المجلد الثالث - كتاب الإيلاء

وهو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربع أشهر ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر‏}‏ ويصح من كل زوج مكلف قادر على الوطء ، ولا يصح من غير زوج، كالسيد يؤلي من أمته ، أو من أجنبية ، ثم يتزوجها ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏من نسائهم‏}‏ ولا يصح من صبي ولا مجنون ، لأنه لا حكم ليمينهما ‏.‏ فأما العاجز عن الوطء ، فإن كان لسبب يرجى زواله ، كالمرض والحبس ، صح إيلاؤه ، لأنه يمنع نفسه الوطء بيمينه ، فأشبه القادر ، وإن كان لسبب غير مرجو الزوال ، كالجب ، والشلل ، لم يصح إيلاؤه ، لأنه حلف ترك مستحيل ، فلم يصح ، كالحلف على ترك الطيران ، ولأن الإيلاء ، اليمين المانعة من الجماع، وهذا لا تمنعه منه يمينه، ويحتمل أن يصح إيلاؤه ، كالعاجز بالمرض ‏.‏ ويصح إيلاء الذمي ، لعموم الآية ، ولأن من صح طلاقه ويمينه عند الحاكم ، صح إيلاؤه كالمسلم ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط لصحته أربعة شروط ‏:‏

أحدها ‏:‏ الحلف لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون‏}‏ والإيلاء ‏:‏ الحلف ‏.‏ فإن حلف بالله تعالى ، ، أو بصفة من صفاته ، كان مؤلياً بغير خلاف ‏.‏ وإن حلف بالطلاق ، أو العتاق ، أو الظهار ، أو صدقة المال ونحوه ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يكون مؤلياً ، لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير الآية ‏:‏ يحلفون بالله ‏.‏ هكذا ذكره الإمام أحمد ، ولأنه لم يحلف بالله ‏.‏ فلم يكن مؤلياً ، كالحالف بالكعبة ‏.‏

والثانية ‏:‏ يكون مؤلياً ، لأنها يمين يلزم بالحنث فيها حق ، فيصح الإيلاء بها ، كاليمين بالله تعالى ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ ما أوجب الكفارة ، كالحرام ، كان به مؤلياً ، وما لا كفارة فيه ، كالطلاق والعتاق ، لم يكن به مؤلياً ، ولا يختلف المذهب أنه لا يكون مؤلياً بما لا يلزمه به حق، كقوله ‏:‏ إن وطئتك ، فأنت زانية ، لأنه لا يصح تعليق القذف بشرط ، فلا يلزمها بالوطء حق، فلا يكون مؤلياً ‏.‏ ولو قال ‏:‏ إن وطئتك ، فعلي صوم أمس ، أو صوم هذا الشهر ، لم يصح ، لأنه يصير عند وجوب الفيئة ماضياً ، ولا يصح نذر الماضي ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إن وطئتك ، فالمسلم حر عن ظهاري ، صار مؤلياً ، لأنه يلزمه بالوطء حق ، وهو تعيين عتق سالم ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري ، أن تظاهرت ، لم يكن مؤلياً في الحال ، لأنه يمكنه الوطء بغير حق يلزمه ‏.‏ وإن تظاهر ، صار مؤلياً ، لأنه لا يمكنه الوطء ، إلا بحق يلزمه ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الثاني ‏:‏ أن يحلف على ترك الوطء بالفرج ، لأنه الذي يحصل الضرر به ‏.‏ وإن حلف على ترك الوطء في الدبر ، أو دون الفرج ، فليس بمؤل ، لأنه لا ضرر فيه ‏.‏ وألفاظ الإيلاء تنقسم ثلاثة أقسام ‏:‏

أحدها ‏:‏ صريح في الظاهر والباطن ، وهي قوله ‏:‏ والله لا آتيك ، أو لا أدخل ، أو أغيب ، أو أولج ذكري ، أو حشفتي ، أو لا أفتضك ، للبكر خاصة ، فهذه صريحة ولا يدين فيها ، لأنها لا تحتمل غير الإيلاء ‏.‏

والقسم الثاني ‏:‏ صريحة في الحكم ، ويدين فيها ‏.‏ وهي عشرة ألفاظ ‏:‏ لا وطئتك ، لا جامعتك، لا أصبتك ، لا باشرتك ، لا مسستك ، لا قربتك ، لا أتيتك ، لا باضعتك ، لا باعلتك ، لا اغتسلت منك ، فهذه صريحة في الحكم ، لأنها تستعمل في الوطء عرفاً وقد ورد الكتاب والسنة ببعضها ، فلا يقبل تفسيرها بما يحيله ، كوطء القدم ،والإصابة باليد ، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ، لأنه يحتمل ما قاله ‏.‏

القسم الثالث ‏:‏ كناية هو ‏:‏ ما عدا هذه الألفاظ ، مما يحتمل الجماع وغيره ، كقوله ‏:‏ لأسوأنك، ولا دخلت عليك ، ولا جمع رأسي ورأسك شيء ،فهذا لا يكون مؤلياً بها ، إلا بالنية ، لأنها ليس ظاهر في الجماع ،فلم يحمل عليه إلا بالنية ، ككنايات الطلاق فيه ‏.‏ فإن قال ‏:‏ والله لا جامعتك إلا جماع سوء ، ونوى به الجماع في الدبر ، أو دون الفرج ، فهو مؤل ‏.‏ وإن نوى جماعاً ضعيفاً لا يزيد على تغييب الحشفة ، فليس بمؤل ، لأن الضعيف كالقوي في الحكم ‏.‏



فصل ‏:‏

الشرط الثالث ‏:‏ أن يكون الحالف زوجاً مكلفاً ، قادراً على الوطء في الجملة ، وقد ذكرنا ذلك‏.‏

الشرط الرابع ‏:‏ أن يحلف على مدة تزيد على أربعة أشهر ‏.‏ فإن حلف على أربعة فيما دونها ، لم يكن مؤلياً ، حراً كان أو عبداً ، من حرة أو أمة لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر‏}‏ ‏.‏ فدل على أنه لا يكون مؤلياً بما دونها، ولأن المطالبة بالطلاق و الفيئة، إنما تكون بعدها ، فلا تصح المطالبة من غير إيلاء ، فإذا قال ‏:‏ والله لا وطئتك ، كان مؤلياً ، لأنه يقتضي التأبيد ‏.‏ وكذلك إن قال ‏:‏ حتى تموتي أو أموت ، لأنه للتأبيد ‏.‏ وكذلك إن علقه على مستحيل فقال ‏:‏ حتى تطيري ، ويشيب الغراب ، ويبيض القار ، لأن معناه التأبيد ‏.‏ قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏}‏ ‏.‏ أي ‏:‏ لا يلج الجمل في سم الخياط ، أي لا يدخلونها ، أبداً ، وإن علقه على فعل يقين ، أو يغلب على ظنه ، أنه لا يوجد في أربعة أشهر ، كقيام الساعة ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى من السماء ، أو موت زيد ، فهو مؤل ، لأنه لا يوجد في أربعة أشهر ظاهراً ، فأشبه ما لو صرح به ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك حتى تحبلي ، فهو مؤل ، لأنها لا تحبل من غير وطئه ، فهو كالحلف على ترك الوطء دائماً ، وقال القاضي ‏:‏ إن كانت ممن يحبل مثلها ، لم يكن مؤلياً ، ولا أعلم لهذا وجهاً ، لأنه لا يمكن حملها ، من غير وطء ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أردت بـ‏(‏‏(‏حتى‏)‏‏)‏ السببية ، أي لا أطؤك لتحبلي ، قبل منه ، لأنه يحتمل ما قاله ، ولا يكون مؤلياً ، لأنه يمكن وطؤها لغير ذلك ‏.‏ وإن علقه على ما يعلم وجوده قبل أربعة أشهر ، كجفاف بقل ، أو ما يغلب على الطن وجوده قبلها ، كنزول الغيث في أوانه ، وقدوم الحاج في زمانه ، أو ما يحتمل الأمرين على السواء ، كقدوم زيد من سفر قريب ، لم يكن مؤلياً ، لأنه لم يغلب على الظن وجود الشرط ، فلا يثبت حكمه‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله ليطولن تركي لجماعك ، ونوى مدة الإيلاء ، فهو مؤل ، وإلا فلا ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لأسوأنك ، ولتطولن غيبتي عنك ، ونوى ترك الجماع في مدة الإيلاء ، فهو مؤل ، لأنه عنى بلفظه ما يحتمله ، وإلا فلا ، وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك طاهراً ، أو وطأ مباحاً ، فهو مؤل لأنه حلف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة ، فكان مؤلياً ، كما لو قال ‏:‏ والله لا وطئتك إلا في الدبر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك في هذا البيت ، أو البلد ، لم يكن مؤلياً ، لأنه يمكنه الوطء بغير حنث ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك إلا برضاك ، أو ، إلا أن تشائي ،فليس بمؤل كذلك ، وكذلك ‏:‏ والله لا وطئتك مريضة ، أو محزونة ، أو مكروهة ، أو ليلاً أو نهاراً ، لم يكن مؤلياً كذلك ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك إن شئت ، فشاءت ، صار مؤلياً ، وإلا فلا ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح تعليق الإيلاء على شرط ، لأنه يمين ‏.‏ فإذا قال ‏:‏ إن وطئتك فوالله لا وطئتك ، لم يصر مؤلياً في الحال ، لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث ‏.‏ فإذا وطئها ، صار مؤلياً ، لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك في هذه السنة إلا مرة ، لم يصر مؤلياً في الحال كذلك ‏.‏ فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر ، صار مؤلياً ، لأنه صار ممنوعاً من وطئها بيمينه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك سنة إلا يوماً فكذلك ، لأن اليوم منكر ، فلم يختص يوم بعينه ،فصارت كالتي قبلها ، ويحتمل أن يصير مؤلياً في الحال ، لأن اليوم المستثنى يكون من آخر السنة ، كما في التأجيل ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك ، عاماً ، ثم قال ‏:‏ والله لا وطئتك نصف عام ، دخلت المدة الثانية في الأولى ، لأنها بعضها ، ولم يعقب إحداهما بالأخرى ، فتداخلا كما لو قال ‏:‏ له علي مائة ، ثم قال ‏:‏ له علي خمسون ، فإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك عاماً ، فإذا مضى ، فوالله لا وطئتك نصف عام ، فهما إيلاإن في زمانين ، لا يدخل حكم أحدهما في الآخر ‏.‏ فإن انقضى حكم الأول ، ثبت حكم الآخر ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك أربعة أشهر ، فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ، لم يكن مؤلياً ، لأن كل واحد من الزمانين لا تزيد مدته على أربعة أشهر، ويحتمل أن يكون مؤلياً ، لأنه ممتنع بيمينه من وطئها مدة متوالية أكثر من أربعة أشهر ‏.‏


فصل ‏:‏

وإن قال لأربعة نسوة ‏:‏ والله لا أطأكن ، انبنى على أصل ، وهو ‏:‏ هل يحنث بفعل بعض المحلوف عليه ، أم لا ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحنث فيكون مؤلياً في الحال منهن ، لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن ، إلا بحنث ، فإذا وطء واحدة ، انحلت يمينه ، لأنها يمين واحدة ، فتنحل بالحنث فيها ، كما لو حلف على واحدة ‏.‏

وعلى الأخرى ‏:‏ لا يحنث بفعل البعض ، فلا يكون مؤلياً في الحال ، لأنه يمكن وطء كل واحدة بغير حنث ‏.‏فإذا وطء ثلاثاً ، صار مؤلياً في الرابعة ، وابتداء المدة حينئذ ‏.‏ فإن مات بعضهن ، أو طلقها انحل الإيلاء ، لأنه أمكنه وطء الباقيات بغير حنث ‏.‏ وإن قال ‏:‏ والله لا وطئت واحدة منكن ، صار مؤلياً في الحال ، لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث ‏.‏ فإن طلق واحدة منهن ، أو ماتت ، كان مؤلياً من الباقيات ، لأنه تعلق بكل واحدة منفردة ‏.‏ وإن وطء واحدة ، سقط الإيلاء من الباقيات ، لأنها يمين واحدة ، فإذا حنث مرة ، لم يعد الحنث مرة ثانية ، وإن نوى واحدة بعينها ، كان مؤلياً منها وحدها ، ويقبل قوله في ذلك ، لأن اللفظ يحتمله ، وهو أعلم بنيته ‏.‏ وإن قال ‏:‏ نويت واحدة معينة ، قبل ، لأنه يحتمل ذلك ‏.‏ وقياس المذهب ‏:‏ أن يخرج المؤلي منها بالقرعة ، كالطلاق ، وذكر القاضي ‏:‏ أن الحكم فيمن أطلق يمينه ولم ينو شيئاً ، كذلك ، والأول أولى ، لأنه نكرة في سياق النفي ، فيكون عاماً ‏.‏ ولو قال ‏:‏ والله لا وطئت كل واحدة منكن ، كان مؤلياً من جميعهن ، ولم يقبل قوله ‏:‏ نويت واحدة ، لأن لفظه لا يحتمل ذلك ، وينحل اليمين بوطء واحدة ، لما ذكرنا ‏.‏ فإن طالبن بالفيئة ، وقف لهن كلهن ‏.‏ وإن اختلفت مطالبهن ، وقف لكل واحدة عند طلبها ، لأنه لا يؤخذ بحقها قبل طلبها ، وعنه ‏:‏ يوقف لهن جميعهن عند طلب أولاهن ، لأنها يمين واحدة ، فكان الوقف لها واحداً ‏.‏ وإن قال لزوجتيه ، كلما وطئت إحداكما فالأخرى طالق ‏.‏ وقلنا بكونه إيلاء ، فهو مؤل منهما ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ والله لا وطئتك ، ثم قال للأخرى ‏:‏ شركتك معها ، لم يصر مؤلياً من الثانية ، لأن اليمين بالله ، لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم ، أو صفة ، وهذا كناية ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يكون مؤلياً منهما ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إن أصبتك ‏.‏ فأنت طالق ، وقال للأخرى ‏:‏ أشركتك معها ونوى ، وقلنا بكونه إيلاء من الأولى ، صار مؤلياً من الثانية ، لأن الطلاق يصح بالكناية ‏.‏ ولو قال ‏:‏ أنت علي كظهر أمي ، ثم قال للأخرى ‏:‏ شركتك معها ، كان مظاهراً منهما ، لأن الظهار تحريم ، فصح بالكناية كالطلاق ‏.‏ وهل يفتقر إلى نية ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يفتقر إليها لأن التشريك لا بد أن يقع في شيء يوجب صرفه إلى المذكور كجواب السؤال ‏.‏

والثاني ‏:‏ يفتقر إليها ذكره أبو الخطاب ، لأنه ليس صريح في الظهار ، فافتقر إلى النية ، كسائر كناياته ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يطالب المؤلي بشيء قبل أربعة أشهر ، للآية ‏.‏ وابتداء المدة من حين اليمين ، لأنها تثبت بالنص والإجماع ، فلم تفتقر إلى حاكم ، كمدة العدة ‏.‏ فإن كان بالمرأة عذر يمنع الوطء ، كصغر أو مرض أو نشوز أو جنون أو إحرام أو صوم فرض ، أو اعتكاف فرض ، لم يحتسب عليه بمدته ، لأن المنع منها ‏.‏ وإن طرأ منه شيء ، انقطعت المدة ، لأنها إنما ضربت لامتناع الزوج من الوطء ، ولا امتناع منه مع العذر ، ويستأنف المدة عند زوال العذر ، لأن من شأنها أن تكون متوالية ، ويحتسب بمدة الحيض ، لأنه عذر معتاد لا ينفك منه ، فلو قطع المدة ، سقط حكم الإيلاء ، وكذلك لا يقطع التتابع في الصيام ‏.‏ وفي النفاس وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو كالحيض ، لأنه مثله في أحكامه ‏.‏

