المجلد الثاني - كتاب الشفعة

وهي استحقاق انتزاع الإنسان صحة شريكه من مشتريها مثل ثمنها ‏.‏ وهي ثابتة بالسنة والإجماع ، أما السنة ، فما روى جابر قال ‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ، ربعة ، أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه ‏.‏ فإن شاء ، أخذ ‏.‏ وإن شاء ترك ، فإن باع ولم يستأذنه ، فهو أحق به ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة ‏.‏ ولا تثبت إلا بشروط سبعة ‏.‏

أحدها ‏:‏ أن يكون المبيع أرضاً ، للخبر ، ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك ، بخلاف غيره ‏.‏ فأما غير الأرض فنوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ البناء والغراس ‏.‏ فإذا بيعا مع الأرض ، ثبتت الشفعة فيه ، لأنه يدخل في قوله حائط ، وهو البستان المحوط ، ولأنه يراد للتأبيد ، فهو كالأرض ‏.‏ وإن بيع منفرداً ، فلا شفعة فيه ، لأنه ينقل ويحول ، وعن أحمد رضي الله عنه أن فيه شفعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الشفعة فيما لم يقسم ولأن في الأخذ بها رفع ضرر الشركة ، فأشبه الأرض ‏.‏ والمذهب الأول ، لأن هذا مما لا يتباقى ضرره ، فأشبه المكيل ‏.‏ وفي سياق الخبر ما يدل على أنه أراد الأرض لقوله ‏:‏ فإذا طرقت الطرق ، فلا شفعة ‏.‏

النوع الثاني ‏:‏ الزرع والثمرة الظاهرة ، والحيوان وسائر المبيعات ، فلا شفعة فيه تبعاً ولا أصلاً ، لأنها لا تدخل في البيع تبعاً ، فلا تدخل في الشفعة تبعاً ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه أن الشفعة في كل ما لا ينقسم ، كالحجر والسيف والحيوان وما في معناه ، ووجه الروايتين ما ذكرناه ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثاني ‏:‏ أن يكون المبيع مشاعاً ، لما روى جابر قال ‏:‏ ‏(‏‏(‏ قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ، فلا شفعة ‏)‏‏)‏ ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ ولأن الشفعة ، ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك ، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق ، ولا يوجد هذا في المقسوم ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثالث ‏:‏ أن يكون قيمته مما تجب قسمته عند الطلب ، فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة ، فلا شفعة فيه ، لما روي عن عثمان رضي الله عنه قال ‏:‏ لا شفعة في بئر ولا نخل ، ولأن إثبات الشفعة إنما كان لدفع الضرر الذي يلحق بالمقاسمة ، وهذا لا يوجد فيما لا يقسم ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ أن الشفعة تثبت فيه ، لعموم الخبر ، ولأنه عقار مشترك فثبتت فيه الشفعة ‏.‏ كالذي يمكن قسمته ‏.‏ والمذهب الأول ‏.‏ فأما الطريق في درب مملوك ‏.‏ فإن لم يكن للدار طريق سواها ، فلا شفعة فيها ، لأنه يضر بالمشتري لكون داره تبقى بلا طريق ‏.‏ وإن كان لها غيرها ، ويمكن قسمتها بحيث يحصل لكل واحد منهم طريق ، ففيها الشفعة ، لوجود المقتضي لها ، وعدم الضرر في الأخذ بها ‏.‏ وإن لم يمكن قسمتها ،خرج فيها روايتان كغيرها ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الرابع ‏:‏ أن يكون الشقص منتقلاً بعوض ، فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه ، لأنه انتقل بغير بدل ، أشبه المورث ‏.‏ والمنتقل بعوض نوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ما عوضه المال كالمبيع ، ففيه الشفعة بالإجماع ، والخبر ورد فيه ‏.‏

الثاني ‏:‏ ما عوضه غير المال ، كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد ، وما اشتراه الذمي بخمر ، أو خنزير ، فلا شفعة فيه في ظاهر المذهب ، لأنه انتقل بغير مال ، أشبه الموهوب ، ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض ، أشبه الموروث ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ فيه الشفعة ، لأنه عقد معاوضة ، أشبه البيع ، فعلى قوله يأخذ الشقص بقيمته ،لأن أخذه بمهر المثل يفضي إلى تقويم البضع فيحق الأجانب ‏.‏ ذكره القاضي ، وقال الشريف يأخذه بمهر المثل ، لأنه ملكه ببدل لا مثل له فيجب الرجوع إلى قيمته ، كما لو اشتراه بعوض ‏.‏ ولا تجب الشفعة بالرد بالعيب ‏.‏ والفسخ بالخيار أو الاختلاف ، لأنه فسخ للعقد وليس بعقد ، ولا برجوع الزوج في الصداق ، أو نصفه قبل الدخول لذلك ، ولا بالإقالة إذا قلنا ، هي فسخ لذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الخامس ‏:‏ الطلب بها على الفور ساعة العلم ، فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم ‏.‏ لما روي عن عمر رضي الله عنه قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الشفعة كالحل العقال ، رواه ابن ماجه ‏.‏ ولأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري ، لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ، ولا يتصرف فيه بعمارة ، خوفاً من أخذ المبيع وضياع عمله ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ تتقدر بالمجلس وإن طال ، لأنه كله في حكم حالة العقد ، بدليل صحة العقد بوجود القبض ، لما يشترط قبضه فيه ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أنه على التراخي ما لم توجد منه دلالة على الرضى ، كقوله ‏:‏ بعني أو صالحني على مال أو قاسمني ، لأنه حق لا ضرر في تأخيره ، أشبه القصاص ‏.‏ والمذهب الأول ، لكن إن أخره لعذر، مثل أن يعلم ليلاً فيؤخره إلى الصباح ، أو لحاجته إلى أكل أو شرب ، أو طهارة ، أو إغلاق باب ، أو خروج من الحمام أو لصلاة أو نحو هذا ، لم تبطل شفعته ، لأن العادة البداءة بهذه الأشياء ، إلا أن يكون حاضراً عنده فيترك المطالبة ، فتبطل شفعته ، لأنه لا ضرر عليه في الطلب بها ‏.‏ وإن لقيه الشفيع فبدأه بالسلام ، لم تبطل شفعته ، لأن البدء بالسلام سنة، وكذلك إن دعا له فقال ، بارك في صفقة يمينك ، لاحتمال أن يكون دعا له في صفقته ، لأنها أوصلته إلى شفعته ‏.‏ وإن أخر الطلب لمرض ، أو حبس ، أو غيبة ، لم يمكنه فيه التوكيل ولا الإشهاد ، فهو على شفعته ‏.‏ لأنه تركه لعذر ‏.‏ وإن قدر على إشهاد من تقبل شهادته ، فلم يفعل ، ولم يسر في طلبها من غير عذر ، بطلت شفعته ، لأنه قد يترك الطلب زهداً ، أو للعذر ، فإذا أمكنه تبيين ذلك بالإشهاد ، فلم يفعل ، بطلت شفعه ، كترك الطلب في حضوره ‏.‏ وإن لم يشهد وسار عقيب علمه ‏.‏ ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تبطل ، لأن السير قد يكون لطلبها أو لغيره ، فوجب بيان ذلك بالإشهاد ‏.‏ كما لو لم يسر ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تبطل لأن سيره عقيب علمه ظاهر في طلبها فاكتفي به ، كالذي في البلد ‏.‏ وإن أشهد ثم أخر القدوم لم تبطل شفعته ، لأن عليه في العجلة ضرراً ، لانقطاع حوائجه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ تبطل إن تركه مع الإمكان ‏.‏ وإن كان له عذر ، فقدر التوكيل فلم يفعل ‏.‏ ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تبطل شفعته ، لأنه تارك للطلب مع إمكانه ، فأشبه الحضر ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تبطل لأنه إن كان بجعل ، ففيه غرم ، وإن كان بغيره ففيه منة ، وقد لا يثق به ‏.‏ وإن أخر المطالبة بعد قدومه وإشهاده ، ففيه وجهان ‏.‏ بناء على تأخير السير لطلبها ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن ترك الطلب لعدم علمه بالبيع ، أو لكون المخبر لا يقبل خبره ، أو لإظهار المشتري أن الثمن أكثر مما هو أو أنه اشترى البعض ، أو اشترى بغير النقد الذي اشترى به ، أو أنه اشتراه لغيره ، أو أنه اشتراه لنفسه وكان كاذباً فهو على شفعته ، ولو عفا عن الشفعة لذلك ‏.‏ لم تسقط ، لأنه قد لا يرضاه بالثمن الذي أظهره أو لأنه لا يقدر على النقد ، وقد يرضى مشاركة من نسب إليه البيع ، دون من هو له في الحقيقة ، فلم يكن ذلك رضى منه بالبيع الواقع ‏.‏ وإن أظهر الثمن قليلاً فترك الشفعة ، وكان كثيراً ، سقطت ، لأنه من لا يرضى بالقليل ، ولا يرضى بأكثر منه ‏.‏ فإن ادعى أنه لم يصدق المخبر ، وهو ممن يقبل خبره الديني ، سقطت شفعته ‏.‏ رجلاً كان أو امرأة ، إذا كان يعرف حاله ‏.‏ لأن هذا من باب الإخبار ، وقد أخبره من يجب تصديقه ‏.‏ وإن لم يكن المخبر كذلك ، فالقول قوله ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن باع الشفيع حصته عالماً بالبيع ، بطلت شفعته لأنها ثبتت ، لإزالة ضرر الشركة وقد زال ببيعه ‏.‏ وإن باع قبل العلم ، فكذلك ‏.‏ عند القاضي ‏:‏ لذلك ولأنه لم يبق له ملك يستحق به ‏.‏ وقال أبو الخطاب لا تسقط ، لأنها ثبتت بوجود ملكه حين البيع ، وبيعه قبل العلم لا يدل على الرضى ، فلا تسقط ‏.‏ وله أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه ، ولمشتريه أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه لأنه كان مالكاً حين البيع الثاني ملكاً صحيحاً فثبتت له الشفعة ، ‏.‏وعلى قول القاضي ‏:‏ للمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني ‏.‏ وإن باع الشفيع البعض ، احتمل سقوط الشفعة ، لأنها استحقت بجميعه ‏.‏ وقد ذهب بعضه فسقط الكل ، ويحتمل أن لا تسقط ، لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط السادس ‏:‏ أن يأخذ جميع المبيع ‏.‏ فإن عفا عن البعض ، أو لم يطلبه ، سقطت شفعته ، لأن من أخذ البعض تفريقاً لصفقة المشتري ، وفيه إضرار به ‏.‏ وإنما ثبتت الشفعة على وجه يرجع المشتري بماله ، من غير ضرر به ، فمتى سقط بعضها ، سقطت كلها كالقصاص ‏.‏ فإن كان المبيع شقصين من أرضين فله أخذ أحدهما ، لأنه يستحق كل واحد منها بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين ، ويحتمل ألا يملك ذلك لأن فيه تفريق صفقة المشتري ، أشبه الأرض الواحدة ‏.‏ وإن كان البائع ، أو المشتري اثنين من أرض ، أو أرضين ، فله أخذ نصيب أحدهما ، لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان ، فهما عقدان فكان له الأخذ بأحدهما ، كما لو كانا متفرقين ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان للشقص شفعاء ، فالشفعة بينهم على قدر حصصهم في الملك ، في ظاهر المذهب ، لأنه حق يستحق بسبب الملك ، فيسقط على قدره ، كالإجارة والثمرة ‏.‏

