وهو : قربة مندوب إليها ، بدليل ما روي أبو هريرة قال : رسول الله من أعتق رقبة مؤمنة ، أعتق الله بكل إرب منها ، إرباً منه من النار ، رواه مسلم ، حتى إنه يتعلق اليد باليد ، والرجل بالرجل ، والفرج بالفرج . والأفضل عتق من له قوة وكسب ، يسغني به ، فأما من لا كسب له ، فحكي عن أحمد أنه لا يستحب عتقه ، لأنه يتضرر بفوات نفقة الواجبة له ، وربما صار كلاً على الناس .
فصل :
ويحصل العتق بثلاثة ، القول ، والملك ، والاستيلاد ، ولا يحصل بالنية المجردة ، لأنه إزالة ملك ، فلم يحصل بمجرد النية ، كالطلاق ، وألفاظه ، تنقسم إلى صريح وكناية ، فالصريح : لفظ العتق ، والحرية ، وما تصرف منهما ، لأنه يثبت لهما عرف الشرع والاستعمال ،فكانا صريحين ، كلفظ الطلاق في الطلاق ، فإن أراد بهما غير العتق ، كرجل يقول لغلامه : هو حر ، يريد أنه عفيف كريم الأخلاق ، أو يغالبه فيقول : ما أنت إلا حر ، يريد أنك تمتنع من طاعتي امتناع الحر ، فقد قال أحمد في رواية حنبل : أرجو أن لا يعتق ، وأنا أهاب المسألة ، فظاهر هذا أنه لا يعتق ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله ، فانصرف إليه . كما لو نوى العتق بكنايته .
والكانية : نحو قوله : قد خليتك ، واذهب حيث شئت ، والحق بأهلك ، وحبلك على غاربك ، ونحوه . فلا يعتق بذلك حتى ينويه ، لأنه يحتمل غير العتق ، فأشبه كناية الطلاق فيه ، وفي قوله : لاسبيل لي عليك ، ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة ، وفككت رقبتك ، ولا رق لي عليه ، وأنت لله ، وأنت مولاي ، وملكتك نفسك . فيه روايتان :
إحداهما : هو صريح في العتق ، لأنها تتضمن العتق ، وقد جاء في كتاب الله تعالى : {فك رقبة} . يعني : العتق ، فكانت صريحة ، كقوله : أعتقتك .
والثانية : هو كناية ، لأنها تحتمل غير العتق . وقال القاضي : قوله : لا رق لي عليك ، ولا ملك لي عليك ، وأنت لله ، صريح . نص عليه أحمد ، في : أنت لله ، لأن معناه : أنت حر لله . واللفظان الأولان صريحان في نفي الملك ، والعتق من ضرورته . وفي قوله لأمته : أنت طالق ، أو أنت حرام علي ، روايتان :
إحداهما : هو كناية ، تعتق به إذا نوى به العتق ، لأن الرق أحد الملكين في الآدمي ، فيزول بلفظ الطلاق ، كملك النكاح ، والحرية يحصل بها تحريمها عليه ، فجاز أن يكون كناية فيه .
والثانية : ليس بكناية ، لأنه ملك لا يستدرك بالرجعة ، فلم يزل بالطلاق ، كملك المال . والتحريم صريح في الظهار ، فلم يكن كناية في العتق ، كقوله : أنت علي كظهر أمي .
فصل :
ولا يصح العتق إلا من جائز التصرف ، ولا يصح من صبي ، ولا مجنون ولا سفيه ، لأنه تبرع في الحياة ، فأشبه الهبة . ولا يصح عتق الموقوف ، لأنه فيه إبطالاً لحق البطن الثاني منه ، وليس له ذلك .
فصل :
فإن كان العبد بين شريكين ، فأعتق أحدهما نصيبه وهو موسر ، عتق كله ، ووجب عليه قيمة نصيب شريكه ، لما روى ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أعتق شركاً له في عبد ، فإن كان له ما يبلغ مثن العبد ، قوم عليه قيمة العدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق متفق عليه . وفي لفظ وكان ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل ، فهو عتيق . وفي لفظ فقد عتق كله .
ويعتق كله ، حال إعتاق الشريك ، للخبر ، ولأنه سراية قول ، فنفذ في الحال : كطلاق بعض الزوجة ، فإن أعتقه الشريك ، عقيب عتق الأول ، وقبل أخذ القيمة ، لم يثبت له في عتق ، لأنه صار حراً بعتق الأول . ولو لم يؤد القيمة حتى أفلس ، كانت ديناً في ذمته ، وعتقه ماض ، ووقت التقويم ، وقت العتق ، لأنه وقت الإتلاف ، فأشبه الجناية ، فإن اختلفا في القيمة ، فالقول قول المعتق ، لأنه غارم .وإن اختلفا في صناعة ، تزيد بها قيمته ، أو عيب تنقص به قيمته ، فالقول قول من ينفيه ، ، لأن الأصل عدمه ، وسواء كان المعتق مسلماً أو كافراً ، لأنه تقويم متلف ، فاستوى فيه المسلم والكافر ، كتقويم ، المتلفات . ويحتمل أن لا يسري كتق الكافر في المسلم ، لأنه لا يجوز أن يتملكه . وإن كان نصيب الشريك وقفاً ، لم يعتق ، لأن الوقف لا يعتق بالمباشرة ،فبالسراية أولى . وإن كان المعتق معسراً ، عتق نصيبه منه خاصة ، وباقيه على الرق ، للخبر ، ولأن سراية العتق ضرر بالشريك ، لتلف ماله بغير رضاه ، من غير عوض يجبره .
وعنه : يستسعي العبد في قيمة باقيه ، ويعتق كله . لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم من أعتق شقصاً له في مملوكه ، فعليه أن يعتقه كله ، إن كان له مال ، وإلا استسعي العبد غير مشقوق عليه رواه أبو داود .
والأول : أصح ، لأن خبر ابن عمر أصح ، ولأن الإحالة على السعاية ، إحالة على وهم ، وفيه ضرر بالعبد ، بإجباره على الكسب من غير اختياره ، فإن كان معه قيمة البعض ،عتق منه بقدره ، لأن ما وجب بالاستهلاك إذا عجز عن البعض ،وجب بقدر ما قدر عليه ، كقيمة المتلف .
فصل :
فإن أعتق المعسر بعض عبده ، عتق كله ، لأنه موسر بما يسري إليه ، فأشبه ما لو أعتق بعض عبد، وهو موسر بقيمة باقيه ، فإن أعتق بعضه في مرض موته ، عتق منه ما يحتمله الثلث وإن زاد على قدر ما أعتق ، لأن عتق بعضه كعتق جميعه ،وإن احتمل الثلث جميعه ، عتق كله .
فصل :
إذا ملك بعض عبد ، فأعتقه في مرض موته أو دبره ، فعتق بموته ، وكان ثلث ماله يفي بقيمة حصة شريكه ، أعطي وكان كله حراً في إحدى الروايتين ، لأن ثلثه له ، فكان موسراً به ، والأخرى : لا يعتق منه إلا ما ملك ، لأن حق الورثة تعلق بماله ، إلا ما استثناه من الثلث بتصرفه فيه . ذكرهما الخرقي ،و أبو الخطاب . قال الخرقي : وكذلك الحكم إذا دبر بعضه وهو مالك لكله ، لأن ملكه يزول عماً سوى المعتق . وقال القاضي : إن أعتقه في مرض موته وهو موسر ، عتق جميعه ، لأنه أعتقه وهو موسر بثمن جميعه ، فدخل في الخبر ، وإن دبره ، لم يعتق إلا ما ملك ، لأن ملكه زال بالموت ، إلا ما استثناه بوصيته . وصحح الرواية الأولى في العتق في المرض . والثانية في التدبير .
فصل :
وإذا كان العبد لثلاثه ، لأحدهم نصفه ، وللآخر ثلثه ، وللثالث سدسه، فأعتق ، صاحب النصف وصاحب السدس معاً ، وهما موسران ، عتق عليهما ، وضمنا حق شريكهما فيه بالسوية ، لأن التقويم المستحق بالسراية ، يسقط على عدد الرؤوس ، كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل ، جرحه أحدهما جرحاً ، والآخر عشرة ، ويكون ولاؤه بينهما أثلاثاً ، لصاحبه النصف ثلثاه ، ولصاحب السدس ثلثه ، ويحتمل أن يقوم عليهما على قدر ملكيهما ، لأنه يستحق بالملك ، فكان على قدره ، كالشفعة ، فيكون ولاؤء بينهما أرباعاً .
فصل :
وإذا كان العبد لثلاثة ، فأعتقوه معاً ، أو وكل نفسان الثالث ،فأعتق حقهما مع حقه ، أو أعتقه كل واحد منهم وهو معسر ، عتق على كل واحد حقه منهم ، وولاؤه بينهم أثلاثاً ، وإن أعتقه الأول وهو معسر ، وأعتقه الثاني وهو موسر ، عتق عليه نصيبه ونصيب شريكه ، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول ، وثلثاه للمعتق الثاني . وإن قال اثنان منهم للثالث : إذا أعتقت نصيبك فنصيبنا حر ، فأعتق نصيبه وهو معسر عتق كله عليه ، وقوم عليه نصيب شريكيه ، وولاؤه له دونهما ، ويحتمل أن يعتق نصيبهما عليهما ، لأن إعتاق نصيبهما يتعقب إعتاق نصيبه ، ولا تسبقه السراية ، وإن كان معسراً ، عتق عليه نصيبه خاصة ، وعتق نصيب صاحبيه بالشرط ، وولاؤه بينهم أثلاثاً ، سواء اتفقا في القول ، أو سبق به أحدهما ، لأن الوقوع بوجود الشرط ، وقد استويا فيه ، وإن قالا له : إذا أعتقت نصيبك ، فنصيبنا حر مع نصيبك ، فأعتق نصيبه ، عتق نصيب كل واحد على مالكه ، لأن عتقه وقع في حالة واحدة .
فصل :
فأما العتق بالملك ، فإن من ملك ذا رحم محرم ، عتق عليه بمجرد ملكه ، لما روى سمرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ملك ذا رحم محرم ، فهو حر رواه أبو داود ولأنه ذو رحم محرم فعتق عليه إذا ملكه الولد .
وعنه : لا يعتق عليه ، إلا عمودا النسب ، بناء على أن نفقة غيرهم لا تجب . وإن ملك بعض من يعتق عليه بسبب غير الميراث ، فهو كإعتاقه له في تقويم باقيه عليه مع اليسار ، وبقائه على الرق مع الإعسار ، لأنه عتق بسبب من جهته ، فأشبه إعتاقه بالقول . وإن ملكه بالإرث ، لم يعتق منه إلا ما ملك ، موسراً كان أو معسراً ، لأنه لا اختيار له في إعتاقه ، ولا سبب من جهته . ونقل عنه المروذي : ما يدل على أنه يعتق نصيب الشريك إذا كان موسراً ، لأنه ملك بعضه ، أشبه البيع . وإذا ملك ولده من الزنا ، لم يعتق عليه على ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه ، لأنه لا تجب عليه نفقته ، ويحتمل ويحتمل أن يعتق عليه ، لأنه ولد يحرم نكاحه ، فعتق ، كولد الرشيدة .
