وهو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربع أشهر ، لقول الله تعالى : {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} ويصح من كل زوج مكلف قادر على الوطء ، ولا يصح من غير زوج، كالسيد يؤلي من أمته ، أو من أجنبية ، ثم يتزوجها ، لقوله تعالى : {من نسائهم} ولا يصح من صبي ولا مجنون ، لأنه لا حكم ليمينهما . فأما العاجز عن الوطء ، فإن كان لسبب يرجى زواله ، كالمرض والحبس ، صح إيلاؤه ، لأنه يمنع نفسه الوطء بيمينه ، فأشبه القادر ، وإن كان لسبب غير مرجو الزوال ، كالجب ، والشلل ، لم يصح إيلاؤه ، لأنه حلف ترك مستحيل ، فلم يصح ، كالحلف على ترك الطيران ، ولأن الإيلاء ، اليمين المانعة من الجماع، وهذا لا تمنعه منه يمينه، ويحتمل أن يصح إيلاؤه ، كالعاجز بالمرض . ويصح إيلاء الذمي ، لعموم الآية ، ولأن من صح طلاقه ويمينه عند الحاكم ، صح إيلاؤه كالمسلم .
فصل :
ويشترط لصحته أربعة شروط :
أحدها : الحلف لقوله تعالى : {للذين يؤلون} والإيلاء : الحلف . فإن حلف بالله تعالى ، ، أو بصفة من صفاته ، كان مؤلياً بغير خلاف . وإن حلف بالطلاق ، أو العتاق ، أو الظهار ، أو صدقة المال ونحوه ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يكون مؤلياً ، لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير الآية : يحلفون بالله . هكذا ذكره الإمام أحمد ، ولأنه لم يحلف بالله . فلم يكن مؤلياً ، كالحالف بالكعبة .
والثانية : يكون مؤلياً ، لأنها يمين يلزم بالحنث فيها حق ، فيصح الإيلاء بها ، كاليمين بالله تعالى . وقال أبو بكر : ما أوجب الكفارة ، كالحرام ، كان به مؤلياً ، وما لا كفارة فيه ، كالطلاق والعتاق ، لم يكن به مؤلياً ، ولا يختلف المذهب أنه لا يكون مؤلياً بما لا يلزمه به حق، كقوله : إن وطئتك ، فأنت زانية ، لأنه لا يصح تعليق القذف بشرط ، فلا يلزمها بالوطء حق، فلا يكون مؤلياً . ولو قال : إن وطئتك ، فعلي صوم أمس ، أو صوم هذا الشهر ، لم يصح ، لأنه يصير عند وجوب الفيئة ماضياً ، ولا يصح نذر الماضي . وإن قال : إن وطئتك ، فالمسلم حر عن ظهاري ، صار مؤلياً ، لأنه يلزمه بالوطء حق ، وهو تعيين عتق سالم . وإن قال : إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري ، أن تظاهرت ، لم يكن مؤلياً في الحال ، لأنه يمكنه الوطء بغير حق يلزمه . وإن تظاهر ، صار مؤلياً ، لأنه لا يمكنه الوطء ، إلا بحق يلزمه .
فصل :
الشرط الثاني : أن يحلف على ترك الوطء بالفرج ، لأنه الذي يحصل الضرر به . وإن حلف على ترك الوطء في الدبر ، أو دون الفرج ، فليس بمؤل ، لأنه لا ضرر فيه . وألفاظ الإيلاء تنقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : صريح في الظاهر والباطن ، وهي قوله : والله لا آتيك ، أو لا أدخل ، أو أغيب ، أو أولج ذكري ، أو حشفتي ، أو لا أفتضك ، للبكر خاصة ، فهذه صريحة ولا يدين فيها ، لأنها لا تحتمل غير الإيلاء .
والقسم الثاني : صريحة في الحكم ، ويدين فيها . وهي عشرة ألفاظ : لا وطئتك ، لا جامعتك، لا أصبتك ، لا باشرتك ، لا مسستك ، لا قربتك ، لا أتيتك ، لا باضعتك ، لا باعلتك ، لا اغتسلت منك ، فهذه صريحة في الحكم ، لأنها تستعمل في الوطء عرفاً وقد ورد الكتاب والسنة ببعضها ، فلا يقبل تفسيرها بما يحيله ، كوطء القدم ،والإصابة باليد ، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ، لأنه يحتمل ما قاله .
القسم الثالث : كناية هو : ما عدا هذه الألفاظ ، مما يحتمل الجماع وغيره ، كقوله : لأسوأنك، ولا دخلت عليك ، ولا جمع رأسي ورأسك شيء ،فهذا لا يكون مؤلياً بها ، إلا بالنية ، لأنها ليس ظاهر في الجماع ،فلم يحمل عليه إلا بالنية ، ككنايات الطلاق فيه . فإن قال : والله لا جامعتك إلا جماع سوء ، ونوى به الجماع في الدبر ، أو دون الفرج ، فهو مؤل . وإن نوى جماعاً ضعيفاً لا يزيد على تغييب الحشفة ، فليس بمؤل ، لأن الضعيف كالقوي في الحكم .
فصل :
الشرط الثالث : أن يكون الحالف زوجاً مكلفاً ، قادراً على الوطء في الجملة ، وقد ذكرنا ذلك.
الشرط الرابع : أن يحلف على مدة تزيد على أربعة أشهر . فإن حلف على أربعة فيما دونها ، لم يكن مؤلياً ، حراً كان أو عبداً ، من حرة أو أمة لقول الله تعالى : {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} . فدل على أنه لا يكون مؤلياً بما دونها، ولأن المطالبة بالطلاق و الفيئة، إنما تكون بعدها ، فلا تصح المطالبة من غير إيلاء ، فإذا قال : والله لا وطئتك ، كان مؤلياً ، لأنه يقتضي التأبيد . وكذلك إن قال : حتى تموتي أو أموت ، لأنه للتأبيد . وكذلك إن علقه على مستحيل فقال : حتى تطيري ، ويشيب الغراب ، ويبيض القار ، لأن معناه التأبيد . قال الله تعالى : {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} . أي : لا يلج الجمل في سم الخياط ، أي لا يدخلونها ، أبداً ، وإن علقه على فعل يقين ، أو يغلب على ظنه ، أنه لا يوجد في أربعة أشهر ، كقيام الساعة ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى من السماء ، أو موت زيد ، فهو مؤل ، لأنه لا يوجد في أربعة أشهر ظاهراً ، فأشبه ما لو صرح به . وإن قال : والله لا وطئتك حتى تحبلي ، فهو مؤل ، لأنها لا تحبل من غير وطئه ، فهو كالحلف على ترك الوطء دائماً ، وقال القاضي : إن كانت ممن يحبل مثلها ، لم يكن مؤلياً ، ولا أعلم لهذا وجهاً ، لأنه لا يمكن حملها ، من غير وطء . وإن قال : أردت بـ((حتى)) السببية ، أي لا أطؤك لتحبلي ، قبل منه ، لأنه يحتمل ما قاله ، ولا يكون مؤلياً ، لأنه يمكن وطؤها لغير ذلك . وإن علقه على ما يعلم وجوده قبل أربعة أشهر ، كجفاف بقل ، أو ما يغلب على الطن وجوده قبلها ، كنزول الغيث في أوانه ، وقدوم الحاج في زمانه ، أو ما يحتمل الأمرين على السواء ، كقدوم زيد من سفر قريب ، لم يكن مؤلياً ، لأنه لم يغلب على الظن وجود الشرط ، فلا يثبت حكمه. وإن قال : والله ليطولن تركي لجماعك ، ونوى مدة الإيلاء ، فهو مؤل ، وإلا فلا . وإن قال : والله لأسوأنك ، ولتطولن غيبتي عنك ، ونوى ترك الجماع في مدة الإيلاء ، فهو مؤل ، لأنه عنى بلفظه ما يحتمله ، وإلا فلا ، وإن قال : والله لا وطئتك طاهراً ، أو وطأ مباحاً ، فهو مؤل لأنه حلف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة ، فكان مؤلياً ، كما لو قال : والله لا وطئتك إلا في الدبر .
فصل :
وإن قال : والله لا وطئتك في هذا البيت ، أو البلد ، لم يكن مؤلياً ، لأنه يمكنه الوطء بغير حنث . وإن قال : والله لا وطئتك إلا برضاك ، أو ، إلا أن تشائي ،فليس بمؤل كذلك ، وكذلك : والله لا وطئتك مريضة ، أو محزونة ، أو مكروهة ، أو ليلاً أو نهاراً ، لم يكن مؤلياً كذلك . وإن قال : والله لا وطئتك إن شئت ، فشاءت ، صار مؤلياً ، وإلا فلا .
فصل :
ويصح تعليق الإيلاء على شرط ، لأنه يمين . فإذا قال : إن وطئتك فوالله لا وطئتك ، لم يصر مؤلياً في الحال ، لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث . فإذا وطئها ، صار مؤلياً ، لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث . وإن قال : والله لا وطئتك في هذه السنة إلا مرة ، لم يصر مؤلياً في الحال كذلك . فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر ، صار مؤلياً ، لأنه صار ممنوعاً من وطئها بيمينه . وإن قال : والله لا وطئتك سنة إلا يوماً فكذلك ، لأن اليوم منكر ، فلم يختص يوم بعينه ،فصارت كالتي قبلها ، ويحتمل أن يصير مؤلياً في الحال ، لأن اليوم المستثنى يكون من آخر السنة ، كما في التأجيل .
فصل :
فإن قال : والله لا وطئتك ، عاماً ، ثم قال : والله لا وطئتك نصف عام ، دخلت المدة الثانية في الأولى ، لأنها بعضها ، ولم يعقب إحداهما بالأخرى ، فتداخلا كما لو قال : له علي مائة ، ثم قال : له علي خمسون ، فإن قال : والله لا وطئتك عاماً ، فإذا مضى ، فوالله لا وطئتك نصف عام ، فهما إيلاإن في زمانين ، لا يدخل حكم أحدهما في الآخر . فإن انقضى حكم الأول ، ثبت حكم الآخر . وإن قال : والله لا وطئتك أربعة أشهر ، فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ، لم يكن مؤلياً ، لأن كل واحد من الزمانين لا تزيد مدته على أربعة أشهر، ويحتمل أن يكون مؤلياً ، لأنه ممتنع بيمينه من وطئها مدة متوالية أكثر من أربعة أشهر .
فصل :
وإن قال لأربعة نسوة : والله لا أطأكن ، انبنى على أصل ، وهو : هل يحنث بفعل بعض المحلوف عليه ، أم لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يحنث فيكون مؤلياً في الحال منهن ، لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن ، إلا بحنث ، فإذا وطء واحدة ، انحلت يمينه ، لأنها يمين واحدة ، فتنحل بالحنث فيها ، كما لو حلف على واحدة .
وعلى الأخرى : لا يحنث بفعل البعض ، فلا يكون مؤلياً في الحال ، لأنه يمكن وطء كل واحدة بغير حنث .فإذا وطء ثلاثاً ، صار مؤلياً في الرابعة ، وابتداء المدة حينئذ . فإن مات بعضهن ، أو طلقها انحل الإيلاء ، لأنه أمكنه وطء الباقيات بغير حنث . وإن قال : والله لا وطئت واحدة منكن ، صار مؤلياً في الحال ، لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث . فإن طلق واحدة منهن ، أو ماتت ، كان مؤلياً من الباقيات ، لأنه تعلق بكل واحدة منفردة . وإن وطء واحدة ، سقط الإيلاء من الباقيات ، لأنها يمين واحدة ، فإذا حنث مرة ، لم يعد الحنث مرة ثانية ، وإن نوى واحدة بعينها ، كان مؤلياً منها وحدها ، ويقبل قوله في ذلك ، لأن اللفظ يحتمله ، وهو أعلم بنيته . وإن قال : نويت واحدة معينة ، قبل ، لأنه يحتمل ذلك . وقياس المذهب : أن يخرج المؤلي منها بالقرعة ، كالطلاق ، وذكر القاضي : أن الحكم فيمن أطلق يمينه ولم ينو شيئاً ، كذلك ، والأول أولى ، لأنه نكرة في سياق النفي ، فيكون عاماً . ولو قال : والله لا وطئت كل واحدة منكن ، كان مؤلياً من جميعهن ، ولم يقبل قوله : نويت واحدة ، لأن لفظه لا يحتمل ذلك ، وينحل اليمين بوطء واحدة ، لما ذكرنا . فإن طالبن بالفيئة ، وقف لهن كلهن . وإن اختلفت مطالبهن ، وقف لكل واحدة عند طلبها ، لأنه لا يؤخذ بحقها قبل طلبها ، وعنه : يوقف لهن جميعهن عند طلب أولاهن ، لأنها يمين واحدة ، فكان الوقف لها واحداً . وإن قال لزوجتيه ، كلما وطئت إحداكما فالأخرى طالق . وقلنا بكونه إيلاء ، فهو مؤل منهما .
فصل :
فإن قال : والله لا وطئتك ، ثم قال للأخرى : شركتك معها ، لم يصر مؤلياً من الثانية ، لأن اليمين بالله ، لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم ، أو صفة ، وهذا كناية . وقال القاضي : يكون مؤلياً منهما . وإن قال : إن أصبتك . فأنت طالق ، وقال للأخرى : أشركتك معها ونوى ، وقلنا بكونه إيلاء من الأولى ، صار مؤلياً من الثانية ، لأن الطلاق يصح بالكناية . ولو قال : أنت علي كظهر أمي ، ثم قال للأخرى : شركتك معها ، كان مظاهراً منهما ، لأن الظهار تحريم ، فصح بالكناية كالطلاق . وهل يفتقر إلى نية ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يفتقر إليها لأن التشريك لا بد أن يقع في شيء يوجب صرفه إلى المذكور كجواب السؤال .
والثاني : يفتقر إليها ذكره أبو الخطاب ، لأنه ليس صريح في الظهار ، فافتقر إلى النية ، كسائر كناياته .
فصل :
ولا يطالب المؤلي بشيء قبل أربعة أشهر ، للآية . وابتداء المدة من حين اليمين ، لأنها تثبت بالنص والإجماع ، فلم تفتقر إلى حاكم ، كمدة العدة . فإن كان بالمرأة عذر يمنع الوطء ، كصغر أو مرض أو نشوز أو جنون أو إحرام أو صوم فرض ، أو اعتكاف فرض ، لم يحتسب عليه بمدته ، لأن المنع منها . وإن طرأ منه شيء ، انقطعت المدة ، لأنها إنما ضربت لامتناع الزوج من الوطء ، ولا امتناع منه مع العذر ، ويستأنف المدة عند زوال العذر ، لأن من شأنها أن تكون متوالية ، ويحتسب بمدة الحيض ، لأنه عذر معتاد لا ينفك منه ، فلو قطع المدة ، سقط حكم الإيلاء ، وكذلك لا يقطع التتابع في الصيام . وفي النفاس وجهان :
أحدهما : هو كالحيض ، لأنه مثله في أحكامه .
والثاني : هو كالمرض ، لأنه عذر نادر ، أشبه المرض . وإن كان بالزوج عذر ، حسبت عليه مدته ، ولم يقطع المدة طريانه ، لأن الامتناع من جهته ، والزوجية باقية ، فحسبت عليه المدة . وإن آلى من الرجعية ، احتسب عليه المدة . ذكره ابن حامد . وإن طرأ الطلاق الرجعي ، لم يقطع المدة ، لأن الرجعية مباحة ، ويحتمل أن تنقطع إذا قلنا بتحريمها . وغن طلقها طلاقاً بائناً ،انقطعت المدة ، لأنها حرمت عليه ، فإذا تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر ، استؤنفت المدة ، سواء كان الطلاق في المدة ، أو بعدها .
فصل :
وإن وطئها ،حنث وسقط الإيلاء ، لزوال اليمين والضرر عنها ، سواء وطئها يقظانة ، أو نائمة أو عاقلة أو مجنونة . وهكذا إن وطئها في حيض ، أو نفاس ، أو إحرام ، أو صيام ، أو ظهار ، لما ذكرنا . وقال أبو بكر : قياس المذهب ألا يخرج من حكم الإيلاء ، بالوطء الحرام ، لأنه لا يؤمر به في الفيئة ، فهو كالوطء في الدبر ، والأول أولى ، لأن اليمين تنحل به ، فيزول الإيلاء بزوالها . وإن وطئها وهو مجنون ، لم يحنث ، لأن القلم عنه مرفوع ، ويسقط الإيلاء ، لأنه وفاها حقها ،، ويحتمل ألا يسقط ، لأن حكم اليمين باق ، ولو أفاق ، لمنعته اليمين الوطء . وقال أبو بكر : يحنث وينحل الإيلاء ، لأنه فعل ما حل عليه . وإن وطئها ، ناسياً فهل يحنث ؟ على روايتين . أصحهما: لا يحنث . فعلى هذا هل يسقط الإيلاء ؟ على وجهين كما ذكرنا في المجنون . وإن استدخلت ذكره وهو نائم ، لم يحنث ، لأنه ما وطئ ، وهل يسقط الإيلاء ؟ على وجهين ، لما ذكرنا. وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة تغييب الحشفة في الفرج ، لأن أحكام الوطء تتعلق به ، وإن وطئها في الدبر ، أو دون الفرج ، لم يعتد به ، لأن الضرر واليمين لا يزولان به .
فصل :
وإذا وطء لزمته الكفارة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه متفق عليه . وإن كان الإيلاء بتعليق عتق ، أو طلاق ، وقع ، لأنه معلق على شرط قد وجد . وإن كان على نذر ، خير بين الوفاء به والتكفير ، لأنه نذر لجاج ، وهذا حكمه . وإن كان معلقاً على طلاق ثلاث ، لم يحل له الوطء ، لأنه آخره يقع في أجنبية، ويوقع طلاق البدعة من وجهين جمع الثلاث، ووقوعه بعد الإصابة، وذكر القاضي : أن كلام أحمد يقتضي روايتين . فإن وطئ فعليه النزع حين يولج، لأن الحنث حصل به فصارت أجنبية ، فإذا فعل هذا ، فلا حد عليه ، ولا مهر ، لأنه تارك للوطء ، وإن لبث أو أتم الإيلاج ، فلا حد أيضاً . لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجة ، وفي المهر وجهان :
أحدهما : يجب ، لأنه وطء في محل غير مملوك ، أشبه ما لو وطئ بعد النزع .
