إذا ثاب للمرأة لبن على ولد ، فأرضعت به طفلاً دون الحولين ، خمس رضعات متفرقات صارت أمه ، وهو ولدها في تحريم النكاح ، وإباحة النظر ، والخلوة ، وثبوت الحرمية ، وصارت أمهاتها جداته ، وآباؤها أجداده ، وأولادها إخوته ، وأخواتها وإخوتها أخواله ، وأخواتها خالاته لقول الله تعالى : {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} . نص على هاتين في المحرمات ، فدل على ما سواهما . وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن حمزة : لا تحل لي ، من يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ، وهي ابنة أخي من الرضاعة متفق عليهما .
فصل :
وإن كان الولد الذي ثاب اللبن بولادته ، ثابت النسب من رجل ، صار الطفل ولداً له ، وأولاده أولاد ولده ، وصار الرجل أباً له ، وآباؤه أجداده ، وأمهاته جداته ، وأولاده إخوته ، وإخوانه وأخواته أعمامه وعماته ، لما روت عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب ، فقلت : والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أخا أبي القعيس ليس هو الذي أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أخيه ، فقال : ائذني له فإنه عمك تربت يمينك متفق عليه . ولأن اللبن حدث للولد ، والولد ولدهما ، فكان المرضع بلبنه ولدهما . فإن لم يكن الولد ثابت النسب من رجل ، كولد الزنا ، والمنفي باللعان ، فمفهومه كلام الخرقي أنه لا ينشر الحرمة بينهما ، لأن النسب لم يثبت ، فالتحريم المتفرع عليه أولى . وهذا قول ابن حامد . ولكن إن كان المرتضع أنثى ، حرمت تحريم المصاهرة ، لأنها ربيبة الملاعن ، وابنة موطوءة الزاني ، وكذلك أولادها ، وأولاد الطفل إن كان ذكراً . وقال أبو بكر : ينشر الحزمة بينه وبين الواطئ ، والزوج الملاعن ، لأن التحريم ثابت بينهما وبين المولود ، فكذلك في المرتضع ، لأنه فرعه ، ولأنه أحد المتواطئين ، فتنتشر الحرمة إليه ، كالمرأة ، ويحتمل أن ينشر الحرمة بين الزاني وبين المرتضع لأن الولد منه حقيقة ، فكان اللبن منه ، لا ينشر من المرتضع والملاعن ، فإن اللبن لم يثبت منه حقيقة ولا حكماً .
فصل :
وتنتشر الحرمة من الولد إلى أولاده ، وإن سفلوا ، لأنهم أولاد أولاد المرضعة . ولا تنتشر إلى من هو في درجته وأعلى منه ، كإخوته وأخواته ، وأمهاته وآبائه ، وأعمامه ، وعماته ، وأخواله ، وخالاته ، فللمرضعة نكاح أب الطفل وأخيه ، ولزوجها نكاح أمه وأخته ، ولإخوته وأخواته من النسب نكاح إخوته وأخواته من الرضاع ، لأن حرمة النسب تختص به وبأولاده ، دون إخوته وأخواته ، ومن أعلى منه ، كذلك الرضاع المتفرع عليه .
فصل :
ولا تثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين ، لقول الله تعالى : {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} . فجعل تمامها في الحولين ، فدل على أنه لا حكم للرضاع بعدهما . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام . قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
فصل :
واختلفت الرواية في قدر المحرم من الرضاع ، فروي : أن قليله و كثيره يحرم ، كالذي يفطر الصائم ، لقول الله تعالى : {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وقول النبي صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب . وروي : أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات ، لما روت عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحرم المصة ولا المصتان وعن أم الفضل بنت الحارث قالت : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتين رواهما مسلم . وروى : لا يتثبت التحريم إلا بخمس رضعات ، وهي ظاهر المذهب ، لما روي عن عائشة قالت : أنزل في القرآن : ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) فنسخ من ذلك خمس ، وصار الأمر إلى خمس رضعات يحرمن . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك . رواه مسلم . وهذا الخبر يفسر الرضاعة المحرمة في الآية ، ويقدم على الخبر الآخر ، لأنه إنما يدل بدليل خطابه ، والمنطوق أقوى منه . فإن شك في عدد الرضاع ، أو في وجوده ، لم يثبت التحريم ، لأن الأصل الإباحة ، فلا تزول بالشك .
فصل :
واختلف أصحابنا في الرضعة . فقال أبو بكر : متى شرع في الرضاع وخرج الثدي من فيه ، فهي رضعة . سواء قطع اختياراً ، أو لعارض في تنفس ، أو أمر يلهيه ، أو انتقال من ثدي إلى آخر ، أو قطعت المرضعة عليه . فإذا عاد ، فهي رضعة ثانية . وقال ابن أبي موسى : حد الرضعة أن يمص ثم يمسك عن الامتصاص ، لنفس ، أو غيره ، سواء خرج الثدي من فيه ، أو لم يخرج ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحرم المصة ولا المصتان ، والإملاجة ولا الإملاجتان يدل على أن لكل مصة أثراً ، ولأنه لو تباعد ما بينهما ، كانا رضعتين ، فكذلك إذا تقاربا، ولأن القليل من الوجور والسعوط رضعة ، فالامتصاص أولى . وقال ابن حامد إن قطع لعارض ، أو قطع عليه ثم عاد في الحال ، فهما رضعة واحدة . وإن تباعدا ،أو انتقل من امرأة إلى أخرى ، فهما رضعتان ، لأن الآكل لو قطع الأكل للشرب ، أو عارض ، وعاد في الحال ، كان أكلة واحدة ، فكذلك الرضاع .
فصل :
ويثبت التحريم بالوجور . وهو أن يصيب اللبن في حلقه ، لأنه ينشز العظم وينبت اللحم ، فأشبه الارتضاع . وبالسعوط ، وهو أن يصب على أنفه ، لأنه سبيل لفطر الصائم ، فكان سبيلاً للتحريم بالرضاع ، كالفم . وعنه : لا يتثبت التحريم بهما ، لأنهما ليسا برضاع . وإن جمد اللبن فجعل جبناً ، وأكله الصبي ، فهو كالوجور . ولا يثبت التحريم بالحقنة في المنصوص عنه ، لأنها تراد للإسهال ، لا للتغذي ، فلا تنبت لحماً ، ولا تنشز عظماً . وقد روى ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم رواه أبو داود . وقال ابن حامد وابن أبي موسى : ينشر الحرمة ، لأنه واصل إلى الجوف ، أشبه الواصل من الأنف . وإن قطر في إحليله ، لم ينشر الحرمة . وجهاً واحداً ، لأنه ليس برضاع ولا في معناه .
فصل :
إذا حلبت في إناء دفعة واحدة ، أو في دفعات ، ثم سقته صبياً في أوقات خمسة ، فهو خمس رضعات . وإن سقته في وقت واحد ، فهو رضعة واحدة ،لأن الاعتبار بشرب الصبي ، فإن التحريم يثبت به ، فاعتبر تفرقه واجتماعه . وإن سقته الجميع في وقت واحد جرعة بعد جرعة ، فعلى قول ابن حامد : هو رضعة واحدة ، لما ذكرنا في الرضاع . وإن حلبت امرأتان في إناء واحد ، وسقتاه صبياً في خمسة أوقات ، صار ابنهما ، لأن ذلك لا يزيد على اللبن المشوب ، وهو ينشر الحرمة .
فصل :
واللبن المشوب كالمحض في نشر الحرمة . ذكره الخرقي . وهذا إن كانت صفات اللبن باقية ، فإن صب في ماء كثير لم يتغير به ، لم يثبت التحريم ، لأن هذا لا يسمى لبناً مشوباً ، ولا ينشز عظماً ، ولا ينبت لحماً . وقال أبو بكر : قياس قول أحمد ، أن المشوب لا ينشر الحرمة ، لأنه وجور . وحكي عن ابن حامد : إن غلب اللبن ، حرم ، وإن غلب خلطه ، لم يحرم ، لأن الحكم للأغلب ، ويزول حكم المغلوب ، والأول أصح ، لأن ما تعلق الحكم به غالباً ، تعلق به مغلوباً ، كالنجاسة ، والخمر . وسواء شيب بمائع ، كالماء والعسل ، أو بجامد ، مثل أن يعجن به أقراص ، ونحوهما ، لأنه مشوب .
فصل :
ويحرم لبن الميتة ، لأنه لبن آدمية ثابت على ولد ، فأشبه لبن الحية . وقال الخلال : لا ينشر الحرمة ، لأنه معنى تتعلق به الحرمة في الحياة ، فلم تتعلق في حال الموت ، كالوطء ، وإن حلبته في إناء ثم سقي منه صبي بعد موتها ، كان حكمه كحكم ما لو سقي في حياتها ، لأنه انفصل عنها في الحياة .
فصل :
ولا تثبت الحرمة بلبن البهيمة ، لأن الأخوة فرع على الأمومة ، ولا تثبت الأمومة بهذا الرضاع ، فالأخوة أولى . ولا تثبت بلبن رجل ، لأنه لا يجعل غذاء للمولود ، فأشبه لبن البهيمة . ولا بلبن خنثى مشكل ، لأنه لا يعلم أنه امرأة ، فلا يثبت التحريم بالشك . وقال ابن حامد : يقف الأمر حتى ينكشف أمر الخنثى ، فإن أيس من انكشافه بموت أو غيره ، ثبت الحل ، لما ذكرنا ، وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل ، فقال أبو الخطاب : نص أحمد على أنه لا ينشر الحرمة ، لأنه نادر ، أشبه لبن الرجل . وذكر ابن أبي موسى فيه روايتين :
إحداهما : ينشر الحرمة ، لأنه لبن آدمية ، أشبه لبن ذات الحمل ، وهذا قول ابن حامد لأنه جعل لبن الخنثى موقوفاً . ولو كان تقدم الحمل شرطاً في التحريم ، لما وقف أمره ، لأننا تيقنا عدمه .