فصل :
وإن وهب لصبي من يعتق عليه ، أو وصي له به ، وكان بحيث لا يجب على الصبي نفقته لكون الصبي معسراً ، أو الموهوب صحيحاً كبيراً . إذا كسب وجب على الولي قبول الهبة والوصية ، لأن فيه فيه نفعاً للصبي ، وجمالاً بحرية قريبه من غير ضرر . وإن كان بحيث تلزمه نفقته ، لم يكن له قبوله ، لأن فيه ضرراً بإلزامه نفقته . وإن وهب له جزء ممن يعتق عليه ، وكان ممن لا تجب نفقته ، ففيه وجهان مبنيان على أنه : هل يقوم على الصبي باقيه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يقوم عليه باقيه ، لأنه يدخل في ملكه بغير سبب من جهته ، أشبه الإرث ، فعلى هذا يلزم وليه قبوله ، لما فيه من النفع الخالي على الضرر .
والثاني :يقوم عليه ، لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله ، كما لو قبل وكيل البالغ ، فعلى هذا لا يملك قبوله . فإن قبل في موضع لا يملك القبول ، لم يصح ، ولا يملك الولي شراء من يعتق على الصبي ، لأنه إذا لم يملك قبول الهبة التي لا عوض فيها ، فالبيع أولى .
فصل :
وإذا أعتق في مرضة عبيداً لا مال له غيرهم ، أو دبرهم ، أو أوصى بعتقهم ، أو دبر أحدهم وأوصى بعتق الباقين ،لم يعتق منهم إلا الثلث ، إلا أن يجيز الورثة ، فيقرع بينهم بسهم حرية ، وسهمي رق ، فمن خرج له سهم حرية ، عتق ، ورق الباقون ، لما روى عمران بن حصين : أن رجلاً من الأنصار أعتق سته مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم ، فجزأهم رسول الله ثلاث أجزاء ، فاعتق اثنين ، وأرق أربعة . أخرجه مسلم .
وإن كان عليه دين يستغرقهم ، لم يعتق منهم شيء ، لأن عتقهم وصية ، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الدين قبل الوصية .وإن كان يستغرق بعضهم ، عتق من باقيه ثلثه ، فيقرع بينهم لإخراج الدين ، ثم يقرع بينهم لإخراج الحرية ، فإن كان الدين يستغرق نصفهم ، جزأناهم جزأين ، وأقرعنا بينهم بسهم دين ، وسهم تركة ، فمن خرج له سهم الدين ، بيع فيه ، ثم يقرع بين الباقين بسهم حرية ، وسهمي رق كما ذكرنا .
فصل :
ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم ، فأعتقناهم ، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم ، بعناهم فيه ، لما ذكرنا . فإن قال الورثة : نحن نقضي الدين ونجيز العتق ، احتمل أن لهم ذلك ، لأن المانع إنما هو الدين ، فإذا قضي ، زال المانع ، فثبت العتق ، واحتمل أنه ليس لهم ذلك ، لأن الغرماء تتعلق حقوقهم بالتركة ، فلم يملك الورثة إبطالهم بالقول ، لكن إذا قضوا الدين ، فلهم استئناف العتق . وإن أعتقنا بعضهم بالقرعة ، ثم ظهر عليه دين يستغرق بعضهم ، احتمل أن يبطل العتق في الجميع ، كما لو اقتسم الشركاء ، ثم ظهر لهم شريك ثالث ، واحتمل أن يبطل بقدر الدين ، لأن بطلانه لأجل الدين ، فيقدر بقدره ، ولو أعتقهم فأعتقنا منهم واحداً يعجز ثلثه عن أكثر منه ، ثم ظهر لهم مال يخرجون من ثلثه ، تبينا أن الباقين كانوا أحراراً من حين أعتقهم ، فيكون كسبهم لهم ، لأنهم يخرجون من الثلث .
فصل :
فإن مات بعضهم ، أقرعنا بينهم ، فإن خرجت لميت حسبناه من التركة ، وقومناه حين العتق ، لأنه خرج بذلك من التركة . وإن خرجت لحي ، نظرنا في الميت ، فإن مات في حياة المعتق أو بعدها قبل قبض الوارث ، لم يحسب من التركة ، لأنه لم يصل إلى الوارث ، فيكون لتركة الحيين ، فيكمل ثلثهما ممن وقعت عليه القرعة ، وتعتبر قيمته حين إعتاقه ، لا حين إتلافه . وحكى أبو الخطاب عن أبي بكر : أن الميت يحسب من التركة ، ويعتق من تقع عليه القرعة إن خرج من الثلث ، لأننا حسبناه من التركة إذا وقعت القرعة له ، فكذلك إذا وقعت لغيره . فإن مات بعد قبض الوارث ، حسب من التركة ، لأنه وصل إليه .
فصل
قال أحمد : بأي شيء خرجت القرعة ، وقع الحكم به ، سواء كانت رقاعاً أو خواتيم ، وذلك لأن الشرع ورد بالقرعة ،ولم يرد بكيفيتها، فوجب ردها إلى ما يقع عليه الاسم مما تعارفه الناس ، والأحوط أن تقطع رقاع متساوية يكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ، ثم يجعل في بنادق طين ، أو شمع ،متساوية ، ثم يغطى بثوب ، ويقال لرجل : أدخل يدك ، فأخرج بندقة ، فيفضها ، ويعلم ما فيها ، فإن كان القصد عتق الثلث ، جزأ العبيد ثلاثة أجزاء ، فإن أمكن تجزئتهم بالعدد والقيمة ، كستة أعبد قيمتهم متساوية ، جعلنا كل اثنين جزءاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيهم . وإن كانت قيمتهم مختلفة ، إلا أننا إذا ضممنا قليل القيمة إلى كثيرها ، صار أثلاثاً ، فعلنا ذلك . وإن أمكن تعديلهم بالقيمة دون العدد ، كستة قيمة أحدهم الثلث ، وقيمة اثنين الثلث ، وقيمة ثلاثة الثلث ، وجزأناهم بالقيمة . وإن لم يمكن تعديلهم بقيمة ولا عدد ، كثمانية أعبد قيمتهم مختلفة ، أو متساوية ، احتمل أن لا نجزئهم ،بل نخرج قرعة الحرية لواحد واحد ، حتى يستوفى الثلث ، واحتمل أن نقارب بينهم ، ونجزئهم ثلاثة أجزاء ، فنجعل ثلاثة جزءاً ، وثلاثة جزءاً ، واثنين جزءاً ، فإن خرجت القرعة على زائد على الثلث ، أقرعنا بين ما وقعت لهم القرعة ، فكملنا الحرية في بعضهم ، وتممنا الثلث من الباقين . وإن وقعت على ما دون الثلث ، عتقوا ، وأعدنا القرعة لتكميل الثلث من الباقين . وإن أعتق عبدين ، قيمة أحدهما مثلا قيمة الآخر ، أقرعنا بينها بسهم حرية ، وسهم رق ، فإن وقع سهم الحرية للأدنى عتق ، وإن وقع للأكثر ، عتق نصفه . فإن كانت قيمة أحدهما مائتين ، واللآخر ثلاثمائة ، جمعنا قيمتهما ، ثم أقرعنا بينهما ، فمن خرج له سهم الحرية ، ضربنا قيمته في ثلاثة ، ونسبنا قيمتها إلى المرتفع بالضرب ، فما خرج من النسبة ، عتق من العبد قدره ، فإذا وقعت على الذي قيمته مائتان ، ضربناه في ثلاثة ، صار ستمائة ، ونسبنا قيمتهما إلى ذلك ، نجدها خمسة أسداسه ، فيعتق منه خمسة أسداسه ، وإن وقعت على الآخر ، عتق منه خمسة أتساعه لذلك ، وهكذا نصنع في أمثال ذلك .
فصل
إذا أعتق الأمة وهي حامل ، عتق جنينها ، لأنه يتبعها في البيع والهبة ، ففي العتق أولى ، فإن استثنى جنينها ، لم يعتق ، لما روي عن ابن عمر : أنه أعتق أمة واستثنى ما في بطنها ، ولأنها ذات حمل ، فصح استثناء حملها ، كما لو باع نخلة لم تؤبر ، واشترط ثمرتها . وقال القاضي : يخرج على الروايتين فيما إذا استثنى ذلك في البيع ، والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه . وإن أعتق جنينها وحده ، لم تعتق هي ، لأنها ليست تابعة له ، فلا تعتق بعتقه ، كما لو أعتقه بعد الولادة .
فصل
وإذا كان العبد بين شريكين ، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق نصيبه ، لم يخل من أحوال ثلاثة :
أحدهما : أن يكونا موسرين فيصير العبد حراً ، لاعتراف كل واحد منهما بحريته بإعتاق شريكه ،ويبقى كل واحد منهما يدعي على شريكه قيمة حقه منه ، فإن لم يكن بينة ، حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرىء . وإن نكل أحدهما ، قضي عليه . وإن نكلا جميعاً ، تساقطا حقاهما ، ولا ولاء على العبد ، لأنه لا يدعيه أحد . فإن اعترف به أحدهما بعد ذلك ، ثبت له ، سواء كانا عدلين أو فاسقين .
الحال الثاني : أن يكونا معسرين ، فلا يقبل قول كل واحد منهما على صاحبه ، لأنه لا اعتراف فيه بالحرية ، لعدم السراية في إعتاق المعسر ، فإن كانا فاسقين ، فلا عبرة بقولهما . وإن كانا عدلين ، فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ، ويصير حراً ، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً . فإن كان أحدهما عدلاً ، والآخر فاسقاً ، فله أن يحلف مع العدل . هذا إذا قلنا : إن الحرية تثبت بشاهد ويمين ، ولا ولاء لواحد منهما أيضاً ، لأنه لا يدعيه .
الحال الثالث : أن يكون أحدهما موسراً ، والآخر معسراً ، فيعتق نصيب المعسر وحده ، لاعترافه بحريته ، لأنه يعترف بعتق الموسر الذي يسري إلى نصيبه ، ويبقى نصيب الموسر رقيقاً ، لأنه إنما اعترف بإعتاق شريكه الذي لا يسري ، فلا يؤثر . فإن كان المعسر عدلاً ، فللعبد أن يحلف مع شهادته ، ويصير حراً إذا قلنا : إن الحرية تثبت بشهادة ويمين .