والثاني ‏:‏ هو كالمرض ، لأنه عذر نادر ، أشبه المرض ‏.‏ وإن كان بالزوج عذر ، حسبت عليه مدته ، ولم يقطع المدة طريانه ، لأن الامتناع من جهته ، والزوجية باقية ، فحسبت عليه المدة ‏.‏ وإن آلى من الرجعية ، احتسب عليه المدة ‏.‏ ذكره ابن حامد ‏.‏ وإن طرأ الطلاق الرجعي ، لم يقطع المدة ، لأن الرجعية مباحة ، ويحتمل أن تنقطع إذا قلنا بتحريمها ‏.‏ وغن طلقها طلاقاً بائناً ،انقطعت المدة ، لأنها حرمت عليه ، فإذا تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر ، استؤنفت المدة ، سواء كان الطلاق في المدة ، أو بعدها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وطئها ،حنث وسقط الإيلاء ، لزوال اليمين والضرر عنها ، سواء وطئها يقظانة ، أو نائمة أو عاقلة أو مجنونة ‏.‏ وهكذا إن وطئها في حيض ، أو نفاس ، أو إحرام ، أو صيام ، أو ظهار ، لما ذكرنا ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ قياس المذهب ألا يخرج من حكم الإيلاء ، بالوطء الحرام ، لأنه لا يؤمر به في الفيئة ، فهو كالوطء في الدبر ، والأول أولى ، لأن اليمين تنحل به ، فيزول الإيلاء بزوالها ‏.‏ وإن وطئها وهو مجنون ، لم يحنث ، لأن القلم عنه مرفوع ، ويسقط الإيلاء ، لأنه وفاها حقها ،، ويحتمل ألا يسقط ، لأن حكم اليمين باق ، ولو أفاق ، لمنعته اليمين الوطء ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ يحنث وينحل الإيلاء ، لأنه فعل ما حل عليه ‏.‏ وإن وطئها ، ناسياً فهل يحنث ‏؟‏ على روايتين ‏.‏ أصحهما‏:‏ لا يحنث ‏.‏ فعلى هذا هل يسقط الإيلاء ‏؟‏ على وجهين كما ذكرنا في المجنون ‏.‏ وإن استدخلت ذكره وهو نائم ، لم يحنث ، لأنه ما وطئ ، وهل يسقط الإيلاء ‏؟‏ على وجهين ، لما ذكرنا‏.‏ وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة تغييب الحشفة في الفرج ، لأن أحكام الوطء تتعلق به ، وإن وطئها في الدبر ، أو دون الفرج ، لم يعتد به ، لأن الضرر واليمين لا يزولان به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا وطء لزمته الكفارة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه متفق عليه ‏.‏ وإن كان الإيلاء بتعليق عتق ، أو طلاق ، وقع ، لأنه معلق على شرط قد وجد ‏.‏ وإن كان على نذر ، خير بين الوفاء به والتكفير ، لأنه نذر لجاج ، وهذا حكمه ‏.‏ وإن كان معلقاً على طلاق ثلاث ، لم يحل له الوطء ، لأنه آخره يقع في أجنبية، ويوقع طلاق البدعة من وجهين جمع الثلاث، ووقوعه بعد الإصابة، وذكر القاضي ‏:‏ أن كلام أحمد يقتضي روايتين ‏.‏ فإن وطئ فعليه النزع حين يولج، لأن الحنث حصل به فصارت أجنبية ، فإذا فعل هذا ، فلا حد عليه ، ولا مهر ، لأنه تارك للوطء ، وإن لبث أو أتم الإيلاج ، فلا حد أيضاً ‏.‏ لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجة ، وفي المهر وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجب ، لأنه وطء في محل غير مملوك ، أشبه ما لو وطئ بعد النزع ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجب ، لأنه إيلاج في محل مملوك ، فكان آخره تابع له في سقوط المهر ،ويلحق النسب به ‏.‏ وإن نزع ، ثم أولج وهما عالمان بالتحريم ، فهما زانيان زنا لا شبهة فيه ، فعليهما الحد، ولا مهر لها إذا كانت مطاوعة‏.‏ وإن كانت مكروهة، أو جاهلة بالتحريم، فلا حد عليها ، ولها عليه المهر ‏.‏ وإن جهلا التحريم معاً ، فلا حد ، ويجب لها المهر ، ويلحقه النسب ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إن وطئتك ، فأنت علي كظهر أمي ، فقال أحمد ‏:‏ لا يطأ حتى يكفر ، يريد أنه إذا وطئها مرة ، لم يكن له أن يطأها ثانياً ، حتى يكفر ، لأنها لم تصير محرمة عليه بالظهار ، فأما قبل ذلك ، فلا يصح منه التفكير ، لأنه لا يجوز تقديم الكفارة على سببها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن انقضت المدة ولم يطأ ، فلها المطالبة بالفيئة ، أو الطلاق ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم‏}‏ فإن سكتت عن المطالبة ، لم يسقط حقها وإن عفت عنها ، سقط حقها في أحد الوجهين ، كما لو عفت امرأة العنين ‏.‏ والآخر لا يسقط ، ولها الرجوع ، والمطالبة ، لأنها ثبتت بترك الضرر بترك الوطء ، وذلك يتجدد مع الأحوال فأشبه النفقة والقسم ، وإن طلب الإمهال ، ولا عذر له ، لم يمهل ، لأن الحق حال عليه وهو قادر عليه ‏.‏ وإن كان ناعساً فقال ‏:‏ أمهلوني حتى يذهب النعاس ، أو جائعاً فقال ‏:‏ أمهلوني حتى أتغدى ، أو حتى ينهضم الطعام ، أو حتى أفطر من صيامي ، أمهل بقدر ، ذلك ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة ، كالدين الحال ‏.‏ فإن وطئها ، فقد وفاها حقها ‏.‏ وإن أبى ولا عذر له أمر بالطلاق إن طلبت ذلك ، فإن طلق ، وقع طلاقه الذي أوقعه ، ولا يطالب أكثر من طلقة ، لأنها تفضي إلى البينونة ، فإن امتنع ، طلق الحاكم عليه ، لأنه حق تعين مستحقه ، ودخلته النيابة ، فقام الحاكم مقامه عند امتناعه منه ، كقضاء دينه ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ لا تطلق عليه ولكن يحبس ويضيق عليه حتى يطلق ، لأن ما خير فيه بين شيئين ، لم يقم الحاكم مقامه فيه ، كاختيار إحدى الزوجات إذا أسلم على أكثر من أربع ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ إن الحاكم يملك الطلاق ، فله أن يطلق واحدة أو ثلاثاً ، ولأنه قائم مقام الزوج ، فملك ما يملكه ‏.‏ فإن طلق الزوج ، أو الحاكم ثلاثاً حرمت عليه ، إلا بزوج وإصابة ‏.‏ فإن طلق أحدهما أقل من ثلاث ، فله رجعتها ‏.‏ وعن أحمد أنها تكون طلقة بائنة ، لأنها شرعت لدفع الضرر الحاصل منه ، فوجب أن لا يملك رجعتها ، كالمختلعة ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن تفريق الحاكم يحرمها على التأبيد ، لأنه تفريق حاكم ،فأشبه فرقة اللعان ، والأول أصح ، لأنه لم يستوف عدد طلاقها ، فلم تحرم على التأبيد ، كما لو طلق الزوج ‏.‏ وإن قال الحاكم ‏:‏ فرقت بينكما ، فهو فسخ للنكاح لا تحل له إلا بنكاح جديد ، نص عليه ‏.‏ ومتى وقع الطلاق ، ثم ارتجعها ، أو تركها ثم انقضت عدتها ، ثم تزوجها ، أو طلق ثلاثاً فتزوجت غيره ، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر ، وقف لها ، لأنه ممتنع من وطئها بيمين في حال الزوجية ، فأشبه ما لو راجعها ‏.‏ وإن بقي أقل من أربعة أشهر ، لم يثبت حكم الإيلاء ، لقصوره عن مدته ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن انقضت المدة وهي حائض ، أو نفساء ، لم تطالب بالفيئة ، لأنها لا تستحق الوطء في هذه الحال ‏.‏ وإن كان مغلوباً على عقله ، لم يطالب أيضاً ، لأنه لا يصلح لخطاب ، ولا يصح منه جواب ، وإن كان مريضاً ، أو محبوساً لا يمكنه الخروج ، طولب بفيئة المعذور ، وهو أن يقول ‏:‏ متى قدرت جامعتها ، أو نحو ذلك ، لأن القصد بالفيئة ، ترك ما قصد من الإضرار بما أتى به من الاعتذار ، فمتى قدر على الوطء ، طولب به ، لأنه تأخر للعذر ‏.‏ فإن زال العذر ، طولب به ، كالدين ‏.‏ وهذا اختيار الخرقي ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ إذا فاء فيئة المعذور ، لم يطالب ، لأنه فاء مرة ، فلم يلزمه فيئة أخرى ، كالذي فاء بالوطء ، لا يلزمه بالفيئة باللسان كفارة ، لأنه لم يحنث ‏.‏ وإن كان غائباً لا يمكنه القدوم ، لخوف أو نحوه ، فاء فيئة المعذور‏.‏ وإن أمكنه القدوم ، فلها أن توكل من يطالبها بالمسير إليها ، أو حملها إليه ، أو الطلاق ، وإن كان محرماً ، فاء فيئة المعذور في قول الخرقي لأنه عاجز عن الوطء ، أشبه المريض ، و يتخرج في الاعتكاف المنذور مثله ‏.‏ وإن كان مظاهراً ، لم يؤمر بالوطء ، لأنه محرم ‏.‏ ولا يحل الأمر بمعصية الله ‏.‏ ويقال له ‏:‏ إما أن تكفر ، وتفيء ، وإما أن تطلق ، فإن طلب الإمهال، ليطلب رقبة يعتقها ، أو طعاماً يشتريه ، أمهل ثلاثة أيام ، لأنها قريبة ‏.‏ وإن علم أنه قادر على التكفير ، وأن قصده المدافعة ‏.‏ لم يمهل ، لأن الحق حال عليه ، وإنما يمهل للحاجة ، ولا حاجة ‏.‏ وإن كان فرضه الصيام ، لم يمهل حتى يصوم ، لأنه كثير ‏.‏ وإن كان قد بقي عليه من الصيام مدة يسيرة ، أمهل فيها ، ويتخرج أن يفيء المظاهر فيئة المعذور ، ويمهل ليصوم كالمحرم ، فإن أراد الوطء في حال الإحرام ، أو الظهار فمنعته ، لم يسقط حقها ، لأنها منعته مما يحرم ، فأشبه ما لو منعته في الحيض ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أنه يسقط حقها ، لأنها منعته من إيفائه ‏.‏ وإن انقضت مدة العاجز ، لجب ، أو شلل ، ففيئته‏:‏ لو قدرت ، لجامعتك ، لأنه لا قدرة له على غير ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن طولب بالفيئة فقال‏:‏ قد وطئتها فأنكرته ، فإن كانت ثيباً فالقول قوله ، لأن الأصل بقاء النكاح ، وعدم ما يوجب إزالته ‏.‏ وهل يحلف ‏؟‏ على روايتين ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحلف وهو اختيار الخرقي ، لأن ما تدعيه المرأة محتمل، فوجب نفيه باليمين‏.‏

والأخرى ‏:‏ لا يمين عليه اختاره أبو بكر ، لأنه لا يقضى فيه بالنكول ‏.‏ وإن كانت بكراً ، أريت النساء الثقات ، فإن شهدن ببكارتها فالقول قولها ، لأنه يعلم كذبه ، وإلا فالقول قوله ‏.‏ وإن ادعى عجزه عن الوطء ، ولم يكن علم أنه عنين ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يقبل قوله ، لأن الأصل سلامته ، فيؤمر بالطلاق ‏.‏

والثاني ‏:‏ يقبل قوله ، لأنه لا يعرف إلا من جهته ‏.‏ وإن اختلفا في انقضاء المدة ، فالقول قول الزوج ، لأنه اختلاف في وقت حلفه ، فكان القول قوله فيه ‏.‏ وهل يحلف ‏؟‏على روايتين والله أعلم ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ترك الزوج الوطء بغير يمين ، فليس بمؤل ، لأن الإيلاء من شرطه الحلف ، فلا يثبت بدونه ، لكن إن تركه مضراً بها لغير عذر ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يلزمه شيء ، لأنه ليس بمؤل ، فلا يثبت له الحكم ، كما لو تركه لعذر ، ولأن تخصيص الإيلاء بحكمه يدل على أنه لا يثبت بدونه ‏.‏

والثانية ‏:‏ تضرب له مدة الإيلاء ، وتوقف بعدها كالمؤلي سواء ، لأنه تارك لوطئها مضراً بها ، فأشبه المؤلي ، ولأن ما لا يجب إذا لم يحلف لا يجب إذا حلف على تركه ، كالزيادة على الواجب ، وثبوت حكم الإيلاء له ، لا يمنع من قياس غيره عليه إذا كان في معناه كسائر الأحكام الثابتة بالقياس ، والله اعلم ‏.‏


كتاب الظهار


وهو قول الرجل لزوجته ‏:‏ أنت علي كظهر أمي ، أو ما أشبهه ، وهو محرم لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً‏}‏ ويصح من كل زوج يصح طلاقه ، لأنه قول يختص النكاح ، أشبه الطلاق ، إلا الصبي فلا يصح منه ، لأنه يمين موجبة للكفارة، أشبه اليمين بالله وقال القاضي ‏:‏ ظهاره كطلاقه، لما ذكرناه أولاً ‏.‏ ويصح ظهار الذمي ، لأنه مكلف يصح طلاقه ، فصح ظهاره ، كالمسلم‏.‏ ولا يصح ظهار السيد من أمته، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏من نسائهم‏}‏ فخص به الزوجات ، فإن ظاهر منها، أو حرمها، فعليه كفارة يمين، كما لو حرم طعامه، وعنه‏:‏ عليه كفارة ظهار ‏.‏ قال أبو الخطاب ‏:‏ ويتوجه ألا يلزمه شيء ، كما لو ظاهرت المرأة من زوجها ، فإن ظاهر من أجنبية ثم تزوجها، أو قال ‏:‏ كل امرأة أتزوجها هي علي كظهر أمي، ثم تزوجها ، لم تحل له حتى يكفر ، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في رجل قال ‏:‏ إن تزوجت فلانة ، فهي علي كظهر أمي ، ثم تزوجها قال ‏:‏ عليه كفارة الظهار ، ولأنها يمين مكفرة ، فصح عقدها قبل النكاح ، كاليمين بالله تعالى ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏أنت علي كظهر أمي، أو ظهر من يحرم عليه على التأبيد ، كجدته ، وسائر محارمه من النسب ، والرضاع ، أو المصاهرة ، فهو مظاهر ، لأنه شبهها بظهر من هي محل استمتاع ، وتحرم عليه على التأبيد ، فكان مظاهراً ، كما لو قال ‏:‏ أنت علي كظهر أمي ‏.‏ وإن شبهها بمن يحرم في حال دون حال ، كأخت زوجته ، وعمتها أو الأجنبية ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هي ظهار ، اختاره الخرقي وأبو بكر ، لأنه تشبيه بمحرم عليه ، أشبه تشبيهها بالأم ‏.‏

والأخرى ‏:‏ ليس بظهار ، لأنه شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد ، أشبه تشبيهها بالمحرمة والصائمة ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أنت علي كظهر البهيمة ، لم يكن مظاهراً ، لأنه ليس محلاً للاستمتاع‏.‏ وإن قال ‏:‏ أنت علي كظهر أبي ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هو ظهار ، لأنه شبهها بمحل محرم على التأبيد ‏.‏ أشبه التشبيه بظهر الأم ‏.‏

والأخرى ‏:‏ ليس بظهار ، لأنه ليس بمحل الاستمتاع ، أشبه التشبيه بالبهيمة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ أنت عندي ، أو معي ، أو مني ، كظهر أمي ، فهو ظهار ، لأنه تقيد بما يفيده قوله‏:‏ أنت علي كظهر أمي ‏.‏ وإن شبهها بعضو غير الظهر فقال ‏:‏ أنت علي كفرج أمي ، أو يدها أو رأسها فهو ظهار ، لأن غير الظهر ، كالظهر في التحريم ، فكذلك في الظهار به ، وإن شبه عضواً منها بظهر أمه ، أو عضواً من أعضائها فقال ‏:‏ ظهرك علي كظهر أمي ، أو رأسك علي كرأس أمي ، فهو مظاهر ، لأنه قول يوجب تحريم الزوجة ، فجاز تعليقه على يدها ورأسها ، كالطلاق ‏.‏ وما لا يقع الطلاق بإضافته إليه ، كالشعر ، والسن ، والظفر ، لا يتعلق الظهار به ‏.‏ لما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قال ‏:‏ أنت علي كأمي ، أو مثل أمي ، فهو مظاهر ‏.‏ فإن نوى به التشبيه في الكرامة ، أو نحوها فليس بظهار ، لأنه يحتمل مقاله ‏.‏ وعنه ‏:‏ ليس بظهار حتى ينويه ، لأنه يحتمل غير الظهار ، كاحتماله إياه ، فليس يصرف إليه إلا بنية ، ككنايات الطلاق ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أنت كأمي ، أو مثلها ، فليس بظهار إلا أن ينويه ، لأنه من غير التحريم أظهر ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ هي كالتي قبلها ، وهكذا يتخرج في قوله ‏:‏ رأسك كرأس أمي ، أو يدك كيدها ، وما أشبه ، وقياس المذهب ، أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار ، مثل أن يخرجه مخرج اليمين ، كقوله ‏:‏ إن خرجت من الدار ، فأنت علي كأمي ، وشبهه ، فهو ظهار ، لأن القرينة صارفة إليه ، وإلا لم يكن ظهاراً ، لتردد الاحتمالات فيه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أنت حرام كأمي ، فهو صريح في الظهار ، لأنه لا يحتمل سوى التحريم ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قال‏:‏ أنت طالق كظهر أمي، طلقت، ولم يكن ظهاراً ، لأنه أوقع الطلاق صريحاً ، فوقع ، وبقي قوله ‏:‏ كظهر أمي ، غير متعلق بشيء ، فلم يقع ‏.‏ فإن نوى به الطلاق والظهار معاً ، فهو ظهار وطلاق ‏.‏ وإن نوى بقوله ‏:‏ أنت طالق ‏:‏ الظهار ، لم يكن ظهاراً ، لأنه صريح في موجبه ، فلم ينصرف إلى غير النية ، كما لو نوى بقوله ‏:‏ أنت علي كظهر أمي ، الطلاق ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح الظهار مؤقتاً ، كقوله ‏:‏ أنت علي كظهر أمي شهراً ، لما روى سلمة بن صخر قال ‏:‏ ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة ، إذ انكشف منها شيء ،فلم ألبث أن نزوت عليها ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر ، فقال ‏:‏ حرر رقبة رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه يمين مكفرة صح توقيتها ، كاليمين بالله تعالى ‏.‏ فإذا مضى الوقت ، مضى حكم الظهار ‏.‏ ويجوز تعليقه بشرط ، كدخول الدار لذلك ، فإذا وجد الشرط ، ثبت حكم الظهار ، وإن قال ‏:‏ أنت علي كظهر أمي إن شاء الله ، لم يصر مظاهراً لما ذكرناه‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قالت المرأة لزوجها‏:‏ أنت علي كظهر أبي ، لم تكن مظاهرة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم‏}‏ فعلقه على الزوج ، ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة ، يملك الزوج رفعه ، فاختص الرجل ، كالطلاق ‏.‏ وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ عليها كفارة الظهار ، لما روى إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت ‏:‏ إن تزوجت مصعب بن الزبير ، هو علي كظهر أبي ، فسألت أهل المدينة ، فرأوا ‏:‏ أن عليها الكفارة ‏.‏ رواه الأثرم ‏.‏ ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور بهذا اللفظ ، فلزمتها كفارة الظهار ، كالرجل ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا شيء عليها ، لأنه تشبيه غير الظهار ، فلم يوجب الكفارة ، كقولها ‏:‏ أنت علي كظهر البهيمة ‏.‏

والثالثة ‏:‏ عليها كفارة يمين ، أومأ إليها بقوله ‏:‏ قد ذهب عطاء مذهباً ، جعلها بمنزلة من حرم على نفسه شيئاً من الطعام ، وهذا أقيس في مذهبه ، لأنه تحريم لحلال غير الزوجة ، فأوجب كفارة يمين ، كتحريم الأمة ، وعليها التمكين قبل الكفارة ، لأنه حق عليها ، فلا يسقط بيمينها ، ولأنه قول غير الظهار ، فوجب للكفارة ، فأشبه اليمين بالله تعالى ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا صح الظهار ، ووجد العود ، وجبت الكفارة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة‏}‏ والعود ‏:‏ هو الوطء في ظاهر كلام أحمد و الخرقي قال أحمد ‏:‏ العود ‏:‏ هو الغشيان ، لأن العود في القول فعل ضد ما قال ، كما أن العود في الهبة ، هو استرجاع ما وهب ، فالمظاهر ‏:‏ منع نفسه غشيانها ، فعوده في قوله غشيانها ‏.‏ وقال القاضي وأصحابه ‏:‏ العود ‏:‏ العزم على الوطء ، لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود قبل التماس بقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا‏}‏ وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏من قبل أن يتماسا‏}‏ فإن وطأ قبله ، أثم ، واستقرت الكفارة عليه ، ولم يجب عليه أكثر منها ، لحديث سلمة حين وطئ ، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من كفارة ، وتحريمها باق حتى يكفر ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة‏:‏ ما حملك على ما صنعت ‏؟‏ قال رأيت بياض ساقها في القمر ، قال ‏:‏ فاعتزلها حتى تكفر ‏.‏