فصل :
إذا ثاب للمرأة لبن من غير حمل ، وقلنا : إنه ينشر الحرمة ، فأرضعت به طفلاً ، صار ابناً لها، ولم يصر ابناً لزوجها ، لأنه لم يثبت بوطئه ، فلم يكن منه ، وإن وطئ رجلان امرأة ، فأتت بولد ، فأرضعت بلبنه طفلاً ، صار ولداً لمن ثبت نسب المولود منه ، وينتفي عمن ينتفي عنه ، سواء ثبت بالقافة أو بغيرها ، لأن اللبن تابع للولد . فإن ألحقته القافة بهما ، فالمرتضع ولدهما . وإن أشكل ، أو لم يوجد قافة ، ثبت الحرمة بينه وبينهما ، لأنه ولد لهما ، أو ولد لأحدهما ، فتحرم عليه بنات من هو ولد له ، وقد اشتبهت الأنساب المحرمة ، بغيرها فيحرمان ، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات . ولا يتثبت المحرمية بينه وبين واحدة منهن كذلك .
فصل :
ولو طلق الرجل زوجة له منها لبن ، فتزوجت صبياً رضيعاً ، فأرضعته صار ابنها وابن طليقها ، فينفسخ نكاحها لأنها صارت أمه ، وتحرم على المطلق ، لأنها صارت من حلائل أبنائه لما أرضعت الصبي الذي تزوجته . ولو زوج رجل أم ولده صغيراً مملوكاً ، فأرضتعه بلبن سيدها ، انفسخ نكاحها ، وحرمت على سيدها كذلك . وإن زوجها صبياً حراً ، لم يصح نكاحه ، لأن من شرط نكاح الإماء خوف العنت ، وهو معدوم في الصبي . فإن أرضعته ، لم تحرم على سيدها ، لأنه ليس بزوج في الحقيقة . وإن تزوجت صغيراً ، ثم فسخت نكاحه لعيب ، ثم تزوجت كبيراً ، فأولدها ، وأرضعت بلبنه الصغير الذي فسخت نكاحه ، حرمت على زوجها على التأبيد ، لأنها صارت من حلائل أبنائه .
فصل :
وإن طلق الرجل زوجته وهي ذات لبن منه ، فتزوجت آخر ، ولم تحمل منه ،فاللبن للأول ، سواء زاد بوطء الثاني ، أو لم يزد ، لأن اللبن للولد . وإن حملت من الثاني ، ولم تلد ، ولم ينقطع لبن الأول ، ولم يزد ، فهو للأول أيضاً كذلك . وإن ولدت من الثاني ، فاللبن له وحده ، انقطع لبن الأول أو اتصل ، زاد أو لم يزد ، لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره . وإن لم تلد من الثاني ، واتصل لبن الأول ، وزاد بالحمل من الثاني ، فاللبن منهما ، لأن اتصال لبن الأول دليل على أنه منه ، وزيادته عند حدوث الحمل ، دليل على أنها منه ، فيضاف إليهما . وإن انقطع لبن الأول ، ثم ثاب بالحمل من الثاني ، فقال أبو بكر : هو منهما ، لأن الظاهر أن لبن الأول عاد ، وسببه وطء الثاني ، فيضاف إليهما ، كالتي قبلها . وقال القاضي : يحتمل أنه من الثاني وحده ، لأن لبن الأول ذهب حكمه بانقطاعه ، وحدث بحمل الثاني فيكون منه . وهذا اختيار أبي الخطاب .
فصل :
إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد ، لهن لبن منه ، فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة ، أو ثلاث زوجات ، فارتضع من كل واحدة رضعتين ، لم يصرن أمهات له ، لأنه لم يكمل رضاعه من واحدة منهن ، وصار السيد والزوج أباً له في أصح الوجهين ، لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات ، فكمل رضاعه من لبنه ، فصار أباً له ، كما لو أرضعته واحدة خمساً .
والثاني : لا يصير أباً له ، لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة ، فلم تثبت به الأبوة ، كلبن البهيمة . ولو أرضعته بغير لبن السيد ، لم يصر السيد أبا له بحال ، ولا يحرم أحدهما على الآخر في أصح الوجهين ، لأن تحريمه عليه فرع كونه ولداً لهن ، ولم يثبت ، وفي الآخر يحرم ، لأنه كمل له الرضاع من موطوءات السيد ، فيحرم عليه ، كما لو كمل له من واحدة . ولو كان للمرأة خمس بنات لهن لبن ، فارتضع طفل من كل واحدة رضعة ، لم يصرن أمهات له . وهل تصير المرأة جدة له ، وزوجها جداً ، وابنها خالاً له ؟ على الوجهين . فإن قلنا بالوجه الأول ، حرمت أمهات الأولاد على الطفل في المسألة الأولى ، لأنهن موطوءات أبيه ، وبنات المرأة في الثانية ، لأنهن بنات جده وجدته ، وإن كن ستاً ، فارتضع من كل واحدة رضعة ، صارت كل واحدة منهن خالته ، لأنه قد ارتضع من أخواتها خمس رضعات . وإن قلنا بالوجه الثاني ، لم يحرمن ، لعدم الأسباب المحرمة . وإن كمل الطفل خمس رضعات من أم رجل وأخته وزوجته وابنته وزوجة ابنه وزوجة أبيه ، خرج على الوجهين . فأما إن أرضعت امرأة طفلاً ثلاث رضعات من لبن زوج ، ثم انقطع لبنها ، وتزوجت آخر ، فصار لها منه لبن ، فأرضعت منه الطفل رضعتين ، صارت له أماً وجهاً واحداً ، لأنه كمل رضاعه من لبنها ، ولم يصر الرجلان أبوين له ، لأنه لم يكمل رضاعه من لبن واحد منهما ، لكنه يحرم عليها ، لأنه ربيبهما .
فصل :
إذا تزوجت رجل صغير ، فأرضعتها زوجة له كبرى بلبنه ، حرمتا عليه على التأبيد ، لأن الصغرى بنته ، والكبرى من أمهات نسائه . وإن أرضعتها بلبن غيره بعد دخوله بها ، حرمتا أيضاً على التأبيد ، لأن الكبرى من أمهات نسائه ، والصغرى ربيبته المدخول بأمها ، وإن كان ذلك بعد طلاقهما أو طلاق إحداهما ، فكذلك ، لما ذكرناه . ولو تزوج رجلان زوجتين كبرى وصغرى ، ثم طلقاهما وتزوج كل واحدة منهما زوجة الآخر ، فأرضعت الكبرى والصغرى ، حرمت الكبرى عليهما ، لأنها من أمهات نسائهما ، وتحرم الصغرى على من دخل بالكبرى ، لأنها ربيبته مدخول بأمها ، ولا تحرم على الآخر ، لعدم دخوله بأمها . وإن أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى بلبن غيره ، ولم يكن دخل بالكبرى ، حرمت الكبرى ، وفي الصغرى وجهان :
أحدهما : ينفسخ نكاحها ، لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح ، فانفسخ نكاحهما ، كما لو صارتا أختين .
والثاني : لا ينفسخ نكاحها ، اختاره الخرقي ، لأن الكبرى أولى بفسخ نكاحها ، لتحريمها على التأبيد ، فتبقى هذه منفردة به ، بخلاف الأختين ، فإنه ليس واحدة منهما أولى من الأخرى .
فصل :
وإن أرضعتها بنت الكبرى ، فهو كرضاع الكبرى سواء ، لأنها صارت بنت بنتها . وإن أرضعتها أمها ، صارت زوجتاه أختين ، فانفسخ نكاحهما كذلك . وإن أرضعتها جدتها ، صارت الصغرى خالة الكبرى ، أو عمتها ، وإن أرضعتها أختها ، صارت الكبرى خالتها ، وإن أرضعتها امرأة أخيها بلبنه ، صارت عمتها ، وينفسخ نكاحها في جميع ذلك ، وله نكاح من شاء منهما .
فصل :
وإن تزوج صغيرتين فأرضعتهما امرأة واحدة معاً ، أو إحداهما بعد الأخرى ، انفسخ نكاحهما معاً ، لأنهما صارتا أختين ، وله أن ينكح من شاء منهما ، وإن أرضعتهما زوجة له كبرى مدخول بها ، حرم الكل عليه على الأبد ، وإن لم يدخل بها فأرضعتهما معاً ، انفسخ نكاحهما ، وإن أرضعت واحدة بعد الأخرى ، ففيه وجهان :
أحدهما : ينفسخ نكاح الأولى ، لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح ، ويثبت نكاح الثانية ، لأنها لم تصر أختاً للأولى إلا بعد فسخ نكاحها .
والثاني : لا ينفسخ نكاح الأولى برضاعها ، فإذا أرضعت الثانية ، صارتا أختين فانفسخ نكاحهما . وإن تزوج ثلاث صغار ، فأرضعتهن امرأة معاً ، أو أرضعت واحدة منفردة واثنتين بعد ذلك معاً ، انفسخ نكاحهن جميعاً ، لأنهن صرن أخوات ، وإن أرضعتهن منفردات، انفسخ نكاح الأوليين ، لأنهما صارتا أختين في نكاحه ، وثبت نكاح الثالثة ، لأنها لم تصر أختاً لهما إلا بعد فسخ نكاحهما . وإن أرضعتهن امرأته الكبرى قبل دخوله بها ، فكذلك في قول الخرقي ، وفي الوجه الآخر ينفسخ نكاح الجميع .