فصل
وإن ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وهما موسران ، أو المدعى عليه موسر وحده ، عتق نصيب المدعي وحده ، لاعترافه بحريته ، وبقي نصيب المدعى عليه رقيقاً . وإن كانا معسرين ، أو المدعى عليه معسراً ، لم يعتق منه شيىء . فإن اشترى المدعي نصيب صاحبه ، عتق ولم يسر إلى نصيبه ، لأن عتقه باعترافه بحريته ، لا بإعتاقه .
فصل
إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه ، وأقام شاهداً ، حلف مع شاهده ، وصار حراً في إحدى الروايتين ، والأخرى : لا يثبت ذلك بشاهد ويمين ، لأنه ليس بمال ، ولا المقصود منه المال ، فأشبه الطلاق .
فصل
إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة ، فاعترف كل واحد منهما بعتق أحد العبدين ، عتق من كل واحد ثلثه ، ولكل واحد من الابنين سدس العبد الذي اعترف بعتقه ، ونصف الآخر ، لأنه يزعم أن ثلثي العبد الذي اعترف بعتقه حر ،ويبقى ثلثه لكل واحد منهما سدسه . وإن قال أحدهما : أبي أعتق هذا . وقال الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما ، أقرعنا بينهما ، فإن وقعت القرعة على الآخر ، عتق من كل واحد ثلثه ، كالتي قبلها ، لأن القرعة قائمة مقام تعيينه . وإن وقعت على الذي اعترف أخوه بعتقه ، عتق ثلثاه ، إلا أن يجيزا عتقه كاملاً ، وصار كالمتفق على عتقه .
باب تعليق العتق بالصفة
ويجوز تعليق العتق بصفة ، نحو قوله : إن دخلت الدار فأنت حر ، أو : إن أعطيتني ألفاً ، فأنت حر ، لأنه عتق بصفة ، فجاز ، كالتدبير، ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها ، لأنه حق علق على شرط ، فلا يثبت قبله ، كالجعل في الجعالة. وإن قال ذلك في مرض موته ، اعتبر من الثلث ، لأنه لو اعتقه ، اعتبر من الثلث ، فإذا عقده ، كان أولى ، فإن قال في الصحة : فهو من رأس المال ، سواء وجدت الصفة في الصحة أو المرض ، لأنه غير متهم بالإضرار بالورثة في تلك الحال . وقال أبو بكر : إن وجدت الصفة في المرض ، فهو من الثلث ، لأن حق الورثة قد تعلق بالثلثين ، فلم ينفذ إعتاقه فيهما ، كما لو نجز العتق . وإن مات السيد قبل وجود الصفة ، بطلت ، لأن ملكه يزول بموته ، فيبطل تصرفه بزواله . وإن قال : إن دخلت الدار بعد موتي ، فأنت حر ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا تنعقد هذه الصفة ، لأنه علق عتقه على صفة توجد بعد زوال ملكه ، فلم تصح ، كما لو قال : إن دخلت الدار بعد بيعي إياك ، فأنت حر .
والثانية :تنعقد ، لأنه إعتاق بعد الموت فصح ، كما لو قال : أنت حر موتي .
فصل
وإن علق عتق أمته على صفة وهي حامل ، تبعها ولدها في ذلك ، لأنه كعضو من أعضائها . فإن وضعته قبل وجود الصفة ثم وجدت ، عتق الولد ، لأنه تابع في الصفة ، فأشبه ما لو كلن في البطن . وإن علق عتقها وهي حائل ، ثم وجدت الصفة وهي حامل ، عتقت هي وحملها ، لأن العتق وجد فيها وهي حامل ، فتبعها ولدها ، كالعتق المطلق . وإن حملت ثم ولدت ، ووجدت الصفة ، لم يعتق الولد ، لأن الصفة لم تتعلق به . وفيه وجه آخر : يتبعها قياساً على ولد المدبرة . وإن بطلت الصفة ببيع أو موت . لم يعتق الولد ، لأنه إنما يتبعها في العتق ، لا في الصفة . فإذا لم توجد فيها ، لم توجد فيه ، بخلاف ولد المدبرة ، فإن يتبعها في التدبير . فإذا بطل فيها ، بقي فيه .
فصل
وإذا علق العتق بصفة ، لم يملك إبطالها بالقول ، لأنه كالنذر ، ويملك ما يزيل الملك فيه من البيع وغيره . فإذا باعه ثم اشتراه ، فالصفة بحالها ، لأن التعليق والصفة وجدا في ملكه ، فعتق ، كما لو لم يزل الملك ، فإن وجدت الصفة بعد زوال الملك ، ثم اشتراه ، فهل تعود الصفة ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا تعود ، لأنها انحلت بوجودها في ملك المشتري ، فلم تعد ، كما لو انحلت بوجودها في ملكه .
والثانية : تعود ، لأنه لم توجد الصفة التي يعتق بها ، فأشبه ما لو عاد إلى ملكه قبل وجود الصفة ، ولأن الملك مقدر بالصفة ، فكأنه قال : إذا دخلت الدار وأنت في ملكي ، فأنت حر ، ولم يوجد ذلك .
فصل
وإن علق العتق على صفة قبل الملك فقال لعبد أجنبي : إذا دخلت الدار فأنت حر ، ثم ملكه ودخل الدار ، لم يعتق ، لأنه لا يملك تنجيز العتق ، فلا يملك تعليقه ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا عتق قبل ملك رواه أبو داود الطيالسي . وإن قال : إن ملكتك فأنت حر . أو ملكت فلاناً ، فهو حر ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يعتق لذلك .
والثانية : يعتق إذا ملكه ، لأنه أضاف العتق إلى حال يملك عتقه فيه ، فأشبه ما لو كان التعليق في ملكه . وإن قال الحر : كل مملوك أملكه ، فهو حر ، ففيه روايتان ، لما ذكرنا . وإن قال : ذلك العبد ، ثم عتق وملك ، فهل يعتق عليه ؟ على وجهين :
أحدهما : يعتق عليه ، كالحر .
والثاني : لا يعتق عليه ، لأن العبد لا يملك ، فلا يصح منه التعليق . ولو قال الحر: آخر مملوك أشتريه ، فهو حر ، وقلنا بصحة التعليق ، فمتى مات ، تبينا حصول الحرية لآخر مملوك اشتراه من حين الشراء فيكون اكتسابه له . فإن أشكل الآخر منهم ، أقرع بينهم ، لإخراج الحر ، وكذلك لو قال لأمته : أول ولد تلدينه فهو حر ، فولدت ابنين ، أقرع بينهما إذا أشكل أولهما خروجاً .
باب التدبير
ومعناه : تعليق الحرية بالموت : وصريحه :أنت حر ، أو عتيق بعد موتي ، أو أنت مدبر ، أو قد دبرتك ، لأن هذا اللفظ موضوع له ، فكان صريحاً فيه ، كلفظ العتق في الإعتاق ، وهو مستحب ، لأنه يقصد به العتق ، ويعتبر من الثلث، لأنه تبرع بالمال بعد الموت ، فهو كالوصية ، ونقل عنه حنبل : أنه من رأس المال ، وليس عليه عمل ، وذكر أبو بكر : أنه كان قولاً قديماً ، وربما رجع عنه .
فصل
ويجوز مطلقاً ومقيداً ، فالمطلق كما ذكرنا ، والمقيد نحو أن يقول : إن مت من مرضي هذا ، أو في هذا البلد ، فأنت حر ، لأنه تعليق على صفة ، فجاز مطاقاً ومقيداً . والمقيد : كتعليقه على دخول الدار . وإن قال : إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي ، جاز ، لأنه تعليق على صفة ، فجاز تعليقه على صفة أخرى ، كما ذكرنا . فإن دخل الدار في حياة السيد ، فهو مدبر ، وإن لم يدخل حتى مات ، بطلت الصفة بالموت ، لأنه يزول به الملك ، ولم يوجد التدبير ، لعدم شرطه .
فصل
ويجوز تدبير المعلق عتقه على صفة وتعليق عتق المدبر على صفة ، لأن التدبير تعليق على صفة ، فلا يمنع التعليق على صفة أخرى ، كغيره من الصفات ، فإن وجدت إحداهما ، عتق وبطلت الأخرى ، لزوال الرق قبل وجودها . ويجوز تدبير المكاتب ، كما يجوز تعليق عتقه على صفة ، وتجوز كتابة المدبر ، كما يجوز أن يبيعه نفسه . فإذا كاتبه ودبره ، فأدى كتابته قبل موت سيده ، عتق وبطل التدبير . فإن مات السيد قبل الأداء ، عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي من كتابته ، وبطلت الكتابة . وإن لم يحمله الثلث ، عتق منه قدر الثلث ، وسقط من مال الكتابة بقدر ما عتق ، وهو على الكتابة فيما بقي ، وما يده من الكسب ، له في الحالين ، لأنه كان مملوكاً له ولم يوجد ما يخرجه في يده ، فبقي له ، كما لو أبرأه من مال الكتابة ، ويحتمل أن تكون كتابة المدبر رجوعاً في تدبيره ، إن قلنا : إنه يملك إبطاله بالرجوع فيه ، ولا يصح تدبير أم الولد ، لأنها تستحق العتق بموت سيدها ، بسسب مؤكد ، فلا يفيد التدبير . ولو استولد المدبرة ، بطل تدبيرها لذلك .
فصل
ويجوز بيع المدبرة ، لما روى جابر بن عبد الله : أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر منه ، ولم يكن له مال غيره ، فاحتاج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتريه مني؟ فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم ، فدفعها إليه وقال : أنت أحوج منه رواه البخاري ومسلم والنسائي . ولأنه إما وصية ، وإما تعليق على صفة ، وأيهما كان ، لم يمنع البيع . وعن أحمد : أنه لا يباع إلا في الدين ، أو حاجة صاحبه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باعه لحاجة صاحبه .
وعنه : لا يجوز بيع المدبرة خاصة ، لأن بيعها ، إباحة فرجها ، والحكم في هبته ووقفه ، كالحكم في بيعه واكتسابه ومنافعه . وأرش الجناية عليه لسيده ، لأنه كالقن . وإن جنى فسيده بالخيار بين فدائه ، أو تسليمه للبيع ، كالقن . فإن مات السيد قبل ذلك ، عتق ، وأرش جنايته في تركته ، لأنه عتق من جهته ، فتعلق الأرش بماله كالمنجر . وإن كانت الجناية لا تستغرق قيمته ، فبيع بعضه فيها ، فباقيه باق على التدبير ، لأن المانع اختص ببعضه ، فوجب أن يختص المنع به .
فصل
فإذا زال ملكه عن المدبر ، ببيع أو غيره ، ثم عاد إليه ، رجع التدبير بحاله ، لأنه علق العتق بصفة ، فلم تبطل بالبيع ، كالتعليق بدخول الدار . وفيه وجه آخر : أنه يبطل بالبيع ،لأنه وصية ، فبطل بالبيع ، كالوصية له بمال .