والثاني : لا يجب ، لأنه إيلاج في محل مملوك ، فكان آخره تابع له في سقوط المهر ،ويلحق النسب به . وإن نزع ، ثم أولج وهما عالمان بالتحريم ، فهما زانيان زنا لا شبهة فيه ، فعليهما الحد، ولا مهر لها إذا كانت مطاوعة. وإن كانت مكروهة، أو جاهلة بالتحريم، فلا حد عليها ، ولها عليه المهر . وإن جهلا التحريم معاً ، فلا حد ، ويجب لها المهر ، ويلحقه النسب . وإن قال : إن وطئتك ، فأنت علي كظهر أمي ، فقال أحمد : لا يطأ حتى يكفر ، يريد أنه إذا وطئها مرة ، لم يكن له أن يطأها ثانياً ، حتى يكفر ، لأنها لم تصير محرمة عليه بالظهار ، فأما قبل ذلك ، فلا يصح منه التفكير ، لأنه لا يجوز تقديم الكفارة على سببها .
فصل :
وإن انقضت المدة ولم يطأ ، فلها المطالبة بالفيئة ، أو الطلاق ، لقوله تعالى : {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} فإن سكتت عن المطالبة ، لم يسقط حقها وإن عفت عنها ، سقط حقها في أحد الوجهين ، كما لو عفت امرأة العنين . والآخر لا يسقط ، ولها الرجوع ، والمطالبة ، لأنها ثبتت بترك الضرر بترك الوطء ، وذلك يتجدد مع الأحوال فأشبه النفقة والقسم ، وإن طلب الإمهال ، ولا عذر له ، لم يمهل ، لأن الحق حال عليه وهو قادر عليه . وإن كان ناعساً فقال : أمهلوني حتى يذهب النعاس ، أو جائعاً فقال : أمهلوني حتى أتغدى ، أو حتى ينهضم الطعام ، أو حتى أفطر من صيامي ، أمهل بقدر ، ذلك ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة ، كالدين الحال . فإن وطئها ، فقد وفاها حقها . وإن أبى ولا عذر له أمر بالطلاق إن طلبت ذلك ، فإن طلق ، وقع طلاقه الذي أوقعه ، ولا يطالب أكثر من طلقة ، لأنها تفضي إلى البينونة ، فإن امتنع ، طلق الحاكم عليه ، لأنه حق تعين مستحقه ، ودخلته النيابة ، فقام الحاكم مقامه عند امتناعه منه ، كقضاء دينه . وعن أحمد : لا تطلق عليه ولكن يحبس ويضيق عليه حتى يطلق ، لأن ما خير فيه بين شيئين ، لم يقم الحاكم مقامه فيه ، كاختيار إحدى الزوجات إذا أسلم على أكثر من أربع . فإن قلنا : إن الحاكم يملك الطلاق ، فله أن يطلق واحدة أو ثلاثاً ، ولأنه قائم مقام الزوج ، فملك ما يملكه . فإن طلق الزوج ، أو الحاكم ثلاثاً حرمت عليه ، إلا بزوج وإصابة . فإن طلق أحدهما أقل من ثلاث ، فله رجعتها . وعن أحمد أنها تكون طلقة بائنة ، لأنها شرعت لدفع الضرر الحاصل منه ، فوجب أن لا يملك رجعتها ، كالمختلعة . وعنه : أن تفريق الحاكم يحرمها على التأبيد ، لأنه تفريق حاكم ،فأشبه فرقة اللعان ، والأول أصح ، لأنه لم يستوف عدد طلاقها ، فلم تحرم على التأبيد ، كما لو طلق الزوج . وإن قال الحاكم : فرقت بينكما ، فهو فسخ للنكاح لا تحل له إلا بنكاح جديد ، نص عليه . ومتى وقع الطلاق ، ثم ارتجعها ، أو تركها ثم انقضت عدتها ، ثم تزوجها ، أو طلق ثلاثاً فتزوجت غيره ، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر ، وقف لها ، لأنه ممتنع من وطئها بيمين في حال الزوجية ، فأشبه ما لو راجعها . وإن بقي أقل من أربعة أشهر ، لم يثبت حكم الإيلاء ، لقصوره عن مدته .
فصل :
وإن انقضت المدة وهي حائض ، أو نفساء ، لم تطالب بالفيئة ، لأنها لا تستحق الوطء في هذه الحال . وإن كان مغلوباً على عقله ، لم يطالب أيضاً ، لأنه لا يصلح لخطاب ، ولا يصح منه جواب ، وإن كان مريضاً ، أو محبوساً لا يمكنه الخروج ، طولب بفيئة المعذور ، وهو أن يقول : متى قدرت جامعتها ، أو نحو ذلك ، لأن القصد بالفيئة ، ترك ما قصد من الإضرار بما أتى به من الاعتذار ، فمتى قدر على الوطء ، طولب به ، لأنه تأخر للعذر . فإن زال العذر ، طولب به ، كالدين . وهذا اختيار الخرقي . وقال أبو بكر : إذا فاء فيئة المعذور ، لم يطالب ، لأنه فاء مرة ، فلم يلزمه فيئة أخرى ، كالذي فاء بالوطء ، لا يلزمه بالفيئة باللسان كفارة ، لأنه لم يحنث . وإن كان غائباً لا يمكنه القدوم ، لخوف أو نحوه ، فاء فيئة المعذور. وإن أمكنه القدوم ، فلها أن توكل من يطالبها بالمسير إليها ، أو حملها إليه ، أو الطلاق ، وإن كان محرماً ، فاء فيئة المعذور في قول الخرقي لأنه عاجز عن الوطء ، أشبه المريض ، و يتخرج في الاعتكاف المنذور مثله . وإن كان مظاهراً ، لم يؤمر بالوطء ، لأنه محرم . ولا يحل الأمر بمعصية الله . ويقال له : إما أن تكفر ، وتفيء ، وإما أن تطلق ، فإن طلب الإمهال، ليطلب رقبة يعتقها ، أو طعاماً يشتريه ، أمهل ثلاثة أيام ، لأنها قريبة . وإن علم أنه قادر على التكفير ، وأن قصده المدافعة . لم يمهل ، لأن الحق حال عليه ، وإنما يمهل للحاجة ، ولا حاجة . وإن كان فرضه الصيام ، لم يمهل حتى يصوم ، لأنه كثير . وإن كان قد بقي عليه من الصيام مدة يسيرة ، أمهل فيها ، ويتخرج أن يفيء المظاهر فيئة المعذور ، ويمهل ليصوم كالمحرم ، فإن أراد الوطء في حال الإحرام ، أو الظهار فمنعته ، لم يسقط حقها ، لأنها منعته مما يحرم ، فأشبه ما لو منعته في الحيض . وذكر القاضي : أنه يسقط حقها ، لأنها منعته من إيفائه . وإن انقضت مدة العاجز ، لجب ، أو شلل ، ففيئته: لو قدرت ، لجامعتك ، لأنه لا قدرة له على غير ذلك .
فصل :
ومن طولب بالفيئة فقال: قد وطئتها فأنكرته ، فإن كانت ثيباً فالقول قوله ، لأن الأصل بقاء النكاح ، وعدم ما يوجب إزالته . وهل يحلف ؟ على روايتين :
إحداهما : يحلف وهو اختيار الخرقي ، لأن ما تدعيه المرأة محتمل، فوجب نفيه باليمين.
والأخرى : لا يمين عليه اختاره أبو بكر ، لأنه لا يقضى فيه بالنكول . وإن كانت بكراً ، أريت النساء الثقات ، فإن شهدن ببكارتها فالقول قولها ، لأنه يعلم كذبه ، وإلا فالقول قوله . وإن ادعى عجزه عن الوطء ، ولم يكن علم أنه عنين ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل قوله ، لأن الأصل سلامته ، فيؤمر بالطلاق .
والثاني : يقبل قوله ، لأنه لا يعرف إلا من جهته . وإن اختلفا في انقضاء المدة ، فالقول قول الزوج ، لأنه اختلاف في وقت حلفه ، فكان القول قوله فيه . وهل يحلف ؟على روايتين والله أعلم .
فصل :
وإن ترك الزوج الوطء بغير يمين ، فليس بمؤل ، لأن الإيلاء من شرطه الحلف ، فلا يثبت بدونه ، لكن إن تركه مضراً بها لغير عذر ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه شيء ، لأنه ليس بمؤل ، فلا يثبت له الحكم ، كما لو تركه لعذر ، ولأن تخصيص الإيلاء بحكمه يدل على أنه لا يثبت بدونه .
والثانية : تضرب له مدة الإيلاء ، وتوقف بعدها كالمؤلي سواء ، لأنه تارك لوطئها مضراً بها ، فأشبه المؤلي ، ولأن ما لا يجب إذا لم يحلف لا يجب إذا حلف على تركه ، كالزيادة على الواجب ، وثبوت حكم الإيلاء له ، لا يمنع من قياس غيره عليه إذا كان في معناه كسائر الأحكام الثابتة بالقياس ، والله اعلم .
كتاب الظهار
وهو قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، أو ما أشبهه ، وهو محرم لقول الله تعالى : {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} ويصح من كل زوج يصح طلاقه ، لأنه قول يختص النكاح ، أشبه الطلاق ، إلا الصبي فلا يصح منه ، لأنه يمين موجبة للكفارة، أشبه اليمين بالله وقال القاضي : ظهاره كطلاقه، لما ذكرناه أولاً . ويصح ظهار الذمي ، لأنه مكلف يصح طلاقه ، فصح ظهاره ، كالمسلم. ولا يصح ظهار السيد من أمته، لقول الله تعالى: {من نسائهم} فخص به الزوجات ، فإن ظاهر منها، أو حرمها، فعليه كفارة يمين، كما لو حرم طعامه، وعنه: عليه كفارة ظهار . قال أبو الخطاب : ويتوجه ألا يلزمه شيء ، كما لو ظاهرت المرأة من زوجها ، فإن ظاهر من أجنبية ثم تزوجها، أو قال : كل امرأة أتزوجها هي علي كظهر أمي، ثم تزوجها ، لم تحل له حتى يكفر ، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في رجل قال : إن تزوجت فلانة ، فهي علي كظهر أمي ، ثم تزوجها قال : عليه كفارة الظهار ، ولأنها يمين مكفرة ، فصح عقدها قبل النكاح ، كاليمين بالله تعالى .
فصل :
فإن قال :أنت علي كظهر أمي، أو ظهر من يحرم عليه على التأبيد ، كجدته ، وسائر محارمه من النسب ، والرضاع ، أو المصاهرة ، فهو مظاهر ، لأنه شبهها بظهر من هي محل استمتاع ، وتحرم عليه على التأبيد ، فكان مظاهراً ، كما لو قال : أنت علي كظهر أمي . وإن شبهها بمن يحرم في حال دون حال ، كأخت زوجته ، وعمتها أو الأجنبية ، ففيه روايتان :
إحداهما : هي ظهار ، اختاره الخرقي وأبو بكر ، لأنه تشبيه بمحرم عليه ، أشبه تشبيهها بالأم .
والأخرى : ليس بظهار ، لأنه شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد ، أشبه تشبيهها بالمحرمة والصائمة . وإن قال : أنت علي كظهر البهيمة ، لم يكن مظاهراً ، لأنه ليس محلاً للاستمتاع. وإن قال : أنت علي كظهر أبي ، ففيه روايتان :
إحداهما : هو ظهار ، لأنه شبهها بمحل محرم على التأبيد . أشبه التشبيه بظهر الأم .
والأخرى : ليس بظهار ، لأنه ليس بمحل الاستمتاع ، أشبه التشبيه بالبهيمة .
فصل :
فإن قال : أنت عندي ، أو معي ، أو مني ، كظهر أمي ، فهو ظهار ، لأنه تقيد بما يفيده قوله: أنت علي كظهر أمي . وإن شبهها بعضو غير الظهر فقال : أنت علي كفرج أمي ، أو يدها أو رأسها فهو ظهار ، لأن غير الظهر ، كالظهر في التحريم ، فكذلك في الظهار به ، وإن شبه عضواً منها بظهر أمه ، أو عضواً من أعضائها فقال : ظهرك علي كظهر أمي ، أو رأسك علي كرأس أمي ، فهو مظاهر ، لأنه قول يوجب تحريم الزوجة ، فجاز تعليقه على يدها ورأسها ، كالطلاق . وما لا يقع الطلاق بإضافته إليه ، كالشعر ، والسن ، والظفر ، لا يتعلق الظهار به . لما ذكرنا .
فصل :
فإن قال : أنت علي كأمي ، أو مثل أمي ، فهو مظاهر . فإن نوى به التشبيه في الكرامة ، أو نحوها فليس بظهار ، لأنه يحتمل مقاله . وعنه : ليس بظهار حتى ينويه ، لأنه يحتمل غير الظهار ، كاحتماله إياه ، فليس يصرف إليه إلا بنية ، ككنايات الطلاق . وإن قال : أنت كأمي ، أو مثلها ، فليس بظهار إلا أن ينويه ، لأنه من غير التحريم أظهر . وقال أبو الخطاب : هي كالتي قبلها ، وهكذا يتخرج في قوله : رأسك كرأس أمي ، أو يدك كيدها ، وما أشبه ، وقياس المذهب ، أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار ، مثل أن يخرجه مخرج اليمين ، كقوله : إن خرجت من الدار ، فأنت علي كأمي ، وشبهه ، فهو ظهار ، لأن القرينة صارفة إليه ، وإلا لم يكن ظهاراً ، لتردد الاحتمالات فيه . وإن قال : أنت حرام كأمي ، فهو صريح في الظهار ، لأنه لا يحتمل سوى التحريم .
فصل :
وإن قال: أنت طالق كظهر أمي، طلقت، ولم يكن ظهاراً ، لأنه أوقع الطلاق صريحاً ، فوقع ، وبقي قوله : كظهر أمي ، غير متعلق بشيء ، فلم يقع . فإن نوى به الطلاق والظهار معاً ، فهو ظهار وطلاق . وإن نوى بقوله : أنت طالق : الظهار ، لم يكن ظهاراً ، لأنه صريح في موجبه ، فلم ينصرف إلى غير النية ، كما لو نوى بقوله : أنت علي كظهر أمي ، الطلاق .
فصل :
ويصح الظهار مؤقتاً ، كقوله : أنت علي كظهر أمي شهراً ، لما روى سلمة بن صخر قال : ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة ، إذ انكشف منها شيء ،فلم ألبث أن نزوت عليها ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر ، فقال : حرر رقبة رواه أبو داود . ولأنه يمين مكفرة صح توقيتها ، كاليمين بالله تعالى . فإذا مضى الوقت ، مضى حكم الظهار . ويجوز تعليقه بشرط ، كدخول الدار لذلك ، فإذا وجد الشرط ، ثبت حكم الظهار ، وإن قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله ، لم يصر مظاهراً لما ذكرناه.
فصل :
وإذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي ، لم تكن مظاهرة ، لقول الله تعالى : {والذين يظاهرون من نسائهم} فعلقه على الزوج ، ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة ، يملك الزوج رفعه ، فاختص الرجل ، كالطلاق . وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات :
إحداهن : عليها كفارة الظهار ، لما روى إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير ، هو علي كظهر أبي ، فسألت أهل المدينة ، فرأوا : أن عليها الكفارة . رواه الأثرم . ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور بهذا اللفظ ، فلزمتها كفارة الظهار ، كالرجل .
والثانية : لا شيء عليها ، لأنه تشبيه غير الظهار ، فلم يوجب الكفارة ، كقولها : أنت علي كظهر البهيمة .
والثالثة : عليها كفارة يمين ، أومأ إليها بقوله : قد ذهب عطاء مذهباً ، جعلها بمنزلة من حرم على نفسه شيئاً من الطعام ، وهذا أقيس في مذهبه ، لأنه تحريم لحلال غير الزوجة ، فأوجب كفارة يمين ، كتحريم الأمة ، وعليها التمكين قبل الكفارة ، لأنه حق عليها ، فلا يسقط بيمينها ، ولأنه قول غير الظهار ، فوجب للكفارة ، فأشبه اليمين بالله تعالى .
فصل :
وإذا صح الظهار ، ووجد العود ، وجبت الكفارة ، لقول الله تعالى : {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} والعود : هو الوطء في ظاهر كلام أحمد و الخرقي قال أحمد : العود : هو الغشيان ، لأن العود في القول فعل ضد ما قال ، كما أن العود في الهبة ، هو استرجاع ما وهب ، فالمظاهر : منع نفسه غشيانها ، فعوده في قوله غشيانها . وقال القاضي وأصحابه : العود : العزم على الوطء ، لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود قبل التماس بقوله سبحانه : {ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير لقوله سبحانه : {من قبل أن يتماسا} فإن وطأ قبله ، أثم ، واستقرت الكفارة عليه ، ولم يجب عليه أكثر منها ، لحديث سلمة حين وطئ ، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من كفارة ، وتحريمها باق حتى يكفر ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة: ما حملك على ما صنعت ؟ قال رأيت بياض ساقها في القمر ، قال : فاعتزلها حتى تكفر .
وأما قبل الوطء فلا كفارة عليه . وإنما أمر بها لكونها شرطاً لحل الوطء، كاستبراء الأمة المشتراة . فإن فات الوطء بموت أحدهما ، أو فرقتهما ، فلا كفارة عليه لذلك . وإن عاد فتزوجها ، لم تحل له ، حتى يكفر . وقال أبو الخطاب : إن كانت الفرقة بعد العزم ، فعليه الكفارة . وهذا مقتضى قول من وافقه . وقد صرح أحمد بإنكاره ، وكذلك قال القاضي : لا كفارة عليه .
فصل :
وفي التلذذ بالمظاهر منها قبل التكفير بما دون الجماع ، كالقبلة واللمس روايتان :
إحداهما : يحرم ، لأن ما حرم الوطء من القول ،حرم دواعيه ، كالطلاق .
والثانية : لا تحرم ، لأنه تحريم يتعلق بالوطء ، فيه كفارة ، فلم يتجاوز الوطء ، كتحريم الحيض ، ولأن المسيس هنا كناية عن الوطء ، فيقتصر عليه .
