المجلد الرابع - كتاب الجنايات

قتل الآدمي بغير حق محرم ، وهو من الكبائر إذا كان عمداً ، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها‏}‏ الآية ‏.‏ ويوجب القصاص ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى‏}‏ الآية ‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من قتل له قتيل ، فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدى متفق عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

والقتل على ثلاثة أضرب ‏.‏ عمد ، وهو ‏:‏أن يقصده بمحدد ، أو ما يقتل غالباً ، فيقتله ‏.‏

والثاني ‏:‏ الخطأ وهو ‏:‏ أن لا يقصد إصابته فيصيبه فيقتله ، فلا قصاص فيه ، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ولأن القصاص عقوبة ،فلا تجب بالخطأ ، كالحد ‏.‏

والثالث ‏:‏ خطأ العمد ، وهو أن يقصد إصابته بما لا يقتل غالباً فيقتله ، فلا قصاص فيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إلا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ‏.‏ رواه أبو داود ولأنه لم يقصد القتل ، فلا تجب عقوبته ،كما لا يجب حد الزنا بوطء الشبهة ‏.‏

فصل ‏:‏

يشترط لوجوب القصاص أربعة شروط ‏:‏

أحدها ‏:‏ العمد ، لما ذكرنا ‏.‏

والثاني ‏:‏ كون القاتل مكلفاً ، فلا يجب على صبي ، لا مجنون ، ولا نائم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة ‏:‏ عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ‏.‏ ولأنه عقوبة مغلظة ، فلم تجب عليهم ، كالحد ‏.‏ فإن وجب عليه القصاص ، ثم جن ، لم يسقط ، لأنه حق لآدمي ، فلم يسقط بجنونه ، كسائر الحقوق ‏.‏

فصل ‏:‏

الثالث ‏:‏ أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل ، وهو أن يساويه في الدين والحرية ‏.‏ أو الرق ، فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ، ذكراً كان أو أنثى ، ويقتل العبد المسلم ، بالعبد المسلم ، ذكراً كان أو أنثى ، تساوت قيمتاهما ، أو اختلفتا ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يجري القصاص بين العبيد ، إلا أن تتساوى قيمتهم ، لأنه بدل مال ، فيعتبر فيه التساوي ، كالقيمة ، والأول ‏:‏ الصحيح ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ ولأنه قصاص ، فلا يعتبر فيه التساوي في القيمة ، كالأحرار‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أن الرجل إذا قتل المرأة ، يدفع إليه نصف ديته ، لأن ديتها نصف ديته ، والمذهب خلاف هذا ، لما روى عمر بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن ‏:‏ أن الرجل يقتل بالمرأة ‏.‏ رواه النسائي ‏.‏ ولأنه قصاص واجب ، فلم يوجب رد شي ، كقتل الجماعة بالواحد ‏.‏

ويقتل الحر الذمي بالحر الذمي ‏.‏ والعبد الذمي بمثله ، لأنهم تساووا ، فأشبهوا المسلمين ، ويقتل الذمي بالمسلم ، والعبد بالحر ، والأنثى بالذكر ، والمرتد بالذمي ، لأنه إذا قتل بمثله ، فبمن هو أعلى منه أولى ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يقتل مسلم بكافر ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ولا يقتل مسلم بكافر رواه النسائي ‏.‏ ووافقه على آخره البخاري ‏.‏

ولا يقتل حر بعبد ، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد‏}‏ فيدل على أنه لا يقتل به الحر ‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ من السنة ألا يقتل حر بعبد ، وإن قتل ذمي حر عبداً مسلماً ، فعليه قيمته ، ويقتل لنقضه العهد ‏.‏

فصل ‏:‏

والاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب ، لأنه عقوبة على جناية ، فاعتبر بحالة الوجوب ،كالحد ‏.‏ فلو قتل ذمي ذمياً ، ثم أسلم القاتل ، أو جرح ذمي ذمياً ، ثم اسلم الجارح ، ومات المجروح ، أو قتل عبد عبداً ، أو جرحه ، ثم عتق الجارح ، ومات المجروح ، وجب القصاص ، لأنهما متكافئان في حال الجناية ، ولأن القصاص قد وجب ، فلا يسقط بما طرأ ، كما لو جن ‏.‏

وإن جرح مسلم ذمياً ، أو جرح عبداً ، ثم أسلم المجروح ، وعتق ومات ، لم يجب القصاص ، لعدم التكافؤ في حال الوجوب ‏.‏ وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد ، أو حربي ، ثم أسلم ، ومات فلا قود ولا دية ، لأنه لم يجن على معصوم ‏.‏ وإن قطع مسلم يد مسلم ، فارتد المجروح ومات ، فلا قصاص في النفس ، لأنه حال الموت مباح الدم ، وفي اليد وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجب القصاص فيها ، لأن التكافؤ بينهما موجود في حال قطعها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا قصاص فيها ، لأننا تبينا أن قطعها ، قبل ، ولم يوجب القتل ، فلا يوجب غيره ، ولأن الطرف تابع للنفس ، فسقط تبعاً لسقوط القصاص فيها ‏.‏ وإن جرح مسلم مسلماً ، فارتد المجروح ، ثم أسلم ومات ، وجب القصاص ، نص عليه ، لأنهما متكافئان حال الجناية والموت ، أشبه ما لو لم يرتد ‏.‏ وذكر القاضي وجهاً آخر أنه إن كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية ، فلا قصاص ، لأن السراية في حالة الردة لا توجب ، فقد مات من جرح موجب، وسراية غير موجبة ، فلا توجب ، كما لو قتله بجرحين خطأ وعمد ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا قصاص على قاتل حربي ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ولا على قاتل مرتد كذلك ، ولأنه مباح الدم ، أشبه الحربي ‏.‏ ولا على قاتل زان محصن كذلك ‏.‏ وسواء كان القاتل مسلماً ، أو ذمياً ، فإن قتل من عرفه مرتداً ، وكان قد أسلم ولا يعلم إسلامه ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا قصاص عليه ، لأنه لم يقصد قتل معصوم ، فلم يلزمه قصاص ، كما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربياً بعد أن أسلم ‏.‏

والثاني ‏:‏ عليه القصاص ، لأنه قتل مكافئاً عدواناً عمداً ، والظاهر أنه لا يخلى في دار الإسلام إلا بعد إسلامه ، بخلاف من في دار الحرب ‏.‏ وإن قتل من يعرفه ذمياً ، أو عبداً ، وكان قد أسلم ، وعتق ، فعليه القصاص ، لأنه قصد قتل معصوم وهو مكافئ له ، فأشبه من علم حاله ‏.‏

فصل ‏:‏

الشرط الرابع ‏:‏ انتفاء الأبوة ، فلا يقتل والد بولده وإن سفل ، والأب والأم في هذا سواء ‏.‏ وعنه ‏:‏ ما يدل على أن الأم تقتل بولدها ،والمذهب ‏:‏ الأول لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا يقتل والد بولده رواه ابن ماجة ‏.‏ ولأنها أحد الوالدين ، فأشبهت الأب ، والجد والجدات من قبل الأب ، ومن قبل الأم ‏.‏ وإن علوا ‏.‏ يدخلون في عموم الخبر ، ولأنه حكم يتعلق بالولادة ، فاستوى فيه القريب والبعيد ، كالمحرمية ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا ادعى رجلان نسب لقيط ، ثم قتلاه قبل لحوق نسبه بأحدهما ، فلا قصاص فيه ، لأن كل واحد يجوز أن يكون أباه ، ويجوز أن يكونا أبويه ‏.‏ وإن رجع أحدهما عن الدعوة ، أو ألحقه القافة بغيره ‏.‏ انقطع نسبه ، وعليه القصاص ، لأنه أجنبي ‏.‏وإن رجعا جميعاً عن الدعوة ، لم يقبل رجوعهما ، لأن النسب حق للولد ، وقد ثبت بإقرارهما ، فلم يقبل رجوعهما عنه ، كما لو أقر له بمال ، بخلاف ما لو رجع أحدهما منفرداً ، فإن نسب الولد لا ينقطع برجوعه وحده ‏.‏ وإن اشترك اثنان في وطء امرأة ، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما ، فقتلاه قبل لحوقه بأحدهما ، فلا قصاص ، ولو أنكر أحدهما النسب ، لأن النسب لا ينقطع عنه بإنكاره ، بخلاف التي قبلها ‏.‏ وإن قتل زوجته ، ولها منه ولد ، لم يجب القصاص ، لأنه إذ لم يجب عليه بجنايته عليه ، لم يجب بجنايته عل غيره ‏.‏ وسواء كان لها ولد من غيره ، أو لم يكن ، لأن القصاص لا يتبعض ، فإذا سقط نصيب ولده ، سقط باقيه ، كما لو عفا أحد الشريكين ‏.‏ وإن قتل خال ولده ، فورثته أمه ، ثم ماتت فورثها الولد ، سقط القصاص كذلك ‏.‏ وإن اشترى المكاتب أباه ، فقتل أبوه عبداً له ، لم يجب القصاص كذلك ‏.‏ وإن جنى المكاتب على أبيه ، لم يجب القصاص ، لأنه عبده ، فلا يقتص له من سيده ‏.‏


فصل ‏:‏

ويقتل الولد بكل واحد من الأبوين ، وعنه ‏:‏ لا يقتل ، لأنه لا تقبل شهادته له ،لأجل النسب ، أشبه الأب ، والمذهب ‏:‏ الأول لظاهر الآية والأخبار والقياس ، وقياسه على الوالد ممتنع ، لتأكد حرمة الوالد ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا شارك الإنسان غيره في القتل ، لم يخل من أربعة أقسام ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يشترك جماعة في قتل من يكافئهم عمداً ، فيجني كل واحد منهم جناية ، يضاف إليها القتل لو انفردت ، فيجب القصاص على جميعهم ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يجب على واحد منهم ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ مفهومه أنه لا يؤخذ به أكثر من نفس واحدة ‏.‏ والمذهب الأول ، لما روى سعيد بن المسيب ‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً واحداً ‏.‏ وقال ‏:‏ لم تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً ‏.‏ ولم ينكره منكر ، فكان إجماعاً ‏.‏ ولأنه لو لم يجب القصاص على جميعهم ، جعل الاشتراك وسيلة إلى سفك الدماء ‏.‏

القسم الثاني ‏:‏ أن يقتلوه عمداً ، أو بعضهم غير مكافئ ، مثل أن يشترك اثنان في قتل ولد أحدهما ، أو حر وعبد ، في قتل عبد ، أو مسلم وذمي في قتل ذمي ، ففيه روايتان ‏:‏

أظهرهما ‏:‏ أنه يجب القصاص على المكافئ ، لأنه شارك في القتل العمد العدوان ، فوجب عليه القصاص ، كشريك المكافئ ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجب ، لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب ، فلا يوجب ، كما لو كان شريكه خاطئاً ‏.‏

القسم الثالث ‏:‏ أن يقتلا مكافئاً وأحدهما عامد ، والآخر خاطئ ، ففيه روايتان ‏:‏

أظهرهما ‏:‏ لا قصاص فيه ، لأنه قتل لم يتمخض عمداً ، فلم يوجب القصاص ، كعمد الخطأ ، وكما لو قتله بجرحين عمد وخطأ ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجب القصاص على العامد ، لأنه شارك في القتل عمداً عدواناً ، فوجب عليه القصاص كشريك العامد ‏.‏ والحكم في شريك الصبي والمجنون ، كالحكم في شريك الخاطئ ، لأن عمدهما خطأ‏.‏

القسم الرابع ‏:‏ شارك سبعاً ، أو إنساناً ، في قتل نفسه ، مثل أن يجرح رجلاً عمداً أو يجرح الرجل نفسه عمداً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجب القصاص لذلك ‏.‏

والآخر ‏:‏ لا يجب القصاص ، لأنه إذ لم يجب على شريك الخاطئ وجنايته مضمونة ، فهاهنا أولى ‏.‏ وإن جرحه فتداوى بسم غير موح ، إلا أنه يقتل غالباً ، أو خاط لحم جرحه في لحم حي ، أو خاف التآكل ، فقطعه فمات ، أو فعل هذا وليه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ الحكم في شريكه ، كالحكم فيما لو جرح نفسه عمداً ، لأنه عمد هذا الفعل ‏.‏

والثاني ‏:‏ أنه كشريك الخاطئ ، لأنه لم يقصد الجناية على نفسه ، إنما قصد المداواة ، فكان فعله عمداً خطأً ، فلم يجب القصاص على شريكه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن جرح رجلاً جرحاً ، وجرح آخر مائة ، فهما سواء ، لأنه قد يموت من الواحد ، ولا يموت من المائة ، ولا يمكن إضافة القتل إلى أحدهما بعينه ، ولا الإسقاط فوجب على الجميع ‏.‏ وإن قطع أحدهما من الكوع ، والآخر من المرفق ، فهما سواء ، لأنهما جرحان ، حصل الزهوق عقيبهما ، فأشبه ما لو كانا في يدين ‏.‏ وإن قطع أحدهما يده ، ثم ذبحه الآخر ، أو شق بطنه أو أبان حشوته ، فعلى الأول ما على قاطع اليد منفردة ‏.‏

والثاني ‏:‏ هو القاتل ، لأنه قطع سراية القطع ، فصار ، كما لو اندمل القطع ، ثم قتله ‏.‏ وإن كان قطع اليد آخر فالأول القاتل ، ولا ضمان على قاطع اليد ، لأنه صار في حكم الميت ، إنما يتحرك حركة المذبوح ، ولا حكم لكلامه في وصيته ، ولا غيرها ‏.‏ وإن أجافه جائفة ، يتحقق الموت منها ، إلا أن الحياة فيه مستقرة ، ثم ذبحه آخر ، فالقاتل هوالثاني ، لأن حكم الحياة باق ، ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعدما سقي اللبن فخرج من جرحه ، وأيس منه فعمل بوصيته ، فأشبه المريض المأيوس منه ‏.‏ وإن ألقى رجلاً من شاهق ، فتلقاه آخر بسيف ، فقده قبل وقوعه ، فالقصاص على من قده ، لأنه مباشر للإتلاف ، فانقطع حكم المتسبب ، كالحافر مع الدافع ‏.‏


باب جنايات العمد الموجبة للقصاص


وهي تسعة أقسام ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يجرحه بمحدد يقطع اللحم والجلد ، كالسيف ، والسكين ، والسنان ، والقدوم ، وما حدد من حجر ، أو خشب ، أو قصب ، أو زجاج ، أو غيره ، أو بما له مور وغور ، كالمسلة والسهم ، والقبة المحددة ، فيموت به فهذا موجب للقصاص إجماعاً ‏.‏ وإن غرزه بإبرة في مقتل ، كالصدر ، والفؤاد ، والخاصرة ، والعين ، وأصل الأذن فمات ، وجب القود ، لأن هذا في المقتل ، كغيره في غيره ‏.‏ وإن غرزه في غير مقتل ، كالألية والفخذ ، فبقي منه ضماناً ، حتى مات ، وجب القود ، لأن الظاهر موته به ‏.‏ وإن مات في الحال ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا قود فيه ، لأنه لا يقتل غالباً أشبه ما لو ضربه بعصاة ‏.‏

والثاني ‏:‏ فيه القود ، لأن له موراً وسراية في البدن ‏.‏ وفي البدن مقاتل خفية ، أشبه ما لو غرزه في مقتل ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثاني ‏:‏ ضربه بمثقل كبير ، يقتل مثله غالباً ، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر ، أو ألقى عليه حائطاً ، أو حجراً كبيراً ، أو رض رأسه بحجر ، فعليه القود ، لما روى أنس ‏:‏ أن يهودياً قتل جارية ، على أوضاح لها بحجر ، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ، متفق عليه وفي مسلم ‏:‏ فأقاده ولأنه يقتل غالباً ، أشبه المحدد ‏.‏ وإن ضربه بقلم ، أو إصبع ، أو شبههما ، أو مسه بكبير مساً ، فلا قود فيه ، لأنه لم يقتله ‏.‏ وإن كان مما لا يحتمل الموت به ، كالعصا والوكزة بيده ،فكان في مقتل ، أو مرض أو صغر ، أو شدة برد ، أو حر أو والى الضرب به ، أو عصر خصيتيه عصراً شديداً ، بحيث يقتل غالباً ، ففيه القود ‎، لأنه يقتل غالباً ، أشبه الكبير ‏.‏ وقد وكز موسى عليه السلام القبطي ، فقضى عليه ‏.‏ وإن لم يكن مثله يقتل غالباً ، فهو عمد الخطأ ، لا قود فيه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا ، مائة من الإبل ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثالث ‏:‏ منع خروج نفسه ، إما بخنقه بحبل أو غيره ، أو غمه بمخدة ، أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالباً ، ونحو هذا ، ففيه القود ، لأنه يقتل غالباً ، وإن خلاه حياً متألماً فمات ، فعليه القود ، لأنه مات من سراية جنايته ، أشبه الميت من الجرح ‏.‏ وإن صح منه ثم مات ، لم يضمنه لأنه لم يقتله ، أشبه ما لو برئ الجرح ثم مات ‏.‏ وإن كان ما فعله به ، لا يموت منه غالباً ، فمات ، فهو عمد الخطأ ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الرابع ‏:‏ إلقاؤه في مهلكة كالنار ، والماء الكثير الذي لا يمكن التخلص منه ، لكثرته ، أو ضعف الملقى أو ربطه ، ونحو ذلك ، أو في بئر ذات نفس ، أو ألقاه من شاهق ، يقتل غالباً ، ففيه القود ، لأنه يقتل غالياً ‏.‏ وإن كان لا يقتل غالباً ، أو التخلص منه ممكن ، فلا قود فيه ، لأنه عمد الخطأ ، وإن التقمه في الماء القليل حوت ، فلا قود فيه كذلك ، وإن ألقاه في لجة لا يمكن التخلص منها ، فالتقمه الحوت فيها ، أو قبل وصوله إليها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ فيه القود ، لأنه ألقاه في مهلكة ، فهلك ، أشبه ما لو هلك بها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا قود ، لأنه هلك بغير ما قصد إهلاكه به ، أشبه الذي قبله ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الخامس ‏:‏ أن ينهشه حية ، أو سبعاً قاتلاً ، أو يجمع بينه وبين أسد ، أو نمر ، أو حية ، في موضع ضيق ، أو ألقاه مكتوفاً بين يدي أسد أو نحوه مما يقتل غالباً ، ففعل به السبع فعلاً ، أو فعله الملقي أوجب القود ، ففيه القود ، لأن فعل السبع كفعله ، لأنه صار آلة له ، والحيات كلها سواء في أحد الوجهين ، لأنها جنس يقتل سمه غالباً ، وفي الآخر إن كانت الحية مما لا يقتل سمها غالباً كحية الماء ، وثعبان الحجاز ، فلا قود فيها ، لأن هذا لا يقتل غالباً ، أشبه الضرب بمثقل صغير ‏.‏ وإن ألقاه مكتوفاً في أرض مسبعة ، أو ذات حيات فقتلته ، فلا قود فيه ، لأنه مما لا يقتل غالباً ، فكان عمد الخطأ ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ حكمه حكم الممسك للقتل على ما سنذكره ، لأنه أمسكه بربطه حتى قتلته ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم السادس ‏:‏ سقاه سماً مكرهاً ، أو خلطه بطعامه ، أو بطعام قدمه إليه ، أو أهداه إليه ، فأكله غير عالم بحاله ، ففيه القود ، لما روي أن يهودية أهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر شاة مصلية ، فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قال ‏:‏ ارفعوها ، فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة فأرسل إلى اليهودية فقال ‏:‏ ما حملك على ما صنعت ‏؟‏ فقالت ‏:‏ إن كنت نبياً ، لم يضرك ، وإن كنت ملكاً ، أرحت الناس منك ‏.‏ فأكل منها بشر بن البراء بن معرور ، فمات ، فأرسل إليها فقتلها ، رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه يقتل غالباً ، أشبه القتل بالسلاح ‏.‏ وإن خلطه بطعام ، وتركه في بيت نفسه ، فدخل رجل فأكل فمات ، فلا قود ، لأنه عمد قتل نفسه ، فأشبه ما لو قدم إليه سكيناً ، فقتل بها نفسه ، وإن ادعى ساقي السم أنه لم يعلم أنه يقتل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ عليه القود ، لأن السم يقتل غالباً ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا قود فيه ، لأنه يجوز خفاء ذلك عليه ، فتكون شبهة يسقط بها القود ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم السابع ‏:‏ قتله بسحر يقتل غالباً ، ففيه القود ، لأنه يقتل غالباً ، أشبه السكين ‏.‏ وإن كان مما لا يقتل غالباً ، فهو خطأ العمد ‏.‏ وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالباً ، وكان مما يجوز خفاؤه عليه فيه ، فلا قود عليه ، لأنه يخل بمتحض العمد ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم الثامن ‏:‏ حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالباً ، فمات ففيه القود ، لأنه يقتل غالباً ، وإن كانت المدة لا يموت فيها غالباً ، فهو شبه عمد ‏.‏ وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالباً زيادة تقتله ، فمات منه ،ففيه القود ، لأنه يقتل غالباً ‏.‏ وإن كانت الزيادة غير معلومة ، فهو شبه عمد ‏.‏ وإن أمسكه لرجل ليقتله فقتله ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ عليه القصاص ، لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالباً ، فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا قصاص ، لكن يحبس حتى يموت لما روى ابن عمر ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إذا أمسك الرجل ، الرجل ، وقتله الآخر ، يقتل الذي قتل ، ويحبس الذي أمسك ‏.‏ أخرجه الدارقطني ‏.‏ ولأنه حبس إلى الموت ، فيفعل به مثل فعله ‏.‏ وسواء حبسه بيديه ، أو بجناية عليه ، أو غير ذلك ‏.‏ وإن أمسكه لغير القتل فقتل ، ، فلا ضمان على الممسك ، لأنه لم يقتله ، ولا قصد قتله ‏.‏

فصل ‏:‏

القسم التاسع ‏:‏ أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالباً ، أربعة أنواع ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يكره غيره على قتله ، فيجب القصاص على المكره ، والمكره جميعاً ، لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالباً ، أشبه ما لو أنهشه حية ، أو أسداً ، أو رماه بسهم ‏.‏ والمكره قتله ظلماً ، لاستبقاء نفسه ، فلزمه القصاص ، كما لو قتل في المجاعة ليأكله ‏.‏

النوع الثاني ‏:‏ أن يأمر من لا يميز بين المجانين والصبيان ، أو عبداً أعجمياً لا يعلم تحريم القتل بقتله ، فيقتله ، فعلى الآمر القصاص ، دون المأمور ، لأن المأمور صار كالآلة له ، فأشبه الأسد والحية ‏.‏ وإن كان المأمور مميزاً فلا قود على الآمر ، لأن المأمور له قصد صحيح فأشبه ما لو كان رجلاً عاقلاً ‏.‏ فإن كان العبد يعلم تحريم القتل ، فالقصاص عليه ، لأنه مباشر للقتل ، مختار ، عالم بتحريمه ، فأشبه الحر ، ويؤدب السيد ، لتسببه إليه ‏.‏ وإن أمر السلطان رجلاً يقتل رجل بغير حق ، ولم يعلم الحال ، فقتله ، فالقصاص على الآمر ، لأن المأمور معذور في قتله ، لكونه مأموراً بطاعة السلطان من غير المعصية ، والظاهر أنه لا يأمر إلا بحق ‏.‏ وإن علم أنه مظلوم فالقصاص عليه وحده ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق من المسند ‏.‏ فصار كالقاتل من غير أمر ‏.‏ وإن أمر ‏.‏ غير السلطان بالقتل ، فقتل ، فالقصاص على القاتل وحده ، علم أو جهل ، لأنه لا تلزمه طاعته ‏.‏

النوع الثالث ‏:‏ أن يشهر رجلان على رجل بما يوجب القتل ، فقتل بغير حق ، ثم رجعا عن الشهادة ، وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل ، فعليهما القود ، لما روى القاسم بن عبد الرحمن ‏:‏ أن رجلان شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل ، أنه سرق ، فقطعه ، ثم رجعا عن الشهادة ، فقال ‏:‏ لو أعلم أنكما تعمدتما ، لقطعت أيديكما ، وغرمهما دية يده ‏.‏ ولأنهما قتلاه بسبب يقتل غالباً ، أشبه المكره ‏.‏

الرابع ‏:‏ الحاكم إذا حكم عليه بما يوجب قتله ظلماً متعمداً ، فقتل ، فعليه القصاص لذلك ، وكذلك الولي الذي أمر بقتله ، إذا أقر أنه علم براءته وأمر بقتله ظلماً ‏.‏


باب القصاص فيما دون النفس


يجب القصاص فيما دون النفس بالإجماع لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص‏}‏ ‏.‏ وروى أنس أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية ، فعرضوا عليهم الأرش ، فأبوا إلا القصاص ، فجاء أخوها أنس بن النصر فقال ‏:‏ يا رسول الله ‏.‏ تكسر ثنية الربيع ‏؟‏ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كتاب الله القصاص ‏.‏ فعفا القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره أخرجه البخاري ومسلم ولأن ما دون النفس ، كالنفس في الحاجة إلى الحفظ ، فكان ، كالنفس في القصاص ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن لا يقاد بغيره في النفس ، لا يقاد به فيما دونها بغير خلاف ، ومن يقاد بها في النفس يقاد بها فيما دونها ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا قصاص بين العبيد في الأطراف ، لأنها أموال ‏.‏ والمذهب ‏:‏ الأول لأن ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص ، فكان كالنفس فيما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة ، مثل أن يتحاملوا على الحديدة تحاملاً واحداً حتى يبينوا يده ، فعلى جميعهم القصاص ، لحديث علي رضي الله عنه ، ولأنه أحد نوعي القصاص ، فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد ، كالنفس ‏.‏ وإن تفرقت جناياتهم ، بأن قطع كل واحد من جانب ، أو قطع واحد ، وأتمه آخر ، أو قطعا بمنشار يمده كل واحد مرة ، فلا قصاص ، لأن فعل كل واحد في بعض العضو ، فلم يجز أخذ جميع عضوه ، كما لو لم يقطع الآخر ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يؤخذ طرف الجماعة بواحد ، كما ذكرنا في النفوس ولأن ذلك مما يجب في النفوس للزجر كي لا يتخذ الاشتراك وسيلة إلى إسقاط القصاص ، ولا يوجد ذلك في الأطراف ، لندرة الحالة التي يمكن إيجاب القصاص بها ‏.‏