وعنه ‏:‏ أنها بينهم بالسوية ، اختارها ابن عقيل لأن كل واحد منهم يأخذ الكل لو انفرد، فإن اجتمعوا تساووا ، كسراية العتق ، فإن عفا بعضهم توفر نصيبه على شركائه ، وليس لهم أخذ البعض ، لأن فيه تفريق صفقة المشتري ‏.‏ وإن جعل بعضهم حصته لبعض شركائه ، أو لأجنبي ، لم يصح ، وكانت لجميعهم ، لأنه عفو وليس بهبة ، وإن حضر بعض الشركاء وحده ، فليس له إلا أخذ الجميع ، لئلا تتبعض صفقة المشتري ‏.‏ فإن ترك الطلب انتظاراً لشركائه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تسقط شفعته ، لتركه طلبها مع إمكانه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تسقط لأن له عذرا‏ً ، وهو الضرر الذي يلزمه بأخذ صاحبيه منه ‏.‏ فإن أخذ الجميع ، ثم حضره الثاني ، قاسمه ‏.‏ فإذا حضر الثالث ، قاسمهما ، وما حدث من النماء المنفصل في يد الأول ، فهو له ، لأنه حدث في ملكه ‏.‏وإن أراد الثاني الاقتصار على قدر حقه ، فله ذلك ، لأنه لا تتبعض الصفقة على المشتري ، إنما هو تارك بعض حقه لشريكه ، فإذا قدم الثالث ، فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني ، وهو التسع ، فيضمه إلى ما في يد الأول ، وهو الثلثان تصير سبع أتساع ، يقتسمانها نصفين ، لكل واحد منهما ثلاثة أتساع ونصف تسع ، وللثاني تسعان ‏.‏ ولو ورث اثنان داراً فمات أحدهما عن ابنين ، فباع أحدهما نصيبه ، فالشفعة بين أخيه وعمه ، لأنهما شريكان للبائع ، فاشتركا في شفعته ، كما لو ملكا بسبب واحد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان المشتري شريكاً ، فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر ، لأنهما تساويا في الشركة ، فتساويا في الشفعة ، كما لو كان الشريك أجنبياً ، فإن أسقط المشتري شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل ، لم يملك ذلك ، لأن ملكه استقر على قدر حقه ، فلم يسقط بإسقاطه ، وإن كان المبيع شقصاً وسيفاً صفقة واحدة فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن نص عليه ‏.‏ ويحتمل أن لا يجوز ، لئلا تتشقص صفقة المشتري ، والصحيح الأول ، لأن المشتري أضر بنفسه ، حيث جمع في العقدين فيما فيه شفعة وما لا شفعة فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط السابع ‏:‏ أن يكون الشفيع قادراً على الثمن ، لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري ‏.‏ وإن عرض رهناً ، أو ضميناً ، أو عوضاً عن الثمن ، لم يلزمه قبوله ، لأن في تأخير الحق ضرراً ، وإن أخذ بالشفعة ، لم يلزم تسليم الشقص حتى يتسلم الثمن ‏.‏ فإن تعذر تسليمه ، قال أحمد ‏:‏ يصبر يوماً أو يومين ، أو بقدر ما يرى الحاكم ، فأما أكثر فلا ، فعلى هذا إن أحضر الثمن ، وإلا فسخ الحاكم الأخذ ، ورده إلى المشتري ‏.‏ فإن أفلس بعد الأخذ ، خير المشتري بين الشقص وبين أن يضرب مع الغرماء ، كالبائع المختار ‏.‏

فصل ‏:‏

ويأخذه بالثمن الذي استقر العقد عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ‏:‏ فهو أحق به بالثمن رواه أبو إسحاق الجوزجاني ‏.‏ ولأنه استحقه بالبيع فكان عليه الثمن كالمشتري ‏.‏ فإن كان الثمن مثلياً كالأثمان والحبوب والأدهان ، وجب مثله ، وإن كان غير ذلك ، وجب قيمته ، لما ذكرنا في الغصب ، وتعتبر قيمته حين وجوب الشفعة ، كما يأخذ بالثمن الذي وجب بالشفعة ، فإن حط بعض الثمن عن المشتري ، أو زيد عليه في مدة الخيار ، لحق العقد ، ويأخذه الشفيع بما استقر عليه العقد ، لأن زمن الخيار كحال العقد ‏.‏ وما وجب بعد ذلك من حط ، أو زيادة ، لم تلزم في حق الشفيع ، لأنه ابتداء هبة ، فأشبه غيره من الهبات ‏.‏ وإن كان الثمن مؤجلاً ، أخذ به الشفيع إن كان ملياً ، وإلا أقام ضميناً ملياً وأخذ به ، لأنه تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته ، والتأجيل من صفته ‏.‏ وإن كان الثمن عبداً فأخذ الشفيع بقيمته ، ثم وجد به البائع عيباً فأخذ أرشه ، وكان الشفيع أخذ بقيمته سليماً ، لم يرجع عليه بشيء ، لأن الأرش دخل في القيمة ‏.‏ وإن أخذ بقيمته معيباً ، رجع عليه بالأرش الذي أخذه البائع من المشتري ، لأن البيع استقر بعبد سليم ‏.‏ وإن رد البائع العبد قبل أخذ الشفيع ، انفسخ العقد ولا شفعة ، لزوال السبب قبل الأخذ ، ولأن في الأخذ بالشفعة إسقاط حق البائع من استرجاع المبيع وفيه ضرر ، ولا يزال الضرر بالضرر ‏.‏ وإن رده بعد أخذ الشفيع ، رجع بقيمة الشقص ‏.‏ وقد أخذه الشفيع بقيمة العبد ، فإن كانتا مختلفتين ، رجع صاحب الأكثر على الآخر بتمام القيمة ، لأن الشفيع يأخذ بما استقر عليه العقد ، والذي استقر عليه العقد ، قيمة الشقص ، وإن أصدق امرأة شقصاً ، وقلنا تجب الشفعة فيه ، فطلق الزوج قبل الدخول والأخذ بالشفعة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا شفعة لما ذكرنا ‏.‏

والثاني ‏:‏ يقدم حق الشفيع لأنه حق أسبق ، لأنه ثبت بالعقد ، وحق الزوج بالطلاق بخلاف البائع ، فإن حقه ثبت بالعيب القديم ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، لأنه العاقد ، فهو أعلم بالثمن ‏.‏ ولأن المبيع ملكه فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة ‏.‏ وإن قال المشتري لا أعلم قدر الثمن ، فالقول قوله ، لأنه أعلم بنفسه ، فإن حلف ، سقطت الشفعة ، لأنه لا يمكن الأخذ بغير ثمن ولا يمكن أن يدفع إليه مالاً يدعيه إلا أن يفعل ذلك تحيلاً على إسقاطها ، فلا تسقط ، ويؤخذ الشقص بقيمته ، لأن الغالب بيعه بقيمته ‏.‏ وإن ادعى أنك فعلته تحيلاً فأنكر ، فالقول قوله مع يمينه ، لأنه منكر ‏.‏ وإن كان الثمن عرضاً ، فاختلفا في قيمته ، رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجوداً ، وإن كان معدوماً ، فالقول قول المشتري في قيمته ‏.‏ وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص ، فقال المشتري أنا أحدثته ، وقال الشفيع كان قديماً ، فالقول قول المشتري مع يمينه ‏.‏ ولو قال ‏:‏ اشتريت نصيبك فلي فيه الشفعة ، وأنكر ذلك ، فقال ‏:‏ بل اتهبته ، أو ورثته ، فالقول قوله مع يمينه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن ادعى عليه الشراء ، فقال ‏:‏ اشتريته لفلان سئل المقر له ‏.‏ فإن صدقه ، فهو له ، وإن كذبه ، فهو للمشتري ، ويؤخذ بالشفعة في الحالين ‏.‏ وإن كان المقر له غائباً ، أخذه الشفيع بإذن الحاكم والغائب على حجته إذا قدم ، لأننا لو وقفنا الأمر لحضور المقر له ، كان ذلك إسقاطاً للشفعة ، لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب ‏.‏ وإن قال اشتريته لابني الطفل ، فهو كالغائب في أحد الوجهين ‏.‏ وفي الآخر ، لا تجب الشفعة ، لأن الملك ثبت للطفل ، ولا يثبت في ماله حق بإقرار وليه عليه ‏.‏ فأما إن ادعى عليه الشفعة في شقص فقال ‏:‏ هذا لفلان الغائب ، أو الطفل ، فلا شفعة فيه ، لأنه قد ثبتت لهما فإقراره بذلك إقرار إلى غيره ، فلا يقبل ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اختلف البائع والمشتري ، فقال البائع ‏:‏ الثمن ، ألفان ، وقال المشتري ‏:‏ هو ألف ، فأقام البائع بينة بدعواه ، ثبتت ، وللشفيع أخذه بألف ، لأن المشتري يقر أنه لا يستحق أكثر منها ، وأن البائع ظلمه ، فلا يرجع بما ظلمه على غيره ‏.‏ فإن قال المشتري ‏:‏ غلطت والثمن ألفان ، لم يقبل ، لأنه رجوع عن إقراره فلم يقبل ‏.‏ كما لو أقر لأجنبي ‏.‏ وإن لم يكن بينة ، تحالفا ، وليس للشفيع أخذه بما حلف عليه المشتري ، لأن فيه إلزاماً للعقد في حق البائع ، بخلاف ما حلف عليه ‏.‏ فإن بذل ما حلف عليه البائع ، فله الأخذ ، لأن البائع ، مقر له بأنه يستحق الشفعة به ، ولا ضرر على المشتري فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أقر البائع بالبيع فأنكره المشتري ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا تثبت الشفعة ، لأن الشراء لم يثبت فلا تثبت الشفعة التابعة له ، ولأن البائع إن أقر بقبض الثمن ، لم يمكن الشفيع دفعه إلى أحد ، لأنه لا مدعي له ولا يمكن الأخذ بغير ثمن ، وإن لم يقر البائع بقبضه ، فعلى من يرجع الشفيع بالعهدة ‏.‏

والثاني ‏:‏ تثبت الشفعة ، لأن البائع مقر بحق للمشتري والشفيع ، فإذا لم يقبل المشتري قبل الشفيع ، وثبت حقه ، ويأخذ الشقص من البائع ، ويدفع إليه الثمن ‏.‏ وإن لم يكن أقر بقبضه ، والعهدة عليه ، لأن الأخذ منه ‏.‏ وإن أقر بقبض الثمن عرضناه على المشتري ، فإن قبله دفع إليه ، وإلا أقر في يد الشفيع في أحد الوجوه ، وفي الآخر يؤخذ إلى بيت المال ‏.‏

والثالث ‏:‏ يقال له ‏:‏ إما أن تقبض ، وأما أن تبرئ ، وأصل هذا إذا أقبر بمال في يده لرجل ، فلم يعترف به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع ، لم يخل من خمس أضرب ‏:‏

أحدها ‏:‏ تصرف بالبيع ، وما تستحق به الشفعة ، فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد الثاني ، وبين فسخه ، ويأخذ بالعقد الأول ، لأنه شفيع في العقدين ، فملك الأخذ بما شاء منهما ، فإن أخذه بالثاني ، دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه ، وإن أخذه بالأول ، دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشتري به ، وأخذ الشقص ، ويرجع الثاني على الأول بما أعطاه ثمناً ، وإن كان ثم ثالث ، رجع الثالث على الثاني ‏.‏