فصل
ولو دبره ، ثم قال : قد رجعت في تدبيري ، أو أبطلته ،لم يبطل ، لأنه تعليق بصفة ، فأشبه تعليقه بدخول الدار .
وعنه : يبطل ، لأنه تصرف معلق بالموت يعتبر من الثلث ، فأشبه الوصية . وإن قال للمدبر : إن أديت إلى ورثتي ألفاً ، فأنت حر ، فهو رجوع ، لأنه وقفه على أداء ألف ، وذلك مناف للتدبير ، فأشبه قوله : رجعت في تدبيري . والصبي كالبائع في هذا ، لأنه مثله في التدبير ، فكان مثله في الرجوع فيه .
فصل
وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه ، لم يسر إلى نصيب شريكه ، لأنه تعليق للعتق بصفة ، أو وصية ، وكلاهما لا يسري ، ويحتمل أن يضمن ويصير كله مدبراً له ، لأنه سبب يوجب العتق بالموت فسرى ، كالاستيلاد . فإن أعتق الآخر نصيبه ، سرى العتق إلى جميعه ، وقوم عليه نصيب شريكه ، لحديث ابن عمر . ويحتمل أنت لا يسري العتق فيه ، إذا قلنا: إنه يجوز بيعه .
فصل
وما ولدت المدبرة بعد تربيرها ، فولدهل بمنزلتها ، لأنها تستحق الحرية بالموت ، فيتبعها ولدها ، كأم الولد . ولا يتبعها ولدها الموجود قبل التدبير ، لأنه لا يتبع في حقيقة العتق ، ففي تعليقه أولى . وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى : أنه يتبعها في التدبير . وإن دبر عبده ، ثم أذن له في التسري ، فولد له ولد ، لم يكن مدبراً ، لأن أمه غير مدبرة .
وعنه : أنه يصير مدبراً ، لأنه ولده من أمته فيتبعه ، كولد الحر . وإذا صار الولد مدبراً لتدبير أمه ، فبطل تدبيرها لبيعها ، والرجوع في تدبيرها ، لم يبطل في ولدها ، لأنه استحق الحرية ، فلم يبطل حقه ، لمعنى وجد في غيره ، كما لو باشره بالتدبير .
فصل
ويصبح تدبير الصبي المميز ، والسفيه ، لما ذكرنا في صحة وصيتهما . ويصح تدبير الكافر ، لأنه يصح إعتاقه . فإن أسلم مدبره ، أمر بإزاة ملكه عنه ، لأن الكافر يمكن من استدامة الملك على مسلم ، مع إمكان بيعه . وفيه وجه آخر : أنه لا يباع ، لأنه استحق الحرية بالموت ، فأشبه أم الولد إذا أسلمت ، ولكن تزال يده عنه ، وينفق عليه من كسبه .
فإن لم يكن ذا كسب ، فنفقته على سيده ، كأم الولد إذا أسلمت . وإن دبر المرتد عبده ، كان تدبيره موقوفاً ، كسائر تصرفاته ،فإن أسلم ، تبينا صحة تدبيره . وإن مات على الردة ، تبينا بطلانه .
وعنه : أن ملكه يزول بنفس الردة ، فيكون تدبيره باطلاً ، وهذا قول أبي بكر . وإن ارتد بعد التدبير وقتل بردته ،أو مات ، بطل التدبير ، لأن ملكه زال في حياته . وإن رجع صح تدبيره ، لأنا تبينا بقاء ملكه ، أو رجوعه إليه بإسلامه بعد زواله .
فصل
فإذا ادعى العد أن سيده دبره ، فأنكر ، فالقول قول السيد مع يمينه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اليمين على المدعي رواه مسلم ، والبخاري بمعناه . فإن أقام العبد بينة ، ثبت تدبيره . وهل يكفي شاهد ويمين ، أو رجل وامرأتان ، أم لا يكفي إلا رجلان ؟ على روايتين ، كما ذكرنا في العتق ، ويتخرج أن لا تسمع دعوى العبد بناء على أن السيد له الرجوع في التدبير . وهل يكون إنكار التدبير رجوعاً عنه ؟ على وجهين ، بناء على الوصية .
فصل
وإن قتل المدبر سيده ، بطل تدبيره ، لأنه استحقاق علق بالموت من غير فعل ، فأبطله القتل ، كالإرث والوصية .
باب الكتابة
وهو مندوب إليه في حق من يعلم فيه خيراً ، لقول الله تعالى : {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} يعني : كسباً وأمانة ، في قول أهل التفسير .
وعنه : رواية أخرى أنها واجبة ، إذا دعا العبد الذي فيه خير سيده إليها ، لظاهر الآية ، ولأن عمراً أجبر أنساً على كتابة سيرين ، والأول ظاهر المذهب ، لأنه إعتاق بعوض ، فلم يجب كالاستسعاء ، والآية محمولة على الندب ، وقول عمر يخالفه فعل أنس ، فأما من لا كسب له ، ففيه روايتان :
إحداهما : تكره كتابته ، لأنه يصير كلاً على الناس .
والثانية : لا تكره ، لعموم الأخبار في فضل الإعتاق . وإذا دعا هذا سيده إلى الكتابة لم يجبر رواية واحدة . وإن دعا السيد عبده إلى الكتابة ، لم يجبر عليها ، لأنه إعتاق على مال ، لم يجبر عليه كغير الكتابة .
فصل
ولا تنعقد إلا بالقول ، وتنعقد بقوله : كاتبتك على كذا ، لأنه لفظها الموضوع لها ، فانعقدت به ، كلفظ النكاح فيه . ويحتمل أن يشترط أن يقول : إذا أديت إلي ، فأنت حر ، لأنه إعتاق معلق على شرط ، فاعتبر ذكره ، والأول أولى .
فصل
ولا تصح إلا من جائز التصرف ، مسلماً كان أو كافراً ، لأنها تصرف في المال ، فأشبهت البيع . فأما المميز من الصبيان ، فيصح أن يكاتب عبده بإذن وليه ، ولا يصح بغير إذنه ، كما في بيعه ، ويحتمل أن لا تصح بحال ، لأنه إعتاق . وإن كاتب السيد عبده المميز ، صح ، لأن إيجاب سيده له إذن منه في قبولها . وإن كاتب عبده المجنون أو الطفل ، فهو عقد باطل ، وجوده كعدمه ، إلى أن القاضي قال : يعتقد بالأداء ، لأن الكتابة تعليق الحرية بالأداء ، فإن بطلت الكتابة ، كان عتقهما بحكم الصفة المحضة ، وقال أبو بكر : لايعتق ، لأن الكتابة ليست بصفة ، ولا يعتبر ذكر الصفة فيها بحال .
فصل :
ولا تصح إلا علىعوض ، لأنها عقد معاوضة ، فأشبه البيع . ومن شرطه أن يكون مؤجلاً ، لأن جعله حالاً يفضي إلى العجز عن أدائه ، وفسخ العقد بذلك ، فيفوت المقصود . وأن يكون منجماً نجمين فصاعداً في قول أبي بكر ، وظاهر كلام الخرقي ، لأن علياً قال : الكتابة على نجمين ، والإيتاء من الثاني . وقال ابن أبي موسى : يجوز جعل المال كله في نجم واحد ، لأن عقد شرط في التأجيل ، فجاز على نجم واحد ، كالسلم ، ولأن القصد بالتأجيل إمكان التسليم عنده ، ويحصل ذلك في النجم الواحد ، والأحوط نجمان فصاعداً . ويجب أن تكون النجوم معلومة ، ويعلم في كل نجم قدر المؤدى ، وأن يكون العوض معلوماً بالصفة ، لأنه عوض في الذمة ، فوجب فيه العلم بذلك ، كالسلم ، ولا تصح إلا على عوض يصح السلم فيه ، لما ذكرنا . وذكر القاضي : أنه يحتمل أن يصح على عوض مطلق ، بناء على قوله في النكاح والخلع ، والصحيح ما قدمنا .
فصل :
وتجوز الكتابة على المنافع ، لأنها تثبت في الذمة بالعقد ، فجازت الكتابة عليها ، كالمال ، وتجوز على مال أو خدمة ،لأن كل واحد منهما ، يصح أن يكون عوضاً منفرداً ، فصح في الآخر ، كالمالين . فإن كاتبه على خدمة شهر ، أو شهرين متواليين ، فهو كالنجم الواحد ، لأنها مدة واحدة ، فإن قال على أن تخدمني شهراً ، ثم تخدمني عقيبه شهراً آخر ، صح ، لأنهما نجمان . وإن قال : على خدمة شهر ودينار بعده بيوم ، صح ، لأنهما نجمان . فإن جعل الدينار مع انقضاء الشهر ، أو في أثنائه ، صح ، لأن الخدمة بمنزلة العوض الحال ، فصار كالأجلين ، ويحتمل أن لا يصح ، لأنهما في مدة واحدة فكانا نجماً واحداً . وإن جعل الدينار حالاً ، عقيب العقد ، لم يصح ، لأنه عوض حال معجوز عنه ، بخلاف الخدمة ، فإنها وإن كانت في منزلة الحال ، فهو قادر عليها .
فصل :
والكتابة عقد لازم لا يملك العبد فسخها بحال .
وعنه : أنه يملكه ، ولا يملك السيد فسخها قبل عجز المكاتب ، لأنه أسقط حقه منه بالعوض ، فلم يملك ذلك قبل العجز عنه ، كالبيع . وللعبد الامتناع من الأداء ، لأنه جعل شرطاً في عتقه ، فلم يلزمه ، كدخول الدار . ولا تبطل بموت السيد ، ولا جنونه ، ولا الحجر عليه ، ولا جنون العبد لأنه عقد لازم ، فأشبه البيع ، وينتقل بموت السيد إلى ورثته ، لأنه مملوك لمورثهم فانتقل إليهم ، كالقن . فإذا أدى إليهم ، عتق ، وولاؤه لمكاتبه ، لأن السبب وجد منه ، ولا يجوز شرط الخيار في الكتابة ، لأن الخيار شرع لدفع الغبن عن المال ، والسيد دخل على بصيرة : أن الحظ لعبده ، فلا معنى للخيار . وإن اتفقا على الفسخ ، جاز ، لأنه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال ، فجاز فسخه بالتراضي ، كالبيع .
فصل :
ويجوز بيع المكاتب ، لأن بريرة قال لعائشة : يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية، فأعينيني على كتابتي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : اشتريها متفق عليه ، ولأنه سبب يجوز فسخه ، فلم يمنع البيع كالتدبير .