فصل ‏:‏

والقصاص فيما دون النفس نوعان ‏:‏ جروح ، وأطراف ‏.‏ فأما الجروح ‏:‏ فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم ‏.‏ سواء كان موضحة في رأس ، أو وجه ، أو ساعد ، أو عضد ، أو فخذ ، أو ساق ، أو ضلع ، أو غيره ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ ولأنه أمكن الاقتصاص من غير حيف ، فوجب كما في الطرف ‏.‏ وما لا ينتهي إلى عظم ، كالجائفة ، وما دون الموضحة من الشجاج ، أو كانت الجناية على عظم ، ككسر الساعد ، والعضد ، والهاشمة ، والمنقلة ، والمأمومة ، لم يجب القصاص ، لأن المماثلة غير ممكنة ، ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق ، فسقط ، إلا إذا كانت الشجة فوق الموضحة ، فله أن يقتص موضحة لأنها بعض جنايته ، وقد أمكن القصاص ، فوجب ، كما لو كانت جناية في محلين ‏.‏ وفي وجوب الأرش الباقي وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجب ، وهو قول ابن حامد ، لأنه تعذر فيه القصاص فوجب الأرش ، كما لو تعذر في جميعها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجب ‏.‏ وهو اختيار أبي بكر ، لأنه جرح واحد ، فلا يجمع فيه بين قصاص وأرش ‏.‏ كالشلاء بالصحيحة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجب في الموضحة ، قدرها طولاً وعرضاً ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ والقصاص ‏:‏ المماثلة ‏.‏ ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة ، فإن كانت في الرأس ، حلق موضعها في رأس الجانب ، وعلم القدر المستحق بسواد ، أو غيره ، ثم اقتص ‏.‏ فإن كانت في مقدم الرأس ، أو مؤخره ، أو وسطه ، فأمكن أن يستوفي قدرها من موضعها ، لم يجز غيره‏.‏ وإن زاد قدرها على موضعها من رأس الجاني ‏.‏ استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله ، لأن الجميع رأس ‏.‏ وإن زاد قدرها على رأس الجاني كله ، لم يجز أن ينزل إلى الوجه ، ولا القفا ، لأنه قصاص في غير العضو المجني عليه ، فيقتص في رأس الجاني كله ‏.‏ وهل له الأرش لما بقي ‏؟‏ على وجهين ، كما تقدم ‏.‏ وإن كانت الموضحة في الساعد ، وزاد قدرها على ساعد الجاني ، لم ينزل إلى الكف ، ولم يصعد إلى العضد ‏.‏ وإن كان في السياق ، لم ينزل إلى القدم ، ولم يصعد إلى الفخذ ، كما ذكرنا في الرأس ‏.‏ وإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر ، فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني ، لأن الجميع محل الجناية ‏.‏ وله أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس ، وبعضه من مؤخره ، إلا أن يكون في ذلك زيادة ضرر أو شين ، فيمنع لذلك ، لأنه لم يجاوز موضع الجناية ، ولا قدرها ، ويحتمل أن لا يجوز ،لأنه يأخذ موضحتين بموضحة ‏.‏ وإن أوضحه موضحتين ، قدرهما جميع رأس الجاني ، فللمجني عليه الخيار ، بين أن يوضحه في جميع رأسه موضحة واحدة ، وبين أن يوضحه موضحتين يقتص فيهما على قدر الواجب له ، ولا أرش له في الباقي وجهاً واحداً ، لأنه يترك الاستيفاء مع إمكانه ‏.‏

فصل ‏:‏

النوع الثاني ‏:‏ الأطراف ‏.‏ ويجب القصاص فيها ، إذا كان القطع ينتهي إلى عظم ، فتقلع العين بالعين ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والعين بالعين‏}‏ ‏.‏ ولأنه يمكن القصاص فيها ، لانتهائها إلى مفصل ، فوجب كالموضحة ‏.‏ وتؤخذ عين الشاب الصحيحة الحسناء بعين الشيخ المريضة الرمصاء ، كما يؤخذ الشاب الصحيح الجميل بالشيخ المريض ‏.‏ ولا تؤخذ صحيحة بقائمة ، لأنه يأخذ أكثر من حقه ‏.‏ ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة ، لأنها دون حقه ، كالشلاء بالصحيحة ‏.‏ ولا أرش له معها ، لأن التفاوت في الصفة ‏.‏ وإن جنى على رأسه بلطمة ، فأذهب ضوء عينيه ، وجب القصاص ، لأن الضوء لا يمكن مباشرته بالجناية ، فوجب القصاص فيه بالسراية ، كالنفس ، فإن كانت اللطمة لا تفضي إلى تلف العين غالباً ، فلا قصاص فيه ، لأنه شبه عمد ، أشبه ما لو قتله ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قلع الأعور عين مثله عمداً ففيه القصاص ، لتساويهما ‏.‏ وإن قلع عين صحيح ، فلا قصاص عليه ‏.‏ وعليه دية كاملة ، لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ولأنه لم يذهب بجميع بصره، فلم يجز أن يذهب بجميع بصره ، كما لو كان ذا عينين ‏.‏ ويجب جميع الدية ، لأنه لما درئ عنه القصاص لفضيلته ، ضوعفت الدية عليه ، كالمسلم إذا قتل الذمي عمداً ‏.‏ وإن قلع عيني صحيح ، خير بين قلع عينه ، ولا شيء له سواه ، لأنه أخذ جميع بصره لجميعه ، وبين دية عينيه ، لأن القصاص لم يتعذر ‏.‏ وإن قلع صحيح عين الأعور فله الاقتصاص من مثلها ، ويأخذ نصف الدية ‏.‏ نص عليه ، لأن عينه كعينين ، لاشتمالها على جميع البصر ، ومقامها مقام العينين ‏.‏

فصل ‏:‏

ويؤخذ الجفن بالجفن ، لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ ‏.‏ ولأنه ينتهي إلى فصل ، ويؤخذ جفن كل واحد من الضرير والبصير بالآخر ، لأنهما متساويان في السلامة ، والنقص، وعدم البصر نقص في غيره ، فلم يمنع جريان القصاص فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويؤخذ الأنف بالأنف لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والأنف بالأنف‏}‏ ‏.‏ ولا يجب القصاص إلا في المارن ، وهو ما لان منه ، لأنه ينتهي إلى مفصل ‏.‏ ويؤخذ الشام بالأخشم ، والأخشم بالشام ، لتساويهما في السلامة ، وعدم الشم ونقص في غيره ، ويؤخذ البعض بالبعض ‏.‏ فيقدر ما قطعه بالأجزاء ، كالنصف والثلث ‏.‏ ثم يقتص من مارن الجاني بمثله ، ولا يؤخذ بالمساحة ، لأنه يفضي إلى أخذ جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه ، ويؤخذ المنخر بالمنخر ، والحاجز بين المنخرين بالحاجز ، ولا يؤخذ مارن صحيح ، بمارن سقط بعضه أو انخرم ، لأنه يأخذ أكثر من حقه ‏.‏ ولا يؤخذ صحيح بمستحشف كذلك ، ويحتمل أن يؤخذ ، لأنه يقوم مقام الصحيح ، ويؤخذ الذي سقط بعضه بالصحيح ، وفي الأرش في الباقي وجهان ‏.‏ ويؤخذ المستحشف بالصحيح من غير أرش ، لأنه نقص معنى ، فهو كالشلل ‏.‏

فصل ‏:‏

وتؤخذ الأذن بالأذن ، لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏والأذن بالأذن‏}‏ ‏.‏ ولأنها تنتهي إلى حد فاضل ‏.‏ وتؤخذ أذن السميع ‏.‏ بأذن الأصم ، وأذن الأصم ، بأذن السميع ، كما ذكرنا في الأنف ، والمثقوبة للزينة كالصحيحة ، لأن الثقب ليس بنقص ، ويؤخذ البعض بالبعض ‏.‏ ولا تؤخذ صحيحة بمخرومة ، وتؤخذ المخرومة بالصحيحة ‏.‏ وفي الأرش للباقي وجهان ‏.‏

وتؤخذ المستحشفة بالصحيحة ، وفي أخذ الصحيحة بالمستحشفة وجهان ، كما ذكرنا في الأنف ‏.‏ وإن شق أذنيه فألصقهما صاحبها ، فالتصقت فلا قصاص ، لتعذر المماثلة ‏.‏ وإن قطعها فأبانها ، فألصقها صاحبها فالتصقت ، فقال القاضي ‏:‏ له القصاص ، لأنه وجب بالقطع ، فلم يسقط بالإلصاق ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا قصاص فيها ، لأنا لم تبن على الدوام أشبه الشق ، وله أرش الجرح ‏.‏ فإن سقطت بعد ذلك ، قريباً أو بعيداً ، رد الأرش ، وله القصاص ‏.‏ وإن اقتص من الجاني ، فقطع أذنه ، فألصقها فالتصقت برئ من حقه ، لأن الاستيفاء ، حصل بالإبانة ‏.‏ وإن لم يبنها قطع بعضها فالتصقت ، فله قطع جميعها ، لأنه استحق إبانته ولم يفعل ، والحكم في السن ، كالحكم في الأذن ، فيما ذكرنا ‏.‏

فصل في السن بالسن ‏:‏

وتؤخذ السن بالسن ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏والسن بالسن‏}‏ ولحديث الربيع ،ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه ، فوجب كالأذن ، ولا تؤخذ صحيحة بمكسورة ، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة ‏.‏ وفي الأرش للباقي وجهان ‏.‏ وإن كسر بعض السن ، برد من سن الجاني مثله ، بقدر الأجزاء ، إلا أن يتوهم انقلاعها أو سوادها ، فيسقط القصاص ، لأن توهم الزيادة يسقط القصاص ‏.‏ كقطع اليد من غير مفصل ‏.‏ ولا يقتص الحال ، كالشعر ، وإن مات قبل اليأس من عودها ، فلا قصاص ، لعدم تحقق الإتلاف ، فلا يجوز استيفاؤه مع الشك ‏.‏ فإن لم تعد ، ويئس من عودها ، وجب القصاص ،لأن ذلك حصل بالجناية ، وإن يئس من عودها فاقتص ، أو اقتص من سن كبير ، فنبت له مكانها ، فعليه دية سن الجاني ، لأنه قلع سناً بغير سن ، فإن نبتت سن الجاني أيضاً ، أو قلع النابتة للمجني عليه ، فلا شيء لواحد منهما ‏.‏ وإن نبتت سن الجاني دون المجني عليه ، فله قلعها ، لأنه أعدم سنه على الدوام ، فملك أن يفعل به ذلك ويحتمل ألا يملكه ، لأنه قلعت له سن ، فلا يملك قلع سنين ‏.‏

فصل ‏:‏

وتؤخذ الشفة بالشفة ، وهي ‏:‏ ما جاوز حد الذقن والخدين علواً وسفلاً ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ ‏.‏ ولأنها تنتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه ، فوجب كالأنف ‏.‏ ويؤخذ البعض بالبعض ، ويقدر بالأجزاء ، كبعض المارن ‏.‏

فصل ‏:‏

ويؤخذ اللسان باللسان ، للآية ، والمعنى ، وبعضه ببعضه ، لما ذكرنا ‏.‏ ولا يؤخذ أخرس بناطق ، لأنه أكثر من حقه ‏.‏ ويؤخذ الأخرى بالناطق ،لأنه دون حقه ، ولا أرش معه ، لأن التفاوت في المعنى ، لا في الأجزاء ‏.‏ ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ ، ولسان الصغير ، كما يؤخذ ، الكبير الصحيح بالطفل المريض ‏.‏

فصل ‏:‏

وتؤخذ اليد باليد ، والرجل بالرجل ، وكل إصبع بمثلها ، وكل أنملة بمثلها ، للآية والمعنى ‏.‏ فإن قطع يده من الكوع ، أوالمرفق ، فله أن يقتص من موضع القطع ‏.‏ وليس له أن يقتص من دونه ، لأنه أمكنه استيفاء حقه من موضعه ، فلم يجز أن يستوفي من غيره ‏.‏ وإن قطعت يد من العضد ، أو الساعد ، لم يجز الاقتصاص من موضع القطع ، بغير خلاف ، لأنه لا يأمن الزيادة ‏.‏ وهل له أن يقتص من مفصل دونه ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ليس له ذلك ، اختاره أبو بكر ، لما روى نمران بن جارية عن أبيه ‏:‏ أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف ، فقطعها من غير مفصل ، فاستدعى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية ، فقال ‏:‏ إني أريد القصاص ‏:‏ قال ‏:‏ خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له بالقصاص ‏.‏ رواه ابن ماجة ، ولأنه يقتص من غير محل الجناية ، فلم يجز ‏.‏ كما لو أمكن القصاص من محل الجناية ‏.‏

والثاني ‏:‏ له أن يقتص ، اختاره بعض أصحابنا ‏.‏ فإذا قطعت من الساعد ، فله أن يقتص من الكوع ‏.‏ وإن قطعت من العضد ، فله أن يقتص من المرفق ، لأنه عجز عن استيفاء حقه ، وأمكنه أخذه دونه ، فجاز ، كما لو جرح مأمومة ، فأراد أن يقتص موضحة ‏.‏ وفي أخذ الحكومة للباقي وجهان ‏.‏ وإذا قطعت يده من العضد ، لم يملك أن يقطع من الكوع ، لأنه أمكنه استيفاء الذراع قصاصاً ، فلم يكن له قطع ما دونه ، كما لو قطع من المرفق ‏.‏ وإن قطعها من الكتف ، فقال أهل الخبرة ‏.‏ يمكن الاقتصاص من غير جائفة ، فله ذلك ، لأنه مفصل ، وليس له أن يقتص مما دونه ، وإن قالوا ‏:‏ نخاف الجائفة ، فلا قصاص منها ، لأنها يخاف الزيادة ‏.‏ وفي الاقتصاص من المرفق وجهان ‏.‏ وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها ، من القدم والركبة والورك حكم اليد ، سواء على ما بينا ‏.‏



فصل ‏:‏

ولا تؤخذ صحيحة بشلاء ، لأنها فوق حقه ، فأما الشلاء بالصحيحة ، أو بالشلاء ، فإن قال أهل الخبرة ‏:‏ لا يخاف عليه ، اقتص ، لأنه يأخذ حقه ، أو دونه ولا أرش بالشلل ، ، لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة ، ، وإنما نقصت في الصفة فأشبه الذمي مع المسلم ، وإن قالوا ‏:‏ إن قطعت خيف ألا تنسد العروق ، ويدخل الهواء البدن فيفسد ، لم يجز أن يقتص ، لخوف الزيادة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تؤخذ كاملة بناقصة ‏.‏ فلا تؤخذ ذات أظفار بما لا أظفار لها ‏.‏ ولا ذات خمس أصابع ، بذات أربع ‏.‏ ولا بذات خمس بعضها أشل ، لأنه أكثر من حقه ‏.‏ وهل له أن يقطع من أصابع الجاني بقدر أصابعه ‏؟‏ على الوجهين ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ له قطعها ‏.‏ فهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تدخل ، كما تدخل في ديتها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا تدخل لأنه جزء يستحق إتلافه ، تعذر عليه أخذه فوجب أرشه ، كالمنفرد ‏.‏ فإن كانت الزائدة من أصابع الجاني زائدة في الخلقة ، لم تمنع القصاص عند ابن حامد ، لأنها عيب ونقص في المعنى ، فلم يمنع وجودها أخذها بالكاملة ، كالسلعة فيها ‏.‏ واختار القاضي ‏:‏ أنها تمنع ، لأنها زيادة في الأصابع ، أشبهت الأصلية ‏.‏ فإن قطع ناقص الأصابع يداً كاملة ، وجب القصاص ، لأنه يأخذ دون حقه ‏.‏ وفي وجوب الدية للأصابع الزائدة وجهان ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع ذو يد كاملة ، كفاً فيها أربع أصابع أصلية ، وإصبع زائدة ، لم يجب القصاص ، لأنه يأخذ أكثر من حقه ، وفي جواز الاقتصاص من أصابعه الأصلية وجهان ‏.‏ فإن اقتص منها ‏.‏ فهل له حكومة في الزيادة ‏؟‏ على وجهين لما تقدم ‏.‏ وإن قطع له من أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة ، كفاً كاملة الأصابع ، ملك القصاص ، ولا أرش له ، لنقصان الزائدة ، لأنها كالأصلية في الخلقة ، وإنما هي ناقصة في المعنى ‏.‏ وإن كان في يد كل واحد منهما إصبع زائدة ، أخذت إحداهما بالأخرى ، لتساويهما ، وإذا قطع إصبعاً فتآكلت إلى جانبها أخرى ، وسقطت من مفصل ، أو تآكل الكف ، وسقط من الكوع ، وجب القصاص في الجميع ، لأنه تلف بسراية قطع مضمون بالقصاص ، فوجب فيه القصاص ، كالنفس ، وإن شلت إلى جانبها أخرى ، لم يجب القصاص في الشلاء ، لأنها لو شلت بجنايته مباشرة ، لم يجب القصاص ، فهاهنا أولى ‏.‏

فصل ‏:‏

وتؤخذ الأليتان بالأليتين ، لقوله سبحانه ‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل ، فوجب فيهما القصاص ، كالشفتين ‏.‏

فصل ‏:‏

وتؤخذ الذكر بالذكر كذلك ، ويؤخذ بعضه ببعضه ، لما ذكرنا في الأنف ، ويؤخذ كل واحد من الأقلف والمختون بمثله ، لأن زيادة أحدهما على الآخر بجلدة تستحق إزالتها ‏.‏ ولا يؤخذ صحيح بأشل ، لأن الأشل ناقص ، فلم يؤخذ به كامل ، كاليد ‏.‏ ولا يؤخذ ذكر الفحل ، بذكر الخصي ، لأنه ناقص ، لعدم الإنزال ، والإيلاد ، ولا بذكر خنثى ، لأنه لا يعلم أنه ذكر ‏.‏ وفي أخذ الصحيح بذكر العنين ‏.‏ وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يؤخذ به ، لنقصه ‏.‏

والثاني ‏:‏ يؤخذ به ، لأنه غير مأيوس منه ، أشبه المريض ‏.‏

فصل ‏:‏

وتؤخذ الأنثيين بالأنثيين ، للآية والمعنى ‏.‏ فإن قطع إحداهما ، وقال أهل الخبرة ‏:‏ يمكن أخذها من غير تلف الأخرى ، اقتص منه ‏.‏ وإن قالوا ‏:‏ يخاف تلف الأخرى ، لم يقتص منه ، لتوهم الزيادة ‏.‏



فصل ‏:‏

ولا قصاص في شفري المرأة عند القاضي ، لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه ، فلم يقتص منه كلحم الفخذ ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ فيهما القصاص ، لأنه يعرف انتهاؤهما ، فجرى فيهما القصاص ، كالشفتين ، وأجفان العينين ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع خنثى مشكل ، وأنثييه وشفريه ، فلا قصاص له حتى يتبين ، لأننا لا نعلم أن المقطوع فرج أصلي ‏.‏ وإن طلب الدية ، وكان يرجى انكشاف حاله ، أعطي اليقين ، وهو دية شفري امرأة ، وحكومة في الذكر والأنثيين ‏.‏ وإن كان مأيوساً من كشف حاله ، أعطي نصف دية ذلك كله ، وحكومة في نصفه الباقي ، وعلى قول ابن حامد ‏:‏ لا حكومة فيه ، لأنه نقص ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اختلف العضوان في صغر ، أو كبر ، أو طول ، أو قصر ، أو صحة ، أو مرض ، لم يمنع القصاص ، لأن اعتبار التساوي في هذه المعاني ، يسقط القصاص ، فيسقط اعتبارها ، كما في النفس ‏.‏

فصل ‏:‏

وما انقسم إلى يمين ويسار ، كالعينين والأذنين ، والمنخرين ، واليدين ، والرجلين ، أو إلى أعلى وأسفل ، كالجفنين ، والشفتين ، لم يؤخذ شيء منها بما يخالفه في ذلك ‏.‏ ولا تؤخذ سن بسن غيرها ، ولا إصبع بإصبع تخالفها ، ولا أنملة بأنملة لا تماثلها في موضعها واسمها، لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن ، فلم يؤخذ بعضها ببعض ، كالعين والأنف ‏.‏ ولا تؤخذ أصلية من الأصابع والأسنان بزائدة ، ولا زائدة بأصلية ، لعدم التماثل بينهما ‏.‏ وتؤخذ الزائدة بالزائدة ، وإذا اتفق محلاهما ، لتماثلهما ، وإن اختلف محلاهما ، لم تؤخذ إحداهما بالأخرى ، لأنهما مختلفتان في أصل الخلقة ، أشبه الوسطى بالسبابة ، وإن تراضى الجاني والمجني عليه ، بأخذ ما لا يجب القصاص فيه ، لم يجز ، لأن الدماء لا تستباح بالإباحة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن جرحه جرحاً فيه القصاص ، فاندمل ، ثم قتله ، وجب القصاص فيهما، لأنهما جنايتان ، يجب القصاص في كل واحدة منهما منفردة ، فوجب عند الاجتماع ، كاليدين ‏.‏ وإن قتله قب اندمال الجرح ، ففيه روايتان ‏.‏

إحداهما ‏:‏ يجب القصاص أيضاً ‏.‏ لما ذكرناه ‏.‏

والثانية ‏:‏ يقتل ولا قصاص في الجرح ، لأن القصاص في النفس ، أحد بدلي النفس ، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قتل واحد جماعة ، أو قطع عضواً من جماعة ، لم تتداخل حقوقهم ، لأنها حقوق مقصودة لآدميين ، فلم تتداخل ، كالديون ، لكن إن رضي الكل باستيفاء القصاص منه جاز ، لأن الحق لهم ، فجاز أن يرضى الجماعة بالواحد ، كما لو قتل عبداً عبيداً خطأً فرضوا بأخذه ‏.‏ وإن طلب واحد القصاص ، والباقون الدية ، فلهم ذلك ، وإن طلب كل واحد استيفاء القصاص مستقلاً ، قدم الأول ، لأن له مزية السبق ، فإن أسقط حقه قدم الثاني ، ثم الثالث ، ويصير حق الباقين في الدية ، لأن القود فاتهم ، فانتقل حقهم إلى الدية ، كما لو مات ، وإذا قتلهم دفعة واحدة ، أو أشكل السابق ، قدم من تقع له القرعة ، لأن حقوقهم تساوت ، فوجب المصير إلى القرعة ، كالسفر بإحدى النساء ، فإن عفا من له القرعة ، أعيدت للباقين ، لتساويهم ‏.‏ ومتى ثبت القصاص لأحدهم بالسبق ، أو بالقرعة ، فبادر غيره فقتله ، كان مستوفياً لحقه ، ووجب للآخر الدية ، كما لو قتل مرتداً ، كان مستوفياً لقتل الردة ‏.‏ وإن أساء في الافتئات على الإمام ‏.‏ وإن كان الأول غائباً ، أو صغيراً ،انتظر ، لأن الحق له ‏.‏ وإن كان القتل في المحاربة ، فهو كالقتل في غيرها ، لأنه قتل موجب للقصاص ، فأشبه غيره‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع طرف رجل ، وقتل آخر ، قطع لصاحب الطرف ، ثم قتل للآخر ، تقدم القتل ، أو تأخر ، لأنه أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص ، فلم يجز إسقاط أحدهما ، بخلاف التي قبلها ‏.‏ وإن قطع يد رجل ، وإصبعاً من آخر ، قدمنا السابق منهما ، أيهما كان ، لأن اليد تنقص بنقص الإصبع ، ولذلك لا تؤخذ الصحيحة بالناقصة ، بخلاف النفس ، فإنها لا تنقص بقطع الطرف ، بدليل أخذ الصحيح الأطراف بمقطوعها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قتل وارتد ، أو قطع يميناً وسرق ، قدم حق الآدمي ، لأن حقه مبني على الشديدة ، لشحه وحاجته ‏.‏ وحق الله مبني على السهولة ، لغنى الله وكرمه ‏.‏
باب استيفاء القصاص


