالكلية ، وكذلك إن باعه إياه ، وسلمه إليه ‏.‏ فأما إن أودعه إياه ، أو أعاره أو أجره إياه ، فإن علم أنه ماله ، برئ الغاصب ، لأنه عاد إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم ، لم يبرأ ، لأنه لم يعد إليه سلطانه ، وإنما قبضه على الأمانة ، وقال بعض أصحابنا ‏:‏ يبرأ لأنه عاد إلى يده ‏.‏

فصل ‏:‏

وأم الولد تضمن بالغصب ، لأنها تضمن في الإتلاف بالقيمة ، فتضمن في الغصب ، كالقن ، ولا يضمن الحر بالغصب ، لأنه ليس بمال ، فلم يضمن باليد ‏.‏ وإن حبس حراً فمات ، لم يضمنه لذلك إلا أن يكون صغيراً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يضمن ، لأنه حر أشبه الكبير ‏.‏

والثاني ‏:‏ يضمنه ، لأنه تصرف له في نفسه ، أشبه المال ، فإن قلنا لا يضمنه فكان عليه حلي ، فهل يضمن الحلي ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يضمنه ، لأنه تحت يده ، أشبه ثياب الكبير ‏.‏

والثاني ‏:‏ يضمنه ، لأنه استولى عليه ، فأشبه ما لو كان منفرداً ، وإن استعمل الكبير مدة كرهاً، فعليه أجرته ، لأنه أتلف عليه ما يتقوم ، فلزمه ضمانه ، كإتلاف ماله ‏.‏ وإن حبسه مدة لمثلها أجرة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تلزمه الأجرة ، لأنها منفعة تضمن بالإجارة ، فضمنت بالغصب ، كنفع المال ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يلزمه ، لأنها تلفت تحت يده ، فلم تضمن ، كأطرافه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن غصب كلباً يجوز اقتناؤه ، لزمه رده ، لأن فيه نفعاً مباحاً ‏.‏ وإن غصب خمر ذمي ، لزمه ردها إليه ، لأنه يقر على اقتنائها وشربها ، وإن غصبها من مسلم ، وجبت إراقتها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة خمر الأيتام ‏.‏ وإن أتلفها لمسلم أو ذمي ، لم يضمنها ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ولأنها يحرم الانتفاع بها فلم تضمن ، كالميتة ‏.‏ وإن غصبه منهما فتخلل في يده ، لزمه رده إلى صاحبه ، لأنها صارت خلاً على حكم ملكه ‏.‏ فإن تلف ، ضمنه ، لأنه مال تلف في يد الغاصب ، فإن أراقه صاحبه فجمعه إنسان فتخلل ، لم يلزمه رده ، لأن صاحبه أزال ملكه عنه بتبديده ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن غصب جلد ميتة ، ففي وجوب رده وجهان ، مبنيان على طهارته بالدباغ ، وإن قلنا ‏:‏ يطهر ، وجب رده ، لأنه يمكن التوصل إلى تطهيره ، أشبه الثوب النجس ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ لا يطهر ، لم يجب رده ، ويحتمل أن يجب ، إذا قلنا ‏:‏ يجوز الانتفاع به في اليابسات ، ككلب الصيد ‏.‏ وإن أتلفه ، لم يضمنه ، لأنه لا قيمة له ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كسر صليباً أو مزماراً ، لم يضمنه ، لأنه لا يحل بيعه ، فأشبه الميتة ‏.‏ وإن كسر أواني الذهب والفضة ، لم يضمنها ، لأن اتخاذها محرم ‏.‏ وإن كسر آنية الخمر ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يضمنها لأنه مال غير محرم ، ولأنها تضمن إذا كان فيها خل ، فتضمن إذا كان فيها خمر ، كالدار ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا تضمن لما روى ابن عمر ‏(‏‏(‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتشقيق زقاق الخمر ‏)‏‏)‏ ‏.‏ رواه أحمد رضي الله عنه في المسند ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن أتلف مالاً محترماً لغيره ، ضمنه ، لأنه فوته عليه فضمنه ، كما لو غصبه فتلف عنده ‏.‏ وإن فتح قفص طائر فطار ، أو حل دابة ، فشردت ، أو قيد عبد ، فذهب ، أو رباط سفينة فغرقت ، ضمن ذلك كله ، لأنه تلف بسبب فعله فضمنه ، كما لو نفر الطائر ، أو الدابة ‏.‏ وإن فعل ذلك ، فلم يذهب حتى جاء آخر فنفرهما ، فالضمان على المنفر ، لأن فعله أخص ، فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر ‏.‏ وإن وقف طائر على جدار ، فنفره إنسان فطار ، لم يضمنه ، لأن تنفيره لم يكن سبب فواته ، لأنه كان فائتاً قبله ، وإن طار في هواء داره فرماه فقتله ، ضمنه ، لأنه لا يملك منع الطائر الهواء ، فأشبه ما لو قتله في غير داره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن حل زقاق فاندفق ، أو خرج منه شيء بل أسفله فسقط ، أو سقط بريح ، أو زلزلة ، أو كان جامداً فذاب في الشمس فاندفق ، ضمنه ، لأنه تلف بسببه فضمنه ، كما لو دفعه ، وقال القاضي ‏:‏ لا يضمنه إذا سقط بريح ، أو زلزلة لأن فعله عير ملجئ فلا يضمنه ، كما لو دفعه إنسان آخر ‏.