وعنه : لا يجوز بيعه ، لأن سبب العتق ثبت له في كل وجه لا يستقل السيد برفعه ، فمنع البيع ، كالاستيلاد . والأول أظهر ،فإن باعه ، لم تبطل الكتابة ،لأنها عقد لازم، فلم تبطل ببيعه كالنكاح ، ويكون في يد مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته ، فإذا أدى عتق ، وولاؤه له ،وإن عجز ، فله الفسخ ، ويعود رقيقاً له ، لأن البائع نقل ماله من الحق فيه إلى المشتري فصار بمنزلته ، وإن لم يعلم المشتري أنه مكاتب ، فله الخيار بين فسخ البيع ، وأخذ ما بينه سليماً ومكاتباً ، لأنه عيب ، فأشبه سائر العيوب ، والحكم في هبته والوصية به ، كالحكم في بيعه ، لأنه نقل للملك فيه . ولا يجوز وقفه ، لأنه معرض لزوال الرق فيه ، والوقف يجب أن يكون مستقراً .
فصل :
وإن اشترى المكاتب مكاتباً آخر ،صح ، سواء اشتراه من سيده ، أو من أجنبي ، لأن المشتري أهل للشراء ، والمبيع محل له ، فصح ، كما لو اشترى عبداً . فإن عاد المبيع فاشترى سيده ، لم يصح ، لأنه لا يصح أن يملك مالكه ، والله أعلم .
باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه
يملك المكاتب اكتساب المال بالبيع ، والإيجار والأخذ بالشفعة ، وأخذ الصدقة ، والهبة، وكسب المباحات ، والسفر ، لأنه من أسباب الكسب ، وهو مع المولى ، كالأجنبي في ضمان المال ، وبذلك المنافع ، وأرش الجنايات ، وجريان الربا بينهما ، لأنه صار بما بذله من العوض كالحر ، وقال ابن أبي موسى : لا ربا بينهما ، لأنه ملك لسيده . قال أصحابنا : ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده ، ويضع عنه بعض كتابته ، لأن مال الكتابة ليس بمستقر ، ولذلك لا يصح ضمانه ، فليس بدين صحيح ، فكأن السيد أخذ بعضاً ، وأسقط بعضاً .
فصل :
ويملك التصرف في المال بما يعود لمصلحته ومصلحة ماله ، فيجوز أن ينفق على نفسه ، لأن هذا من أهم مصالحه ، وعلى رقيقه ، وحيواناته ، وله أن يفدي نفسه ورقيقه في الجناية ، لأن فيه مصلحته ، وله أن يختن غلامه ويؤدبه ، لأنه صلاح للمال ، وله أن يقتص من الجناية عليه ، وعلى رقيقه ، ويأخذ الأرش ، لأن فيه مصلحته ، وذكره القاضي . وقال أبو بكر وأبو الخطاب : لا قصاص له في جناية بعض رقيقه على بعض ، لأن فيه إتلاف المال على سيده .
فصل :
وليس له إقامة الحد على رقيقه ، لأن طريقه الولاية ، والمكاتب ليس من أهل الولاية ، وليس له أن يتصدق ولا يتبرع ، ولا يعتق الرقيق ، ولا يحج بماله ، ولا يهب ولا يحابي ، ولا يبرئ من الدين ، ولا يكفر بالمال ، ولا ينفق على أقاربه ، ولا يقرض ، ولا يسرف في النفقة على نفسه ، لأن حق السيد متعلق بإكسابه ، فإنه ربما عجز فصار إلى سيده . وإن كانت أمة مزوجة ، لم يملك بذل العوض في خلعها ، ولا تعجيل قضاء دين مؤجل ، لأنه تبرع يمنع التصرف في المال من غير حاجة إليه . وإن كان مكاتباً بين نفسين ، لم يكن له تقديم حق أحدهما ، لأن ما يقدمه يتعلق به حق الآخر ، ولا يملك فداء جناية ، أو جناية رقيقه بأكثر من قيمته ، لأن الفداء كالابتياع . ولا يملك التزويج ولا التسري ، لأنه تلزمه النفقة والمهر في التزويج ، ولا يأمن حبل الأمة ، فتتلف بالولادة . وما فعل من هذا كله بإذن سيده . جاز . لأن المنع لأجله ، فجاز بإذنه ، كتصرف الراهن بإذن المرتهن ، وإن وهب المولى أو أقرضه ، أو حاباه أو فدى جنايته عليه بأكثر من أرشها ، جاز لاتفاقهما عليه .
فصل :
وليس له التصرف إلا على وجه الحظ والاحتياط ، لأن حق المولى متعلق باكتسابه فلا يبيع نسأً ، وإن أخذ به رهناً ، أو ضميناً ، ويحتمل الجواز لما ذكرنا في المضارب . وإن باع ما يساوي مائة بمائة نقداً وعشرين نسيئة ، جاز ، لأنه لا ضرر فيه ، وليس له أن يضارب بماله ، لأنه يخاطر به ، ولا يرهنه ، لأنه يخرج ماله بغير عوض . وفيه وجه آخر : أنه يجوز له رهنه والمضاربة به ، لأنه قد يرى الحظ فيه ، بدليل أن لولي اليتيم فعله في مال اليتيم ، فجاز ، كإجارته .
فصل :
وإذا استولدت أمته ، صارت أم ولد له ، لأنها علقت له في ملكه ، وليس له بيعها ، نص عليه وتكون هي وولدها منه موقوفين . إن عتق بالكتابة ، عتق الولد ، وأمه أم ولد . وإن رق ، رقا . وذكر القاضي في موضع آخر : أن الأمة لا تصير أم الولد ، لأنها علقت بمملوك ، وله بيعها ، وليس له مكاتبة رقيقه ، لأنه إعتاق . واختار القاضي : أنه له ذلك ، لأنه معاوضة فملكه كالبيع . وقال أبو بكر : إعتاقه وكتابته موقوفان . وإن أدى وهما في ملكه نفذا ، وإلا بطلا ، كالقول في ذوي أرحامه . والول أصح ، لأن العتق تبرع ، فلم يصح كالهبة ، ومن لا يصح إعتاقه ، لا تصح كتابته ، كالمأذون ، وليس له تزويج الرقيق . وحكي عن القاضي : أن له تزويج الأمة دون العبد ، لأنه معاوضة ، وقال أبو الخطاب : له تزويجهما إذا رأى المصلحة فيه ، لأنه تصرف في الرقيق بما فيه المصلحة ، فجاز ، كختان العبد . والأول أصح ، لأن في التزويج ضرراً في المال ونقصاً في القيمة ، وليس هو من جهات المكاسب ، قال القاضي : وله أن يشتري ذوي رحمه ، لأنه لا ضرر على السيد فيهم ، فإنه إن عجز فهم عبيد ، وإن عتق ، لم يضر السيد عتقهم وقال أبو الخطاب : ليس له شراؤهم ، لأنه يبذل ماله فيما لا يجوز التصرف فيه ، ويلزمه نفقته ، لكن يصح أن يملكهم بالهبة ، والوصية ، أو بالشراء بإذن السيد ، وعلى كلا القولين إذا ملكهم ، لم يعتقوا بمجرد ملكه لهم ، لأنه لا يملك إعتاقه بالقول ، فلا يحصل العتق بالملك القائم مقامه ، ولا يملك بيعهم ، ولا إخراجهم عن ملكه ، لأن من يعتق عليه ينزل منزلة جزئه ، فلم يجز بيعه ، كبعضه . فإن أدى ، عتق وكمل ملكه فيهم ، فعتقوا حينئذ ، وولاؤهم له دون سيده . وإن رق ، رقوا ونفقتهم على المكاتب ، لأنهم عبيده . وإن أعتقهم السيد ، لم يصح ، لأنهم ليسوا عبيداً له . وإن اشترى المكاتب زوجته ، أو المكاتبة زوجها ، صح ، لأنه يملك التصرف فيه ، وإذا ملك أحدهما صاحبه ، انفسخ النكاح ، لأنه لا يجتمع ملك اليمين وملك النكاح . ولو زوج ابنته من مكاتبه ، فمات السيد قبل عتقه ، انفسخ النكاح ، لأنها لما ملكته أو جزأ من أجزائه ، انفسخ النكاح ، كما لو اشترته .
فصل :
وإن حبس المكاتب أجنبي عن التصرف ، فعليه أجرة مثله ، لأنه فوت منافعه ، فلزمه عوضها ، كالعبد وإن حبسه سيده ، ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تلزمه أجرة مثله ، لما ذكرنا .
والثاني : لا يحتسب عليه بمدة الحبس ، لأنه يلزمه تمكينه من التصرف مدة الكتابة ، فإذا منعه ، لم يحتسب بها عليه .
والثالث : يلزمه أرفق الأمرين به ، لأنه وجد سببهما ، فكان للمكاتب أنفعهما ، وإن قهره أهل الحرب فحبسوه ، لم يلزم السيد إنظاره ، لأن الحبس من غير جهته .
فصل :
وليس للسيد وطء مكاتبته من غير شرط ، لأنه زال ملكه عن استخدامها ، وأرش الجناية عليها ، فلا يحل وطؤها كالمعتقة ، وإن شرطه في عقد الكتابة ، صح الشرط ، لأنه شرط منفعتها مع بقاء ملكه عليها ، فصح ، كما لو شرط خدمتها مدة ، فإن وطئها مع الشرط ، فلا مهر عليه ، لأنه يملكه ، فأشبه وطء أم ولده ، وإن وطئها من غير شرط ، أدب ، لأنه وطئ وطأً محرماً ، ولا حد عليه ، لأنها مملوكته ، ولها عليه مهر مثلها ، سواء أكرهها ، أو طاوعته ، لأنه عوض منفعتها ، فوجب لها ، كما لو استخدمها ، وإن علقت منه ، فالولد حر ، لأنه ولده من أمته ، ولا يلزمه قيمته لذلك ، وتصير أم ولد له ، لأنه أحبلها بجزء من ملكه ، والكتابة بحالها ، فإن أدت ، عتقت ، وإن عجزت ، عتقت بموته ، لأنها من أمهات الأولاد ، وما في يدها لورثة سيدها ، وإن مات السيد قبل عجزها ، عتقت ، لأنه اجتمع بها سببان يقتضيان العتق ، فأيهما سبق عتقت به ، وما في يدها لها ، ذكره القاضي ، لأن العتق إذا وقع في الكتابة ، لا يبطل حكمها ، ولأن الملك كان ثابتاً لها ، والعتق لا يقتضي زواله عنها ، فأشبه ما لو عتقت بالإبراء من مال الكتابة ، وقال الخرقي وأبو الخطاب : ما في يدها لورثة سيدها ، لأنها عتقت بحكم الاستيلاد ، فأشبه غير المكاتبة ، ولو أعتقها سيدها ، أو عتقت بالتدبير ، احتمل أن يكون كذلك، واحتمل أن يكون ما في يدها لها بكل حال ، لأن إعتاقها برضى من المعتق ، رضى منه بإعطائها مالها ، بخلاف العتق بالاستيلاد .