إذا قتل الآدمي ، استحق القصاص ورثته كلهم ، لما روى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من قتل له قتيل ، فأهله بين خيرتين ، أن يأخذوا العقل ، أو يقتلوا ‏.‏ رواه أبو داود وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من قتل له قتيل ، فهو بخير النظيرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدى ولأنه حق يستحقه الوارث من جهة مورثه ، فأشبه المال ‏.‏ فإن كان الوارث صغيراً ، لم يستوف له الولي ‏.‏ وعنه ‏:‏ للأب استيفاؤه ، لأنه أحد بدلي النفس ، فأشبه الدية ‏.‏ والمذهب لأول ، لأن القصد التشفي ، ودرك الغيظ ، ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب ، فلم يملك استيفاؤه ، كالوصي ، والحاكم ‏.‏ فعلى هذا ‏:‏ يحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير ، ويعقل المجنون ، ويقدم الغائب ، لأنه فيه حظاً للقاتل بتأخير قتله ، وحظاً للمستحق بإيصال حقه إليه ‏.‏ فإن أقام القاتل كفيلاً ، ليخلى سبيله ، لم يجز ، لأن الكفالة بالدم غير صحيحة ‏.‏ وإن وثب الصبي ، أو المجنون على القاتل ، فقتله ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصير مستوفياً لحقه ، لأنه عين حقه أتلفه ، فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصير مستوفياً لحقه ، لأنه ليس من أهل الاستيفاء ، فتجب له دية أبيه ، وعلى عاقلته دية القاتل ، بخلاف الوديعة ، فإنها لو تلفت من غير تعد ، برئ منها المودع ، ولو هلك الجاني ، من غير فعل ، لم يبرأ من الجناية ‏.‏ وإن كان القصاص بين صغير وكبير ، أو مجنون وعاقل ، أو حاضر وغائب ، لم يجز للكبير العاقل الحاضر الاستيفاء ، لأنه حق مشترك بينهما ، فلم يجز لأحدهما الانفراد باستيفائه ، كما لو كان بين بالغين عاقلين ، وإن قتل من لا وارث له ، فالقصاص للمسلمين ، لأنهم يرثون ماله ، واستيفاؤه إلى السلطان ‏.‏ فإن كان له من يرث بعضه ، كزوج ، أو زوجة ، فاستيفاؤه إلى الوارث والسلطان ليس لأحدهما الانفراد به ، لما ذكرنا ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن بادر بعض الورثة ، فقتل القاتل بغير أمر صاحبه ، فلا قصاص عليه ، لأنه مشارك في استحقاق ما استوفاه ، فلم تلزمه عقوبته ، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة ، ويجب لشركائه حقهم من الدية ، وفيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجب على القاتل ‏.‏ الثاني لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما ، فإذا أتلفها أحدهما ، لزمه ضمان حق الآخر ، كالوديعة لهما يتلفها أحدهما ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب في تركة القاتل الأول ، لأنه قود سقط إلى مال ، فوجب في تركة القاتل ، كما لو قتله أجنبي ، ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم بدية ، ماعدا نصيبه من موروثهم ‏.‏ فلو قتلت امرأة رجلاً له ابنان ، فقتلها أحدهما ، كان للآخر في تركتها نصف دية أبيه ، ويرجع ورثتها على قاتلها بنصف ديتها ‏.‏ وإن عفا بعض من له القصاص ثم قتله الآخر غير عالم بالعفو ، أو غير عالم أن العفو يسقط القصاص ، لم يجب عليه قصاص ، لأن ذلك شبهة ، فدرأت القصاص ، كالوكيل إذا قتله بعد العفو ، وقبل العلم ، وإن قتله بعد العلم ، فعليه القصاص ، لأنه قتل معصوماً مكافئاً له لا حق له فيه ، فوجب عليه القصاص ، كما لو حكم بالعفو حاكم ‏.‏ فإن اقتصوا منه ، فلورثته عليهم نصيبه من الدية ، وإن اختاروا الدية ، سقط عنه من الدية ما قابل حقه ، ولزمه باقيها ، وإن كان عفو شريكه على الدية ، فله نصيبه منها ، في ترك القاتل ، لأنه حقه ، انتقل من القصاص إلى ذمة القاتل في حياته ، فأشبه الدين ، بخلاف التي قبلها ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان ، لأنه يفتقر إلى اجتهاد ، ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي ، فإن استوفاه من غير حضرة السلطان ، وقع الموقع ، لأنه استوفى حقه ، ويعزر لافتئاته على السلطان ‏.‏ ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين ، لئلا ينكر المقتص الاستيفاء ‏.‏ وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها ‏.‏ فإن كانت كالة ، أو مسمومة ، منعه الاستيفاء بها ، لما روى شداد بن أوس ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإن قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإن ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته رواه مسلم وأبو داود ولأن المسمومة تفسد البدن ، وربما منعت غسله ‏.‏ وإن طلب من له القصاص أن يتولى الاستيفاء لم يكن منه في الطرف ، لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ ظاهر كلام أحمد ، أنه يمكن منه ، لأنه أحد نوعي القصاص ، أشبه القصاص في النفس ، وإن كان في النفس ، وكان يكمل الاستيفاء بالقوة والمعرفة ، مكن منه ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل‏}‏ ‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين ، أن يأخذوا العقل ، أو يقتلوا ‏.‏ ولأن القصد من القصاص التشفي ، ودرك الغيظ ، وتمكينه منه أبلغ في ذلك ‏.‏ فإن كان لجماعة فتشاحوا في المستوفى ، أقرع بينهم ، لأنه لا يجوز اجتماعهم على القتل ، لأن فيه تعذيباً للجاني ، ولا مزية لأحدهم ، فوجب التقديم بالقرعة ‏.‏ولا يجوز لمن خرجت له القرعة الاستيفاء إلا بإذن شركائه ، لأن الحق لهم ، فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم ‏.‏ وإن كان فيهم من يحسن ، وباقيهم لا يحسنوا أمروا بتوكيله ‏.‏ وإن لم يكن مستحق للقصاص يحسن الاستيفاء ، أمر بالتوكيل ‏.‏ فإن لم يوجد من يتوكل بغير عوض ، بذل العوض من بيت المال ، لأنه من المصالح ‏.‏ فإن لم يمكن ، بذل من مال الجاني ، لأن الحق عليه ، فكان أجر الإيفاء عليه ، كأجر كيل الطعام على البائع ، وإن قال الجاني ‏:‏ أنا أقتص لك من نفسي ، لم يجب إلى ذلك ، لأن من وجب عليه إيفاء حق ، لم يجز أن يكون هو المستوفي ، كالبائع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا وجب القتل على حامل ، لم تقتل حتى تضع ، لما روى معاذ بن جبل ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إذا قتلت المرأة عمداً ، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً ‏.‏ وحتى تكفل ولدها ، وإن زنت ، لم ترجم حتى تضع ما في بطنها ، وحتى تكفل ولدها ‏.‏ رواه ابن ماجة ولأن قتلها يفضي إلى قتل ولدها ، ولا يجوز قتله ‏.‏ فإذا وضعت ، لم تقتل حتى تسقيه اللبأ ، لأنه لا يعيش إلا به ‏.‏ وإن لم يكن له من يرضعه ، لم تقتل حتى ترضعه مدة الرضاع ، لقوله عليه السلام ‏:‏ حتى تكفل ولدها ولأنه إذا وجب حفظه وهو حمل ، وحفظه وهو مولود أولى ‏.‏ وإن وجدت مرضعة راتبة ، قتلت ، لأنه يستغنى بها عن أمه ، وإن وجدت مرضعات غير رواتب ، أو لبن بهيمة يسقي منه راتب ، جاز قتلها ، لأن له ما يقوم به ‏.‏ ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام ، لأن عليه ضرراً ، في اختلاف اللبن عليه ، وفي شرب لبن البهيمة ، فإن ادعت الحمل ، حبست حتى تتبين حالها ، لأن صدقها محتمل ‏.‏ وللحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها ‏.‏ وفيه وجه آخر ، أنها ترى القوابل ، فإن شهدن بحملها أخرت ، وإلا قتلت ، لأن الحق حال عليها ، فلا يؤخر بدعواها من غير بينة ، فإن أشكل على القوابل ، أو لم يوجد من يعرف ذلك ، أخرت حتى يتبين ، لأننا إذا أسقطنا القصاص خوف الزيادة ، فتأخيره أولى ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز استيفاء القصاص في الطرف ، إلا بعد الاندمال ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ‏:‏ طعن رجل رجلاً بقرن في رجله ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ أقدني ، قال ‏:‏ دعه حتى يبرأ فأعادها عليه مرتين أو ثلاثاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ دعه حتى يبرأ فأبى فأقاده منه ، ثم عرج المستقيد ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ برأ صاحبي ، وعرجت رجلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا حق لك فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه ‏.‏ رواه الدارقطني ‏.‏ ولأنه قد يسري إلى النفس ، فيصير قتلاً ، وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اقتص من الطرف على الوجه الشرعي ، فسرى ، لم يجب ضمان السراية ، سواء سرى إلى النفس ، أو عضو آخر ، لما روي أن عمر وعلياً رضي الله عنهما قالا ‏:‏ من مات من حد ، أو قصاص ، لا دية له ، الحق قتله ‏.‏ رواه سعيد في سننه ولأنه قطع مقدر مستحق ، فلم تضمن سرايته ، كقطع السارق ‏.‏ وإن تعدى في القطع ، أو قطع بآلة كالة ، أو مسمومة فسرى ، ضمن السراية ، لأنه سراية قطع غير مأذون فيه ، أشبه سراية الجناية ‏.‏ وسراية الجناية مضمونة ، لأنها سراية قطع مضمون ‏.‏ فإن اقتص في الطواف قبل الاندمال ، ثم سرت الجناية ، كانت سرايتها هدراً ، لخبر عمر بن شعيب ، ولأنه استعجل ما ليس له استعجال ، فبطل حقه ، كقاتل موروثه ‏.‏ وإن سرى القطعان جميعاً ، فهما هدر كذلك ‏.‏ وإن اقتص بعد الاندمال ، ثم انتقض جرح الجناية ، فسرى إلى النفس وجب القصاص به ، لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص ، فإن اختار الدية ، فله دية إلا دية الطرف المأخوذ في القصاص ‏.‏ فإن كانت دية الطرف كدية النفس ، فليس له العفو على مال كذلك ‏.‏ وإن كان الجاني ذمياً قطع أنف مسلم ، فاقتص منه بعد البرء ، ثم سرى إلى نفس المسلم ، فلوليه قتل الذمي ، وهل له أن يعفو على نصف دية المسلم ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ له ذلك ، لأن دية أنف اليهودي ، نصف دية المسلم ، فيبقى له النصف ‏.‏

والثاني ‏:‏ ليس له ذلك ، لأنه استوفى بدل أنفه ، أشبه ما لو كان الجاني مسلماً ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز الاقتصاص فيما دون النفس بالسيف ، ولا يجوز إلا بحديدة ماضية تصلح لذلك ، سواء كانت الجناية بمثلها أو بغيرها ، لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم ، أو يتعدى إلى المحل بما يفضي إلى الزيادة ، أو تلف النفس ، أو قلع عينه بأصبع ، لم يجز الاستيفاء منه بالإصبع ، كذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

فأما النفس ‏.‏ فإن كان القتل بالسيف ، لم يجز قتله إلا بالسيف ، لأنه آلة القتل ، وأوجاه ، فإن ضربه مثل ضربته فلم يمت ، كرر عليه حتى يموت ، لأن قتله مستحق ، ولا يمكن إلا بتكرار الضرب ‏.‏ وإن قتله بحجر ، أو تغريق أو حبس حتى يموت ، أو خنق ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يقتل بمثل ذلك ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ ‏.‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رضخ رأس يهودي رضخ رأس جارية بين حجرين ‏.‏ متفق على معناه ‏.‏ وروي عنه عليه السلام ‏:‏ أنه قال ‏:‏ من حرق حرقناه ، ومن غرق غرقناه ‏.‏ ولأن القصاص مشعر بالمماثلة ، فيجب أن يعمل بمقتضاه ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يقتل إلا بالسيف ، في العنق ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ لا قود إلا بالسيف رواه ابن ماجة ‏.‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ‏.‏ وقال ‏:‏ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ولأنه زيادة تعذيب في القتل ، فلم تجز المماثلة فيه ، كما لو قتله بسيف كال ‏.‏

وإن قتله بمحرم لعينه ، كالسحر وتجريع الخمر ، واللواط ، قتل بالسيف ، رواية واحدة ، لأن ذلك محرم لعينه ، فسقط ، وبقي القتل ، وإن قتله بسيف كال ، لم يقتل بمثله ، لأن المماثلة فيه لا تتحقق ، وإن حرقه ، فقال القاضي ‏:‏ فيه روايتين ، كالتغريق ، وقال بعض أصحابنا ‏:‏ لا يحرق بحال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يحرق بالنار إلا رب النار رواه ابن ماجة ‏.‏ وإن قطع يده من المفصل ، أو أوضحه ، ثم ضرب عنقه ، فهل يفعل به كما فعل ، أو يقتصر على ضرب عنقه ‏؟‏ على روايتين ، ذكرهما الخرقي ، وإن لم يضرب عنقه ، بل سرت الجناية إلى نفسه ، ففيه أيضاً روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يقتل إلا بالسيف ، في العنق ، لئلا يفضي إلى الزيادة على ما أتى به ‏.‏

والثانية ‏:‏ يفعل به كما فعل ، فإن مات وإلا ضربت عنقه ، لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر ‏.‏ والزيادة لضرورة استيفاء الحق محتملة ، بدليل تكرار الضرب في حق من قتل بضربة واحدة ، وإن جرحه جرحاً لا قصاص فيه ، كقطع الساعد والجائفة ، فمات ، أو ضرب عنقه بعده ، فقال أبو الخطاب ‏:‏ لا يقتل إلا بالسيف في العنق ، رواية واحدة ، لأنها جناية لا قصاص فيها ، فلا يستوفي بها القصاص ، كتجريع الخمر ، وذكر القاضي فيها روايتين ، كالتي قبلها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، رض رأس اليهودي بين حجرين ، ولأن المنع من القصاص فيها منفردة ، لخوف سرايتها إلى النفس ، وليس بمحذور هاهنا ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل موضع ، قلنا ‏:‏ ليس له أن يفعل مثل فعل الجاني ، إذا خالف وفعل ، فلا شيء عليه ، لأنه حقه ، وإنما منع منه ، لتوهم الزيادة ، ولو أجافه أو أمه أو قطع ساعده ، فاقتص منه مثل ذلك ، ولم يسر ، فلا شيء عليه كذلك ، وإن سرى ، ضمن سرايته ، لأنها سراية قطع ، غير مأذون فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه ، ، فكانت مما يجب به القصاص ، كالموضحة اقتص منها ، فإن ذهب ضوء عينيه ، فقد استوفي حقه ، وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء ، ولا يذهب بالحدقة ، مثل أن يحمي حديدة ، ويقربها منها وإن ذهب ضوء إحداهما ، غطيت العين الأخرى ، وقربت الحديدة إلى التي يقتص منها ، لما روى يحيى بن جعدة ‏:‏ أن أعرابياً ، قدم بحلوبة له المدينة ، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فنازعه ، فلطمه ، ففقأ عينه ، فقال له عثمان ‏:‏ هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه ‏؟‏ فأبى ، ، فرفعهما إلى علي رضي الله عنه ، فدعا علي بمرآة ، فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ، ثم أخذ المرآة بكلبتين ، فأدناها من عينه ، حتى سال إنسان عينه ‏.‏ فإن لم يمكن إلا بالجناية ، على العضو ، سقط القصاص ‏.‏ وإن أذهب بصره ، بجناية لا قصاص فيها ، كالهاشمة واللطمة ، عولج بصره بما ذكرنا ، ولم يقتص منه ، للأثر ، ولأنه تعذر القصاص في محل الجناية ، فعدل إلى أسهل ما يمكن ، كالقتل بالسحر ، وله أرش الجرح ، وذكر القاضي في اللطمة ‏:‏ أنه يفعل به ، كما فعل والصحيح ‏:‏ الأول ، لأن اللطمة لا يقتص منها منفردة ، فكذلك إذا أذهب العين ، كالهاشمة ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن وجب له القصاص في النفس ، فضرب في غير موضع الضرب عمداً ، أساء ويعزر ‏.‏ فإن ادعى أنه أخطأ في شيء يجوز الخطأ فيه ، قبل قبوله مع يمينه ، لأنه يدعي محتملاً ، وهو أعلم بنفسه ، وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ ، لم قبل قوله ، لعدم الاحتمال ، فإن أراد العود إلى الاستيفاء ، لم يمكنه منه ، لأنه لا يؤمن منه التعدي ثانياً ، وقال القاضي ‏:‏ يمكن ، لأن الحق له ‏.‏ والظاهر ، أنه لا يعود إلى مثله ‏.‏ وإن كان له القصاص في النفس فقطع طرفه ، فلا قصاص عليه ، لأنه قطع طرفاً يستحق إتلافه ضمناً ، فكان شبهة مسقطة للقصاص ويضمنه بديته ، لأنه طرف له قيمة حين القطع ، قطعه بغير حق ، فوجب ضمانه ، كما لو قطعه بعد العفو عنه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وجب له القصاص في الطرف ، فاستوفى أكثر منه عمداً ، وكان الزائد موجباً للقصاص، مثل أن وجب له قطع أنملة ، فقطع اثنتين ، فعليه القود ، وإن كان خطأ ، أو لا يجب في مثله القود ، مثل من وجبت له موضحة ، فاستوفى هاشمة ، فعليه أرش الزائد ، كما لو فعله في غير قصاص ، فغن كانت الزيادة لاضطراب الجاني ، فلا شيء فيها ، لأنها حصلت بفعله في نفسه ، فهدرت ‏.‏ وإن استوفى من الطرف بحديدة مسمومة فمات ، لم يجب القصاص ، لأنه تلف من جائز وغيره ، ويجب نصف الدية ، لأنه تلف من فعل مضمون وغير مضمون ، فقسم ضمانه بينهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وجب له قصاص في يد ، فقطع الأخرى ، فقال أبو بكر ‏:‏ يقع الموقع ، ويسقط القصاص ، سواء قطعها بتراضيهما ، أو بغيره ، لأن ديتها واحدة ، وألمهما واحد ، واسمهما ومعناهما واحد ، فأجزأت إحداهما عن الأخرى ، كالمتماثلتين ، ولأن إيجاب القصاص في الثانية ، يفضي إلى قطع يدين بيد واحدة ، وتفويت منفعة الجنس في حق من لم يفوتها ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ لا يجزئ ، لأن ما لا يجوز أخذه قصاصاً ، لا يجزئ بدلاً ، كاليد عن الرجل ، فعلى هذا إن أخذها بتراضيهما ، فلا قصاص على قاطعها ، لأنه قطعها بإذن صاحبها ، ويسقط القصاص في الأخرى ، وفي أحد الوجهين ، لأن عدوله عن التي يستحقها ، رضي بترك القصاص فيها ‏.‏ ولكل واحد على الآخر دية يده ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يسقط ، لأنه أخذ الثانية بدلاً عن الأولى ، ولم يسلم البدل ، فبقي حقه في المبدل ، فيقتص من اليد الأخرى ، ويعطيه دية التي قطعها ‏.‏ وإن قطعها كرهاً عالماً بالحال ، فعليه القصاص فيها ، وله القصاص في الأخرى ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أخرج يمينك لأقتص منها ، فأخرج يساره ، فقطعها يظنها اليمين ، وقال المخرج ‏:‏ عمدت إخراجها عالماً أنها لا تجزئ ، فلا ضمان فيها ، لأن صاحبها بذلها راضياً بقطعها ، بغير بدل ‏.‏ وإن قال ‏:‏ ظننتها اليمنى ، أو أنها والواجب قطع اليسرى ‏.‏ أو أنها تجزئ أو أخرجتها دهشة ، فعلى قاطعها ديتها ، لأنه بذلها لتكون عوضاً ، فلم تكن عوضاً ، فوجب بدلها كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد ، فتلفت عنده ، وإن علم المستوفي حال المخرج ، وحال اليد ، ففيها القود ، في أحد الوجهين ، لأنه تعمد قطع يد معصومة ، وفي الثاني ‏:‏ لا قود عليه ، لأنه قطعها ببذل صاحبها ورضاه ، وعليه ديتها ‏.‏ وإن جهل الحال ، فلا قصاص عليه ، وعليه ديتها ‏.‏ وإن كان القصاص على مجنون ،فقال له المقتص ‏:‏ أخرج يمينك ، فأخرج يساره ، فقطعها عمداً ، فعليه القصاص ‏.‏ وإن كان جاهلاً ، فعليه الدية ، لأن بذل المجنون لا يصح ، فصار كما لو بدأ بقطعه ‏.‏ وإن كان القصاص للمجنون ،فأخرج إليه يساره ، فقطعها ، ذهبت هدراً ، لأنه ليس من أجل الاستيفاء ، فإذا سلطه على إتلاف عضوه ، لم يضمنه ، كما لو أذن له في إتلاف ماله ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن وجب عليه القصاص في نفسه ، أو طرف ، فمات عن تركة وجبت دية جنايته ، في تركته ، لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط ، فوجبت الدية ، كقتل غير المكافئ ‏.‏ وإن لم يخلف تركة ، سقط الحق ، لتعذر استيفائه ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن قتل أو أتى حداً خارج الحرم ، ثم لجأ إليه ، لم يجز الاستيفاء منه في الحرم ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً ‏}‏ ‏.‏ ولما روى أبو شريح الكعبي ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر ، أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا ‏:‏ إن الله أذن لرسوله ، ولن يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم ، كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب متفق عليه ‏.‏ ولا يبايع ، ولا يشاري ، ولا يطعم ، ولا يؤوي ، ويقال له ‏:‏ اتق الله ، واخرج إلى الحل ‏.‏ فإذا خرج استوفي منه ، لأن ابن عباس قال ذلك ، ولأن في إطعامه تمكيناً في تضييع الحق الذي عليه ، ولا فرق بين القتل وغيره من العقوبات ‏.‏ وروى حنبل عنه ‏:‏ أن الحدود كلها تقام في الحرم ، إلا القتل ، لأن حرمة النفس أعظم ‏.‏ والمذهب ‏:‏الأول ‏.‏ قال أبو بكر ‏:‏ انفرد حنبل عن عمه في هذه الرواية ‏.‏ ولأن ما حرم النفس ، حرم الطرف كالعاصم ، فإن خالف واستوفى في الحرم ، أساء ووقع الموقع ، كما لو استوفى من غير حضرة السلطان ‏.‏ ومن جنى في الحرم ، جاز الاستيفاء منه في الحرم ، لأنه انتهك حرمته ، فلم ينتهض عاصماً له ، ولأن أهل الحرم ، يحتاجون إلى الزجر ‏.‏ عن الجنايات ، رعاية لحفظ مصالحهم ، كحاجة غيرهم ، فوجب أن تشرع الزواجر في حقهم ‏.‏


باب العفو عن القصاص


وهو مستحب لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏ ‏.‏ ومن وجب له القصاص ، فله أن يقتص ، وله أن يعفو عنه مطلقاً إلى غير بدل ، وله أن يعفو على المال، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏}‏ أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو ‏.‏ وروى أبو شريح الكعبي ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ثم أنتم يا خزاعة ، قد قتلتم هذا لقتيل من هذيل ، وأنا والله عاقله ، فمن قتل بعده قتيلاً ، فأهله بن خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وإذا عفا عن القصاص ، أو عن بعضه ، سقط كله ، لأنه حق ، مبناه على الإسقاط لا يتبعض ‏.‏ فإذا سقط بعضه ، سقط جميعه ، كالرق ، وإن وجب لجماعة فعفا بعضهم ، سقط كله ، لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتى برجل قتل قتيلاً ، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه ، فقالت امرأة المقتول ، وهي أخت القاتل ‏:‏ قد عفوت عن حقي ، فقال عمر ‏:‏ الله أكبر عتق القتيل قبل أن ‏.‏‏.‏‏.‏ رواه أبو داود ، ولما ذكرنا في المعنى ‏.‏ ثم إن عفا على مال ، انتقل حق الجميع إلى الدية ‏.‏ وإن عفا مطلقاً ‏.‏ انتقل حق الباقين إلى الدية ‏.‏ كما يسقط حق أحد الشريكين ، إذا أعتق شريكه إلى القيمة‏.‏ وقد روى زيد بن وهب ‏:‏ أن رجلاً دخل على امرأته ، فوجد عندها رجلاً ، فقتلها ، فاستعدى عليه إخوتها عمر رضي الله عنه ‏.‏ فقال بعض أخوتها ‏:‏ قد تصدقت ، فقضى لسائرهم بالدية ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح العفو ، بلفظ العفو ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه‏}‏ ‏.‏ وبلفظ الصدقة ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فمن تصدق به‏}‏ ‏.‏ وبلفظ الإسقاط ، لأنه إسقاط للحق ، وبكل لفظ يؤدي معناه ، لأن المقصود المعنى ، فبأي لفظ حصل ، ثبت حكمه كعقد البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

واختلفت الرواية في موجب العمد ‏.‏ فعنه ‏:‏ موجبه ، أحد شيئين ‏.‏ القصاص ، أو الدية ، لخبر أبي شريح ، لأن له أن يختار أيهما شاء ‏.‏ فكن الواجب أحدهما ، كالهدي والطعام في جزاء الصيد ‏.‏ وعنه ‏:‏ موجبه القصاص عيناً ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى‏}‏ ‏.‏ ولأنه بدل يجب حقاً الآدمي ، فوجب معيناً كبدل ماله ، فإن قلنا بهذا ، فعفا عنه مطلقاً ، سقط القصاص ، ولم تجب الدية ، لأنه لم يجب له غير القصاص وقد أسقطه العفو ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ موجبة أحد الشيئين ، فعفا عن القصاص مطلقاً ، وجبت الدية ، لأن الواجب أحدهما ، فإن ترك أحدهما ، تعين الآخر ‏.‏ وإن اختار الدية ، سقط القصاص ، وثبت المال ‏.‏ وإن اختار القصاص ، تعين ، وقال القاضي ‏:‏ وله الرجوع ، إلى المال ، لأن القصاص أعلى ، فكان له أن ينتقل إلى الأدنى ، ولهذا قلنا ‏:‏ له المطالبة بالدية وإن كان القصاص واجباً عيناً ، ويحتمل أنه ليس له ذلك ، لأنه تركها فلم يرجع إليها ، كما لو عفا عنها وعن القصاص ‏.‏ ولو جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص ، فاشتراه بأرشها ، سقط القصاص ، لأن شراءه بالأرش اختيار للمال ، ثم إن كان أرشها مقدراً بذهب ، أو فضة ، صح الشراء ، لأنه ثمن معوم ‏.‏ وإن كان إبلاً ، لم يصح ، لأن صفتها مجهولة ، ، فلم يصح جعلها عوضاً ، كما لو اشترى بها غير الجاني ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح عفو المفلس والسفيه عن القصاص ، لأن الحجر عليها في المال ، وليس هذا بمال ‏.‏ فإن عفوا إلى مال ، ثبت ‏.‏ وإن عفو إلى غير مال ، وقلنا ‏:‏ الواجب أحد شيئين ، ثبت المال لأنه واجب ، وليس لهما إسقاط المال ، وإن قلنا ‏:‏ الواجب القصاص عيناً ، صح عفوهما ، لأنه لم يجب إلا القصاص وقد أسقطاه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن وجب القصاص لصغير ، فليس لوليه العفو على غير مال ، لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه ‏.‏ وإن عفا إلى مال ، وللصغير كفاية من ماله ، أو له من ينفق عليه ، لم يصح عفوه ، لأنه يسقط القصاص من غير حاجة ‏.‏ وإن لم يكن له ذلك ، صح عفوه ، لأن للصغير حاجة إليه ، لحفظ حياته ، ويحتمل أن لا يصح ، لأن نفقته في بيت المال ‏.‏ وإن قتل من لا ولي له ، فالأمر إلى السلطان ، وإن رأى قتل ، وإن رأى عفا على مال ، لأن الحق للمسلمين فكان على الإمام فعل ما يرى المصلحة فيه ‏.‏ وإن أراد أن يعفو على غير مال ، لم يجز لأنه لا حظ للمسلمين فيه ‏.‏ ويحتمل جواز العفو على غير مال ، لأنه روي عن عثمان أنه عفا عن عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان ، ولم ينكره أحد من الصحابة ، ولأنه ولي الدم ،فجاز له العفو على غير مال ، كسائر الأولياء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا وكل من يستوفي له القصاص ، ثم عفا عنه ، ثم قتله الوكيل قبل علمه بالعفو ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يصح العفو ، لأنه عفا في حال لا يمكن تلافي ما وكل فيه ، فلم يصح ، كالعفو بعد رمي الحربة إلى الجاني ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، لأنه حق له ، فصح عفوه عنه بغير علم الوكيل ، كالدين ، ولا قصاص على الوكيل ، لأنه جهر تحريم القتل ، وعليه الدية ، لأنه قتل معصوباً ، ويرجع بها على العافي في أحد الوجهين ، لأنه غره ، فرجع عليه بما غرم ، كالمغرور بحرية الأمة ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يرجع عليه ، لأنه محسن بالعفو ، بخلاف الغار بالحرية ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا جنى عليه جناية ، توجب القصاص فيما دون النفس ، فعفا عنها ، ثم سرت إلى نفسه ، فلا قصاص فيها ، لأن القصاص لا يتبعض ، وقد سقط في البعض ، فسقط في الكل ‏.‏ وإن كانت الجناية لا توجب القصاص ، كالجائفة ، وجب القصاص في النفس ، لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه ، فلم يؤثر العفو ‏.‏ وإن كان عفوه على مال ، فله الدية كاملة في الموضعين ‏.‏ وإن عفا عن دية الجرح ، صح عفوه ، لأن ديته تجب بالجناية ، بدليل أنه لو جنى على طرف عبد ، فباعه سيده ، ثم برأ ، كان أرش الجناية للبائع دون المشتري ، وإنما تتأخر المطالبة به ، كالدين المؤجل ، فعلى هذا تجب له دية النفس إلا دية الجرح ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء ، لأن القطع غير مضمون ، فكذلك سرايته ‏.‏ والأول أولى ، لأن القطع موجب ، وإنما سقط الوجوب بالعفو ، فيختص السقوط بمحل العفو ‏.‏ وإن قال ‏:‏ عفوت عن الجناية وما يحدث منها ، صح عفوه ، ولا قصاص في سرايتها ولا دية ، لأنه إسقاط للحق بعد انعقاد سببه ، فصح ، كالعفو عن الشفعة بعد البيع ‏.‏ ولا يعتبر خروج ذلك من الثلث ‏.‏ نص عليه ، لأن الواجب القصاص عيناً ، أو أحد شيئين ، فما تعين إسقاط أحدهما ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه إن مات من سرايتها ، لم يصح العفو ، لأنها وصية لقاتل ، وعنه ‏:‏تصح وتعتبر من الثلث ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع إصبعاً ، فعفا عنها ، ثم سرى إلى الكف ، ثم اندمل ، فالحكم فيه على ما فصلناه في السراية إلى النفس ‏.‏ فإن قال الجاني ‏:‏ عفوت عن الجناية وما يحدث منها ، فأنكر الولي العفو عن سرايتها ، فالقول قوله ، لأنه منكر ، والأصل معه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع يده ، فعفا عن القصاص ، وأخذ نصف الدية ، فعاد الجاني فقتله ، فلوليه القصاص في النفس ، لأن القتل انفرد عن القطع ، فوجب القصاص فيه ، كما لو قتله غير القاطع ‏.‏ فإن اختار الدية ، فقال أبو الخطاب ‏:‏ له الدية كلها ، لأن القتل منفرد عن القطع ، فلم يدخل حكمه في حكمه ، كما لو كان القاطع غيره ، ولأن من ملك القصاص في النفس ، ملك العفو عن الدية كلها ، كسائر أولياء المقتولين ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ له نصف الدية ، لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل برئها ، كان بمنزلة سرايتها ، ولو سرى القطع ، لم يجب إلا نصف الدية ، كذا هاهنا ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا قطع يد إنسان ، فسرى إلى نفسه ، فاقتص وليه في اليد ، ثم عفا عن النفس على غير مال ، جاز ، ولا شيء عليه ، سواء سرى القطع ، أو وقف ، لأن العفو يرجع إلى ما بقي ، دون ما استوفي ، فأشبه ما لو قبض بعض ديته ، ثم أبرأه من باقيها ، وإن عفا على مال ، فوجب له نصف الدية ، لأنه أخذ مال ما يساوي نصف الدية ‏.‏ وإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه ، فاستوفى من يديه ، ثم عفا عن النفس ، لم يجب له شيء ، لأنه لم يبق من الدية شيء ‏.‏ وإن قطع نصراني يد مسلم ، فسرى ، فقطع الولي يده ، ثم عفا عن نفسه على ماله ، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما ‏:‏ له نصف دية مسلم ، لأنه رضي بأخذ يد النصراني بدل يد وليه ، فبقي له النصف ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب له ثلاثة أرباعها ، لأنه استوفى يداً قيمتها ربع دية مسلم ، فبقي له ثلاثة أرباعها ‏.‏ وإن قطع يده فسرى إلى نفسه ، فاستوفى من يده وعفا عن نفسه ، فعلى الوجه الأول ‏:‏ لا شيء له ، لأنه رضي بيده بدلاً من يديه ، فيصير كما لو استوفى ديته ‏.‏ وعلى الوجه الثاني ‏:‏ له نصف الدية ، لأنه أخذ ما يساوي نصفها ، وبقي له نصفها ‏.‏ وإن كان الجاني امرأة على رجل ، فعلى ما ذكرناه من التفصيل ‏.‏