فصل :
وإذا ظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات ، فعليه لكل واحدة كفارة ، لأنها أربع أيمان في محال مختلفة ، فأشبه ما لو وجدت في أربعة أنكحة . قال ابن حامد و القاضي : هذا المذهب رواية واحدة . وقال أبو بكر : فيه رواية أخرى : يجزئه كفارة واحدة ، لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ، ولأن الكفارة حق الله تعالى ، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد . وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة ، فكفارة واحدة ، رواية واحدة ، لما روى ابن عباس : أن عمر سئل عن رجل ظاهر من نسوة ، فقال : يجزئه كفارة واحدة . ولأنها يمين واحدة فلم توجب أكثر من كفارة ، كاليمين بالله تعالى . وإن ظاهر من امرأة مراراً ولم يكفر ، فكفارة واحدة في ظاهر المذهب ، لأن اليمين الثانية لم تؤثر تحريماً في الزوجة ، فلم يجب بها كفارة الظهار ،كاليمين بالله . وعن أحمد : ما يدل على أنه إن نوى بالثانية الاستئناف ، وجب بها كفارة ثانية ، لأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة ، فإذا نوى به الاستئناف ، تعلق به حكم ، كالطلاق ، والمذهب الأول . فأما إن كفر عن الأولى ، فعليه للثانية كفارة واحدة رواية واحدة ، لأنها أثبتت في المحل تحريماً ، أشبهت الأولى . وإن قال : كل امرأة أتزوجها ، فهي علي كظهر أمي ، ثم تزوجت نساء في عقد واحد ، فكفارة واحدة . وإن تزوجهن في عقود ، فكذلك في إحدى الروايتين ، لأنها يمين واحدة . والأخرى : لكل عقد كفارة . فلو تزوج امرأتين في عقد ، وأخرى في عقد ، لزمته كفارتان ، لأن لكل عقد حكم نفسه ، فتعلق بالثاني كفارة ، كالأول .
فصل :
وإن ظاهر من زوجته الأمة ، ثم ملكها ، فقال الخرقي : لا يطؤها حتى يكفر ، يعني : كفارة الظهار ، لقول الله تعالى : {الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} . وقال أبو بكر عليه كفارة يمين لا غير ، لأنها خرجت عن الزوجات ، فلم يجب بوطئها كفارة ظهار ، كما لو تظاهر منها وهي أمة ، فإن أعتقها عن كفارته ، جاز . فإذا تزوجها بعد ذلك ، لم يعد حكم الظهار . والله تعالى أعلم .
باب كفارة الظهار
الواجب فيه تحرير رقبة ، فمن لم يجد ، فصيام شهرين متتابعين ، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ، لقول الله تعالى : {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} . وروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة . قالت : تظاهر مني أوس بن الصامت ،فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ، فما برحت حتى نزل القرآن. {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعتق رقبة قلت : لا يجد ، قال : فيصوم شهرين متتابعين قلت : يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : فليطعم ستين مسكيناً فمن ملك رقبة ، أو كمالاً يشتري به رقبة ، فاضلاً عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه ، وما لا بد له من مؤنة عياله و نحوه ، لزمه العتق ، لأنه واجد ، فإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لكبره أو لمرضه ، أو لكونه ممن لا يخدم نفسه ، أو يحتاج إليها لخدمة زوجته التي يلزمه إخدامها ، أو يتقوت بغلتها ، أو يتعلق به حاجة لا بد منها ، لم يلزمه عتقها ، لأن ما لا تستغرقه حاجته ، كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل ،كمن معه ماء يحتاج إليه للعطش في التيمم، فإن كانت فاضلة عن حاجته الأصلية ، لزمه عتقها ، لأنه مستغن عنها فإن كان ماله غائباً ، ففيه وجهان :
أحدهما : له التكفير بالصيام ، لأن عليه ضرراً في تحريم الوطء إلى حضور المال ، فكان له الصوم كالمعسر .
والثاني : لا يجزئه إلا العتق ، لأن مالك لما يشتري به رقبة ، ولأنه فاضل عن كفايته . ولو كان ذلك في كفارة القتل والجماع ، لم يكن له التكفير بالصيام ، لأنه قادر على التكفير بالعتق من غير ضرر ، فلزمه ، كمن ماله حاضر ، ويحتمل أن يجوز له الصوم ، لأنه عاجز في الحال فأشبه المظاهر .
فصل :
والاعتبار في حال وجوب الكفارة في أظهر الروايتين ، لأنها تجب على وجه التطهير ، فاعتبر فيها حال الوجوب ، كالحد .
والثانية : الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى الأداء ،فأي وقت قدر على العتق ، لزمه ، لأنه حق يجب في الذمة ، بوجود المال ، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال ، كالحج . فإن لم يقدر حتى شرع في الصيام ، لم يلزمه الانتقال إلى العتق ، لأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل ، فأشبه المتمتع يجد الهدي بعد الشروع في الصيام . وإن أحب الانتقال إليه بعد ذلك أو قبله على الرواية الأولى ، فله ذلك ، لأنه الأصل، فيجزئه كسائر الأصول ، إلا العبد إذا أعتق بعد وجوب الكفارة عليه ، فليس له إلا الصوم ، لأنه لم يكن يجزئه غيره عند الوجوب، فكذلك بعده .
فصل :
ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة ، لقول الله تعالى : {ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة} . نص على المؤمنة في كفارة القتل ، وقسنا عليها سائر الكفارات ، لأنها في معناها . وعنه : يجزئه في سائر الكفارات ذمية ، لإطلاق الرقبة فيها .
فصل :
ولا يجزئ إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً ، لأن المقصود تمليك العبد منفعته ، وتمكينه من التصرف ، ولا يحصل هذا مع العيب المذكور ، فلا يجزئ الأعمى ، لأنه يعجز عن الأعمال التي يحتاج فيها إلى البصير ، ولا الزمن ، ولا مقطوع اليد أو الرجل ، لأنه يعجز عن أعمال كثيرة ، ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى من اليد ، لأن نفعها يبطل بهذا ، ولا مقطوع الخنصر والبنصر في يد واحدة كذلك ، وقطع أنملتين من إصبع كقطعها ، لأن نفعها يذهب بذلك ، ولا يمنع قطع أنملة واحدة ، لأنها تصير كالإصبع القصيرة إلا الإبهام ، فإنها أنملتان ، فذهاب إحداهما كقطعها ، لذهاب نفعها ، وإن قطعت الخنصر من يد ، والبنصر من أخرى ، لم يمنع ، لأن نفع اليد لا يبطل به . ولا يجزئ الأعرج عرجاً فاحشاً ، لأنه يضر بالعمل ، فهو كقطع الرجل ، فإن كان عرجاً يسيراً ، أجزأ لأنه لا يضر ضرراً بيناً . ولا يجزئ الأخرس الذي لا تفهم إشارته ، فإن فهمت إشارته ، فالمنصوص أن الأخرس لا يجزئ . وقال القاضي و أبو الخطاب : يجزئ ، إلا أن يجتمع معه الصمم ، فإنهما إذا اجتمعا أضرا ضرراً بيناً . ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً ، لأنه لا يصلح لعمل ، ولا من أكثر زمنه الجنون ، لأنه يعجز عن العمل في أكثر زمنه ، فإن كان أكثره الإفاقة ، ولا يمنعه من العمل ، أجزأ لعدم الضرر البين .
فصل :
ويجزئ الأعور ، لأنه يدرك ما يدركه ذو العينين ، وأجدع الأنف والأذنين والأصم ، لأنه كغيره في العمل . ويجزئ الخصي والمجبوب كذلك ، ويجزئ المرهون والجاني والمدبر وولد الزنا كذلك ، ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ ويعتقد خطأه صواباً . ويجزئ المريض الموجود برؤه ، والنحيف القادر على العمل ، فأما ما لا يرجئ برؤه ، أو لا يقدر على العمل فلا يجزئ ، لأنه لا عمل فيه . ويجزئ عتق الغائب ، المعلوم حياته ، لأنه ينتفع بنفسه حيث كان ، وإن شك في حياته ، لم تبرأ ذمته ، لأن الوجوب ثابت بيقين ، فلا يزول بالشك ، فإن تبين أنه كان حياً ، تبينا أن الذمة برئت بعتقه .
فصل :
ولا يجزئ عتق الجنين ، لأنه لم يثبت له أحكام الرقاب ، فإن أعتق صبياً ، فقال الخرقي : لا يجزئه حتى يصلي ويصوم ، لأن الإيمان قول وعمل ، ولأنه لا يصح منه عبادة ، لفقد التكليف ، فلم يجزئ في الكفارة كالمجنون . وقال القاضي : لا يجزئ من له دون السبع في ظاهر كلام أحمد ، وقال في موضع آخر : يجزئ عتق الصغير في جميع الكفارات ، إلا كفارة القتل ، فإنها على روايتين . وقال أبو بكر وغيره : يجزئ الطفل في جميع الكفارات ، لأنه ترجى منافعه وتصرفه ، فأجزأ كالمريض المرجو . ولا يجزئ عتق مغصوب ، لأنه ممنوع من التصرف في نفسه ، فأشبه الزمن .
فصل :
ولا يجزئ عتق أم الولد في ظاهر المذهب ، لأن عتقها مستحق بسبب آخر ، فلم يجزئ كعتق قريبه ، ولأن الرق فيها غير كامل ، بدليل أنه لا يملك نقل ملكه فيها ، وعنه : تجزئ ، لأنها رقبة ، فتتناول الآية بعمومها . وفي المكاتب ثلاث روايات :
إحداهن : يجزئ مطلقاً .
والأخرى : لا يجزئ مطلقاً ، ووجهها ما ذكرنا .
والثالثة : إن أدى من كتابته شيئاً ، لم يجزئ ، لأنه حصل العوض عن بعضها ، فلم يعتق رقبة كاملة ، وإن لم يؤد شيء أجزأ ، لأنه لم يقتض عن شيء منها ، أشبه المدبر .
فصل :
وإن اشترى من يعتق عليه ينوي بشرائه العتق عن الكفارة ، عتق ولم يجزئه ، لأن عتقه مستحق في الكفارة ، فلم يجزئه ، كما لو استحق عليه الطعام بالنفقة ، فدفعه عن الكفارة . وإن اشترى عبداً بشرط العتق ، فأعتقه عن الكفارة ، لم يجزه كذلك ، وإن قال : إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي ، ثم وطئها وأعتق العبد عن ظهاره ، أجزأه ، لأنه لم يتعين عتقه عن الإيلاء، بل هو مخير بين عتقه ، وبين كفارة يمين .
فصل :
ولو ملك نصف عبد وهو موسر ، فاعتق نصيبه ، ونوى عتق الجميع عن كفارته ، لم يجزئه في قول الخلال وصاحبه ، وحكاه صاحبه عن أحمد ، لأن عتق النصيب الذي لشريكه استحق بالسراية ، فلم يجزئه ، كما لو اشترى قريبه ينوي به التكفير . وقال غيرهما : يجزئ ، لأن حكم السراية حكم المباشرة ، بدليل أنه لو جرحه فسرى إلى نفسه ، كان كمباشرة قتله ، وإن كان معسراً عتق نصيبه ، فإن ملك النصف الآخر فأعتقه عن الكفارة ، أجزأه ، لأنه أعتق جميعه في وقتين ، فأجزأ ، كما لو أطعم المساكين في وقتين . وإن أعتق نصف عبدين ، فقال الخرقي : يجزئ ، لأن أبعاض الجملة كالجملة في الزكاة والفطرة ، كذلك في الكفارة . وقال أبو بكر : لا يجزئ ، لأن المقصود تكميل الأحكام ، ولا يحصل بإعتاق نصفين ، فعلى قوله ، إذا أعتق الموسر نصف عبد ، عتق جميعه ، ولا يجزئه إعتاق نصف آخر . فإن أعتق عبده عن كفارة غيره بغير إذنه ، لم يجزئه ، لأنها عبادة ، فلم تجز عن غيره بغير أمره مع كونه من أهل الأمر ، كالحج ، إلا أن يكون ميتاً ، فيجزئ عنه ، لأنه لا سبيل إلى إذنه ، فصح من غير إذنه ، كالحج عنه . وإن أعتقه عن كفارة حي بأمره ، صح ، وأجزأ عن الكفارة إذا نواها ، لأنه أعتق عنه بأمره ، فأجزأه ، كما لو ضمن له عوضاً وعنه : لا يجزئ إلا أن يضمن له عوضاً ، لأن العتق بغير عوض كالهبة ، ومن شرطها القبض . ولم يحصل .
فصل :
ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام ، لزمه صيام شهرين متتابعين ، فإن شرع في أول شهر، أجزأ صيام شهرين بالأهلة ، تامين كانا ، أو ناقصين ، وإذا دخل في أثناء شهر ، صام شهراً بالهلال ، وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوماً لما ذكرنا فيما تقدم . فإن أفطر يوماً لغير عذر ، لزمه استئناف الشهرين ، لأنه أمكنه التتابع ، فلزمه . وإن حاضت المرأة وأنفست أو أفطرت لمرض مخيف، أو جنون، أو إغماء، لم ينقطع التتابع ، لأنه لا صنع لها في الفطر. وإن أفطر لسفر ، فظاهر كلام أحمد : أنه لا ينقطع التتابع ، لأنه عذر مبيح للفطر ، أشبه المرض . ويتخرج في السفر والمريض غير المخوف ، أنه يقطع التتابع ، لأنه أفطر باختياره ، فقطع التتابع ، كالفطر لغير عذر . وإن أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما ، فهما كالمريض ، وإن أفطرتا خوفاً على ولديهما ، احتمل أنه لا ينقطع التتابع ، لأنه عذر مبيح للفطر ، أشبه المرض ، واحتمل أن ينقطع ، لأن الخوف على غيرهما ، ولذلك أوجب الكفارة مع قضاء رمضان . ومن أكل يظن أن الفجر لم يطلع ، وقد طلع ، أو يظن أن الشمس قد غابت ، ولم تغب ، أفطر . وفي قطع التتابع ، وجهان ، بناء على ما تقدم وإن نسي التتابع ، أو تركه جاهلاً بوجوبه ، انقطع ، لأنه تتبع واجب ، فانقطع بتركه جهلاً أو نسياناً ، كالموالاة في الطهارة . وإن أفطر يوم فطر أو أضحى ، أو أيام التشريق ، لم ينقطع به التتابع ، لأنه فطر واجب أشبه الفطر للحيض ، ويكمل اليوم الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوماً ، لأنه بدأ من أثنائه . وإن صام ذا الحجة، قضى أربعة أيام ، وحسب بقدر ما أفطر ، لأنه بدأ من أوله . وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان ، لم ينقطع التتابع ، لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة ، أشبه زمن الحيض . وإن صام أثناء الشهرين عن نذر ، أو قضاء ، أو تطوعاً ، انقطع التتابع ، لأنه قطع صوم الكفارة اختياراً لسبب من جهته ، فأشبه ما لو أفطر لغير عذر . وإن كان عليه نذر في كل يوم خميس ، قدم صوم الكفارة عليه ، وقضاه بعدها و كفر ، لأنه لو صام ، لم يمكنه التكفير بحال .
فصل :
وإن وطئ التي ظاهر منها في ليالي الصوم ، لزمه الاستئناف ، لقول الله تعالى : {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} . أمر بهما خاليين عن التماس ، ولم يوجد ، وعنه : لا ينقطع التتابع ، لأنه وطء لا يفطر به . فلم يقطع التتابع، كوطء غيرها ، وإن وطئ غيرها ليلاً ، لم ينقطع التتابع ، لأنه غير ممنوع منه ، وإن وطئها نهاراً ناسياً أفطر ، وانقطع التتابع وعنه : لا يفطر ولا ينقطع التتابع به .
فصل :
ومن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض غير مرجو الزوال ، أو شبق شديد أو نحوه ، لزمه إطعام ستين مسكيناً ، لأن سلمة بن صخر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة شبقه ، أمره بالإطعام ، وأمر أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته : إنه شيخ كبير ما به من صيام . فإن قدر على ستين مسكيناً لم يجزئه أقل منهم ، وعنه : يجزئه ترديد الإطعام على واحد ستين يوماً ، لأنه في معنى إطعام ستين مسكيناً ، لكونه قد دفع في كل يوم حاجة مسكين ، وعنه : لا يجزئه إلا إطعام ستين مسكيناً ، سواء وجدهم أو لم يجدهم ، لظاهر قوله : {فإطعام ستين مسكيناً} . والمذهب أن ذلك يجزئ مع تعذر المساكين للحاجة ، ولا يجزئ مع وجودهم ، لأنه أمكن امتثال الأمر بصورته ومعناه .
فصل :
والواجب أن يدفع إلى مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ، لما روى الإمام أحمد : بإسناده عن أبي يزيد المدني قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمظاهر : أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر وهذا نص ، ولأنها كفارة تشتمل على صيام و إطعام ، فكان منها لكل فقير من التمر نصف صاع ، كفدية الأذى . وأما المد من البر، فيجزئ ، لأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ويجب أن يملك كل فقير هذا القدر، فإن دفعه إليهم مشاعاً ، فقال : هذا بينكم بالسوية ، فقبلوه ،أجزأه لأنه دفع إليهم حقهم ، فبرئ منه كالدين . وقال ابن حامد : يجزئه ، وإن لم يقل بالسوية ، لأن قوله : عن كفارتي يقتضي التسوية ، وإن غداهم أو عشاهم ستين مداً ، ففيه روايتان : أحدهما : يجزئ لقول الله تعالى : {فإطعام ستين مسكيناً} . وهذا قد أطعمهم ، ولأن أنساً فعل ذلك ، وظاهر المذهب أنه لا يجزئ ، لأنه لا يعلم وصول حق كل فقير إليه ، ولأنه حق وجب للفقراء شرعاً ، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة ، ولا يجب التتابع في الإطعام لأن الأمر به مطلق لا تقيد فيه .