فصل :
وكل من تحرم عليه ابنتها ، كأمه ، وابنته ، وأخته ، وجدته ، وزوجة أخيه بلبن أخيه إذا أرضعت زوجته الصغرى ، حرمتها عليه على التأبيد ، وفسخت نكاحها كذلك ، لأنها تجعلها بنتاً لها . ومن لا تحرم ابنتها ، كعمته وخالته وامرأة عمه وخاله ، لا يضر رضاعها شيئاً لأن ابنتها حلالاً له . ولو تزوج ابنة عمه ، أو بنت عمته ، أو بنت خاله أو خالته ، وهما صغيران ، فارتضع أحدهما من جدتهما ، انفسخ النكاح بينهما ، لأن أحدهما يصير عم صاحبه أو خاله .
فصل :
ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول ، فعليه للزوج ما يلزمه من صداقها وهو النصف، لأنه قرره عليه بعد أن كان يعرض للسقوط ، وفرق بينه وبين زوجته ، فلزمه ذلك ، كشهود الطلاق إذا رجعوا . وإن اشترك في الإفساد جماعة ، فالضمان بينهم مقسوماً على عدد الرضعات ، لاشتراكهم في السبب . وإن كانت المرأة هي المفسدة لنكاحها ، فلا صداق لها . فإن أرضعت زوجته الكبرى الصغرى ، ففسد نكاحهما ، فلا مهر للكبرى ، ويرجع عليها بنصف صداق الصغرى . وإن دبت الصغرى فارتضعت من الكبرى وهي نائمة ، فلا مهر للصغرى ، ويرجع عليها بنصف صداق الكبرى . وإن ارتضعت منها رضعتين وهي نائمة ، ثم انتبهت فأرضعتها ثلاث رضعات ، فعليه للصغرى خمس صداقها ، وعشره يرجع على الكبرى ، وللكبرى خمس صداقها يرجع به على الصغرى . وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول ، فلها المهر ، لأنه استقر بالدخول فلم يسقط ، كما لو ارتدت . وإن أفسد نكاحها غيرها ، فلا شيء عليه كذلك . والمنصوص عن أحمد : أنه يرجع عليه بصداقها ، لأنه نكاح أفسد ، فوجب على المفسد غرامة ما وجب على الزوج ، كقبل الدخول .
فصل :
إذا أقر الزوج أن زوجته أخته من الرضاع ، انفسخ نكاحه ، لأنه مقر على نفسه ، ثم إن صدقته وكان قبل الدخول ، فلا مهر لها ، لأنه نكاح باطل لا دخول فيه ، وإن كذبته ، لم يسقط صداقها ، ولزمه نصفه ، لأن الأصل الحل وصحة النكاح . وإن كان بعد الدخول ، فلها المهر بما استحل من فرجها ، وإن كانت هي التي قالت : هو أخي من الرضاع ، فأكذبها ، فهي زوجته في الحكم ، ولم يقبل قولها في فسخ نكاحه ، لأنه حق له عليها ، لكن إن طلقها قبل الدخول ، فلا مهر لها ، لاعترافها بسقوطه . وإن قال الزوج : هذه ابنتي من الرضاع ، وهي مثله أو أكبر منه ، لم تحرم عليه ، لأننا نتحقق كذبه .
كتاب النفقات
باب نفقة الزوجات :
يجب على الرجل نفقة زوجته ، وكسوتها بالمعروف إذا سلمت نفسها إليه ، ومكنته من الاستمتاع بها ، لما روى جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ،ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف رواه مسلم . فإن امتنعت من تسليم نفسها كما يجب عليها ، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع ، أو في منزل دون منزل ، أو في بلد دون بلد ، ولم تكن شرطت دارها ولا بلدها ، فلا نفقة لها ، لأنه لم يوجد التمكين التام ، فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع ، أو تسليمه في موضع دون موضع . وإن عرضت عليه ، وبذلت له التمكين التام وهو حاضر ، لزمته النفقة ، لأنها بذلت الواجب عليها ، وإن كان غائباً ، لم تجب حتى يقدم هو أو وكيله ، أو يمضي زمن ولو سار ، لقدر على أخذها ، لأنه لا يوجد التمكين إلا بذلك . وإن لم تسلم إليه ، ولم تعرض عليه فلا نفقة عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة ، فلم ينفق عليها حتى أدخلت عليه . ولأنه لم يوجد التمكين ، فلا تجب النفقة ، كما لو منعت نفسها .
فصل :
ولو عرضت عليه وهي صغيرة ، لا يوطأ مثلها ، فلا نفقة لها ، لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع ، لأمر من جهتها . وإن كانت كبيرة والزوج صغير ، وجبت نفقتها ، لأن التمكين وجد من جهتها ، وإنما تعذر من جهته ، فوجبت النفقة ، كما لو سلمت إليه ، وهو كبير فهرب منها . وإن سلمت إليه وهو مجبوب ، أو مريض لا يمكنه الوطء ، وجبت النفقة كذلك . وإن سلمت إليه وهي رقتاء ، أو نحيفة ، أو مريضة ، لا يمكن وطؤها ، وحبت نفقتها ، لأن تعذر الاستمتاع لسبب لا تنسب إلى التفريط فيه .
فصل :
وإن سافرت زوجته بغير إذنه لغير واجب ، أو انتقلت من منزله ، فلا نفقة لها . وإن كان غائباً ، لأنها خرجت عن قبضته وطاعته ، فأشبهت الناشز . وإن سافرت بإذنه ، فعلى ما ذكرناه في القسم . وإن أحرمت بحج ، أو عمرة في الوقت الواجب من الميقات ، لم تسقط نفقتها ، لأنها فعلت الواجب بأصل الشرع ، فأشبه ما لو صامت رمضان . وإن تطوعت بالإحرام بغير إذنه ، أو أحرمت بالواجب قبل الوقت ، أو قبل الميقات بغير إذنه ، فلا نفقة لها ، لأنها منعته الاستمتاع بما لا يجب عليها ، فهو كسفرها بغير إنه وإن فعلته بإذنه ، فهو كسفرها لحاجتها . وإن أحرمت بالحج المنذور ، فقال أصحابنا : لها النفقة ، وينبغي أن يقال : إن كان النذر قبل النكاح ، فلها النفقة ، لأنه وجب قبل النكاح ، فكان مقدماً على حقه فيها . وإن كان بعد النكاح بإذن الزوج ، فلها النفقة ، لأنه إذن في إلزامها إياه ، فكان راضياً بموجبه . وإن كان بغير إذنه ، فلا نفقة لها ، لأنها فوتت التمكين اختياراً منها بغير رضاه ، فأشبه السفر لحاجتها .
فصل :
وصوم رمضان لا يسقط النفقة ، لأنه واجب معين . والحكم في صوم النذر والتطوع والاعتكاف المنذور والتطوع ، كالحكم في الحج الذي كذلك . وأما قضاء رمضان ، فإن ضاق وقته ، لم يمنع النفقة ، لأنه واجب مضيق ، أشبه رمضان ، وإن كان وقتاً متسعاً ، فهو كالإحرام قبل الوقت .
فصل :
وإذا أسلمت زوجة الكافر بعد الدخول ، فلها نفقة العدة ، لأن الإسلام واجب عليها ، مضيق ، أشبه الإحرام بالحج الواجب في وقته . وإن أسلم هو دونها ، وهي غير كتابية ، فلا نفقة لها ، لأنها منعته بمعصيتها ، وإقامتها على كفرها . وإن ارتدت مسلمة ، فلا نفقة لها كذلك ، وإن كان هو المرتد ، فعليه النفقة ، لأنه الممتنع بردته . وإن عادت المرتدة إلى الإسلام ، فلها النفقة من حين عادت ، ولو كان غائباً ، لأن سقوط نفقتها لردتها ، فعادت بزوالها . وإن نشزت الزوجة ، ثم عادت إلى الطاعة والزوج غائب ، فلا نفقة لها حتى يمضي زمن لو سار فيه ، لقدر على استمتاعها ، لأن سقوط نفقتها لعدم التمكين ، ولم يحصل بعودها إلى الطاعة .
فصل :
وللأمة المزوجة النفقة في الزمن الذي تسلم نفسها فيه ، فإن سلمت إليه ليلاً ونهاراً ، فلها النفقة كلها ، كالحرة . وإن سلمت ليلاً دون النهار ، فلها نصف نفقتها ، لأنها سلمت نفسها في الزمن الذي يلزمها تسليم نفسها فيه ، فكان لها نفقتها فيه ، كالحرة في جميع الزمان .
فصل :
ولا تجب النفقة في النكاح الفاسد ، لأنه ليس بنكاح شرعي .
باب نفقة المعتدة
وهي ثمانية أقسام :
أحدها : الرجعية ، فلها النفقة السكنى ، لأنها باقية على الزوجية غير مانعة له من الاستمتاع ، أشبه ما قبل الطلاق .
الثاني : البائن بفسخ الطلاق ، فإن كانت حاملاً فلها النفقة والسكنى ، لقول الله تعالى : {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل ؟ فيه وجهان :
أحدهما : للحمل ، لأنها تجب بوجوده ، وتسقط بعدمه .