كتاب الديات


تجب الدية بقتل المؤمن ، والذمي ، والمستأمن ومن بيننا وبينه هدنة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ فأما من لم تبلغه الدعوة ، فلا يضمن ، لأنه لا إيمان له ، ولا أمان ، فأشبه الحربي ‏.‏

وقال أبو الخطاب ‏:‏ تجب ديته ، لأنه محقون الدم من أهل القتال ، أشبه الذمي ‏.‏ وإن قتل في دار الحرب مسلماً كاتماً لإسلامه يظنه حربياً ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا دية فيه ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏.‏ ولم يذكر دية ‏.‏

والثانية ‏:‏ يضمنه ، لأنه قتل مؤمناً معصوماً خطأ ‏.‏ وإن أرسل سهمه إلى حربي ، فتترس بمسلم ، فقتله ففيه روايتان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يضمنه ذلك ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يضمنه ، لأنه مضطر إلى رميه غير مفرط في فعله ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع طرف مسلم ، فارتد ومات ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يضمن شيئاً ، لأن القطع صار قتلاً لنفس لا ضمان فيها ‏.‏

والثاني ‏:‏ تجب دية الطرف ، لأن الجناية أوجبت ديته ، لأن الجناية أوجبت ديته ، والردة قطعت سرايته ، فلا يسقط ما تقد وجوبه ، كما لو قطع يده ، فقتل المجروح نفسه ، وفي قدر الواجب وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أرش الجرح بالغاً ما بلغ ، كما لو قتل الرجل نفسه ‏.‏

والثاني ‏:‏ أقل الأمرين من أرشه ، أو دية النفس ، لأنه لو لم يرتد ، لم يجب أكثر من دية النفس ، فإذا ارتد ، كان أولى ألا يريد ضمانه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع يد مسلم فارتد ، تم أسلم ومات ، وزمن الردة مما لا تسري فيه الجناية ، ففيه دية كاملة ، لأنه زمن الردة لا أثر له ، وإن كان مما تسري فيه الجناية ، فكذلك على ظاهر كلامه ، لأنه مسلم في حال الجرح والموت ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يحتمل وجوب دية كاملة اعتباراً بحال استقرار الجناية ، ويحتمل أن يجب نصفها ، لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة ‏.‏ أشبه من مات من جرح نفسه وأجنبي ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع يد مرتد أو حربي فأسلم ومات ، لم يضمن ، لأنه مات من سراية جرح مأذون فيه ، فلم يضمن كالسارق ، إذا سرى قطعه ‏.‏ ولو رمى حربياً ، أو مرتداً ، فلم يقطع به السهم حتى أسلم ، فلا ضمان فيه ، لأنه وجد السبب منه في حال هو مأمور بقتله ، على وجه لا يمكن تلافيه ، أشبه ما لو جرحه ، ثم أسلم ‏.‏ ويحتمل كلام الخرقي وجوب ديته ، لأنه قال ‏:‏ لو رمى إلى كافر أو عبد ، فلم يقع به السهم ، حتى عتق وأسلم ، فعليه دية حر مسلم ‏.‏ ولأن الاعتبار في الضمان بحال الجناية دون حال السبب ، بدليل ما لو حفر بئراً لحربي ، فوقع فيها بعدما أسلم ‏.‏ ويحتمل التفريق بين الحربي والمرتد ، لأن قتل الحربي مأمور به ، وقتل المرتد إلى الإمام ‏.‏ وإن أرسل سهمه إلى مسلم ، فأصابه بعد أن ارتد ، لم يضمنه ‏.‏ لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون ، أشبه ما لو أرسله على حي ، فأصابه بعد موته ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اشترك الجماعة في القتل ، فعليهم دية واحدة تقسم على عددهم ، لأنه بدل متلف يتجزأ ، فيقسم بين الجماعة على عددهم ، كغرامة المال ‏.‏ وإن جرحه أحدهم جراحات ، وسائرهم جرحاً واحداً ، فهم سواء لما تقدم ، وإن كان القتل عمداً ، فالدية واحدة ، وقال ابن أبي موسى ‏:‏ إذا قلنا ‏:‏ له أن يقتص من جميعهم ، ففيه روايتان ‏:‏

أظهرهما ‏:‏ أن على كل واحد دية كاملة ، بدلاً عن نفسه ‏.‏

والثانية ‏:‏ تجب دية واحدة ، وهذا أصح ، لأن الدية بدل المحل ، فلا يختلف بكثرة المتلفين وقلتهم ، كبدل المال ‏.‏ وإن أراد الولي أن يقتص من بعضهم ، ويعفوا عن البعض ، ويأخذ الدية من الباقين ، فله ذلك ، ويأخذ منهم حصتهم من الدية ، لما ذكرنا ‏.‏ والمكره والمكره مشتركان في القتل ، حكمهما ما ذكرنا ‏.‏ وكذلك حكم الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة ، لما ذكرناه من حيث علي رضي الله عنه ومن المعنى فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن طرح إنساناً في ماء يسير ، يمكنه التخلص منه ، فأقام فيه قصداً حتى هلك ، لم يجب ضمانه ، لأن طرحه لم يهلكه ، وإنما هلك بإقامته ، فكان هو المهلك لنفسه ‏.‏ وإن طرحه في نار يمكنه الخلاص منها ، فلم يفعل حتى هلك ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يضمنه كذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ يضمنه ، لأن تركه التخلص لا يسقط ضمان الجناية ، كما لو جرحه ، فترك مداواة نفسه حتى هلك به وفارق الماء ، لأن الناس يدخلونه للسباحة وغيرها ‏.‏

وإن شده في موضع ،فهلك بزيادة الماء ، ضمنه ‏.‏ فإن كانت الزيادة معلومة ، كمد البصرة ‏.‏ فهو عمد محض ‏.‏ وإن كانت تحتمل ويحتمل ، فهو شبه عمد ‏.‏ وإن كانت نادرة ‏.‏ فهو خطأ ، وإن ألقاه في ماء يسير ، فالتقمه حوت ، فهو خطأ محض ‏.‏ وإن كان الماء كثيراً ، فهو شبه عمد ‏.‏ وإن ألقاه مكتوفاً ، فأكله سبع ، فهو شبه عمد ، لأنه عمد إلى فعل لا يهلك به غالباً ، فهلك به ، أشبه ما لو وكزه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن صاح بصبي ، أو تغفل غافلاً ، فصاح به ، فسقط عن شيء هلك به ، ضمنه ، لأنه هلك بسببه ‏.‏ فإن قصده بالصياح ، فهو شبه عمد ‏.‏ وإن لم يقصده ، فهو خطأ ‏.‏ وإن كان العاقل متيقظاً لم يضمنه ، لأن ذلك لا يقتله ‏.‏ وإن اتبع إنساناً بسيف ، فوقع في شيء هلك به ، ضمنه ، لأنه تسبب إلى إهلاكه ، وكذلك إن طرده إلى موضع ، فأكله به سبع ‏.‏

فصل

وإن بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها ، ففزعت فألقت جنيناً ميتاً ، وجب ضمانه ، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها ، فقالت ‏:‏ يا ويلها ما لها ولعمر ‏؟‏‏!‏ فبينا هي في الطريق إذ فزعت ، فضربها الطلق ، فألقت ولداً ، فصاح الصبي صيحتين ، ثم مات ، فاستشار عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار بعضهم ‏:‏ أن ليس عليك شيء ، إنما أنت مؤدب، فصمت علي ، فأقبل عليه عمر ، فقال ‏:‏ ما تقول يا أبا الحسن ‏؟‏ فقال ‏:‏ إن كانوا قالوا برأيهم ، فقد أخطأوا رأيهم ، وإن كانو قالوا في هواك ، فلم ينصحوا لك ‏.‏ إن ديته عليك ، لأنك أفزعتها ، فألقت ‏.‏

وإن هلكت المرأة بسبب وضعها ، ضمنها أيضاً ، لأنه سبب لإتلافها ‏.‏ وإن فزعت فماتت ، لم يضمنها ، لأنه ليس بسبب لهلاكها غالباً ، ويحتمل أن يلزمه ضمانها ، لأنها هلكت بفعله ، فضمنها ، كما لو ضربها سوطاً فماتت ‏.‏ وإن زنى بامرأة مكرها ، فأحبلها ، فماتت من الولادة ، ضمنها ، لأنها ماتت بسبب تعدى به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن رمى إنساناً من علو ، فتلقاه آخر بسيفه ، فقتله ، فالضمان على القاتل ، لأنه مباشر ، والملقي متسبب ، فكان الضمان على على المباشر ، كالحافر ، والدافع ‏.‏

فصل

ومن حفر بئراً في الطريق ، أو وضع حجراً أو حديدة ، أو قشر بطيخ ، أو ماء ، فهلك به إنسان ، ضمنه ، لأنه تعدى به ، ولزم ضمان ما هلك به، كما لو جنى عليه ‏.‏ فإن دفعه آخر في البئر أو على الحجر ، أو الحديدة ، فالضمان على الدافع ، لأنه مباشر ، والآخر صاحب سبب ‏.‏ وإن حفر بئراً ، أو نصب حديدة ، ووضع آخر حجراً ، فعثر بالحجر ، فوقع في البئر ، أو على الحديدة ، فمات ، فالضمان على واضع الحجر ، لأنه الذي ألقاه ، فأشبه ما لو ألقاه بيده ‏.‏

فصل

ومن حفر بئراً في طريق لنفسه ، ضمن ما هلك بها ، لأنه ليس له أن يختص بشيء من طريق المسلمين ‏.‏ وكذالك إن حفرها فيي ملك غيره بغير إذنه، لأنه متعد بحفرها ‏.‏ وإن حفرها في الطريق لمصلحة المسلمين وكانت في طريق ضيق ، ضمن ما تلف بها ، لأنه ليس له ذلك ‏.‏ وإن كانت في طريق واسع ، لم يضمن ، لأنه لم يتعد بها ، فلم يضمن ما تلف بها ،كما لو أذن فيها الإمام ‏.‏ وعنه ‏:‏ إن حفرها بغير إذن الإمام ، ضمن لأن ما يتعلق بمصلحة المسلمين يختص الإمام بالنظر فيه ‏.‏ فمن افتأت عليه ، كان متعدياً به فضمن ما هلك به ‏.‏ وإن بنى مسجداً في موضع لا ضرر فيه ، أو علق قنديلاً في مسجد ، أو باباً أو فرش في حصيراً ، لم يضمن ماتلف به ، لأن هذا من المصالح التي يشق استئذان الإمام فيها ، فملك فعله بغير إذنه ، كإنكار المنكر ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أنه كحفر البئر في الطريق ‏.‏ وإن حفر بئراً في موات ، لينتفع بها ، أو لينتفع بها المسلمون ، أو ليتملكه ، لم يضمن ما تلف بها ، لأنه غير متعد بحفرها ‏.‏ وإن كان في داره بئر ، أو كلب عقور ، فدخل إنسان بغير إذنه ، فهلك بها ، أو عقر الكلب ، لم يضمنه ، لأن التفريض من الداخل ، وإن دخل بإذنه والبئر مكشوفة في موضع يراها الداخل ، لم يضمنه ‏.‏ وإن كانت مغطاة ، أو في ظلمة ، أو الداخل ضريراً ، ضمنه ، لأنه فرط في ترك إعلامه ‏.‏ وإن وضع حجراً في ملكه ، وحفر آخر بئراً في الطريق ، فتعثر بالحجر ، فوقع في البئر ، فالضمان على الحافر ، لأن العدوان منه ، فكان الضمان عليه ‏.‏ والواضع في ملكه لا عدوان منه ‏.‏ فلم يضمن ‏.‏ وإن وضع جرة على سطحه ، فألقتها الريح على شىء فأتلفته ، لم يضمنه ، لأنه غير متعد بالوضع ، ولا صنع له في إلقائها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن بنى حائطاً مائلاً إلى الطريق ، أو إلى ملك غيره ، فسقط على شىء أتلفه ، ضمنه لأنه تلف بسبب تعدى به ‏.‏ وإن بناه في ملكه مستوياً ، فمال إلى الطريق ، أو إلى ملك غيره ، فأمره المالك بنقضه ، أو ‏أمره مسلم ، أو ذمي بنقص المائل إلى الطريق ،وأمكنه ذلك فلم يفعل ، ضمن ما تلف به أحد الوجهين ، لأن ذلك يضر المالك والمارة ، فكان لهم المطالبة بإزالته ‏.‏ فإذا لم يزله ، ضمن ‏.‏ كما لو بناه مائلاً ‏.‏ والثاني ‏:‏ لا يضمن ، لأنه وضعه في ملكه ، وسقط بغير فعله ، فأشبه الجرة التي ألقتها الريح ‏.‏ ويحتمل أن يضمن وإن لم يطالب بنقضه ، لأن بقائه مائلاً يضر ، فلزمه إزالته وإن لم يطالب به ، كالذي بناه مائلا ‏.‏ وإن لم يمكنه نقضه ، لم يضمن ، لأنه غير مفرط ‏.‏ وإن أخرج جناحاً ، أو ميزاباً إلى الطريق ، فوقع على إنسان ، ضمنه ، لأنه تلف بسبب تعدى به ‏.‏ فأشبه ما لو بنى حائط مائلاً ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا رمى إلى الهدف ، فمر صبي فأصابه السهم ، فقتله أو مرت بهيمة ، فأصابها ، ضمن ذلك ، لأنه أتلفه وإن قدم إنسان الصبي ، أو البهيمة إلى الهدف ، فأصابهما السهم ، فالضمان على من قدمهما ، لأن الرامي كالحافر ،والآخر كالدافع ‏.‏ وإن أمر من لا يميز أن ينزل بئراً ، أو يصعد نخلة ، فهلك بذلك ، ضمنه ، لأنه تسبب إلى إتلافه ‏.‏ وإن أمر من يميز بذلك ، فهلك به ، لم يضمنه ، لأنه يفعل ذلك باختياره ‏.‏ فإن كان الآمر السلطان ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لايضمنه كذلك ‏.‏

والثاني ‏:‏ يضمنه ، لأن عليه طاعة السلطان ، فأشبه ما لو أكرهه على فعله ‏.‏ وإن غصب صبياً ، فأصابته عنده صاعقة ، أو نهشته حية ، ضمنه ، لأنه تلف في يده العادية ‏.‏ وإن مرض ، فمات ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يضمنه كذلك ، فأشبه العبد الصغير ‏.‏

والثاني ‏:‏ لايضمنه ، لأنه حر لا تثبت اليد عليه في الغصب ، فأشبه الكبير ‏.‏ وإن أدب المعلم صبيانه ، أو الرجل ولده أو زوجته ، أو السلطان رعيته ، الأدب المأمور به ، لم يضمن ما تلف به ، لأنه أدب مأمور به ، فلم يضمن ما تلف به كالحد ‏.‏ ويحتمل أن يضمن ، كما لو أرسل إلى امرأة ليحضرها ، فأجهضت جنينها ‏.‏

فصل ‏:‏

وما أتلفت الدابة بيدها أو فمها ، ضمنه راكبها وقائدها وسائقها ‏.‏ وما أتلفت برجلها ، أو ذنبها ، لم يضمنه ، لما روي عن النبي ‏(‏ص ‏)‏ أنه قال ‏:‏ الرجل جبار ‏.‏ رواه سعيد ‏.‏ فمفهومه أن جناية اليد مضمونة ، والفم في معناها ، ولأن اليد يمكن حفظها ، فضمن ما تلف بها ، بخلاف الرجل ‏.‏ وعنه ‏:‏ في السائق أنه يضمن جناية الرجل والذنب ، لأنه يشاهدهما ، فأشبه اليد في حق القائد ‏.‏ وإن بالت في الطريق ، ضمن ما تلف به ، لأنه كما لو صبه فيها ‏.‏ ويحتمل أن لا يضمن في هذا ، لأنه لا يمكن التحرز منه ، أشبه جناية الرجل ‏.‏ وإن كان على دابة راكبان ، فالضمان على الأول منهما ، لأنه المتصرف فيها ‏.‏ وإن كان لها قائد وسائق ، اشتركا في الضمان ، لا شتراكهما في تمشيتها ‏.‏ وإن كان معهما راكب ، فالضمان بينهم أثلاثاً كذلك ‏.‏ ويحتمل أن يختص به الراكب ، لأنه أقوى منهما يداً ‏.‏ والجمل المقطور إلى جمل عليه راكب ، كالذي في يده ، لأن يده عليه ، وليس عليه ضمان ما جنى ولد البهيمة ، لأنه لا يمكنه حفظه ‏.‏ وكذلك ما جنت الدابة ‏.‏ إذا لم يكن عليها يد ، لم يضمن مالكها كذلك ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اصطدم نفسان فماتا ‏.‏ فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه ، لأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه ، وإنما هو قرب نفسه إلى محل الجناية عن غير قصد ‏.‏ وإن ماتت دابتاهما ، ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر ‏.‏ وإذا كان أحدهما يسير والآخر واقفاً ، فعلى السائر دية الواقف وضمان دابته ، لأنه قتلهما بصدمته ، ولا ضمان على الواقف ، لأنه لا فعل منه ، إلا أن يقف في طريق ضيق ، فيكون الضمان عليه ، لأنه تعدلى بالوقوف فيه ، فأشبه واضع الحجر فيه ‏.‏ وإن تصادما عمداً وذلك مما يقتل غالباً ، فدماؤهما هدر ، لأن ضمان كل واحد منهما يلزم الآخر في ذمته ، فيتقاصان ، ويسقطان ‏.‏ وإن ركب صبيان ، أو أركبهما وليهما ، فاصطدما ، فهما كالبالغين ‏.‏ وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما ، فعليه ضمان ما تلف منهما ، لأنه تلف بسبب جنايته ‏.‏ وإن أركب الصبي من لا ولاية له ، فصدمه كبير فقتله ، فالضمان على الصادم ، لأنه تلف بسبب جنايته ‏.‏ وإذا اصطدمت امرأتان حاملان ، فحكمهما في أنفسهما ما ذكرنا ‏.‏ وعلى كل واحد منهما نصف ضمان جنينها ، ونصف ضمان جنين الأخرى ، لأنهما اشتركا في قتلهما لجنايتهما عليهما ‏.‏ وإن تصادم عبدان فماتا ، فهما هدر ، لأن جناية كل واحد منهما تتعلق برقبته ، فتفوة بفواته ، فإن مات أحدهما فقيمته في رقبة الآخر ، كسائر جناياته ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ، لتفريط من القيمين ، مثل تقصيرهما في آلتهما ، وتركهما ضبطهما مع إمكانه ، إو تسييرهما إياهما في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها ، ضمن كل واحد منها سفينة الآخر بما فيها ، كالفارسين إذا اصطدما ‏.‏ فإن لم يفرطا ، فلا ضمان عليهما ، لأنه تلف حصل بأمر لا صنع لهما فيه ، ولا تفريط منهما ، أشبه التلف بصاعقة ‏.‏ وإن فرط أحدهما دون صاحبه ، ضمن المفرط وحده ‏.‏ وإن فرطا جميعاً ، وكان أحدهما منحدراً ، ‎والآخر مصعداً ، فعلى المنحدر ضمان المصعد ، لأن المنحدر كالسائر ، والمصعد كالواقف ، فيختص المنحدر بالضمان ، كالسائر ‏.‏ ومن غرق سفينة فيها ركبان بسبب يقتل مثله غالباً عمداً ، فعليه القصاص ، وإن كان خطأ ، فعلى عاقلته دية الركبان ‏.‏ وإن كان عمداً بسبب لا يقتل مثله غالباً ، فقتلهم شبه عمد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قال بعض ركبان السفينة لرجل ‏:‏ ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه ، وجب عليه ضمانه ، لأنه استدعى منه إتلاف ماله بعوض ، لغرض صحيح ، فأشبه ما لو قال ‏:‏ أعتق عبدك وعلي ثمنه ‏.‏ وإن قال ‏:‏ ألقه وضمانه علي وعلى ركبان السفينة ، ففعل ، فعليه بحصته من الضمان ‏.‏ إن كانوا عشرة ، فعليه العشر ، ويسقط سائره ، لأنه جعل الضمان على الجميع ، فلم يجب أكثر من حصته ‏.‏ وإن قال ‏:‏ ألق ونحن نضمنه لك ، وعلي تحصيله لك ، لزمه ، لأنه تكفل له بتحصيل عوضه ‏.‏ وكذلك إن قال ‏:‏ قد أذنوا لي في الضمان عنهم ، فألقه ونحن ضمنا لك ، ضمن جميعه ، لأنه غره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا رمى أربعة بالمنجنيق ، فقتل الحجر رجلاً ، فعلى كل واحد منهم ربع ديته ، وإن قتل الحجر أحدهم ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يسقط ربع ديته ، ويلزم ثلاثة أرباعها ، لأنه مات بفعله وفعلهم ، فهدر ما قابل فعله ، ولزم شركاءه الباقي ، كما مات من جراحاتهم ، وجراح نفسه ،

الثاني ‏:‏ يلزم شركاءه جميع ديته ، ويلغو فعل نفسه ، قياساً على المصطدمين ‏.‏ وإن كانوا ثلاثة فما دون ، ففيه وجه ثالث ‏.‏ وهو أن يجب ثلث دية المقتول على عاقلته لورثته ، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا وقع رجل في بئر ، ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فمات الأول ، وجبت ديته على الثاني ، لما روى علي بن رباح اللخمي ‏:‏ أن بصيراً كان يقود أعمى فخرا في بئر ، ووقع الأعمى فوق البصير فقتله ، فقضى عمر بعقل البصير على الاعمى ، فكان الأعمى ينشد في الموسم ‏:‏

يا أيها الناس لقيت منكرا ** هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا

خرا معاً كلاهما تكسرا **

ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه ، فوجبت ديته عليه ‏.‏ وإن مات الثاني ، هدرت ديته ، لأنه لا صنع لغيره في هلاكه ‏.‏ وإن ماتا معاً ، فعليه ضمان الأول ، ودمه هدر كذلك ‏.‏ وإن وقع عليهما ثالث ، فدية الأول على الثاني والثالث ، لأنه مات بوقوعهما عليه ، ودية الثاني على الثالث ، لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته ، ودم الثالث هدر ‏.‏ هذا إذا كان الوقوع عليه هو الذي قتله ، فإن كان البئر عميقاً يموت الواقع بمجدر وقوعه ، لم يجب الضمان على أحد ، لأن كل واحد منهم مات بوقعته ، لا بفعل غيره ‏.‏ وإن احتمل الأمرين ، فكذلك ، لأن الأصل عدم الضمان ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن خر رجل في زبية أسد ، فجذب ثانياً ، وجذب الثاني ثالثاً ، وجذب الثالث رابعاً ، فقتلهم الأسد ، فدم الأول هدر ، لأنه لا صنع لأحد في إلقائه ، وعليه دية الثاني ، لأنه السبب في قتله ، وعلى الثاني دية الثالث ، كذلك ، وعلى الثالث دية الرابع ، كذلك ‏.‏ وفيه وجه آخر ‏:‏ أن دية الثالث على الأول والثاني نصفين ، لأن جذب الأول الثاني سبب في جذب الثالث ، ودية الرابع على الثلاثة أثلاثاً كذلك ‏.‏ وقد روي عن أحمد ‏:‏ أنه ذهب فيها إلى قضية علي رضي الله عنه ، وهو ما روى حنش الصنعاني ‏:‏ أن قوماً من أهل اليمين حفروا زبية للأسد فوقع فيها ، فاجتمع الناس على رأسها ، فهوى فيها واحد ، فجذب ثانياً ، فجذب الثاني ثالثاً ، ثم جذب الثالث رابعاً ، فقتلهم الأسد ، فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه ، فقال ‏:‏ للأول ربع الدية ، لأنه هلك فوقه فوقه ثلاثة ، وللثاني ثلث الدية ، لأنه هلك فوقه اثنان ، وللثالث نصف الدية ، لأنه هلك فوقه واحد ، وللرابع الدية كاملة ، وقال ‏:‏ وإني أجعل الدية على من حفر رأس البئر ، فبلغ ذلك النبي ‏(‏ ص‏)‏ فقال ‏:‏ هو كما قال رواها سعيد بن منصور بإسناده ، وذكرها أحمد ‏.‏ واحتج بها ، وذهب إليها ، فإن كان هلاكهم لوقوع بعضهم على بعض ‏.‏ فلا شيء على الرابع ، لأنه لا صنع له ، وتجب ديته علىالثالث في إحدى الوجهين ، لأنه المباشر لجذبه ‏.‏ وفي الثاني ‏:‏ ديته على الثلاثة أثلاثاً ، وتجب دية الثالث على الثاني في أحد الوجوه ، والثاني تجب ديته على الأول والثاني نصفين ، ويلغى فعل نفسه ، والثالث يهدر ما قابل فعله في نفسه ، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته ‏.‏ والرابع يهدر نصف ديته ، ويجب على عاقلة الثاني نصفها ‏.‏ وأما الثاني ‏:‏ ففيه ثلاثة أوجه ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تجب ديته على الأول والثالث ‏:‏ نصفين ‏:‏