فصل :
ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة ، سواء كانت قوت بلده أو لم تكن ، وإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه ، ذكره أبو الخطاب ، لقول الله تعالى : {من أوسط ما تطعمون أهليكم} ، فإن أخرج غير قوت بلده ، خيراً منه ، جاز لأنه زاد على الواجب ، وإن كان أنقص منه ، لم يجزئ وقال القاضي : لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة لأنه إطعام للمساكين ، فأشبه الفطرة ، والأول أجود ، لموافقته ظاهر النص ، ويجوز إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مد من الحنطة ، وفي الخبز روايتين :
إحداهما : يجزئه ، لقول الله تعالى : {فإطعام ستين مسكيناً} . ومخرج الخبز قد أطعمهم ، والأخرى لا يجزئه ، لأنه قد خرج عن حال الكمال ، والادخار ، فأشبه الهريسة ، فإذا قلنا : يجزئه، اعتبر أن يكون من مد بر فصاعداً ، فإن أخذ مد حنطة فطحنه وخبزه ، أجزأه . وقال الخرقي : لكل مسكين رطلا خبز ، لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مد فأكثر ، وفي السويق وجهان ، بناء على الروايتين في الخبز ، ولا تجزئ الهريسة والكبولاء ، لأنه خرج عن الاقتيات المعتاد ، ولا القيمة ، لأنه أحد ما يكفر به ، فلم تجزئ القيمة فيه ، كالعتق .
فصل :
ولا يجوز صرفها إلا إلى الفقراء ، والمساكين ، لأنهما صنف واحد في غير الزكاة ، ولا يجوز دفعها إلى غني ، وإن كان من أصناف الزكاة ، لأن الله تعالى ، خص بعها المساكين ، ولا إلى مكاتب كذلك ، وقال الشريف أبو جعفر : يجوز دفعها إليه ، لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته ، فأشبه المسكين ، والأول أولى ، لأن الله تعالى خص بها المساكين ، والمكاتب صنف آخر ، فأشبه المؤلفة . ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع الزكاة إليه ، كالعبد والكافر ، ومن تلزمه مؤنته لما ذكرنا في الزكاة . وخرج أبو الخطاب وجهاً آخر ، في جواز الدفع إلى الكافر ، بناء على عتقه ، ولا يصح ، لأنه كافر ، فلم يجز الدفع إليه كالمستأمن .
فصل:
ولا تجزىء كفارة إلا بالنية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة ، فافتقر إلى النية كالزكاة ، فإن كانت عليه كفارات من جنس ، لم يلزمه تعيين سببها ، وإن كانت من أجناس ، فكذلك ، لأنها كفارات ، فلم يجب تعيين سببها ، كما لو كانت من جنس ، وقال القاضي : يحتمل أن يلزمه تعيين سببها ، لأنها عبادات من أجناس ، فوجب تعيين النية لها ، كأنواع الصيام ، فلو كانت عليه كفارة لا يعلم سببها ، فأعتق رقبة ، أجزأه على الوجه الأول ، وعلى الوجه الثاني ، ينبغي أن تلزمه كفارات بعدد الأسباب ، كما لو نسي الصلاة من يوم لا يعلم عينها ، ولا يلزم نية التتابع في الصيام ، لأن العبادة هي الصوم ، والتتابع شرط فيه ، فلم تجب نيته ، كالاستقبال في الصلاة.
فصل :
وإن كان المظاهر كافراً ، كفر بالعتق والإطعام ، لأنه يصح منه من غير الكفارة ، فصح منه فيها ، ولا يكفر بالصوم ، لأنه لا يصح منه في غيرها ، فكذلك فيها ، وإن أسلم قبل التكفير ، كفر بما يكفر به المسلمون .
فصل :
ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها ، لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه كتقديم الزكاة قبل الملك ، ولو كفر عن الظهار قبل المظاهرة ، أو عن يمين قبلها ، أو عن القتل قبل الجرح ، لم يجز كذلك ، وإن كفر بعد السبب ، وقبل الشرط ، جاز ، فإذا كفر عن الظهار بعده وقبل العود ، وعن اليمين بعدها وقبل الحنث ، وعن القتل بعد الجرح وقبل الزهوق ، جاز ، لأن الله تعالى قال: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفر عن يمينك ، وأت الذي هو خير ولأنها كفارة فجاز تقديمها على شرطها، ككفارة الظهار ، ولأنه حق مالي ، فجاز تقديمه قبل شرطه ، كالزكاة .
كتاب اللعان
ومتى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى ، من قبل أو دبر ، فقال : زنيت ، أو يا زانية ، أو رأيتك تزنين ، لزمه الحد ، إلا أن يأتي ببينة ، أو يلاعنها ، لقول الله تعالى : {والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة} إلى قوله تعالى : {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} . دلت الآية الأولى على وجوب الحد ، إلا أن يسقطه بأربعة شهداء .
والثانية : على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما : أن هلال ابن أمية قذف امرأته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : البينة ، وإلا حد في ظهرك فقال هلال : والذي بعثك بالحق ، إني لصادق ، ولينزلن الله من أمري ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزلت : {والذين يرمون أزواجهم} . رواه البخاري . ولأن الزوج يبتلي بقذف امرأته ، لنفي العار والنسب الفاسد ، وتتعذر عليه البينة ، ولأنه قد يحتاج إلى نفي النسب الفاسد ، ولا ينتفي إلا باللعان ، لتعذر الشهادة على نفيه ، وله الملاعنة ، وإن قدر على البينة كذلك ، ولأنهما حجتان ، فملك إقامة أيهما شاء ، كالرجلين ، و الرجل والمرأتين في المال .
فصل :
ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته ، لأن الحق لها ، فلا يستوفى من غير طلبها ، كالدين ، فإن عفت عن الحد ، أو لم تطالب ، لم تجز مطالبته ببينة ولا حد ولا لعان ، ولا يملك ولي المجنونة ، والصغيرة وسيد الأمة ، المطالبة بالتعزيز من أجلهن ، لأنه حق ثبت للتشفي ، فلا يقوم غير المستحق مقامه فيه ، كالقصاص . فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها ، وليس بينهما نسب يريد نفيه ، لم يملك ذلك ، لأنه لا حاجة إليه ، وإن كان بينهما نسب يريد نفيه ، فله أن يلاعن ، لأنه محتاج إليه ، فيشرع كما لو طالبته ، ولأن نفيه حق له ، فلا يسقط برضاها به ويحتمل ألا يشرع اللعان ، كما لو صدقته .
فصل :
ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين ، لعموم قوله تعالى : {والذين يرمون أزواجهم} ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف ، ونفي النسب الباطل ، والكافر والعبد كالمسلم الحر فيه ، وعنه : لا يصح اللعان إلا بين مسلمين ، عدلين حرين غير محدودين في قذف ، لأن اللعان شهادة ، بدليل قول الله تعالى : {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، فشهادة أحدهم ، أربع شهادات} فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة ، وقال القاضي :من لا يحد بقذفها كالذمية والأمة ، والمحدودة في الزنا ، إن كان بينهما ولد يريد نفيه ، فله اللعان لنفيه ، لأنه محتاج إليه ، وإلا فلا لعان بينهما لأن اللعان لإسقاط حد ، أو نفي نسب ، ولم يوجد واحد منهما . وإن كان أحد الزوجين صبياً ، أو مجنوناً فلا لعان بينهما ، لأن غير المكلف لا حكم لقوله ، ونفي حكم الولد ، إنما يحصل بتمام اللعان ، ولا يتم اللعان مع عدم القول منها . وقال القاضي : له لعان المجنونة ، إن كان ثم نسب يريد نفيه ، لأنه محتاج إليه ، فإن كان أحدهما أخرس وليست له إشارة مفهومة ، ولا كتابة ، فهو كالمجنون . لأنه لا يعلم طلبها ، ولا يتصور لعانهما . وإن كان له إشارة مفهومة، أو كتابة ، صح اللعان منهما ، لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه ، فكذلك في لعانة ، وعن أحمد إذا كانت المرأة خرساء ، فلا لعان بينهما ، لأنه لا يعلم طلبها ، فيحتمل أن يحمل على عمومه في كل خرساء ، لأن إشارتها لا تخلو من تردد و احتمال . والحد يدرأ بالشبه ، ويحتمل أن يختص بمن لا تفهم إشارتها ، لأنه علل بأنها لا تفهم مطالبتها . وإن اعتقل لسان الناطق ، و أيس من نقطة ، فهو كالأخرس ، وإن رجي نطقه ، لم يصح لعانه ، لأنه غير مأيوس من نقطة ، فأشبه الساكت .
فصل :
ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول ، لعموم قوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم} . وبعد الطلاق الرجعي ، لأن الرجعية زوجته ، فتدخل في العموم ، ولا يصح من غير الزوجين ، للآية . فإن قذف من كانت زوجته ، فبانت منه بزنا ، لم يضفه ، إلى حال الزوجية ، فلا لعان بينهما ، لأنه قذف أجنبية ، وإن أضافه إلى حال الزوجية ، وبينهما ولد يريد نفيه ، لاعن لنفيه ، لأنه محتاج إليه فصح منه ، كحال الزوجية . وإن لم يكن بينهما ولد ، حد ، ولم يلاعن ، لأنه لا حاجة به إليه ، فأشبه قذف الأجنبية . ولو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثاً يا زانية ، فنص أحمد : على أنه يلاعن ، فنحمله على من بينهما ولد ، لأنه يتعين إضافة قذفها إلى حال الزوجية . ولو نكح امرأة نكاحاً فاسداً ثم قذفها ، فالحكم فيها كالمطلقة . إن كان بينهما ولد ، لاعن لنفيه ، وإلا فلا ، لأن النسب يلحق في النكاح الفاسد ، فيحتاج إلى اللعان لنفيه ، وإن قذف أجنبية ثم تزوجها ، حد ، ولم يلاعن ، لأنه قذف أجنبية قذفاً لا حاجة به إليه . وإن قذفها بزنا ، أضافه إلى ما قبل ، النكاح ، فإن كان يتعلق به نفي نسب عنه ، فله اللعان ، وإلا فلا . ونقل عن أحمد في هذا روايتان :
إحداهما : لا يلاعن ، لأنه قذفها في حال كونها أجنبية ، أشبه ما لو قذفها قبل نكاحه لها .
والثانية : يشرع اللعان ، لأنه قذف زوجته .
باب صفة اللعان
وصفته : أن يقول الرجل بمحضر من الحاكم أو نائبه : أشهد بالله أني لمن الصادقين ، فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ، ويشير إليها إن كانت حاضرة ، وإن كانت غائبة سماها ، ونسبها حتى تنتفي المشاركة ، ثم يقول : وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا ، ثم تقول المرأة أربع مرات : أشهد الله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وتشير إليه ، فإن كان غائباً سمته ، ونسبته ، ثم تقول : وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا ، لقول الله تعالى : {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} . الآيات .
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس : أن هلال بن أمية قذف امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت ، فتلا عليهم آية اللعان ، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، فقال هلال : والله لقد صدقت عليها ، فقالت : كذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاعنوا بينهما فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كانت الخامسة قيل : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال : والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها ، فشهد الخامسة ، أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم قيل لها: اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل لها : اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة ، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا بيت لهما من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا متوفى عنها .
فصل :
وشروط صحة اللعان ستة :
أحدها أن يكون بمحضر من الحاكم ، أو نائبه ، لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم ، كسائر الدعاوى ، وإن كانت المرأة برزة أرسل إليها فأحضرها ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة هلال . وإن لم تكن برزة ، بعث من يلاعن بينهما ، كما يبعث من يستخلفها في سائر الدعاوى .
الثاني : أن يأتي به بعد إلقائه عليه ، فإن بادر به قبل ذلك ، لم يعتد به ، كما لو حلف قبل أن يستحلفه الحاكم .
الثالث : كمال لفظاته الخمس . فإن نقص منها شيئاً ، لم يعتد به لأن الله علق الحكم عليها ، فلا يثبت بدونها ، ولأنها بينة ، فلم يجز النقص من عددها ، كالشهادة .
الرابع : الترتيب على ما ورد به الشرع . فإن بدأ بلعان المرأة ، لم يعتد به ، لأنه خلاف ما ورد به الشرع ، ولأن لعان الرجل بينة ، للإثبات ، ولعان المرأة بينة للإنكار ، فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات . فإن قدم الرجل اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة ، أو المرأة الغضب على شيء منها ، لم يعتد بها ، لأن الله تعالى جعلها الخامسة ، فلا يجوز تغييره .
الخامس : الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع ، فإن أبدل الشهادة ببعض ألفاظ اليمين ، كقوله : أقسم ، أو أحلف ، أو أولي ، أو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد ، أو الغضب بالسخط ، أو غيره ، لم يعتد به ، لأنه ترك المنصوص ، ولأنه موضع ورد الشرع فيه بلفظ الشهادة فلم يجز إبداله ، كالشهادة في الحقوق . وفيه وجه آخر : أنه يجزئ ، لأن معناهما واحد . وقال الخرقي : يقول الرجل : اشهد بالله لقد زنت ، وليس هذا لفظ النص ، فيدل ذلك على أنه لم يشترط اللفظ . وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة ، لم يجز ، لأن الغضب أغلظ ، ولذلك خصت به المرأة ، لأن المعرة والإثم بزناها أعظم من الحاصل بالقذف . وإن أبدل الرجل اللعنة بالغضب ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز ، لمخالفته المنصوص .
والثاني : يجوز ، لأنه أبلغ في المعنى .
السادس : الإشارة من كل واحد إلى صاحبه ، إن كان حاضراً . أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائباً ، ليحصل التميز عن غيره . وقال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله : الفقهاء يشترطون أن يزاد : فيما رميتها به من الزنا ، وفي نفيها عن نفسها : فيما رماني به من الزنا ، ولا أراه يحتاج إليه ، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ، ولم يذكر هذا ، ولم يأت بالخبر في صفة اللعان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتراطه زيادة .
فصل :
ويشترط في اللعان : العربية لمن يحسنها ، ولا يصح بغيرها ، لأن الشرع ورد به بالعربية ، فلم يصح بغيرها ، كأذكار الصلاة . وإن لم يحسن العربية ، جاز بلسانه ، لأنه يحتاج إليها ، فجاز بلسانه ، كالنكاح . فإن عرف الحاكم لسانه ، أجزأ ، وإن لم يعرف لسانه ،أحضر عدلين يترجمان عنه ، ولا يقبل أقل منهما ، لأنه بمنزلة الشهادة عليه .
فصل :
فإن كان بينهما ولد يريد نفيه ، لم ينتف إلا بذكره في اللعان . فإن لم يذكره ، أعاد اللعان وهذا قول الخرقي ، واختاره القاضي .و قال أبو بكر : لا يحتاج إلى ذكره ، وينتفي بزوال الفراش ، لأن حديث سهل بن سعد وصف فيه اللعان ، ولم يذكر فيه الولد . وقال فيه :ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ، ولا يرمى ولدها . رواه أبو داود . والأول أصح ، لأن ابن عمر قال : لاعن رجل امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وألحق الولد بالمرأة متفق عليه والزيادة في الثقة مقبولة . ولأن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه ، كالزوجة . وتذكره المرأة في لعانها ، لأنهما يتحالفان عليه ، فاشترط ذكره في تحالفهما ، كالمختلفين في الثمن ، ويحتمل أن لا يشترط ذكرها له لأنها لا تنفيه . والأول المذهب . ولا بد من ذكره في كل لفظة ، فإذا قال : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ، يقول : وما هذا الولد ولدي ، وتقول هي : هذا الولد ولده ، في كل لفظة . وذكر القاضي : أنه يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا وليس مني لئلا يعني بقوله : ليس مني خلقاً وخلقاً ، ولا يكفيه قوله : هو من الزنا ، لأنه قد يعتقد الوطء في النكاح الفاسد زنا ، والصحيح الأول ، لأنه نفى الولد ، فينتفي عنه كما لو قال ذلك .
فصل :
ويسن في اللعان أربعة أمور :
أحدها : أن يتلاعنا قياماً ، لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس ، فقال هلال ، فشهد ، ثم قامت فشهدت ، ولأن فعله في القيام أبلغ في الردع .
الثاني : أن يكون بمحضر من جماعة ، لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد ، حضروه مع حداثة أسنانهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يحضر الصبيان تبعاً للرجال، ولأن اللعان بني على التغليظ ، للردع والزجر ، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك .
والثالث : أن يعظهما الحاكم بعد الرابعة ويخوفهما ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس .
والرابع : أن يضع رجل يده على الملاعن بعد الرابعة ، يمنعه المبادرة إلى الخامسة ، إلى أن يعظه الحاكم ، ثم يرسلها ، وتفعل امرأة بالملاعنة بعد رابعتها كذلك، لما روى ابن عباس في خبر المتلاعنين قال : : فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ثم أمر به فأمسك على فيه ، فوعظه وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله ، ثم أرسل فقال : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم دعا بها فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : ويلك كل شيء أهون عليك من غضب الله . أخرجه الجوزجاني .
فصل :
ولا يسن التغليظ بزمن ولا مكان ، لأنه لم يرد به أثر ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما دل الحديث على لعانهما كان في صدر النهار ، لقوله في الحديث : فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث . والغدو إنما يكون أول النهار . وقال أبو الخطاب : يستحب التغليظ بهما ، فيتلاعنان بعد العصر، لقول الله تعالى : {تحبسونهما من بعد الصلاة} يعني : بعد العصر ، ويكون في الأماكن الشريفة عند المنابر في الجامع ، إلا في مكة بين الركن والمقام ، وفي المسجد الأقصى عند الصخرة ، لأنه أبلغ في الردع والزجر ، ولله الحمد والمنة .
باب ما يوجب اللعان من الأحكام
وهي أربعة أحكام :
أحدها : سقوط الحد ، أو التعزير الذي أوجبه القذف ، لأن هلال بن أمية قال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها ، ولأن شهادته أقيمت مقام بينة مسقطة للحد ، كذلك لعانه ، ويحصل هذا بمجرد لعانه كذلك . وإن نكل عن اللعان ، أو عن تمامه ، فعليه الحد . فإن ضرب بعضه ، ثم قال : أنا ألاعن ، سمع ذلك منه ، لأن ما أسقط جميع الحد ، أسقط بعضه ، كالبينة . ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها ، سمعت منها كالرجل . وإن قذف امرأته برجل سماه ، سقط حكم قذفه بلعانه ، وإن لم يذكره فيه ، لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء ، ولم يذكره في لعانه ، ولم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عزره له . ولأن اللعان بينة في أحد الطرفين ، فكان بينة في الآخر كالشهادة . وقال أبو الخطاب : يلاعن ، لإسقاط الحد لها وللمسمى .