والثاني : تجب لها بسببه ، لأنها تجب مع الإعسار ، ونفقة الولد لا تجب على معسر . وإن كانت حائلاً ، فلا نفقة لها ، لدلالة الآية ، بدليل خطابها على عدمها . وفي السكنى روايتان :
إحداهما : تجب ، للآية . والأخرى : لا تجب ، لحديث فاطمة بنت قيس ، وهو مفسر للآية فإن قلنا : تجب النفقة للحمل ، فلا نفقة لزوجة العبد ، ولا للأمة الحامل ، لأنه لا تجب نفقة ولدهما على أبيه . وإن قلنا : تجب للحامل ، وجبت نفقتهما ، كما تجب في صلب النكاح .
فصل :
الثالث : المعتدة في الوفاة ، فإن كانت حائلاً ، فلا نفقة لها ولا سكنى ، لأن ذلك يجب للتمكين من الاستمتاع ، وقد فات بالوفاة ، وإن كانت حاملاً ، ففي وجوبهما روايتان :
إحداهما : لا تجبان كذلك .
والثانية : تجبان ، لأنها معتدة في نكاح صحيح ، أشبهت البائن في الحياة .
فصل :
الرابع : المعتدة في اللعان ، فإن كانت حائلاً ، أو منفياً حملها ، فلا سكنى لها ولا نفقة ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( فرق بين المتلاعنين )) . وقضى : أن لا بيت عليها ولا قوت . رواه أبو داود . ولأنها بائن لا ولد له معها ، فأشبهت المختلعة الحائل . وإن كانت حامل حملاً يلحقه نسبه ، فلها السكنى والنفقة ، لأن ذلك يجب للحمل ، أو لسببه ، وهو موجود ، فإن نفاه فأنفقت وسكنت ، ثم استلحقه ، لحقه ولزمه ما أنفقت ، وأجرة رضاعها ومسكنها ، لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له ، وقد بان خلافه .
فصل :
الخامس : المعتدة من وطء شبهة ، أو نكاح فاسد ، إذا فرق بينهما ، فلا سكنى لها بحال ، لأنه إنما تجب بسبب النكاح ، ولا نكاح هاهنا ، ولا نفقة لها إن كانت حائلاً . وإن كانت حاملاً ، وقلنا بوجوب النفقة للحمل ، وجبت ، لأن الحمل هاهنا لاحق به ، فأشبه الحمل في النكاح الصحيح . وإن قلنا : تجب للحامل ، فلا نفقة لها ، لأن حرمته هاهنا غير كاملة .
فصل :
السادس : الزانية : لا نفقة لها ، ولا سكنى بحال ، لأنه لا نكاح بينهما ، ولا يلحقه نسب حملها .
فصل :
السابع : زوجة المفقود ، لها النفقة لمدة التربص ، لأنها محبوسة عليه في بيته ، فإذا حكم لها بالفرقة ، انقطعت نفقتها ، لزوال نكاحها حكماً ، فإذا قدم فردت عليه ، فلها النفقة لما يستقبل دون ما مضى ،لأنها خرجت بمفارقتها إياه عن قبضته ، فلا تجب إلا بعودها إليه ، وإن لم ترد إليه ، فلا نفقة لها بحال .
فصل :
الثامن : زوجة العبد ، والأمة المزوجة ، وقد تقدم بيان حكمهما .
فصل :
ومن وجبت لها النفقة للحمل ، وجب دفعها إليها يوماً بيوم ، لقول الله تعالى : {فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} .ولأن الحمل يتحقق حكماً في منع النكاح ، والأخذ في الزكاة ، ووجوب الدفع في الدية ،والرد بالعيب ، فكذلك في وجوب النفقة لها . وقال أبو الخطاب : ويحتمل أنه لا يجب دفع النفقة إليها ، حتى تضع الحمل ، لأنه لا يتحقق ، ولذلك لم يصح اللعان عليه قبل وضعه على إحدى الروايتين ، والمذهب :
الأول : فإن أنفق عليها ، ثم تبين أنها غير حامل ، رجع عليها ، لأنه دفعها إليها ، على أنها واجبة ، فجع عليها ، كما لو قضاها ديناً ، ثم تبين براءته منه . وعنه : لا يرجع عليها ، لأنه لو كان النكاح فاسداً ، فأنفق عليها ، ثم فرق بينهما ، لم يرجع ، كذا هاهنا . وإن لم ينفق عليها لظنه أنها حائل ، ثم تبين أنها حامل ، رجعت عليه ، لأننا تبينا استحقاقها له ، فرجعت به عليه ، كالدين . وإن ادعت الحمل ، لتأخذ النفقة ، أنفق عليها ثلاثة أشهر ، ثم ترى القوابل ، فإن بان أنها حامل ، فقد أخذت حقها ، وإن بان خلافه ، رجع عليها .
باب قدر النفقة
يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف . متفق عليه . ولأن الله قال : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} . والمعروف : قدر الكفاية ، ولأنها نفقة واجبة ، لدفع الحاجة ، فتقدرت بالكفاية ، كنفقة المملوك ، فإذا ثبت أنها غير مقدرة ، فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم ، فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز والأدم . وقال القاضي : هي مقدرة برطلي خبز بالعراقي ، وما يكفيها من الأدم ، لأن الواجب للمسكين في الكفارة رطلان . ويجب لها في القوت الخبز، لأنه المقتات في العادة . وقال ابن عباس في قوله تعالى : {من أوسط ما تطعمون أهليكم} . الخبز والزيت ، وعن ابن عمر : الخبز والسمن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر . ومن أفضل ما تطعمهم : الخبز واللحم . ويجب لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من أدم البلد ، من الزيت ، والشيرج والسمن واللبن واللحم ، وسائر ما يؤتدم به ، لأن ذلك من النفقة بالمعروف ، وقد أمر الله تعالى ورسوله به .
فصل :
ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره ، لقول الله تعالى : {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} . وتعتبر حال المرأة أيضاً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ، فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز البلد وأدمه بما جرت به عادة مثلها ومثله ، وللفقير تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدمه ، على قدر عادتهما ، وللمتوسط تحت المتوسط ، أو إذا كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً ، ما بينهما ، على كل حسب عادته ، لأنه إيجاب نفقة الموسرين على المعسر ، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين ، ليس من المعروف ، وفيه إضرار بصاحبه . وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر ، لأنهما ليسا بأحسن حالاً منه ، ومن نصفه حر ، إن كان معسراً ، فهو كالمعسرين ، وإن كان موسراً ، فهو كالمتوسطين .
فصل :
فإن دفع إليها قيمة الخبز والأدم ، أو الحب والدقيق ، لم يلزمها قبوله ، لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع ، فلم يجب أخذ عوضه ، كالكفارة ، وإن اتفقا على ذلك جاز ، لأنه حق آدمي ، فجاز أخذ عوضه باتفاقهما ، كالقرض .
فصل :
ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها ، والماء والسدر لغسله ، وما يعود بنظافتها ، لأنه يراد للتنظيف ، فيجب عليه ، كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها . ولا يلزمه ثمن الخضاب ، لأنه للزينة ، فأشبه الحلي ، ولا ثمن الدواء وأجرة الطبيب ، لأنه ليس من النفقة الراتبة ، وإنما يحتاج إليه لعارض . وأما الطيب ، فما يراد منه لقطع السهك والريح الكريهة والعرق ، لزمه ، لأنه يراد للتنظيف ، وما يراد للتلذذ والاستمتاع ، لم يلزمه ، لأن الاستمتاع حق له ، فلا يجب عليه .
فصل :
وتجب الكسوة ، للآية والخبر ، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام فلزمته ، كالنفقة . ويجب للموسرة تحت الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد ، من الإبريسم . والخز والقطن والكتان . وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن والكتان ، وللمتوسطة تحت المتوسط ، أو إذا كان أحدهما موسراً ، والآخر معسراً ، ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس ، كما قلنا في النفقة . وأقل ما يجب سراويل ومقنعة ، ومداس للرجل ، وجبة للشتاء ، لأن ذلك من الكسوة بالمعروف ، وملحفة ، أو كساء ، أو مضربة محشوة للنوم ، وبساط ، ولبد ، أو حصير للنهار . ويكون ذلك في المرتفع للأولى ، ومن الأدون للثانية ، وفي المتوسط للثالثة ، لأنه من المعروف .
فصل :
ويجب لكل مسكن ، لأنا لا تستغني عنه للإيواء ، والاستتار عن العيون ، للتصرف والاستمتاع ، ويكون ذلك على قدرهن ، كما ذكرنا في النفقة .
فصل :
وإن كانت ممن لا تخدم نفسها ، لكونها من ذوات الأقدار ، أو مريضة ، وجب لها خادم ، لقول الله :
{وعاشروهن بالمعروف} . وإخدامها في العشرة بالمعروف ، ولا يجب لها أكثر من خادم ، لأن المستحق خدمتها في نفسها ، وذلك يحصل بخادم واحد ، ولا يجوز أن يخدمها إلا امرأة ، أو ذا رحم محرم ، أو صغيراً وهل يجوز أن تكون كتابية ؟ فيه وجهان : بناء على إباحة النظر لهن ، فإن قلنا بجوازه : فهل يلزم المرأة قبولها ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمها قبولها ، لأنهم يصلحون للخدمة .
والثاني : لا يلزمها ، لأن النفس تعافهم وإن قالت المرأة : أنا أخدم نفسي ، وآخذ أجرة الخادم ، لم يلزم الزوج لأن القصد بالخدمة ترفيهها ، وتوفيرها على حقه ، وذلك يفوت بخدمتها . وإن قال : أنا أخدمك بنفسي ، ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمها الرضى به ، لأن الكفاية تحصل به .