والثاني ‏:‏ يهدر من ديته ثلثها ، لأنه قابل فعل نفسه ، ويجب ثلثاها على الأول والثالث ‏.‏

والثالث ‏:‏ تجب الدية على عواقلهم ثلاثتهم ‏.‏

وفي الأول ثلاثة أوجه ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تجب ديته على الثاني والثالث نصفين ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب عليهما ثلثاها ويسقط ثلثها ‏.‏

والثالث ‏:‏ تجب الدية على عواقلهم كلهم ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا تجارح رجلان ، زعم كل واحد منهما ، أنه جرح الآخر دفعاً عن نفسه ، وجب على كل واحد منهما ضمان صاحبه ، لأن الجرح قد وجد ، وما يدعيه من القصد لم يثبت فوجب الضمان ، والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في النفي القصاص ، لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص ، لأنه يندرئ بالشبهات ‏.‏

فصل

ومن اضطر إلى طعام إنسان ، أو شرابه ، فمنعه مع غناه عنه ، فهلك ، ضمنه ، لأن عمر رضي الله عنه قضى بذلك ، ولأنه قتله بمنعه طعاماً يجب دفعه إليه ، فضمنه ، كما لو منعه طعامه فهلك بذلك ‏.‏ وإن رآه في مهلكة ، فلم ينجيه ، لم يضمنه ، لأنه لم يتسبب إلى قتله بخلاف التي قبلها ، وقال أبو الخطاب رحمه الله ‏:‏ يلزمه ضمانه ، على قياس التي قبلها ، ولا يصح لأنه في الأول منعه من تناول ما تبقى حياته به ، فنسب هلاكه إليه ، بخلاف هذا ، فإن لا صنع له فيه ‏.‏
باب مقادير الديات


دية الحر المسلم ‏:‏ مائة من الإبل ، لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن ، بكتاب فيه الفرائض والسنن ‏:‏ وإن في النفس الديات ، مائة من الإبل ‏.‏ رواه مالك عن الموطاء والنسائي في السنن ‏.‏

فصل ‏:‏

ودية العمد المحض ، وشبه العمد ، أرباع ، خمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون ينت لبون ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، في إحدى الروايتين ، لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال ‏:‏ كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرباعاً ، خمساً وعشرين جذعة وخمساً وعشرين حقة ، وخمساً وعشرين بنتاً لبون ، وخمس وعشرين بنت مخاض ‏.‏ ولأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجب ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعن خلفة ، أي حاملاً ، لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ألا في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها رواه أبو داود ‏.‏ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول إن شاؤوا ، قتلوا ‏.‏ وإن شاؤوا ، أخذو الدية‏.‏ وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا عليه ، فهو لهم رواه الترمزي ‏.‏وقال ‏:‏ حديث حسن ‏.‏ والخلفة ‏:‏ الحامل ‏.‏ وعن عمرو بن شعيب أن رجلاً يقال له ‏:‏ قتادة ، حذف ابنه ، بالسيف ، فقتله ، فأخذ منه عمر ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ‏.‏ رواه مالك ، في الموطأ ‏.‏ وهل يعتبر في الأربعين ، أن تكون ثنايا ‏؟‏ على وجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يعتبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الخلفات ‏.‏ فاعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بديل ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب أن تكون ثنايا ، لأن في بعض الألفاظ ، منها أربعون خلفة ، ما بين ثنية عامها إلا بازل ‏.‏ ولأن سائر الأنواع مقدرة السن ، فكذلك الخلفات ‏.‏

فصل ‏:‏

ودية الخطأ ما أجري مجراه ، أخماس ، عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، لما روى ابن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ في دية الخطأ عشرن جذعة ، وعشرون حقة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بني مخاض ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وعمد الصبي ، والمجنون جار مجرى الخطأ ، وحكمه حكمه ، لأنه لا يوجب قصاصاً بحال ، وكذلك فعل النائم ، مثل أن ينقلب على شخص فيقتله ‏.‏ والقتل بالسبب مثل حفر البئر ، ووضع الحجر ، وسائر ما ذكرناه حكمه حكم الخطأ ‏.‏

فصل ‏:‏

وتجب الإبل صحاحاً ، غير مراض ، ولا عجاف ، ولا معيبة ، لأنه بدل متلف ، من غير جنسه ، لم يقبل فيه معيب ، كقيمة المال ‏.‏ ومتى أحضرها على الصفة ، المشروطة ، لزم قبولها ، سواء كانت من جنس ماله ، أو لم تكن ، لأنها بدل متلف ، فلم يعتبر كونها من جنس ماله ، كسائر قيم المتلفات ‏.‏

فصل ‏:‏

وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتبر قيمة الإبل ‏.‏ بل متى وجدت الصفة المشروطة ، وجب أخذها ، قلت قيمتها أو كثرت ، ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإبل ، فتقييدها بالقيمة يخالف ظاهر الخبر ، ولأنه خالف بين أسنان دية العمد والخطأ ، تخفيفاً لدية الخطأ عن دية العمد ، واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما ، وإزالة للتخفيف المشروع ‏.‏

وعن أحمد ‏:‏ أنه يعتبر أن يكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهماً ، لأن عمر قومها باثني عشر ألف درهم ، ولأنها إبدال محل واحد ‏.‏ فيجب أن تستوي قيمتها ، كالمثل والقيمة في المتلفات ‏.‏


فصل ‏:‏

وظاهر كلام الخرقي أن الإبل هي الأصل في الدية ‏.‏ قال أبو الخطاب ‏:‏ هذا إحدا الروايتيم عن أحمد ، لما روينا من الأخبار ‏.‏ والرواية الأخرى ‏:‏ أن الأصول ستة أنواع ‏.‏ الإبل ، والبقر ، والغنم ، والذهب ، والورق ، والحلل ، لما روي في كتاب عمرو بن حزم وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل ، وعلى أهل الذهب ألف دينار رواه النسائي ، وعن عمرو بن شعيب أبيه عن جده ، إن عمر قام خطيباً فقال ‏:‏ إن الإبل قد غلت ، قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق إثني عشر ألفاً ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاة ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، رواه أبو داود ‏.‏ وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعاً ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يختلف المذهب في أن هذه الأنواع أصول في الدية ، إلا الحلل فإن فيها روايتين ، فأي شيء منها أحضره من عليه الدية ، لزم الولي قبوله ، لأنها أبدال فائت ، فكانت الخيرة إلى المعطي ، كالأعيان في الجنس الواحد ، وإذا قلنا ‏:‏ الأصل الإبل خاصة ، وجب عليه تسليمها ، وأيهما أراد العدول إلى غيرها ، فللآخر منعه ، لأن الحق متعين فيها ، كالمثل في المثليات ، فإن أعوزت ، أو لم توجد إلا بأكثر من ثمن مثلها ، فله الإنتقال الى أحد هذه الأنواع ، لأنها أبدال عنها ، فيصار إليها عند إعوازها ، كالقيمة في بدل المثليات ‏.‏

فصل ‏:‏

وقدرها من هذه الأنواع على ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه ‏:‏ وهي ألف مثفال من الذهب الخالص ، أو اثنا عشر ألف درهم من دراهم الإسلام التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل ، أو مائتا بقرة ، أو ألفا شاة مقدرة بما تجب في الزكاة ، ففي البقر ، النصف مسنات ، والنصف أتبعة ، وفي الغنم يجب النصف ثنايا ، والنصف أجذعة ، إذا كانت من الضأن ‏.‏ ويجب في الحلل المتعارف من حلل اليمن ، كل حلة بردان ‏.‏ ويجب أن يكون كل نوع منها تبلغ قيمته اثني عشر ألف درهم على الرواية التي تعتبر فيها قيمة الإبل ، فيكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهماً ‏.‏ وقيمة كل شاة ستة دراهم ، لما ذكرنا ، ولما روى بن عباس أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

قصل ‏:‏

وذهب أصحابنا إلى أن الدية تغلظ بالقتل في الحرم والإحرام والشهر الحرام وقال أبو بكر ‏:‏ وتغلظ أيضاً بالرحم المحرم وقال القاضي ‏:‏ ظاهر كلام أحمد أنها لاتغلظ به ، ومعنى التغليظ ‏:‏ أن يزاد لكل واحد من هذه الحرمات ثلث الدية ‏.‏ فإن اجتمعت الحرمات الثلاث ، وجب ديتان ‏.‏ وعلى قول أبي بكر ‏:‏ إذا اجتمعت الأربع ، وجبت ديتان وثلث ، لما روي عن عثمان رضي الله عنه ‏:‏ أن امرأة وطئت في الطواف ، فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف ، وألفين تغليظاً ، للحرم ‏.‏ وعن ابن عمر أنه قال ‏:‏ من قتل في الحرم ، أو ذا رحم ، أو في شهر الحرام ، فعليه دية وثلث ‏.‏ وعن ابن عباس أن رجلاً قتل رجلاً في الشهر الحرام ، وفي البلد الحرام ‏.‏ فقال ‏:‏ ديته اثنا عشر ألفاً ، وللشهر الحرام أربعة آلاف ، وللبلد الحرام أربعة آلاف ، ولم يظهر خلاف هذا ، فكان إجماعاً ، ولا تغلظ لغير ما ذكرنا ، لعدم الأثر فيه ، وامتناع قياسه على ما ورد الأثر فيه ، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تزاد على مائة من الأبل ، لقوله الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ وهذا عام في كل قتيل ‏.‏ وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الدية بمائة من الإبل ‏.‏ وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الواجب بالقتل بمائة من الإبل ، أو غيرها ، مطلقة في الأمكنة والأزمنة والقرابة ‏.‏ وقد قتلت خزاعة قتيلاً من هذيل بمكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل ‏؟‏ ‏!‏ وأنا والله عاقله ‏.‏ فمن قتل له قتيل بعد ذلك ، فأهله بين خيرتين ، إما أن يقتلوا ، وإما أن يأخذوا الدية ولم يزد ‏.‏

وقتل قتادة ابنه فلم يأخذ منه عمر أكثر من مائة ‏.‏ ولأنه بدل متلف ، فلم يختلف بهذه المعاني ، كسائر المتلفات ‏.‏

فصل ‏:‏

ودية الحرة المسلمة ، نصف دية الرجل ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في كتاب عمرو ابن حزم أنه قال ‏:‏ دية المرأة على النصف من دية الرجل ‏.‏ ولأنه إجماع الصحابة ‏.‏ روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم ‏.‏ وتساوي جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية ‏.‏ فإذا زادت ، صارت على النصف ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها رواه النسائي ‏.‏ وعن ربيعة قال ‏:‏ قلت لسعيد ابن المسيب ‏:‏ كم في أصبع المرأة ‏؟‏ قال ‏:‏ عشر ‏.‏ قلت ‏:‏ ففي أصبعين ‏؟‏ قال ‏:‏ عشرون ‏.‏ قلت ‏:‏ في ثلاث أصابع ‏؟‏ قال ‏:‏ ثلاثون ‏.‏ قلت ‏:‏ ففي أربع أصابع ‏؟‏ قال ‏:‏ عشرون ‏.‏ قلت ‏:‏ لما عظمت مصيبتها ، قل عقلها ‏؟‏ ‏!‏ قال ‏:‏ هكذا السنة يا ابن أخي ‏.‏ رواه سعيد بإسناده ، وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

فصل

ودية الكاتبي ‏:‏ نصف دية المسلم ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ دية المعاهد نصف دية المسلم رواه أبو داود ‏.‏ وروي عنه ‏:‏ أن ديته ثلث الدية، لما روي أن عمر ‏:‏ جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، إلا أنه رجع عن هذه الرواية‏.‏وقال ‏:‏ كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم ‏.‏ فإن قتله المسلم عمداً ، أضعفت الدية على قاتله ، لإزالة القود ، لأن عثمان رضي الله عنه حكم بذلك ، ولو قتله الكافر لم تضعف ديته ، لأن القود واجب، ونساؤهم على النصف من دياتهم ، كما أن نساء المسلمين على النصف منهم ، ودية المجوسي ‏:‏ثمانمائة درهم ، لما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا ‏:‏ ديته ثمانمائة درهم‏.‏والمستأمن ‏:‏ كالذمي ، وإن كان وثنياً فديته ‏:‏ دية المجوسي ، لأنه كافر ، لا يحل نكاح نسائه ، فأما من لم تبلغه الدعوة ، إم لم يكن له عهد ، فلا ضمان فيه ، لأنه كافر لا عهد له ، أشبه نساء أهل الحرب ، وقال أبو الخطاب ‏:‏ يضمن بما يضمن به أهل دينه ، لأنه محقون الدم من أهل القتال ، أشبه المستأمن ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا قطع طرف ذمي ، فأسلم ، ثم مات ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تجب دية مسلم ‏.‏ اختاره ابن حامد ، لأن الاعتبار بحال استقرار الجناية ، بدليل ما لو قطع يديه ورجليه فمات ، وجبت دية واحدة ،اعتباراً بحال الاستقرار ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب دية ذمي ‏.‏ وهو ظاهر قول أبي بكر والقاضي ، لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها، بدليل عدم وجوب القصاص فيها ، وهو في حالة الجناية ، ذمي ، فأما إن رمى إلى ذمي ، فلم يقع به السهم حتى أسلم ، فعليه دية مسلم ، لأن الإصابة لمسلم ‏.‏

فصل ‏:‏ودية الخنثى المشكل ‏:‏ نصف دية ذكر ، ونصف دية أنثى ‏.‏ وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر ، لأنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالاً على السواء ‏.‏ فيجب التوسط بينهما ، كالميراث ، والحكم في جراحه ، كالحكم في ديته ، فإن كانت دون الثلث استوى الذكر والأنثى ، وفيما زاد ثلاثة أرباع دية حر ذكر ‏.‏

فصل ‏:‏

ودية العبد والأمة ‏:‏ قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك ، لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه ،فأشبه الفرس ‏.‏ وإن جنى عليه جناية غير مقدرة في الحر ، ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح ، كسائر الأموال ‏.‏ وإن كانت مقدرة في الحر ، فهي مقدرة في العبد من قيمته ، فما وجبت فيه الدية ، كالأنف ، واللسان ، والذكر ، والأنثيين ، ضمن من العبد بقيمته ‏.‏ وما يجب فيه ديتان ، كإذهاب سمعه وبصره ، ففيه مثلا قيمته ، وما ضمن بجزء من الدية ، كاليد والرجل والإصبع ، ضمن من العبد بمثله من قيمته ، لأن ذلك يروى عن علي رضي الله عنه ، ولأنه ساوى الحر في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة ، فساواه في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس ، كالرجل ، والمرأة ، وعن أحمد رواية أخرى ‏:‏ أن الجناية على العبد بما نقص من قيمته ، سواء كانت مقدرة في الحر ، أو لم تكن مقدرة ، لأن ضمانه ضمان الأموال ، فيجب فيه ما نقص ، كالبهائم ، والحكم في المكاتب وأم الولد ، كالحكم في القن ، لأنهم رقيق ‏.‏ فأما من بعضه حر ، ففيه بالحساب ، من دية حر وقيمته عبد ‏.‏ فإن كان نصفه حراً ، ففيه نصف دية حر لورثته ، ونصف قيمته لسيده ، وهكذا في جراحه ، لأن الضمان يتجزأ ، فوجب أن يقسم على قدر ما فيه منهما ، كالكسب ‏.‏


فصل ‏:‏

إذا فقأ عيني عبد قيمته ألفان ، فاندمل ، ثم أعتق ومات ، وجبت قيمته بكاملها لسيده ، لأنه استقر حكم الجرح وهو مملوك ، وكذلك إن اندمل بعد العتق ، لأن الضمان يجب بالجناية ، وهو حينئذ مملوك ‏.‏ وإن سرى الجرح إلى نفسه ، فروى حنبل عن أحمد ، أن على الجاني قيمته السيد ‏.‏ وهذا اختيار أبي بكر والقاضي ، لأن الضمان يجب بالجناية ، وهو حينئذ مملوك ، فأشبه ما لو اندمل الجرح ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ يجب فيه دية حر، لأن اعتبار مقدار الواجب بحال الاستقرار ، بدليل ما لو فقأ عينه ، وقطع أنفه ، فمات من سراية الجرح ، لم يجب إلا قيمة واحدة ‏.‏ ويصرف ذلك إلى السيد ، لأن الجناية في ملكه ‏.‏ فإن فقأ إحدى عينه ، فسرى إلى نفسه بعد العتق ، فعلى الوجه الأول تجب القيمة بكمالها للسيد ، اعتباراً بحال وجودها ، وعلى قول ابن حامد ‏:‏ يجب دية حر ، لسيدة منها أقل من الأمرين ، من نصف القيمة ، أو كمال الدية ، لأنه إن كان نصف القيمة أقل ، فهو الذي وجب له ، والزيادة حصلة حال الحرية ‏.‏ وإن كانة الدية أقل ، فنقصها بسبب من جهته وهو العتق ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن قطع يد عبد ، فأعتق ، ثم قطع آخر يده الأخرى ومات ، فلا قصاص على الأول ، لعدم التكافؤ في حال الجناية ، وعليه نصف القيمة لسيده ، على قول أبي بكر ‏.‏ وعلى قول ابن حامد ‏:‏ عليه نصف ديته ، لسيده منها الأقل من نصف قيمته يوم القطع ، أو نصف الدية ، لأن نصف القيمة إن كان أقل ، فهو أرش الجناية الموجودة في ملكه ، وإن كان أكثر ، فالحرية نقصت ما زاد عليه ‏.‏ وأما الثاني ‏:‏ فعليه القصاص في الطرف ‏.‏ إن وقف ، قطعه ، وفي النفس إن سرى ، لأنه شارك في القتل العمد العدوان ، فأشبه شريك الأب ، ويتخرج أن لا قصاص عليه ، بناء على الرواية الأخرى في شريك الأب ، والفرق بين هذه السألة والتي قبلها ، أن الجناية ثم من واحد ، فكانت الدية جميعها عليه ، وها هنا من اثنين ، فقسمت الدية عليهما ، فإن عاد الأول ، فذبحه بعد اندمال الجرحين ، فعليه القصاص للورثة ‏، ونصف القيمة للسيد ، وعلى الثاني ‏:‏ القصاص في الطرف ، أو نصف الدية ، وإن كان قبل الاندمال ، فعلى الأول القصاص في النفس دون الطرف ،فإن اقتصوا ، سقط حق السيد ‏.‏ وإن عفوا على مال ،فلهم الدية لا غير ، وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة ، أو أرش القطوع ‏.‏ وعلى الثاني ‏:‏ القصاص في طرف ، أو نصف الدية ، لأن الذبح ، قطع سرايتها ، فصارت ، كالمندملة ‏.‏ فإن كان قاطع اليد الأخرى ، هو قاطع الأولى ، ولم يقتل ، فلا قصاص في اليد الأولى ، لما ذكرنا ‏.‏ ويجب في الثانية إن وقف القطع ‏.‏ وإن سرى القطعان ، فلا قصاص في النفس ، لأن أحد الجرحين موجب ، والآخر غير موجب ، ولكن له القصاص من اليد الثانية ‏.‏ فإن عفا عنه على مال ، وجب عليه مثل ما يجب على القاطعين في المسألة الأولى ، للسيد منه نصف القيمة على قول أبي بكر ، وأقل الأمرين من نصف القيمة ، أو نصف الدية على قول ابن حامد ‏.‏ وإن اقتص منه في اليد الثانية ، فعليه في اليد الأولى نصف القيمة، أو نصف الدية على اختلاف الوجهين ‏.‏ وإن قطع يد عبد ، فأعتق ، ثم قطع آخر يده الأخرى ، ثم قطع آخر رجله ، فمات من الجرحات ، فلا قصاص على الأول ، لعدم التكافؤ حال الجناية ، وعلى الآخرين القصاص في النفس في ظاهر المذهب ، بناء على شريك الأب ‏.‏ فإن عفا على مال ، فالدية عليهم أثلاثاً ، وفيما يستحقه السيد وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أقل الأمرين من نصف قيمته ، أو ثلث ديته ، لأنه بالقطع استحق النصف ، فإذا صارت نفساً ، صار الواجب ثلث الدية ،فله أقلهما ، وعلى الآخر له أقل الأمرين من ثلث الدية ، أو ثلث القيمة ، اعتباراً للجناية بما آلت إليه ‏.‏

فصل‏:‏

وإذا جنى على عبد في رأسه ، أو وجهه من دون الموضحة ، فزاد أرشها على الموضحة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يرد إلى أرش الموضحة ، كالجناية على الحر ‏.‏

واحتمل أن يجب ما نقص من قيمته بالغاً ما بلغ ، أن ذلك الأصل في ضمان العبيد ، خولف فيما قدر الشرع أرشه ، ففيما عداه يرد إلى الأصل ‏.‏


فصل ‏:‏

ودية الجنين الحر المسلم ‏:‏ غرة ‏:‏ عبد ، أو أمة قيمتها خمس من الأبل ‏.‏ وهو ‏:‏ نصف عشر الدية ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص المرأة ، فقال المغيرة بن شعبة ، شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قضى فيه بغرة ‏:‏ عبد ، أو أمة ‏.‏ وهو ‏:‏ نصف عشر الدية ‏.‏ قال ‏:‏ لتأتين بمن يشهد معك ، فشهد له محمد بن مسلمة ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ وروي عن عمر وزيد رضي الله عنهما ، أنهما قالا في الغرة ، قيمتها خمس من الإبل ، ولأنه أقل ما قد في الشرع في الجنايات ، وهو دية السن والموضحة ، ولا يقبل في الغرة معيبة ، وإن قل العيب ، ولا خصي وإن كثرت قيمته ، لأنه عيب ، ولا قيمة الغرة مع وجودها ، كما لا يجبر على قبول ما ليس بأصل في الدية فيها ‏.‏ فإن أعوزت ، وجبت قيمتها من أحد الصول في الدية ، وسواء كان الجنين ذكراً أو أنثى ، لأن الخبر مطلق ، ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث ‏.‏

فصل ‏:‏

وإنما يجب ضمانه إذا علم تلفه بالجناية ‏‏.‏ ولو ضرب بطناً منتفخاً ، أو فيه حركة ، فزالت ، ولم يسقط لم يجب شيء ، لأنه يحتمل أن ذلك ريح ذهبت ، وإن قتل حاملاً ، فلم تسقط ، لم يضمن جنينها ، لعدم التقين لحملها ‏.‏ وإن ضرب بطن امرأة ، فألقت يداً ، أو رجلاً ‏، أو غيرها من أجزاء الآدمى ، وجبت الغرة ، لأننا تيقنا أنه جنين ‏.‏ والظاهر تلفه بالجناية ، فأشبه ما لو ألقته ‏.‏ وإن ألقت رأسين ، أو أربعة أيد ، لم يجب أكثر من غرة ، لأن ذلك يحتمل أن يكون من واحد ، فلا يجب الزائد بالشك ‏.‏ وإن ألقت جنينين ، فعليه غرتان ، لأن في كل جنين غرة ، فأشبه ما لو كانا من امرأتين ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ألقت جنيناً حياً ، ثم مات من الضربة ‏.‏ وكان سقوطه لوقت يعيش مثله ، ففيه دية كاملة ، لما ذكرنا من حديث عمر في التي أجهضت جنينها فزعاً منه ، ولأننا تيقنا حياته ، وعلمنا موته بالجناية ، فأشبه غير الجنين ‏.‏ وإن سقط لوقت لا يعيش مثله ، ففيه الغرة ‏، لأنه لم يعلم منه حياة يتصور بقاؤه بها ، فالواجب فيه غرة ، كالذي ألقته ميتاً ‏.‏

فصل ‏:‏

وإنما يجب ضمانه إذا علم أنه سقط بالضربة ومات بها ، بأن تلقيه عقيب الضرب ، أو تبقى متألمة إلى أن تلقيه ، ويموت عقيب وضعه ، أو يبقى متألماً إلى أن يموت ‏.‏ فإن بقي مدة سالماً لا ألم به ، ثم مات ، لم يضمنه الضارب ، لأن الغالب أنه لم يمت من الضربة ‏.‏ وإن ألقته حياً فيه حياة مستقرة ، فقتله غير الضارب ، فضمانه عليه ، لأنه القاتل ‏.‏ وإن كانت حركته حركة المذبوح ، فالقاتل هو الأول ، وعليه كمال ديته ‏.‏

فصل ‏‏:‏

وإن كان الجنين كافراً ، فألقته ميتاً ، ففيه غرة ، قيمتها عشر دية أمه‏.‏ فإن كان أحد أبويه كتابياً ، والآخر مجوسياً ، ففيه عشر دية كتابية ، لأن الضمان إذا وجد في أحد أبويه ، ما يوجب ، وفي الآخر ما يسقط، غلب الإيجاب ، بدليل ما لو قتل المحرم صيداً متولداً من مأكول وغيره ‏.‏ وإن ضرب بطن كتابية حاملاً من كتابي ، فأسلمت ، ثم ألقته ، ففيه غرة قيمتها ‏:‏ خمس من الإبل على قول ابن حامد ، لأن الضمان معتبر بحالة الاستقرار ‏.‏ وعلى قياس قول أبي بكر ‏:‏ قيمتها عشر دية كتابية ، اعتباراً بحال الجناية ‏.‏ وما وجب في الجنين الحر ورثه ورثته ، لأنه بدل حر ، فورث عنه ، كدية غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ألقت مضغة لا صورة فيها ، لم يجب ضمانها ، لأنه لا يعلم أنها جنين ‏.‏ وإن شهد ثقات من القوابل ، أن فيها صورة خفية ، فيها غرة ، لأنه جنين ‏.‏ وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي ، لو بقي تصور ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهم ‏:‏ فيه الغرة ، لأنه بدء خلق آدمي ، أشبه المصور ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا شيء فيه ، لأنه غير متصور ، أشبه العلقة ‏.‏