فصل :
الحكم الثاني : نفي الولد . وينتفي عنه بلعانه على ما ذكرناه لما ذكرنا من الحديث فيه ، ولأنه أحد مقصودي اللعان ، فيثبت به كإسقاط الحد .
فصل :
فإن نفى الحمل في لعانه ، فقال الخرقي : لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له ، ويلاعن ، لأن الحمل غير متيقن ، يحتمل أن يكون ريحاً فيصير اللعان مشروطاً بوجوده ، ولا يجوز تعليقه على شرط ، وظاهر كلام أبي بكر صحة نفيه ، لظاهر حديث هلال بن أمية ، فإن لاعنها قبل الوضع ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنظروها فإن جاءت به كذا وكذا ونفى عنه لولد ، ولأن الحمل تثبت أحكامه قبل الوضع من وجوب النفقة والمسكن ، ونفي طلاق البدعة ، ووجوب الاعتداد به ، وغير ذلك ، فكان كالمتيقن .
فصل :
فإن ولدت توأمين ، فنفى أحدهما واستلحق الآخر لحقاه جميعاً ، لأنه لا يمكن جعل أحدهما من رجل ، والآخر من غيره ، والنسب يحتاط لإثباته ، لا لنفيه . وإن نفي أحدهما وترك الآخر ، ألحقناهما به جميعاً كذلك .
فصل :
وإن أقر بالولد ، أو هنئ به فسكت أو أمن على الدعاء ، أو دعا لمن هنأه به ، لزمه نسبه ، ولم يملك نفيه ، لأن هذا جواب الراضي به ، وكذلك إن علم فسكت ، لحقه ، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق ، فكان على الفور ، كخيار الشفعة . وهل يتقدر بالمجلس ، أو يكون عقيب الإمكان ؟ على وجهين : بناء على خيار الشفعة . وإن أخره لعذر ، كأداء صلاة حضرت ، أو أكل لدفع الجوع، وأشباه هذا من أشغاله، أو للجهل بأن له نفيه ، أو بوجوب نفيه على الفور ، لم يبطل خياره ، لأن العادة جارية بتقديم هذه الأمور ، والجاهل معذور . وإن ادعى الجهل بذلك قبل منه ، لأن هذا مما يخفى ، إلا أن يكون فقيهاً ، فلا يقبل منه ، لأنه في مظنة العلم . وإن أخره لعذر مدة يسيرة ، لم يحتج أن يشهد على نفسه ، وإن طالت ، أشهد على نفسه بنفيه ، كالطلب بالشفعة . وإن قال : لم أصدق المخبر وكان الخبر مستفيضاً ، أو المخبر مشهور العدالة ، لم يقبل قوله . وإن لم يكن كذلك ، قبل . وإن أخر نفي الحمل ، لم يسقط نفيه ، لأنه غير مستحق ، وإن استلحقه ، لم يلحقه كذلك ، إلا على قول أبي بكر . وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة ، وأمكن صدقه ، فالقول قوله ، وإلا فلا . وإن أخر نفيه رجاء موته ، ليكفي أمر اللعان ، سقط حقه من النفي .
فصل :
الحكم الثالث : الفرقة ، وفيها روايتان :
إحداهما : لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما ، لقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وفي حديث عويمر : أنه قذف زوجته ، فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم . متفق عليه . فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان . فعلى هذا ، إن طلقها قبل التفريق ، لحقها طلاقه ، وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما من غير استئذانهما ، وعليه أن يفرق بينهما ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما .
والثانية : تحصل الفرقة بمجرد لعانهما ، لأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد ، فلم يقف على تفريق الحاكم ، كالرضاع . ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم ، لساغ ترك التفريق إذا لم يرضيا به ، كالتفريق للعيب ، والإعسار ،وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بمعنى : أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان . وعلى كلتا الروايتين ، ففرقة اللعان فسخ ، لأنها فرقة توجب تحريم مؤبداً ، فكانت فسخاً ، كفرقة الرضاع .
فصل :
الحكم الرابع : التحريم المؤبد يثبت ، لما روى سهل بن سعد قال : مضت السنة في المتلاعنين ، أن يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبداً . رواه الجوزجاني . ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب ، فلم يرتفع بهما ، كتحريم الرضاع . وقد روى عنه حنبل : أنه إذا أكذب نفسه عاد فراشه كما كان وهذه الرواية شذ بها عن سائر أصحابه . قال أبو بكر : والعمل على الأول . وإن لاعنها في نكاح فاسد ، أو بعد البينونة لنفي نسب ، ثبت التحريم المؤبد ، لأنه لعان صحيح ، فأثبت التحريم ، كاللعان في النكاح الصحيح . ويحتمل أنه لا يثبت التحريم ، لأنه لم يرفع فراشاً ، فلم يثبت تحريماً ، كغير اللعان . ولو لاعنها في نكاح صحيح وهي أمة ، ثم اشتراها ، لم تحل له ، لأنه وجد ما يحرمها على التأبيد ، فلم يرتفع بالشراء ، كالرضاع .
فصل :
ولا تثبت هذه الأحكام إلا بكمال اللعان ، إلا سقوط الحد وما قام مقامه ، فإنه يسقط بمجرد لعانه . فإن مات أحدهما قبل كماله منهما ، فقد مات على الزوجية ، لأن الفرقة لم تحصل بكما اللعان ، ويرثه صاحبه كذلك ، ويثبت النسب ، لأنه لم يوجد ما يسقطه . فإن كان الميت الزوج ، فلا شيء على المرأة . وإن ماتت المرأة قبل لعان الزوج ، وطلبها بالحد ، فلا لعان ، لأن الحد لا يورث . وإن ماتت بعد طلبها ، قام وارثها مقامها في المطالبة ، وله اللعان لإسقاط الحد .
فصل :
وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان ، لزمه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن كانت غير محصنة ، ويلحقه النسب ، لأنهما حق عليه ، فيلزمانه بإقراره بهما ، ولا يعود الفراش ، ولا يرتفع التحريم المؤبد ، لأنهما حق له ، فلا يعودان بتكذيبه .
فصل :
فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان ، فلا حد عليها ، لأن زناها لم يتثبت ، فإنه لو ثبت زناها بلعان الزوج ، لم يسمع لعانها ، كما لو قامت به البينة ، ولا يثبت بنكولها لأن الحد لا يقضى فيه بالنكول ، لأنه يدرأ بالشبهات ، والشبهة متمكنة منه ، ولكن تحبس حتى تلتعن ، أو تقر . قال أحمد : أجبرها على اللعان ، لقوله تعالى : {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} فإن لم تشهد ، وجب أن يدرأ عنها العذاب وعنه : يخلى سبيلها ، وهو اختيار أبي بكر ، لأنه لم يثبت عليها ما وجب الحد ، فيخلى سبيلها ، كما لو لم تكمل البينة . وإن صدقته فيما قذفها به ، لم يلزمها الحد حتى تقر أربع مرات ، لأن الحد لا يثبت بدون إقرار أربع ،على ما سنذكره ، وحكمها حكم ما لو نكلت ، ولا لعان بينهما، لأن اللعان إنما يكون مع إنكارها ، ولا يستحلف إنسان على نفي ما يقر به .
باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق
إذا تزوج من يولد لمثله بامرأة ، فأتت بولد لستة أشهر فصاعداً بعد إمكان اجتماعهما على الوطء ، لحقه نسبه في ظاهر من المذهب ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش و لأن مع هذه الشروط ، يمكن كونه منه ، والنسب مما يحتاط له ، ولم يوجد ما يعارضه ، فوجب إلحاقه به . وإن اختل شرط مما ذكرنا ، لم يلحق به ، وانتفى من غير لعان ، لأن اللعان يمين ، واليمين جعلت التحقق أحد الجائزين ، أو نفي أحد المحتملين . وما لا يجوز ، لا يحتاج إلى نفيه .
فصل :
وأقل سن يولد لمثله في حق الرجل عشر سنين ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : مروهم بالصلاة للسبع، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع رواه أبو داود . وقال القاضي : تسع سنين وأقل مدة الحمل ، لأن الجارية يولد لها كذلك ، فكذلك الغلام . وقال أبو بكر : لا يلحق به الولد حتى يبلغ . قال ابن عقيل : هو أصح ، لأن من لا ينزل الماء لا يكون منه ولد . وهذا ليس بسديد ، لأنهم إن أرادوا بالبلوغ بلوغ خمس عشرة ، فهو باطل ، لأنه يولد له لدون ذلك . وقد روي أنه لم يكن بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله إلا اثنتا عشرة سنة . وإن أرادوا الإنزال فيما يعلم ، فلابد من ضبطه بأمر ظاهر . وإن ولدت امرأة غلام ، سنه دون ذلك ، لم يلحق به ، ومن كان مجبوباً مقطوع الذكر والأنثيين ، لم يلحق به نسب ، لأنه لا ينزل مع قطعهما . وإن قطع أحدهما ، فقال أصحابنا : يلحق به النسب ، لأنه إذا بقي الذكر أولج فأنزل . وإن بقيت الأنثيان ، ساحق فأنزل . والصحيح أن مقطوع الأنثيين لا يحلق به نسب ، لأنه لا ينزل إلا ماء رقيقاً لا يخلق منه ولد ، و تنقضي به شهوة ، فأشبه مقطوع الذكر والأنثيين . وإن لم يمكن اجتماع الزوجين على الوطء ، بأن يطلقهما عقيب تزويجه بها أو كان بينهما مسافة لا يمكن اجتماعها على الوطء معها ، لم يلحق به الولد . وإن ولدت زوجته لدون ستة أشهر من حين تزوجها لم يلحقه ولدها ، لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح .
فصل :
وأقل مدة الحمل ستة أشهر ، لم روي أن عثمان أتى بامرأة ولدت لدون ستة أشهر ، فتشاور القوم في رجمها ، فقال ابن عباس : أنزل الله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وأنزل : {وفصاله في عامين} . فالفصال في عامين ، والحمل في ستة أشهر .وذكر ابن القتبي أن عبد الملك بن مروان : ولد لستة أشهر .وأكثرها أربع سنين . وعنه سنتان ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا تزيد المرأة على سنتين في الحمل . والأول المذهب ، لما روى الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : حديث عائشة : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل . قال مالك : سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا أمرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين . وقال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين ، وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطون ، كل دفعة أربع سنين . وغالب الحمل تسعة أشهر ، لأنه كذلك يقع غالباً . وإذا أتت المرأة بولد بعد فراقها لزوجها ، بموت أو طلاق بائن بأربع سنين ، لم يلحق به ، وانتفى عنه بغير لعان ، لأنها علقت به بعد زوال الفراش . وإن كان الطلاق رجعياً ، فوضعته لأربع سنين منذ انقضت عدتها ، فكذلك لذلك . وإن كان لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلحق به ، لأنها علقت به بعد طلاقه ، أشبهت البائن .
والثانية : يلحقه ، لأنها في حكم الزوجات ، فأشبهت ما قبل الطلاق . وإن وضعته لأقل من أربع سنين ، قبل الحكم بانقضاء عدتها ، لحق به ، لأنه أمكن إلحاقه به ، والنسب مما يحتاط لإثباته . وإن بانت زوجته منه فوضعت ولداً ، ثم وضعت آخر بينهما أقل من ستة أشهر ، لحق به ، لأنهما حمل واحد . وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، لم يلحق به ، لأنه حمل ثان ، إذ لا يمكن أن يكونا حملاً بينهما مدة الحمل ، فيعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية . وإن اعتدت بالأقراء ، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر ، لحق به ، لعلمنا أنها حملته في الزوجية ، والدم دم فساد رأته في حملها . وإن كان لأكثر من ستة أشهر فصاعداً ، لم يلحق به ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها ، فلا تنقضها بالاحتمال . هذا قول أصحابنا .
فصل :
وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها ، ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ، فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان . وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ، لم يلحق به ، ولا بالأول ، وانتفى عنهما بغير لعان . وإن تزوجت في عدتها ، وولدت لدون ستة أشهر من نكاح الثاني ، فهو ولد الأول ، لأنه أمكن أن يكون منه ، ولم يمكن إلحاقه بالثاني . وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، فهذا يحتمل أن يكون منهما ، فيرى القافة معهما ، فيلحق بمن الحقوه به منهما . فإن ألحقته بالأول ، انتفى عن الثاني بغير لعان، لأن نكاحه فاسد. إن ألحقته بالثاني، لحق، وهل له نفيه باللعان ؟ على روايتان :
إحداهما : له ذلك ، والأخرى لا ينتفي عنه بحال . وإن لم توجد قافة ، أو أشكل أمره ، ففيه روايتان :
إحداهما : يترك حتى يبلغ ، فينتسب إلى من شاء منهما ، والأخرى يضيع نسبه .
فصل :
إذا أتت زوجته بولد يمكن أن يكون منه، فقالت : هذا ولدي منك ، فقال : ليس هذا ولدي منك، بل استعرتيه ، أو التقطتيه ، ففيه وجهان :
أحدهما : القول قولها ، لأنه خارج تنقضي به العدة ، فالقول قولها فيه ، كالحيض .
والثاني : القول قوله ، ولا يقبل قولها إلا ببينة ، لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها ، والأصل عدمها ، فكانت البينة على مدعيها ، ويكفي في ذلك امرأة عدلة . وإذا ثبتت ولادتها ، لحق نسبه به ، لأنه ولد على فراشه. وإن كان خلافهما في انقضاء العدة ، فالقول قولها في انقضائها بغير بينة ، لأن المرجع إليها فيها ، وإن قال : هو من زوج قبلي ولم يكن لها قبله زوج ، أو كان ولم يمكن إلحاقه به، لحقه، ولم يلتفت إلى قوله . وإن قال : هو من وطء شبهة ، أو قال : لم تزن ، ولكن ليس هذا الولد مني ، فقال الخرقي : هو ولده في الحكم ، ولا حد عليه لها ، لأنه لم يقذفها ، ولا لعان بينهما ، لأن من شرطه القذف ولم يقذفها . وقال أبو الخطاب هل له أن يلاعن بنفي الولد ؟ على روايتين :
إحداهما : لا يلاعن كذلك .
والثانية : له أن يلاعن ، لأنه يحتاج إلى نفي النسب الفاسد فشرع ، كما لو قذفها .
فصل :
ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر من غير مشاركة غيره له في وطئها ، لحقه نسب ولدها ، ولم يحل له نفيه ، لما روى أبو هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة : أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليها ، احتجب الله عنه ، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين . أخرجه أبو داود ، وإن علم أنه من غيره ، مثل أن يراها تزني في طهر لم يصبها فيه ، فاجتنبها حتى ولدت ،لزمه قذفها ونفي ولدها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث : وأيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم ، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته . فلما حرم عليها أن تدخل عليهم نسباً ليس منهم ، دل على أن الرجل مثله. ولأنه إذ لم ينفه، زاحم ولده في حقوقهم ، ونظر إلى حرمه ، بحكم أنه محرم لهن . وإن لم يرها تزني ، لكن تعلم أن الولد من غيره ، لكونه لم يصبها لزمه نفي ولدها كذلك . وليس له قذفها ، لاحتمال أن تكون مكرهة ، أو موطوءة بشبهة وإن كان يطؤها ويعزل ، لم يكن له نفي ولدها ، لما روى أبو سعيد الخدري قال : قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نصيب النساء ونحب الأثمان فنعزل عنهن ، فقال : إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق منه . وإن كان يجامعها دون الفرج ، أو في الدبر ، فقال أصحابنا : ليس له نفيه ، لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما لا تحس به .
فصل :
وإن ولدت امرأته غلاماً أسود وهما أبيضان ، أو أبيض وهما أسودان ، لم يجز له نفيه . ذكره ابن حامد لما روى أبو هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي جاءت بولد أسود ، يعرض بنفيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من إبل ، قال : نعم قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر . قال : هل فيها من أورق ؟ قال : إن فيها لورقاً قال: فأنى أتاها ذلك ؟! قال : عسى أن يكون نزعة عرق . قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق . قال : ولم يرخص له في الانتقاء منه . متفق عليه . ولأن دلالة ولادته على فراشه قوية ، ودلالة الشبهة ضعيفة ، فلا يجوز معارضة القوي بالضعيف . ولذلك لما اختلف عبد بن زمعة ، وسعد بن أبي وقاص في غلام . فقال سعد : هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه ، انظر إلى شبهه ، وقال عبد الله بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته . ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه شبهاً بيناً لعتبة . فقال : الولد للفراش وللعاهر الحجر متفق عليه ، فاعتبر الفراش دون الشبهه . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد ، أن له نفيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة هلال : انظروها فإن جاءت به أبيض سبطاً ، مضيء العينين ، فهو لهلال بن أمية ، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو لشريك رواه أحمد و مسلم . فجاءت به على النعت المكروه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الإيمان ، لكان لي ولها شأن ، أخرجه أبو داود . فجعل الشبه دليلاً على نفيه عن الزوج .
فصل :
وإن رآها تزني ولم يكن له نسب يلحقه ، فله قذفها ، لأن هلالاً وعويمراً قذفا زوجتيهما قبل أن يكون ثم نسب ينفى . وله أن يسكت ، لأنه لا نسب فيه ينفيه ، وفراقها ممكن بالطلاق ، فيستغني عن اللعان . وإن أقرت عنده بالزنا ، فوقع في نفسه صدقها ، أو أخبره بذلك ثقة ، أو استفاض في الناس أن رجلاً يزني بها ، ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب ، فله قذفها ، لأن الظاهر زناها . وإن لم ير شيئاً ، ولا استفاض سوى أنه رأى رجلاً من عندها من غير استفاضة ، لم يكن له قذفها ، لأنه يجوز أن يكون دخل هارباً ، أو سارقاً ، أو ليراودها عن نفسها فمنعته ، فلم يجز قذفها بالشك . وإن استفاض ذلك ولم يره يدخل إليها ، ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز قذفها ، لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة .
والثاني : لا يجوز ، لأنه يحتمل أن عدواً أشاع ذلك عنها .