والثاني : لا يلزمها ، لأنها تحتشمه ، فلا تستوفي حقها من الخدمة ، ولا يلزمه أن يملكها خادماً ، بل إن كان له ، أو استأجره ، جاز . وإن كان مملوكاً لها ، فاتفقا على خدمته ، لزمه نفقته بقدر نفقة الفقيرين ، في القوت والأدم والكسوة ، ولا يجب له مشط ، ولا سدر ، ولا دهن للرأس لأنه يراد للتنظيف والزينة ، ولا يراد ذلك من الخادم . ويجب للخادمة خف إذا كانت تخرج إلى الحاجات ، لحاجتها إليه .
فصل :
وعليه دفع نفقتها إليها كل يوم إذا طلعت الشمس ، لأنه أول وقت الحاجة . فإن اتفقا على تعجيلها ، أو تأخيرها ، أو تسليفها النفقة لشهر ، أو عام ، أو أكثر ، جاز ، لأن الحق لا يخرج عنهما ، ، فجاز فيه ما تراضيا عليه ، كالدين . فإن دفع إليها نفقة يوم ، فبانت فيه ، لم يرجع بما بقي ، لأنها أخذت ما تستحقه . وإن أسلفها نفقة أيام ، ثم بانت ، رجع عليها ، ، لأنه غير مستحق لها . وذكر القاضي : ما يدل على أن حكم ذلك حكم الرجوع في معجل الزكاة ، على ذكر في موضعه . فأما إن غاب عن زوجته زمناً ، لم ينفق عليها ، فإنها ترجع عليه بنفقة ما مضى ، لما روي عن عمر رضي الله عنه : أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم ، إن طلقوا : أن يبعثوا بنفقة ما مضى . ولأنه حق لها عليه بحكم العوض، فرجعت به عليه ، كالدين . وعنه : لا ترجع عليه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها لها ، لأنها نفقة ، فأشبهت نفقة الأقارب .
فصل :
وعليه كسوتها في كل عام مرة في أوله ، لأنه العادة . فإن تلفت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها ، لزمه بدلها ، لأن ذلك من تمام كسوتها ، وإن بليت قبله ، لم يلزمه بدلها ، لأنه لتفريطها ، فأشبه ما لو أتلفتها . وإن مضى زمن يبلى فيه مثلها ولم تبل ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يلزمه بدلها ، لأنها غير محتاجة إلى الكسوة .
والثاني : يجب ، لأن الاعتبار بالمدة ، بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة ، لم يلزمها بدلها ، وإن كساها ثم أبانها ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يرجع ، لأنه دفع ما تستحق دفعه ، فلم يرجع به ،كنفقة اليوم .
والثاني : يرجع ، لأنه دفع لزمن مستقبل ، أشبه ما لو أسلفها النفقة ، ثم أبانها .
فصل :
وإذا دفع إليها النفقة ، فلها أن تتصرف فيها بما شاءت ، من بيع وصدقة وغيرهما . لأنها حق لها ، فملكت التصرف فيها ، كالمهر ، إلا أن يعود ذلك عليها بضرر في بدنها ، ونقص في استمتاعها ، فلا تملكه ، لأنه يفوت حقه ، وكذلك الحكم في الكسوة في أحد الوجهين . وفي الآخر : ليس لها التصرف فيها بحال ، لأنه يملك استرجاعها بطلاقها ، بخلاف النفقة .
فصل :
وإن نشزت المرأة ، سقطت نفقتها ، لأنها تستحقها في مقابلة التمكين من استمتاعها ، وقد فات ذلك بنشوزها . وإن كان لها ولد ، لم تسقط نفقته ، لأن ذلك حق له ، فلا تسقط بنشوزها .
باب قطع النفقة
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر ، فلها فسخ النكاح ، لقول الله تعالى : {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} . وقد تعذر الإمساك بالمعروف ، فيتعين التسريح بإحسان . وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم : يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا . فإن طلقوا ، بعثوا بنفقة ما مضى ، ولأنه إذا ثبت لها الفسخ لعجزه عن الوطء ، فلأن يثبت بالعجز عن النفقة أولى ، لأن الضرر فيه أكثر . وإن أعسر ببعضها ، فلها الفسخ ، لأن البدن لا يقوم بدونها . وإن أعسر بكسوة المعسر ، فلها الفسخ ، لأن البدن لا يقوم بدونها ، فأشبهت القوت . وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر ، فلا خيار لها ، لأنها تسقط بإعساره ، ولأن البدن يقوم بدونها . ومن لم يجد إلا قوت بيوم ، فليس بمعسر بالنفقة ، لأن هذا هو الواجب . وإن كان يجد في أول النهار ما يغديها ، وفي آخره ما يعيشها ، فلا خيار لها ، لأنها الأصل إلى كفايتها . وإن كان يجد قوت يوم دون يوم ، فلها الخيار ، لأنها لا تصل إلى كفايتها ، وإن كان صانعاً يعمل في كل أسبوع ثوباً ، يكفيه ثمنه للأسبوع كله ، فلا خيار لها ، لأنها تصل إلى كفايتها . ومتى عازه أمكنه الاقتراض ، ثم يقضيه ، فلا تنقطع النفقة . فإن كانت نفقته من عمل عجز عنه لمرض مرجو الزوال ، أو غيبة ماله ، وأمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وفعل ، فلا خيار لها . وإن عجز عن الاقتراض ، وكان العارض يزول في ثلاثة أيام فما دون ، فلا خيار لها ، لأن ذلك قريب . وإن كثر ، فلها الفسخ ، لأن الضرر يكثر . وإن أعسر بالمسكن فيه وجهان :
أحدهما : لا خيار لها ، لأن البدن يقوم بدونه .
والثاني : لها الخيار ، لأنه مما لا بد منه ، أشبه النفقة والكسوة .
فصل :
فإن منع النفقة من يساره ، وقدرت له على مال ، أخذت منه قدر كفايتها بالمعروف ، لما روي أن هنداً جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف متفق عليه . وإن منعها بعض الكفاية ، فلها أخذه ، للخبر . ولها أن تأخذ نفقة ولدها الصغير ، للخبر ، فإن وجدت من جنس الواجب لها ، أخذته ، وإن لم تجد ، أخذت بقدره من غيره متحرية للعدل في ذلك . فإن لم تجد ما تأخذه ، رفعته إلى الحاكم ، ليأمره بالإنفاق ، أو الطلاق ، فإن أبى ، حبسه . فإن صبر على الحبس ، وقدر الحاكم على ماله ، أنفق منه . وإن لم يجد إلا عروضاً ، باعها وأنفق منها ، فإن تعذر ذلك ، فلها الفسخ لما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه ، ولأنه إذا ثبت الفسخ مع العذر دفعاً للضرر ، فمع عدمه أولى . وإن كان الزوج غائباً ، كتب الحاكم إليه ، كما كتب عمر إلى الذين غابوا عن نسائهم . فإن لم يعلم خبره ، أو تعذرت النفقة منه ، ولم يوجد له مال ، فلها الفسخ ، ، لما ذكرنا ، وهذا اختيار الخرقي ، و أبي الخطاب .وذكر القاضي : أن الفسخ لا يثبت مع اليسار ، لأن الخيار لعيب الإعسار ، ولم يثبت ذلك . وما ذكرناه أصح ، فإن الإعسار ليس بعيب ، وإنما الفسخ ، لدفع الضرر ، وهما فيه سواء ، ومن كان له دين يتمكن من استيفائه ، فهو كالموسر لأنه قاد عليه . وإن لم يتمكن من استيفائه ، فهو كالمعدوم ، لأنه عاجز عنه .
فصل :
فإن كان له عليها دين من جنس الواجب لها من النفقة ، فأراد أن يحتسب به عليها وهي موسرة ، فله ذلك ، لأن له أن يقضي دينه من أي ماله شاء ، وهذا منه ، وإن كانت معسرة ، لم يملك ذلك ، لأن قضاء الدين في الفاضل عن الكفاية ، ولا فضل لها .
فصل :
ومتى ثبت لها الفسخ ، فرضيت بالمقام معه ، ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر ، من القوت ، والأدم ، والكسوة ، والمسكن ، والخادم ، تطالبه بها إذا أيسر ، لأنها حقوق واجبة عجز عنها ، فثبتت في ذمته كالدين . وقال القاضي : لا يثبت في ذمته شيء ، قياساً على الزائد عن نفقة المعسر ، والفرق ظاهر ، فإن الزائد غير واجب على معسر ، وهذا معسر ، بخلاف هذا ، ولا يلزمها التمكين من الاستمتاع ، ولا الإقامة في منزله ، لأن ذلك في مقابلة النفقة ، فلا يجب مع عدمها ، ومتى عن لها الفسخ ، فلها الفسخ ، لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم ، فيتجدد حق الفسخ ، ولو تزوجت معسراً عالمة بإعساره ، ثم بدا لها الفسخ لعسرته ، فلها الفسخ لما ذكرنا . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد ، أنه ليس لها الفسخ في الموضعين ، لأنها رضيت بعيبه ، فأشبه امرأة العنين إذا رضيت بعنته .
فصل :
وإن اختارت الفسخ ، لم يجز لها ذلك ، إلا بحكم حاكم ، لأنه مختلف فيه ، فلم يجز بغير الحاكم ، كالفسخ بالعنة ، ولها المطالبة بالفسخ بالحال ، لأنه فسخ لتعذر العوض ، فثبت في الحال ، كفسخ البيع لفلس المشتري .