فصل ‏:‏

إذا شربت الحامل دواء ، فأسقطت جنيناً ، فعليها غرة لا ترث منها شيئاً ، لأن القاتل لا يرث ، وتعتق رقبة ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن ضرب بطن مملوكة ، فألقت جنيناً ميتاً ، ففيه عشر قيمة أمه ، لأنه جنين آدمية ، فوجب فيه عشر دية أمة ، كجنين الحرة ، ولأنه جزء منها متصل بها ، فقدر بدله من ديتها ، كسائر أعضائها ، وتعتبر قيمتها يوم الجناية ، كموضحتها ‏.‏ وإن ضرب بطنها وهي أمة ، فأعتقت ، ثم ألقت ، فعلى قول ابن حامد ‏:‏ فيه غرة اعتباراً بحاة الاستقرار ‏.‏ وعلى قول أبي بكر ‏:‏ فيه عشر قيمة أمه ، لأن الجناية على عبد ‏.‏ وفي جنين المعتق نصفها ‏:‏ نصف غرة ، ونصف عشر قيمة أمه ، لأن نصفه حر ، ونصف عبد ، ويستوي الذكر والأنثى ، لأنه جنين مات بالجناية في بطن أمه ، فلم يختلف بالذكورية والأنوثية ، كجنين الحرة ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا غر بحرية أمة ، فوطئها ، فحملت منه ، ثم ضربها ضارب ، فألقت جنيناً ، ففيه غرة ، لأنه حر ، وريثها ورثته كذلك ‏.‏ وعلى الواطئ عشر قيمة أمه لسيدها ، لأنه لولا اعتقاده الحرية ، لوجب لسيدها عشر قيمتها على الضارب ، فقد حال بين سيدها وبين ذلك ، فألزمناه إياه ، سواء كان بقدر الغرة ، أو أقل ، أو أكثر ‏.‏ ولو ضرب السيد بطن أمته ، ثم أعتقها ، فأسقطت جنيناً ، ففي قياس قول أبي بكر لا ضمان على الضارب ، لأنه جنى على مملوكه ‏.‏ وعلى قياس قول ابن حامد عليه غرة ، لأنه حر حين استقرار الجناية ‏.‏


باب ديات الجروح


وهي نوعان ‏:‏ شجاج ، وغيرها ‏.‏ فالشجاج ‏:‏ جروح الرأس والوجه خاصة ، وهي عشر ‏.‏ أولها ‏:‏ الحارصة ‏:‏ وهي التي تشق الجلد قليلاً ، ثم البازلة ‏:‏ وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير ، ثم الباضعة ‏:‏ وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ، ثم المتلاحمة ‏:‏ وهي التي تنزل في اللحم ، ثم السمحاق‏:‏ وهي التي تشق اللحم كله حتى ينتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم تسمى السمحاق ، فسميت الشجة بها ‏.‏ فهذه الخمس لا توقيت فيها ‏.‏ وعنه ‏:‏ في الدامية بعير ‏.‏ والباعضة بعيران ‏.‏ وفي المتلاحمة ثلاثة ‏.‏ وفي السمحاق أربعة ، لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت ‏.‏ورواه سعيد عن علي وزيد في السمحاق ‏.‏ والأول ‏:‏ ظاهر المذهب ، لأنها جروح لم يرد الشرع فيها بتوقيت ،فكان الواجب فيها الحكومة ، كجروح البدن ، قال مكحول ‏:‏ قضى رسول الله ‏(‏ ص‏)‏ في الموضحة ، بخمس من الإبل ، ولم يقض فيما دونها ‏.‏ ثم الموضحة ‏:‏ وهي التي تنهي إلى العظم ، فتبدي وضحه ‏.‏ أي بياضه ، ثم الهاشمة التي تهشم العظم بعد إيضاحه ، ثم المنقلة وهي التي تنقل العظم من مكان إلى غيره ، ثم المأمومة وتسمى الأمة ، وهي التي تصل إلى أم الدماغ ، وهي جلدة رقيقة تحيط به ‏.‏ ثم الدامغة ، وهي التي تنتهي إلى الدماغ ‏.‏ فهذه الخمس فيها مقدر ، ففي الموضحة خمس من الإبل ، لما ذكرنا ولما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي ، صلى الله عليه وسلم أنه قال في المواضح خمس خمس رواه أبو داود ‏.‏ وسواء في ذلك الكبيرة والصغيرة وموضحة الرأس والوجه ‏.‏ وعنه ‏:‏ في موضحة الوجه عشر من الإبل ، لأن شينها أكثر ، ولا تسترها العمامة ، والأول ‏:‏ المذهب ، للخبر ، ولأننا سوينا الصغرى والكبرى مع اختلاف شينهما ، كذا ها هنا ‏.‏ وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ،ففيهما عشر ، فإن أزال الحاجز بينهما بفعله ، أو ذهب بالسراية ، ففيهما أرش موضحة ، لأنهما صارا موضحة واحدة بفعله ، أو سرايته ، وسراية الفعل كالفعل ‏.‏ وإن أزال الحاجز بعد اندمالهما ، فهي ثلاث مواضح ، لأن استقر أرش الأوليين باندمالهما ‏.‏ وإن أزال الحاجز أجنبي ، فعليه أرش موضحة ، وعلى الأول أرش موضحتين ‏.‏ سواء أزاله قبل اندمالهما أو بعده ، لأن فعل أحدهما لا ينبني على الآخر ، فصار كل واحد كالمنفرد بجنايته ، ‏.‏ وإن أزاله المحني عليه فعلى الأول أرش موضحتين كذلك ‏.‏ وإن أوضحه موضحتين ، وحرق ما بينهما في الظاهر دون الباطن ، فهما موضحتان ، لأ، ما بينهما ليس بموضحة ‏.‏ وإن حرق ما بينهما في الباطن دون الظاهر ، فكذلك في أحد الوجهين ‏.‏ وفي الثاني ‏:‏ هما موضحة واحدة ، لا تصالهما في الباطن ‏.‏ وإن أو ضحه في رأسه وأنزله إلى وجهه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ فيها أرش موضحتين ، لأنها في عضوين ‏.‏

والثاني ‏:‏ هي موضحة واحدة ، لأن الجميع إيضاح لا حاجز فيه ‏.‏ أشبه ماكان في عضو واحد ‏.‏ وإن أوضحه في هامته ، فنزل إلى قفاه ، ففيه أرش موضحة ، وحكومة لجرح القفا ، لأنه ليس بمحل للموضحة ، فانفرد الجرح فيه بالضمان ‏.‏ ولو شق جميع رأسه سمحاقاً إلا موضعاً منه أوضحه ، لم يلزمه إلا دية موضحة ، لأنه لو أو ضح الجميع ، لم يجب إلا دية موضحة ، فها هنا أولى ، وإن أوضحه ، في جميع رأسه ورأس الشاج قدر ثلاثة أرباع رأس المشجوج ، فاقتص منه ، فله ربع أرش الموضحة ، لأن الباقي بعد القصاص ربعها ،فوجب ربع أرشها ، وقال أبو بكر ‏:‏ لا يجب مع القصاص شيء ، لئلا يجمع مع قصاص ودية في جرح واحد ، وفي الهاشمة عشر من الإبل ، لما روي عن زيد بن ثابت ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ أنه قال ‏:‏ في الهاشمة عشر من الإبل ‏.‏ وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ، ففيهما دية هاشمتين ، وسائر فروعها على ما ذكرنا في الموضحة ، وإن ضربه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ فيه حكومة ، لأنه كسر عظم من غير إيضاح ، أشبه كسر عظ الساق ‏.‏

والثاني ‏:‏ فيه خمس من الإبل ، لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر ‏.‏ ولو أوضحه ولم يهشمه ، وجب خمس ‏.‏ فدل على أن الخمس الأخرى وجبت في الهشم ، فيجب ذلك فيه وإن انفرد على الإيضاح ، وفي المنقلة خمسة عش من الإبل ، وفي المأمومة ثلث الدية ، لما روي عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل االيمن ‏:‏ في الموضحة خمس من الإبل ، وفي المأمومة ثلث الدية رواه النسائي ‏.‏ فأما الدامغة ، ففيها ما في المأمومة ، لأن الزيادة لم يرد الشرع يإيجاب شيء فيها ‏.‏ وقيل ‏:‏ يجب للزيادة حكومة مع أرش المأمومة ، لتعديه بخرق جلدة الدماغ ‏.‏ وإن أوضحه رجل ثم هشمه آخر ، ثم جعلها آخر منقلة ، ثم جعلها الرابع مأمومة ، فعلى الأول أرش موضحة ، وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة ، وعلى الثالث خمس من أرش المنقلة ، وعلى الرابع ثماني عشر وثلث تمام أرش المأمومة ‏.‏

فصل ‏:‏

النوع الثاني ‏:‏ غير الشجاج ‏.‏ وهي جروح سائر البدن ، وذلك قسمان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ الجائفة وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف من بطن ، أو ظهر ، أو ورك ، أو صدر أو ثغر نحر ، فيجب فيها ثلث الدية ، لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن ‏:‏ في الجائفة ثلث الدية رواه النسائي والكبيرة والصغيرة سواء ، لما ذكرنا في الموضحة ، وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز ، أو طعنة في جوفه ، فخرج من جانب آخر ، أو من ظهره ، فهما جائفان ، لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف ، فهي جائفتان ، ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف ، فوجب فيهما أرش الجائفتين كالواصلتين من خارج ، وإن أجافه رجل ، ووسع آخر الجائفة ، فعلى كل واحد منهما أرش جائفة ، لأن فعل الثاني لو انفرد ، كان جائفة ، وإن وسعها في الظاهر دون الباطن ، أو في الباطن دون الظاهر ، فعليه حكومة ، لان جنايته لم تبلغ الجائفة ، وإن أجافه ، ونزل بالسكين إلى الفخذ ، فعليه دية جائفة ، وحكومة لجرح الفخذ ، لأنه في غير محل الجائفة ، لأن حكم الفم حكم الظاهر ‏.‏ فإن طعنه في وجنته ، فكسر العظم ، ووصل إلى فيه فليس بجائفه كذلك ، وعليه دية هاشمة ، لكسر العظم ، وفيما زاد حكومة ‏.‏ وإن خاط الجائفة ، ففتقها آخر قبل التحامها ، عزر ، وعليه ضمان ما أتلف من الخيوط ، وأجرة الخياط ‏.‏ ولا يلزمه ديو الجائفة ، لأنه لم يجفه ‏.‏ وإن كانت قد التحمت ، فعليه دية جائفة ، لأنها بالاتحام عادت إلى ما كانت ‏.‏ وإن التحم بعضها دون بعض ، ففتق ما التحم ، فعليه دية جائفة ، كذلك ‏.‏وقال القاضي ‏:‏ليس عليه إلا حكومة ‏.‏ فإن أدخل خشبة في دبر إنسان ، ففتح جلده في الباطن ففيه وجهان ‏.‏ بناء على من وسع الموضحة في الباطن وحده ‏.‏ فإن وطئ مكرهة ، أو امرأة بشبهة ، أو زوجته الصغيرة ، ففتقها ، وهو أن يجعل مسلك البول والمني واحداً ، فعليه ثلث الدية ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية ، ولأنها جناية تجرح جلدة تفضي إلى جوف ، أشبه الجائفة ‏.‏ وإن وطئ زوجته التي يوطأ مثلها ، ففتقها لم يلزمه شيء ، لأنه من أثر فعل مباح ، أشبه أرش البكارة ‏.‏ إن زنى بامرأة مطاوعة ، فلا شيء عليه ، لأنه فعل مأذون فيه ، فلم يلزمه أرش لذلك ، كما لو أذنت في قطع عضوها‏.‏

فصل

والقسم الثاني ‏:‏غير الجائفة ‏.‏مثل إن أوضح عظماً ، أو هشمه ، أو نقله ، فلا يجب سوى الحكومة ، لأنه لا تقدير فيها ، ولا يمكن قياسها على المقدر ، لعدم المشاركة في الشين والخوف عليها منها ‏.‏ وإن لطم إنساناً في وجهه ، أو غيره ، فلم يؤثر ، فلا أرش عليه ‏.‏ وإن سود وجهه ، أو خضره ، وجبت عليه دية كاملة ، لأنه أذهب الجمال على الكمال ، فلزمته دية كما أو قطع أنفه ‏.‏ وإن سود غيره من الأعضاء ، أو خضره ، ففيه حكومة ، وكذلك إن حمر وجهه ، أو صفره ، أو سود بعضه ، ففيه حكومة ، لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال ‏.‏ وإن صعره وهو أن يصير وجهه في جانب ، ففيه الدية ، لما روى مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال ‏:‏ في الصعر الدية ، ولأنه أذهب الجمال والمنفعة ، فوجبت عليه الدية ، كإذهاب البصر ، وإن لم يبلغ الصعر ، لكن يشق عليه الالتفات ، أو ابتلاع الماء ، فعليه حكومة كذلك ، لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها ، فأشبه ما لو قلل بصره ‏.‏

فصل

ومعنى الحكومة أن يقوم المجني عليه ، كأنه عبد لا جناية به ، ثم يقوم وهي به قد برأت ، فما نقص من القيمة ، فله بقسطه من الدية ، كأن قيمته وهو عبد لا جناية به مائة ، وقيمته بعد الجناية تسعة وتسعون ، فيجب فيه عشر عشر ديته ، لأن الجناية نقصته عشر عشر قيمته ، لأنه لما عدم النص في أرشه ، وجب المصير فيه إلى الاجتهاد بما ذكرنا ، كالصيد الحرمي ، إذا لم يوجد نص في مثله ، رجع فيه إلى ذوي عدل ، ليعرف مثله ، ولا يقبل التقويم إلا من عدلين من أهل الخبرة بقيم العبيد ، كم في تقويم سائر المتلفات ‏.‏ ويجب بقدر ما نقص من الدية ، لأنه مضمون بها ، كما يجب أرش المعيب من الثمن ، لكونه مضموناً به ، وإذا نقصته الجناية عشر قيمته ، وجب عشر ديته ، إلا أن تكون الجناية في رأس ، أو وجه ، فتزيد الجراح بالحكومة على أرش موضحة ، أو على عضو ، فتزيد على ديته ، فإن يرد إلى الأرش الموضحة ودية العضو ‏.‏ وينقص عنه بقدر ما يؤدي إليها اجتهاد الحاكم ، لأنه لا يجوز أن يجب فيما دون الموضحة ما يجب فيها ، لأن من جرح الموضحة ، فقد أتى على ما دونها ، وزاد عليه ، وكذلك لا يجوز أن يجب في جراح الإصبع فوق ديتها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ، ولا نفع ، مثل قطع إصبع زائدة ، أو قلع سن زائدة ، أو لحية امرأة ، فاندمل الموضع من غير نقص ، أو زاده جمالاً وقيمة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏لا يجب شيء لأنه لم يحصل بفعله فلم يجب شيء ، كما لو لكمه فلم يؤثر ‏.‏

والثاني ‏:‏ يجب ضمانه لأنه جزء من مضمون ، فوجب ضمانه ، كغيره ، فعلى هذا يقومه في أقرب أحواله إلى الاندمال ، لأنه لما سقط اعتباره بعد اندماله ، قوم في أقرب أحواله إليه كولد المغرور يقوم في أول حال يمكن فيها التقويم بعد العلوق ، وهي عند الوضع ، فإن لم ينقص في تلك الحال ، قوم حين جريان الدم ‏.‏ وإن قلع سناً زائدة ، قوم وليس خلفها سن أصلية ، وإن قلع لحية امرأة ، قومت كرجل لا لحية له ، ثم يقوم وله لحية ، ويجب ما بينهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن جنى عليه جناية لها أرش ، ثم ذبحه قبل اندمال الجروح ، دخل أرش الجروح في دية النفس لأنه مات بفعله قبل استقرار الجناية ، أشبه ما لو مات من سراية الجرح ‏.‏ وإن قتله غيره وجب أرش الجرح ، لأنه لا ينبغي فعل غيره على فعله ، أشبه ما لو اندمل الجرح ‏.‏
باب دية الأعضاء والمنافع


كل ما في الإنسان منه شيء واحد ، كاللسان ، والأنف ، والذكر ، ففيه الدية كاملة ، وما فيه منه شيئان ، كالعينين وغيرهما ، ففيهما الدية ، وفي أحدهما نصفها ، وما فيه منه أربعة ، كأجفان العينين ، ففيهن الدية ، وفي إحداهن ربعها ، وما فيه منه عشر ، كأصابع اليدين والرجلين ، ففيها الدية ، وفي الواحدة عشرها ، وفي إتلاف منفعة الحس ، كالسمع ، أو البصر ، أو الشم ، أو العقل ونحوه الدية ، لأن ذلك يجري مجرى تلف الآدمي ، فجرى مجراه في ديته ‏.‏

فصل ‏:‏

يجب في العينين الدية ، لأن في كتاب النبي ‏(‏ ص ‏)‏ لعمر بن حزم ‏:‏ وفي العينين الدية ولأنه إجماع ، وفي إحداهما ، نصف الدية ، لقول النبي ‏(‏ ص‏)‏ وفي العين خمسون من الإبل رواه مالك في الموطأ ‏.‏ وسواء في ذلك الصحيحة والمريضة ، وعين الصغير والكبير كذلك ، وفي عين الأعور دية كاملة ، لأنه يروى عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم ، أنهم قضوا بذلك ، ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً ، ولأنه يحصل بها ما يحصل بالعينين ، فكانت مثلهما في الدية ‏.‏ وإن قلع الأعور عيني صحيح ، ففيها الدية ، لما تقدم ‏.‏ وإن قلع عينيه التي لا تماثل عين القالع ، ففيها نصف الدية كذلك ‏.‏ وإن قلع المماثلة لعينيه خطأ ، فكذلك ‏.‏ وإن قلعها عمداً ، فلا قصاص ، وعليه دية كاملة ، لأنه يروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ، ولأنه منع القصاص مع وجود سببه ، فأضعفت الدية ، كقاتل الذمي عمداً ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي البصر الدية ، لأنه النفع المقصود بالعين ‏.‏ وفي ذهابه من إحداهما نصفها ‏.‏ فإن ذهب بالجناية على رأسه أو عينيه ، أو بمداواة الجناية ، وجبت الدية ، لأنه بسببه ، فإن ذهب ، ثم عاد ، لم تجب الدية ‏.‏ فإن كان قد أخذها ، ردها ، لأن عوده يدل على أنه لم يذهب ، إذ لو ذهب ، لما عاد ‏.‏ وإن ذهب ، فقال عدلان من أهل الخبرة ‏:‏إنه يرجى عوده إلى مدة ، انتظر إليها ، فإن مات قبلها ، وجبت الدية ، لأنه لم يعد ، وإن بلغ المدة ولم يعد ، وجبت ، لأننا تبينا ذهابه ، وإن قالا‏:‏ يرجى عوده ، ولم يقدرا مدة ، لم ينتظر ، لأنه ذاهب في الحال ، وانتظاره لا إلى مدة ، إسقاط لموجب الجناية بالكلية ‏.‏ وكذلك الحكم في السمع والشم والسن‏.‏

فصل

وإن نقص الضوء، وجبت الحكومة ، وإن نقص ضوء إحدهما ، عصبت العليلة ، وأطلقت الصحيحة ، ونصب له شخص ، كما فعل علي برجل ادعى نقص ضوء عينيه ، فأمر بها فعصبت ، وأعطى رجلاً بيضة ، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ، ثم أمر فخط عند ذلك ، ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت وفتحت العليلة ‏.‏ وأعطى رجلاً بيضة ، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ، ثم خط عنه ذلك ، ثم حول إلى مكان آخر ، ففعل مثل ذلك ، فوجده سواء ، فأعطاه بقدر نقص بصره من مال الآخر ، وإنما يمتحن بذلك مرتين، ليعلم صدقه بتساوي المسافتين ، وكذبه باختلافهما ، والجناية على الصبي والمجون ، كالجناية على غيرهما ، إلا أن وليهما خصم عنهما ، فإن توجهت اليمين عليهما ، لم يحلفا ، ولم يحلف وليهما ، حتى إذا بلغ الصبي ، وعقل المجون ، حلفا حينئذ ‏.‏ وإن جنى عليه ، فأحول عينه ، أو شخصت ففيه حكومة ، لأنه نقص لم يذهب بالمنفعة كلها ، فأشبه ما لو قل بصره ‏.‏

فصل

ويجب في جفون العينين الدية ، لأن فيها جمالاً كاملاً ، ونفعاً كثيراً ، لأنها تقي العينين ما يؤذيهما وسواء في هذا البصير والأعمى ، لأن العمى ءيب في غير الجفون ، وفي الواحد منهما ربع الدية ، لأنه ربع ما فيه الدية ، وإن قلع العينين بجفونهما ، لزمته ديتان لأنهما جنسان يجب في كل واحد منهما دية ، فيجب فيهما ديتان ، إذا أتلفا ، كاليدين والرجلين ، ويجب في أهداب العينين الدية ، لأن فيها جمالاً ظاهراً كاملاً ، لأنها وقاية للعين ، فأشبهت الجفون ، وفي الواحد منها ربع الدية ، فإن قلع الجفون بأهدابها ، لم يجب أكثر من دية ، لأن الشعر يزول تبعاً لزوال الأجفان ، فلم يجب فيه شيء ، كالأصابع إذا زالت بقطع الكف ‏.‏

فصل

وفي الأذنين الدية ، لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ‏.‏ وفي الأذنين الدية ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ، ونفعاً كاملا ً ، يجمعان الصوت ويوصلانه إلى الدماغ ، فأثسبها العينين ‏.‏ وفي إحداهما نصفها ، لأنه نصف ما فيه الدية ، فأشبهت العين ، ودية أذن الأصم ، كدية أذن الصحيح ، لأن الصمم نقص في غير الأذن ، فلا يؤثر في ديتها، كما لم يؤثر العمى في دية الجفون ، وإن جنى عليها ، فاستحشفت فعليه حكومة ، لأن نفعها لا يزول بذلك ‏.‏ إن قطعت بعد استحشافها ، وجبت ديتها ، لأنها أذن فيها الجمال والمنفعة ، فأشبهت الصحيحة ‏.‏ وفي قطع بعض الأذن بقسطه ، يقدر بالأجزاء ، لأن ما وجبت فيه الدية وجب في بعضه بقسطه ، كالأصابع ‏.‏

فصل

وفى السمع الدية ، لما روى أبو المهلب عن أبي قلابة ، أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه ، فذهب بصره ، وسمعه ، وعقله ، ولسانه ، فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو حي ، ولأن جنايته تختص بمنفعة ، فأشبه البصر‏.‏ وفي سمع إحدى الأذنين نصف الدية ،كبصر إحدى العينين ‏.‏ وان قطع الأذنين فذهب السمع، وجب ديتان ، لأن السمع في غير الأذنين ، فلم تدخل دية أحداهما في الآخر ، كالبصر ، والجفون ‏.‏ وإن قل السمع ، أو ساء ، ففيه حكومة ‏.‏ وإن نقص سمع إحدى الأذنين ، سدت العليلة ، وأطلقت الصحيحة ‏.‏ وأمر الرجل يصيح من موضع يسمعه ويعمل كما عمل في نقص البصر من إحدى العينين ، ويؤخذ من الدية بقدر نقصه ‏.‏

فصل

وفي مارن الأنف ‏.‏ وهو ما لان منه الدية ‏؟‏ لأنه في كتاب عمرو بن حزم ‏.‏ ولما روى طاوس قال ‏:‏ كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏في الأنف إذا أوعب مارنه جدعاً الدية رواه النسائي ولأن فيه جمالاً ظاهراً ، ونفعاً كاملاً ، فإنه يجمع الشم ، ويمنع وصول التراب ونحوه إلى الدماغ ، والأخشم كالأشم ، لأن الشم في غير الأنف ، في قطع جزء من الأنف بقسطه ، كما في الأذن ‏.‏ وفي كل واحد من المنخرين ثلث الدية ‏.‏وفي الحاجز بينهما ثلثها ، لأنه يشتمل على ثلاثة أشياء ، فتوزعت الدية عليها ، ويحتمل أن يجب في كل واحد من المنخرين نصف الدية ، لأنه يذهب بذهاب أحدهما نصف الجمال والنفع ‏.‏ فإن قطع أحدها والحاجز ، ففيهما ثلث الدية ، على الأول ، وعلى الاحتمال الثاني ، يجب نصف الدية ، وحكومة ‏.‏ وفي الحاجز وحده حكومة ‏.‏ واذ قطع

المارن وشيئاً من القصبة ، ففيه دية للمارن ، وحكومة للقصبة ، وقياس المذهب ، أن الواجب دية واحدة ، كقطع اليد من الذراع ‏.‏

فصل

وفي الشم الدية ، وفي ذهابه من أحد المنخرين نصفها ، وفي نقصه حكومة ‏.‏ وإن نقص من أحد المنخرين ، قدر بمثل ما يقدر به ، نقص السمع من إحدى الأذنين ‏.‏ وإن قطع أنفه ، فذهب شمه ، وجبت ديتان ، لما ذكرنا في السمع ‏.‏

فصل

وفي ذهاب العقل الدية ، لأن في كتاب النبي ‏(‏ ص ‏)‏ لعمرو بن حزم ، وفي العقل الدية ولما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه ، ولأن العقل ، أشرف الحواس ، به يتميز عن البهيمة ، ويعرف حقائق المعلومات ، ويدخل في التكليف ، فكان أحق بإيجاب الدية ‏.‏ وإن نقص عقله نقصاً يعرف قدره ، مثل من يجن نصف الزمان ، ويفيق نصفاً ، وجب من الدية بقدره ‏.‏ وان لم يعرف قدره ، بأن صار مدهوشاً ، أو يفزعه الشيء اليسير ، ففيه حكومة ، لأنه تعذر إيجاب مقدر ، فيصير إلى الحكومة ، فإن كانت الجناية المذهبة للعقل لها أرش ، كالموضحة ، أو أذهبت سمعه وعقله ، وجبت ديتهما ، لحديث عمر رضي الله عنه ولأنها جناية أذهبت نفعاً في غير محل الجناية ، مع بقاء النفس فلم يتداخلا ، كما لو أوضحه فذهب بصره ، وإن شهر سيفاً على صبي ، أو بالغ مضعوف ، أو صاح عليه صيحة شديدة ، فذهب عقله ، فعليه ديته ، لأن ذلك سبب لزوال عقله ، وكذلك إن أنزعه بشيء ، مثل أن دلاه في بئر أو من شاهق ، أو قدم إليه حية ، أو أسداً لما ذكرنا‏.‏


فصل

وفي الشفتين الدية ، لأن في كتاب النبي ‏(‏ ص‏)‏ ، لعمرو بن حزم ‏:‏ وفي الشفتين الدية ‏.‏ ولأن فيهما نفعاً كبيراً وجمالاً ظاهراً ، فإنهما يقيان الفم ما يؤذيه ، ويردان الريق ، وينفخ بهما ، ويمسك بهما الماء ، ويتم بهما الكلام ، ويستران الأسنان ، وفي إحداهما نصف الدية ‏.‏ وعنه ‏:‏ في العليا ثلثها ، وفي السفلى ثلثاها لأن ذلك يروى زيد بن ثابت ، ولأن النفع بالسفلى أعظم ، لأنها تدور وتتحرك ، وتحفظ الريق والطعام ، والأول المذهب ، لأنه قول أبي بكر الصديق ، وعلي رضي الله عنهما ، ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما ، وجب في إحداهما نصفها ، كاليدين ‏.‏ ولاعبرة بزيادة النفع ، بدليل اليمنى مع اليسرى والأصابع ‏.‏ وإن ضربهما فأشلهما ، أو تقلصتا بحيث لا ينطبقان على الأسنان ، أو التصقتا بحيث لا ينفصلان عنها ، ففيهما ديتهما ، لأن عطل نفعهما ، فأشبه ما أشل يده ‏.‏ وإن تقلصتا بعض التقليص ، ففيهما حكومة ‏.‏