الثاني ‏:‏ تصرف برد أو إقالة ، فللشفيع فسخ الإقالة والرد ، ويأخذ الشقص ، لأن حقه أسبق منهما ، ولا يمكنه الأخذ معهما ‏.‏

الثالث ‏:‏ وهبه أو وقفه ، أو رهنه ، أو أجره ونحوه ، فعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ تسقط الشفعة ، لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب الموقوف عليه بالكلية ، وفيه ضرر ، بخلاف البيع ، لأنه يوجب رد العوض إلى غير المالك ، وحرمان المالك ، وقال أبو بكر ‏:‏ تجب الشفعة ، لأن حق الشفيع أسبق ، فلا يملك المشتري التصرف بما يسقط حقه ، ولأنه ملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به ، فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى ، فعلى هذا تفسخ هذه العقود ، ويأخذ الشقص ، ويدفع الثمن إلى المشتري ‏.‏

الرابع ‏:‏ بناء أو غرس ، ويتصور ذلك بأن يكون الشفيع غائباً ، فقاسم المشتري وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه أو أظهر ثمناً كثيراً أو نحوه فترك الشفيع الشفعة وقاسمه ، فبنى وغرس ، ثم أخذ الشفيع بالشفعة ، فإن اختار المشتري أخذ بنائه أو غراسه ، لم يمنع منه ، لأنه ملكه ، فملك نقله ، ولا يلزمه تسوية الحفر ، ولا ضمان النقص ، لأنه غير متعد ، ويحتمل كلام الخرقي أنه يلزمه تسوية الحفر ، لأنه فعله في ملك غيره لتخليص ملكه ، فأشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها ‏.‏ وإن لم يقلعه ، فللشفيع الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه ، وبين أو يقلعه ، ويضمن نقصه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا ضرر ولا ضرار من المسند رواه ابن ماجة ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك ‏.‏

الخامس ‏:‏ زرع الأرض ، فالزرع يبقى لصاحبه حتى يستحصد ، لأنه زرعه بحق ، فوجب إبقاؤه له كما لو باع الأرض المزروعة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن نما المبيع نماء متصلاً ، كغراس كبر ، وطلع زاد قبل التأبير ، أخذ الشفيع بزيادته ، لأنها تتبع الأصل في الملك ، كما تتبعه في الرد ، وإن كان نماء منفصلاً كالغلة ، والطلع المؤبر ، والثمرة الظاهرة ، فهي للمشتري ، لأنها حدثت في ملكه ، وليست تابعة للأصل ، وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ ، لأن أخذ الشفيع شراء ثان ، فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معاً ، أخذ الشفيع الأصل بحصته من الثمن ، كالشقص والسيف ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن تلف بعض المبيع ، فهو من ضمان المشتري ، لأنه ملكه تلف في يده ، وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن ويأخذ أنقاضه لأنه تعذر أخذ البعض فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه الآدمي ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ إن تلف بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن ويترك ، لأن في أخذه بالبعض إضراراً بالمشتري فلم يملكه كما لو أخذ البعض مع بقاء الجميع ‏.‏

فصل ‏:‏

ويملك الشفيع الأخذ بغير الحاكم ، لأنه حق ثبت بالإجماع ، فلم يفتقر إلى الحكم ، كالرد بالعيب ، ويأخذه من المشتري ، فإن كان في يد البائع ، فامتنع المشتري من قبضه ، أخذه من البائع ، لأنه يملك أخذه ، فملكه ، كما لو كان في يد المشتري ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يجبر المشتري على القبض ، ثم يأخذه الشفيع لأن أخذه من البائع يفوت به التسليم المستحق ، ولا يثبت للمشتري خيار ، لأنه يؤخذ منه قهراً ولا للشفيع بعد التملك ، لأنه يأخذه قهراً ، وذلك ينافي الاختيار ، ويملك الرد بالعيب ، لأنه مشتر ثان ، فملك ذلك كالأول ‏.‏ وإن خرج مستحقاً ، رجع بالعهدة على المشتري ، لأنه أخذه منه على أنه ملكه ، فرجع عليه ، كما لو اشتراه منه ، ويرجع المشتري على البائع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أذن الشريك في البيع ، لم تسقط شفعته ، لأنه إسقاط حق قبل وجوبه ، فلم يصح ، كما لو أبرأه مما يجب له ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ ما هو ببعيد أن لا تكون له شفعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإذا باع ولم يؤذنه ، فهو أحق به رواه مسلم ‏.‏ يفهم منه أنه إذا باعه بإذنه لا حق له ‏.‏ وإن دل في البيع ، أو توكل ، أو ضمن العهدة ، أو جعل له الخيار ، فاختار إمضاء البيع ، فهو على شفعته ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا كان البيع محاباة ، أخذ الشفيع بها ، لأنه بيع صحيح ، فلا يمنع الشفعة فيه كونه مسترخصاً ‏.‏ وإن كان البائع مريضاً ، والمحاباة لأجنبي فيما دون الثلث ، أخذ الشفيع بها ، لأنها صحيحة نافذة ، وسواء كان الشفيع وارثاً أو لم يكن ، لأن المحاباة إنما وقعت للأجنبي ، فأشبه ما لو وصى لغريم وارثه ، ويحتمل ألا يملك الوارث الشفعة ها هنا ، لإفضائه إلى جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة ‏.‏ وإن كانت محاباة المريض لوارثه ، أو لأجنبي لزيادة على الثلث ، بطلت كلها في حق الوارث ، والزيادة على الثلث في حق الأجنبي ، وصح البيع في الباقي ، وثبت للمشتري الخيار لتفريق صفقته وللشفيع الأخذ على ذلك الوجه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا مات الشفيع قبل الطلب ، بطلت شفعته ، نص عليه ، لأنه حق فسخ لا لفوات جزء ، فلم يورث ، كرجوع الأب في هبته ، ويتخرج أن يورث ، لأنه خيار ثبت لدفع الضرر على المال فيورث ، كالرد بالعيب ، فإن مات بعد الطلب ، لم يسقط ، لأنها تقررت بالطلب بحيث لم يسقط بتأخيره ، بخلاف ما قبله ، فإن ترك بعض الورثة حقه ، توفر على شركائه في الميراث ، كالشفعاء في الأصل ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان بعض العقار وقفاً ، وبعضه طلقاً ، فبيع الطلق ، فذكر القاضي أنه لا شفعة لصاحب الوقف ، لأن ملكه غير تام ، فلا يستفيد به ملكاً تاماً ‏.‏ وقال أبو الخطاب هذا ينبني على الروايتين في ملك الوقف ‏.‏ إن قلنا ‏:‏ هو مملوك ، فلصاحبه الشفعة ، لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك ، فأشبه الطلق ، وإن قلنا ‏:‏ ليس بمملوك ، فلا شفعة له ، لعد ملكه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه ، لأن فيه إلزام البيع بغير رضى المتبايعين ، وإسقاط حقهما من الخيار ، وقيل ‏:‏ يؤخذ بالشفعة ، لأن الملك انتقل ، فإن كان الخيار للمشتري وحده ، فللشفيع الأخذ ، لأنه يملك الأخذ من المشتري قهراً ، ويحتمل أن لا يملكه ، لأنه فيه إلزام البيع في حق المشتري بغير رضاه ‏.‏

فصل ‏:‏‎‎

وللصغير الشفعة ، ولوليه الأخذ بها إن رأى الحظ فيها ، فإذا أخذ فيها لم يملك الصغير إبطالها بعد بلوغه ، كما لو اشترى له داراً ‏.‏ وإن تركها مع الحظ فيها ، لم تسقط ، وملك الصغير الأخذ بها إذا بلغ ، وإن تركها الولي للحظ في تركها ، أو لإعسار الصبي ، سقطت في قول ابن حامد ، لأنه فعل ما تعين عليه فعله ، فلم يجز نقضه ، كالرد بالعيب ‏.‏ وظاهر كلام الخرقي ‏:‏ أنها لا تسقط ، لأن للشفيع الأخذ مع الحظ وعدمه ، فملك طلبها عند إمكانه ، كالغائب إذا قدم ، والمجنون كالصبي ، لأنه محجور عليه ‏.‏ وإن باع الولي لأحد الأيتام نصيباً ، فله الأخذ بها للآخر ، وإن كان الولي شريكاً ، لم يملك الأخذ بها إن كان وصياً ، لأنه متهم ، وإن كان أباً ، فله الأخذ ، لأن له أن يشتري لنفسه مال ولده ‏.‏ وهل لرب المال الشفعة على المضارب فيما يشتريه ‏؟‏ على وجهين بناء على شرائه لنفسه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا شفعة لكافر على مسلم ، لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا شفعة لنصراني رواه الطبراني في الصغير ‏.‏ ولأنه معنى يختص العقار ، فلم يثبت للكافر على المسلم كالاستعلاء ، وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي ، وللذمي على الذمي ، للخبر والمعنى ‏.‏


باب إحياء الموات


وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك ، وهي نوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ما لم يجر عليه ملك ، فهذا يملك بالإحياء ، لما روى جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أحيا أرضاً ميتة فهي له رواه أحمد ، والترمذي وصححه ‏.‏ ولا يفتقر لإذن الإمام ، للخبر ، ولأنه تملك مباح ، فلم يفتقر إلى إذن ، كالصيد ‏.‏

الثاني ‏:‏ ما جرى عليه ملك ، وباد أهله ، ولم يعرف له مالك ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يملك بالإحياء ، للخبر ، ولما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هي لكم بعده رواه أبو عبيد في الأموال ولأنه في دار الإسلام فيملك ، كاللقطة ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يملك ، لأنه إما لمسلم ، أو لذمي ، أو بيت المال ، فلم يجز إحياؤه ، كما لو تعين مالكه ‏.‏ ويجوز إحياء ما قرب من العامر إذ لم تتعلق بمصالحه ، للخبر والمعنى ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يملك ، لأنه لا يخلو من مصلحة ، فأشبه ما تعلق بمصالحه ، للخبر ، والمذهب الأول ‏.‏

فصل ‏:‏

وما تعلقت به مصلحة العامر ، كحريم البئر ، وفناء الطريق ، ومسيل الماء ، ويملك بالإحياء ، ولا يجوز لغير مالك العامر إحياؤه ، لأنه تابع للعامر ، مملوك لصاحبه ، ولأن تجويز إحيائه ، إبطال للملك في العامر على أهله ، وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ، ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأنه ليس بموات ، وتجويز إحيائه ، تضييق على الناس في أملاكهم وطرقهم ، وهذا لا يجوز ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز الإحياء من كل من يملك المال ، للخبر ، ولأنه فعل يملك به ، فجاز ممن يملك المال ، كالصيد ‏.‏ ويملك الذمي بالإحياء ، في دار الإسلام لذلك ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ لا يملك فيها بالإحياء ، لخبر طاوس ‏.‏وليس للمسلم إحياء أرض في بلد صولح الكفار على المقام فيه ، لأن الموات تابع للبلد ، فلم يجز تمليكه عليهم ، كالعامر ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي صفة الإحياء روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ أن يعمر الأرض لما يريدها له ، ويرجع في ذلك إلى العرف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين ، فحمل على المتعارف ‏.‏ فإن كان يريدها للسكنى ، فإحياؤها بحائط جرت عادتهم بالبناء به وتسقف ، فإنها لا تصلح للسكنى ، إلا بذلك ، وإن أرادها حظيرة لغنم ، أو حطب ، فبحائط جرت العادة بمثله ، وإن أرادها للزرع ، فبسوق الماء إليها من نهر ، أو بئر ‏.‏ ولا يعتبر حرثها ، لأنه يتكرر على عام ، فأشبه السكنى ، لا يحصل الإحياء به لذلك ، وإن كانت أرضاً يكفيها المطر ، فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع ، إما بقلع أشجارها ، أو أحجارها ، أو تنقيتها ونحو ذلك مما يعد إحياءً ‏.‏ وإن كانت من أرض البطائح ، فإحياؤها بحبس الماء عنها ، لأن إحياءها بذلك ، ولا يعتبر في الإحياء للسكنى نصب أبواب ، لأن السكنى ممكنة بدونه والرواية الثانية ‏:‏ التحويط إحياء لكل الأرض ، لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من أحاط حائطاً على أرض فهي له رواه أبو داود ‏.‏ ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء ، كما لو أرادها حظيرة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا أحياها ، ملكها بما فيها من المعادن ، والأحجار ، لأنه تملك الأرض بجميع أجزائها ، وطبقاتها ، وهذا منها ‏.‏ وإن ظهر فيها معدن جاز ، كالقير والنفط والماء ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يملكه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الناس شركاء في ثلاث ‏:‏ في الماء والكلأ والنار رواه الخلال ‏.‏ وكذلك الحكم في الكلأ والشجر لقول البني صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا حمى في الأراك ‏.‏