وأما قبل الوطء فلا كفارة عليه ‏.‏ وإنما أمر بها لكونها شرطاً لحل الوطء، كاستبراء الأمة المشتراة ‏.‏ فإن فات الوطء بموت أحدهما ، أو فرقتهما ، فلا كفارة عليه لذلك ‏.‏ وإن عاد فتزوجها ، لم تحل له ، حتى يكفر ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ إن كانت الفرقة بعد العزم ، فعليه الكفارة ‏.‏ وهذا مقتضى قول من وافقه ‏.‏ وقد صرح أحمد بإنكاره ، وكذلك قال القاضي ‏:‏ لا كفارة عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي التلذذ بالمظاهر منها قبل التكفير بما دون الجماع ، كالقبلة واللمس روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحرم ، لأن ما حرم الوطء من القول ،حرم دواعيه ، كالطلاق ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا تحرم ، لأنه تحريم يتعلق بالوطء ، فيه كفارة ، فلم يتجاوز الوطء ، كتحريم الحيض ، ولأن المسيس هنا كناية عن الوطء ، فيقتصر عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا ظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات ، فعليه لكل واحدة كفارة ، لأنها أربع أيمان في محال مختلفة ، فأشبه ما لو وجدت في أربعة أنكحة ‏.‏ قال ابن حامد و القاضي ‏:‏ هذا المذهب رواية واحدة ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ فيه رواية أخرى ‏:‏ يجزئه كفارة واحدة ، لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ، ولأن الكفارة حق الله تعالى ، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد ‏.‏ وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة ، فكفارة واحدة ، رواية واحدة ، لما روى ابن عباس ‏:‏ أن عمر سئل عن رجل ظاهر من نسوة ، فقال ‏:‏ يجزئه كفارة واحدة ‏.‏ ولأنها يمين واحدة فلم توجب أكثر من كفارة ، كاليمين بالله تعالى ‏.‏ وإن ظاهر من امرأة مراراً ولم يكفر ، فكفارة واحدة في ظاهر المذهب ، لأن اليمين الثانية لم تؤثر تحريماً في الزوجة ، فلم يجب بها كفارة الظهار ،كاليمين بالله ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ ما يدل على أنه إن نوى بالثانية الاستئناف ، وجب بها كفارة ثانية ، لأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة ، فإذا نوى به الاستئناف ، تعلق به حكم ، كالطلاق ، والمذهب الأول ‏.‏ فأما إن كفر عن الأولى ، فعليه للثانية كفارة واحدة رواية واحدة ، لأنها أثبتت في المحل تحريماً ، أشبهت الأولى ‏.‏ وإن قال ‏:‏ كل امرأة أتزوجها ، فهي علي كظهر أمي ، ثم تزوجت نساء في عقد واحد ، فكفارة واحدة ‏.‏ وإن تزوجهن في عقود ، فكذلك في إحدى الروايتين ، لأنها يمين واحدة ‏.‏ والأخرى ‏:‏ لكل عقد كفارة ‏.‏ فلو تزوج امرأتين في عقد ، وأخرى في عقد ، لزمته كفارتان ، لأن لكل عقد حكم نفسه ، فتعلق بالثاني كفارة ، كالأول ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ظاهر من زوجته الأمة ، ثم ملكها ، فقال الخرقي ‏:‏ لا يطؤها حتى يكفر ، يعني ‏:‏ كفارة الظهار ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا‏}‏ ‏.‏ وقال أبو بكر عليه كفارة يمين لا غير ، لأنها خرجت عن الزوجات ، فلم يجب بوطئها كفارة ظهار ، كما لو تظاهر منها وهي أمة ، فإن أعتقها عن كفارته ، جاز ‏.‏ فإذا تزوجها بعد ذلك ، لم يعد حكم الظهار ‏.‏ والله تعالى أعلم ‏.‏


باب كفارة الظهار


الواجب فيه تحرير رقبة ، فمن لم يجد ، فصيام شهرين متتابعين ، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة‏}‏ ‏.‏ وروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة ‏.‏ قالت ‏:‏ تظاهر مني أوس بن الصامت ،فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ، فما برحت حتى نزل القرآن‏.‏ ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يعتق رقبة قلت ‏:‏ لا يجد ، قال ‏:‏ فيصوم شهرين متتابعين قلت ‏:‏ يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال ‏:‏ فليطعم ستين مسكيناً فمن ملك رقبة ، أو كمالاً يشتري به رقبة ، فاضلاً عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه ، وما لا بد له من مؤنة عياله و نحوه ، لزمه العتق ، لأنه واجد ، فإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لكبره أو لمرضه ، أو لكونه ممن لا يخدم نفسه ، أو يحتاج إليها لخدمة زوجته التي يلزمه إخدامها ، أو يتقوت بغلتها ، أو يتعلق به حاجة لا بد منها ، لم يلزمه عتقها ، لأن ما لا تستغرقه حاجته ، كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل ،كمن معه ماء يحتاج إليه للعطش في التيمم، فإن كانت فاضلة عن حاجته الأصلية ، لزمه عتقها ، لأنه مستغن عنها فإن كان ماله غائباً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له التكفير بالصيام ، لأن عليه ضرراً في تحريم الوطء إلى حضور المال ، فكان له الصوم كالمعسر ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجزئه إلا العتق ، لأن مالك لما يشتري به رقبة ، ولأنه فاضل عن كفايته ‏.‏ ولو كان ذلك في كفارة القتل والجماع ، لم يكن له التكفير بالصيام ، لأنه قادر على التكفير بالعتق من غير ضرر ، فلزمه ، كمن ماله حاضر ، ويحتمل أن يجوز له الصوم ، لأنه عاجز في الحال فأشبه المظاهر ‏.‏

فصل ‏:‏

والاعتبار في حال وجوب الكفارة في أظهر الروايتين ، لأنها تجب على وجه التطهير ، فاعتبر فيها حال الوجوب ، كالحد ‏.‏

والثانية ‏:‏ الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى الأداء ،فأي وقت قدر على العتق ، لزمه ، لأنه حق يجب في الذمة ، بوجود المال ، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال ، كالحج ‏.‏ فإن لم يقدر حتى شرع في الصيام ، لم يلزمه الانتقال إلى العتق ، لأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل ، فأشبه المتمتع يجد الهدي بعد الشروع في الصيام ‏.‏ وإن أحب الانتقال إليه بعد ذلك أو قبله على الرواية الأولى ، فله ذلك ، لأنه الأصل، فيجزئه كسائر الأصول ، إلا العبد إذا أعتق بعد وجوب الكفارة عليه ، فليس له إلا الصوم ، لأنه لم يكن يجزئه غيره عند الوجوب، فكذلك بعده ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏.‏ نص على المؤمنة في كفارة القتل ، وقسنا عليها سائر الكفارات ، لأنها في معناها ‏.‏ وعنه ‏:‏ يجزئه في سائر الكفارات ذمية ، لإطلاق الرقبة فيها ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجزئ إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً ، لأن المقصود تمليك العبد منفعته ، وتمكينه من التصرف ، ولا يحصل هذا مع العيب المذكور ، فلا يجزئ الأعمى ، لأنه يعجز عن الأعمال التي يحتاج فيها إلى البصير ، ولا الزمن ، ولا مقطوع اليد أو الرجل ، لأنه يعجز عن أعمال كثيرة ، ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى من اليد ، لأن نفعها يبطل بهذا ، ولا مقطوع الخنصر والبنصر في يد واحدة كذلك ، وقطع أنملتين من إصبع كقطعها ، لأن نفعها يذهب بذلك ، ولا يمنع قطع أنملة واحدة ، لأنها تصير كالإصبع القصيرة إلا الإبهام ، فإنها أنملتان ، فذهاب إحداهما كقطعها ، لذهاب نفعها ، وإن قطعت الخنصر من يد ، والبنصر من أخرى ، لم يمنع ، لأن نفع اليد لا يبطل به ‏.‏ ولا يجزئ الأعرج عرجاً فاحشاً ، لأنه يضر بالعمل ، فهو كقطع الرجل ، فإن كان عرجاً يسيراً ، أجزأ لأنه لا يضر ضرراً بيناً ‏.‏ ولا يجزئ الأخرس الذي لا تفهم إشارته ، فإن فهمت إشارته ، فالمنصوص أن الأخرس لا يجزئ ‏.‏ وقال القاضي و أبو الخطاب ‏:‏ يجزئ ، إلا أن يجتمع معه الصمم ، فإنهما إذا اجتمعا أضرا ضرراً بيناً ‏.‏ ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً ، لأنه لا يصلح لعمل ، ولا من أكثر زمنه الجنون ، لأنه يعجز عن العمل في أكثر زمنه ، فإن كان أكثره الإفاقة ، ولا يمنعه من العمل ، أجزأ لعدم الضرر البين ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجزئ الأعور ، لأنه يدرك ما يدركه ذو العينين ، وأجدع الأنف والأذنين والأصم ، لأنه كغيره في العمل ‏.‏ ويجزئ الخصي والمجبوب كذلك ، ويجزئ المرهون والجاني والمدبر وولد الزنا كذلك ، ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ ويعتقد خطأه صواباً ‏.‏ ويجزئ المريض الموجود برؤه ، والنحيف القادر على العمل ، فأما ما لا يرجئ برؤه ، أو لا يقدر على العمل فلا يجزئ ، لأنه لا عمل فيه ‏.‏ ويجزئ عتق الغائب ، المعلوم حياته ، لأنه ينتفع بنفسه حيث كان ، وإن شك في حياته ، لم تبرأ ذمته ، لأن الوجوب ثابت بيقين ، فلا يزول بالشك ، فإن تبين أنه كان حياً ، تبينا أن الذمة برئت بعتقه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجزئ عتق الجنين ، لأنه لم يثبت له أحكام الرقاب ، فإن أعتق صبياً ، فقال الخرقي ‏:‏ لا يجزئه حتى يصلي ويصوم ، لأن الإيمان قول وعمل ، ولأنه لا يصح منه عبادة ، لفقد التكليف ، فلم يجزئ في الكفارة كالمجنون ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يجزئ من له دون السبع في ظاهر كلام أحمد ، وقال في موضع آخر ‏:‏ يجزئ عتق الصغير في جميع الكفارات ، إلا كفارة القتل ، فإنها على روايتين ‏.‏ وقال أبو بكر وغيره ‏:‏ يجزئ الطفل في جميع الكفارات ، لأنه ترجى منافعه وتصرفه ، فأجزأ كالمريض المرجو ‏.‏ ولا يجزئ عتق مغصوب ، لأنه ممنوع من التصرف في نفسه ، فأشبه الزمن ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجزئ عتق أم الولد في ظاهر المذهب ، لأن عتقها مستحق بسبب آخر ، فلم يجزئ كعتق قريبه ، ولأن الرق فيها غير كامل ، بدليل أنه لا يملك نقل ملكه فيها ، وعنه ‏:‏ تجزئ ، لأنها رقبة ، فتتناول الآية بعمومها ‏.‏ وفي المكاتب ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ يجزئ مطلقاً ‏.‏

والأخرى ‏:‏ لا يجزئ مطلقاً ، ووجهها ما ذكرنا ‏.‏

والثالثة ‏:‏ إن أدى من كتابته شيئاً ، لم يجزئ ، لأنه حصل العوض عن بعضها ، فلم يعتق رقبة كاملة ، وإن لم يؤد شيء أجزأ ، لأنه لم يقتض عن شيء منها ، أشبه المدبر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترى من يعتق عليه ينوي بشرائه العتق عن الكفارة ، عتق ولم يجزئه ، لأن عتقه مستحق في الكفارة ، فلم يجزئه ، كما لو استحق عليه الطعام بالنفقة ، فدفعه عن الكفارة ‏.‏ وإن اشترى عبداً بشرط العتق ، فأعتقه عن الكفارة ، لم يجزه كذلك ، وإن قال ‏:‏ إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي ، ثم وطئها وأعتق العبد عن ظهاره ، أجزأه ، لأنه لم يتعين عتقه عن الإيلاء، بل هو مخير بين عتقه ، وبين كفارة يمين ‏.‏

فصل ‏:‏

ولو ملك نصف عبد وهو موسر ، فاعتق نصيبه ، ونوى عتق الجميع عن كفارته ، لم يجزئه في قول الخلال وصاحبه ، وحكاه صاحبه عن أحمد ، لأن عتق النصيب الذي لشريكه استحق بالسراية ، فلم يجزئه ، كما لو اشترى قريبه ينوي به التكفير ‏.‏ وقال غيرهما ‏:‏ يجزئ ، لأن حكم السراية حكم المباشرة ، بدليل أنه لو جرحه فسرى إلى نفسه ، كان كمباشرة قتله ، وإن كان معسراً عتق نصيبه ، فإن ملك النصف الآخر فأعتقه عن الكفارة ، أجزأه ، لأنه أعتق جميعه في وقتين ، فأجزأ ، كما لو أطعم المساكين في وقتين ‏.‏ وإن أعتق نصف عبدين ، فقال الخرقي ‏:‏ يجزئ ، لأن أبعاض الجملة كالجملة في الزكاة والفطرة ، كذلك في الكفارة ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا يجزئ ، لأن المقصود تكميل الأحكام ، ولا يحصل بإعتاق نصفين ، فعلى قوله ، إذا أعتق الموسر نصف عبد ، عتق جميعه ، ولا يجزئه إعتاق نصف آخر ‏.‏ فإن أعتق عبده عن كفارة غيره بغير إذنه ، لم يجزئه ، لأنها عبادة ، فلم تجز عن غيره بغير أمره مع كونه من أهل الأمر ، كالحج ، إلا أن يكون ميتاً ، فيجزئ عنه ، لأنه لا سبيل إلى إذنه ، فصح من غير إذنه ، كالحج عنه ‏.‏ وإن أعتقه عن كفارة حي بأمره ، صح ، وأجزأ عن الكفارة إذا نواها ، لأنه أعتق عنه بأمره ، فأجزأه ، كما لو ضمن له عوضاً وعنه ‏:‏ لا يجزئ إلا أن يضمن له عوضاً ، لأن العتق بغير عوض كالهبة ، ومن شرطها القبض ‏.‏ ولم يحصل ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام ، لزمه صيام شهرين متتابعين ، فإن شرع في أول شهر، أجزأ صيام شهرين بالأهلة ، تامين كانا ، أو ناقصين ، وإذا دخل في أثناء شهر ، صام شهراً بالهلال ، وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوماً لما ذكرنا فيما تقدم ‏.‏ فإن أفطر يوماً لغير عذر ، لزمه استئناف الشهرين ، لأنه أمكنه التتابع ، فلزمه ‏.‏ وإن حاضت المرأة وأنفست أو أفطرت لمرض مخيف، أو جنون، أو إغماء، لم ينقطع التتابع ، لأنه لا صنع لها في الفطر‏.‏ وإن أفطر لسفر ، فظاهر كلام أحمد ‏:‏ أنه لا ينقطع التتابع ، لأنه عذر مبيح للفطر ، أشبه المرض ‏.‏ ويتخرج في السفر والمريض غير المخوف ، أنه يقطع التتابع ، لأنه أفطر باختياره ، فقطع التتابع ، كالفطر لغير عذر ‏.‏ وإن أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما ، فهما كالمريض ، وإن أفطرتا خوفاً على ولديهما ، احتمل أنه لا ينقطع التتابع ، لأنه عذر مبيح للفطر ، أشبه المرض ، واحتمل أن ينقطع ، لأن الخوف على غيرهما ، ولذلك أوجب الكفارة مع قضاء رمضان ‏.‏ ومن أكل يظن أن الفجر لم يطلع ، وقد طلع ، أو يظن أن الشمس قد غابت ، ولم تغب ، أفطر ‏.‏ وفي قطع التتابع ، وجهان ، بناء على ما تقدم وإن نسي التتابع ، أو تركه جاهلاً بوجوبه ، انقطع ، لأنه تتبع واجب ، فانقطع بتركه جهلاً أو نسياناً ، كالموالاة في الطهارة ‏.‏ وإن أفطر يوم فطر أو أضحى ، أو أيام التشريق ، لم ينقطع به التتابع ، لأنه فطر واجب أشبه الفطر للحيض ، ويكمل اليوم الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوماً ، لأنه بدأ من أثنائه ‏.‏ وإن صام ذا الحجة، قضى أربعة أيام ، وحسب بقدر ما أفطر ، لأنه بدأ من أوله ‏.‏ وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان ، لم ينقطع التتابع ، لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة ، أشبه زمن الحيض ‏.‏ وإن صام أثناء الشهرين عن نذر ، أو قضاء ، أو تطوعاً ، انقطع التتابع ، لأنه قطع صوم الكفارة اختياراً لسبب من جهته ، فأشبه ما لو أفطر لغير عذر ‏.‏ وإن كان عليه نذر في كل يوم خميس ، قدم صوم الكفارة عليه ، وقضاه بعدها و كفر ، لأنه لو صام ، لم يمكنه التكفير بحال ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وطئ التي ظاهر منها في ليالي الصوم ، لزمه الاستئناف ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا‏}‏ ‏.‏ أمر بهما خاليين عن التماس ، ولم يوجد ، وعنه ‏:‏ لا ينقطع التتابع ، لأنه وطء لا يفطر به ‏.‏ فلم يقطع التتابع، كوطء غيرها ، وإن وطئ غيرها ليلاً ، لم ينقطع التتابع ، لأنه غير ممنوع منه ، وإن وطئها نهاراً ناسياً أفطر ، وانقطع التتابع وعنه ‏:‏ لا يفطر ولا ينقطع التتابع به ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض غير مرجو الزوال ، أو شبق شديد أو نحوه ، لزمه إطعام ستين مسكيناً ، لأن سلمة بن صخر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة شبقه ، أمره بالإطعام ، وأمر أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته ‏:‏ إنه شيخ كبير ما به من صيام ‏.‏ فإن قدر على ستين مسكيناً لم يجزئه أقل منهم ، وعنه ‏:‏ يجزئه ترديد الإطعام على واحد ستين يوماً ، لأنه في معنى إطعام ستين مسكيناً ، لكونه قد دفع في كل يوم حاجة مسكين ، وعنه ‏:‏ لا يجزئه إلا إطعام ستين مسكيناً ، سواء وجدهم أو لم يجدهم ، لظاهر قوله ‏:‏ ‏{‏فإطعام ستين مسكيناً‏}‏ ‏.‏ والمذهب أن ذلك يجزئ مع تعذر المساكين للحاجة ، ولا يجزئ مع وجودهم ، لأنه أمكن امتثال الأمر بصورته ومعناه ‏.‏

فصل ‏:‏

والواجب أن يدفع إلى مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ، لما روى الإمام أحمد ‏:‏ بإسناده عن أبي يزيد المدني قال ‏:‏ جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمظاهر ‏:‏ أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر وهذا نص ، ولأنها كفارة تشتمل على صيام و إطعام ، فكان منها لكل فقير من التمر نصف صاع ، كفدية الأذى ‏.‏ وأما المد من البر، فيجزئ ، لأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ويجب أن يملك كل فقير هذا القدر، فإن دفعه إليهم مشاعاً ، فقال ‏:‏ هذا بينكم بالسوية ، فقبلوه ،أجزأه لأنه دفع إليهم حقهم ، فبرئ منه كالدين ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ يجزئه ، وإن لم يقل بالسوية ، لأن قوله ‏:‏ عن كفارتي يقتضي التسوية ، وإن غداهم أو عشاهم ستين مداً ، ففيه روايتان ‏:‏ أحدهما ‏:‏ يجزئ لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإطعام ستين مسكيناً‏}‏ ‏.‏ وهذا قد أطعمهم ، ولأن أنساً فعل ذلك ، وظاهر المذهب أنه لا يجزئ ، لأنه لا يعلم وصول حق كل فقير إليه ، ولأنه حق وجب للفقراء شرعاً ، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة ، ولا يجب التتابع في الإطعام لأن الأمر به مطلق لا تقيد فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة ، سواء كانت قوت بلده أو لم تكن ، وإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه ، ذكره أبو الخطاب ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ ، فإن أخرج غير قوت بلده ، خيراً منه ، جاز لأنه زاد على الواجب ، وإن كان أنقص منه ، لم يجزئ وقال القاضي ‏:‏ لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة لأنه إطعام للمساكين ، فأشبه الفطرة ، والأول أجود ، لموافقته ظاهر النص ، ويجوز إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مد من الحنطة ، وفي الخبز روايتين ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجزئه ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإطعام ستين مسكيناً‏}‏ ‏.‏ ومخرج الخبز قد أطعمهم ، والأخرى لا يجزئه ، لأنه قد خرج عن حال الكمال ، والادخار ، فأشبه الهريسة ، فإذا قلنا ‏:‏ يجزئه، اعتبر أن يكون من مد بر فصاعداً ، فإن أخذ مد حنطة فطحنه وخبزه ، أجزأه ‏.‏ وقال الخرقي ‏:‏ لكل مسكين رطلا خبز ، لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مد فأكثر ، وفي السويق وجهان ، بناء على الروايتين في الخبز ، ولا تجزئ الهريسة والكبولاء ، لأنه خرج عن الاقتيات المعتاد ، ولا القيمة ، لأنه أحد ما يكفر به ، فلم تجزئ القيمة فيه ، كالعتق ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز صرفها إلا إلى الفقراء ، والمساكين ، لأنهما صنف واحد في غير الزكاة ، ولا يجوز دفعها إلى غني ، وإن كان من أصناف الزكاة ، لأن الله تعالى ، خص بعها المساكين ، ولا إلى مكاتب كذلك ، وقال الشريف أبو جعفر ‏:‏ يجوز دفعها إليه ، لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته ، فأشبه المسكين ، والأول أولى ، لأن الله تعالى خص بها المساكين ، والمكاتب صنف آخر ، فأشبه المؤلفة ‏.‏ ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع الزكاة إليه ، كالعبد والكافر ، ومن تلزمه مؤنته لما ذكرنا في الزكاة ‏.‏ وخرج أبو الخطاب وجهاً آخر ، في جواز الدفع إلى الكافر ، بناء على عتقه ، ولا يصح ، لأنه كافر ، فلم يجز الدفع إليه كالمستأمن ‏.‏