فصل :
وإن أعسر زوج الأمة ، فلم تختر الفسخ ، لم يكن لسيدها الفسخ ، لأن الحق لها ، فلم يكن له الفسخ ، كالفسخ للعنة ، وإن أعسر زوج الصغيرة والمجنونة ، فليس لوليها الفسخ ، لأنه فسخ لنكاحهما ، فلم يملكها وليهما ، كالفسخ للعيب ، وحكي عن القاضي : أن لسيد الأمة الفسخ ، لأن الضرر عليه ، ويحتمل أن يملك ولي الصغيرة والمجنونة الفسخ ، لأنه فسخ لفوات العوض ، فملكه كفسخ البيع ، لتعذر الثمن .
فصل :
وإذا وجد التمكين الموجب للنفقة ، فلم ينف حتى مضت مدة ، صارت النفقة ديناً في ذمته ، سواء تركها لعذر ، أو غيره ، لحديث عمر ، ولأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة ، قلم يسقط بمضي الزمان ، كالصداق ، وإن أعسر بقضائها ، لم تملك الفسخ ، لأنها دين يقوم البدن بدونه ، فأشبهت دين القرض . وعنه : لا يثبت في الذمة ، وتسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها ، لأنها نفقة توجب يوماً بيوم ، فإذا لم يفرضها الحاكم ، سقطت بمضي الزمن ، كنفقة الأقارب ، فعلى هذا لا يصح ضمانها ، لأنه ليس مآلها إلى الوجوب ، وعلى الرواية الأولى ، يصح ضمان ما وجب منها ، وما يجب في المستقبل ، لأن مآله إلى الوجوب .
فصل :
وإذا ادعى الزوج ، أنه دفع إليها نفقتها ، فأنكرته ، فالقول قولها مع يمينا ، لأن الأصل عدم القبض . وإن مضت مدة لم ينفق فيها ، فادعت أنه كان موسراً ، فأنكرها ولم يعرف له مال قبل ذلك ، فالقول قوله مع يمينه ، لأن الأصل عدمه ، وإن عرف له مال ، فالقول قولها ، لأن الأصل بقاؤه ، وإن ادعت التمكين الموجب للنفقة فأنكرها ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدمه . وإن قالت : فرض الحاكم نفقتي منذ سنة ، فقال : بل منذ شهر ، فالقول قوله كذلك ، وإن ادعى نشوزها فأنكرته ، فالقول قولها كذلك ، وإن طلقها طلقة رجعية ، وكانت حاملاً ، فقال الزوج : طلقتك قبل الوضع ، فانقضت عدتك به ، وقالت : بل بعده ، لم يبق له رجعة لإقراره بانقضاء عدتها ، ولزمتها العدة ، لإقرارها بها ، والقول قولها مع يمينها ، في وجوب نفقتها ، لأن الأصل بقاؤها .
باب نفقة الأقارب
وهما صنفان : عمود النسب ،وهم الولدان ، وإن علوا ، والولد وولده وإن سفل ، فتجب نفقتهم لقول الله تعالى : {وبالوالدين إحساناً} ومن الإحسان الإنفاق عليهما ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه . وقال الله تعالى : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فثبتت نفقة الوالدين والولد ،بالكتاب والسنة ، وثبتت نفقة الأجداد ، وأولاد الأولاد ، لدخولهم في اسم الآباء ، والأولاد ، قال الله تعالى : {ملة أبيكم إبراهيم} . وقال تعالى : {يا بني آدم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسين : إن ابني هذا سيد وسواء كان وارثاً ، أو غير وارث ، لأن أحمد قال : لا تدفع الزكاة إلى ولد ابنته ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن ابني هذا سيد وإذا منع دفع الزكاة إليهم لقرابتهم ، يجب أن تلزمه نفقتهم . وذكر القاضي ما يدل على هذا ، وذكر في موضع آخر ، أنه لا تجب النفقة إلى على وارث ، وهو ظاهر قول الخرقي وغيره من أصحابنا .
الصنف الثاني : كل مورث سوى من ذكرنا ، وسوى الزوج ، لقول الله تعالى : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} إلى قوله : {وعلى الوارث مثل ذلك} فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي ، فيجب أن تلزمه نفقته . وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبر ؟ قال : أمك وأبوك وأختك وأخوك ، ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ، ورحم موصول رواه أبو داود وقضى عمر رضي الله عنه على بني عم منفوس بنفقته . ولأنها قرابة تقتضي التوريث ، فتوجب الإنفاق ، كقرابة الولد .
فصل :
فأما ذو الرحم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب ، فلا نفقة عليهم في المنصوص ، لعدم النص فيهم ، وامتناع قياسهم على المنصوص ، لضعف قرابتهم ، ويتخرج وجوبها عليهم ، لأنهم يرثون في حال ، فتجب النفقة عليهم في تلك الحال . وإن كان الوارث غير موروث ، كالمعتقة ، وعم المرأة ، وابن عمها ، وابن أخيها ، والمعتق ، وجب عليهم الإنفاق في المنصوص ، لأنهم وارثون ، فيدخلون في العموم . وعنه : لا نفقة عليهم ، لأنهم غير مورثون ، أشبهوا ذوي الأرحام .
فصل :
ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط :
أحدها : فقر من تجب نفقته . فإن استغنى بمال ، أو كسب ، لم تجب نفقته ، لأنها تجب على سبيل المواساة ، فلا تستحق مع الغنى عنها ، كالزكاة ،وإن قدر على الكسب من غير حرفة ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا نفقة له ، لأنه يستغني بكسبه ، أشبه المحترف .
والثانية : له النفقة ، لأنه لا مال له ، ولا حرفة ، أشبه الزمن .
الثاني : أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه وزوجته ، لما روى جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابدأ بنفسك ، ثم بمن تعول قال الترمذي : هذا حديث صحيح . ولأن نفقة القريب مواساة ، فيجب أن تكون الفاضل عن الحاجة الأصلية ، ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية ، وكذلك نفقة زوجته ، لأنها تجب لحاجته ، فأشبهت نفقة نفسه ، وكذلك نفقة خادمه الذي لا يستغني عن خدمته ، تقدم كذلك .
الثالث : اتفاقهما في الدين والحرية ، فلا يجب على الإنسان الإنفاق على من ليس على دينه ، لأنه لا ولاية بينهما ، ولا يرث أحدهما صاحبه ، لأنها تجب على سبيل المواساة ، والصلة ، فلمن تجب له مع اختلاف الدين ، كالزكاة . وعنه في عمودي النسب : أنها تجب مع اختلاف الدين ، لأنهم يعتقون عليه . فينفق عليهم ، كما لو اتفق دينهما . وأما العبد ، فلا نفقة عليه ، لأنه لا شيء له يواسي به ، فلا تجب نفقته على قريبه ، لأن نفقته على سيده ، ولأنه لا توارث بينهما ، ولا ولاية ، فلم ينفق أحدهما على صاحبه ، كالأجانب .
فصل :
ولا يشترط في وجوب النفقة نقصان الخلقة ، بزمانة ، أو صغر ، أو جنون ، لعموم الخبر ، وعن أحمد أنه يشترط ذلك في غير الوالدين ، لأن من علم ذلك فيه في مظنة التكسب ، فكان في مظنة الغنى . ولا يشترط البلوغ ولا العقل فيمن تجب النفقة عليه ، بل يجب على الصبي والمجنون ، نفقة قريبهما إن كانا موسرين ، لأنها من الحقوق المالية فتجب عليهما ، كأرش جنايتهما .
فصل :
ومن كان له أب ، لم تجب نفقته على غيره ، لأن الله تعالى أمر الآباء أن يعطوا الوالدات أجر الرضاع بقوله تعالى : {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} . وقوله سبحانه : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هنداً : أن تأخذ ما يكفي ولدها من مال أبيهم . فإن لم يكن لهم أب ، لم يكن له إلا وارث واحد ، فالنفقة عليه . وإن كان له وارثان ، فالنفقة عليهما على قدر إرثهما . فإذا كان لهم أم وجد ، فعلى الأم ثلث النفقة ، وعلى الجد الثلثان . وإن كان له جدة وأخ ، فعلى الجدة سدس النفقة ، والباقي على الأخ . وإن كان له أخوان ، أو أختان ، فالنفقة عليهما نصفين . وإن كان له أخ وأخت ، فالنفقة عليهما أثلاثاً . وإن كان له أخت وأم ، فعلى الأخت ثلاثة أخماس النفقة ، وعلى الأم الخمسان ، لأنه مال يستحق بالقرابة ، فكان على ما ذكرناه كالميراث ، وإن كان له من الورثة ثلاثة ، أو أكثر ، فنفقته عليهم على قدر إرثهم ، لما ذكرنا ، وإن اجتمع أم أم ، وأبو أم ، فالنفقة على أم الأم ، لأنها الوارثة ،
فصل :
ومن كان وارثه فقيراً ، وله قريب موسر محجوب به ، كعم معسر ، وابن عم موسر ، وأخ فقير ، وابن أخ موسر ، فلا نفقة عليهما ، ذكره القاضي ، و أبو الخطاب ، لأنه علة الوجوب الإرث ، فيسقط بحجبه ، كما يسقط ميراثه . وإن كانا من عمودي النسب ، كأب معسر ، وجد موسر ، فالنفقة على الجد ، لأن وجوب النفقة عليه ، لقرابته ، وهي باقية مع الحجب . ويحتمل أن يجب الإنفاق على الموسرة في التي قبلها ، لأن الموجب للنفقة القرابة الموجبة للميراث ، لا نفس الميراث ، وهي موجودة مع الحجب ، ووجود المعسر كعدمه .
فصل :
ومن لم يفضل عنده إلا نفقة واحدة ، بدأ بالأقرب فالأقرب ، لأنه أولى ، فإذا كان له أب وجد، فالنفقة للأب ، وإن كان له ابن ، وابن ابن ، فهي للابن . وإن اجتمع أب وابن صغير ، أو زمن ، فالنفقة للابن ، لأن نفقته وجبت بالنص ، وإن كان كبيراً ، ففيه ثلاث أوجه :
أحدها : يقدم الابن كذلك .