فصل :
ومن ملك أمة ، لم تصر فراشاً بنفس الملك ، لأنه قد يقصد بملكها التمول ، أو التجمل ، أو التجارة ، أو الخدمة ، فلم يتعين لإرادة الوطء ، فإن أتت بولد ولم يعترف به ، لم يلحقه نسبه ، لأنه لم يولد على فراشه ، فإذا وطئها صارت فراشاً له ، فإذا أتت بولد لمدة الحمل من حين يوم الوطء ، لحقه ، لأن سعداً نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ، فقال عبد بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك يا ابن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر . متفق عليه . فإن ادعى أنه كان يعزل عنها ، لم ينتف عنه الولد بذلك : لما ذكرنا في الزوجة . وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما بال قوم يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن ، لا تأتني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها ، فاعزلوا بعد ذلك ، أو اتركوا وإن اعترف بوطئها دون الفرج فقال أصحابنا : يلحقه نسب ولدها ، لأن الماء قد يسبق إلى الفرج من حيث لا يعلم . وإن انتفى من ولدها بعد اعترافه بوطئها ، لم يلاعن ، لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين ، ولا ينتفي عنه ، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها ، فإن ادعى ذلك ، فالقول قوله ، وينتفي ولدها عنه ، ويقوم ذلك مقام اللعان في نفي الولد .
كتاب العدد
إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة ، فلا عدة عليها بالإجماع ، لقول الله سبحانه : {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} ولأن العدة تجب ، لاستبراء الرحم ، وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل . فإن فارقها بعد الدخول ، فعليها العدة بالإجماع ، لقول الله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} . ولأنه مظنة ، لاشتغال الرحم بالحمل ، فتجب العدة لاستبرائه . وإن طلقها بعد الخلوة ، وجبت العدة ، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أبي أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى ستراً ، أو من أغلق باباً ، فقد وجب المهر ، ووجبت العدة . ولأن التمكين من استيفاء المنفعة ، جعل كاستيفائها ، ولهذا استقرت الأجرة في الإجارة ، فجعل كالاستيفاء في العدة .
فصل :
والمعتدات ثلاثة أقسام : معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه ، سواء كانت حرة أو أمة ، مفارقة في حياة ، أو بوفاة ، لقول الله تعالى : {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} .
وروت سبيعة الأسلمية : أنها كانت تحت سعد بن خولة ، وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها ، فلما انقلبت من نفاسها ، تجملت للخطاب ، فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك ، فقال : لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر . قالت : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي ، فأمرني بالتزوج إذا بدا لي . متفق عليه . ولأن براءة الرحم ، لا تحصل في الحامل إلا بوضعه ، فكانت عدتها به ، ولا تنقضي إلا بوضع جميع الحمل وانفصاله . فإن كان حملها أكثر من واحد ، فحتى تضع آخر حملها وينفصل ، لأن الشغل لا يزول إلا بذلك . وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان ، انقضت به عدتها ، لأنه ولد . وإن لم يتبين فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ، فكذلك ، لأنه تبين لهن . وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي ، فالمنصوص أن العدة لا تنقضي به ، لأنه لم يصر ولداً ، فأشبه العلقة . وعنه : أن الأمة تصير به أم ولد ، فيجب أن تنقضي به العدة ، لأنه حمل ، فيدخل في عموم الآية . وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالحمل ، أن تضعه بعد ثمانين يوماً ، من حين إمكان الوطء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً ثم يكون مضغة أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ولا تنقضي العدة بما دون المضغة. ولا يكون مضغة في أقل من ثمانين .
فصل :
القسم الثاني : معتدة بالقروء : وهي : كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ممن تحيض . وهي نوعان . حرة : فعدتها ثلاثة قروء ، لقول الله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وأمة : فعدتها قرآن ، لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : طلاق الأمة طلقتان ، وقرؤها حيضتان رواه أبو داود . وعن عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا : عدة الأمة حيضتان ، وفي القروء روايتان :
إحداهما : الحيض ، لهذا الخبر ، وقول الصحابة رضي الله عنهم ، ولقوله عليه السلام : تدع الصلاة أيام أقرائها رواه أبو داود . وقال لفاطمة بنت أبي حبيش : فإذا أتي قرؤك فلا تصلي . وإذا مر قرؤك فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء رواه النسائي . ولأنه معنى يستبرأ به الرحم ، فكان بالحيض كاستبراء الأمة ، ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء ، فالظاهر أنها تكون كاملة ، ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض . ومن جعل القروء الأطهار ، لم يوجب ثلاثة كاملة ، لأنه يعد الطهر الذي طلقها فيه قرءاً .
والثانية : القروء : الأطهار ، لقول الله تعالى : {فطلقوهن لعدتهن} . أي في عدتهن ، وإنما يطلق في الطهر . فإذا قلنا : هي حيض ، لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها ، ولزمها ثلاث حيض مستقبلة ، لقوله تعالى : {ثلاثة قروء} فيتناول الكاملة . وإن قلنا هي الأطهار ، احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءاً ، ولو بقي منه لحظة ، لقوله سبحانه : {فطلقوهن لعدتهن} . أي في عدتهن ، وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به . ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض ، كيلا يضر بها ، فتطول عدتها ، ولو لم يحتسب بقية الطهر قرءاً ، لم تقتصر عدتها بالطلاق فيه . فإن لم يبق من الطهر بعد الطلاق جزء ، بأن وافق آخر لفظه آخر الطهر ، أو قال : أنت طالق في آخر طهرك ، كان أول قرائها الطهر الذي بعد الحيض ، لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق . ومتى قلنا : القرء : الحيض . فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة ، لأن ذلك آخر القروء . وعنه : لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ، اختاره الخرقي ، لأنه يروى عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبادة وأبو موسى وأبو الدرداء رضي الله عنهم . وإن قلنا : القروء : الأطهار . فآخر العدة آخر الطهر .
الثالث : إذا رأت الدم بعده ،انقضت عدتها ،ويحتمل أن لا تنقضي بانقضائها ، حتى ترى الدم يوماً وليلة ، لأن ما دونه لا يحتمل أن يكون حيضاً ، وليست اللحظة التي ترى فيها الدم من عدتها ، ولا يصح ارتجاعها فيها ، لأن حسبانها من عدتها يفضي إلى زيادتها في ثلاثة قروء، وإنما اعتبرت ، ليتحقق انتفاء الطهر .
فصل :
وأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ، إن قلنا : القرء : الحيض ، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً ، لأن ثلاثة حيضات ثلاثة أيام ، وبينها طهران ستة وعشرون يوماً . وإن قلنا : أقل الطهر خمسة عشر يوماً ، فأقل العدة ثلاثة وثلاثون يوماً . وإن قلنا : الأقراء : الأطهار ، والطهر : ثلاثة عشر يوماً ، فأقلها : ثمانية وعشرون يوماً ولحظة . وإن قلنا : أقله خمسة عشر يوماً ، فأقلها اثنان وثلاثون يوماً ولحظة . فأما الأمة فعلى الأول : أقل عدتها خمسة عشر يوماً ، وعلى الثاني : سبعة عشر ، وعلى الثالث : أربعة عشر يوماً ولحظة ، وعلى الرابع : ستة عشر يوماً ولحظة .
فصل :
القسم الثالث : المعتدة بالشهور . وهي ثلاثة أنواع :
إحداهن : الآيسة من المحيض ، والصغيرة التي لم تحض ، إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها ، فإن كانت حرة ، فعدتها ثلاثة أشهر ، لقول الله تعالى : {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} .
فإن طلقها في أول الهلال ، فعدتها ثلاثة أشهر بالأهلة . وإن طلقها في أثناء شهر ، اعتدت شهرين بالهلال وشهراً بالعدد ،7 لما ذكرنا فيما مضى . وإن كانت الأمة ، ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : عدتها شهران ، لأن كل شهر مكان قرء ، وعدتها بالأقراء قرءان ، فتكون عدتها بالشهور شهرين .
والثانية : عدتها شهر ونصف ، لأن عدتها نصف الحرة ، وعدة الحرة : ثلاثة أشهر ، فنصفها شهر ونصف . وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها ، وتنصيف الأشهر ممكن .
والثالثة : أن عدتها ثلاثة أشهر ، لعموم الآية ، ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم ، ولا يحصل بأقل من ثلاثة .
فصل :
واختلف عن أحمد في حد الإياس ، فعنه : أقل خمسون سنة ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد خمسين سنة . وعنه : إن كانت من نساء العجم فخمسون ، وإن كانت من نساء العرب فستون ، لأنهن أقوى طبيعة . وذكر الزبير في كتاب النسب : أن هند بنت أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة ، ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب ، ولها ستون سنة . قال : ويقال لن تلد بعد الخمسين إلا عربية ، ولا بعد الستين إلا قرشية . ويحتمل كلام الخرقي أن يكون حده : ستون سنة في حق الكل ، لقوله : وإذا رأته بعد الستين ، فقد زال الإشكال ، وتيقن أنه ليس بحيض .
فصل :
وإن شرعت الصغيرة في الاعتداد بالشهور فلم تنقض عدتها حتى حاضت ، بطل ما مضى من عدتها ، واستقبلت العدة بالقروء ، لأنها قدرت على الأصل فيه ، فبطل حكم البدل ، كالمتيمم يجد الماء . وإن قلنا : القروء : الحيض ، استأنفت ثلاث حيض . وإن قلنا : هي الأطهار ، فهل تعتد بالطهر الذي قبل الحيض قرءاً ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تعتد به ، لأنه طهر قبل حيض فاعتدت به ، كالذي بين الحيضتين .
والثاني : لا تعتد به ، كما لو اعتدت قرءين ثم يئست ، لم تعتد بالطهر قبل الإياس قرءاً ثالثاً . وإن لم تحض حتى كملت عدتها بالشهور ، لم يلتفت إليه ، لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة فلم يلتفت إليه .
فصل :
النوع الثاني : المتوفى عنها زوجها ، إذا لم تكن حاملاً ، فعدتها أربعة أشهر وعشراً ، إذا كانت حرة ، مدخولاً بها أو غير مدخول بها ، لقول الله تعالى : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً متفق عليه . وإن كانت أمة ، اعتدت شهرين وخمس ليال ، لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة : نصف عدة الحرة ، فيجب أن تكون عدة المتوفى عنها نصف عدة الحرة ، وهو ما ذكرنا . ومن نصفها حر ، فعدتها بالحساب من عدة حرة وعدة أمة ، وذلك ثلاثة أشهر وثمان ليال ، لأن نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال ، ونصف عدة الأمة شهر وثلاثة ليال .
فصل :
النوع الثالث : ذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، فعدتها سنة ، تسعة أشهر تتربص فيها ليعلم برائها من الحمل ، لأنها غالب مدته ، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر . وقال الشافعي رحمه الله : هذا قضاء عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار ، لا ينكره منكر علمناه ، فصار إجماعاً . فإن حاضت قبل انقضاء السنة ولو بلحظة ، لزمها الانتقال إلى القروء ، لأنها الأصل ، فبطل حكم البدل ،كالمتيمم إذا رأى الماء . وإن عاد الحيض بعد انقضاء السنة وتزوجها ، لم تعد إلى الأقراء ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها وصحة نكاحها ، فلم تبطل ، كما لو حاضت الصغيرة بعد اعتدادها وتزوجها . وإن حاضت بعد السنة وقبل تزوجها ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا عدة عليها كذلك .
والثاني : عليها العدة ، لأنها من ذوات القروء ، وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق الزوج بها ، فلزمها العود ، كما لو حاضت في السنة . وإن كانت أمة ، تربصت تسعة أشهر للحمل ، لأن مدته للحرة والأمة سواء ، وتضم إلى ذلك عدة الأمة على ما ذكرنا من الخلاف فيها . وإن شرعت في الحيض ، ثم ارتفع حيضها قبل قضاء عدتها ، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض ، لأنها لا تنبني إحدى العدتين على الأخرى ، ولو عرفت ما رفع الحيض من المرض أو الرضاع ونحوه ، لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به ، لأنها من ذوات القروء ، والعارض الذي منع الدم يزول ، فانتظر زواله ، إلا أن تصير آيسة ، فتعتد ثلاثة أشهر من وقت أن تصير في عداد الآيسات .
فصل :
إذا أتى على الجارية سن تحيض فيه النساء غالباً ، كخمسة عشر ، فلم تحض ، فعدتها ثلاثة أشهر في إحدى الروايتين ، لظاهر قول الله تعالى : {واللائي لم يحضن} . والأخرى عدتها سنة ، لأنه أتى عليها زمن الحيض ، فلم تحض ، فأشبهت من ارتفع حيضها ، ولم تدر ما رفعه . ولو ولدت ولم تر دماً قبل الولادة ، ولا بعدها ، ففيه الوجهان ، بناء على ما تقدم . فأما المستحاضة ، فإن كان لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز ، فمتى مرت لها ثلاثة قروء ، انقضت عدتها ، لأنه حيض محكوم به ، أشبه غير المستحاضة . وإن كانت ممن لا عادة لها ولا تمييز ، إما مبتدأة ، وإما ناسية متحيرة ، ففيها روايتان :
إحداهما : عدتها ثلاثة أشهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة ابنة جحش : أن تجلس من كل شهر ستة أيام أو سبعة ، فجعل لها حيضة في كل شهر ، لأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصوم ، فيجب أن تنقضي العدة به .
والثانية : تعتد سنة ، لأنها لم تتيقن بها حيضاً مع أنها من ذوات الأقراء ، فأشبهت التي ارتفع حيضها ، والأول أولى .
فصل :
فإذا عتقت الأمة بعد قضاء عدتها ، لم يلزمها زيادة عليها ، لأن عدتها انقضت ، فأشبهت الصغيرة إذا حاضت بعد انقضاء عدتها بالأشهر ، وإن عتقت في عدتها وكانت رجعية ، أتمت عدتها عدة حرة ، لأن الرجعية زوجة وقد عتقت في الزوجية ، فلزمتها عدة حرة ، كما لو عتقت قبل الشروع فيها . وإن كانت بائناً ، أتمت عدة الأمة ، لأنها عتقت بعد البينونة ، أشبهت المعتقة بعد عدتها .
فصل :
وإن مات زوج المعتدة الرجعية ، فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت ، وتنقطع عدة الطلاق ، لأنها زوجة متوفى عنها ، فتدخل في عموم قوله تعالى : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} . وإن كانت بائناً غير وارثة لكونها مطلقة في صحته ، بنت على عدة الطلاق ، لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه ، فلم يلزمها ، الاعتداد من وفاته ، كما لو انقضت عدتها قبل موته ، وعلى قياس هذا : المطلقة في المرض التي لا ترث ، كالذمية والأمة والمختلعة ، وزوجة العبد ، لأنها غير وارثة . وإن كانت وارثة كالحرة المسلمة ، يطلقها زوجها الحر في مرض موته ، فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء ، أو أربعة أشهر وعشر ، لأنها مطلقة بائن ، فتدخل في الآية . ومعتدة ترث بالزوجية ، فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية . فإن كان طلاقه قبل الدخول ، أو موته بعد قضاء عدتها ، فلا عدة عليها ، وعنه : عليهما العدة من الوفاة ، لأنهما يرثانه بالزوجية . والأول أصح ، لقول الله سبحانه وتعالى : {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} ، ولأن الأجنبية تحل للأزواج ، فلم تلزمها العدة منه ، كما لو تزوجت غيره .
فصل :
وإذا وطئت المرأة بشبهة ، أو زنا ، لزمتها العدة ، لأن العدة تجب ، لاستبراء الرحم ، وحفظاً عن اختلاط المياه واشتباه الأنساب ، ولو لم تجب العدة ، لاختلط ماء الواطئ بماء الزوج ، ولم يعلم لمن الولد منهما ، فيحصل الاشتباه ، وعدتها كعدة المطلقة ، لأنه استبراء لحرة ، أشبه عدة المطلقة . وعنه : أن الزانية تستبرأ بحيضة ، لأن النسب لا يلحق الزاني ، وإنما المقصود معرفة براءة رحمها ، فكان بحيضة كاستبراء أم الولد إذا مات سيدها .
فصل :
وإذا طلق أحد نسائه ثلاثاً وأنسيها ، ثم مات قبل أن يبين المطلقة ، فعلى الجميع الاعتداد بأطول الأجلين من عدة الطلاق والوفاة ، ليسقط الفرض بيقين ، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها ، لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المطلقة ، فيلزمها ثلاثة قروء ، ويحتمل أن تكون غيرها ، فتلزمها عدة الوفاة ، فلا يحصل حلها يقيناً إلا بهما ، والنصوص أنه يقرع بينهن ، فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق ، و سائرهن عدة الوفاة ، فأما إن طلق واحدة لا بعينها ، فإنه يقرع بينهن ، فتخرج بالقرعة المطلقة منهن ، فتعتد عدة الطلاق ، ويعتد سائرهن عدة الوفاة ، لأن الطلاق لم يقع في واحدة بعينها ، وإنما عينته القرعة ، بخلاف التي قبلها .
فصل :
إذا ارتابت المعتدة لرؤيتها أمارات الحمال من حركة أو نحوها ، لم تزل في عدة حتى تزول الريبة ، فإن تزوجت قبل زوالها ، لم يصح نكاحها ، لأنها تزوجت قبل العلم بقضاء عدتها ، وإن حدثت الريبة بعد انقضاء عدتها ونكاحها ، فالنكاح صحيح ، لأننا حكمنا بصحة ذلك بدليله ، فلا يزول عنه بالشك ، لكن لا يحل وطؤها حتى تزول الريبة ، لأنا شككنا في حل الوطء . وإن حدثت بعد العدة وقبل النكاح ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحل لها أن تنكح ، لأنها شاكة في انقضاء عدتها .
والثاني : يحل لها ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا يتغير الحكم بالشك .
فصل :
إذا فقدت المرأة زوجها ، وانقطع خبره عنها ، لم يخل من حالين :
أحدهما : أن يكون ظاهر غيبته السلامة ، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة ، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته ، لأنها كانت ثابتة بيقين ، فلا تزول بالشك . وعنه : إذا مضى له تسعون سنة ، قسم ماله . وإذا أباح قسمة ماله ، أباح لزوجته أن تتزوج . قال أصحابنا : يعني تسعين سنة من حين ولد ، لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من ذلك . فإذا اقترن به انقطاع خبره ، حكم بموته . والأول أصح ، لأن هذا تقدير لا يصار إليه بغير توقيف .