والثانية ‏:‏ يملك ذلك كله ، لأنه نماء ملكه ، فملكه كشعر غنمه ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن حفر بئراً في موات ، ملك تحريمها ، والمنصوص عن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ أن حريم البئر البديء خمس وعشرون ذراعاً من كل جانب ‏.‏ ومن سبق إلى بئر عادية ، فاحتفرها ، فحريمها خمسون ذراعاً من كل جانب ، لما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال ‏:‏ السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعاً ، والبديء خمسة وعشرون ذراعاً ‏.‏ رواه أبو عبيد في الأموال ‏.‏ وروى الخلال والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وقال القاضي ‏:‏ حريمها ما تحتاج إليه من ترقية الماء منها ، كقدر مدار الثور ، إن كان بدولاب ، وقدر طول البئر إن كان بالسواني ، وحمل التحديد بالحديث ، وكلام أحمد رضي الله عنه على المجاز ‏.‏ والظاهر خلافه ، فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء ، لموقف الماشية، وطعن الإبل ونحوه ‏.‏ وأما العين المستخرجة ، فحريمها ما يحتاج إليها صاحبها ، ويستضر بتمليكه عليه وإن كثر ‏.‏ وحريم النهر ‏:‏ ما يحتاج إليه ، لطرح كرايته ، وطريق شاويه ، وما يستضر صاحبة بتملكه عليه ، وإن كثر ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن تحجر مواتاً وشرع في إحيائه ولم يتم ، فهو أحق به ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به رواه أبو داود ‏.‏ فإن نقله إلى غيره ، صار الثاني أحق به ، لأن صاحب الحق آثره به ‏.‏ فإن مات ، انتقل إلى وارثه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من ترك حقاً ، أو مالاً فهو لوارثه ‏.‏ وإن باعه ولم يصح لأنه لم يملكه ، فلم يصح بيعه ، كحق الشفعة ، ويحتمل جواز بيعه ، لأنه صار أحق به ، فإن بادر إليه غيره فأحياه ، لم يملكه في أحد الوجهين ، لمفهوم قوله عليه السلام ‏:‏ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ‏.‏ ولأن حق المتحجر أسبق ، فكان أولى ، كحق الشفيع في المشتري ‏.‏

والثاني ‏:‏ يملكه ، لأنه أحيا أرضاً ميتة ، فيدخل في عموم الحديث ، ولأن الإحياء يملك به ، فقدم على التحجر الذي لا يملك به ‏.‏ وإن شرع في الإحياء وترك ، قال له السلطان ‏:‏ إما أن تعمر ، وإما أن ترفع يدك ، لأنه ضيق على الناس في حق مشترك ، فم يمكن منه ، كالوقوف في طريق ضيق ‏.‏ فإن سأل الإمهال ، أمهل مدة قريبة ، كالشهرين ونحوهما ، فإن انقضت ولم يعمر ، فلغيره إحياؤها وتملكها كسائر الموات ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون ، كالملح ، وعيون الماء والكبريت والكحل والقار ، ومعادن الذهب والفضة والحديد ومقالع الطين ونحوها ، لم يجز لأحد إحياؤها ‏.‏ ولا تملك بالإحياء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح ، فلما قيل له إنه بمنزلة الماء العد رده ، رواه أبو داود ، وقال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ ما يحمى هذا الأراك ‏؟‏ فقال ‏:‏ ما لم تنله أخفاف الإبل رواه أبو داود والترمذي ولأن هذا مما يحتاج إليه ‏.‏ فلو ملك بالاحتجار ، ضاق على الناس وغلت أسعاره ، وكذلك ما نضب عنه الماء من الجزائر عند الأنهار الكبار ‏.‏ قال أحمد رضي الله عنه يروى عن عمر رضي الله عنه ‏:‏ أنه أباح الجزائر وأنا آخذ به ، يعني ‏:‏ ما ينبت فيها ، ولأن البناء فيما يرد الماء إلى الجانب الآخر فيضر بأهله ، ولأنها منبت الكلأ والحطب فأشبهت المعادن ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل بئر ينتفع بها المسلمون ، أو عين نابعة ، فليس لها احتجارها ‏.‏ لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة ‏.‏ ومن حفر بئراً لغير قصد التملك ، إما لينتفع بها المسلمون ، أو لينتفع بها مدة ثم يتركها ، لم يملكها ، وكان أحق بها حتى يرحل عنها ثم تكون للمسلمين ‏.‏ ومن حفر بئراً للتملك فلم يظهر ماؤها ، لم تملك به ، لأنه ما تم إحياؤها ، وكان كالمحتجر الشارع في الإحياء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أحيا أرضاً ، فظهر فيها معدن ، ملكه ، لأنه لم يضيق على الناس به ، لأنه الذي أخرجه ولو كان في الموات أرض يمكن فيها إحداث معدن ظاهر ، كشط البحر إذا حصل فيه ماؤه ، صار ملحاً ، ملكه بالإحياء ، لأنه توسيع على المسلمين لا تضييق ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن سبق إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة ، كالماء والملح والنفط ، أو باطن لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل ، كمعادن الذهب والحديد ، كان أحق به ، للخبر ‏.‏ فإن أقام بعد قضاء حاجته ، منع منه ، لأنه يضيق على الناس بغير نفع ، فأشبه الوقوف في مشرعة ماء لا يستقي منها وإن طال مقامه للأخذ ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يمنع ، لأنه سبق ، فكان أحق ، كحالة الابتداء ‏.‏

والثاني ‏:‏ يمنع ، لأنه يضر كالمتحجر ‏.‏ فإن سبق إليه اثنان يضيق المكان عنهما ، أقرع بينهما ، لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه ، وقال بعض أصحابنا ‏:‏ إن كانا يأخذان للتجارة ، هايأه الإمام بينهما ‏.‏ وإن كانا يأخذان للحاجة ، ففيه أربع أوجه ‏:‏

أحدها ‏:‏ يهايئاه بينهما ‏.‏

والثاني ‏:‏ يقرع بينهما ‏.‏

والثالث ‏:‏ يقدم الإمام من يرى منهما ‏.‏

والرابع ‏:‏ ينصب الإمام من يأخذ لهما ويقسم بينهما ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن شرع في حفر معدن ولم يبلغ النيل به ، فهو أحق به ، كالشارع في الإحياء ولا يملكه ، وإن بلغ النيل ، لأن الإحياء ، العمارة ، وهذا تخريب ، فلا يملك به ، ولأنه يحتاج في كل جزء إلى عمل ، فلا يملك منه إلا ما أخذ ‏.‏ لكن يكون أحق به ما دام يأخذ ‏.‏ وإن حفر إنسان من جانب آخر ، فوصل إلى النيل ، لم يكن له منعه ، لأنه لم يملكه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة ، للبيع والشراء ، لاتفاق أهل الأمصار عليه من غير إنكار ، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار ، فلا يمنع منه ، كالاجتياز ‏.‏ ومن سبق إليه ، كان أحق به ، لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ منى مناخ من سبق وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة ، لأن الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره ، وليس له أن يبني دكة ولا غيرها ، لأنها تضيق ، ويعثر بها العابر ‏.‏ فإن قام وترك متاعه ، لم يجز لغيره أن يقعد ، لأن يده لم تزل ‏.‏ وإن كال القعود ، ففيه وجهان ، سبق توجيههما ‏.‏ وإن سبق إليه اثنان ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقرع بينهما لتساويهما ‏.‏

والثاني ‏:‏ يقدم الإمام أحدهما ، لأن له نظراً واجتهاداً ‏.‏

فصل ‏:‏

في القطائع ، هي ضربان ‏:‏ إقطاع وإرفاق ، وهي مقاعد الأسواق والرحاب ، فللإمام إقطاعها لمن يجلس فيها ، فيصير كالسابق إليها ، إلا أنه أحق بها ، وإن نقل متاعه ‏.‏ لأن للإمام النظر الاجتهاد ‏.‏ فإن أقطعه ، ثبتت يده عليه بالإقطاع ، فلم يكن لغيره أن يقعد فيه ‏.‏

الضرب الثاني ‏:‏ موات الأرض ، فللإمام إقطاعها لمن يحييها ، لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسله معاوية ‏:‏ أن أعطه إياها ‏.‏ أو أعلمها إياه ‏.‏ حديث صحيح ، وأقطع بلال بن الحارث المزني ، وأبيض بن حمال المازني ، وأقطع الزبير حضر فرسه ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ ومن أقطعه الإمام شيئاً ، لم بملكه لكن يصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه ‏.‏ ولا يقطع من ذلك إلا ما قدر على إحيائه ، لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ أقطع بلال بن الحارث العقيق ، فلما كان زمن عمر قال ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجره على الناس ، فخذ ما قدرت على عمارته ودع باقيه ‏.‏ رواه أبو عبيد في الأموال ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة ، لما ذكرنا في إحيائها ‏.‏ وقال أصحابنا ‏:‏ وكذلك المعادن الباطنة ، لأنها في معناها ، ويحتمل جواز إقطاعها ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أقطع بل بن الحارث معادن القبيلة ، جلسيها وغوريها ، رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن ، فجاز إقطاعه ، كالموات ‏.‏

فصل في الحمى ‏:‏

لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتاً يمنع الناس الرعي فيها ، لما روى الصعب بن جثامة قال ‏:‏ سمعت رسول الله ‏(‏ص‏)‏ يقول ‏:‏ لا حمى إلا لله ولرسوله متفق عليه رواه أبو داود ‏.‏ وقال ‏:‏ الناس شركاء في ثلاث ‏:‏ الماء والكلأ والنار وللإمام أن يحمي مكاناً لترعى فيه خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصدقة ، وضوال الناس التي يقوم بحفظها لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ حمى النقيع ، لخيل المسلمين ، لأن عمر وعثمان رضي الله عنهما حميا ، واشتهر في الصحابة ، فلم ينكر ، فكان إجماعاً ‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه ‏:‏ والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ، ما حميت من الأرض شبراً في شبر ‏.‏ رواه أبو عبيد ‏.‏ وليس له أن يحمي قدراً يضيق به على الناس ، لأنه إنما جاز للمصلحة ، فلا يجوز ذلك بضرر أكثر منها ، وما حماه النبي ‏(‏ص‏)‏ فليس لأحد نقضه ، ولا يملك بالإحياء ، لأن ما حماه النبي ‏(‏ص‏)‏ نص ، فلم يجز نقضه بالاجتهاد ‏.‏ وما حماه غيره من الأئمة ، جاز لغيره من الأئمة تغييره في أحد الوجهين ‏.‏ وفي الآخر ليس له ذلك ، لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ، والأول أولى ، لأن الاجتهاد في حماها في تلك المدة دون غيرها ، ولهذا ملك الحامي لها تغييرها ‏.‏ وإن أحياه إنسان ، ملكه ، لأن حمى الأئمة اجتهاد ، وملك الأرض بإحيائها نص ، فيقدم على الاجتهاد ‏.‏
باب الوقف