والثاني : يقدم الأب ، لأن حرمته آكد .
والثالث : هما سواء ، لتساويهما في القرب ، لأن كل واحد يدلي بنفسه . وإن اجتمع أبوان ، ففيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : هما سواء لتساويهما في القرابة .
والثاني : الأم الأحق ، لما روي أن رجلاً قال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال: أمك ، قال : ثم من ؟ قال: أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أباك .
والثالث : الأب ، لأنه ساواه في القرابة وهي الولادة ، وانفرد بالتعصيب . وإن اجتمع أخ وجد ، احتمل أن يقدم الجد ، لأنه آكد حرمة ، وقرابته قرابة ولادة ، ولهذا لا يقاد به ، ويحتمل تساويهما ، لتساويهما في التعصيب والإرث ، وإن كان مع الجد عم ، أو ابن عم ، قدم الجد ، لتقديمه في الحرمة والإرث ، ولأنهما يدليان به ، فقدم عليهما ، كالأب مع الأخ .
فصل :
وعلى المعتق نفقة عتيقه ، إذا وجدت الشروط ، لأنه وارثه ، ولا نفقة للمعتق على عتيقه ، لأنه لا يرثه .
فصل :
وتجب نفقة القريب مقدرة بالكفاية ، لأنها لا تجب للحاجة ، فيجب ما تندفع به . وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه . وإن كانت له زوجة ، وجبت نفقة زوجته ، لأنه من تمام الكفاية ، وعنه : لا يلزم الرجل نفقة زوجة ابنه . فعلى هذه الرواية لا يلزمه نفقة غير القريب ، لأن الواجب نفقته ، لا نفقة غيره .
فصل :
ويلزمه إعفاف أبيه ، وجده ، وابنه الذين تلزمه نفقتهم إذا طلبوا ذلك ، لأنه يحتاج إليه ويضره فقده ، فأشبه النفقة ، وهو مخير بين أن يزوجه حرة ،أو يسريه بأمة ، ولا يجوز أن يزوجه أمة ، لأنه بوجوب إعفافه ، يستغني عن الأمة ونكاحها . ولا يعفه بعجوز ولا قبيحة ، لأن القصد الاستمتاع ، ولا يحصل ذلك بهما . وإن أعفه بزوجة فطلقها ، أو بأمة فأعتقها ، لم يلزمه إعفافه ثانياً ، لأنه ضيع على نفسه ، وإن أعفه بأمة فاستغنى عنها ، لم يملك استرجاعها ، لأنه دفعها إليه في حال وجوبها عليه ، فم يملك استرجاعها كالزكاة . ويجيء على قول أصحابنا : أن يلزمه إعفاف كل من لزمه نفقته ، لأنه من تمام كفايته ، فأشبه النفقة .
فصل :
وإن احتاج الطفل إلى الرضاع ، لزمه إرضاعه ، لأن الرضاع من حق الصغير كنفقة الكبير. ولا يجب إلا في حولين ، لقول الله تعالى : {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} فإن امتنعت الأم من رضاعه ، لم تجبر . سواء كانت في حبال الأب ، أو مطلقة ، لقول الله تعالى : {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} ولأنها لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب ، فلا تجبر على الرضاع ، إلا أن يضطر إليها ، ويخشى عليه ، فيلزمها إرضاعه كما لو لم يكن له أحد غيرها . ومتى بذلت الأم إرضاعه متبرعة ، أو بأجرة مثلها ، فهي أحق به ، سواء وجد الأب متبرعة برضاعه ، أو لم يجد ، لقول الله تعالى : {والوالدات يرضعن أولادهن} إلى قوله : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ، وقوله سبحانه : {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} ولأنها أحق بحضانته ، فوجب تقديمها . وإن أبت أن ترضعه إلا بأكثر من أجر مثلها ، ، لم يلزمه ذلك ، ويسقط حقها ، لأنها أسقطته باشتطاطها ، ولأن ما لا يوجد بثمن المثل ، كالمعدوم ، مثل الرقبة في الكفارة . وإن كانت ذات زوج أجنبي من الطفل ، فمنعها زوجها من الرضاع ، سقط حقها . وإن أذن لها ، فهي على حقها من ذلك .
فصل :
وتفارق نفقة القريب ، نفقة الزوجة ، في أربعة أشياء :
أحدها : أن نفقة الزوجة تجب مع الإعسار ، لأنها بدل ، فأشبهت الثمن في المبيع ، ونفقة القريب مواساة، فلا تجب إلا من الفاضل لقول الله تعالى : {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
الثاني : أن نفقة الزوجة تجب للزمن الماضي ، لما ذكرنا ، ونفقه القريب لا تجب لما مضى ، لأنها وجبت لإحياء النفس ، وتزجية الحال وقد حصل ذلك في الماضي بدونها .
الثالث : إذا دفع إلى الزوجة نفقة يومها ، أو كسوة عامها ، فمضت المدة ولم تتصرف فيها ، فعليه ما يجب للمدة الثانية ، والقريب بخلاف ذلك .
والرابع : أنه إذا دفع إلى الزوجة ما يجب ليومها ، أو لعامها ، فسرق ، أو تلف ، لم يلزمه عوضه ، والقريب بخلافه ، لما ذكرنا .
باب الحضانة
إذا افترق الزوجان وبينهما طفل ، أو مجنون ، وجبت حضانته ، لأنه إن ترك ، ضاع وهلك ، فيجب إحياؤه . وأحق الناس بالحضانة ، الأم ، لأن أبا بكر الصديق قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لأمه أم عاصم ، وقال لعمر : ريحها وشمها ولطفها خير له منك . رواه سعيد . واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم ، فلم ينكر ، فكان إجماعاً . ولأن الأم أقرب وأشفق ، ولا يشاركها في قربها إلا الأب ، وليس له شفقتها ، ولا يلي الحضانة بنفسه . فإن عدمت الأم ، أو لم تكن من أهل الحضانة ، فأحقهم بها أمهاتها الأقرب فالأقرب ، لأنهن أمهات . ولا يشاركهن إلا أمهات الأب ، وهن أضعف منهن ميراثاً ، ثم الأب ، لأنه أحد الأبوين ، ثم أمهاته وإن علون ، ثم الجد ، ثم أمهاته . وعنه : أن أمهات الأب ، أولى من أمهات الأم ، لأنهن يدلين بعصبة ، فعلى هذا يكون الأب بعد الأم ، ثم أمهاته ، ثم أمهات الأم . وعنه : أن الخالة ، والأخت من الأم ، أحق من الأب ، لقوله عليه السلام : الخالة أم . فعلى هذا ، الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما ، لأنها أدلت بالأم وزادت بقرابة الأب . والأول المشهور في المذهب . فإذا انقرض الآباء والأمهات ، انتقلت إلى الأخت من الأبوين . ويحتمل أن ينتقل إلى الأخ ، لأنه عصبة ، والأول أولى ، لأنها امرأة ، فتقدم على من في درجتها من الذكور ، كالأم والجدة ، ولأنها تلي الحضانة بنفسها . ثم الأخت من الأب ، لأنها تقوم مقام الأخت من الأبوين ، وترث ميراثها . ثم الأخت من الأم ، لأنها ركضت معها في الرحم . ثم الأخ للأبوين ، ثم الأخ للأب ، ثم بنوهم كذلك . فإذا انقرض الأخوة والأخوات ، فالحضانة للخالات . ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات ، لأنهن يدلين بعصبة فقدمن ، كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم ، والأولى أولى ، لأنهن استوين في عدم الميراث ، فكان من يدلي بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات ، ولأن الخالة أم . ثم العمات ، وتقدم التي من الأبوين ، ثم التي من الأب ، ثم التي من الأم ، ثم الأعمام ، ثم بنوهم .
فصل :
وللرجال من العصبات حق في الحضانة ، بدليل ما روي أن علياً وجعفراً وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة بنت حمزة ، فقال علي : بنت عمي وعندي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال زيد بن حارثة : بنت أخي ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد وحمزة . وقال جعفر : بنت عمي وعندي خالتها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخالة أم . وسلمها إلى جعفر . رواه أبو داود . إلا أن العم لا حضانة له في جارية ، لأنه ليس بمحرم لها ، فلا تسلم إليه ، وأولادهم بالحضانة أولادهم بالميراث . فأما الرجال من ذوي الأرحام ، كالأخ من الأم ، والخال ، وأبي الأم ، والعم من الأم ، فلا حضانة لهم مع أحد من أهل الحضانة ، لأنهم لا يحضنون بأنفسهم ، وليس لهم قرابة قوية يستحقون بها ، ولا حضانة لمن يدلي بهم من النساء لأنه إذا لم يثبت لهم حضانة ، فمن أدلى بهم أولى . فإن عدم أهل الحضانة ،احتمل أن تنتقل إليهم ، لأنهم يرثون عند عدم الوارث ، فكذلك يحضنون عند عدم من يحضن ، واحتمل أن لا يثبت لهم حضانة ، وتنتقل إلى الحاكم ، لما ذكرناه أولاً .