فصل‏:‏

ولا تجزىء كفارة إلا بالنية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة ، فافتقر إلى النية كالزكاة ، فإن كانت عليه كفارات من جنس ، لم يلزمه تعيين سببها ، وإن كانت من أجناس ، فكذلك ، لأنها كفارات ، فلم يجب تعيين سببها ، كما لو كانت من جنس ، وقال القاضي ‏:‏ يحتمل أن يلزمه تعيين سببها ، لأنها عبادات من أجناس ، فوجب تعيين النية لها ، كأنواع الصيام ، فلو كانت عليه كفارة لا يعلم سببها ، فأعتق رقبة ، أجزأه على الوجه الأول ، وعلى الوجه الثاني ، ينبغي أن تلزمه كفارات بعدد الأسباب ، كما لو نسي الصلاة من يوم لا يعلم عينها ، ولا يلزم نية التتابع في الصيام ، لأن العبادة هي الصوم ، والتتابع شرط فيه ، فلم تجب نيته ، كالاستقبال في الصلاة‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كان المظاهر كافراً ، كفر بالعتق والإطعام ، لأنه يصح منه من غير الكفارة ، فصح منه فيها ، ولا يكفر بالصوم ، لأنه لا يصح منه في غيرها ، فكذلك فيها ، وإن أسلم قبل التكفير ، كفر بما يكفر به المسلمون ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها ، لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه كتقديم الزكاة قبل الملك ، ولو كفر عن الظهار قبل المظاهرة ، أو عن يمين قبلها ، أو عن القتل قبل الجرح ، لم يجز كذلك ، وإن كفر بعد السبب ، وقبل الشرط ، جاز ، فإذا كفر عن الظهار بعده وقبل العود ، وعن اليمين بعدها وقبل الحنث ، وعن القتل بعد الجرح وقبل الزهوق ، جاز ، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا‏}‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفر عن يمينك ، وأت الذي هو خير ولأنها كفارة فجاز تقديمها على شرطها، ككفارة الظهار ، ولأنه حق مالي ، فجاز تقديمه قبل شرطه ، كالزكاة ‏.‏


كتاب اللعان


ومتى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى ، من قبل أو دبر ، فقال ‏:‏ زنيت ، أو يا زانية ، أو رأيتك تزنين ، لزمه الحد ، إلا أن يأتي ببينة ، أو يلاعنها ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله‏}‏ ‏.‏ دلت الآية الأولى على وجوب الحد ، إلا أن يسقطه بأربعة شهداء ‏.‏

والثانية ‏:‏ على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ أن هلال ابن أمية قذف امرأته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ البينة ، وإلا حد في ظهرك فقال هلال ‏:‏ والذي بعثك بالحق ، إني لصادق ، ولينزلن الله من أمري ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزلت ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ ولأن الزوج يبتلي بقذف امرأته ، لنفي العار والنسب الفاسد ، وتتعذر عليه البينة ، ولأنه قد يحتاج إلى نفي النسب الفاسد ، ولا ينتفي إلا باللعان ، لتعذر الشهادة على نفيه ، وله الملاعنة ، وإن قدر على البينة كذلك ، ولأنهما حجتان ، فملك إقامة أيهما شاء ، كالرجلين ، و الرجل والمرأتين في المال ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته ، لأن الحق لها ، فلا يستوفى من غير طلبها ، كالدين ، فإن عفت عن الحد ، أو لم تطالب ، لم تجز مطالبته ببينة ولا حد ولا لعان ، ولا يملك ولي المجنونة ، والصغيرة وسيد الأمة ، المطالبة بالتعزيز من أجلهن ، لأنه حق ثبت للتشفي ، فلا يقوم غير المستحق مقامه فيه ، كالقصاص ‏.‏ فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها ، وليس بينهما نسب يريد نفيه ، لم يملك ذلك ، لأنه لا حاجة إليه ، وإن كان بينهما نسب يريد نفيه ، فله أن يلاعن ، لأنه محتاج إليه ، فيشرع كما لو طالبته ، ولأن نفيه حق له ، فلا يسقط برضاها به ويحتمل ألا يشرع اللعان ، كما لو صدقته ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين ، لعموم قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف ، ونفي النسب الباطل ، والكافر والعبد كالمسلم الحر فيه ، وعنه ‏:‏ لا يصح اللعان إلا بين مسلمين ، عدلين حرين غير محدودين في قذف ، لأن اللعان شهادة ، بدليل قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، فشهادة أحدهم ، أربع شهادات‏}‏ فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة ، وقال القاضي ‏:‏من لا يحد بقذفها كالذمية والأمة ، والمحدودة في الزنا ، إن كان بينهما ولد يريد نفيه ، فله اللعان لنفيه ، لأنه محتاج إليه ، وإلا فلا لعان بينهما لأن اللعان لإسقاط حد ، أو نفي نسب ، ولم يوجد واحد منهما ‏.‏ وإن كان أحد الزوجين صبياً ، أو مجنوناً فلا لعان بينهما ، لأن غير المكلف لا حكم لقوله ، ونفي حكم الولد ، إنما يحصل بتمام اللعان ، ولا يتم اللعان مع عدم القول منها ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ له لعان المجنونة ، إن كان ثم نسب يريد نفيه ، لأنه محتاج إليه ، فإن كان أحدهما أخرس وليست له إشارة مفهومة ، ولا كتابة ، فهو كالمجنون ‏.‏ لأنه لا يعلم طلبها ، ولا يتصور لعانهما ‏.‏ وإن كان له إشارة مفهومة، أو كتابة ، صح اللعان منهما ، لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه ، فكذلك في لعانة ، وعن أحمد إذا كانت المرأة خرساء ، فلا لعان بينهما ، لأنه لا يعلم طلبها ، فيحتمل أن يحمل على عمومه في كل خرساء ، لأن إشارتها لا تخلو من تردد و احتمال ‏.‏ والحد يدرأ بالشبه ، ويحتمل أن يختص بمن لا تفهم إشارتها ، لأنه علل بأنها لا تفهم مطالبتها ‏.‏ وإن اعتقل لسان الناطق ، و أيس من نقطة ، فهو كالأخرس ، وإن رجي نطقه ، لم يصح لعانه ، لأنه غير مأيوس من نقطة ، فأشبه الساكت ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول ، لعموم قوله تعالى ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏.‏ وبعد الطلاق الرجعي ، لأن الرجعية زوجته ، فتدخل في العموم ، ولا يصح من غير الزوجين ، للآية ‏.‏ فإن قذف من كانت زوجته ، فبانت منه بزنا ، لم يضفه ، إلى حال الزوجية ، فلا لعان بينهما ، لأنه قذف أجنبية ، وإن أضافه إلى حال الزوجية ، وبينهما ولد يريد نفيه ، لاعن لنفيه ، لأنه محتاج إليه فصح منه ، كحال الزوجية ‏.‏ وإن لم يكن بينهما ولد ، حد ، ولم يلاعن ، لأنه لا حاجة به إليه ، فأشبه قذف الأجنبية ‏.‏ ولو قال لامرأته ‏:‏ أنت طالق ثلاثاً يا زانية ، فنص أحمد ‏:‏ على أنه يلاعن ، فنحمله على من بينهما ولد ، لأنه يتعين إضافة قذفها إلى حال الزوجية ‏.‏ ولو نكح امرأة نكاحاً فاسداً ثم قذفها ، فالحكم فيها كالمطلقة ‏.‏ إن كان بينهما ولد ، لاعن لنفيه ، وإلا فلا ، لأن النسب يلحق في النكاح الفاسد ، فيحتاج إلى اللعان لنفيه ، وإن قذف أجنبية ثم تزوجها ، حد ، ولم يلاعن ، لأنه قذف أجنبية قذفاً لا حاجة به إليه ‏.‏ وإن قذفها بزنا ، أضافه إلى ما قبل ، النكاح ، فإن كان يتعلق به نفي نسب عنه ، فله اللعان ، وإلا فلا ‏.‏ ونقل عن أحمد في هذا روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يلاعن ، لأنه قذفها في حال كونها أجنبية ، أشبه ما لو قذفها قبل نكاحه لها ‏.‏

والثانية ‏:‏ يشرع اللعان ، لأنه قذف زوجته ‏.‏


باب صفة اللعان


وصفته ‏:‏ أن يقول الرجل بمحضر من الحاكم أو نائبه ‏:‏ أشهد بالله أني لمن الصادقين ، فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ، ويشير إليها إن كانت حاضرة ، وإن كانت غائبة سماها ، ونسبها حتى تنتفي المشاركة ، ثم يقول ‏:‏ وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا ، ثم تقول المرأة أربع مرات ‏:‏ أشهد الله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وتشير إليه ، فإن كان غائباً سمته ، ونسبته ، ثم تقول ‏:‏ وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏ ‏.‏ الآيات ‏.‏

وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس ‏:‏ أن هلال بن أمية قذف امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت ، فتلا عليهم آية اللعان ، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، فقال هلال ‏:‏ والله لقد صدقت عليها ، فقالت ‏:‏ كذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لاعنوا بينهما فقيل لهلال ‏:‏ اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كانت الخامسة قيل ‏:‏ يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال ‏:‏ والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها ، فشهد الخامسة ، أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم قيل لها‏:‏ اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل لها ‏:‏ اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ‏، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ، ثم قالت ‏:‏ والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة ، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ‏.‏ ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا بيت لهما من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا متوفى عنها ‏.‏

فصل ‏:‏

وشروط صحة اللعان ستة ‏:‏

أحدها أن يكون بمحضر من الحاكم ، أو نائبه ، لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم ، كسائر الدعاوى ، وإن كانت المرأة برزة أرسل إليها فأحضرها ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة هلال ‏.‏ وإن لم تكن برزة ، بعث من يلاعن بينهما ، كما يبعث من يستخلفها في سائر الدعاوى ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يأتي به بعد إلقائه عليه ، فإن بادر به قبل ذلك ، لم يعتد به ، كما لو حلف قبل أن يستحلفه الحاكم ‏.‏

الثالث ‏:‏ كمال لفظاته الخمس ‏.‏ فإن نقص منها شيئاً ، لم يعتد به لأن الله علق الحكم عليها ، فلا يثبت بدونها ، ولأنها بينة ، فلم يجز النقص من عددها ، كالشهادة ‏.‏

الرابع ‏:‏ الترتيب على ما ورد به الشرع ‏.‏ فإن بدأ بلعان المرأة ، لم يعتد به ، لأنه خلاف ما ورد به الشرع ، ولأن لعان الرجل بينة ، للإثبات ، ولعان المرأة بينة للإنكار ، فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات ‏.‏ فإن قدم الرجل اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة ، أو المرأة الغضب على شيء منها ، لم يعتد بها ، لأن الله تعالى جعلها الخامسة ، فلا يجوز تغييره ‏.‏

الخامس ‏:‏ الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع ، فإن أبدل الشهادة ببعض ألفاظ اليمين ، كقوله ‏:‏ أقسم ، أو أحلف ، أو أولي ، أو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد ، أو الغضب بالسخط ، أو غيره ، لم يعتد به ، لأنه ترك المنصوص ، ولأنه موضع ورد الشرع فيه بلفظ الشهادة فلم يجز إبداله ، كالشهادة في الحقوق ‏.‏ وفيه وجه آخر ‏:‏ أنه يجزئ ، لأن معناهما واحد ‏.‏ وقال الخرقي ‏:‏ يقول الرجل ‏:‏ اشهد بالله لقد زنت ، وليس هذا لفظ النص ، فيدل ذلك على أنه لم يشترط اللفظ ‏.‏ وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة ، لم يجز ، لأن الغضب أغلظ ، ولذلك خصت به المرأة ، لأن المعرة والإثم بزناها أعظم من الحاصل بالقذف ‏.‏ وإن أبدل الرجل اللعنة بالغضب ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يجوز ، لمخالفته المنصوص ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجوز ، لأنه أبلغ في المعنى ‏.‏

السادس ‏:‏ الإشارة من كل واحد إلى صاحبه ، إن كان حاضراً ‏.‏ أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائباً ، ليحصل التميز عن غيره ‏.‏ وقال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله ‏:‏ الفقهاء يشترطون أن يزاد ‏:‏ فيما رميتها به من الزنا ، وفي نفيها عن نفسها ‏:‏ فيما رماني به من الزنا ، ولا أراه يحتاج إليه ، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ، ولم يذكر هذا ، ولم يأت بالخبر في صفة اللعان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتراطه زيادة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط في اللعان ‏:‏ العربية لمن يحسنها ، ولا يصح بغيرها ، لأن الشرع ورد به بالعربية ، فلم يصح بغيرها ، كأذكار الصلاة ‏.‏ وإن لم يحسن العربية ، جاز بلسانه ، لأنه يحتاج إليها ، فجاز بلسانه ، كالنكاح ‏.‏ فإن عرف الحاكم لسانه ، أجزأ ، وإن لم يعرف لسانه ،أحضر عدلين يترجمان عنه ، ولا يقبل أقل منهما ، لأنه بمنزلة الشهادة عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كان بينهما ولد يريد نفيه ، لم ينتف إلا بذكره في اللعان ‏.‏ فإن لم يذكره ، أعاد اللعان وهذا قول الخرقي ، واختاره القاضي ‏.‏و قال أبو بكر ‏:‏ لا يحتاج إلى ذكره ، وينتفي بزوال الفراش ، لأن حديث سهل بن سعد وصف فيه اللعان ، ولم يذكر فيه الولد ‏.‏ وقال فيه ‏:‏ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ، ولا يرمى ولدها ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ والأول أصح ، لأن ابن عمر قال ‏:‏ لاعن رجل امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وألحق الولد بالمرأة متفق عليه والزيادة في الثقة مقبولة ‏.‏ ولأن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه ، كالزوجة ‏.‏ وتذكره المرأة في لعانها ، لأنهما يتحالفان عليه ، فاشترط ذكره في تحالفهما ، كالمختلفين في الثمن ، ويحتمل أن لا يشترط ذكرها له لأنها لا تنفيه ‏.‏ والأول المذهب ‏.‏ ولا بد من ذكره في كل لفظة ، فإذا قال ‏:‏ أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ، يقول ‏:‏ وما هذا الولد ولدي ، وتقول هي ‏:‏ هذا الولد ولده ، في كل لفظة ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أنه يشترط أن يقول‏:‏ هذا الولد من زنا وليس مني لئلا يعني بقوله ‏:‏ ليس مني خلقاً وخلقاً ، ولا يكفيه قوله ‏:‏ هو من الزنا ، لأنه قد يعتقد الوطء في النكاح الفاسد زنا ، والصحيح الأول ، لأنه نفى الولد ، فينتفي عنه كما لو قال ذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

ويسن في اللعان أربعة أمور ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يتلاعنا قياماً ، لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس ، فقال هلال ، فشهد ، ثم قامت فشهدت ، ولأن فعله في القيام أبلغ في الردع ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يكون بمحضر من جماعة ، لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد ، حضروه مع حداثة أسنانهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يحضر الصبيان تبعاً للرجال، ولأن اللعان بني على التغليظ ، للردع والزجر ، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك ‏.‏

والثالث ‏:‏ أن يعظهما الحاكم بعد الرابعة ويخوفهما ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس ‏.‏

والرابع ‏:‏ أن يضع رجل يده على الملاعن بعد الرابعة ، يمنعه المبادرة إلى الخامسة ، إلى أن يعظه الحاكم ، ثم يرسلها ، وتفعل امرأة بالملاعنة بعد رابعتها كذلك، لما روى ابن عباس في خبر المتلاعنين قال ‏:‏ ‏:‏ فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ثم أمر به فأمسك على فيه ، فوعظه وقال ‏:‏ ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله ، ثم أرسل فقال ‏:‏ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم دعا بها فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال ‏:‏ ويلك كل شيء أهون عليك من غضب الله ‏.‏ أخرجه الجوزجاني ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يسن التغليظ بزمن ولا مكان ، لأنه لم يرد به أثر ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما دل الحديث على لعانهما كان في صدر النهار ، لقوله في الحديث ‏:‏ فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ‏.‏ والغدو إنما يكون أول النهار ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ يستحب التغليظ بهما ، فيتلاعنان بعد العصر، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة‏}‏ يعني ‏:‏ بعد العصر ، ويكون في الأماكن الشريفة عند المنابر في الجامع ، إلا في مكة بين الركن والمقام ، وفي المسجد الأقصى عند الصخرة ، لأنه أبلغ في الردع والزجر ، ولله الحمد والمنة ‏.‏
باب ما يوجب اللعان من الأحكام


وهي أربعة أحكام ‏:‏

أحدها ‏:‏ سقوط الحد ، أو التعزير الذي أوجبه القذف ، لأن هلال بن أمية قال ‏:‏ والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها ، ولأن شهادته أقيمت مقام بينة مسقطة للحد ، كذلك لعانه ، ويحصل هذا بمجرد لعانه كذلك ‏.‏ وإن نكل عن اللعان ، أو عن تمامه ، فعليه الحد ‏.‏ فإن ضرب بعضه ، ثم قال ‏:‏ أنا ألاعن ، سمع ذلك منه ، لأن ما أسقط جميع الحد ، أسقط بعضه ، كالبينة ‏.‏ ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها ، سمعت منها كالرجل ‏.‏ وإن قذف امرأته برجل سماه ، سقط حكم قذفه بلعانه ، وإن لم يذكره فيه ، لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء ، ولم يذكره في لعانه ، ولم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عزره له ‏.‏ ولأن اللعان بينة في أحد الطرفين ، فكان بينة في الآخر كالشهادة ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ يلاعن ، لإسقاط الحد لها وللمسمى ‏.‏