الثاني : أن يكون ظاهرها الهلاك ، كالذي يفقد من بين أهله ، أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته ، أو بين الصفين ، أو ينكسر مركباً فيهلك بعض رفقته ، وأشباه ذلك ، فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ، ثم تعتد للوفاة ، ثم تتزوج . قال بعض أصحابنا : لا يختلف قول أحمد في هذا . وقال أحمد : من ترك هذا القول ، أي شيء يقول ؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال القاضي : عندي أن فيها رواية أخرى :
أن حكمه حكم من ظاهر غيبته السلامة ، والمذهب الأول . قال أحمد : يروى عن عمر من ، ثمانية وجوه ، ومن أحسنها ما روى عبيد بن عمير قال : فقد رجل في عهد عمر ، فجاءت امرأته إلى عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : انطلقي فتربصي أربع سنين ، ففعلت ، ثم أتته ، فقال : انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشراً ، ففعلت ثم أتته ، فقال : أين ولي هذا الرجل ؟ فجاء وليه ، فقال له : طلقها ، ففعل . فقال عمر : انطلقي فتزوجي من شئت ، ثم جاء وزجها الأول ، فقال عمر : أين كنت ؟ قال : استهوتني الشياطين ، فخيره عمر : إن شاء امرأته ، وإن شاء الصداق ، فاختار الصداق . وقضى بذلك عثمان وعلي وابن الزبير ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهم . وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر ، فكانت إجماعاً . وهل يعتبر ابتداء المدة من حين ضربها الحاكم ، أو من حين ينقطع خبره ؟ على وجهين :
أحدهما : من حين ضربها الحاكم ، لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم ، كمدة العنة .
والثاني : من حين انقطع خبره ، لأن ذلك ظاهر في موته ، فأشبه ما لو قامت به ببينة . وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى أن يطلقها وليه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يعتبر ، لأن ذلك يروى عن عمر وعلي .
والثاني : لا يفتقر ، لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها ، ولهذا اعتدت عدة الوفاة ، وقول عمر فقد خالفه قول ابن عباس وابن عمر .
فصل :
فإن قدم المفقود قبل تزوجها ، فهي زوجته ، لأننا تبينا حياته ، فأشبه ما لو شهد بموته شاهدان ، وتبين أنه حي . وإن قدم بعد تزوجها ، وقبل دخوله بها ، فكذلك لما ذكرناه وقيل عنه : إن حكمها حكم المدخول بها ، والصحيح الأول . وإن قدم بعد دخول الثاني بها ، خير بينهما وبين صداقها ، لإجماع الصحابة عليه . فإن اختارها ، فهي زوجته بالعقد الأول ، ولم يحتج الثاني إلى طلاق ، لأننا بينا بطلان عقده . وإن اختار صداقها ، فله ذلك ،ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول . اختاره أبو بكر ، لأن علياً وعثمان رضي الله عنهما قالا : يخير بينهما وبين صداقها الذي ساق . ولأن الثاني أتلف المعوض ، فرجع عليه بالعوض ، كشهود الطلاق إذا رجعوا عنه . وعنه : يرجع بالصداق الآخر ، لأنه بذل عوضاً عما هو مستحق للأول ، فكان أولى به . وهل يرجع الثاني على المرأة ما غرمه للأول ؟ على روايتين . وتكون زوجة الثاني من غير تجديد عقد ، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم أمر بتجديد العقد ، والقياس أن يلزمه تجديد العقد ، لأننا تبينا بطلان ما مضى من عقده بحياة صاحبه ، ولذلك ملك أخذها منه ، فعلى هذا الوجه ، الأول يؤمر بطلاقها ، ثم يعقد عليها الثاني عقداً . وإن رجع الأول بعد موت الثاني ، ورثت ، واعتدت ، ورجعت إلى الأول ، قضى بذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما . رواه الجوزجاني في المترجم . وقال أبو الخطاب : قياس المذهب أنا إن حكمنا بوقوع الفرقة ظاهراً وباطناً ، فهي زوجة الثاني ، ولا خيار للأول ، ولا ينفذ طلاقه لها ، ولا يتوارثان إذا مات أحدهما . فإن لم يحكم بوقوعها باطناً ، فهي زوجة الأول بكل حال ، ووطء الثاني لها وطء بشبهة .
فصل :
فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره ، فلها النفقة والمسكن أبداً ، سواء ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها ، أو لم يضربها ، لأننا لم نحكم ببينونتها بضرب المدة ، فهي باقية على حكم الزوجية . وإن حكم لها بالفرقة ، انقطعت نفقتها ، لمفارقتها إياه حكماً .
فصل :
إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب ، فعدتها من يوم مات ، أو طلق ، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة في أصح الروايتين . والأخرى إن ثبت ذلك بالبينة ، فكذلك ، وإن بلغها خبره ، فعدتها من حين بلغها الخبر .
باب اجتماع العدتين
إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلاً آخر ، لم تنقطع عدتها بالعقد ، لأنه عقد فاسد ، لا يصير به فراشاً ، فإن وطئها ، انقطعت عدة الأول ، لأنها صارت فراشاً للثاني ، فلا تبقى في عدة غيره . فإن فرق بينهما ، لزمها إتمام عدة الأول ، وعدة الثاني ، وتقدم عدة والأول ، لسبقها ، لما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أيما امرأة نكحت في عدتها ، لم يدخل بها الذي تزوجها ، فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، وكان خطاباً من الخطاب ، وإن كان قد دخل بها ، فرق الحاكم بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، ثم اعتدت من الآخر ، ولم ينكحها أبداً . رواه الشافعي في مسنده . فإن كانت حاملاً من الأول ، انقضت عدتها بوضع الحمل ، ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء . وإن حملت من وطء الثاني ، انقضت عدتها منه بوضع الحمل ، ثم أتمت عدة الأول بالقروء . وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول ، لأنه لا يجوز أن تضع حملها منه ، ولا تنقضي عدتها منه . وإن أتت بولد يمكن أو يكون منهما ، أري القافة ، وألحق بمن ألحقوه به منهما ، وانقضت عدتها منه به ، واعتدت للآخر . وإن ألحقوه بهما ، انقضت به عدتها منهما ، وإن لم يوجد قافة ، أو أشكل عليهم ، فعليها الاعتداد بعد وضع حملها بثلاثة قروء ، لأنه يحتمل أن يكون من الأول ، فيلزمها ثلاثة قروء ، لعدة الثاني ، فلزمها ذلك ، لتقضي العدة بيقين .
فصل :
وروي عن أحمد : أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد ، لقول عمر رضي الله عنه : ثم لا ينكحها أبداً . والصحيح في المذهب أنها تحل له ، لأنه وطء بشبهة ، فلم يحرمها على التأبيد ، كالنكاح بلا ولي . وقد روي أن علياً رضي الله عنه قال : إذا انقضت عدتها ، فهو خاطب من الخطاب ، يعني الزوج الثاني . فقال عمر رضي الله عنه : ردوا الجهالات إلى السنة ، ورجع إلى قول علي . قال الخرقي ، وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين ، فعلى هذا كل معتدة من وطء في نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ،لا يجوز للواطئ ، ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها ، لأنها معتدة من وطء في غير ملك ، فحرمت قبل انقضاء عدتها ، كالزانية . ويحتمل أن يباح للواطئ نكاحها في كل موضع يلحقه النسب ، لأن العدة إنما وضعت لصيانة الماء ، وحفظاً للنسب عن الاشتباه . والنسب هاهنا لاحق ، فلم يمنع الواطئ نكاحها ، كالمعتدة من نكاحه الصحيح .
فصل :
وإن وطئت المعتدة بشبهة ، أو زنا فلم تحمل ، أتمت عدة الأول ، ثم اعتدت للثاني ، لأنها لم تصر فراشاً . وإن حملت من الثاني ، أو أشكل الأمر ، فالحكم على ما ذكرنا في التي تحمل من زوج ثان .
فصل :
وكل حمل لا يلحق بالزوج ، كحمل زوجة الطفل ، والخصي والمجبوب ،وأشباههما لا تنقضي عدتها من الزوج به ، لأننا تبينا أنه ولد لغيره ، فلم تنقض به عدة الزوج ، كما لو علمنا الواطئ. وعنه : أن عدة زوجة الصغير تنقضي بوضع الحمل . وذكر أصحابنا في التي ولدت بعد أربع سنين ، منذ فارقها زوجها : أن عدتها تنقضي به في وجه ، والصحيح الأول ، لما ذكرنا ، ولأننا إن نعلم الواطئ ، فالمرأة تعلمه ، فلم يسقط عنها الاعتداد ، لجهلنا بعينه ، كما لو أقرت . فعلى هذا تنقضي عدة الأول بوطء الثاني ، وتنقضي عدة الثاني بوضع الحمل . فإذا وضعته ، بنت على عدة الأول على ما ذكرنا . وإن كانت حين موت زوجها حاملاً ، انقضت عدتها بوضعه من الواطئ ، ثم تعتد عن الزوج بأربعة أشهر وعشر .
فصل :
إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً رجعياً ، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانياً ، بنت على ما مضى من العدة ، لأنهما طلاقان لا يتخللهما وطء ولا رجعة ، فأشبه الطلقتين في وقت واحد . وإن طلق العبد زوجته الأمة طلقة ، ثم أعتقت ،وفسخت النكاح ، بنت على العدة كذلك . وإن طلق الرجل زوجته ،ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها ، ففيه وجهان :
أحدهما تبني على العدة الأولى ، لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ،فأشبه ما لو لم يرتجعها .
والثاني : تستأنف عدة كاملة ، لأنه طلاق نكاح صحيح ، وطئ فيه ، فأوجب عدة كاملة ، كما لو لم يتقدمه طلاق . وإن طلقها بعد دخوله بها ، استأنفت العدة . رواية واحدة . وسقطت بقية الأولى ، لأن حكم الطلقة انقطع بالزوجية والدخول ، وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها ، وقلنا : ذلك رجعة ، فقد عادت الزوجة ، فإن طلقها بعد ذلك ، استأنفت العدة ، وسقط حكم العدة الأولى ، كما تقدم . وإن قلنا : ليس هو برجعة ، فعليها أن تعتد للوطء ، لأنه وطء بشبهة ، وتدخل فيها بقية العدة الأولى ، لأنهما من رجل واحد . وأن كانت حاملاً ، فهل تتداخل العدتان ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يتداخلان ، لأنهما من رجل واحد ، فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء ، بوضع الحمل .
والثاني : لا تتداخلان لأنهما من جنسين ، بل تعتد للطلاق بوضع الحمل ، ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء ، كما لو كانا من رجلين ، وإن كانت حائلاً ، فحملت من الوطء . وقلنا : يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل ، وإن قلنا : لا يتداخلان ، انقضت عدة الوطء بالوضع ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء .
فصل :
وإذا خلع الرجل زوجته ، فله نكاحها في عدتها ، لأنها لحفظ مائه ونسبه ، ولا يصان ماؤه عن مائه ،إذا كانا من نكاح صحيح ، فإن طلقها بعد أن وطئها ، فعليها استئناف العدة ، لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس ، ويسقط حكم بقية العدة الأولى . وإن طلقها قبل أن يمسها ، ففيه روايتان كما ذكرنا في الرجعية ،والأولى هاهنا ، أنها تبني على عدة الطلاق الأول فتتمها ، لأن الطلاق الثاني ، طلاق من نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة . كما لو لم يتقدمه نكاح . ويلزمها بقية عدة الأول ، لأنها تنقطع بعقد التزويج ، لكونها تصير به فراشاً ، فلا تبقى معتدة منه مع كونها فراشاً له . وإذا طلقها لزمها إتمامها ، لأنه لو لم يجب ذلك ، أفضى إلى اختلاط المياه ، بان يطأ زوجته ، ثم يخلعها ، ثم يتزوجها ويطلقها من يومه ، فيتزوجها آخر ويطأها في يوم واحد ، فإن كانت حاملاً حين خلعها ، فتزوجها وولدت ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، لم يكن عليها عدة ، لأنه لم يبق من العدة الأولى شيء ، لأنها كانت حاملاً ، فلا تنقضي عدتها بغير الوضع .
باب مكان المعتدات
وهن ثلاثة :
إحداهن : الرجعية ، فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها ، لأنها تجب لحق الزوجية .
الثانية : البائن بفسخ ، أو طلاق ، تعتد حيث شاءت ، لما روت فاطمة بنت قيس : أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فقال : ليس لك عليه نفقة ولا سكنى وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك . ثم قال : إن تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم متفق عليه .
الثالثة : المتوفى عنها زوجها ، عليها أن تعتد في بيتها الذي كانت ساكنة به ، حين توفي زوجها ، لما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد : أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له ، فقتلوه بطرف القدوم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه ، ولا نفقة ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلما كان عثمان رضي الله عنه أرسل إلي فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به . رواه أبو داود ، و الترمذي وقال : حسن صحيح .
فإن خافت هدماً أو غرقاً أو عدواً ، أو حولها صاحب المنزل ، أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة ، فلها الانتقال حيث شاءت ، لأن الواجب سقط للعذر ، لوم يرد الشرع له ببدل فلم يجب ، وليس عليها بدل الأجرة ، وإن قدرت عليها ، لأنه إنما يلزمها فعل السكنى ، لا تحصيل للمسكن .
فصل :
ولا سكنى للمتوفى عنها ، إذا كانت حائلاً ، رواية واحدة ، وإن كانت حاملاً ، فعلى روايتين :
أحدهما لا سكنى لها ، لأن المال انتقل إلى الورثة ، فلم تستحق عليهم السكنى ، كما لو كانت حائلاً .
والثانية : لها السكنى ، لقول الله تعالى : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فريعة بنت مالك ، بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها . فإذا قلنا : لا سكنى لها ، فتبرع الوارث بإسكانها ، أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها ، إما بأداء أجرتها ، أو غير ذلك ، لزمها السكنى به . وإن لم يوجد ذلك ، سكنت حيث شاءت . وإن قلنا : لها السكنى ، فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء ، ولا يباع في دينه حتى تنقضي عدتها ، لأنه حق تعلق بعينه ، فقدمت على سائر الغرماء ، كالمرتهن . وإن تعذر ذلك المسكن ، أو كان المسكن لغير الميت ، استؤجر لها من مال الميت ، ويضرب بقدر أجرته مع الغرماء ، إن لم يف ماله بدينه ، فإن كانت عدتها بالحمل ، ضربت بأقل مدته ، لأن اليقين . فإن وضعت لأقل من ذلك ، ردت الفضل على الغرماء . وإن وضعت لأكثر منه ، رجعت عليهم بالنقص ، كما ترد عليهم الفضل . ويحتمل أن لا ترجع عليهم بشيء ، لأننا قدرنا ذلك لها مع تجويز الزيادة ، فلم ترد عليه .
فصل :
ولهم إخراجها لطول لسانها ، وأذاها لأحمائها بالسب ، لقول الله تعالى : {ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} . فسره ابن عباس بما ذكرنا . وإن بذئ عليها أهل زوجها ، نقلوا عنها ، لأن الضرر منهم .
فصل :
وليس لها الخروج من منزلها ليلاً ، ولها الخروج نهاراً لحوائجها ، لما روى مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد ، فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن : يا رسول الله إنا نستوحش بالليل ، أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا ، بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن ، فإن أردتن النوم ، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها ، ولأن الليل مظنة الفساد ، فلم يجز لها الخروج لغير ضرورة .
فصل :
وليس لها الخروج للحج ، لأنه لا يفوت ،والعدة تفوت ، فإن خرجت للحج ، فمات زوجها وهي قريبة ، رجعت ، لأنها في حكم الإقامة . وإن تباعدت ، مضت في سفرها ، لأن عليها في الرجوع مشقة فلم يلزمها ، كما لو كان أكثر من ثلاثة أيام . قال القاضي : حج البعيد : ما تقصر قيه الصلاة ، لأن ما دونه في حكم الحضر ، وإن خافت في الرجوع ، مضت في سفرها ولو كانت قريبة ، لأن عليها ضرراً في الرجوع . وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها ، ثم مات وخافت فواته ، مضت فيه ، لأنه أسبق . فإذا استويا في خوف الفوت ، كان أحق بالتقديم . وإن لم تخف فوته ، مضت في العدة في منزلها ، لأنه أمكن الجمع بين الواجبين ، فلزمها ذلك . وإن أحرمت بعد موته ، لزمها الإقامة ، لأن العدة أسبق .
فصل :
إذا أذن لها في السفر بغير نقلة ، فخرجت ، ثم مات ، فحكمه حكم الخروج للحج سواء . وإن كانت لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان ، فخي مخيرة بين البلدين ، لأنه ليس واحد منهما مسكناً لها ، لخروجها منتقلة عن الأول ، وعدم وصولها إلى الثاني . ويحتمل أن يلزمها المضي إلى الثاني ، لأنها مأمورة بالإقامة والسكنى ، والأول بخلافه ، وهذا ضعيف جداً ، لأن فيه إلزامها السفر مع مشقته ، ومؤنته ، وإبعادها عن أهلها ووطنها ، وربما لم يكن لها محرم سوى زوجها الذي مات ، وسفرها بغي محرم حرام ، ولا يحصل من سفرها فائدة ، ولا حكمة ، لأن حكمة الاعتداد في منزلها ، سترها ، وصيانتها لزوم منزلها ، وسفرها تبذيل لها وإبراز لها ، فهو محصل لضد المقصود ، سيما إذا لم يكن معها من يحفظها ، ومقامها في البلد الذي يسافر إليه عند الغرباء من غير أهلها في غير مسكنه ، أشد لهلكتها ، ثم تحتاج إلى الرجوع وكلفته ، وهذا فيه من القبح ما يصان الشرع منه ، والله أعلم . وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة ، لزمها الإقامة به ، وتعتد ، لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه . وإن كان لقضاء حاجة ، فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها . وإن كان لزيارة ، أو نزهة وقد قدر لها مدة الإقامة ، أقامت ما قدر لها ، لأنه مأذون فيه . وإن لم يقدر لها مدة ، فلها إقامة ثلاثة أيام ، لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام . ثم إن علمت أنه لا يمكنها الوصول قبل فراغ عدتها ، لم يلزمها العود لأنها عاجز عن الاعتداد في مكانها . وإن أمكنها قضاء شيء من عدتها في منزلها ، لزمها العود ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم . وإن خافت من الرجوع ، سقط ، للعذر . والحكم فيها إذا أذن لها في النقلة من دار إلى دار ومات وهي بينهما ، كذلك .