فصل :
وولد المكاتبة من غير سيدها بعد كتابتها ، بمنزلتها ، لأنها استحقت الحرية بسبب قوي ، فتبعها ولدها كأم الولد . وسواء حملت به بعد الكتابة ، أو كانت حاملاً به عند كتابتها ، ونفقته عليها ، لأنه تبعها في حكمها ، وكسبه لها لذلك ، وإن قتل ، فقيمته لها ، لأنه بمنزله جزئها ، وبذل جزئها لها . فإن أعتقه السيد ، نفذ عتقه . نص عليه ، لأنه عبد له فصح عتقه ، كأمه . فإن كان ولدها جارية ، لم يملك السيد وطأها ، لأنه لا يملك وطء أمها ، وحكمها حكم أمها ، وإن وطئها ، فلا حد عليه للشبهة ، وعليه مهرها ، حكمه حكم كسبها ، وإن علقت منه ، صارت أم ولد له بشبهة الملك ، ولا يلزمه قيمتها ، لأن القيمة تجب لمن يملكها ، والأم لا تملك رقبتها ، إنما هي موقوفة عليها ، ويحتمل أن تلزمه قيمتها لأمها ، كما لو قتلها ، والحكم في وطء جارية المكاتبة ، كالحكم في وطء بنتها ، إلا أنه يلزمه قيمتها إذا أحبلها لمولاتها ، لأنها مملوكتها . ووطء جارية المكاتب ، كوطء جارية المكاتبة سواء .
فصل :
إذا كانت الأمة بين شريكين فكاتباها ، ثم وطئها أحدهما ، أدب ولا حد عليه ، لشبهة الملك ، وعليه المهر لها ، لما قدمناه . فإن أولدها ، فولده حر ، وتصير أم ولد له ، وعليه نصف قيمتها لشريكه ، لأنه فوت رقها عليه . فإن كان موسراً أداه ، وإن كان معسراً ففي ذمته ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، لأن الإحبال أقوى من الإعتاق ، بدليل نفوذه من المجنون ، وتصير أم ولد للواطئ ومكاتبة له ، كما لو اشترى نصفها من شريكه . وقال القاضي : إن كان الواطئ معسراً ، لم يسر إحباله إلى نصيب الشريك ، لأنه إعتاق ، فلم يسر مع الإعسار ، كالقول ، ويصير نصفها أم ولد . فإن عجزت ، استقر الرق في نصفها ، وثبت حكم الاستيلاد لنصفها . وإن كان الواطئ موسراً ، فنصفها أم ولد ، ونصفها موقوف . إن أدت ، عتقت . وإن عجزت ، فسخت الكتابة ، وقومت حينئذ على الواطئ ، وصار جميعها أم ولد له ، وأما الولد ، فهو حر ، ونسبه لاحق بالواطئ ، وهل تجب نصف قيمته ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تجب ، لأنه كان من سبيله أن يكون عبداً ، فقد أتلف رقه بفعله ، فكان عليه نصف قيمته .
والثانية : لا تجب قيمته ، لأنه انتقل نصيب شريكه إليه حين علقت به ، ولا قيمة له في تلك الحال ، فلم يضمنه . وقال القاضي : والرواية الأولى أصح على المذهب ، ويكون الواجب لأمه إن كانت في الكتابة ، لأنه بدل ولدها . وقال أبو بكر : إن وضعته بعد التقويم ، فلا شيء على الواطئ ، لأنها وضعته في ملكه ، وإن كان قبله ، غرم نصف قيمته .
فصل :
فإن وطئها الثاني بعد وطء الأول ، وكانت باقية على الكتابة ، فعليه المهر لها . وإن كانت قد عجزت وقومت على الأول ، فالمهر له . وإن لم تقوم على الأول ، فمهرها بينهما ، فإن أولدها الثاني بعد الحكم بأنها أم ولد الأول ، لم تصر أو ولد للثاني ، وحكم ولدها حكمها ، كما لو ولدت من أجنبي ، وإن كان قبل الحكم بأنها أم ولد للأول ، صار نصفها أم ولد للثاني ، ونصفها أم ولد للأول .
فصل :
ويجب على السيدة إيتاء المكاتب من المال قدر ربع الكتابة ، لقول الله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وروى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : يحط به الربع أخرجه أبو بكر . وهذا نص . وروي موقوفاً على علي .
ويخير السيد بين وضعه عنه ، وبين دفعه إليه ، لأن الله تعالى نص على الدفع إليه ، فنبه به على الوضع ، لكونه أنفع من الدفع ، لتحقق النفع به في الكتابة ، فإن اختار الدفع ، جاز به العقد، للآية . ووقت الوجوب بعد العتق ، لقوله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} فإذا آتى ما عليه ، عتق . وقال علي : الكتنابة على نجمين ، والإيتاء من الثاني ، ويجب الإيتاء من جنس مال الكتابة ، للآية . فإن اتفقا على غير ذلك ، جاز ، لأن الحق لهما ، فجاز باتفاقهما . وإن مات السيد بعد العتق وقبل الإيتاء ، فذلك دين في تركته يحاص به غرماؤه ، لأنه حق لآدمي فلم يسقط بالموت ، كسائر حقوقه .
باب الأداء والعجز
لا يعتق المكاتب حتى يبرأ من مال الكاتبة بالأداء ، أو الإبراء ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم رواه أبو داود . وقال أصحابنا : إذا أدى ثلاث أرباع كتابته وعجز عن الربع ، عتق ، لأنه حق له ، فلا تتوقف حريته على أدائه ، كأرش جناية سيده عليه . وإن أبرأه سيده ، عتق لأنه لم يبق عليه شيء .
فصل :
وإن عجلت الكاتبة قبل محلها وفي قبضها ضرر ، لم يلزمه قبضه قبل محله، كالسلم . وإن لم يكن في قبضه ضرر ، لزمه قبضه وعتق العبد ، لأن الأجل حق لمن عليه الدين . فإذا رضي بإسقاط حقه ، يجب أن يسقط كسائر الحقوق .
وعنه : لا يلزمه قبضه ، لأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له ، ولم يرض بزواله ، فلم يزل ، كما لو علق عتقه بمضي ذلك المدة .
وعنه : أنه يعتق إذا ملك ما يؤدي ، لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان إحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . فعلى هذا إن امتنع من الأداء ، أجبره الحاكم عليه .
فصل
وإذا حل نجم فعجز عن أدائه ، فللسيد الفسخ ، لأنه تعذرضي الله عنه العوض في عقد معاوضة ، ووجد عين ماله ، فكان له الرجوع ، كما لو باع سلعة فأفلس المشتري قبل تقديمها .
وعنه : لا يعجز حتى يحل نجمان ، لأن ما بينهما محل الأداء الأول ، فلا يتحقق عجزه حتى يحل الثاني .
وعنه : لا يعجز حتى يقول : قد عجزت ، وللسيد الفسخ بغير حاكم ، لأنه مجمع عليه ، أشبه الرد بالعيب . وإن امتنع العبد من الأداء مع إمكانه ، فظاهر كلام الخرقي : أن للسيد الفسخ ، وهو قول جماعة من أصحابنا ، لأن التعذر حاصل بالامتناع ، كحصوله بالعجز . وقال أبو بكر : ليس له الفسخ ، لأنه أمكن الاستيفاء بإجباره على ذلك ، وتعذر البعض كتعذر الجميع .
فصل :
وإن كان معه متاع يريد بيعه فاستنظره لبيعه ، لزمه إنظاره ، لأنه أمكن الاستيفاء من غير ضرر . ولا يلزمه إنظاره أكثر من ثلاث ، لأنها قريبة ، وإن كان له مال غائب ، يرجو قدومه فيما دون مسافة القصر ، فكذلك ، وإن كان أبعد ، لم يلزمه إنظاره ، لأن فيه ضرراً . وإن كان له دين حال على مليء ، أو في يد مودع ، فهو كالغائب القريب . وإن كان على معسر ، أو مؤجلاً ، فهو كالبعيد . وإن حل النجم والمكاتب غائب بغير إذن سيده ، فله الفسخ . وإن كان بإذنه ، لم يفسخ ، ويرفع الأمر إلى الحاكم ليكتب كتاباً إلى حاكم ذلك البلد ، ليأمر بالأداء ، أو يثبت عجزه عنده ،فيفسخ حينئذ ، وإن حل والمكاتب مجنون معه مال ، فسلمه إلى المولى ، عتق ، لأنه قبض ما يستحقه ،فبرئت به ذمة الغريم ، فإن لم يكن معه شيء ، فلسيده الفسخ . وإن فسخ ثم ظهر له قال ، نقض الحكم بالفسخ ، لأننا حكمنا بالعجز في الظاهر ، وقد بان خلافه ، فنقض ، كما لو حكم الحاكم ، ثم وجد النص بخلافه، وإن كان قد أنفق عليه بعد الفسخ ، رجع بما أنفق ، لأنه لم يتبرع به ، بل أنفق على أنه عبده . وإن أفاق بعد الفسخ فأقام بينة أنه كان قد أدى ، نقض الحكم بالفسخ ، ولم يرجع السيد بالنفقة ، لأنه تبرع بإنفاقه عليه ، مع علمه بحريته .
فصل :
وإن أحضر المكاتب المال ، فقال السيد : هذا حرام ، وأنكر المكاتب ولا بينة ، فالقول قول المكاتب مع يمينه ، لأنه في يده ، فالظاهر أنه له . فإذا حلف ، خير المولى ، بين أخذه أو إبرائه من مال الكاتبة . فإن لم يفعل ، قبضه الحاكم ، لأنه حق تدخله النيابة . فإذا امتنع منه ، قام الحاكم مقامه ، وكذلك إن عجلت الكاتبة قبل محلها ـ وقلنا : يلزمه أخذه ـ فامتنع ، قام الحاكم مقامه ، وروي أن رجلاً أتى عمر فقال : يا أمير المؤمينين إني كاتب على كذا وكذا ، وإني أيسرت بالمال ، فأتيته بالمال ، فزعم أنه لا يأخذه إلا نجوماً ، فقال عمر : يا برفأ خذ هذا المال فاجعله في بيت المال ، وأد إليه نجوماً في كل عام ، وقد عتق هذا . رواه الأثرم .
فصل :
فإذا أدى المكاتب ظاهراً فبان مستحقاً ، تبينا أنه لم يعتق ، لأن العتق بالأداء ،وما أدى . وإن علم بعد الموت ،فتركه لمولاه ، أو ورثته ، لأنه مات على الرق . وإن ظهر به عيب ، فللسيد الرد والمطالبة بالأرش . فإن رضي به معيباً ، استقر العتق . وإن طلب الأرش فأدى إليه ، استقر العتق . وإن لم يؤد إليه بطل العتق ، لأن ذمته لم تتم براءتها من المال . وإن رد المعيب بطل العتق ، إلا أن يعطيه بدله . وقال أبو الخطاب : لا يرتفع العتق ، وله قيمة المعيب أو أرشه إن أمسكه . وإن كاتب على خدمة شهر فمرض فيه ، لم يقع العتق ، لعدم العوض .