فصل ‏:‏

الحكم الثاني ‏:‏ نفي الولد ‏.‏ وينتفي عنه بلعانه على ما ذكرناه لما ذكرنا من الحديث فيه ، ولأنه أحد مقصودي اللعان ، فيثبت به كإسقاط الحد ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن نفى الحمل في لعانه ، فقال الخرقي ‏:‏ لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له ، ويلاعن ، لأن الحمل غير متيقن ، يحتمل أن يكون ريحاً فيصير اللعان مشروطاً بوجوده ، ولا يجوز تعليقه على شرط ، وظاهر كلام أبي بكر صحة نفيه ، لظاهر حديث هلال بن أمية ، فإن لاعنها قبل الوضع ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ أنظروها فإن جاءت به كذا وكذا ونفى عنه لولد ، ولأن الحمل تثبت أحكامه قبل الوضع من وجوب النفقة والمسكن ، ونفي طلاق البدعة ، ووجوب الاعتداد به ، وغير ذلك ، فكان كالمتيقن ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن ولدت توأمين ، فنفى أحدهما واستلحق الآخر لحقاه جميعاً ، لأنه لا يمكن جعل أحدهما من رجل ، والآخر من غيره ، والنسب يحتاط لإثباته ، لا لنفيه ‏.‏ وإن نفي أحدهما وترك الآخر ، ألحقناهما به جميعاً كذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أقر بالولد ، أو هنئ به فسكت أو أمن على الدعاء ، أو دعا لمن هنأه به ، لزمه نسبه ، ولم يملك نفيه ، لأن هذا جواب الراضي به ، وكذلك إن علم فسكت ، لحقه ، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق ، فكان على الفور ، كخيار الشفعة ‏.‏ وهل يتقدر بالمجلس ، أو يكون عقيب الإمكان ‏؟‏ على وجهين ‏:‏ بناء على خيار الشفعة ‏.‏ وإن أخره لعذر ، كأداء صلاة حضرت ، أو أكل لدفع الجوع، وأشباه هذا من أشغاله، أو للجهل بأن له نفيه ، أو بوجوب نفيه على الفور ، لم يبطل خياره ، لأن العادة جارية بتقديم هذه الأمور ، والجاهل معذور ‏.‏ وإن ادعى الجهل بذلك قبل منه ، لأن هذا مما يخفى ، إلا أن يكون فقيهاً ، فلا يقبل منه ، لأنه في مظنة العلم ‏.‏ وإن أخره لعذر مدة يسيرة ، لم يحتج أن يشهد على نفسه ، وإن طالت ، أشهد على نفسه بنفيه ، كالطلب بالشفعة ‏.‏ وإن قال ‏:‏ لم أصدق المخبر وكان الخبر مستفيضاً ، أو المخبر مشهور العدالة ، لم يقبل قوله ‏.‏ وإن لم يكن كذلك ، قبل ‏.‏ وإن أخر نفي الحمل ، لم يسقط نفيه ، لأنه غير مستحق ، وإن استلحقه ، لم يلحقه كذلك ، إلا على قول أبي بكر ‏.‏ وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة ، وأمكن صدقه ، فالقول قوله ، وإلا فلا ‏.‏ وإن أخر نفيه رجاء موته ، ليكفي أمر اللعان ، سقط حقه من النفي ‏.‏

فصل ‏:‏

الحكم الثالث ‏:‏ الفرقة ، وفيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما ، لقول ابن عباس في حديثه ‏:‏ ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ‏.‏ وفي حديث عويمر ‏:‏ أنه قذف زوجته ، فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عويمر ‏:‏ كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان ‏.‏ فعلى هذا ، إن طلقها قبل التفريق ، لحقها طلاقه ، وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما من غير استئذانهما ، وعليه أن يفرق بينهما ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما ‏.‏

والثانية ‏:‏ تحصل الفرقة بمجرد لعانهما ، لأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد ، فلم يقف على تفريق الحاكم ، كالرضاع ‏.‏ ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم ، لساغ ترك التفريق إذا لم يرضيا به ، كالتفريق للعيب ، والإعسار ،وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بمعنى ‏:‏ أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان ‏.‏ وعلى كلتا الروايتين ، ففرقة اللعان فسخ ، لأنها فرقة توجب تحريم مؤبداً ، فكانت فسخاً ، كفرقة الرضاع ‏.‏

فصل ‏:‏

الحكم الرابع ‏:‏ التحريم المؤبد يثبت ، لما روى سهل بن سعد قال ‏:‏ مضت السنة في المتلاعنين ، أن يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبداً ‏.‏ رواه الجوزجاني ‏.‏ ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب ، فلم يرتفع بهما ، كتحريم الرضاع ‏.‏ وقد روى عنه حنبل ‏:‏ أنه إذا أكذب نفسه عاد فراشه كما كان وهذه الرواية شذ بها عن سائر أصحابه ‏.‏ قال أبو بكر ‏:‏ والعمل على الأول ‏.‏ وإن لاعنها في نكاح فاسد ، أو بعد البينونة لنفي نسب ، ثبت التحريم المؤبد ، لأنه لعان صحيح ، فأثبت التحريم ، كاللعان في النكاح الصحيح ‏.‏ ويحتمل أنه لا يثبت التحريم ، لأنه لم يرفع فراشاً ، فلم يثبت تحريماً ، كغير اللعان ‏.‏ ولو لاعنها في نكاح صحيح وهي أمة ، ثم اشتراها ، لم تحل له ، لأنه وجد ما يحرمها على التأبيد ، فلم يرتفع بالشراء ، كالرضاع ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تثبت هذه الأحكام إلا بكمال اللعان ، إلا سقوط الحد وما قام مقامه ، فإنه يسقط بمجرد لعانه ‏.‏ فإن مات أحدهما قبل كماله منهما ، فقد مات على الزوجية ، لأن الفرقة لم تحصل بكما اللعان ، ويرثه صاحبه كذلك ، ويثبت النسب ، لأنه لم يوجد ما يسقطه ‏.‏ فإن كان الميت الزوج ، فلا شيء على المرأة ‏.‏ وإن ماتت المرأة قبل لعان الزوج ، وطلبها بالحد ، فلا لعان ، لأن الحد لا يورث ‏.‏ وإن ماتت بعد طلبها ، قام وارثها مقامها في المطالبة ، وله اللعان لإسقاط الحد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان ، لزمه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن كانت غير محصنة ، ويلحقه النسب ، لأنهما حق عليه ، فيلزمانه بإقراره بهما ، ولا يعود الفراش ، ولا يرتفع التحريم المؤبد ، لأنهما حق له ، فلا يعودان بتكذيبه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان ، فلا حد عليها ، لأن زناها لم يتثبت ، فإنه لو ثبت زناها بلعان الزوج ، لم يسمع لعانها ، كما لو قامت به البينة ، ولا يثبت بنكولها لأن الحد لا يقضى فيه بالنكول ، لأنه يدرأ بالشبهات ، والشبهة متمكنة منه ، ولكن تحبس حتى تلتعن ، أو تقر ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ أجبرها على اللعان ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين‏}‏ فإن لم تشهد ، وجب أن يدرأ عنها العذاب وعنه ‏:‏ يخلى سبيلها ، وهو اختيار أبي بكر ، لأنه لم يثبت عليها ما وجب الحد ، فيخلى سبيلها ، كما لو لم تكمل البينة ‏.‏ وإن صدقته فيما قذفها به ، لم يلزمها الحد حتى تقر أربع مرات ، لأن الحد لا يثبت بدون إقرار أربع ،على ما سنذكره ، وحكمها حكم ما لو نكلت ، ولا لعان بينهما، لأن اللعان إنما يكون مع إنكارها ، ولا يستحلف إنسان على نفي ما يقر به ‏.‏


باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق


إذا تزوج من يولد لمثله بامرأة ، فأتت بولد لستة أشهر فصاعداً بعد إمكان اجتماعهما على الوطء ، لحقه نسبه في ظاهر من المذهب ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الولد للفراش و لأن مع هذه الشروط ، يمكن كونه منه ، والنسب مما يحتاط له ، ولم يوجد ما يعارضه ، فوجب إلحاقه به ‏.‏ وإن اختل شرط مما ذكرنا ، لم يلحق به ، وانتفى من غير لعان ، لأن اللعان يمين ، واليمين جعلت التحقق أحد الجائزين ، أو نفي أحد المحتملين ‏.‏ وما لا يجوز ، لا يحتاج إلى نفيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وأقل سن يولد لمثله في حق الرجل عشر سنين ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ مروهم بالصلاة للسبع، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع رواه أبو داود ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ تسع سنين وأقل مدة الحمل ، لأن الجارية يولد لها كذلك ، فكذلك الغلام ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا يلحق به الولد حتى يبلغ ‏.‏ قال ابن عقيل ‏:‏ هو أصح ، لأن من لا ينزل الماء لا يكون منه ولد ‏.‏ وهذا ليس بسديد ، لأنهم إن أرادوا بالبلوغ بلوغ خمس عشرة ، فهو باطل ، لأنه يولد له لدون ذلك ‏.‏ وقد روي أنه لم يكن بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله إلا اثنتا عشرة سنة ‏.‏ وإن أرادوا الإنزال فيما يعلم ، فلابد من ضبطه بأمر ظاهر ‏.‏ وإن ولدت امرأة غلام ، سنه دون ذلك ، لم يلحق به ، ومن كان مجبوباً مقطوع الذكر والأنثيين ، لم يلحق به نسب ، لأنه لا ينزل مع قطعهما ‏.‏ وإن قطع أحدهما ، فقال أصحابنا ‏:‏ يلحق به النسب ، لأنه إذا بقي الذكر أولج فأنزل ‏.‏ وإن بقيت الأنثيان ، ساحق فأنزل ‏.‏ والصحيح أن مقطوع الأنثيين لا يحلق به نسب ، لأنه لا ينزل إلا ماء رقيقاً لا يخلق منه ولد ، و تنقضي به شهوة ، فأشبه مقطوع الذكر والأنثيين ‏.‏ وإن لم يمكن اجتماع الزوجين على الوطء ، بأن يطلقهما عقيب تزويجه بها أو كان بينهما مسافة لا يمكن اجتماعها على الوطء معها ، لم يلحق به الولد ‏.‏ وإن ولدت زوجته لدون ستة أشهر من حين تزوجها لم يلحقه ولدها ، لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح ‏.‏

فصل ‏:‏

وأقل مدة الحمل ستة أشهر ، لم روي أن عثمان أتى بامرأة ولدت لدون ستة أشهر ، فتشاور القوم في رجمها ، فقال ابن عباس ‏:‏ أنزل الله تعالى ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏ وأنزل ‏:‏ ‏{‏وفصاله في عامين‏}‏ ‏.‏ فالفصال في عامين ، والحمل في ستة أشهر ‏.‏وذكر ابن القتبي أن عبد الملك بن مروان ‏:‏ ولد لستة أشهر ‏.‏وأكثرها أربع سنين ‏.‏ وعنه سنتان ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ‏:‏ لا تزيد المرأة على سنتين في الحمل ‏.‏ والأول المذهب ، لما روى الوليد بن مسلم قال ‏:‏ قلت لمالك بن أنس ‏:‏ حديث عائشة ‏:‏ لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل ‏.‏ قال مالك ‏:‏ سبحان الله من يقول هذا ‏؟‏ هذه جارتنا أمرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين ‏.‏ وقال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين ، وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطون ، كل دفعة أربع سنين ‏.‏ وغالب الحمل تسعة أشهر ، لأنه كذلك يقع غالباً ‏.‏ وإذا أتت المرأة بولد بعد فراقها لزوجها ، بموت أو طلاق بائن بأربع سنين ، لم يلحق به ، وانتفى عنه بغير لعان ، لأنها علقت به بعد زوال الفراش ‏.‏ وإن كان الطلاق رجعياً ، فوضعته لأربع سنين منذ انقضت عدتها ، فكذلك لذلك ‏.‏ وإن كان لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يلحق به ، لأنها علقت به بعد طلاقه ، أشبهت البائن ‏.‏

والثانية ‏:‏ يلحقه ، لأنها في حكم الزوجات ، فأشبهت ما قبل الطلاق ‏.‏ وإن وضعته لأقل من أربع سنين ، قبل الحكم بانقضاء عدتها ، لحق به ، لأنه أمكن إلحاقه به ، والنسب مما يحتاط لإثباته ‏.‏ وإن بانت زوجته منه فوضعت ولداً ، ثم وضعت آخر بينهما أقل من ستة أشهر ، لحق به ، لأنهما حمل واحد ‏.‏ وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، لم يلحق به ، لأنه حمل ثان ، إذ لا يمكن أن يكونا حملاً بينهما مدة الحمل ، فيعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية ‏.‏ وإن اعتدت بالأقراء ، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر ، لحق به ، لعلمنا أنها حملته في الزوجية ، والدم دم فساد رأته في حملها ‏.‏ وإن كان لأكثر من ستة أشهر فصاعداً ، لم يلحق به ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها ، فلا تنقضها بالاحتمال ‏.‏ هذا قول أصحابنا ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها ، ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ، فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان ‏.‏ وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ، لم يلحق به ، ولا بالأول ، وانتفى عنهما بغير لعان ‏.‏ وإن تزوجت في عدتها ، وولدت لدون ستة أشهر من نكاح الثاني ، فهو ولد الأول ، لأنه أمكن أن يكون منه ، ولم يمكن إلحاقه بالثاني ‏.‏ وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، فهذا يحتمل أن يكون منهما ، فيرى القافة معهما ، فيلحق بمن الحقوه به منهما ‏.‏ فإن ألحقته بالأول ، انتفى عن الثاني بغير لعان، لأن نكاحه فاسد‏.‏ إن ألحقته بالثاني، لحق، وهل له نفيه باللعان ‏؟‏ على روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ له ذلك ، والأخرى لا ينتفي عنه بحال ‏.‏ وإن لم توجد قافة ، أو أشكل أمره ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يترك حتى يبلغ ، فينتسب إلى من شاء منهما ، والأخرى يضيع نسبه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا أتت زوجته بولد يمكن أن يكون منه، فقالت ‏:‏ هذا ولدي منك ، فقال ‏:‏ ليس هذا ولدي منك، بل استعرتيه ، أو التقطتيه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ القول قولها ، لأنه خارج تنقضي به العدة ، فالقول قولها فيه ، كالحيض ‏.‏

والثاني ‏:‏ القول قوله ، ولا يقبل قولها إلا ببينة ، لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها ، والأصل عدمها ، فكانت البينة على مدعيها ، ويكفي في ذلك امرأة عدلة ‏.‏ وإذا ثبتت ولادتها ، لحق نسبه به ، لأنه ولد على فراشه‏.‏ وإن كان خلافهما في انقضاء العدة ، فالقول قولها في انقضائها بغير بينة ، لأن المرجع إليها فيها ، وإن قال ‏:‏ هو من زوج قبلي ولم يكن لها قبله زوج ، أو كان ولم يمكن إلحاقه به، لحقه، ولم يلتفت إلى قوله ‏.‏ وإن قال ‏:‏ هو من وطء شبهة ، أو قال ‏:‏ لم تزن ، ولكن ليس هذا الولد مني ، فقال الخرقي ‏:‏ هو ولده في الحكم ، ولا حد عليه لها ، لأنه لم يقذفها ، ولا لعان بينهما ، لأن من شرطه القذف ولم يقذفها ‏.‏ وقال أبو الخطاب هل له أن يلاعن بنفي الولد ‏؟‏ على روايتين ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يلاعن كذلك ‏.‏

والثانية ‏:‏ له أن يلاعن ، لأنه يحتاج إلى نفي النسب الفاسد فشرع ، كما لو قذفها ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر من غير مشاركة غيره له في وطئها ، لحقه نسب ولدها ، ولم يحل له نفيه ، لما روى أبو هريرة ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة ‏:‏ أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليها ، احتجب الله عنه ، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ‏.‏ أخرجه أبو داود ، وإن علم أنه من غيره ، مثل أن يراها تزني في طهر لم يصبها فيه ، فاجتنبها حتى ولدت ،لزمه قذفها ونفي ولدها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث ‏:‏ وأيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم ، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته ‏.‏ فلما حرم عليها أن تدخل عليهم نسباً ليس منهم ، دل على أن الرجل مثله‏.‏ ولأنه إذ لم ينفه، زاحم ولده في حقوقهم ، ونظر إلى حرمه ، بحكم أنه محرم لهن ‏.‏ وإن لم يرها تزني ، لكن تعلم أن الولد من غيره ، لكونه لم يصبها لزمه نفي ولدها كذلك ‏.‏ وليس له قذفها ، لاحتمال أن تكون مكرهة ، أو موطوءة بشبهة وإن كان يطؤها ويعزل ، لم يكن له نفي ولدها ، لما روى أبو سعيد الخدري قال ‏:‏ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إنا نصيب النساء ونحب الأثمان فنعزل عنهن ، فقال ‏:‏ إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق منه ‏.‏ وإن كان يجامعها دون الفرج ، أو في الدبر ، فقال أصحابنا ‏:‏ ليس له نفيه ، لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما لا تحس به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ولدت امرأته غلاماً أسود وهما أبيضان ، أو أبيض وهما أسودان ، لم يجز له نفيه ‏.‏ ذكره ابن حامد لما روى أبو هريرة قال ‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ إن امرأتي جاءت بولد أسود ، يعرض بنفيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هل لك من إبل ، قال ‏:‏ نعم قال ‏:‏ فما ألوانها ‏؟‏ قال ‏:‏ حمر ‏.‏ قال ‏:‏ هل فيها من أورق ‏؟‏ قال ‏:‏ إن فيها لورقاً قال‏:‏ فأنى أتاها ذلك ‏؟‏‏!‏ قال ‏:‏ عسى أن يكون نزعة عرق ‏.‏ قال ‏:‏ وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ‏.‏ قال ‏:‏ ولم يرخص له في الانتقاء منه ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولأن دلالة ولادته على فراشه قوية ، ودلالة الشبهة ضعيفة ، فلا يجوز معارضة القوي بالضعيف ‏.‏ ولذلك لما اختلف عبد بن زمعة ، وسعد بن أبي وقاص في غلام ‏.‏ فقال سعد ‏:‏ هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه ، انظر إلى شبهه ، وقال عبد الله بن زمعة ‏:‏ هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته ‏.‏ ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه شبهاً بيناً لعتبة ‏.‏ فقال ‏:‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر متفق عليه ، فاعتبر الفراش دون الشبهه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ ظاهر كلام أحمد ، أن له نفيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة هلال ‏:‏ انظروها فإن جاءت به أبيض سبطاً ، مضيء العينين ، فهو لهلال بن أمية ، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو لشريك رواه أحمد و مسلم ‏.‏ فجاءت به على النعت المكروه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لولا الإيمان ، لكان لي ولها شأن ، أخرجه أبو داود ‏.‏ فجعل الشبه دليلاً على نفيه عن الزوج ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن رآها تزني ولم يكن له نسب يلحقه ، فله قذفها ، لأن هلالاً وعويمراً قذفا زوجتيهما قبل أن يكون ثم نسب ينفى ‏.‏ وله أن يسكت ، لأنه لا نسب فيه ينفيه ، وفراقها ممكن بالطلاق ، فيستغني عن اللعان ‏.‏ وإن أقرت عنده بالزنا ، فوقع في نفسه صدقها ، أو أخبره بذلك ثقة ، أو استفاض في الناس أن رجلاً يزني بها ، ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب ، فله قذفها ، لأن الظاهر زناها ‏.‏ وإن لم ير شيئاً ، ولا استفاض سوى أنه رأى رجلاً من عندها من غير استفاضة ، لم يكن له قذفها ، لأنه يجوز أن يكون دخل هارباً ، أو سارقاً ، أو ليراودها عن نفسها فمنعته ، فلم يجز قذفها بالشك ‏.‏ وإن استفاض ذلك ولم يره يدخل إليها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجوز قذفها ، لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجوز ، لأنه يحتمل أن عدواً أشاع ذلك عنها ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن ملك أمة ، لم تصر فراشاً بنفس الملك ، لأنه قد يقصد بملكها التمول ، أو التجمل ، أو التجارة ، أو الخدمة ، فلم يتعين لإرادة الوطء ، فإن أتت بولد ولم يعترف به ، لم يلحقه نسبه ، لأنه لم يولد على فراشه ، فإذا وطئها صارت فراشاً له ، فإذا أتت بولد لمدة الحمل من حين يوم الوطء ، لحقه ، لأن سعداً نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ، فقال عبد بن زمعة ‏:‏ هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هو لك يا ابن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ فإن ادعى أنه كان يعزل عنها ، لم ينتف عنه الولد بذلك ‏:‏ لما ذكرنا في الزوجة ‏.‏ وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ ما بال قوم يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن ، لا تأتني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها ، فاعزلوا بعد ذلك ، أو اتركوا وإن اعترف بوطئها دون الفرج فقال أصحابنا ‏:‏ يلحقه نسب ولدها ، لأن الماء قد يسبق إلى الفرج من حيث لا يعلم ‏.‏ وإن انتفى من ولدها بعد اعترافه بوطئها ، لم يلاعن ، لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين ، ولا ينتفي عنه ، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها ، فإن ادعى ذلك ، فالقول قوله ، وينتفي ولدها عنه ، ويقوم ذلك مقام اللعان في نفي الولد ‏.‏