‏ ولنا أنه لم يتخلل بين فعله وتلفه مباشرة يمكن إحالة الضمان عليه ، فيجب أن يضمنه ، كما لو جرح إنساناً فأصابه الحر فمات به ، فأما إن بقي واقفاً ، فجاء إنسان فدفعه ، ضمن الثاني ، لأنه مباشر ، وإن كان يخرج قليلاً قليلاً ، فجاء إنسان فنكسه فاندفق ، ضمن الثاني ما خرج بعد التنكيس ، لأنه مباشر له ، فهو كالذابح بعد الجارح ، ويحتمل أن يشتركا فيما بعد التنكيس ‏.‏ وإن فتح زقاً فيه جامد ، فجاء آخر فقرب إليه ناراً فأذابه فاندفق ‏.‏ ضمنه الثاني ، لأنه باشر الإتلاف ‏.‏ وإن أذابه الأول ‏.‏ ثم فتحه الثاني ، فالضمان على الثاني ، لأن التلف حصل بفعله ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أجج في سطحه ناراً ، فتعدت فأحرقت شيئاً لجاره ، وكان ما فعله يسيراً جرت العادة به، لم يضمن ، لأنه غير متعد ، وإن أسرف فيه لكثرته ، أو كونه في ريح عاصف ، ضمن ‏.‏ وكذلك إن سقى أرضه فتعدى إلى حائط آخر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أطارت الريح إلى داره ثوباً ، لزمه حفظه ، لأنه أمانة حصلت في يده ، فلزمه حفظها كاللقطة ‏.‏ فإن عرف صاحبه ، لزمه إعلامه ، فإن لم يفعل ، ضمنه كاللقطة إذا ترك تعريفها ‏.‏ وإن دخل طائر داره ، لم يلزمه حفظه ، ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه ‏.‏ فإن أغلق عليه باباً ليمسكه ، ضمنه ، لأنه أمسكه لنفسه ، فضمنه كالغاصب ، فإن لم ينو ذلك لم يضمنه لأنه يملك التصرف في داره ، فلم يضمن ما فيها ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اختلف المالك والغاصب في تلف المغصوب ، فالقول قول الغاصب مع يمينه ، لأنه يعتذر إقامة البينة على التلف ، ويلزمه البدل ، لأنه يمينه تعذر الرجوع إلى العين ، فوجب بدلها ، كما لو أبق العبد المغصوب ‏.‏ وإن اختلفا في قيمة المغصوب ، فالقول قول الغاصب ، لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة المختلف فيها ، فأشبه من ادعى عليه بدين ، فأقر ببعضه وجحد باقيه ‏.‏ وإن قال المالك ‏:‏ كان كاتباً قيمته ألف ، وقال الغاصب ‏:‏ كان أمياً قيمة مائة ، فالقول قول الغاصب ، لما ذكرناه ‏.‏ وإن قال الغاصب ‏:‏ كان سارقاً فقيمته مائة ‏.‏ وقال المالك ‏:‏ لم يكن سارقاً فقيمته ألف ، فالقول فقول المالك ، لأن الأصل عدم السرقة ‏.‏ وإن غصبه طعاماً وقال ‏:‏ كان عتيقاً فلا يلزمني حديث وأنكره المالك فالقول قول الغاصب ، لأن الأصل براءة ذمته من الحديث ، ويأخذ المغصوب منه العتيق ، لأنه دون حقه ‏.‏ وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب هل هي للغاصب أو للمالك ‏؟‏ فهي للغاصب ، لأنها والعبد في يده ، فكان القول قوله فيها ‏.‏ وإن غصبه خمراً ، فقال المالك ‏:‏ استحالت خلاً ، فأنكره الغاصب ، فالقول قول الغاصب ، لأن الأصل عدم الاستحالة ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اشترى رجل عبداً ، فادعى رجل أن البائع غصبه إياه ، فأنكره المشتري وصدقه البائع ، حلف المشتري ، والعبد له ، وعلى البائع قيمته ‏.‏ ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن ، لأنه لا يدعيه ، أما أن يغرم قيمته مطالبته بأقل الأمرين ، من قيمته ، أو ثمنه لأنه يدعي القيمة ، والمشتري يقر بالثمن فيكون له أقلهما ، وللمالك مطالبة المشتري ، لأنه مقر بالثمن للبائع ، والبائع يقر به لمالكه ‏.‏ فإن قلنا بصحة تصرف الغاصب ، فله مطالبته بجميع الثمن ‏.‏ وإن قلنا‏:‏ لا يصح ، فله أقل الأمرين ، لما تقدم ‏.‏ وإن صدقه المشتري ، فأنكره البائع ، حلف البائع وبرئ ، ويأخذ المدعي عبده ، لما روى سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به وإن كان المشتري أعتق العبد ، فصدق البائع والمشتري المالك ، غرم أيهما شاء قيمته ، ويستقر الضمان على المشتري ، لأنه أتلف العبد بعتقه ‏.‏ وإن وافقهما العبد على التصديق ، فكذلك ، ولم يبطل العتق ، لأنه حق الله تعالى ، فلا يقبل قولهم في إبطاله ‏.‏ وفيه وجه آخر ‏:‏ أنه يبطل العتق إذا صدقوه كلهم ، ويعود العبد رقيقاً للمدعي لأنه إقرار بالرق على وجه لا يبطل به حق أحد ، فقبل ، كإقرار مجهول الحال ‏.‏