فصل

وفي اللسان الدية ، لأن في كتاب النبي ‏(‏ ص ‏)‏ لعمرو بن حزم وفي اللسان الدية ‏)‏ ولأن فيه جمالاً ونفعاً كثيراً ، لأنه يقال ‏:‏ جمال الرجل في لسانه ، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ، ولأنه يبلغ بع الأغراض ، ويقضي به الحاجات ، ويتم به العبادات ، ويذوق به الطعام والشراب ، ويستعين به في مضغ الطعام ‏.‏ وفي الكلام الدية ، لأنه من أعظم المنافع ، فإن جنى على لسانه ، فخرس ، وجبت عليه الدية لأنه أذهب المنفعة به ، فأشبه ما لو جنى على عينه فعميت وإن ذهب بعض الكلام ، وجب بقدر ما ذهب ، لأن ما ضمن جميعه بالدية ، ضمن بعضه بقدره منها ، كالأصابع ‏.‏ ويقسم على الحروف الثمانية والعشرين ، ويحتمل أن يقسم على حروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفاً يسقط منها حروف الحلق الستة ‏.‏ وهي‏:‏ العين والغين ‏.‏ والحاء والخاء ، والهاء والهمزة ، وحروف الشفة ، وهي أربعة ‏:‏ الباء ، والفاء والميم ، والواو ، ولأن اللسان لا عمل له فيها ، والأول أولى ، لأن هذه الحروف ينطق بها اللسان أيضاً ،

بدليل أن الأخرس لا ينطق بشيء منها‏.‏ وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة ، وجب أرش الحرف وحده ، لأن الضمان وجب لما تلف ‏.‏ وإن صار ألثغ ، وجب دية الحرف الذاهب ، لأنه عجز عن النطق بحرف ‏.‏ وإن حصل في كلامه ثقل ، أو تمتمة ، أو عجلة ، لم تكن ، ففيه حكومة لما حصل من النقص ، لأنه لم يمكن إيجاب مقدر‏.‏ وإن قطع جزءاً من لسانه فذهب جزء من كلامه وجب دية الأكثر فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام أو نصف اللسان فذهب ربع الكلام وجب نصف الدية لأن ما يتلف من كل

واحد منهما مضمون ‏.‏ فوجبت دية أكثرهما‏.‏ وان قطع ربع اللسان ، فذهب نصف الكلام ، ثم قطع آخر بقيته ، فعلى الأول نصفه الدية ، وعلى الثاني نصفها ، وحكومة لربع اللسان ، لأنه شل ، فكانت فيه حكومة ‏.‏ وإن قطع نصف اللسان ، فذهب ربع الكلام وقط آخر باقيه ، فعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية لأنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام ‏.‏ ولو جنى عليه ، فذهب ثلاث أرباع كلامه من غير قطع ، وجب ثلاثة أرباع الدية ، فمع قطع نصفه أولى‏.‏ وإن جنى على لسانه فاقتص مثل جنايته ، فذهب من الجاني مثل ما ذهب من المجني عليه ، فقد استوفى حقه ‏.‏ وان ذهب من الجاني أكثر ، فكذلك ، لأن الزائد ذهب من سراية القود‏.‏ وإن ذهب من كلام المجني عليه أكثر ، أخذ من الجاني بقدر ما نقص عنه الجاني من الدية ليحصل تمام حقه ‏.‏ وإن كان لسان رجل ذا طرفين ، فقطع أحدهما ولم يذهب من الكلام شيء ، وكانا متساويين في الخلقة ، فهما كلسان مشقوق ، فيهما الدية ، وفي أحدهما نصفها‏.‏ وإن كان أحدهما تام الخلقة والأخر ناقصاً ، فالتام هو الأصلي فيه الدية كاملة ، والناقص زائد فيه حكومة ‏.‏

فصل

وإن قطع لسان طفل يتحرك بالبكاء ، وبما يعبر به الأطفال ، كقوله ‏:‏ بابا ونحوه ، ففيه الدية ، لأنه لسان ناطق ‏.‏ وان كان لا يتحرك بشيء ، وقد بلغ حداً يتحرك به ، ففيه ما في لسان الأخرس ، لأن الظاهر أنه لو كان ناطقاً لتحرك بما يدل عليه ‏.‏ فإن قطع قبل مضى زمن يتحرك فيه اللسان ، ففيه الدية ، لأن الظاهر السلامة ، فضمن كما تضمن أطرافه ‏.‏ وان لم يظهر فيها بطش ‏.‏


فصل

وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه ، فلا يحس بشيء من المذاق ، وهي خمس ، الحلاوة ووالمرارة ، والحموضة ، والعذوبة ، والملوحة ، وجبت الدية ، لأنه أتلف حاسة لمنفعة مقصودة ، فلزمته الدية ، كالبصر‏.‏ وإن نقص الذوق نقصاً يتقدر بأن لا يدرك أحدها وحدها، ففيها الخمس ، وفى الاثنين الخمسان ، وفي الثلاثة ثلاثة أخماس ، لأنه تقدر المتلف ، فيتقدر الأرش ، كالأصابع ‏.‏ وإن لم يتقدر بأن يحس المذاق كلها، لكن لا يدركها على كمالها ، وجبت الحكومة لتعذر التقدير‏.‏ وإن أذهب ذوق الأخرس ، فعليه الدية كذلك ‏.‏ وإن جنى على لسان ناطق ، فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان ، فعليه ديتان ، لأنهما منفعتان تضمن كل واحدة منهما منفردة ، فيضمنان إذا اجتمعتا كالسمع والبصر ، فإن قطع لسانه ، لم يلزمه إلا دية واحدة ، لأن نفع العضو لا يفرد بضمان مع ذهابه ، كالبطش في اليد‏.‏

فصل

وفي كل سن خمس من الإبل ، سواء قلعت دفعة واحدة ، أو في دفعات ، لأن في كتاب النبي ‏(‏ ص ‏)‏ ، لعمرو بن حزم ‏:‏ ‏(‏ وفي السن خمس من الإبل ‏)‏ رواه النسائي وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ‏(‏ ص ‏)‏ ، أنه قال ‏:‏ وفي الأسنان خمس ‏)‏ رواه أبو داود

والأضراس والأنياب والرباعيات سواء ، لما روى ابن عباس أن رسول الله ‏(‏ ص ‏)‏ ، قال ‏:‏ ، الأصابع سواء ، والأسنان سواء ، والثفية والضرس سواء ، هذه وهذه سواء رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه جنس ذو عدد ، فلم تختلف ديته باختلاف منافعه ، كالأصابع ‏.‏ وإن قلع السن بسنخها ، أو كسر ما ظهر منها وخرج من لحم اللثة ، ففيها دية السن ، لأن النفع والجمال فيما ظهر ، فكملت الدية فيه ، كالإصبع ‏.‏ وإن قلع السنخ وحده ، ففيه حكومة ، ككف لا أصابع له ‏.‏ وإن كسر بعض السن طولاً أو عرضاً ، وجب من دية السن بقدر ما كسر بقدر الأجزاء من الظاهر ، كالأصابع ، وإن ظهر السنخ المعيب بعلة ، اعتبر بما كان ظاهراً قبل العلة ، لأن الدية تجب بما كان ظاهراً ، فاعتبر المكسور منه ‏.‏ وإن قلع سناً فيها داء أو أكلة ، ولم يذهب شيء من أجزائها، كملت ديتها ، كاليد المريضة ‏.‏ وإن ذهب منهما جزء ، سقط من ديتها بقدر الذاهب ‏.‏ وان كانت إحدى ثنيتيه أقصر من الأخرى ، فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها ، لأنهما لا يختلفان عادة ‏.‏ فإذا اختلفا، كانت القصيرة ناقصة فنقصت ديتها ، كالإصبع الناقصة ‏.‏ وإن قلع سناً مضطربة لكبر ، أو مرض ، وبعض نفعها باق ، كملت ديتها، كاليد المريضة ‏.‏ ويد الكبير وإن ذهب نفعها ، فهي كاليد الشلاء‏.‏ وإن جنى على سنه فاحمرت ، أو اصفرت ، ففيها حكومة ، لأن نفعها باق ، وإنما ذهب جمالها، وان اخضرت ، أو اسودت ، ففيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ فيها ديتها لأنه يروى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، ولأنه سود ما له دية ، فوجبت ديته ، كالوجه ‏.‏

والأخرى‏:‏ فيها حكومة ، اختارها القاضي لأنه لم يذهب منها إلا الجمال ، فأشبه ما لو حمرها‏.‏ وإن نقصتها الجناية ، ففيها حكومة لنقصها‏.‏ وإن جنى على سنه فأذهب نفعها كله ، من المضغ ، وحفظ الريق والطعام ، ففيها ديتها ، كما لو أشل يده ‏.‏

فصل

وإن قلع سن صبي لم يثغر ، لم يلزمه شيء في الحال ، لأن العادة عودها ، فأشبه ما لو نتف شعره ، فإن لم تنبت وأيس من نباتها ، وجبت ديتها‏.‏ قال أحمد ‏:‏ ينتظر عاماً ، لأنه الغالب في نباتها‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إذا أسقطت أخواتها ثم نبتن ولم تنبت ، وجبت ديتها‏.‏ فإن مات قبل اليأس منها، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما‏:‏ تجب ديتها، لأنه قلع سناً لم تعد‏.‏

والثافي‏:‏ لا يجب ، لأن الظاهر عودها‏.‏ وإنما فات بموته ، فأشبه نتف شعره ، وإن عادت لا نقص فيها، لم يجب شيء‏.‏ وان نبتت خارجة عن صف الأسنان لا ينتفع بها ، ففيها ديتها‏.‏ وإن كان ينتفع بها ، ففيها حكومة للنقص ‏.‏ وإن نبتت قصيرة ، ففيها من ديتها بقدر النقص ، لأنه نقص حصل بجنايته ، وإن نبتت أطول من نظيرتها، أو حمر، أو صفر ، ففيها حكومة ، للشين الحامل بجنايته ، ويحتمل أن لا يجب شيء لطولها‏.‏ لأن الظاهر أن الزيادة لا تكون من الجناية ‏.‏ وإن نبتت سوداء ، ففيها روايتان ‏.‏ ذكرهما القاضي ‏.‏

إحداهما ‏:‏ فيها ديتها‏.‏

والثانية ‏:‏ فيها حكومة ، كما لو جنى عليها فسودها‏.‏ وهكذا الحكم فيمن قلع سن كبير ، إلا أنه إذا مات قبل عودها ، وجبت ديتها ، لأن الظاهر أنها لا تعود ، وتجب ديتها حين قلعها، إلا أن يقول عدلان من أهل الطب ‏:‏ إنه يرجى عودها إلى مدة ، فينتظر إليها‏.‏ وان قلع سناً فردها صاحبها‏.‏ فنبتت في موضعها ، لم تجب ديتها ، نص عليه ، وهو اختيار أبي بكر ‏.‏ وإن قلعها آخر بعد ذلك ، فعليه ديتها‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ على الأول الدية ، ويؤمر صاحبها بقلعها ، لأنها صارت ميتة ، ولا شيء على الثافي في قلعها ، لأنه محسن به ‏.‏ وإن جعل مكانها سن حيوان مأكول ، أو ذهباً ، فثبت ، فقلعه قالع ، احتمل أن لا يلزمه شيء ، لأنه ليس من بدنه ‏.‏ واحتمل أن يلزمه حكومة ، لأنه أزال جماله ومنفعته ، فأشبه عضوه ‏.‏

فصل

وفي اللحيين الدية ، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى ، لأن فيهما جمالاً كاملاً ونفعاً كثيراً ‏.‏ وفي أحدهما نصفها‏.‏ وإن قلعهما مع الأسنان ، وجبت ديتهما ، ودية الأسنان ، لأنهما جنسان مختلفان ، يجب في كل واحد منهما دية مقدرة ، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر ، كالشفتين مع الأسنان ، بخلاف الكف مع الأصابع ‏.‏

فصل

وفى اليدين الدية كاملة ، لما روى معاذ أن النبى ‏(‏ ص ‏)‏ قال ‏:‏ في اليدين الدية ، وفي إحداهما نصفها لأن في كتاب النبي ‏(‏ ص ‏)‏ ، لعمرو بن حزم ، ‏:‏ ، وفي اليد خمسون من الإبل ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ، ونفعاً كثيراً ، أشبها العينين ‏.‏ وسواء قطعهما من الكوع ، أو المرفق ، أو المنكب ، أو مما بين ذلك ، نص عليه ، لأن اليد اسم للجميع ، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ ‏.‏ ولما نزلت آية التيمم ، مسح الصحابة إلى المناكب ‏.‏وفي كل أصبع عشر الدية ، لما روى ابن عباس ، قال ‏:‏ قال رسول الله ‏(‏ ص ‏)‏ ‏:‏ دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع ‏)‏‏.‏ قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفى لفظ قال ‏:‏ قال رسول الله هذه وهذه سواء يعفي الإبهام والخنصر ‏.‏ أخرجه البخاري ‏.‏ ولأنه جنس ذو عدد ، تجب فيه الدية ، فلم يختلف

باختلاف منافعه ، كاليدين ‏.‏ وفي كل أنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام ، فإنها مفصلان ، ففي كل أنملة منها خمس من الإبل ، لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع ، وجب أن تقسم دية الإصبع على عدد الأنامل ‏.‏ وإن جنى على اليد ، أو الإصبع ، فأشلها، فعليه ديتها ، لأنه ذهب بنفعها، فلزمه ديتها، كما لو جنى على عين فأعماها، أو لسان فأخرسه ‏.‏

فصل

وفي الرجلين الدية ، وفي إحداهما نصفها ، وفي كل أصبع عشر الدية ، وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام ، لما ذكرنا في اليدين ‏.‏

فصل

وفي قدم الأعرج ، ويد الأعسم السالمتين الدية ، لأن العيب في غيرهما ، لأن العرج لقصور أحد الساقين ، والعسم لاعوجاج الرسغ ، أو قصر العضد ، أو الذراع ، أو اعوجاج فيه ، فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف ، كأذن الأصم ‏.‏ وان كسر ساعده ، أو ساقه ، أو خلع كفه ، أو قدمه ، فجبرت وعادت مستقيمة ، لم يجب شيء‏.‏ وإن حصل نقص ، وجبت الحكومة لجبر النقص ‏.‏ وإن عادت معوجة ، كانت الحكومة أكثر‏.‏ فإن قال الجاني‏:‏ أنا أعيد خلعها ، وأجبرها مستقيمة ، منع منه ، لأنه استئناف جناية ‏.‏ فإن كابره وخلعها فعادت مستقيمة ، لم تسقط الحكومة ، لأنها استقرت باندمالها، وما حصل من

الاستقامة ، حصل بجناية أخرى ‏.‏ وتجب حكومة أخرى للخلع الثاني ، لأنه جناية ثانية ‏.‏

فصل

فإن كان لرجل كفان في ذراع لا يبطش بها ، فهي كاليد الشلاء ، لأن نفعها غير موجود‏.‏ فإن كان يبطش بأحدهما، دون الآخر ، فالباطش هو الأصلي ، فيه القود ، أو الدية ، والآخر خلقة زائد ‏.‏ وإن كان يبطش بهما إلا أن أحدهما أكثر بطشاً ، فهو الأصلي والآخر زائد ، لأن اليد خلقت للبطش ، فاستدل به على الأصلي منهما، كما يرجح في الخنثى الى بوله ‏.‏ وان استويا في البطش ، وأحدهما مستو على الذراع ، والآخر منحرف ، فالمستوي هو الأصلي ، وان استويا في ذلك ، وأحدهما ناقص ، والآخر تام ، فالتام هو الاصلي ، فيه القصاص أو الدية ‏.‏ ولا يرجح بالأصبع الزائدة ، لأن الزيادة نقص في المعنى‏.‏ وان استويا في جميع الدلائل ، فهما يد واحدة فيهما الدية ، وفي إحداهما نصفها‏.‏ وفي أصبع إحداهما نصف دية أصبع ، ولا قصاص في أحدهما ، لعدم المماثلة ، وإن قطعهما قاطع ، وجب القود ، أو الدية ، لأننا علمنا انه قد قطع يداً أصلية ، وحكومة للزيادة ، ويحتمل أن لا يجب حكومة ، لأن هذه الزيادة نقص في المعنى ، فأشبه السلعة والحكم في القدمين على ساق ، كالحكم في الكفين على ذراع واحد‏.‏ وإن كانت إحداهما أطول من الأخرى ، فقطع الطولى ، وأمكنه المشي على القصيرة ، فهي الأصلية ، وإلا فهي الزائدة ‏.‏

فصل

وان قطع يد أقطع ، أو رجله ، ففيها نصف الدية ، لما ذكرنا ‏.‏ وعنه ‏:‏ إن كانت الأولى ذهبت في سبيل الله ، ففي الثانية ديتهما، لأنه عطل منافعه من العضوين ، ولم يأخذ عوضاً عن الأولى ، فأشبه ما لو قلع عين أعور ، والأول أصح ، لأن إحداهما لا يحصل بها من النفع والجمال ما يحصل بالعضوين ، فلم تجب فيه ديتهما‏.‏ كأحد الأذنين ، والمنخرين ، وكما لو ذهبت في غير سبيل الله ، وفارق عين الأعور ، لأنه يحصل بها من النفع ، والنظر وتكميل الأحكام ما يحصل بالعينين ‏.‏

فصل

وفي الثديين الدية ، وفي أحدهما نصفها ، لأن فيهما جمالاً ظاهراً ونفعاً كثيراً ، وإن أشلهما ، ففيهما الدية ، لأنه أذهب نفعهما ، فأشبه ما لو أشل اليدين ‏.‏ وإذ جنى عليهما ، فأذهب لبنهما ، فقال أصحابنا‏:‏ تجب حكومة لنقصهما ، ويحتمل أن تجب ديتهما ، لأن ذلك معظم نفعهما ، فأشبه البطش‏.‏ وإن جنى على ثدي صغيرة ، ثم ولدت فلم ينزل لها لبن ، وقال أهل الخبرة ‏:‏ إن الجناية قطعت اللبن ، فعليه ضمانه ، وإن قالوا‏:‏ قد ينقطع من غير الجناية ، لم يضمن ، لأنه يحتمل أن يكون انقطاعه لغير الجناية ، فلا يجب الضمان بالشك ‏.‏ وفي حلمتي الثديين الدية ، لأن نفعهما بالحلمتين ، لأن بهما يمتص الصبي ، فيبطل نفعهما بذهابهما ، فأشبه أصابع اليدين ‏.‏ وفي الثندوتين الدية ، وهما ثديا الرجل ، لأن ما وجبت الدية فيه من المرأة ، وجبت فيه من الرجل إذا اشتركا فيه ، كاليدين ‏.‏

فصل

وفي الأليتين الدية ، لأن فيهما جمالاً ظاهراً ، ونفعاً كبيراً ، فأشبها اليدين ، وفي إحداهما نصفها، وفي تطع بعضها بقدره من الدية ، فإن جهل قدره ، وجبت الحكومة ، كنقص ضوء العين ‏.‏

فصل

وفي الذكر الدية ، لقول النبي ‏(‏ص ‏)‏ ، في كتاب عمرو بن حزم وفي الذكر الدية وفي حشفته الدية ، لأن نفعه يكمل بها ، كما يكمل نفع اليد بأصابعها، والثدي بحلمته ، وسواء في هذا ذكر الشيخ والطفل ، والخصي والعنين ، لأنه سليم في نفسه ، وعنه ‏:‏ في ذكر العنين والخصي حكومة ، لأن معظم نفع الذكر بالإنزال ، والإحبال ، ، وهو معدوم فيهما ، فأشبها الأشل ‏.‏ وان جنى على الذكر فأشله ، لزمته ديته ، لأنه أذهب نفعه ، فأشبه ما لو أشل يده ‏.‏ وان تطع بعض حشفته ، وجب من الدية بقدر ما قطع منها ، يقسط عليها وحدها ، كما تقسط دية اليد على الأصابع ‏.‏

فصل ‏.‏

وفي الأنثيين الدية ، لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لعمرو بن حزم في الأنثييي الدية وفي إحداهما نصفها، لأن ما وجبت الدية فيهما ، وجبت في أحدهما نصفها ، كاليدين ‏.‏فإن قطع الذكر والأنثيين معاً ، أو قطع الذكر ، ثم قطع الأنثيين ، فعليه ديتان ، كما لو قطع ، يديه ورجليه‏.‏ وإن قطع الأنثيين ، ، فعليه دية الأنثيين ،وحكومة لقطع الذكر ، نص عليه ، لأنه ذكر خصي‏.‏ وعنه ففيه دية ، على ما ذكرنا في ذكر الخصي‏.‏



فصل

وفي أسكتي المرأة الدية ، وهما اللحم المحيط بالفرج ، كإحاطة الشفتين بالفم ، لأن فيهما جمالاً ونفعاً في المباشرة ، فأشبها الأنثيين ، وفي إحداهما نصفها ، لما ذكرناه ، وفي قطع بعض إحداهما بقدره من ديته ، إن أمكن تقديره ، وإلا فحكومة ‏.‏

فصل

وإن جنى على مثانته ، فلم يستمسك بوله ، وجبت الدية ، لأنها منفعة مقصودة ، ليس في البدن من جنسها ، فوجبت الدية بتفويتها كساثر المنافع ، وان جنى عليه ، فلم يستمسك غائطه ، فعليه الدية كذلك ‏.‏ وإن أذهب المنفعتين ، لزمته ديتان ، كما لو أذهب سمعه وبصر‏.‏ وإن جنى على صلبه ‏.‏ أو غيره ، فعجز عن المشي ، فعليه الدية كذلك ‏.‏ وإن عجز عن الوطء‏.‏ لزمته كذلك دية ‏.‏ وإن جنى على صلبه ، فبطل مشيه ونكاحه ، لزمته ديتان ، لأن في كل واحد منهما دية منفرداً ، فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع ، كسمعه وبصره ‏.‏ وعنه ‏:‏عليه دية واحدة ، لأنهما منفعة عضو واحد ، فأشبه ما لو قطع أنثييه ، فذهب جماعه ونسله ، وإن ضعف المشي أو الجماع ، أو نقص ، فعليه حكومة ‏.‏ وإن كسر صلبه فانجبر وعاد إلى حاله ، ففيه الحكومة للكسر‏.‏ وإن احدودب ، فعليه حكومة للشين ‏.‏ وعنه ‏:‏ في الحدب الدية ، لما روى الزهري عن سعيد بن المتيثب أنه قال ‏:‏ مضت السنة أن في الصلب الدية ‏.‏ ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة ، فأشبه ما ذكرناه ‏.‏

فصل

وفي الصلع بعير ، وفي الترقوة بعير ، وفي الترقوتين بعيران ، لما روى أسلم مولى عمر عن عمر رضي الله عنه ‏:‏ أنه قضى في الترقوتين بجمل ، وفي الصلع بجمل ، ويجب في كل زنا بعيران ، لما روى عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر رضي الله عنه في أحد الزندين إذا كسر ، فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين ‏.‏ ولأن في الزند عظمين ، ففي كل عظم بعير‏.‏ وإن كسر الزندين ، ففيهما أربعة أبعرة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا توقيف في سائر العظام ، لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ، ولا توقيف فيها‏.‏ وقال القاضي في عظم الساق ‏:‏ بعيران ، وفي عظم الفخذ مثله ، قياساً على الزند‏.‏

فصل

وفي اليد الشلاء ، والسن السوداء ، والعين القائمة ثلث ديتها ، لما روى عمرو بن شعيب من أبيه عن جده قال ‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية ، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها ، وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها‏.‏ رواه النسائي ‏.‏ وقضى عمر رضي الله عنه بمثل ذلك ‏.‏ وعنه رواية أخرى في ذلك كله حكومة ، لأنه تعذر إيجاب دية كاملة بعد ذهاب نفعه ، فوجبت الحكومة فيه ، كاليد الزائدة ، وهكذا الروايتان في كل عضو ذهب نفعه ، وبقيت صورته ، كالرجل الشلاء ، والإصبع الشلاء ، والشفة الشلاء ، والذكر الأشل ، وذكر الخصي ، ولسان الأخرس ، قياساً على ما تقدم ‏.‏ وفي الكف الذي لا أصابع عليه روايتان ، مثل ما ذكرنا ، لأنه قد ذهب نفعه وبقي جماله ‏.‏ وعلى قياسه ساق لا قدم له ، وذرع لا كف له ، وذكر لا حشفة له ‏.‏فأما اليد الزائدة والأصبع الزائدة ، ففيها حكومة ، لأنه لا مقدر فيها ، ولا يمكن قياسها على ما ذكرنا، لأن هذه الأعضاء يبقى جمالها لبقاء صورتها ، والزائد يشين ولا يزين وذكر القاضي أنه في معنى الأشل ، فيقاس عليه ، فيكون فيه وجهان ‏.‏

فصل

وفي الأذن الشلاء ، والأنف الأشل دية كاملة ، كدية الصحيح ، لأن نفعهما وجمالهما باق بعد شللها ، فإن نفع الأذن جمع الصوت ، ومنع دخول الماء والهوام في صماخه ، ونفع الأنف جمع الرائحة ، ومنع وصول شيء إلى دماغه ، وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء ‏.‏

فصل

ويجب في الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية ، وفي أحدهما نصفها، لأن فيهما جمالاً ونفعاً ، لأنهما يردان العرق والماء عن العين ، ويفرقانه ، فوجبت الدية فيهما ، كالجفون ‏.‏ وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية ، وفي اللحية إذا لم تنبت الدية ، لأن فيها جمالاً كاملاً ، فوجبت الدية فيها ، كأنف الأخشم ، وأذن الأصم ، وفي ذهاب نقص ذلك بقسطه من ديته يقدر بالمساحة ، فإن بقي منها ما لا جمال فيه ، كاليسير من لحيته ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما‏:‏ يؤخذ بالقسط كما لو بقي من أذنه يسيراً ‏.‏

والثاني‏:‏ تجب الدية بكمالها ، لأنه أذهب المقصود منها ، فأشبه ما لو أذهب وضوء العين ‏.‏ ومتى عاد شيء من هذه الشعور ، سقطت الدية ، كما ذكرنا في عود السن ‏.‏

فصل

وذكر أبو الخطاب ‏:‏ أن في الظفر خمس دية الأصبع إذا قلعه ، أو سوده فإن عاد فنبت على صفته ، رد أرشه ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن له خمسة دنانير‏.‏ وإن نبت أسود فله عشرة ، نص عليه ‏.‏ وهذا إنما يصار إليه بالتوقيف ‏.‏ وما لا توقيف فيه من سائر الجروح ، تجب فيه الحكومة ، لأن القياس يقتضيها في جميع الجروح ، وخولف ذلك فيما ورد ، الشرع بتقديره ، ففي ما عداه يجب البقاء على مقتضى القياس ، والله أعلم ‏.‏
باب ما تحمله العاقلة وما لا تحمله


إذا قتل الحر حراً خطأ ، أو شبه عمد ، وجبت ديته على عاقلته ، لما روى أبو هريرة قال ‏:‏ اقتتلت امرأتان من هذيل ،فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها ، وما في بطنها ، فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولأن القتل بذلك يكثر فإيجاب ديته على القاتل يجحف به ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ لا تحمل العاقلة عقل شبه العمد ، لأنه موجب مثل قصده ، فأشبه العمد المحض ، فأما الجناية على ما دون النفس ، فإن العاقلة تحمل منه ما بلغ الثلث فصاعداً ، ولا تحمل ما دونه ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية ‏:‏ أن لا تحمل منها العاقلة شيئاً حتى تبلغ الدية عقل المأمومة ‏.‏ ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني ، وخولف الأصل في الثلث ، لإجحافه بالجاني ، لكثرته ، فما عداه يبقى في الأصل ‏.‏ وتحمل العاقلة دية المرأة ، والذمي ، وما بلغ من جراحها ثلث دية الحر المسلم ، ولا تحمل ما دونه لما ذكرنا ، وتحمل دية الجنين إن مات مع أمه،