كتاب العدد


إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة ، فلا عدة عليها بالإجماع ، لقول الله سبحانه ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏ ولأن العدة تجب ، لاستبراء الرحم ، وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل ‏.‏ فإن فارقها بعد الدخول ، فعليها العدة بالإجماع ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ ‏.‏ ولأنه مظنة ، لاشتغال الرحم بالحمل ، فتجب العدة لاستبرائه ‏.‏ وإن طلقها بعد الخلوة ، وجبت العدة ، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أبي أوفى قال ‏:‏ قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى ستراً ، أو من أغلق باباً ، فقد وجب المهر ، ووجبت العدة ‏.‏ ولأن التمكين من استيفاء المنفعة ، جعل كاستيفائها ، ولهذا استقرت الأجرة في الإجارة ، فجعل كالاستيفاء في العدة ‏.‏

فصل ‏:‏

والمعتدات ثلاثة أقسام ‏:‏ معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه ، سواء كانت حرة أو أمة ، مفارقة في حياة ، أو بوفاة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ‏.‏

وروت سبيعة الأسلمية ‏:‏ أنها كانت تحت سعد بن خولة ، وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها ، فلما انقلبت من نفاسها ، تجملت للخطاب ، فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك ، فقال ‏:‏ لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر ‏.‏ قالت ‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي ، فأمرني بالتزوج إذا بدا لي ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولأن براءة الرحم ، لا تحصل في الحامل إلا بوضعه ، فكانت عدتها به ، ولا تنقضي إلا بوضع جميع الحمل وانفصاله ‏.‏ فإن كان حملها أكثر من واحد ، فحتى تضع آخر حملها وينفصل ، لأن الشغل لا يزول إلا بذلك ‏.‏ وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان ، انقضت به عدتها ، لأنه ولد ‏.‏ وإن لم يتبين فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ، فكذلك ، لأنه تبين لهن ‏.‏ وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي ، فالمنصوص أن العدة لا تنقضي به ، لأنه لم يصر ولداً ، فأشبه العلقة ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن الأمة تصير به أم ولد ، فيجب أن تنقضي به العدة ، لأنه حمل ، فيدخل في عموم الآية ‏.‏ وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالحمل ، أن تضعه بعد ثمانين يوماً ، من حين إمكان الوطء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً ثم يكون مضغة أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ولا تنقضي العدة بما دون المضغة‏.‏ ولا يكون مضغة في أقل من ثمانين ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثاني ‏:‏ معتدة بالقروء ‏:‏ وهي ‏:‏ كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ممن تحيض ‏.‏ وهي نوعان ‏.‏ حرة ‏:‏ فعدتها ثلاثة قروء ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ وأمة ‏:‏ فعدتها قرآن ، لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ طلاق الأمة طلقتان ، وقرؤها حيضتان رواه أبو داود ‏.‏ وعن عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا ‏:‏ عدة الأمة حيضتان ، وفي القروء روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ الحيض ، لهذا الخبر ، وقول الصحابة رضي الله عنهم ، ولقوله عليه السلام ‏:‏ تدع الصلاة أيام أقرائها رواه أبو داود ‏.‏ وقال لفاطمة بنت أبي حبيش ‏:‏ فإذا أتي قرؤك فلا تصلي ‏.‏ وإذا مر قرؤك فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء رواه النسائي ‏.‏ ولأنه معنى يستبرأ به الرحم ، فكان بالحيض كاستبراء الأمة ، ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء ، فالظاهر أنها تكون كاملة ، ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض ‏.‏ ومن جعل القروء الأطهار ، لم يوجب ثلاثة كاملة ، لأنه يعد الطهر الذي طلقها فيه قرءاً ‏.‏

والثانية ‏:‏ القروء ‏:‏ الأطهار ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏.‏ أي في عدتهن ، وإنما يطلق في الطهر ‏.‏ فإذا قلنا ‏:‏ هي حيض ، لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها ، ولزمها ثلاث حيض مستقبلة ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏ فيتناول الكاملة ‏.‏ وإن قلنا هي الأطهار ، احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءاً ، ولو بقي منه لحظة ، لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏.‏ أي في عدتهن ، وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به ‏.‏ ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض ، كيلا يضر بها ، فتطول عدتها ، ولو لم يحتسب بقية الطهر قرءاً ، لم تقتصر عدتها بالطلاق فيه ‏.‏ فإن لم يبق من الطهر بعد الطلاق جزء ، بأن وافق آخر لفظه آخر الطهر ، أو قال ‏:‏ أنت طالق في آخر طهرك ، كان أول قرائها الطهر الذي بعد الحيض ، لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق ‏.‏ ومتى قلنا ‏:‏ القرء ‏:‏ الحيض ‏.‏ فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة ، لأن ذلك آخر القروء ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ، اختاره الخرقي ، لأنه يروى عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبادة وأبو موسى وأبو الدرداء رضي الله عنهم ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ القروء ‏:‏ الأطهار ‏.‏ فآخر العدة آخر الطهر ‏.‏

الثالث ‏:‏ إذا رأت الدم بعده ،انقضت عدتها ،ويحتمل أن لا تنقضي بانقضائها ، حتى ترى الدم يوماً وليلة ، لأن ما دونه لا يحتمل أن يكون حيضاً ، وليست اللحظة التي ترى فيها الدم من عدتها ، ولا يصح ارتجاعها فيها ، لأن حسبانها من عدتها يفضي إلى زيادتها في ثلاثة قروء، وإنما اعتبرت ، ليتحقق انتفاء الطهر ‏.‏

فصل ‏:‏

وأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ، إن قلنا ‏:‏ القرء ‏:‏ الحيض ، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً ، لأن ثلاثة حيضات ثلاثة أيام ، وبينها طهران ستة وعشرون يوماً ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ أقل الطهر خمسة عشر يوماً ، فأقل العدة ثلاثة وثلاثون يوماً ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ الأقراء ‏:‏ الأطهار ، والطهر ‏:‏ ثلاثة عشر يوماً ، فأقلها ‏:‏ ثمانية وعشرون يوماً ولحظة ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ أقله خمسة عشر يوماً ، فأقلها اثنان وثلاثون يوماً ولحظة ‏.‏ فأما الأمة فعلى الأول ‏:‏ أقل عدتها خمسة عشر يوماً ، وعلى الثاني ‏:‏ سبعة عشر ، وعلى الثالث ‏:‏ أربعة عشر يوماً ولحظة ، وعلى الرابع ‏:‏ ستة عشر يوماً ولحظة ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثالث ‏:‏ المعتدة بالشهور ‏.‏ وهي ثلاثة أنواع ‏:‏

إحداهن ‏:‏ الآيسة من المحيض ، والصغيرة التي لم تحض ، إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها ، فإن كانت حرة ، فعدتها ثلاثة أشهر ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن‏}‏ ‏.‏

فإن طلقها في أول الهلال ، فعدتها ثلاثة أشهر بالأهلة ‏.‏ وإن طلقها في أثناء شهر ، اعتدت شهرين بالهلال وشهراً بالعدد ،7 لما ذكرنا فيما مضى ‏.‏ وإن كانت الأمة ، ففيها ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ عدتها شهران ، لأن كل شهر مكان قرء ، وعدتها بالأقراء قرءان ، فتكون عدتها بالشهور شهرين ‏.‏

والثانية ‏:‏ عدتها شهر ونصف ، لأن عدتها نصف الحرة ، وعدة الحرة ‏:‏ ثلاثة أشهر ، فنصفها شهر ونصف ‏.‏ وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها ، وتنصيف الأشهر ممكن ‏.‏

والثالثة ‏:‏ أن عدتها ثلاثة أشهر ، لعموم الآية ، ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم ، ولا يحصل بأقل من ثلاثة ‏.‏

فصل ‏:‏

واختلف عن أحمد في حد الإياس ، فعنه ‏:‏ أقل خمسون سنة ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت ‏:‏ لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد خمسين سنة ‏.‏ وعنه ‏:‏ إن كانت من نساء العجم فخمسون ، وإن كانت من نساء العرب فستون ، لأنهن أقوى طبيعة ‏.‏ وذكر الزبير في كتاب النسب ‏:‏ أن هند بنت أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة ، ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب ، ولها ستون سنة ‏.‏ قال ‏:‏ ويقال لن تلد بعد الخمسين إلا عربية ، ولا بعد الستين إلا قرشية ‏.‏ ويحتمل كلام الخرقي أن يكون حده ‏:‏ ستون سنة في حق الكل ، لقوله ‏:‏ وإذا رأته بعد الستين ، فقد زال الإشكال ، وتيقن أنه ليس بحيض ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن شرعت الصغيرة في الاعتداد بالشهور فلم تنقض عدتها حتى حاضت ، بطل ما مضى من عدتها ، واستقبلت العدة بالقروء ، لأنها قدرت على الأصل فيه ، فبطل حكم البدل ، كالمتيمم يجد الماء ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ القروء ‏:‏ الحيض ، استأنفت ثلاث حيض ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ هي الأطهار ، فهل تعتد بالطهر الذي قبل الحيض قرءاً ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تعتد به ، لأنه طهر قبل حيض فاعتدت به ، كالذي بين الحيضتين ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تعتد به ، كما لو اعتدت قرءين ثم يئست ، لم تعتد بالطهر قبل الإياس قرءاً ثالثاً ‏.‏ وإن لم تحض حتى كملت عدتها بالشهور ، لم يلتفت إليه ، لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة فلم يلتفت إليه ‏.‏

فصل ‏:‏

النوع الثاني ‏:‏ المتوفى عنها زوجها ، إذا لم تكن حاملاً ، فعدتها أربعة أشهر وعشراً ، إذا كانت حرة ، مدخولاً بها أو غير مدخول بها ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ ‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً متفق عليه ‏.‏ وإن كانت أمة ، اعتدت شهرين وخمس ليال ، لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة ‏:‏ نصف عدة الحرة ، فيجب أن تكون عدة المتوفى عنها نصف عدة الحرة ، وهو ما ذكرنا ‏.‏ ومن نصفها حر ، فعدتها بالحساب من عدة حرة وعدة أمة ، وذلك ثلاثة أشهر وثمان ليال ، لأن نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال ، ونصف عدة الأمة شهر وثلاثة ليال ‏.‏

فصل ‏:‏

النوع الثالث ‏:‏ ذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، فعدتها سنة ، تسعة أشهر تتربص فيها ليعلم برائها من الحمل ، لأنها غالب مدته ، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر ‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله ‏:‏ هذا قضاء عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار ، لا ينكره منكر علمناه ، فصار إجماعاً ‏.‏ فإن حاضت قبل انقضاء السنة ولو بلحظة ، لزمها الانتقال إلى القروء ، لأنها الأصل ، فبطل حكم البدل ،كالمتيمم إذا رأى الماء ‏.‏ وإن عاد الحيض بعد انقضاء السنة وتزوجها ، لم تعد إلى الأقراء ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها وصحة نكاحها ، فلم تبطل ، كما لو حاضت الصغيرة بعد اعتدادها وتزوجها ‏.‏ وإن حاضت بعد السنة وقبل تزوجها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا عدة عليها كذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ عليها العدة ، لأنها من ذوات القروء ، وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق الزوج بها ، فلزمها العود ، كما لو حاضت في السنة ‏.‏ وإن كانت أمة ، تربصت تسعة أشهر للحمل ، لأن مدته للحرة والأمة سواء ، وتضم إلى ذلك عدة الأمة على ما ذكرنا من الخلاف فيها ‏.‏ وإن شرعت في الحيض ، ثم ارتفع حيضها قبل قضاء عدتها ، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض ، لأنها لا تنبني إحدى العدتين على الأخرى ، ولو عرفت ما رفع الحيض من المرض أو الرضاع ونحوه ، لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به ، لأنها من ذوات القروء ، والعارض الذي منع الدم يزول ، فانتظر زواله ، إلا أن تصير آيسة ، فتعتد ثلاثة أشهر من وقت أن تصير في عداد الآيسات ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا أتى على الجارية سن تحيض فيه النساء غالباً ، كخمسة عشر ، فلم تحض ، فعدتها ثلاثة أشهر في إحدى الروايتين ، لظاهر قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏واللائي لم يحضن‏}‏ ‏.‏ والأخرى عدتها سنة ، لأنه أتى عليها زمن الحيض ، فلم تحض ، فأشبهت من ارتفع حيضها ، ولم تدر ما رفعه ‏.‏ ولو ولدت ولم تر دماً قبل الولادة ، ولا بعدها ، ففيه الوجهان ، بناء على ما تقدم ‏.‏ فأما المستحاضة ، فإن كان لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز ، فمتى مرت لها ثلاثة قروء ، انقضت عدتها ، لأنه حيض محكوم به ، أشبه غير المستحاضة ‏.‏ وإن كانت ممن لا عادة لها ولا تمييز ، إما مبتدأة ، وإما ناسية متحيرة ، ففيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ عدتها ثلاثة أشهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة ابنة جحش ‏:‏ أن تجلس من كل شهر ستة أيام أو سبعة ، فجعل لها حيضة في كل شهر ، لأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصوم ، فيجب أن تنقضي العدة به ‏.‏

والثانية ‏:‏ تعتد سنة ، لأنها لم تتيقن بها حيضاً مع أنها من ذوات الأقراء ، فأشبهت التي ارتفع حيضها ، والأول أولى ‏.‏

فصل ‏:‏

فإذا عتقت الأمة بعد قضاء عدتها ، لم يلزمها زيادة عليها ، لأن عدتها انقضت ، فأشبهت الصغيرة إذا حاضت بعد انقضاء عدتها بالأشهر ، وإن عتقت في عدتها وكانت رجعية ، أتمت عدتها عدة حرة ، لأن الرجعية زوجة وقد عتقت في الزوجية ، فلزمتها عدة حرة ، كما لو عتقت قبل الشروع فيها ‏.‏ وإن كانت بائناً ، أتمت عدة الأمة ، لأنها عتقت بعد البينونة ، أشبهت المعتقة بعد عدتها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات زوج المعتدة الرجعية ، فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت ، وتنقطع عدة الطلاق ، لأنها زوجة متوفى عنها ، فتدخل في عموم قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ ‏.‏ وإن كانت بائناً غير وارثة لكونها مطلقة في صحته ، بنت على عدة الطلاق ، لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه ، فلم يلزمها ، الاعتداد من وفاته ، كما لو انقضت عدتها قبل موته ، وعلى قياس هذا ‏:‏ المطلقة في المرض التي لا ترث ، كالذمية والأمة والمختلعة ، وزوجة العبد ، لأنها غير وارثة ‏.‏ وإن كانت وارثة كالحرة المسلمة ، يطلقها زوجها الحر في مرض موته ، فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء ، أو أربعة أشهر وعشر ، لأنها مطلقة بائن ، فتدخل في الآية ‏.‏ ومعتدة ترث بالزوجية ، فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية ‏.‏ فإن كان طلاقه قبل الدخول ، أو موته بعد قضاء عدتها ، فلا عدة عليها ، وعنه ‏:‏ عليهما العدة من الوفاة ، لأنهما يرثانه بالزوجية ‏.‏ والأول أصح ، لقول الله سبحانه وتعالى ‏:‏ ‏{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏ ، ولأن الأجنبية تحل للأزواج ، فلم تلزمها العدة منه ، كما لو تزوجت غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا وطئت المرأة بشبهة ، أو زنا ، لزمتها العدة ، لأن العدة تجب ، لاستبراء الرحم ، وحفظاً عن اختلاط المياه واشتباه الأنساب ، ولو لم تجب العدة ، لاختلط ماء الواطئ بماء الزوج ، ولم يعلم لمن الولد منهما ، فيحصل الاشتباه ، وعدتها كعدة المطلقة ، لأنه استبراء لحرة ، أشبه عدة المطلقة ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن الزانية تستبرأ بحيضة ، لأن النسب لا يلحق الزاني ، وإنما المقصود معرفة براءة رحمها ، فكان بحيضة كاستبراء أم الولد إذا مات سيدها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا طلق أحد نسائه ثلاثاً وأنسيها ، ثم مات قبل أن يبين المطلقة ، فعلى الجميع الاعتداد بأطول الأجلين من عدة الطلاق والوفاة ، ليسقط الفرض بيقين ، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها ، لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المطلقة ، فيلزمها ثلاثة قروء ، ويحتمل أن تكون غيرها ، فتلزمها عدة الوفاة ، فلا يحصل حلها يقيناً إلا بهما ، والنصوص أنه يقرع بينهن ، فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق ، و سائرهن عدة الوفاة ، فأما إن طلق واحدة لا بعينها ، فإنه يقرع بينهن ، فتخرج بالقرعة المطلقة منهن ، فتعتد عدة الطلاق ، ويعتد سائرهن عدة الوفاة ، لأن الطلاق لم يقع في واحدة بعينها ، وإنما عينته القرعة ، بخلاف التي قبلها ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا ارتابت المعتدة لرؤيتها أمارات الحمال من حركة أو نحوها ، لم تزل في عدة حتى تزول الريبة ، فإن تزوجت قبل زوالها ، لم يصح نكاحها ، لأنها تزوجت قبل العلم بقضاء عدتها ، وإن حدثت الريبة بعد انقضاء عدتها ونكاحها ، فالنكاح صحيح ، لأننا حكمنا بصحة ذلك بدليله ، فلا يزول عنه بالشك ، لكن لا يحل وطؤها حتى تزول الريبة ، لأنا شككنا في حل الوطء ‏.‏ وإن حدثت بعد العدة وقبل النكاح ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يحل لها أن تنكح ، لأنها شاكة في انقضاء عدتها ‏.‏

والثاني ‏:‏ يحل لها ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا يتغير الحكم بالشك ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا فقدت المرأة زوجها ، وانقطع خبره عنها ، لم يخل من حالين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يكون ظاهر غيبته السلامة ، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة ، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته ، لأنها كانت ثابتة بيقين ، فلا تزول بالشك ‏.‏ وعنه ‏:‏ إذا مضى له تسعون سنة ، قسم ماله ‏.‏ وإذا أباح قسمة ماله ، أباح لزوجته أن تتزوج ‏.‏ قال أصحابنا ‏:‏ يعني تسعين سنة من حين ولد ، لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من ذلك ‏.‏ فإذا اقترن به انقطاع خبره ، حكم بموته ‏.‏ والأول أصح ، لأن هذا تقدير لا يصار إليه بغير توقيف ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يكون ظاهرها الهلاك ، كالذي يفقد من بين أهله ، أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته ، أو بين الصفين ، أو ينكسر مركباً فيهلك بعض رفقته ، وأشباه ذلك ، فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ، ثم تعتد للوفاة ، ثم تتزوج ‏.‏ قال بعض أصحابنا ‏:‏ لا يختلف قول أحمد في هذا ‏.‏ وقال أحمد ‏:‏ من ترك هذا القول ، أي شيء يقول ‏؟‏ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال القاضي ‏:‏ عندي أن فيها رواية أخرى ‏:‏