فصل :
ولا حضانة لرقيق ، لعجزه عنها بخدمة المولى ، ولا لمعتوه ، لعجزه عنها ، ولا لفاسق ، لأنه لا يوفي الحضانة حقها ، ولا حظ للولد في حضانته ، لأنه ينشأ على طريقته ، ولا لكافر على مسلم كذلك ، ولا للمرأة إذا تزوجت أجنبياً من الطفل ، لما روى عبد الله بن عمر بن العاص :أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت أحق به ما لم تنكحي . رواه أبو داود . ولأنها تشتغل عن الحضانة بالاستمتاع .و قد روي ههنا عن أحمد : إذا تزوجت الأم وابنها صغير ، أخذ منها . قيل له : فالجارية مثل الصبي؟ قال : لا ، الجارية تكون معها إلى سبع سنين ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل بنت حمزة عند خالتها .إلى سبع وهي مزوجة . والأول : المذهب . وإنما تركت بنت حمزة عند خالتها ، لأن زوجها من أهل الحضانة .
وإن تزوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة ، كالجدة المزوجة بالجد ، لم تسقط حضانتها ، لأن كل واحد منهما له الحضانة منفرداً ، فمع اجتماعهما أولى . ومتى زالت الموانع منهم ، مثل ، أن طلقت المرأة المزوجة ، أو عتق الرقيق ، أو عقل المعتوه ، أو أسلم الكافر ، أو عدل الفاسق ، عاد حقهم من الحضانة ، لأنه زال المانع ، فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع .
فصل :
ومن ثبتت له الحضانة فتركها ، سقط حقه منها . وهل يسقط حق من يدلي به ؟ على وجهين:
أحدهما : يسقط ، لأنه فرع عليه . فإذا سقط الأصل ، سقط التبع .
والثاني : لا يسقط ، لأن حق القريب سقط لمعنى اختص به ، فاختص السقوط به ،كما لو سقط لمانع . فعلى هذا إذا تركت الأم الحضانة ، فهي لأمها . وعلى الأول : تنتقل إلى الأب . وإذا استوى اثنان من أهل الحضانة ، كالأختين ، والعمتين ، أقرع بينهما ، فمن خرجت له القرعة ، قدم ، لأنهما استويا من غير ترجيح ، فقدم أحدهما بالقرعة ، كالعبدين في العتق ، والزوجتين في السفر بإحداهما .
فصل :
وإذا بلغ الغلام سبعاً وهو غير معتوه ، خير بين أبويه ، فكان مع من اختار منهما ، لما روى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه . رواه سعيد . وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله يريد زوجي أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هذا أبوك ، وهذه أمك ، فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به ، فإن لم يختر واحداً منهما . أو اختارهما معاً ، قدم أحدهما بالقرعة ، لأنهما تساويا وتعذر الجمع ، فصرنا إلى القرعة . وإن اختار الأم ، أو صار لها بالقرعة ، كان عندها ليلاً ، ويأخذه الأب نهاراً ، ليسلمه في مكتب أو صناعة ، لأن القصد حظ الولد ، وحظه فيما ذكرنا . وإن اختار أباه ، كان عنده ليلاً ونهاراً ، ولا يمنع من زيارة أمه ، لما فيه من الإغراء بالعقوق وقطيعة الرحم . وإن مرض صارت الأم أحق بتمريضه ، لأنه صار كالصغير في حاجته إلى من يقوم بأمره . وإن مرض أحد الأبوين وهو عند الآخر ، لم يمنع من عيادته وحضروه عنده ، لما ذكرنا . وإن اختار أحدهما ، ثم عاد فاختار الآخر ، سلم إليه ، ثم إن اختار الأول ، رد إليه ، لأن هذا اختيار تشه ، وقد يشتهي أحدهما في وقت دون وقت ، فأتبع ما يشتهيه ، كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب . وإن لم يكن له أب ، خير بين أمه وعصبته ، لما روى عامر بن عبد الله قال : خاصم عمي أمي ، وأراد أن يأخذني ، فاختصما إلى علي رضي الله عنه ، فخيرني علي ثلاث مرات ، فاخترت أمي ، فدفعني إليها .
فصل :
وإذا بلغت الجارية سبعاً ، تركت عند الأب بلا تخيير ، لأن حظها في الكون عند أبيها ، لأنها تحتاج إلى الحفظ ، والأب أولى به ، ولأنها تقارب الصلاحية للتزويج . وإنما تخطب من أبيها ، لأنه وليها ، والمالك لتزويجها ، وتكون عنده ليلاً ونهاراً ، لأن تأديبها وتخريجها في البيت . ولا تمنع الأم من زيارتها ، من غير أن يخلو بها الزوج . ولا تطيل ولا تتبسط ، لأن الفرقة بين الزوجين تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر . وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها لما ذكرناه في الغلام . وإن مرضت الأم ، لم تمنع الجارية من عيادتها لما ذكرنا.
فصل :
وإن كان الولد بالغاً رشيداً ، فلا حضانة عليه . والخيرة إليه في الإقامة عند من شاء منهما . وإن أراد الانفراد وهو رجل ، فله ذلك ، لأنه مستغن عن الحضانة . ويستحب ألا ينفرد عنهما ، ولا يقطع بره لهما ، لقول اله تعالى : {وبالوالدين إحساناً} . وإن كانت جارية ، فلأبيها منعها من الانفراد ، لأنه لا يؤمن عليها دخول المفسدين .
فصل :
وإن أراد أحد أبوي الطفل السفر ، والآخر الإقامة ، والطريق أو البلد الذي يسافر إليه مخوف، أو كان السفر لحاجة ثم يعود ، فالمقيم أحق بالولد ، لأن في السفر ضرراً ، وفي تكليفه السفر مع العود إتعاب له ، ومشقة عليه . وإن كان السفر لنقلة إلى بلد آمن بعيد في طريق آمن ، فالأب أحق بالولد ، لأنه كونه مع أبيه أحفظ لنسبه ، وأحوط عليه ، وأبلغ في تأديبه وتخريجه. وإن انتقلا جميعاً ، فالأم على حقها من الحضانة . وإن كانت النقلة إلى مكان قريب ، بحيث يمكن الأب رؤيتهم كل يوم ، فالأم على حضانتها ، لأن مراعاة الأب له ممكنة . وإن كان أبعد من ذلك ، فظاهر كلام أحمد : انقطاع حق أمه من الحضانة ، لعجز الأب عن مراعاة ولده ، فهو كالسفر البعيد . وقال القاضي : إن كان دون مسافة القصر ، فالأم على حضانتها ، لأنه في حكم القريب .
باب نفقة المماليك
ويجب على الرجل نفقة مملوكه ، مما لا غنى عنه ، وكسوته ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ، ولا يكلف في العمل ما لا يطيق متفق عليه . ويجب نفقته من قوت بلده ، لأن المتعارف . والمستحب أن يطعمه مما يأكل ، ويكسوه مما يلبس ، لما روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده ، فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم ، فأعينوهم عليه متفق عليه . وإن ولي طعامه ، استحب له أن يطعمه منه ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين ، أو أكلة أو أكلتين ، فإنه ولي دخانه وحره رواه البخاري . وهو مخير بين أن يجعل نفقته في كسبه ، وبين أن ينفق عليه من ماله ، ويأخذ كسبه ، أو يجعله برسم خدمته ، لأن الكل خدمته . فإن جعل نفقته في كسبه وكان وفق الكسب ، فحسن . وإن كان في الكسب فضل ، فهو لسيده . وإن كان فيه عوز ، فعلى سيده تمامه ، ويستحب التسوية بين عبيده ، وإمائه في النفقة والكسوة ، ويجوز له التفضيل . وإن كان في بعض إمائه من يعدها للتسري ، فلا بأس بزيادتها في الكسوة ، لأن ذلك هو العادة .
فصل :
وعلى السيد إعفافه إذا طلب ذلك ، فإن امتنع ، أجبر على بيعه إذا طلب ذلك . وإن طلبت الأمة التزويج وكان يستمتع بها ، لم يجبر على تزويجها ، لأنه يكفيها ، وعليه في تزويجها ضرر . وإن لم يستمتع بها ، لزمه إجابتها ، أو بيعها . وإن كان لعبده زوجة ، مكنه من الاستمتاع بها ليلاً ، لأنه إذنه في النكاح تضمن إذنه في الاستمتاع .
فصل :
ولا يجوز أن يكلفه في العمل ما يغلبه ، أو يشق عليه ، للخبر . وإن سافر به، أركبه عقبة ، ولا يجبر العبد على المخارجة ، لأنه معاوضة ، فلم يجبر عليها ، كالكتابة . وإن طلب العبد ذلك، لم يجبر عليه المولى كذلك . وإن اتفقا عليها وله الكسب ، جاز ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة ، فأعطاه أجره ، وسأل مواليه أن يخففوا عنه من خراجه . وإن لم يكن له كسب ، لم يجز ، لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة حل ، فلم يجز . وإن مرض العبد ، أو الأمة ، أو زمنا ، أو عميا ، لزمه نفقتهما ، لأن نفقتهما بالملك وهو موجود .
فصل :
وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها ، إلا أن يكون فيها فضل عن ريه ، لأن فيه إضراراً بولدها ، واللبن مخلوق له ، فوجب أن يقدم فيه على غيره .
فصل :
ومن ملك بهيمة ، لزمه القيام بعلفها ، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً فدخلت النار ، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض متفق عليه . ولا يجوز أن يحمل عليها ما لا تطيق ، لأنه إضرار بها ، فمنع منه ، كترك الإنفاق . ولا يحلب منها ، إلا ما فضل عن ولدها ، لأنها غذاء للولد ، فلم يملك منعه منه . فإن امتنع من الإنفاق عليها ، أجبر على بيعها . فإن أبى اكتريت ، وأنفق عليها . فإن أمكن وإلا بيعت . كما يزال ملكه عن زوجته إذا أعسر بنفقتها ، بلغت القراءة والحمد لله رب العالمين .