فصل :
وإن باع ما في ذمة المكاتب ، لم يصح ، لأنه بيع دين ، لا سيما وهو غير مستقر ، فإن قبضه المشتري ، لم يعتق المكاتب ، لأنه لم يقبضه السيد ، ولا وكيله وإنما قبضه المشتري لنفسه ، وهو لا يستحقه . وفيه وجه آخر : أنه يعتق ، لأن السيد أذن للمشتري في قبضه ، فكان قبضه كقبض وكيله .
فصل :
إذا جنى المكتاتب بدئ بجنايته قبل كتابته ، لأن جنايته تقدم على حق المالك إذا كان قناً ، فعلى حقه إذا كان مكاتباً أولى . فإن أداهما ، عتق ، وإن عجز عن أدائهما ، فلكل واحد منهما تعجيزه ، فإن عجزه ولي الجناية ، بيع فيها إن استغرقته ، وإلا بيع منه بقدر جناية ، وباقيه على الكاتبة ، متى أدى كتابة باقية عتق . وهل يسري عتقه ويقوم على سيده إن كان موسراً ؟ على وجهين . وإن عجزه السيد . عاد قناً وخير بين فدائه أو تسليمه ، كعبده القن ، فإن أعتقه السيد ، فعليه فداؤه أيضاً ، لأنه أتلف محل الحق . وإن كان عليه دين من معامله ، بدئ بقضائه مما في يده ، لأنه يتعلق بما في يده ، ويختص به . والسيد والمجني عليه يرجعان إلى رقبته . فإن فضل شيء ، قدم ولي الجناية . وإن لم يكن له مال ، لم يملك الغريم تعجيزه ، لأن حقه في الذمة ، فلا فائدة في تعجيزه ، بل تركه على الكاتبة أنفع له ، لأنه ربما اكتسب بما يعطيه ، فكان أولى .
باب الكتابة الفاسدة
إذا كاتبه على عوض محرم ، أو مجهول ، فالعقد فاسد . وإن شرطا شرطاً فسداً ، مثل أن يشرط أن يوالي من شاء من ميراثه ، فالعقد صحيح ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : كان في بريرة ثلاث قضيات ، أراد اهلها أن يبيعوها ويشترطوا الولاء ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتريها وأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق متفق عليه . فحكم بفساد الشرط مع أمره بالشراء ، ويتخرج فساد العقد بناء على فساد البيع به ، وإن شرط عليه أن لا يسافر ، ولا يطلب الصدقة ، فالعقد صحيح . وفي الشرط روايتان :
إحداهما : هو صحيح ، لأن فيه غرضاً صحيحاً للسيد ، وهو صيانته عن أكل الصدقة ، وصيانة عبده عن التغرير بالسفر .
والثانية : هو باطل ، لأنه ينافي مقتضى العقد ، وهو تمكينه من الكسب ، وأخذ ما فرض الله له من الصدقات .
فصل :
ومتى فسد العقد ، فللسيد الفسخ ، لأنه عقد فاسد لا حرمة له ، وسواء كان فيه صفة ، كقوله : إن أديت إلي ، فأنت حر ، أو لم تكن ، لأن المقصود المعاوضة ، فصارت الصفة مثبتة عليها ، بخلاف الصفة المجردة . وله فسخ العقد بنفسه ، لأنه مجمع عليه ، وتنفسخ بموت السيد ، وجنونه ، والحجر عليه لسفه ، لأنه عقد غير لازم فأشبه الوكالة ، وقال أبو بكر لا تنفسخ بذلك ، ولا تبطل بجنون العبد ، لأنه لازم من جهته ، فأشبه العتق المعلق بالصفة . وإن أدى ما كوتب عليه عتق ، لأن الكاتبة جمعت معاوضة وصفة ، فإذا بطلت المعاوضة ، بقيت الصفة ، فعتق بها. وإن أدى إلى غير كاتبه ، أو أبرأه السيد مما عليه ، لم يعتق ، لأن الصفة لم توجد . وقال أبو بكر : يعتق بالأداء إلى الوارث ، لأنه قام مقام المورث . وإذا عتق فله ما فضل في يده من الكسب . ويتبع الجارية ولدها ، لأنها أجريت مجرى الصحيحة في العتق ، فتجري مجراها فيما ذكرنا . وفيه وجه آخر : لا يتبعها ولدها ولا فضلة كسبها ، لأن عتقها بالصفة دون الكاتبة . ولا يرجع السيد على العبد بشيء ، لأنها إما عتق بصفة ، وإما مجراه مجرى الكاتبة الصحيحة ، وكلاهما لا يثبت فيه التراجع .
باب جامع الكتابة
تصح كتابة بعض العبد ، لأنه عقد معاوضة على نصيب المكاتب ، فصح كبيعه . وإذا كاتبه وكان باقيه حراً فأدى ، كملت له الحرية . وإن كان باقيه قناً ، لم تسر الكاتبة إليه، لأنه عقد معاوضة ، فأشبه البيع ، ويصير شريكاً لمالك باقيه في نفسه . فإذا أدى ما كوتب عليه ، ومثله لمالك باقيه ، عتق وسرى العتق إلى سائره إن كان جميعه للمكاتب ، وإن كان لغيره والمكاتب موسر ، عتق جميعه ، وإن كان معسراً ، لم يعتق إلا ما كاتبه كالإعتاق المنجر . وإذا أذن له شريك المكاتب في الأداء من جميع كسبه ، عتق بأدائه ، كما لو أدى إليها . وإن كان باقيه مكاتباً ، أو كاتب السيدان معاً ، جاز ، سواء اتفق العوضان أو اختلفا ، لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع . ولا يملك أن يؤدي إلى أحدهما أكثر مما يؤدي إلى صاحبه ، لأنهما سواء في كسبه ، إلا أن يأذن أحدهما في تعجيل حق الآخر فيجوز . وذكر أبو بكر وجهاً آخر:أنه لا يجوز تخصيص أحدهما بالأداء وإن أذن الآخر فيه ، لأن حقه في ذمته ، لا فيما في يده ، فلم ينفع إذنه فيه ، والأول أصح ، لأن المنع لحقه ، فجاز بإذنه . فإن أدى إليهما في حال واحدة ، عتق عليهما وولاؤه لهما . وإن أدى أحدهما قبل الآخر بإذنه ، أو لكونه نصيب المؤدى إليه من العوض أقل ، عتق نصيبه وسرى إلى نصيب الآخر إن كان موسراً في قول الخرقي ، لأنه أعتق شركاً له في عبد ، وهو موسر ، فعتق عليه كله ، لحديث ابن عمر . وقال أبو بكر : لا يسري في الحال ، لأن في سرايته إبطال نصيب صاحبة من الولاء الذي انعقد سببه ، وهكذا الخلاف فيما إذا عتق أحدهما نصيبه بالمباشرة ، وفيها إذا كان نصفه قناً فأعتقه صاحب القن .
فصل :
ويجوز أن يكاتب جماعة من عبيده صفقة واحدة بعوض واحد ، لأن العوض بجملته معلوم ، فصح ، كما لو باع عبدين بثمن واحد ، ويصير كل واحد منهم مكاتباً بحصته من العوض ، يقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد ، لأنه عوض ، فيسقط على المعوض بالقيمة ، كما لو اشترى شقصاً وسيفاً . قال أبو بكر : ويتوجه لأبي عبد الله قول آخر : إن العوض بينهم على عددهم ، لأنه أضيف إليهم إضافة واحدة ، فكان بينهم على السواء ، كما لو أقر لهم بشيء ، والأول أصح . وتعتبر قيمتهم حال العقد ، لأنه حال زوال سلطانه عنهم . وأيهم أدى ، عتق ، لأنه أدى ما عليه فعتق ، كما لو انفرد . وقال أبن ابي موسى : لا يعتق حتى تؤدى جميع الكاتبة . وإن مات بعضهم ، سقط من مال الكتابة بقدر حصته ، والأول أصح .
فصل
وإذا كاتب السيد عبده ، فماله لسيده ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم من باع عبداً وله مال ، فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ، ولأنه عقد يزيل ملك السيد عن إكسابه فأشبه البيع .
باب اختلاف السيد ومكاتبه
إذا اختلفا في أصل العقد ، فالقول قول السيد مع يمينه ، لأن الأصل عدمه . وإن اختلفا في قدر مال الكاتبة ، أو أجله ، ففيه ثلاث روايات :
إحداهن:القول قول السيد ، لأنهما اختلفا في الكاتبة ، فأشبه ما لو اختلفا في عقدها.
والثانية : القول قول المكاتب ، لأن الأصل عدم الزيادة المختلف فيها .
والثالثة : يتحالفان ، لأنهما اختلفا في قدر العوض ، فيتحالفان ، كما لو اختلفا في ثمن المبيع : فإذا تحالفا قبل العتق ، فسخنا العقد ، إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه . وإن كان التحالف بعد العتق ، رجع السيد على العبد بقيمته ، ورجع العبد بما أداه على سيده .
فصل :
وإن وضع السيد عن العبد بعض نجومه ، أو أبرأه منه ، واختلفا في أي النجوم هو ، فالقول قول السيد ، لأنهما اختلفا في فعله . وإن وضع عنه دراهم والكتابة على دنانير ، لم يصح ، لأنه وضع عنه غير ما عليه . فإن قال العبد . إنما أردت دنانير بقيمة الدراهم ، فأنكره السيد ، لأن الظاهر معه ، وهو أعلم بما عنى . وإن أدى كتابه ، فقال السيد : أنت حر ، ثم بان مستحقاً ، لم يعتق ، لأن الظاهر أنه قصد إلى الخبر بناء على ظنه ، ، وقد بان خلافه ، فإن قال العبد: أردت عتقي ، فأنكر السيد ، فالقول قوله ، لأنه أعلم بقصده ، وإن ادعى العبد وفاء الكاتبة فأنكره السيد ، فالقول قول السيد ، لأن الأصل عدم الوفاء . وإن قال السيد : استوفيت ، فادعى المكاتب أنه وفاه الجميع ، وقال السيد : إنما وفيتني البعض ، فالقول قول السيد ، لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع .
فصل :
فإن كان للمكاتبة ولد فقالت : ولدته في الكتابة ، فقال السيد : بل قبلها ، فالقول قول السيد : لأنه إختلاف في وقت الكتابة ، والأصل عدمها قبل الولادة . وإن زوج السيد مكاتبه أمته ، فولدت منه : واشترى زوجته ، فقال السيد : ولدته قبل الشراء ، وقال المكاتب : بل بعده ، احتمل أن تكون كالتي قبلها ، واحتمل أن يكون القول قول العبد ، لأن هذا اختلاف في الملك ، والظاهر مع العبد ، لأنه في يده . بخلاف التي قبلها ،لأنهما لم يختلفا في المللك ، إنما اختلفا في وقت العقد .