ومعناه ‏:‏ تحبيس الأصل ، وتسبيل الثمرة ، وهو مستحب ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ‏:‏ علم ينتفع به من بعده ، وولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية رواه مسلم ‏.‏

ويجوز وقف الأرض ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ‏:‏ أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني فيها ‏؟‏ قال ‏:‏ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ، ولا يبتاع ، ولا يوهب ، ولا يورث قال فتصدق بها عمر في الفقراء ، وذوي القربى ، والرقاب ، وابن السبيل ،والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها ، أو يطعم صديقاً بالمعروف ، غير متأثل منه أو غير متمول فيه ، متفق عليه ‏.‏

ووقف السلاح والحيوان جائز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله متفق عليه ‏.‏ وفي رواية ‏:‏ وأعتده ويصح وقف كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها دائماً ، قياساً على المنصوص عليه ‏.‏ ويصح وقف المشاع ، لأن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها ، وهذا صفة المشاع ، ولأن القصد تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة ، وهذا يحصل في المشاع ، كحصوله من المفرز ‏.‏ ويصح وقف علو الدار ، دون سفلها ، وسفلها دون علوها ، لأنهما عينان يجوز وقفهما ، فجاز وقف أحدهما كالدارين ‏.‏

فصل

ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه ، كالأثمان ، والمأكول والمشروب ، والشمع ، لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه ، ولا ما يسرع إليه الفساد ، كالرياحين ، لأنها لا تتباقى ، ولا ما لا يجوز بيعه ، كالكلب ، والخنزير ، ولا المرهون والحمل المنفرد ، ولا أم الولد ، لأن الوقف تمليك ، فلا يجوز في هذه ، كالبيع ‏.‏ ولا يجوز في غير معين ، كأحد هذين العبدين ، وفرس ، وعبد ، لأنه نقل ملك على وجه القربة ، فلم يصح في غير معين ، كالهبة ‏.‏

فصل

ولا يصح الوقف إلا على بر ، كالمساجد ، والقناطر ، والفقراء ، والأقارب ، أو آدمي معين ، مسلماً كان أو ذمياً ، لأنه في موضع القربة ، ولهذا جازت الصدقة عليه ، ولا يصح على غير ذلك ، كالبيع وكتب التوراة ، والإنجيل ، لأن هذا إعانة على المعصية ، ولأن هذه الكتب منسوخة قد بدل بعضها ، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر شيئاً استكتبه منها ، ولا على قطاع الطريق ، لأنه إعانة على المعصية ‏.‏ والقصد بالوقف القربة ، ولا على من لا يملك ، كالميت ، والملك ، والجني ، لأن الوقف تمليك في الحياة ، ولا على عبد ، أو أم ولد ، لأنه لا يملك في رواية ، وفي أخرى ‏:‏ ملكه غير لازم ، والوقف لا يجوز أن يكون متزلزلاً ، ولا على حربي أو مرتد ، لأن ملكهما تجوز إزالته ، والوقف يجب أن يكون لازماً ‏.‏ ولا على حربي أو مرتد ، لأن ملكهما تجوز إزالته ، والوقف يجب أن يكون لازماً ‏.‏ ولا على غير معين ، كرجل ، أو امرأة ، لأن تمليك غير المعين لا يصح ‏.‏ فإن قيل ‏:‏ فكيف جاز الوقف على المساجد ‏؟‏ وهي لا تملك ، قلنا ‏:‏ الوقف إنما هو على المسلمين ، لكن عين نفعاً خاصاً لهم ‏.‏

فصل

ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل ، لأنه عقد يبطل بالجهالة ، فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل ، كالبيع ، إلا أن يقول ‏:‏ هو وقف بعد موتي ، فيصح ، ويكون وصية يعتبر خروجه من الثلث ، لأنه تبرع مشروط بالموت فكان وصية ، كما لو قال ‏:‏ إذا مت ، فهذا صدقة للمساكين ‏.‏ وجعل القاضي وأبو الخطاب ‏:‏ تعليق الوقف على الموت كتعليقه على شرط في الحياة ، فلا يصح في الموضعين إلا على قول الخرقي ‏.‏ والأولى التفريق بينهما ، لأن تعليقه بالموت وصية ، فجاز ‏.‏ كما لو قال ‏:‏ إذا مات ، فداري لفلان ، أو أبرأته من ديني عليه ، ولا يلزم من جواز ذلك صحة تعليق الهبة والإبراء ، على شرط في الحياة ، كذا ها هنا ‏.‏ ولا يجوز الوقف إلى مدة ، لأنه إخراج مال على سبيل القربة ، فلم يجز إلى مدة ، كالصدقة فإن شرط فيه الخيار ، أو شرط فيه الرجوع إذا شاء ، أو يبيعه إذا احتاج ، أو لم يدخل فيه من شاء ، لم يصح ، لأنه إخراج ملك على سبيل القربة ، فلم يصح مع هذه الشروط ، كالصدقة ‏.‏

فصل

وإن شرط أن يأكل منه أيام حياته ، أو مدة يعينها ، فله شرطه ‏.‏ نص عليه أحمد رضي الله عنه ‏.‏ واحتج بما روى حجر المدري ، أن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أهله بالمعروف ، غير المنكر ، ولأن عمر رضي الله عنه قال في وقفه ‏:‏ لا جناح على من وليها ، أن يأكل منها ، أو يطعم صديقاً ، وكان الوقف في يده إلى أن مات ، ولأنه لو وقف وقفاً عاماً ، كالسقاية ، والمسجد ، لكان له أن ينتفع منه ‏.‏ كذلك إذا خصه بانتفاعه ‏.‏

فصل

وإن وقف على نفسه ثم على أولاده ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح ، لأن الوقف تمليك ، فلم يصح أن يملك نفسه به ، كالبيع ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح ، لأنه لما جاز أن يشترط لنفسه منه شيئاً ، جاز أن يختص به أيام حياته ، كالوصية ‏.‏

فصل

ولا يكون الوقف ، إلا على سبيل غير منقطع ، كالفقراء ، والمساكين ، وطلبة العلم ، والمساجد ، أو على رجل بعينه ، ثم على ما لا ينقطع ‏.‏ فإن وقفه على رجل بعينه وسكت ، صح وكان مؤبداً ، لأن مقتضاه التأبيد ، فحمل فيما سماه على ما شرطه ، وفيما سكت عنه على مقتضاه ، ويصير كأنه وقف مؤبد ، أو قدم المسمى على غيره ‏.‏ فإذا انقرض المسمى ، صرف إلى أقارب الواقف ، لأنهم أحق الناس بصدقته ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم صدقتك على غير رحمك صدقة ، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة ‏.‏

وعنه ‏:‏ أنه يرجع إلى المساكين ، لأنها مصارف الصدقات المفروضات ، كالزكوات والكفارات ‏.‏

والأول ‏:‏ ظاهر المذهب ‏.‏ وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه والخرقي ‏:‏ أنه يرجع إلى الأغنياء ، والفقراء من أقاربه ، لأن الوقف يستوي فيه الغني والفقير ، ويحتمل أن يختص الفقراء ، لأنهم مصرف الصدقات ‏.‏ ويرجع إلى جميع الورثة في إحدى الروايتين ، لأنه يصرف إليهم ماله عند موته ‏.‏

والثانية ‏:‏ يرجع إلى أقرب عصبة الواقف ، لأنه مصرف ولاء معتقه ، وعليهم عقله ، فخصوا بهذا ، ويكون وقفاً على من رجع إليه ، لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له ، والوقف يقتضي التأبيد ، فإذا انقرضوا رجع إلى المساكين ‏.‏ وإن لم يكن له أقارب ، رجع إلى المساكين ليعيلهم ‏.‏ ولو جعل الانتهاء مما لا يجوز الوقف عليه ، فقال ‏:‏ وقفت على أولادي ، ثم على البيع ، فحكمه حكم ما لم يسم له انتهاء ، لأن ذكر ما لا يجوز كعدمه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ وقفت داري ولم يذكر سبلها ، صح في قياس المذهب ، لأنه إزالة ملك على سبيل القربة ، فصح مطلقاً ، كالعتق ‏.‏ وحكمه حكم منقطع الانتهاء ‏.‏

فصل

فإن قال ‏:‏ وقفت على هذا العبد ولم يذكر له مالاً ، فهو باطل ، لأنه منقطع الابتداء والانتهاء ‏.‏ وإن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه فقال ‏:‏ ثم على المساكين ، صح ، لأنه جمع فيه بين ما يجوز وما لا يجوز ، فصح ، كما لو وقفه على أولاده ، ثم على البيع ، ويحتمل أن يخرج صحته على الروايتين في تفريق الصفقة ‏.‏ فإن قلنا بصحته وكان من لا يصح الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه ، كالميت ، والمجهول ، صرف في الحال إلى من يجوز ، لأن ذكر من لا يجوز كعدمه ، وإن أمكن اعتبار انقراضه كعبد معين ، احتمل ذلك أيضاً لذلك ‏.‏ واحتمل أن يصرف إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه ، ثم يصرف إلى من يجوز ، لأن وقفه على من يجوز مشروط بانقراض من لا يجوز ، فكان الوقف قبل ذلك لا مصرف له ، فصرف إلى الأقارب ، كمنقطع الانتهاء ‏.‏

فصل

ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه ، مثل أن يبني مسجداً ، ويأذن للناس في الصلاة فيه ، أو مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها ، أو سقاية ويشرع بابها ، ويأذن في دخولها ، لأن العرف جار به ‏.‏ وفيه دلالة على الوقف ، فجاز أن يثبت به ، كالقول ، وجرى مجرى من قدم طعاماً لضيفانه ، أو نثر نثاراً ، أو صب في خوابي السبيل ماء وأما القول ، فألفاظه ستة ، ثلاثة صريحة ، وهي ‏:‏ وقفت ، وحبست ، وسبلت ، متى أتى بواحدة منها ، صار وقفاً ، لأنه ثبت لها عرف الاستعمال ، وعرف الشرع بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ‏:‏ إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها فصارت كلفظ الطلاق فيه ، وثلاثة كناية ، وهي ‏:‏ تصدقت ، وحرمت ، وأبدت ، فليست صريحة ، لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات ، فإن نوى بها الوقف ، أو قرن بها لفظاً من الألفاظ الخمسة ، أو حكم الوقف ، بأن يقول ‏:‏ صدقة محبسة ، أو محرمة ، أو مؤبدة ، أو صدقة ، لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، صار وقفاً ، لأنه لا يحتمل مع هذه القرائن ، إلا الوقف ‏.‏