أن حكمه حكم من ظاهر غيبته السلامة ، والمذهب الأول ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ يروى عن عمر من ، ثمانية وجوه ، ومن أحسنها ما روى عبيد بن عمير قال ‏:‏ فقد رجل في عهد عمر ، فجاءت امرأته إلى عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال ‏:‏ انطلقي فتربصي أربع سنين ، ففعلت ، ثم أتته ، فقال ‏:‏ انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشراً ، ففعلت ثم أتته ، فقال ‏:‏ أين ولي هذا الرجل ‏؟‏ فجاء وليه ، فقال له ‏:‏ طلقها ، ففعل ‏.‏ فقال عمر ‏:‏ انطلقي فتزوجي من شئت ، ثم جاء وزجها الأول ، فقال عمر ‏:‏ أين كنت ‏؟‏ قال ‏:‏ استهوتني الشياطين ، فخيره عمر ‏:‏ إن شاء امرأته ، وإن شاء الصداق ، فاختار الصداق ‏.‏ وقضى بذلك عثمان وعلي وابن الزبير ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهم ‏.‏ وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر ، فكانت إجماعاً ‏.‏ وهل يعتبر ابتداء المدة من حين ضربها الحاكم ، أو من حين ينقطع خبره ‏؟‏ على وجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ من حين ضربها الحاكم ، لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم ، كمدة العنة ‏.‏

والثاني ‏:‏ من حين انقطع خبره ، لأن ذلك ظاهر في موته ، فأشبه ما لو قامت به ببينة ‏.‏ وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى أن يطلقها وليه ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يعتبر ، لأن ذلك يروى عن عمر وعلي ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يفتقر ، لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها ، ولهذا اعتدت عدة الوفاة ، وقول عمر فقد خالفه قول ابن عباس وابن عمر ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن قدم المفقود قبل تزوجها ، فهي زوجته ، لأننا تبينا حياته ، فأشبه ما لو شهد بموته شاهدان ، وتبين أنه حي ‏.‏ وإن قدم بعد تزوجها ، وقبل دخوله بها ، فكذلك لما ذكرناه وقيل عنه ‏:‏ إن حكمها حكم المدخول بها ، والصحيح الأول ‏.‏ وإن قدم بعد دخول الثاني بها ، خير بينهما وبين صداقها ، لإجماع الصحابة عليه ‏.‏ فإن اختارها ، فهي زوجته بالعقد الأول ، ولم يحتج الثاني إلى طلاق ، لأننا بينا بطلان عقده ‏.‏ وإن اختار صداقها ، فله ذلك ،ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول ‏.‏ اختاره أبو بكر ، لأن علياً وعثمان رضي الله عنهما قالا ‏:‏ يخير بينهما وبين صداقها الذي ساق ‏.‏ ولأن الثاني أتلف المعوض ، فرجع عليه بالعوض ، كشهود الطلاق إذا رجعوا عنه ‏.‏ وعنه ‏:‏ يرجع بالصداق الآخر ، لأنه بذل عوضاً عما هو مستحق للأول ، فكان أولى به ‏.‏ وهل يرجع الثاني على المرأة ما غرمه للأول ‏؟‏ على روايتين ‏.‏ وتكون زوجة الثاني من غير تجديد عقد ، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم أمر بتجديد العقد ، والقياس أن يلزمه تجديد العقد ، لأننا تبينا بطلان ما مضى من عقده بحياة صاحبه ، ولذلك ملك أخذها منه ، فعلى هذا الوجه ، الأول يؤمر بطلاقها ، ثم يعقد عليها الثاني عقداً ‏.‏ وإن رجع الأول بعد موت الثاني ، ورثت ، واعتدت ، ورجعت إلى الأول ، قضى بذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما ‏.‏ رواه الجوزجاني في المترجم ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ قياس المذهب أنا إن حكمنا بوقوع الفرقة ظاهراً وباطناً ، فهي زوجة الثاني ، ولا خيار للأول ، ولا ينفذ طلاقه لها ، ولا يتوارثان إذا مات أحدهما ‏.‏ فإن لم يحكم بوقوعها باطناً ، فهي زوجة الأول بكل حال ، ووطء الثاني لها وطء بشبهة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره ، فلها النفقة والمسكن أبداً ، سواء ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها ، أو لم يضربها ، لأننا لم نحكم ببينونتها بضرب المدة ، فهي باقية على حكم الزوجية ‏.‏ وإن حكم لها بالفرقة ، انقطعت نفقتها ، لمفارقتها إياه حكماً ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب ، فعدتها من يوم مات ، أو طلق ، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة في أصح الروايتين ‏.‏ والأخرى إن ثبت ذلك بالبينة ، فكذلك ، وإن بلغها خبره ، فعدتها من حين بلغها الخبر ‏.‏


باب اجتماع العدتين


إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلاً آخر ، لم تنقطع عدتها بالعقد ، لأنه عقد فاسد ، لا يصير به فراشاً ، فإن وطئها ، انقطعت عدة الأول ، لأنها صارت فراشاً للثاني ، فلا تبقى في عدة غيره ‏.‏ فإن فرق بينهما ، لزمها إتمام عدة الأول ، وعدة الثاني ، وتقدم عدة والأول ، لسبقها ، لما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ‏:‏ أيما امرأة نكحت في عدتها ، لم يدخل بها الذي تزوجها ، فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، وكان خطاباً من الخطاب ، وإن كان قد دخل بها ، فرق الحاكم بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، ثم اعتدت من الآخر ، ولم ينكحها أبداً ‏.‏ رواه الشافعي في مسنده ‏.‏ فإن كانت حاملاً من الأول ، انقضت عدتها بوضع الحمل ، ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء ‏.‏ وإن حملت من وطء الثاني ، انقضت عدتها منه بوضع الحمل ، ثم أتمت عدة الأول بالقروء ‏.‏ وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول ، لأنه لا يجوز أن تضع حملها منه ، ولا تنقضي عدتها منه ‏.‏ وإن أتت بولد يمكن أو يكون منهما ، أري القافة ، وألحق بمن ألحقوه به منهما ، وانقضت عدتها منه به ، واعتدت للآخر ‏.‏ وإن ألحقوه بهما ، انقضت به عدتها منهما ، وإن لم يوجد قافة ، أو أشكل عليهم ، فعليها الاعتداد بعد وضع حملها بثلاثة قروء ، لأنه يحتمل أن يكون من الأول ، فيلزمها ثلاثة قروء ، لعدة الثاني ، فلزمها ذلك ، لتقضي العدة بيقين ‏.‏

فصل ‏:‏

وروي عن أحمد ‏:‏ أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد ، لقول عمر رضي الله عنه ‏:‏ ثم لا ينكحها أبداً ‏.‏ والصحيح في المذهب أنها تحل له ، لأنه وطء بشبهة ، فلم يحرمها على التأبيد ، كالنكاح بلا ولي ‏.‏ وقد روي أن علياً رضي الله عنه قال ‏:‏ إذا انقضت عدتها ، فهو خاطب من الخطاب ، يعني الزوج الثاني ‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه ‏:‏ ردوا الجهالات إلى السنة ، ورجع إلى قول علي ‏.‏ قال الخرقي ، وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين ، فعلى هذا كل معتدة من وطء في نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ،لا يجوز للواطئ ، ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها ، لأنها معتدة من وطء في غير ملك ، فحرمت قبل انقضاء عدتها ، كالزانية ‏.‏ ويحتمل أن يباح للواطئ نكاحها في كل موضع يلحقه النسب ، لأن العدة إنما وضعت لصيانة الماء ، وحفظاً للنسب عن الاشتباه ‏.‏ والنسب هاهنا لاحق ، فلم يمنع الواطئ نكاحها ، كالمعتدة من نكاحه الصحيح ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وطئت المعتدة بشبهة ، أو زنا فلم تحمل ، أتمت عدة الأول ، ثم اعتدت للثاني ، لأنها لم تصر فراشاً ‏.‏ وإن حملت من الثاني ، أو أشكل الأمر ، فالحكم على ما ذكرنا في التي تحمل من زوج ثان ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل حمل لا يلحق بالزوج ، كحمل زوجة الطفل ، والخصي والمجبوب ،وأشباههما لا تنقضي عدتها من الزوج به ، لأننا تبينا أنه ولد لغيره ، فلم تنقض به عدة الزوج ، كما لو علمنا الواطئ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن عدة زوجة الصغير تنقضي بوضع الحمل ‏.‏ وذكر أصحابنا في التي ولدت بعد أربع سنين ، منذ فارقها زوجها ‏:‏ أن عدتها تنقضي به في وجه ، والصحيح الأول ، لما ذكرنا ، ولأننا إن نعلم الواطئ ، فالمرأة تعلمه ، فلم يسقط عنها الاعتداد ، لجهلنا بعينه ، كما لو أقرت ‏.‏ فعلى هذا تنقضي عدة الأول بوطء الثاني ، وتنقضي عدة الثاني بوضع الحمل ‏.‏ فإذا وضعته ، بنت على عدة الأول على ما ذكرنا ‏.‏ وإن كانت حين موت زوجها حاملاً ، انقضت عدتها بوضعه من الواطئ ، ثم تعتد عن الزوج بأربعة أشهر وعشر ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً رجعياً ، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانياً ، بنت على ما مضى من العدة ، لأنهما طلاقان لا يتخللهما وطء ولا رجعة ، فأشبه الطلقتين في وقت واحد ‏.‏ وإن طلق العبد زوجته الأمة طلقة ، ثم أعتقت ،وفسخت النكاح ، بنت على العدة كذلك ‏.‏ وإن طلق الرجل زوجته ،ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما تبني على العدة الأولى ، لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ،فأشبه ما لو لم يرتجعها ‏.‏

والثاني ‏:‏ تستأنف عدة كاملة ، لأنه طلاق نكاح صحيح ، وطئ فيه ، فأوجب عدة كاملة ، كما لو لم يتقدمه طلاق ‏.‏ وإن طلقها بعد دخوله بها ، استأنفت العدة ‏.‏ رواية واحدة ‏.‏ وسقطت بقية الأولى ، لأن حكم الطلقة انقطع بالزوجية والدخول ، وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها ، وقلنا ‏:‏ ذلك رجعة ، فقد عادت الزوجة ، فإن طلقها بعد ذلك ، استأنفت العدة ، وسقط حكم العدة الأولى ، كما تقدم ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ ليس هو برجعة ، فعليها أن تعتد للوطء ، لأنه وطء بشبهة ، وتدخل فيها بقية العدة الأولى ، لأنهما من رجل واحد ‏.‏ وأن كانت حاملاً ، فهل تتداخل العدتان ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يتداخلان ، لأنهما من رجل واحد ، فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء ، بوضع الحمل ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تتداخلان لأنهما من جنسين ، بل تعتد للطلاق بوضع الحمل ، ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء ، كما لو كانا من رجلين ، وإن كانت حائلاً ، فحملت من الوطء ‏.‏ وقلنا ‏:‏ يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل ، وإن قلنا ‏:‏ لا يتداخلان ، انقضت عدة الوطء بالوضع ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا خلع الرجل زوجته ، فله نكاحها في عدتها ، لأنها لحفظ مائه ونسبه ، ولا يصان ماؤه عن مائه ،إذا كانا من نكاح صحيح ، فإن طلقها بعد أن وطئها ، فعليها استئناف العدة ، لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس ، ويسقط حكم بقية العدة الأولى ‏.‏ وإن طلقها قبل أن يمسها ، ففيه روايتان كما ذكرنا في الرجعية ،والأولى هاهنا ، أنها تبني على عدة الطلاق الأول فتتمها ، لأن الطلاق الثاني ، طلاق من نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة ‏.‏ كما لو لم يتقدمه نكاح ‏.‏ ويلزمها بقية عدة الأول ، لأنها تنقطع بعقد التزويج ، لكونها تصير به فراشاً ، فلا تبقى معتدة منه مع كونها فراشاً له ‏.‏ وإذا طلقها لزمها إتمامها ، لأنه لو لم يجب ذلك ، أفضى إلى اختلاط المياه ، بان يطأ زوجته ، ثم يخلعها ، ثم يتزوجها ويطلقها من يومه ، فيتزوجها آخر ويطأها في يوم واحد ، فإن كانت حاملاً حين خلعها ، فتزوجها وولدت ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، لم يكن عليها عدة ، لأنه لم يبق من العدة الأولى شيء ، لأنها كانت حاملاً ، فلا تنقضي عدتها بغير الوضع ‏.‏


باب مكان المعتدات


وهن ثلاثة ‏:‏

إحداهن ‏:‏ الرجعية ، فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها ، لأنها تجب لحق الزوجية ‏.‏

الثانية ‏:‏ البائن بفسخ ، أو طلاق ، تعتد حيث شاءت ، لما روت فاطمة بنت قيس ‏:‏ أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال ‏:‏ والله ما لك علينا من شيء ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فقال ‏:‏ ليس لك عليه نفقة ولا سكنى وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ‏.‏ ثم قال ‏:‏ إن تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم متفق عليه ‏.‏

الثالثة ‏:‏ المتوفى عنها زوجها ، عليها أن تعتد في بيتها الذي كانت ساكنة به ، حين توفي زوجها ، لما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد ‏:‏ أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له ، فقتلوه بطرف القدوم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه ، ولا نفقة ، فقال ‏:‏ امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلما كان عثمان رضي الله عنه أرسل إلي فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به ‏.‏ رواه أبو داود ، و الترمذي وقال ‏:‏ حسن صحيح ‏.‏

فإن خافت هدماً أو غرقاً أو عدواً ، أو حولها صاحب المنزل ، أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة ، فلها الانتقال حيث شاءت ، لأن الواجب سقط للعذر ، لوم يرد الشرع له ببدل فلم يجب ، وليس عليها بدل الأجرة ، وإن قدرت عليها ، لأنه إنما يلزمها فعل السكنى ، لا تحصيل للمسكن ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا سكنى للمتوفى عنها ، إذا كانت حائلاً ، رواية واحدة ، وإن كانت حاملاً ، فعلى روايتين ‏:‏

أحدهما لا سكنى لها ، لأن المال انتقل إلى الورثة ، فلم تستحق عليهم السكنى ، كما لو كانت حائلاً ‏.‏

والثانية ‏:‏ لها السكنى ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج‏}‏ ‏.‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فريعة بنت مالك ، بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها ‏.‏ فإذا قلنا ‏:‏ لا سكنى لها ، فتبرع الوارث بإسكانها ، أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها ، إما بأداء أجرتها ، أو غير ذلك ، لزمها السكنى به ‏.‏ وإن لم يوجد ذلك ، سكنت حيث شاءت ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ لها السكنى ، فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء ، ولا يباع في دينه حتى تنقضي عدتها ، لأنه حق تعلق بعينه ، فقدمت على سائر الغرماء ، كالمرتهن ‏.‏ وإن تعذر ذلك المسكن ، أو كان المسكن لغير الميت ، استؤجر لها من مال الميت ، ويضرب بقدر أجرته مع الغرماء ، إن لم يف ماله بدينه ، فإن كانت عدتها بالحمل ، ضربت بأقل مدته ، لأن اليقين ‏.‏ فإن وضعت لأقل من ذلك ، ردت الفضل على الغرماء ‏.‏ وإن وضعت لأكثر منه ، رجعت عليهم بالنقص ، كما ترد عليهم الفضل ‏.‏ ويحتمل أن لا ترجع عليهم بشيء ، لأننا قدرنا ذلك لها مع تجويز الزيادة ، فلم ترد عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولهم إخراجها لطول لسانها ، وأذاها لأحمائها بالسب ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ ‏.‏ فسره ابن عباس بما ذكرنا ‏.‏ وإن بذئ عليها أهل زوجها ، نقلوا عنها ، لأن الضرر منهم ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس لها الخروج من منزلها ليلاً ، ولها الخروج نهاراً لحوائجها ، لما روى مجاهد قال‏:‏ استشهد رجال يوم أحد ، فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن ‏:‏ يا رسول الله إنا نستوحش بالليل ، أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا ، بادرنا إلى بيوتنا ‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن ، فإن أردتن النوم ، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها ، ولأن الليل مظنة الفساد ، فلم يجز لها الخروج لغير ضرورة ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس لها الخروج للحج ، لأنه لا يفوت ،والعدة تفوت ، فإن خرجت للحج ، فمات زوجها وهي قريبة ، رجعت ، لأنها في حكم الإقامة ‏.‏ وإن تباعدت ، مضت في سفرها ، لأن عليها في الرجوع مشقة فلم يلزمها ، كما لو كان أكثر من ثلاثة أيام ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ حج البعيد ‏:‏ ما تقصر قيه الصلاة ، لأن ما دونه في حكم الحضر ، وإن خافت في الرجوع ، مضت في سفرها ولو كانت قريبة ، لأن عليها ضرراً في الرجوع ‏.‏ وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها ، ثم مات وخافت فواته ، مضت فيه ، لأنه أسبق ‏.‏ فإذا استويا في خوف الفوت ، كان أحق بالتقديم ‏.‏ وإن لم تخف فوته ، مضت في العدة في منزلها ، لأنه أمكن الجمع بين الواجبين ، فلزمها ذلك ‏.‏ وإن أحرمت بعد موته ، لزمها الإقامة ، لأن العدة أسبق ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا أذن لها في السفر بغير نقلة ، فخرجت ، ثم مات ، فحكمه حكم الخروج للحج سواء ‏.‏ وإن كانت لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان ، فخي مخيرة بين البلدين ، لأنه ليس واحد منهما مسكناً لها ، لخروجها منتقلة عن الأول ، وعدم وصولها إلى الثاني ‏.‏ ويحتمل أن يلزمها المضي إلى الثاني ، لأنها مأمورة بالإقامة والسكنى ، والأول بخلافه ، وهذا ضعيف جداً ، لأن فيه إلزامها السفر مع مشقته ، ومؤنته ، وإبعادها عن أهلها ووطنها ، وربما لم يكن لها محرم سوى زوجها الذي مات ، وسفرها بغي محرم حرام ، ولا يحصل من سفرها فائدة ، ولا حكمة ، لأن حكمة الاعتداد في منزلها ، سترها ، وصيانتها لزوم منزلها ، وسفرها تبذيل لها وإبراز لها ، فهو محصل لضد المقصود ، سيما إذا لم يكن معها من يحفظها ، ومقامها في البلد الذي يسافر إليه عند الغرباء من غير أهلها في غير مسكنه ، أشد لهلكتها ، ثم تحتاج إلى الرجوع وكلفته ، وهذا فيه من القبح ما يصان الشرع منه ، والله أعلم ‏.‏ وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة ، لزمها الإقامة به ، وتعتد ، لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه ‏.‏ وإن كان لقضاء حاجة ، فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها ‏.‏ وإن كان لزيارة ، أو نزهة وقد قدر لها مدة الإقامة ، أقامت ما قدر لها ، لأنه مأذون فيه ‏.‏ وإن لم يقدر لها مدة ، فلها إقامة ثلاثة أيام ، لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام ‏.‏ ثم إن علمت أنه لا يمكنها الوصول قبل فراغ عدتها ، لم يلزمها العود لأنها عاجز عن الاعتداد في مكانها ‏.‏ وإن أمكنها قضاء شيء من عدتها في منزلها ، لزمها العود ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم ‏.‏ وإن خافت من الرجوع ، سقط ، للعذر ‏.‏ والحكم فيها إذا أذن لها في النقلة من دار إلى دار ومات وهي بينهما ، كذلك ‏.‏