باب الإحداد
وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة ، وهو واجب في عدة الوفاة ، لما روت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام ، إلا على زوجها ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً ، إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيباً إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها ، بنبذة من قسط ، أو أظفار متفق عليه .
ويجب هذا على الحرة والأمة ، والكبيرة والصغيرة ، والمسلمة والذمية ، لعموم الحديث فيهن، ولا يجب على الرجعية ، لأنها باقية على الزوجية ، فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها ، ولا على أم ولد لوفاة سيدها ، ولا موطوءة بشبهة ولا زنا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إلا على زوجها . وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة ، روايتان :
إحداهما : لا إحداد عليها لقوله صلى الله عليه وسلم : إلا على زوجها . فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ،وهذه عدة الوفاة ، ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية .
والثانية : يجب عليها ، لأنها معتدة بائن ، أشبهت المتوفى عنها زوجها .
فصل :
ويحرم على الحادة : الكحل بالإثمد ، للخبر ، ولأنه يحسن الوجه ، ولا بأس بالكحل الأبيض ، كالتوتياء ونحوه ، لأنه لا يحسن العين ، بل يزيدها مرهاً . وإن دعت الحاجة إلى الاكتحال بالصبر ، والإثمد ، اكتحلت ليلاً وغسلته نهاراً ، لما روت أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت على عيني صبراً ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر ليس فيه طيب . قال : إنه يشب الوجه ، لا تجعليه إلا بالليل ، وانزعيه بالنهار وعن أم حكيم بنت أسيد أن زوجها توفي ، وكانت تشتكي عينها ، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء . فقالت : لا تكتحلي إلا لما لا بد منه ، فتكتحلين بالليل ، وتغسلينه بالنهار . رواهما النسائي .
فصل :
ويحرم على الحادة : الخضاب ، لما روت أم سلمة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشقة ، ولا الحلي ، ولا تختضب ولا تكتحل رواه أبو داود و النسائي . ويحرم عليها أن تمتشط بالحناء ، ولا يحرم عليها غسل رأسها بالسدر ، ولا المشط به ، لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء ، فإنه خضاب قالت : قلت : بأي شيء أمتشط ؟ قال : بالسدر تغلفين به رأسك رواه أبو داود . ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب ، ويجوز تقليم الأظفار والاستحداد ، لأنه يراد للتنظيف لا للتزيين . وزيحرم عليها تحمير وجهها بالكلكون ، وتبييضه باسفيذاج العرائس ، لأنه أبلغ في الزينة من الخضاب ، فهو بالتحريم أولى . ولها أن تستعمل الصبر في جميع بدنها ، إلا وجهها ، لأنه إنما منع في الوجه ، لأنه يصفر فيشبه الخضاب .
فصل :
ويحرم عليها الطيب ، للخبر ، ولأنه يحرك الشهوة ، ويدعو إلى المباشرة . ويحرم عليها استعمال الأدهان المطيبة ، لأنه طيب . فأما ما ليس بمطيب من الأدهان ، كالزيت والشيرج ، فلا بأس به ، لأن التحريم من الشرع ، ولم يرد بتحريمه ، ولا هو في معنى المحرم .
فصل :
ويحرم عليها الحلي ، للخبر ، ولأنه يزيد من حسنها ويدعو إلى مباشرتها . ويحرم عليها ما صبغ من الثياب للزينة ، كالأحمر ، والأصفر ، والأزرق الصافي ، والأخضر الصافي ، للخبر. فإن صبغ عزله ، ثم نسج ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحرم لقوله : إلا ثوب عصب . والعصب ما صبغ غزله قبل نسجه .
والثاني : يحرم ، لأنه أحسن وأرفع ، ولأنه صبغ للتحسين ، أشبه ما صبغ بعد النسج ، وهذا هو الصحيح ، وقوله : إلا ثوب عصب إنما أريد به ما صبغ بالعصب ، وهو نبت ينبت باليمن ، فأما كونه مصبوغ الغزل ، فلا معنى له في هذا . ولا يحرم الأسود ، ولا الأخضر المشبع ، والأزرق المشبع ، لأنه لم يصبغ لزينة ، إنما قصد به دفع الوسخ ، أو اللبس في المصيبة ، ونحو ذلك ، ولا بأس بلبس ما نسج من غزله على جهته من غير صبغ وإن كان حسناً من الحرير والقطن والكتان والصوف وغيره ، لأن حسنه من أصل خلقته ، لا لزينة أدخلت عليه ، فأشبه حسن المرأة في خلقها . قال الخرقي : وتجتنب النقاب ، لأن المحرمة تمنع منه ، فأشبه الطيب . وقال القاضي : كره أحمد النقاب للمتوفى عنها زوجها ، دون المطلقة . قال الخرقي : فإن احتاجت إلى ستر وجهها ، سدلت عليه كما تفعل المحرمة .
باب الاستبراء
ومن ملك أمة بسبب من الأسباب ، لم تحل له حتى يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملاً ، أو بحيضة إن كانت تحيض ، لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة . رواه أحمد في المسند . وروى الأثرم عن رويفع بن ثابت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن . ولأنها إذا وطئها قبل استبرائها ، أدى إلى اختلاط المياه ، وفساد الأنساب . فإن كان حيضاً حين ملكها ، لم تعتد بتلك الحيضة ، ولزمه استبراؤها بحيضة مستقبلة ، لأن الخبر يقتضي حيضة كاملة . وإن كانت من الآيسات ، أو من اللائي لم يحضن ، ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : يستبرئ بشهر ، لأن الشهر أقيم مقام الحيضة من عدة الحرة والأمة .
والثانية : بشهرين ، كعدة الأمة .
والثالثة : بثلاثة أشهر ، وهي أصح . قال أحمد بن القاسم : قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة ، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهراً ؟ فقال : من أجل الحمل ، فإنه لا يبين في أقل من ذلك ، فإن عمر بن العزيز سأل عن ذلك ، وجمع أهل العلم والقوابل ، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر ، فأعجبه ذلك . ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود : إن النطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة بعد ذلك ، فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة ، وهي لحمة ، فتبين حينئذ . وهذا معروف عند النساء . فأما شهراً ، فلا معنى له ، ولا أعلم أحداً قاله . فإن ارتفع حيضها لعارض تعلمه ، لم تزل في استبراء حتى تحيض ، أو تبلغ سن الإياس ، فتستبرأ استبراء الآيسات ، وإن لم تعلم ما رفعه ، استبرأت بعشرة أشهر في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى بسنة ، تسعة أشهر للحمل ، وثلاثة مكان الحيضة .
فصل :
ويجب استبراء الصغيرة والكبيرة ، لأنه نوع استبراء فاستويا فيه ، كالعدة . وعنه : أن الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لا يجب استبراؤها ، لأنه يراد لبراءة الرحم ، ولا يحتمل الشغل في حقها . وإن ملك ما تحل له - كالمجوسية ، والوثنية - فاستبرأها ، ثم أسلمت حلت بغير استبراء ثان ، للخبر ، ولأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم ، ولا يختلف ذلك بالحل والحرمة . وإن أسلمت قبل الاستبراء ، لزمه استبراؤها ، للخبر والمعنى .
فصل :
ولا يصح الاستبراء حتى يملكها ، لأن سببه الملك فلم يتقدم عليه ، كما لا تتقدم العدة الفرقة . فإن استبرأها في مدة الخيار ، صح ، لأن الملك ينتقل بالبيع . وإن قلنا : لا ينتقل حتى ينقضي الخيار ، لم يصح الاستبراء فيه . وهل يشترط القبض لصحة الاستبراء ؟ على وجهين :
أحدهما : يشترط ، فلو حاضت بيد البائع بعد البيع ، لم يصح الاستبراء ، لأن المقصود معرفة براءتها من ماء البائع ، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده .
والثاني : يصح ، لأن سببه الملك وقد وجد ، فيجب أو يعقبه حكمه . وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها ، ثم أخذها السيد ، لم تحتج إلى استبراء ، لأن ما في يد عبده ملكه . وإن اشترى مكاتبه أمة ، ثم صارت إلى السيد لعجزه ، أو قبضها من نجوم كتابته ، لم تبح بغير استبراء ، لأنه يتجدد ملكه بأخذها من مكاتبه ، إلا أن يكون ذا رحم محرم للمكاتب ، فيحل لأن حكمها حكم المكاتب ، وإن رق رقت ، وإن عتق عتقت . والمكاتب مملوك ، فلو كاتب أمته ثم عجزت ، أو رهنها ثم فكها ، أو ارتدت ثم أسلمت ، أو ارتد سيدها ثم أسلم ، حلت بغير استبراء ، لأنه لم تخرج عن ملكه ، وإنما حرمت بعارض زال ، فأشبه ما لو أحرمت ثم حلت .
فصل :
وإن باعها السيد ، ثم ردت عليه بفسخ أو مقايلة بعد قبض المشتري لها وافتراقهما ، وجب استبراؤها ، لأنه تجديد ملك يحتمل اشتغال الرحم قبله ، فأشبه ما لو اشتراها . وإن كان قبل افتراقهما ، ففيه روايتان :
إحداهما : يجب استبراؤها ، لأنه تجديد ملك ، فأشبه شراء الصغيرة .
والثاني : لا يجب ، لأن تيقن البراءة معلوم ، فأشبه الطلاق قبل الدخول . وإن زوجها سيدها ثم طلقت قبل الدخول ، لم يجب استبراؤها ، لأن ملكه لم يتجدد عليها . وإن فارقها بعد الدخول ، أو مات عنها ، لم تحل حتى تقضي العدة .
فصل :
وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها زوجها قبل الدخول ، وجب استبراؤها ، لأنه تجديد ملك ، وأن طلقها بعد دخوله بها ، أو مات عنها ، فعن أحمد : ما يدل على أنه يكتفي بعدتها ، لأن براءتها تعلم بها . وقال أبو الخطاب : فيها وجهان :
أحدهما : يدخل الاستبراء في العدة كذلك .
والثاني : لا يدخل ، لأن الطلاق والملك سببان للاستبراء من رجلين ، فلم يتداخلا ، كالعدتين في رجلين . وإن اشتراها وهي معتدة ، فقال القاضي : يلزمه استبراؤها بعد قضاء عدتها ، لما ذكرنا . ويحتمل أن تدخل بقية العدة في الاستبراء ، لأن المقصود يحصل بذلك .
فصل :
ومن ملك زوجته ، لم يلزمه استبراؤها ، لأنه لصيانة الماء وحفظ النسب ، ولا يصان ماؤه عن مائه ، لمن يستحب ذلك ، ليعلم : هل الولد من نكاح عليه ولاء أو من ملك يمينه فلا ولاء عليه ؟ .
فصل :
وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها ، لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها ، لأنها محرمة عليه بملك اليمين فلم تحل بالإعتاق فحرم نكاحها ، كأخته من الرضاع ، ولأن ذلك يفضي إلى اختلاط المياه وفساد النسب ، بأن يطأها البائع ، ثم يبيعها فيعتقها المشتري ، ويتزوجها ، يطؤها في يوم واحد . ولها أن تتزوج غيره إن لم يكن البائع يطؤها ، لأنها لم تكن فراشاً ، فأبيح لها التزويج ، كما لو أعتقها البائع بعد استبرائها . وإن أعتق أم ولده ، أو أمة كان يصيبها ، لزمها استبراء نفسها ، لأنها صارت بالوطء فراشاً له ، فلزمها الاستبراء عند زوال الفراش ، كالزوجة إذا طلقت . فإن أراد معتقها أن يتزوجها في استبرائها ، جاز لأنه لا يحفظ ماؤه عن مائه ، وإن أعتق أمة لم يكن يطؤها ، فليس عليها استبراء ، لأنها ليس فراشاً . وله أن يتزوجها عقيب عتقها ، لأنها مباحة لغيره ، فله أولى . وعنه : لا يتزوجها حتى يستبرئها . وقال ابن عقيل : هذا محمول على الاستحباب . لما ذكرناه .
فصل :
ومن ملك أمة يلزمه استبراؤها ، لم يحل له التلذذ بها بالنظر والقبلة ونحوه ، لأننا لا نأمن كونها حاملاً من البائع . فتكون أم ولده ، فيحصل مستمتعاً بأم ولد غيره ، إلا أن يملكها بالسبي ، فيكون فيها روايتان :
إحداهما : يباح له ذلك ، لأنه لا يخشى انفساخ ملكه لها بحملها ، فلا يكون مستمتعاً إلا بمملوكته .
والثانية : يحرم ، لأن ما حرم الوطء ، حرم دواعيه ، كالعدة ، وإن وطئت زوجة الرجل أو مملوكته بشبهة ، أو زنا ، لم يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها . وفي التلذذ بغير الوطء وجهان . بناء على الروايتين .
فصل :
ومن أراد بيع أمته ولم يكن يطؤها ، لم يلزمه استبراؤها ، لأنه قد حصل يقين براءتها منه . فإن كان يطؤها ، ففيه روايتان :
إحداهما : يجب ، لأن عمر رضي الله عنه أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها . قال : ما كنت لذلك بخليق ، ولأن فيه حفظ مائه وصيانة نسبه ، فوجب عليه ، كالمشتري .
والثانية : لا يجب ، لأنه يجب على المشتري ، فأغنى عن استبراء البائع . فأما إن أراد تزويجها ، أو تزوج أم ولده ، لم يجز قبل استبرائها ، لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها . فإذا لم يستبرئها السيد ، أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب . وله تزوج أمته التي لا يطؤها من غير استبراء ، لأنها ليست فراشاً له .
فصل :
وإن مات عن أم ولده ، لزمها الاستبراء ، لأنها صارت فراشاً ، و تستبرأ كما تستبرأ المسيبة ، لأنه استبراء بملك اليمين . وعنه : تستبرأ بأربعة أشهر وعشر ، لما روي عن عمر بن العاص أنه قال : لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ، ولأنه استبراء الحرة من الوفاة ، فلزمها أربعة أشهر وعشر ، كعدة الزوجة . والصحيح الأول ، لما ذكرناه . وخبر عمرو لا يصح ، قاله أحمد .
فصل :
وإن مات عنها ، أو أعتقها وهي مزوجة ، أو معتدة ، لم يلزمها استبراء ، لأنه زال فراشه عنها قبل وجوب الاستبراء ، فلم يجب ، كما لو طلق امرأته قبل الدخول . وإن مات بعد عدتها ، لزمها الاستبراء ، لأنها عادت إلى فراشه . وقال أبو بكر : لا يلزمها استبراء إلا أن يعيدها إلى نفسه ، لأن الفراش زال بالتزويج ، فلا يعود إلا بإعادتها إلى نفسه . فإن مات زوجها وسيدها ، ولم يعلق السابق منهما ، فعلى قول أبي بكر : عليها بعد موت الآخر منهما عدة الحرة من الوفاة ، لأنه يحتمل أن سيدها مات أولاً ، ثم مات زوجها وهي حرة ، فلزمها عدة الحرة ، لتبرأ بيقين . وعلى القول الأول : إن كان بينهما دون شهرين وخمسة أيام ، فليس عليهما بعد الآخر منهما ، إلا عدة الحرة من الوفاة ، لأن الاستبراء لا يحتمل الوجوب بحال ، لكون موت سيدها إن كان أولاً ، فقد مات وهي مزوجة ، وإن كان آخراً ، فقد مات وهي معتدة ، ولا استبراء عليها في الحالين . وإن كان بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام ، فعليها بعد موت الآخر منهما أكثر الأمرين ، من عدة حرة من الوفاة ، أو الاستبراء ، لأنه يحتمل أن الزوج مات آخراً ، فعليها عدة الحرة ، ويحتمل أن السيد مات آخراً ، فعليها الاستبراء بحيضة ، فوجب الجمع بينهما ، ليسقط الفرض بيقين . ولا ترث الزوج ، لأن الأصل الرق ، فلا ترث مع الشك .
فصل :
وإذا كانت الأمة بين نفسين فوطئاها ، لزمها استبراءان ، لأنهما من رجلين ، فلم يتداخلان ، كالعدتين .
فصل :
إذا اشترى أمة فظهر بها حمل ، فقال البائع : هو مني ، وصدقه المشتري ، لحقه الولد ، والجارية أم الولد ، والبيع باطل . وإن كذبه المشتري ، نظرنا ، فإن كان البائع أقر بوطئها عند البيع ، وأتت بالولد لدون ستة أشهر ، فهو ولده ، والبيع باطل . وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، وكان البائع استبرأها قبل بيعها ، ولم يطأها المشتري ، أو وطئها ولكن ولدته لدون ستة أشهر منذ وطئها ، لم يلحق بواحد منهما ، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري ، وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، من حين وطء المشتري ، فهو ولده والجارية أو ولده . وإن لم يستبرئها واحداً منهما ، فأتت بولد لدون أربع سنين منذ باعها ،ولأكثر من ستة أشهر منذ وطئها المشتري ، عرض على القافة ، وألحق بمن ألحقوه به منهما . وقد روى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها ، فظهر بها حمل عند المشتري ، فخاصموه إلى عمر ، فقال له عمر : كنت تقع عليها ؟ قال : نعم . قال : فبعتها قبل أن تستبرئها ؟ قال : نعم . قال : ما كنت لذلك بخليق ، فدعا القافة فنظروا إليه ، فألحقوه به . فإن لم يكن البائع أقر بوطئها حين بيعها ، فادعاه بعد ذلك ، وكذبه المشتري ، لم تقبل دعواه في الولد ، لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر ، فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه ، كما لو باع عبداً ، ثم أقر أنه كان أعتقه ،والقول قول المشتري مع يمينه . وهل يلحقه نسب الولد ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلحقه ، لأنه يجوز أن يكون ابناً لواحد ، مملوكاً لآخر ، كولد الأمة المزوجة .
والثاني : لا يلحق ، لأن فيه ضرراً على المشتري ، فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه . والله سبحانه وتعالى أعلم .