فصل

ولا يجوز التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر ‏:‏ لا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث ولأن مقتضى الوقف التأبيد ، وتحبيس الأصل ، بدليل أن ذلك من بعض ألفاظه ، والتصرف في رقبته ينافي ذلك ‏.‏

فصل

والوقف يزيل ملك الواقف ، لأنه يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة ، فأزال ملكه عن الرقبة ، كالعتق ، ويزيل الملك بمجرد لفظه ، لأن الوقف يحصل به ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يحصل إلا بإخراجه عن يده ‏.‏

قال أحمد ‏:‏ الوقف المعروف ، أن يخرجه من يده ، ويوكل من يقوم به ، لأنه تبرع ، فلم يلزم بمجرده ، كالهبة ، والوصية ، والأول المشهور ، لحديث عمر رضي الله عنه ، ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث ، فلزم بمجرده كالعتق ، ولا يفتقر إلى قبول ، ويحتمل أنه متى كان على آدمي معين ، افتقر إلى القبول ، لأنه تبرع لآدمي معين ، أشبه الهبة ، فإن لم يقبل ، أو رده ، بطل في حقه ، ولم يبطل في حق من بعده ، وصار كالوقف على من لا يصح ، ثم على من يصح ‏.‏ وعلى الظاهر من المذهب أنه لا يفتقر إلى القبول ، ولا يبطل برده ، لأنه إزالة ملك على وجه القربة ، أشبه العتق والوقف على غير معين ‏.‏

فصل

وينتقل الملك في الوقف إلى الموقوف عليه في ظاهر المذهب ، لأنه سبب نقل الملك ، ولم يخرجه عن المالية وجد إلى من يصح تمليكه ، أشبه البيع والهبة ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يملكه ‏.‏ ويكون الملك لله تعالى ، لأنه حبس للعين ، وتسبيل للمنفعة على وجه القربة ، فأزال الملك إلى الله سبحانه كالعتق ‏.‏

فصل

ويملك الموقوف عليه غلته وثمرته ، وصوفه ولبنه ، لأنه من غلته ، فهو كالثمرة ، ويملك تزويج الأمة ، لأنه عقد على نفعها ، فأشبه إجارتها ، ويملك مهرها ، لأنه بدل نفعها ، أشبه أجرتها ‏.‏ وإن ولدت ، فولدها وقف معها ، لأن الوقف حكم ثبت في الأم ، ، فسرى إلى الولد ، كالاستيلاد والكتابة ‏.‏ ولا يملك الموقوف عليه وطأها ، لأن ملكه فيها ضعيف ، ولا يؤمن إفضاؤه إلى إخراجها من الوقف ، فإن وطئها ، فلا حد عليه ، لأنها ملكه ، ولا مهر عليه لذلك ‏.‏ وإن لم تلد منه ، فهي وقف بحالها ، وإن ولدت منه ، فالولد حر ، لأنه من مالكها ، وعليه قيمته يوم الوضع ، لأنه فوت رقه ، ويشتري بها عبداً يكون وقفاً مكانه ، وتصير أم ولد له ، لأنه أحبلها بحر في ملكه ، فإذا مات ، عتقت ، ووجبت قيمتها في تركته حينئذ ، لأنه أتلفها على من بعده ، ويشتري بالقيمة جارية تكون وقفاً مكانها ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ ليست ملكاً له ، لم تصر أم ولد بوطئه ‏.‏

فصل

وإ، أتلف الوقف أجنبي أو الواقف ، أو الموقوف عليه ، فعليه قيمته يشتري بها مثله يقوم مقامه ، لأن الموقوف عليه لا يملك التصرف في رقبته ، إنما له نفعه ، وإن وطئت الجارية بشبهة ، فولدها حر ، وعلى الوطئ قيمته يوم وضعه يشتري بها ما يقوم مقامه ‏.‏ وإن جنى الوقف ، تعلقت جنايته بالموقوف عليه ، لأنه يملكه ، ولم تتعلق بالوقف ، لأن رقبته محلاً للبيع ، فتعلقت بمالكه كأم الولد ‏.‏

فصل

وتصرف الغلة على ما شرط الواقف من التسوية ، والتفضيل ، والتقديم ، والتأخير ، والجمع ، والترتيب ، وإدخال من أدخله بصفة ، وإخرج من أخرجه بصفة ، لأنه ثبت بوقفه ، فوجب أن يتبع فيه شرطه ، ولأن عمر رضي الله عنه وقف أرضه على الفقراء ، وذوي القربى ، والرقاب ، وابن السبيل ، والضيف ، وجعل لمن وليها أن يأكل منها ، أو يطعم صديقاً ‏.‏ ووقف الزبير على ولده ، وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضراً بها ، وإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه ‏.‏

فصل

فإذا قال ‏:‏ وقفت على أولادي ، دخل فيه الذكر منهم والأنثى والخنثى ، لأن الجميع أولاد ‏.‏ وهل يدخل فيه ولد الولد ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يدخلون ، لأنهم دخلوا في قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ وفي قوله ‏:‏ ‏{‏وهو يرثها إن لم يكن لها ولد‏}‏ ‏.‏ فعلى هذه الرواية يدخل ولد البنين دون ولد البنات ، لأن ولد البنين هم الذين دخلوا في النص دون ولد البنات ‏.‏

قال الشاعر ‏:‏

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ** بنوهن أبناء الرجال الأجانب

والثانية ‏:‏ لا يدخل ولد الولد ، لأن ولده حقيقة ولد صلبه ، والكلام بحقيقته ، إلا أن يقرن به ما يدل على إدخالهم ، كقوله ‏:‏ وقفت على أولادي ، لولد الذكور الثلثان ، وولد الإناث الثلث ، ونحوه ‏.‏ فإن قال ‏:‏ وقفت على أولادي ، فإذا انقرض أولاد أولادي ، فهو على المساكين ، دخل أولاد الأولاد في الوقف ، لأن قرينة اشتراط انقراضهم دليل على أنهم أريدوا به ‏.‏ وقيل ‏:‏ لا يدخلون أيضاً ، لأن اللفظ لا يتناولهم ، بل يكون وقفاً منقطع الوسط ، يصرف بعد أولاده إلى مصرف الوقف المنقطع ، فإذا انقرض أولاد أولاده ، صرف إلى المساكين ‏.‏ وإن وصل لفظه بما يقتضي تخصيص أولاده ، فقال ‏:‏ وقفت على ولدي لصلبي ، أو قال ‏:‏ على أولادي ، ثم على أولادهم ، اختص بالولد وجهاً واحداً ، ومتى كان الوقف على الأولاد مطلقاً ، سوي فيه بين الذكر والأنثى والخنثى ، لاقتضاء لفظه التسوية ، كقوله تعالى في ولد الأم ‏{‏فهم شركاء في الثلث‏}‏ وإن كان في لفظه تفضيل بعضهم ، فهو كذلك ، وإن كان له حمل ، لم يدخل في الوقف حتى ينفصل ، ثم يستحق ما يحدث من الغلة بعد انفصاله ، دون ما كان موجوداً قبله ، كالثمرة المؤبرة ، والزرع المدرك ، لأنه لا يسمى ولداً قبل الانفصال ‏.‏ وإن نفي ولده بلعان ، خرج من الوقف ، لخروجه عن كونه ولداً له ‏.‏

فصل

وإن وقف على بنيه ، لم يدخل فيه بنت ، ولا خنثى ، لأنه لم يعلم كونه ابناً ‏.‏ وإن وقف على بناته ، لم يدخل فيه ذكر ، ولا خنثى ‏.‏ وإن وقف على ولد فلان أو بنيه أو بناته ، فهو كوقفه على ولد نفسه وبنيه وبناته ، إلا أن يقف على بني فلان ، وهم قبيلة كبني هاشم ، فيدخل فيه الذكر والأنثى والخنثى من ولد البنين دون البنات ، لأن هذا الاسم يقع على القبيلة ذكرهم وأنثاهم ، وولد البنات لا يعدون منها ‏.‏

فصل

وإن وقف على أولاده وأولاد أولاده ، دخل في الوقف أولاده الذكور والإناث والخناثى ، وأولادهم الذكور والإناث والخناثى من ولد البنين ، فأما ولد البنات ، فقال الخرقي ‏:‏ لا يدخلون ، لأنهم لم يدخلوا في قوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ولا يدخلون في الوقف على ولد فلان وهم قبيلة ، فلا يدخلون ها هنا ، ولأنهم إنما ينسبون إلى قبيلة آبائهم دون قبيلة أمهاتهم ‏.‏ وقال أبو بكر وابن حامد ‏:‏ يدخلون في الوقف ، لأنهم أولاد أولاده ‏.‏ وإن قال ‏:‏ وأولاد أولادي المنتسبين إلي ، لم يدخلوا وجهاً واحداً ‏.‏ وإن قال ‏:‏ لولد الذكر سهمان ، ولولد الأنثى سهم ، دخلوا فيه ، لأنه صرح بدخولهم ‏.‏ ولو وقف على قوم بأعيانهم ، ثم على أولادهم ، وكانوا ذكوراً وإناثاً ، دخل أولاد الإناث في الصحيح ، لأن اللفظ تناولهم ، كتناوله ولد البنين ، وإن كان جميعهم إناثاً ، دخل في أولادهن ، لأن لفظه نص فيهم ‏.‏

فصل

وإذا شرك بين الولد وولد الولد بالواو ، اشترك الجميع فيه ، وإن رتب فقال ‏:‏ على أولادي ، ثم على أولادهم ، أو قال ‏:‏ الأعلى فالأعلى ، أو الأقرب فالأقرب ، وجب ترتيبه ، وإن رتب بطنين ، ثم شرك بين الباقين ، أو شرك بين بطنين ، ثم رتب الباقين ، فهو على ما شرطه ، وكيفما شرط فالأمر عليه ، لأن الوقف ثبت بلفظه ، فوجب أن يتبع مقتضاه ‏.‏

فصل

وإن وقف على قرابته ، أو قرابة فلان ، فهو لولده وولد أبيه ، وجده وجد أبيه الذكر والأنثى ‏.‏ ولا يعطى من بعد ذلك ، ولا قرابته من جهة أمه شيئاً ، لأن الله تعالى جعل خمس الخمس لذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم قرابته إلى بني هاشم ، لم يتجاوزهم ، ولم يعط بني زهرة شيئاً ‏.‏ ويحتمل أن يعطي كل من عرف قرابته من الجهتين ، لأن الاسم واقع عليهم لغة وعرفاً ‏.‏

وعنه ‏:‏ إن لم يصل قرابته من جهة أمه في حياته ، دخلوا فيه ، وإلا فلا ، لأن صلته لهم في حياته تدل على إرادتهم بصلته هذه وإن وجدت قرينة لفظية ، أو حالية تدل على إرادتهم أو حرمانهم ، عمل عليه ، وأهل بيته بمثابة قرابته ‏.‏ وقال الخرقي ‏:‏ إذا أوصى لأهل بيته ، أعطي من قبل أبيه وأمه ‏.‏