فصل :
فإذا أدى أحد المكاتبين إلى السيد أو أبرأه فادعى كل واحد من المكاتبين أنه المؤدي ، أو المبرأ ، فالقول قول السيد في التعيين ، لأنه لو أنكرهما ، كان القول قوله. فإذا أنكر أحدهما ، قبل قوله ، وعليه اليمن له ، فإن نكل قضي عليه ، وعتقا جميعاً ، فإن قال : لا أعلم أيكما المؤدي ، فعليه اليمين أنه لا يعلم ، فيقرع بينهما ، فمن قرع صاحبه ، حلف وعتق ، وبقي الآخر على الكاتبة ، وكذلك إن مات السيد قبل التعيين ، قرع بينهما ، لأنهما تساويا في احتمال الحرية ، فأشبه ما لو أعتق أحدهما وأنسيه .
فصل :
إذا كاتب عبيداً كتابة واحدة ، فأدوا ، عتقوا . فقال من كثرت قيمته : أدينا على قدر قيمنا ، وقال الآخر : بل أدينا على السواء ، فبقيت لنا على الأكثر بقية ، فمن جعل العوض بينهم على عدد رؤوسهم قال : القول قول من ادعى التسوية ، ومن جعل على كل واحد قدر حصته ، فعنده فيه وجهان :
أحدهما : القول قول من يدعي ، التسوية ، لأن أيديهم على المال فيتساوون فيه .
والثاني : القول قول الآخر ، لأن الظاهر أن الإنسان لا يؤدي إلا ما عليه .
فصل :
وإذا كاتب رجلان عبداً بينهما ، فادعى أنه أدى إليهما ، فصدقه أحدهما ، وأنكر الآخر ، عتق نصيب المقر ، وحلف الآخر ، وبقيت حصته على الكتابة ، وله مطالبة المقر بنصف ما قبض ، لحصول حقه في يده ، ومطالبة المكاتب بالباقي ، وله مطالبة المكاتب بالجميع ، لأنه لم يدفع إليه حقه ، ولا إلى وكيله ، فإذا قبض ، عتق المكاتب ، ومن أيهما أخذ ، لم يرجع به المقبوض منه على الآخر ، لأنه يقر ببراءة صاحبه ، ويدعي أن المنكر ظلمه ، فلا يرجع بما ظلمه به على غيره . فإن عجز المكاتب ، عجزه ورق نصفه ، ولم يسر عتق الآخر ، لأنه لا يعترف بعتقه ولا العبد أيضاً ، ولا يعترف المنكر بعتق شيء منه ، وإن شهد المصدق له . فقال الخرقي : تقبل شهادته له في العتق ، لأنه لا نفع له فيه ، ولا تقبل شهادته فيما يرجع إلى براءته من مشاركة صاحبه . وقياس المذهب أنه لا تقبل شهادته في العتق أيضاً ، لأن من شهد بشهادة يجر إلى نفسه نفعاً ، بطلت شهادته في الكل . وإن ادعى المكاتب ، ودفع جميع المال إلى أحدهما ، ليأخذ نصيبه منه ، ويدفع باقيه إلى شريكه . وقال المدعى عليه : بل دفعت إلى كل واحد منا حقه ، فهي كالتي قبلها ، إلا أن المنكر يأخذ حصته بلا يمين ، لأنه لا يدعي واحد منهما دفع المال إليه ، وإن قال المدعى عليه : قبضت المال ، ودفعت إلى شريكي حصته ، فأنكر شريكه ، فعليه اليمين ها هنا ، لأنه يدعي التسليم إليه . فإذا حلف ، فله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه . فإن أخذ من المكاتب ، رجع على المقر ، لأنه قبض منه ، سواء صدقه المكاتب في الدفع إلى شريكه ، أو كذبه ، لتفريطه في ترك الإشهاد . فإن حصل للمنكر ماله من أحدهما ، عتق . وإن عجز المكاتب ، فللمنكر استرقاق نصفه ، والرجوع على المقر بنصف ما قبض ، لأنه استحق نصف كسبه ، ويقوم على المقر ، لأنه رقه كان بسبب منه ، وهو التفريط .
فصل
وإذا خلف رجل ابنين وعبداً ، فادعى العبد أن سيده كاتبه ، فأنكراه ، فالقول قولهما مع أيمانهما ، لأن الأصل عدم الكتابة ، ويحلفان على نفي العلم ، لأنها يمين على فعل الغير . وإن صدقه أحدهما ، أو نكل عن اليمين ، وحلف الآخر ، ثبتت الكتابة لنصفه . ومتى أدى إلى المقر ، عتق نصيبه ، ولم يسر إلى نصيب شريكه ، لأنه لم يباشر العتق ، ولم يتسبب إليه ، إنما هو مقر بما فعل أبوه، وولاء نصفه الذي عتق للمقر ، لأته لا يدعيه غيره . وإن شهد المقر على المنكر ، فشهادته مقبولة إن كان عدلاً ، لأن لا يجر إلى نفسه نفعاً ، ولا يدفع ضرراً . والله أعلم .
باب حكم أمهات الأولاد
إذا أصاب الرجل أمته ، فولدت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان ، صارت له أم ولد ، تعتق بموته من رأس المال ، لما روى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه رواه أحمد ، وابن ماجة . ولأنه إتلاف حصل بالاستمتاع ، فحسب من رأس المال ، كإتلاف ما يأكله . فأما إن علقت منه في غير ملكه ، لم تعتق عليه ، سواء ملكها حاملاً أو بعد الوضع ، لأنها علقت بمملوك . فإذا كان الولد مملوكاً ، فأمه أولى .
وعنه : إن ملكها حاملاً فولدت عنده ، صارت له أم ولد ، لعموم الخبر . وقال القاضي : إن لم يطأها بعد ملكه لها ، لم تصر أم ولد . وكذلك إن وطئها في ابتداء حملها ، أو توسطه بعد ملكه لها ، صارت أم ولد ، لأن الماء يزيد في سمعه وبصره . وقد قال عمر : أبعدما اختلطت دماؤكم ودماؤهن ، ولحومكم ولحومهن ، بعتموهن ؟ ! فعلل بالاختلاط وقد وجد . وإن ولدت منه في غير ملكه بنكاح ، أو زنا ، ثم ملكها ، لم تصر أم ولد ، لأن ولدها مملوك لسيد الأمة . ونقل ابن أبي موسى : أنها تصير أم ولد ، لما ذكرناه . والأول المذهب .
فصل
فإن أسقطت ولداً ميتاً ، فهو كالحي في ذلك ، لأنه ولد . وإن أسقطت جزءاً منه ، كيد ، ورجل ، فهي أم ولد ، لأنه من ولد . وإن ألقت نطفة أو علقة ، لم تصر أم ولد ، لأنه ليس بولد . وإن وضعت ما يتحقق فيه تخطيط ، من رأس ، أو يد ، أو رجل ، أو عين ، فهو ولد . وإن ألقت مضغة ، فشهدت ثقة من القوابل أنه تخطط ، أو تصور ، ثبت أنه ولد . وإن لم يتخطط ويتصور ، فشهدت أنه بدو خلق آدمي ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا تصير أم ولد ، لأنه ليس بولد ، أشبه النطفة ، والأخرى هي أم ولد ، لأنه بدو خلق بشر ، أشبه المتخطط .
فصل
ويملك الرجل استخدام أم ولده ، وإجارتها ووطأها ، وتزويجها ، وحكمها حكم الإماء في صلاتها وغيرها ، لأنها باقية على ملكه ، إنما تعتق بعد الموت بدليل حديث ابن عباس .
فصل
ولا يملك بيعها ولا هبتها ، ولا التصرف في رقبتها ، لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن عبيدة . قال : خطب علي الناس فقال : شاورني عمر في أمهات الأولاد ، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن ، فقضى به عمر حياته ، وعثمان حياته ، فلما وليت رأيت أن أرقهن . قال عبيدة : فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده ، وروي عنه أنه قال : بعث إلي علي وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف . وروى صالح عن أحمد أنه قال : أكره بيعهن ، وقد باع علي بن أبي طالب . قال أبو الخطاب : فظاهر هذا أنه يصح البيع مع الكراهة ، والمذهب الأول .
فصل
وإن ولدت من غير سيدها ، فله حكمها ، يعتق بموت سيدها ، سواء عتقت أو ماتت قبله ، لأن الاستيلاد كالعتق المنجر ، ولا يبطل الحكم فيه بموتها ، لأنه استقر في حياتها فلم يسقط بموتها ، كولد المدبرة .
فصل
وإن أسلمت أم ولد الذمي ، لم تعتق . ونقل عنه منها : أنها تعتق ، لأنه لا يجوز إقرار ملك كافر على مسلمة ، ولا سبيل إلى إزالته بغير العتق .
وعنه : أنها تستسعى في قيمتها ثم تعتق ، والمذهب الأول . قال أبو بكر : الذي تقتضيه أصول أبي عبد الله أنها لا تعتق ، لأنه سبب يقتضي العتق بعد الموت ، فلم يتجزأ بالإسلام ، كالتدبير ، ولكن تزال يده عنها ، ويحال بينه وبينها ، لأن المسلمة لا تحل لكافر ، وتسلم إلى ارمأة ثقة ، ونفقتها في كسبها ، وما قضل منه ، فهو لسيدها . وإن لم يف بنفقتها ، فعلى سيدها تمامها في إحدى الروايتين ، وهو قول الخرقي ، لأنها مملوكته .
والثانية : لا يلزمه ذلك ، لأنه منع الانتفاع بها . فإن أسلم ، حلت له ، وإن مات عتقت .
فصل
وإن جنت ، لزم سيدها فداؤها ، لأنه منع من بيعها بالإحبال ، ولم تبلغ حالاً تتعلق بذمتها ، فأشبه ما لو امتنع من تسليم عبده القن ، ويفديها بأقل الأمرين من فيمتها ، أو أرش جنايتها ، لأنه لا يمكن بيعها .
وعنه : يفديها بأرش جنايتها بالغة ما بلغت . حكاها أبو بكر ، لأنه ممنوع من تسليمها . فإن عادت فجنت ، فداها كما وصفت ، لأن الموجب لفدائها وجد في الثانية كوجوده في الأول ، فوجب استواؤهما في الفداء ، لاستوائهما في مقتضيه .
فصل
وإن جنت أم ولد على سيدها فيما دون النفس ، فهو كجناية القن سواء . وإن قتلته ، عتقت ، لأنه زال ملكه بموته ، ولا يمكن نقل الملك . فإن كانت جنايتها عمداً ، فللأولياء القصاص منها . وإن كانت غير موجبة له ، فسقط بالعفو ، فعليها قيمة نفسها ، لأنها جناية أم ولد ، فلم يجب أكثر من قيمتها ، كالجناية على الأجنبي . وإن ورث ولدها شيئاً من القصاص الواجب عليها ، سقط كله ، لأنه لا يتبعض ، وصار الأمر إلى القيمة .