باب الإحداد


وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة ، وهو واجب في عدة الوفاة ، لما روت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام ، إلا على زوجها ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً ، إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيباً إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها ، بنبذة من قسط ، أو أظفار متفق عليه ‏.‏

ويجب هذا على الحرة والأمة ، والكبيرة والصغيرة ، والمسلمة والذمية ، لعموم الحديث فيهن، ولا يجب على الرجعية ، لأنها باقية على الزوجية ، فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها ، ولا على أم ولد لوفاة سيدها ، ولا موطوءة بشبهة ولا زنا ، لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إلا على زوجها ‏.‏ وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة ، روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا إحداد عليها لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إلا على زوجها ‏.‏ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ،وهذه عدة الوفاة ، ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجب عليها ، لأنها معتدة بائن ، أشبهت المتوفى عنها زوجها ‏.‏

فصل ‏:‏

ويحرم على الحادة ‏:‏ الكحل بالإثمد ، للخبر ، ولأنه يحسن الوجه ، ولا بأس بالكحل الأبيض ، كالتوتياء ونحوه ، لأنه لا يحسن العين ، بل يزيدها مرهاً ‏.‏ وإن دعت الحاجة إلى الاكتحال بالصبر ، والإثمد ، اكتحلت ليلاً وغسلته نهاراً ، لما روت أم سلمة قالت ‏:‏ دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت على عيني صبراً ، فقال ‏:‏ ما هذا يا أم سلمة ‏؟‏ فقلت ‏:‏ إنما هو صبر ليس فيه طيب ‏.‏ قال ‏:‏ إنه يشب الوجه ، لا تجعليه إلا بالليل ، وانزعيه بالنهار وعن أم حكيم بنت أسيد أن زوجها توفي ، وكانت تشتكي عينها ، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء ‏.‏ فقالت ‏:‏ لا تكتحلي إلا لما لا بد منه ، فتكتحلين بالليل ، وتغسلينه بالنهار ‏.‏ رواهما النسائي ‏.‏

فصل ‏:‏

ويحرم على الحادة ‏:‏ الخضاب ، لما روت أم سلمة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشقة ، ولا الحلي ، ولا تختضب ولا تكتحل رواه أبو داود و النسائي ‏.‏ ويحرم عليها أن تمتشط بالحناء ، ولا يحرم عليها غسل رأسها بالسدر ، ولا المشط به ، لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء ، فإنه خضاب قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ بأي شيء أمتشط ‏؟‏ قال ‏:‏ بالسدر تغلفين به رأسك رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب ، ويجوز تقليم الأظفار والاستحداد ، لأنه يراد للتنظيف لا للتزيين ‏.‏ وزيحرم عليها تحمير وجهها بالكلكون ، وتبييضه باسفيذاج العرائس ، لأنه أبلغ في الزينة من الخضاب ، فهو بالتحريم أولى ‏.‏ ولها أن تستعمل الصبر في جميع بدنها ، إلا وجهها ، لأنه إنما منع في الوجه ، لأنه يصفر فيشبه الخضاب ‏.‏

فصل ‏:‏

ويحرم عليها الطيب ، للخبر ، ولأنه يحرك الشهوة ، ويدعو إلى المباشرة ‏.‏ ويحرم عليها استعمال الأدهان المطيبة ، لأنه طيب ‏.‏ فأما ما ليس بمطيب من الأدهان ، كالزيت والشيرج ، فلا بأس به ، لأن التحريم من الشرع ، ولم يرد بتحريمه ، ولا هو في معنى المحرم ‏.‏

فصل ‏:‏

ويحرم عليها الحلي ، للخبر ، ولأنه يزيد من حسنها ويدعو إلى مباشرتها ‏.‏ ويحرم عليها ما صبغ من الثياب للزينة ، كالأحمر ، والأصفر ، والأزرق الصافي ، والأخضر الصافي ، للخبر‏.‏ فإن صبغ عزله ، ثم نسج ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يحرم لقوله ‏:‏ إلا ثوب عصب ‏.‏ والعصب ما صبغ غزله قبل نسجه ‏.‏

والثاني ‏:‏ يحرم ، لأنه أحسن وأرفع ، ولأنه صبغ للتحسين ، أشبه ما صبغ بعد النسج ، وهذا هو الصحيح ، وقوله ‏:‏ إلا ثوب عصب إنما أريد به ما صبغ بالعصب ، وهو نبت ينبت باليمن ، فأما كونه مصبوغ الغزل ، فلا معنى له في هذا ‏.‏ ولا يحرم الأسود ، ولا الأخضر المشبع ، والأزرق المشبع ، لأنه لم يصبغ لزينة ، إنما قصد به دفع الوسخ ، أو اللبس في المصيبة ، ونحو ذلك ، ولا بأس بلبس ما نسج من غزله على جهته من غير صبغ وإن كان حسناً من الحرير والقطن والكتان والصوف وغيره ، لأن حسنه من أصل خلقته ، لا لزينة أدخلت عليه ، فأشبه حسن المرأة في خلقها ‏.‏ قال الخرقي ‏:‏ وتجتنب النقاب ، لأن المحرمة تمنع منه ، فأشبه الطيب ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ كره أحمد النقاب للمتوفى عنها زوجها ، دون المطلقة ‏.‏ قال الخرقي ‏:‏ فإن احتاجت إلى ستر وجهها ، سدلت عليه كما تفعل المحرمة ‏.‏


باب الاستبراء


ومن ملك أمة بسبب من الأسباب ، لم تحل له حتى يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملاً ، أو بحيضة إن كانت تحيض ، لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ‏.‏ رواه أحمد في المسند ‏.‏ وروى الأثرم عن رويفع بن ثابت قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر ‏:‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ‏.‏ ولأنها إذا وطئها قبل استبرائها ، أدى إلى اختلاط المياه ، وفساد الأنساب ‏.‏ فإن كان حيضاً حين ملكها ، لم تعتد بتلك الحيضة ، ولزمه استبراؤها بحيضة مستقبلة ، لأن الخبر يقتضي حيضة كاملة ‏.‏ وإن كانت من الآيسات ، أو من اللائي لم يحضن ، ففيها ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ يستبرئ بشهر ، لأن الشهر أقيم مقام الحيضة من عدة الحرة والأمة ‏.‏

والثانية ‏:‏ بشهرين ، كعدة الأمة ‏.‏

والثالثة ‏:‏ بثلاثة أشهر ، وهي أصح ‏.‏ قال أحمد بن القاسم ‏:‏ قلت لأبي عبد الله ‏:‏ كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة ، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهراً ‏؟‏ فقال ‏:‏ من أجل الحمل ، فإنه لا يبين في أقل من ذلك ، فإن عمر بن العزيز سأل عن ذلك ، وجمع أهل العلم والقوابل ، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر ، فأعجبه ذلك ‏.‏ ثم قال ‏:‏ ألا تسمع قول ابن مسعود ‏:‏ إن النطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة بعد ذلك ، فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة ، وهي لحمة ، فتبين حينئذ ‏.‏ وهذا معروف عند النساء ‏.‏ فأما شهراً ، فلا معنى له ، ولا أعلم أحداً قاله ‏.‏ فإن ارتفع حيضها لعارض تعلمه ، لم تزل في استبراء حتى تحيض ، أو تبلغ سن الإياس ، فتستبرأ استبراء الآيسات ، وإن لم تعلم ما رفعه ، استبرأت بعشرة أشهر في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى بسنة ، تسعة أشهر للحمل ، وثلاثة مكان الحيضة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجب استبراء الصغيرة والكبيرة ، لأنه نوع استبراء فاستويا فيه ، كالعدة ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لا يجب استبراؤها ، لأنه يراد لبراءة الرحم ، ولا يحتمل الشغل في حقها ‏.‏ وإن ملك ما تحل له - كالمجوسية ، والوثنية - فاستبرأها ، ثم أسلمت حلت بغير استبراء ثان ، للخبر ، ولأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم ، ولا يختلف ذلك بالحل والحرمة ‏.‏ وإن أسلمت قبل الاستبراء ، لزمه استبراؤها ، للخبر والمعنى ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح الاستبراء حتى يملكها ، لأن سببه الملك فلم يتقدم عليه ، كما لا تتقدم العدة الفرقة ‏.‏ فإن استبرأها في مدة الخيار ، صح ، لأن الملك ينتقل بالبيع ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ لا ينتقل حتى ينقضي الخيار ، لم يصح الاستبراء فيه ‏.‏ وهل يشترط القبض لصحة الاستبراء ‏؟‏ على وجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يشترط ، فلو حاضت بيد البائع بعد البيع ، لم يصح الاستبراء ، لأن المقصود معرفة براءتها من ماء البائع ، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، لأن سببه الملك وقد وجد ، فيجب أو يعقبه حكمه ‏.‏ وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها ، ثم أخذها السيد ، لم تحتج إلى استبراء ، لأن ما في يد عبده ملكه ‏.‏ وإن اشترى مكاتبه أمة ، ثم صارت إلى السيد لعجزه ، أو قبضها من نجوم كتابته ، لم تبح بغير استبراء ، لأنه يتجدد ملكه بأخذها من مكاتبه ، إلا أن يكون ذا رحم محرم للمكاتب ، فيحل لأن حكمها حكم المكاتب ، وإن رق رقت ، وإن عتق عتقت ‏.‏ والمكاتب مملوك ، فلو كاتب أمته ثم عجزت ، أو رهنها ثم فكها ، أو ارتدت ثم أسلمت ، أو ارتد سيدها ثم أسلم ، حلت بغير استبراء ، لأنه لم تخرج عن ملكه ، وإنما حرمت بعارض زال ، فأشبه ما لو أحرمت ثم حلت ‏.‏



فصل ‏:‏

وإن باعها السيد ، ثم ردت عليه بفسخ أو مقايلة بعد قبض المشتري لها وافتراقهما ، وجب استبراؤها ، لأنه تجديد ملك يحتمل اشتغال الرحم قبله ، فأشبه ما لو اشتراها ‏.‏ وإن كان قبل افتراقهما ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجب استبراؤها ، لأنه تجديد ملك ، فأشبه شراء الصغيرة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجب ، لأن تيقن البراءة معلوم ، فأشبه الطلاق قبل الدخول ‏.‏ وإن زوجها سيدها ثم طلقت قبل الدخول ، لم يجب استبراؤها ، لأن ملكه لم يتجدد عليها ‏.‏ وإن فارقها بعد الدخول ، أو مات عنها ، لم تحل حتى تقضي العدة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها زوجها قبل الدخول ، وجب استبراؤها ، لأنه تجديد ملك ، وأن طلقها بعد دخوله بها ، أو مات عنها ، فعن أحمد ‏:‏ ما يدل على أنه يكتفي بعدتها ، لأن براءتها تعلم بها ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ فيها وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يدخل الاستبراء في العدة كذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يدخل ، لأن الطلاق والملك سببان للاستبراء من رجلين ، فلم يتداخلا ، كالعدتين في رجلين ‏.‏ وإن اشتراها وهي معتدة ، فقال القاضي ‏:‏ يلزمه استبراؤها بعد قضاء عدتها ، لما ذكرنا ‏.‏ ويحتمل أن تدخل بقية العدة في الاستبراء ، لأن المقصود يحصل بذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن ملك زوجته ، لم يلزمه استبراؤها ، لأنه لصيانة الماء وحفظ النسب ، ولا يصان ماؤه عن مائه ، لمن يستحب ذلك ، ليعلم ‏:‏ هل الولد من نكاح عليه ولاء أو من ملك يمينه فلا ولاء عليه ‏؟‏ ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها ، لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها ، لأنها محرمة عليه بملك اليمين فلم تحل بالإعتاق فحرم نكاحها ، كأخته من الرضاع ، ولأن ذلك يفضي إلى اختلاط المياه وفساد النسب ، بأن يطأها البائع ، ثم يبيعها فيعتقها المشتري ، ويتزوجها ، يطؤها في يوم واحد ‏.‏ ولها أن تتزوج غيره إن لم يكن البائع يطؤها ، لأنها لم تكن فراشاً ، فأبيح لها التزويج ، كما لو أعتقها البائع بعد استبرائها ‏.‏ وإن أعتق أم ولده ، أو أمة كان يصيبها ، لزمها استبراء نفسها ، لأنها صارت بالوطء فراشاً له ، فلزمها الاستبراء عند زوال الفراش ، كالزوجة إذا طلقت ‏.‏ فإن أراد معتقها أن يتزوجها في استبرائها ، جاز لأنه لا يحفظ ماؤه عن مائه ، وإن أعتق أمة لم يكن يطؤها ، فليس عليها استبراء ، لأنها ليس فراشاً ‏.‏ وله أن يتزوجها عقيب عتقها ، لأنها مباحة لغيره ، فله أولى ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يتزوجها حتى يستبرئها ‏.‏ وقال ابن عقيل ‏:‏ هذا محمول على الاستحباب ‏.‏ لما ذكرناه ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن ملك أمة يلزمه استبراؤها ، لم يحل له التلذذ بها بالنظر والقبلة ونحوه ، لأننا لا نأمن كونها حاملاً من البائع ‏.‏ فتكون أم ولده ، فيحصل مستمتعاً بأم ولد غيره ، إلا أن يملكها بالسبي ، فيكون فيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يباح له ذلك ، لأنه لا يخشى انفساخ ملكه لها بحملها ، فلا يكون مستمتعاً إلا بمملوكته ‏.‏

والثانية ‏:‏ يحرم ، لأن ما حرم الوطء ، حرم دواعيه ، كالعدة ، وإن وطئت زوجة الرجل أو مملوكته بشبهة ، أو زنا ، لم يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها ‏.‏ وفي التلذذ بغير الوطء وجهان ‏.‏ بناء على الروايتين ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن أراد بيع أمته ولم يكن يطؤها ، لم يلزمه استبراؤها ، لأنه قد حصل يقين براءتها منه ‏.‏ فإن كان يطؤها ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجب ، لأن عمر رضي الله عنه أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها ‏.‏ قال ‏:‏ ما كنت لذلك بخليق ، ولأن فيه حفظ مائه وصيانة نسبه ، فوجب عليه ، كالمشتري ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجب ، لأنه يجب على المشتري ، فأغنى عن استبراء البائع ‏.‏ فأما إن أراد تزويجها ، أو تزوج أم ولده ، لم يجز قبل استبرائها ، لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها ‏.‏ فإذا لم يستبرئها السيد ، أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب ‏.‏ وله تزوج أمته التي لا يطؤها من غير استبراء ، لأنها ليست فراشاً له ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات عن أم ولده ، لزمها الاستبراء ، لأنها صارت فراشاً ، و تستبرأ كما تستبرأ المسيبة ، لأنه استبراء بملك اليمين ‏.‏ وعنه ‏:‏ تستبرأ بأربعة أشهر وعشر ، لما روي عن عمر بن العاص أنه قال ‏:‏ لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ، ولأنه استبراء الحرة من الوفاة ، فلزمها أربعة أشهر وعشر ، كعدة الزوجة ‏.‏ والصحيح الأول ، لما ذكرناه ‏.‏ وخبر عمرو لا يصح ، قاله أحمد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات عنها ، أو أعتقها وهي مزوجة ، أو معتدة ، لم يلزمها استبراء ، لأنه زال فراشه عنها قبل وجوب الاستبراء ، فلم يجب ، كما لو طلق امرأته قبل الدخول ‏.‏ وإن مات بعد عدتها ، لزمها الاستبراء ، لأنها عادت إلى فراشه ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا يلزمها استبراء إلا أن يعيدها إلى نفسه ، لأن الفراش زال بالتزويج ، فلا يعود إلا بإعادتها إلى نفسه ‏.‏ فإن مات زوجها وسيدها ، ولم يعلق السابق منهما ، فعلى قول أبي بكر ‏:‏ عليها بعد موت الآخر منهما عدة الحرة من الوفاة ، لأنه يحتمل أن سيدها مات أولاً ، ثم مات زوجها وهي حرة ، فلزمها عدة الحرة ، لتبرأ بيقين ‏.‏ وعلى القول الأول ‏:‏ إن كان بينهما دون شهرين وخمسة أيام ، فليس عليهما بعد الآخر منهما ، إلا عدة الحرة من الوفاة ، لأن الاستبراء لا يحتمل الوجوب بحال ، لكون موت سيدها إن كان أولاً ، فقد مات وهي مزوجة ، وإن كان آخراً ، فقد مات وهي معتدة ، ولا استبراء عليها في الحالين ‏.‏ وإن كان بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام ، فعليها بعد موت الآخر منهما أكثر الأمرين ، من عدة حرة من الوفاة ، أو الاستبراء ، لأنه يحتمل أن الزوج مات آخراً ، فعليها عدة الحرة ، ويحتمل أن السيد مات آخراً ، فعليها الاستبراء بحيضة ، فوجب الجمع بينهما ، ليسقط الفرض بيقين ‏.‏ ولا ترث الزوج ، لأن الأصل الرق ، فلا ترث مع الشك ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا كانت الأمة بين نفسين فوطئاها ، لزمها استبراءان ، لأنهما من رجلين ، فلم يتداخلان ، كالعدتين ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا اشترى أمة فظهر بها حمل ، فقال البائع ‏:‏ هو مني ، وصدقه المشتري ، لحقه الولد ، والجارية أم الولد ، والبيع باطل ‏.‏ وإن كذبه المشتري ، نظرنا ، فإن كان البائع أقر بوطئها عند البيع ، وأتت بالولد لدون ستة أشهر ، فهو ولده ، والبيع باطل ‏.‏ وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، وكان البائع استبرأها قبل بيعها ، ولم يطأها المشتري ، أو وطئها ولكن ولدته لدون ستة أشهر منذ وطئها ، لم يلحق بواحد منهما ، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري ، وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً ، من حين وطء المشتري ، فهو ولده والجارية أو ولده ‏.‏ وإن لم يستبرئها واحداً منهما ، فأتت بولد لدون أربع سنين منذ باعها ،ولأكثر من ستة أشهر منذ وطئها المشتري ، عرض على القافة ، وألحق بمن ألحقوه به منهما ‏.‏ وقد روى عبد الله بن عبيد بن عمير قال ‏:‏ باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها ، فظهر بها حمل عند المشتري ، فخاصموه إلى عمر ، فقال له عمر ‏:‏ كنت تقع عليها ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ قال ‏:‏ فبعتها قبل أن تستبرئها ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ قال ‏:‏ ما كنت لذلك بخليق ، فدعا القافة فنظروا إليه ، فألحقوه به ‏.‏ فإن لم يكن البائع أقر بوطئها حين بيعها ، فادعاه بعد ذلك ، وكذبه المشتري ، لم تقبل دعواه في الولد ، لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر ، فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه ، كما لو باع عبداً ، ثم أقر أنه كان أعتقه ،والقول قول المشتري مع يمينه ‏.‏ وهل يلحقه نسب الولد ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلحقه ، لأنه يجوز أن يكون ابناً لواحد ، مملوكاً لآخر ، كولد الأمة المزوجة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يلحق ، لأن فيه ضرراً على المشتري ، فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه ‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