فصل

وإن وقف على أقرب الناس إليه ، وله أبوان وولد ، فهم سواء فيه ، لأن كل واحد منهم يليه في القرب من غير حاجز ، ولأنه جزء والده ، وولده جزؤه ، ويحتمل تقديم الابن لتقديمه في التعصيب ‏.‏ وإن عدم بعضهم ، فهم للباقين ، ويقدم كل واحد من هؤلاء على من سواهم ، لأن سواهم يدلي بواسطة ‏.‏ وإن عدموا ، فهو لولد الابن ، أو الجد أبي الأب الأقرب منهم فالأقرب ، فإن عدموا فهو للإخوة ، لأنهم ولد الأب ، ويقدم الأخ من الأبوين ، ويسوى بين الأخ من الأب ، والأخ من الأم ، وكذلك الأخوات ، فإن عدموا صرف إلى بنيهم على ترتيب آبائهم ، ويسوى بين الأخ والجد لاستوائهما في الميراث ، ولأن الجد أبو الأب ، والأخ ولد الأب ، ويحتمل تقديم الجد ، لأن له ولادة ، وهو أقوى في الميراث ، وقيل يقدم الأخ ، لأنه ابن الأب ، فيكون أقوى من أبيه ، لقوة تعصيبه ، فإن لم يكن له إخوة ، فهو للأعمام ، ثم بنيهم على ترتيب الميراث ‏.‏ وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه ، صرف إلى ثلاثة منهم ، فإن كان بعضهم أقرب من بعض ، استوفي ما أمكن من الأقرب ، وتمم الباقي من الأبعد ، لأنه شرط العدد والأقرب ، فوجب اعتبارهما ‏.‏ وإن استوى جماعة في القرب ، أعطي الجميع لتساويهم ‏.‏

فصل

وإن وقف على عترته فهم عشيرته وولده ، قاله ابن قتيبة ، وقال ابن الأعرابي وثعلب ‏:‏ هم ذريته ، والأول أولى ، لأنه يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ نحن عترة النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وإن وقف على مواليه ، وله موال من فوق ، وموال من أسفل ، فهو لجميعهم ، لأن الاسم يشملهم حقيقة ‏.‏ وإن وقف على زيد وعمرو والفقراء ، فلهما الثلثان وللفقراء فمن مات منهما ، رجع نصيبه إلى صاحبه ، فإذا ماتا ، رجع إلى الفقراء ، لأنه جعله لهم مشروطاً بانقراضهما ‏.‏

فصل

وإن وقف نخلة فيبست ، أو جذوعاً فتكسرت ، جاز بيعها ، لأنه لا نفع في بقائها ، وفيه ذهاب ماليتها ، فكانت المحافظة على ماليتها ببيعها أولى ، لأنه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداء ، فلا يجوز استدامة وقفه ، لأن ما كان شرطاً لابتداء الوقف ، كان شرطاً لاستدامته كالمالية ، وإذا بيعت ، صرف ثمنها في مثلها ، وإن حبس فرساً في سبيل الله ، فصارت بحيث لا ينتفع بها فيه ، بيعت ، لما ذكرنا ، وصرف ثمنها في حبيس آخر ‏.‏ وإن وقف مسجداً فخرب ، وكان في مكان لا ينتفع به ، بيع ، وجعل في مكان ينتفع به ، لما ذكرنا ‏.‏ وكل وقف خرب ولم يرد شيئاً بيع ، واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف ‏.‏ وإن وقف على ثغر فاختل صرف إلى ثغر مثله ، لأنه في معناه ‏.‏

فصل

وينفق على الوقف من حيث شرط الواقف ، لأنه لما اتبع شرط الواقف في سبله كذلك في النفقة عليه ، فإن لم يشرط النفقة عليه ، أنفق عليه من غلته ، لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة عليه ، فإن لم يكن له غلة ، أنفق عليه الموقوف عليه ، لأنه ملكه ‏.‏

فصل

وينظر في الوقف من حيث شرط الواقف ، لأن عمر رضي الله عنه ‏:‏ جعل النظر في وقفه إلى حفصة ابنته ، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها ، ولأن سبله إلى شرطه ، فكذلك النظر فيه ‏.‏ وإن لم يشرط الناظر ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ينظر فيه الموقوف عليه ، لأنه ملكه ، وغلته له ، فكان نظره إليه كالمطلق ‏.‏

والثاني ‏:‏ إلى حاكم البلد ، لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه ، وحق من ينتقل إليه ، ففوض الأمر فيه إلى الحاكم فإن جعله إلى اثنين من أفاضل ولده ، جعل إليهما ، فإن لم يوجد فيهما إلا فاضل واحد ، ضم الحاكم إليه آخر ، لأن الواقف لم يرض بنظر واحد ‏.‏

فصل

وإن اختلف أرباب الوقف فيه ، رجع إلى الواقف ، لأن الوقف ثبت بقوله ، فإن لم يكن ، تساووا فيه ، لأن الشركة ثبتت ، ولم يثبت التفضيل ، فوجبت التسوية ، كما لو شرك بينهم بلفظه ‏.‏


باب أحكام المياه


وهي ضربان ‏:‏ مباح وغيره ، فغير المباح ما ينبع في أرض غير مملوكة ، فصاحبه أحق به ، لأنه يملكه في رواية ، وفي الأخرى لا يملكه إلا أنه ليس لغيره دخول أرضه بغير إذنه ، وما فضل عن حاجته ، لزمه بذله لسقي ماشية غيره ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ ، منعه الله فضل رحمته ولا يلزمه الحبل والدلو ، لأنه يتلف بالاستعمال فيتضرر به ، فأشبه بقية ماله ، وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره ‏.‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يلزمه ، لأن الزرع لا حرمة له في نفسه ‏.‏

والثانية ‏:‏ يلزمه لما روى إياس بن عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء ‏.‏ رواه أبو داود وإن لم يفضل عنه شيء ، لم يلزمه بذله ، لأن الوعيد على منع الفضل يدل على جواز منع غيره ، ولأن ما يحتاج إليه يستضر ببذله ، فلم يجب بذله كحبله ودلوه ‏.‏

الضرب الثاني ‏:‏ الماء النابع في الموات ، فمن سبق إلى شيء منه ، فهو أحق به ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم ، فهو أحق به وإن أراد أن يسقي أرضاً وكان الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه ، جاز أن يسقي كيف شاء ، لأنه لا ضرر فيه على أحد ‏.‏ وإن كان نهراً صغيراً ، أو من مياه الأمطار ، بدئ بمن في أول النهر ، فيسقي ، ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب ، ثم يرسل إلى الذي يليه ، كذلك إلى الآخر ، لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ‏:‏ أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينيب ‏:‏ يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل أخرجه مالك في الموطأ ‏.‏ وعن عبد الله بن الزبير أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ استق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ‏:‏ فغضب الأنصاري فقال ‏:‏ إن كان ابن عمتك ‏!‏ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ‏:‏ يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر متفق عليه ‏.‏

و شراج الحرة ‏:‏ مسايل الماء ، جمع شرج وهو النهر الصغير ‏.‏ ولأن السابق إلى أول النهر كالسابق إلى أولى المشرعة ‏.‏ وإن كانت أرض الأول بعضها أنزل من بعض ، سقى كل واحدة على حدتها ‏.‏ فإن أراد إنسان إحياء أرض على النهر ‏.‏ بحيث إذا سقاها يستضر أهل الأرض الشاربة منه ، منع منه ، لأن من ملك أرضاً كانت له حقوقها ومرافقها ، واستحقاق السقي من هذا النهر من حقوقها ، فلا يملك غير إبطاله ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اشترك جماعة في استنباط عين ، اشتركوا في مائها ، وكان بينهم على ما اتفقوا عليه عند استخراجها ، فإن اتفقوا على سقي أرضهم منها بالمهايأة جاز ‏.‏ وإن أرادوا قسمته بنصب حجر ، أو خشبة مستوية في مصدم الماء ، فيها نقبان على قدر حق كل واحد منهما ، جاز ، وتخرج حصة كل واحد منهما في ساقيته منفردة ، وإن أراد أحدهما أن يسقي نصيبه أرضاً لا حق لها في الشرب منه ، فله ذلك ، لأن الماء لا حق لغيره فيه ، فكان له التصرف فيه كيف شاء ، كما لو انفرد بالعين وفيه وجه آخر ، أنه لا يجوز ، لأنه يجعل لهذه الأرض رسماً في الشرب منه ، فمنع منه ، كما لو كان له داران متلاصقتان في دربين أراد فتح أحدهما إلى الأخرى ، وليس لأحدهما فتح ساقية في جانب النهر قبل المقسم ، يأخذ حقه فيها ، ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء ، ولا غير ذلك ، لأن حريم النهر مشترك ، فلم يملك التصرف فيه بغير إذن شريكه ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن سبق إلى مباح كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين ، وثمر الشجر المباح ، والبلح ، وما ينبذه الناس رغبة عنه ، فهو أحق به ، للخبر ، فإن استبق إليه اثنان ، قسم بينهما لأنهما اشتركا في السبب ، فاشتركا في المملوك به ، كما لو ابتاعاه ‏.‏


باب الهبة


وهي التبرع بتمليك مال في حياته ، وهي مستحبة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ تهادوا تحابوا ‏.‏ وهي أفضل من الوصية ، لما روى أبو هريرة قال ‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أي الصدقة أفضل ‏؟‏ قال ‏:‏ أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت ‏:‏ لفلان كذا ولفلان كذا رواه البخاري ومسلم بمعناه ‏.‏

وهبة القريب أفضل ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الرحم شجنة من الرحمن ، فمن وصلها وصله الله ، ومن قطعها قطعه الله ‏.‏ وفي هبة القريب صلتها ، ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية ، لما روى النعمان بن بشير قال ‏:‏ تصدق علي أبي ببعض ماله ، فقالت أمي عمرة بنت رواحة ‏:‏ لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله ، فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي ، فقال ‏:‏ أكل ولدك أعطيت مثله ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، قال ‏:‏ فاتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم قال ‏:‏ فرجع أبي ، فرد تلك الصدقة رواه مسلم في لفظ ‏:‏ لا تشهدني على جور متفق عليه ‏.‏ فسماه جوراً ، والجور حرام ، ولأن ذلك يوقع العداوة ، وقطيعة الرحم ، فمنع منه ، كنكاح المرأة على عمتها ، فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين ‏:‏ إما رد عطية الأول ، أو إعطاء الآخر مثله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برده ، وأمره يقتضي الوجوب ، فإن مات ، ولم يسو بينهم ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يثبت ذلك لمن وهب له ، ويسقط حق الرجوع ، اختاره الخرقي ، ولأنه حق للأب ، يتعلق بمال الولد ، فسقط بموته ، كالأخذ من ماله ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجب رده ، وهذا اختيار ابن بطة وصاحبه أبي حفص ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوازاً ، والجور يجب رده بكل حال ، والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم ، لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت ، فأشبه الميراث ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن خص بعض ولده لغرض صحيح ، من زيادة حاجة ، أو عائلة ، أو اشتغاله بعلم ، أو لفسق الآخر وبدعته ، فقد روي عن أحمد رضي الله عنه ما يدل على جوازه ، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف ‏:‏ لا بأس به إذا كان في سبيل الحاجة ، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة ‏.‏ ووجه ذلك ، ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة ‏:‏ كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقاً ، ووددت أنك حزتيه ، وإنما هو اليوم مال الوارث ، وإنما هما أخواك وأختاك ‏.‏ ويحتمل المنع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيراً ‏.‏

فصل ‏:‏

والأم كالأب في التسوية بين الأولاد ، لأنها أحد الأبوين ، فأشبهت الأب ‏.‏ ولا تجب التسوية بين سائر الوراث ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن لبشير زوجة ، فلم يأمره بإعطائها ، حين أمره بالتسوية بين أولاده ‏.‏

فصل ‏:‏

وما جاز بيعه من مقسوم ، أو مشاع ، أو غيره ، جازت هبته ، لأنه عقد يقصد به تمليك العين ، فأشبه البيع ‏.‏ وجوز هبة الكلب ، وما يباح الانتفاع به من النجاسات ، لأنه تبرع ، فجاز في ذلك ، كالوصية ‏.‏ ولا يجوز في مجهول ، ولا معجوز عن تسليمه ، ولا في المبيع قبل قبضه ، لأنه عقد يقصد به التمليك في الحياة ، أشبه البيع ، ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لذلك ‏.‏ والحكم في الإيجاب والقبول فيها ، كالحكم في البيع على ما ذكر في بابه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه ، لحديث أبي بكر رضي الله عنه ‏.‏ وروي عن عمر رضي الله عنه نحوه ، فإن مات الموهوب له قبل القبض ، بطلت ، لأنه غير لازم ، فيبطل بالموت كالشركة ‏.‏ وإن مات الواهب ، فعنه ما يدل على أن الهبة تبطل لذلك ، وهو قول القاضي ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ لا تبطل ، لأنه عقد مآله إلى اللزوم ، فلا يبطل بالموت ، كبيع الخيار ‏.‏ ويقوم الوارث مقام المورثون في التقبيض والفسخ ، فإذا قبض ، ثبت الملك حينئذ ‏.‏ والخبرة في التقبيض إلى الواهب ، لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه ، كالإيجاب ولا يجوز القبض إلا بإذنه ، لأنه غير مستحق عليه ، فإن القبض بغير إذنه ، لم تتم الهبة ‏.‏ وإن أذن ، ثم رجع قبل القبض ، أو مات بطل الإذن ‏.‏

فصل ‏:‏

وأما غير المكيل والموزون ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا تتم هبته إلا بالقبض ، لأنه نوع هبة ، فلم تتم قبل القبض ، كالمكيل والموزون ‏.‏

والثانية ‏:‏ تتم قبل القبض ، لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا ‏:‏ الهبة إذا كانت معلومة ، فهي جائزة ، قبضت أو لم تقبض ، ولأن الهبة أحد نوعي التمليك ، فكان منها ما يلزم قبل القبض ، كالبيع ، وقد ذكرنا اختلاف تفسير أصحابنا للمكيل والموزون في البيع ، ون كان الموهوب في يد المتهب ، لم يحتج إلى قبض ، لأن قبضه مستدام ، وهل يفتقر إلى إذن في القبض ‏؟‏ فيه روايتان ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أنه لا بد من مضي مدة يتأتى قبضه فيها لما ذكرنا في الرهن ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن وهب لابنه الصغير شيئاً ، وقبضه له ، صح ولزم ، لأنه وليه ، فكان له القبض ، كما لو كان الواهب أجنبياً ، ويكون حكم القبض حكمه فيما إذا وهب له رجل شيئاً في يده ، لأنه في يد الأب ‏.‏

فصل ‏:‏

والهبة المطلقة لا تقتضي ثواباً ، سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى ، لأنها عطية على وجه التبرع ، فلم تقتض ذلك كالصدقة ‏.‏ وإن شرط ثواباً معلوماً صح ، وكانت بيعاً يثبت فيه الخيار والشفعة ، وضمان العهدة ، وحكي عن أحمد رواية ثانية ‏:‏ أنه يغلب فيها حكم الهبة ، فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به ‏.‏ وإن شرط ثواباً مجهولاً ، احتمل أنه لا يصح ، لأنه عوض مجهول في معاوضة ، فلم يصح كالبيع ‏.‏

وعنه ‏:‏ أنه يصح ويعطيه ما يرضيه أو يردها ، ويحتمل أن يعطيه قيمتها ، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان ، ولم يثبه منها ، فلا أرى عليه نقصان ما نقص ، إلا أن يكون ثواباً لبسه ، أو جارية استخدمها أو استعملها ، فإن اختلفا ، فقال ‏:‏ وهبتك ببدل ، فأنكر الآخر، فالقول قول المنكر ، لأنه ادعى عليه بدلاً الأصل عدمه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وهب لغير ولده شيء ، وتمت الهبة ، لم يملك الرجوع فيه ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ العائد من هبته كالعائد في قيئه متفق عليه ‏.‏ وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا يحل لرجل أن يعطي عطية ، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده رواه الترمذي ، وقال ‏:‏ حديث حسن ‏.‏

وإن وهب الرجل لولده ، فله الرجوع للخبر ‏.‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشيراً برد ما وهب لولده النعمان ‏.‏ ولأن الأب لا يتهم في رجوعه ، لأنه لا يرجع إلا لضرورة ، أو إصلاح الولد ‏.‏ وليس للجد الرجوع ، لأن الخبر يتناول الوالد حقيقة ، وليس الجد في معناه ، لأنه يدلي بواسطة ، ويسقط الأب ، ولا تسقط الإخوة ، فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها ، لأنه لا ولاية لها على ولدها ، بخلاف الأب ، ويحتمل أن لها الرجوع ، لأنها أحد الأبوين ، فأشبهت الأب ، ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية ، فأشبهت الأب ‏.‏ والهبة والصدقة سواء في ذلك ، بدليل أن في حديث النعمان بن بشير ‏:‏ فرجع أبي ، فرد تلك الصدقة ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه ليس للأب الرجوع في هبته أيضاً ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ العائد في هبته كالعائد في قيئه ‏.‏

فصل ‏:‏

وللرجوع في الهبة شروط أربعة ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن تكون باقية في ملكه ، لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره ، فإن عادت إلى الابن بفسخ العقد ، فله الرجوع فيها ، لأنه عاد حكم العقد الأول ، وإن عادت بسبب آخر ، فلا رجوع له ، لأنه ما استفاد هذا الملك بهبة أبيه ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يكون تصرف الابن فيها باقياً ‏.‏ فإن استولد الأمة أو رهنها ، أو حجر عليه لفلس ، سقط الرجوع لما فيه من إسقاط حق الغرماء والمرتهن ، ونقل ملك فيما لا يقبل النقل ‏.‏ فإن زال الحجر والرهن ، فله الرجوع لزوال المالك ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن لا يزيد زيادة متصلة ، كالسمن والتعلم ، فإن زادت ففي الرجوع روايتان ‏.‏ كالروايتين في الرجوع على المفلس ، وإن كانت منفصلة ، لم يمنع الرجوع ، والزيادة للابن ، لأنها نماء منفصل في ملكه ، فكانت له كنماء المبيع المعيب ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد ، نحو أن يرغب الناس في تزويجه ، فيزوجوه من أجله أو يداينوه ، فإن تعلقت بها رغبة ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا رجوع فيها ، لأنه إضرار بالغير ، فلم يجز كالرجوع فيها بعد فلس الابن ‏.‏

والثانية ‏:‏ له ذلك ، لعموم الحديث ، ولأنه حق الغير لم يتعلق بهذا المال ، أشبه ما لو لم يتزوج ‏.‏

فصل ‏:‏

وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن لا يجحف للابن ، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن لا يأخذ من مال أحد ولديه ، فيعطيه للآخر ، لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز ، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى ، فإذا وجد الشرطان ، جاز الأخذ ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أنت ومالك لأبيك رواه سعيد وابن ماجه ‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها قالت ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم رواه سعيد ‏.‏ والترمذي وقال ‏:‏ حديث حسن ‏.‏ ولأنه يتصرف في مال ولده الصغير بغير تولية ، أشبه مال نفسه ، وليس للابن مطالبة أبيه بلدين له عليه لما ذكرنا ‏.‏ قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ وإذا مات بطل دين الابن ‏.‏ قال بعض أصحابنا ‏:‏ يعني ما أخذه على سبيل التملك ، فأما إن أخذه على غير ذلك ، رجع الابن في تركته ، وليس للأم الأخذ من مال ولدها بغير إذنه ، لا للجد ، ولا سائر الأقارب ، لعدم الخبر فيهم ، وامتناع قياسهم على الأب ، لما بينهما من الفرق ، ويحتمل أن يجوز ، للأم لدخول ولدها في عموم قوله ‏:‏ أولادكم ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن تصرف الأب بمال ابنه قبل تملكه ، لم يصح تصرفه ، نص عليه احمد ، فقال ‏:‏ لا يجوز عتقه لعبد ابنه ما لم يقبضه ‏.‏ وكذلك إبراؤه من دينه وهبته لماله ، لأن ملك الابن باق عليه ، بدليل صحة تصرفه فيه ، ووطئه لجواريه ، وجريان الربا بينه وبين أبيه ، فأشبه مال الأجنبي ‏.‏ وإن وطئ الأب جارية ابنه قبل تملكها ، فلا حد عليه للشبهة ، وإن لم تلد ، فهي على ملك الابن ، وإن ولدت ، فولده حر ، وتصير أم ولد له ‏.‏


فصل في العمرى ‏:‏

وهي أن يقول ‏:‏ أعمرتك هذه الدار حياتك ، أو جعلتها لك عمرك ، أو عمري ‏.‏ ولها ثلاث صور ‏:‏

إحداهن ‏:‏ أن يقول ‏:‏ أعمرتك هذه الدار حياتك ، ولعقبك من بعدك ، فهذه هبة صحيحة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً رواه أحمد ومسلم ‏.‏

الثانية‏:‏ أن يقول ‏:‏ أعمرتكها حياتك ‏.‏ ولم يزد ، ففيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هي كالأولى للخبر ، وجاء في لفظ ‏:‏ قضى رسول الله بالعمرى لمن وهبت له متفق عليه ‏.‏ ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك ، وتنتقل إلى الورثة ، فلم يكن تقدريه بحياته منافياً لحكم الإملاك ‏.‏

والثانية ‏:‏ يرجع بعد موته إلى المعمر ، لما روى جابر قال ‏:‏ إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ‏:‏ هي لك ولعقبك ، فأما إذا قال ‏:‏ هي لك ما عشت ، فإنها ترجع إلى صاحبها ‏.‏ متفق عليه

الثالثة ‏:‏ أن يقول مع ذلك ‏:‏ فإذا مت عادت إلي إن كنت حياً ، أو إلى ورثتي ، والرقبى مثل ذلك ، إلا أنه يقول ‏:‏ إن مت قبلي ، عادت إلي ، وإن مت قبلك ، فهي لك ‏.‏ أو يقول ‏:‏ أرقبتك داري هذه ‏.‏ وقال مجاهد ‏:‏ هي أن يقول ‏:‏ للآخر مني ومنك موتاً ، ففيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هي لازمة لا تعود إلى الأول ، لعموم الخبر الأول ، ولقول رسول الله ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ لا ترقبوا ، فمن أرقب شيئاً فهو له في حياته وموته ولأنه شرط أن يعود إليه بعدما زال ملكه ، فلم يؤثر ، كما لو شرطه بعد لزوم العقد ‏.‏

والثانية ‏:‏ ترجع إلى المعمر والمرقب ، لحديث جابر ، ولقول رسول الله ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ المؤمنون عند شروطهم وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان ، لأنها نوع هبة ، فجازت في ذلك كله ، كسائر الهبات ‏.‏ ولو شرط في الهبة شرطاً منافياً لمقتضاها ، نحو أن يقول ‏:‏ وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه ، أو بشرط أن تبيعه أو تهبه ، فسد الشرط ‏.‏ وفي صحة العقد وجهان ، بناء على الشروط الفاسدة في البيع ، وإن قيدها ، فقال ‏:‏ وهبتكها سنة ، لم يصح لأنه عقد ناقل للملك في الحياة ، أشبه البيع ، والله أعلم ‏.‏