لأن ديتهما وجبت بجناية واحدة ، وهي زائدة على الثلث ، ولا تحمله إذا مات منفرداً ، لأن ديته دون الثلث ‏.‏

فصل

و لا تحمل العاقلة عمداً ، ولا عبداً ، ولا صلحاً ، ولا اعترافاً ، لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً وروي ذلك موقوفاً على ابن عباس ‏.‏ ولأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل ، للتخفيف عن الجاني المعذور ، والعامد غير المعذور ، ولا يليق به التخفيف ، وضمان العبد مال ، فلم تحمله العاقلة ، كقيمة البهيمة ‏.‏ وما صلح عليه ، أو اعترف به ، ثبت بقوله ، فلا يلزم غيره ‏.‏ ولأنه يتهم في أن يواطئ غيره بصلح أو اعتراف ليوجب العقل على عاقلته ، ثم يقاسمه ‏.‏

فصل

وجناية الصبي والمجنون حكمهما حكم خطأ ، وتحملهما العاقلة ، وإن عمداً لأنه لم يتحقق منهما كمال المقصود ، ولا توجب جنايتهما قصاصاً ، فصارت كشبه العمد ‏.‏ ومن اقتص بحديدة مسمومة من الطرف ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا تحمله العاقلة ، لأنه قصد القطع بما يقتل غالباً ، فأشبه العمد المحض ‏.‏

و الثاني ‏:‏ تحمله ، لأنه ليس بعمد محض ، ولا يوجب قصاصاً ، فأشبه شبه العمد ‏.‏ ولو وكل وكيلاً يستوفي له القصاص ، ثم عفا عن الجاني ، فلم يعلم الوكيل حتى اقتص ، فقال القاضي لا تحمله العاقلة ، لأنه عمد محض ، وقال أبو الخطاب ‏:‏ تحمله العاقلة ، لأنه لم يقصد الجناية ‏.‏

فصل

ومن جنى على نفسه ، أو طرفه خطأ ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هي هدر ، لأن عامر بن الأكوع بارز مرحباً يوم خيبير ، فرجع سيفه على نفسه، فقتلها ، فلم يقض فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ‏.‏ ولأنه جنى على نفسه فلم يضمن كالعمد ، لأن حمل العاقلة إنما كان معونة له على الضمان للغير ، ولا يتحقق ها هنا ‏.‏

و الثانية ‏:‏ ديته على عاقلته لورثته ، ودية طرفه على عاقلته لنفسه ، لما روي أن رجلاً ساق حماراً بعصا كانت معه ، فطارت منها شظية ، فأصابت عينه ، ففقأتها فحعل عمر ديته على عاقلته ‏.‏ وقال هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء ‏.‏ ولأنها جناية خطأ ، فأشبه جنايته على غيره ، فإن كانت العاقلة هي الوارثة ، لم يجب شيء ، لأنه لا يجب شيء للإنسان على نفسه ، وإن كان بعضهم وارثاً ، سقط ما عليه وحده ‏.‏

فصل

و ما يجب بخطأ الإمام والحاكم في اجتهاده من الديات ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجب على عاقلته ،لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعلي كرم الله وجهه في جنين المرأة اتي أجهضت لما بعث إليها ‏:‏ عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك‏.‏

والثانية ‏:‏ في بيت المال ، لأن خطأه يكثر في أحكامه واجتهاده فإيجاب ما يجب به على عاقلته يجحف بهم ‏.‏ فأما الكفارة ففي ماله على كل حال ، لأنها لا تتحمل في موضع ، ويحتمل أن تجب في بيت المال ، لأنها تكثر فأشبهت الدية ‏.‏

فصل

و كل ما لا تحمله العاقلة من دية العمد ، وما دون الثلث وغيره ، يجب حالاً ، لأنه بدل متلف لا تحمله العاقلة ، فوجب حالاً كغرامة المتلفات ‏.‏ وما يجب بجناية الخطأ ، وعمد الخطأ مما تحمله العاقلة ، يجب مؤجلاً ، لأنه يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا بالدية في ثلاث سنين ، ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما ‏.‏ فإن كان الواجب دية كاملة ، كدية الحر المسلم ، أو دية سمعه ، أو بصره ، أو يديه ، أو رجليه ، قسمت في ثلاث سنين ، لما ذكرنا ، ووجب في آخر كل حول ثلثها ‏.‏ وإن كان الواجب ثلث دية ، كدية المأمومة ، والجائفة ،وجب ذلك عند آخر الحول الأول ‏.‏ وإن كانت نصف الدية ، كدية اليد ، أو العين أو ثلثي الدية ، كدية مأمومتين ، أو جائفتين ، وجب في رأس الحول الأول الثلث ، والباقي في الحول الثاني ‏.‏ وإن زاد على الثلثين ، وجب الزائد في الحول الثالث ‏.‏ وإن وجب بجنايته ديتان ، كدية سمعه ، وبصره ، وجب في ست سنين في كل سنة ثلثها، لأنها جناية على واحد ، فلم يجب له في كل حول أكثر من ثلث دية ، كما لو لم تزد على دية ، وإن وجب بجنايته ديتان لاثنين ، بأن قتلهما ، وجب لكل واحد منهما في كل حول ثلث ، لأنهما يجبان لمستحقين ، فلم ينقص واحد منهما من الثلث ، كما لو انفرد ‏.‏ وإن كان الواجب دية نفس ناقصة ، كدية المرأة والذمي ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تقسم في ثلاث سنين لأنه بدل نفس ، أشبه الدية الكاملة ‏.‏

و الثاني ‏:‏ يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية ، وباقيها في العام الثاني ، لأنها تنقص عن الدية ، أشبه دية اليد ‏.‏ ويعتبر ابتداء الحول في دية النفس من وقت الموت ، لأنه حق مؤجل ، فاعتبرت المدة من حين وجود سببه ، كالدين ‏.‏ وإن كان دية طرف اعتبرت المدة من حين الجناية ، لأنه وقت الوجوب ، فأشبه أرش المأمومة ‏.‏ وإن تلف شيء بالسراية ، فابتداء مدته حين الاندمال ، لأن ما تلف بالسراية ، اعتبر بحالة الاستقرار ، كالنفس ‏.‏

فصل

و العاقلة ‏:‏ العصبة من كانوا من النسب والولاء ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها ‏.‏ رواه ابن ماجة ‏.‏ وهذا اختيار أبي بكر ‏.‏ وعن أحمد رواية أخرى ‏:‏ أن الآباء لا يعقلون مع العاقلة ، لما روى جابر بن عبد الله قال ‏:‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة ‏.‏ على عاقلتها ،وبرأ زوجها وولدها ، فقال عاقلة المقتولة ‏:‏ ميراثها لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ميراثها لزوجها وولدها ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

فثبت هذا في الابن ، لأنه ولد وقسنا عليه الأب لتساويهما في العصبية ، ولأن الدية جعلت على العاقلة ، كيلا يكثر على القاتل فيجحف به ، ومال والده وولده ، كماله ‏.‏ وجعل الخرقي الإخوة في هذا ، كالأبناء ، وغيره من أصحابنا يخص الروايتين بالأب والأبناء ، لأنهم الذين لا تقبل شهادتهم له ، وشهادته لهم ، وبينهم قرابة جزئية ، وبعضية ‏.‏ فإن كان الابن من بني العم ، حمل من العقل ، لأنه من بني عمه فيعقل ، كما لو لم يكن ابناً ‏.‏

فصل

و لا عقل على من ليس بعصبة ، كالإخوة من الأم ، والمولى من أسفل ، لأنهم من غير العصبات ، فلا يعقلون ، كالنساء ‏.‏ ومن لم يكن له عاقلة ، ففيه روايتان إن كان مسلماً ‏:‏

إحداهما ‏:‏ عقله في بيت المال ، لأن مال يصرف إليه فيعقله ، كعصبته ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يعقله ، لأن فيه حقاً للنساء والصبيان والفقراء ، ولا عقل عليهم ، فأما الذمي ، فلا يعقل من بيت المال ، لأنه للمسلمين ، والذمي ليس منهم ‏.‏ فإن لم يكن له عاقلة ، فقال القاضي ‏:‏ يؤخذ من ماله ‏.‏ فأما المسلم فإن تعذر إيجاب ديته على العاقل ، أو بعضها ، ولم يؤخذ من بيت المال شيء ، فقال أصحابنا ‏:‏ لا يلزم القاتل شيء ، لأنه حق يجب على العاقلة ابتداء ، فلم يجب على غيرهم ، كالدين ‏.‏ ويحتمل أن يجب عليه ، لأنه هو الجاني ، فإذا تعذر أداء موجب جنايته من غيره، لزمه ، كالذمي ، والمضمون عنه إذا تعذر الاستيفاء من الضامن ، وكالمسائل التي تلي هذا ‏.‏

فصل

و يتعاقل أهل الذمة وعنه ‏:‏ لا يتعاقلون ‏.‏ وهل يتعاقلون مع اختلافهم دينهم ‏؟‏ على وجهين بناء على الروايتين في توريثهم ‏.‏ ولا يعقل مسلم عن كافر ، ولا كافر عن مسلم ، ولا حربي عن ذمي ، ولا ذمي عن حربي ، لأنه لا يرث بعضهم بعضاً ، فلا يعقل بعضهم بعضاً ، كغير العصبات ‏.‏ فإن رمى نصراني صيداً ، ثم أسلم ، ثم أصاب السهم إنساناً فقتله ، وجبت الدية عليه ، لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى ، لأنه قتل وهو مسلم ، ولا على عاقلته من المسلمين ، لأنه رمى وهو نصراني ‏.‏ وإن قطع نصراني يد رجل ، ثم أسلم فمات المقطوع ، فديته على عاقلته النصارى ، لأن الجناية وجدت وهو نصراني ، ولهذا يجب القصاص ، ولا يسقط بالإسلام ‏.‏ وإن رمى مسلم سهماً ، ثم ارتد ، فقتل إنساناً ، وجبت الدية في ذمته لما تقدم ‏.‏ وإن قطع يداً ، ثم ارتد ، ثم مات المجروح ، فعقله على عاقلته المسلمين ، لما ذكرنا ‏.‏ ويحتمل أن لا تحمل العاقلة أكثر من أرش الجراح في هذه المسألة ، وفيما إذا قطع نصراني يد رجل ، ثم أسلم ، فما زاد على أرش الجراح في مال الجاني ، لأنه حصل بعد مخالفته لدين عاقلته ،فأشبه ما ذكرنا من المسائل ‏.‏ ولو جنى حر أمه مولاة ‏.‏ وأبوه عبد ، عقله موالي أمه ، لأن ولاءه لهم ‏.‏ فإن حصل سراية الجناية بعد عتق أبيه ، فالدية في مال الجاني ، لأنه تعذر إيجابه على مولى أمه ، لأن السراية حصلت بعد زوال تعصيبهم ‏.‏ ولا يجب على موالي الأب ، لأن الجناية صدرت وهو مولى غيرهم ‏.‏ ولو حفر العبد بئراً ، ثم أعتقه سيده ، ثم وقع فيها إنسان ، فضمانه على الحافر ، لما ذكرنا ‏.‏

فصل

و ليس على فقير من العاقلة ، لا امرأة ، ولا صبي ، ولا زائل العقل حمل شيء من الدية ، لأن وجوبها للنصرة والمواساة ، وليس هؤلاء من أهل النصرة ، والفقير ليس من أهل المواساة ‏.‏ وحكى أبو الخطاب في الفقير المعتمل رواية أخرى أنه يعقل ، والمذهب الأول ، لما ذكرنا ، ولذلك لا تجب عليه الزكاة ‏.‏ ويعقل الشيخ ما لم يهرم ، والمريض الذي لم يزمن ‏.‏ وأما الشيخ الهرم والزمن ، ففيهما وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يعقلان لأنهما من أهل المواساة ، وتجب عليهما الزكاة، أشبها ما قبل ذلك ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يعقلان ، لأنهما ليسا من أهل النصرة ، أشبها المجنون ، وتعتبر صفاتهم عند الحول ، فمن مات ، أو افتقر ، أو جن قبل الحول ، سقط ما عليه ‏.‏ فإن بلغ ، أو عقل ، أو استغنى عند الحول ، لزمه ، لأنه معنى يعتبر له الحول ، فاعتبر في آخره ، كالزكاة ، ومن مات ، أو تغير حاله بعد الحول ، لم يسقط ما عليه كالزكاة ‏.‏

فصل

و الحاضر والغائب سواء في العقل ، لأنهم تساووا في إرثه ، فيتساوون في عقله ، ويقدم الأقرب من العصبات ،لأنه حكم يتعلق بالعصبات ،فقدم فيه الأقرب فالأقرب ، كالولاية والتوريث ، فيبدأ بإخوة القاتل وبنيهم ، وأعمامه وبنيهم ، وأعمام أبيه وبنيهم كذلك ، حتى ينقرض المناسبون ، فيجب على مولاه ، ثم عصباته ، ثم مولى مولاه ، ثم عصباته ، كالميراث بالولاء سواء ‏.‏ فإذا كان القاتل هاشمياً ، عقله بنو هاشم ، فإن فضل شيء ، دخل معهم بنو عبد مناف ، فإن فضل شيء ، دخل بنو قصي ‏.‏ وهل يقدم ولد الأبوين على ولد الأب ‏؟‏ على وجهين بناء التقديم في الولاية ‏.‏ ومتى اتسع الأقربون لحمل العقل ، لم يدخل معهم من بعدهم ‏.‏ وإن كثرت العاقلة في درجة ، قسم الواجب بينهم بالسوية ، لأنه حق يستحق بالتعصيب ، فيستوون فيه ، كالميراث ‏.‏

فصل

ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به ويشق عليه ، ولأنه حق لزمهم من غير جنايتهم على سبيل المواساة ، فلا يجب ما يضر بهم كالزكاة ، لأنه وجب للتخفيف عن الجاني ، ولا يزال الضر بالضر ، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم في قد الواجب ، فيفرض على كل واحد منهم قدراً يسهل ولا يؤذي ، لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف ، ولا توقيف ها هنا ، فوجب المصير إلى الاجتهاد ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه يفرض على الموسر نصف مثقال ، وعلى المتوسط ربع مثقال ‏.‏ وهذا اختيار أبي بكر ، لأن أقل مال وجب على الموسر على سبيل المواساة نصف مثقال في الزكاة ‏.‏ وأول مقدار يخرج به المال عن حد التافه ربع مثقال فوجب على المتوسط ، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ كانوا لا يقطعون في

الشيء التافه ‏.‏ وهل يتكرر هذا الواجب في الأحوال الثلاثة ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يتكرر لأنه قد يتعلق بالحول على سبيل المواساة ، فيتكرر بالحول ، كالزكاة ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يتكرر ، لأنه يفضي إلى إيجاب أكثر من أقل الزكاة ، فيكون مضراً ، ويعتبر الغنى والتوسط عند حلول الحول ، كالزكاة ‏.‏

فصل

و إذا جنى العبد جناية توجب المال ، تعلق أرشها برقبته ، لأنه لا يجوز إيجابها على المولى ، لعدم الجناية منه ، وإلا إهدارها ، لأنها جناية من آدمي ، ولا تأخيرها إلى العتق ، لإفضائه إلى إهدارها ، فتعلقت برقبته ، والمولى مخير بين فدائه وتسليمه على ما ذكرناه فيما تقدم ‏.‏ وإن قتل عبدان رجلاً عمداً ، فقتل الولي أحدهما ، وعفا عن الآخر ، تعلق برقبته نصف ديته ، لأنه قتل واحداً بنصف ، وبقي له النصف ‏.‏


باب القسامة


إذا وجد قتيل ، فادعى وليه على إنسان قتله ، لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين ، لأنها دعوى في حق ، فاشترط لها تعيين المدعى عليه ، كسائر الدعوى ، فإذا حرر الدعوى ،و لم يكن بينهم لوث ، فالقول قول المدعى عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لو يعطى الناس بدعا ويهم ،لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه رواه مسلم ‏.‏ ولأن الأصل براءة ذمته ، فكان القول قوله ، كدعوى المال ‏.‏

و هل يستحلف ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يستحلف ، للخبر ، ولأنه دعوى في حقي آدمي ، أشبهت دعوى المال ‏.‏

و الأخرى ‏:‏ لا يستحلف ، ويخلى سبيله ، لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله ، فلم يستحلف فيها ، كالحدود ‏.‏ وإذا قلنا ‏:‏ يستحلف ، حلف يميناً واحدة ، لأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل ، فلم تغلظ بالعدد ، كاليمن في المال ‏.‏

و إن كان بينهما لوث فادعى أنه قتله عمداً ، حلف المدعي خمسين يميناً واستحق القصاص ، لما روى سهل بن أبي حثمة ،ورافع بن خديج ،أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر ، فتفرقا في النخل ، فقتل عبد الله بن سهل ، فاتهموا اليهود ، فجاء عبد الرحمن ، وابنا عمه حويصة ومحيصة النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه ، وهو أصغرهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كبر الكبر فتكلما في أمر صاحبهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع إليكم ، برمته فقالوا ‏:‏ أمر لم نشهده كيف نحلف ‏؟‏ قال ‏:‏ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم فقالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال ‏.‏ قال ‏:‏ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

و لأن اللوث يقوي جنية المدعي ، ويغلب على الظن صدقه ، فسمعت يمينه أولاً ، كالزوج في اللعان ‏.‏ وإذا حلف ، استحق القصاص ، لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فيدفع إليكم برمته وفي لفظ تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ولأنها حجة يثبت بها القتل العمد ، فيجب بها القود ،كالبينة ‏.‏ وليس له القسامة على أكثر من واحد ، لقوله ‏:‏ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ولأنها بينة ضعيفة خولف بها

الأصل في قتل الواحد ، فيقتصر عليه ‏.‏

فصل

و يقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين ، لأنها يمين في دعوى ، فلم تشرع في حق غير المتداعيين ، كسائر الأيمان ‏.‏

و الثانية ‏:‏ يقسم من العصبة الوارث وغيرهم خمسون رجلاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فعلى هذا يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب ، كقولنا في تحمل العقل - كل واحد يميناً واحدة ‏.‏ وعلى الرواية الأولى ، يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم ‏.‏ فإن كان له ابنان، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يميناً ‏.‏ وإن كان فيها كسر ، جبر وكملت يميناً في حق كل واحد ‏.‏ فإذا كانوا ثلاثة بنين ، حلف كل واحد سبعة عشر يميناً ‏.‏ وإن كان له أب وابن ، حلف الأب تسعة أيمان ، وحلف الابن اثنين وأربعين يميناً ، لأن اليمين لا تتبعض ، فوجب أن تكمل ‏.‏

فصل

و إن نكل المدعون ، حلف المدعى عليه خمسين يميناً ، وبرئ ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ‏.‏ وعن أحمد رحمه الله أنهم يحلفون ويغرمون الدية ، لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ‏.‏ والأول المذهب ، للخبر ‏.‏ وفي لفظ منه قال ‏:‏ فيحلفون خمسين يميناً ويبرؤون مز دمه ‏.‏ ولأنها أيمان

مشروعة في حق المدعى عليه ، فبرئ بها كسائر الأيمان ‏.‏ فإن لم بحلف المدعون ، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه ، فداه الإمام من بيت المال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فدى الأنصاري بمائة من الإبل إذ لم يحلفوا ولم يرضوا بيمين اليهود ‏.‏ فإن تعذرت ديته ، لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم ، كسائر الدعاوى ‏.‏ وإن نكل المدعى عليهم ، ففيه ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ يخلى سبيلهم ، لأنها يمين في حق المدعى عليه ، فلم يحبس عليها كسائر الأيمان قال القاضي ‏:‏ ويديه الإمام من بيت المال ، كالتي قبلها ‏.‏

و الثانية ‏:‏ يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا ، لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين المدعي ، فيحبس المدعى عليه في نكولها ،كاللعان ‏.‏

و الثالثة ‏:‏ تجب الدية على المدعى عليه ، لأنه حكم يثبت بالنكول ،فثبت بالنكول هاهنا ، كما لو كانت الدعوى قتل خطأ ‏.‏

فصل

ومن مات ممن عليه لأيمان ، قام ورثته مقامه ، ويقسم حصته من الأيمان بينهم ، ويجبر كسرها عليهم ، كورثة القتيل ، فإن مات بعد حلفه البعض ، بطل ما حلفه ‏.‏ وابتدؤوا الأيمان، لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة ، ولا يجوز أن يبني الوارث على بعض يمين الموروث ‏.‏ وإن جن ثم أفاق ، بنى على ما حلفه ، لأو الموالاة غير مشترطة في

الأيمان ‏.‏

فصل

و تشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص ، سواء كان المقتول مسلماً ، أو كافراً ، أو حراً ، أو عبداً ، لأنه قتل موجب للقصاص ، أسبه قتل المسلم الحر ، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود ،كالخطأ ، وشبه العمد ، وقتل المسلم الكافر ، والحر العبد ، والوالد الولد ، لأن الخبر يدل على وجوب القود بها ، فلا تشرع في غيره ، ولأنها مشروطة باللوث ولا تأثير له في الخطأ ، فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء ‏.‏ وقال غيره ‏:‏ تجري القسامة في كل قتل ، لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص ، فيثبت بها غيرها كالبينة ‏.‏ فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير موجب للقصاص ‏.‏ وإذا ردت الأيمان عليهم ، حلف كل واحد منهم خمسين يميناً ، وقال بعض أصحابنا ‏:‏ تقسم الأيمان عليهم بالحصص ، لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فتبرئكم يهود بخمسين يميناً ‏.‏ لم يزد عليها ‏.‏ والأول ‏:‏ أقيس ، لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد ، كسائر الدعاوى ‏.‏ وإن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث ، حلف المدعون على صاحب اللوث ،و أخذوا حصته من الدية وحلف المدعى عليه يميناً واحدة ، وبرئ ‏.‏ ولا تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح والأطراف ، لأنها تثبت في النفس لحرمتها ، فاختصت بها ، كالكفارة ‏.‏

فصل

و يشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى ‏.‏ فإن ادعى بعضهم القتل ، فكذبه البعض ، لم يجب القسامة ، لأن المكذب منكر لحق نفسه ، فقيل ، كالإقرار ‏.‏ وإن قال بعضهم ‏:‏ قتله هذا ، وقال بعضهم ‏:‏ قتله هو وآخر ، فعلى قول الخرقي ‏:‏ لا قسامة ‏.‏ وعلى قول غيره ‏:‏ يقسمان على المتفق عليه ، ويأخذان نصف الدية ، ويحلف الآخر ويبرأ ‏.‏ وإن قال أحدهما ‏:‏ قتله زيد ، وآخر ‏:‏ لا أعرفه ، وقال الآخر قتله عمرو ، وآخر لا أعرفه ، فقال أبو بكر ‏:‏ ليس هاهنا تكذيب ، لأنه يكون المجهول في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه ، ويحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يميناً ، وله ربع الدية ‏.‏ فإن عاد كل واحد منهما ، فقال ‏:‏ الذي جهلته ، هو الذي عينه أخي ، حلف خمساً وعشرين يميناً ، واستحق عليه ربع الدية ‏.‏ وإن قال ‏:‏ الذي جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي ، بطلت القسامة ، وعليه رد ما أخذ ، لأن التكذيب يقدح في اللوث ‏.‏ وإن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة ، بطلت ، ولزمه رد ما أخذ ، لأنه يقر على نفسه ، فقبل إقراره وعليه رد ما أخذه ‏.‏

فصل

و أن كان في ورثة القتيل صبي ، أو غائب وكانت الدعوى عمداً لم تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي ، ويقدم الغائب ، لأن حلف أحدهما غير مفيد ‏.‏ وإنك كانت موجبة للمال ، كالخطأ ونحوه ، فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق حصته من الدية ، وفي قدر أيمانه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يحلف خمسين يميناً ‏.‏ هذا قول أبي بكر ‏:‏ لأننا لا نحكم بوجوب الدية إلا بالأيمان الكاملة ‏.‏ ولأن الخمسين في القسامة ، كاليمين الواحدة في غيرها ‏.‏

و الآخر ‏:‏ يحلف خمساً وعشرين يميناً ‏.‏ هذا قول ابن حامد ،لأنه لو كان أخوه كبيراً حاضراً ، لم يحلف إلا خمساً وعشرين ، فكذلك إذا كان صغيراً أو غائباً ‏.‏ ولأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية ، فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان فإذا قدم الغائب وبلغ الصغير ، حلف نصف الأيمان وجهاً واحداً ، لأنه يبني على يمين غيره ، ويستحق قسطه

من الدية ، فإن كانوا ثلاثة ، فعلى قول ابن حامد ‏:‏ يحلف كل واحد سبعة عشر يميناً ، وعلى قول أبي بكر ‏:‏ يحلف الأول خمسين ‏.‏ وإذا قدم الثاني حلف خمساً وعشرين ‏.‏ فإذا قدم الثالث ، حلف سبعة عشر يميناً ‏.‏

فصل

قال أصحابنا ‏:‏ ولا مدخل للنساء في القسامة ، لأنه لا مدخل لهن في العقل ‏.‏ فإذا كان في الورثة رجال ونساء ، أقسم الرجال دون النساء ‏.‏ فإن كانت المرأة مدعى عليها ، فينبغي أن تقسم ، لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه ‏.‏ ولو كان جميع ورثة القتيل نساء ، احتمل أن يقسم المدعى عليهم ، لتعذر الأيمان من المدعين ‏.‏ واحتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلاً ، ويثبت الحق للنساء إذا قلنا ‏:‏ إن القسامة تشرع في حق

غير الوارث ‏.‏ فإن لم يوجد من عصبته خمسون ، قسمت على من وجد منهم ‏.‏

فصل

و اللوث المشترط في القسامة ‏:‏ هو العداوة الظاهرة بين القتيل والمدعى عليه ، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر ،و ما بين القبائل المتحاربين ، وما بين أهل البغي والعدل ، وما بين الشرطة واللصوص ، لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول الأنصار ‏:‏ عدي على صاحبنا ، فقتل ، وليس لنا بخيبر عدو إلا يهود ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم باليمن ، فوجب أن يعلل بذلك ، ويعدى إلى مثله ، ولا يلحق به ما يخالفه ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن اللوث ‏:‏ ما يغلب على الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله ‏.‏ إما العداوة المذكورة ، أن تفرق جماعة عن قتيل ، أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم ،أو في مكان عنده في رجل معه سيف أو حديدة ملطخة بدم ، أو يقتتل طائفتان ، فيوجد في إحداهما قتيل ، أو يشهد بالقتل من لا تقبل شهادته ، من النساء ، والصبيان ، والعبيد ، والفساق ،أو عدل واحد ، لأن العداوة إنما كانت لوثاً ، لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي ، فنقيس عليها ما شاركها في ذلك ، فأما قول القتيل ‏:‏ دمي عند فلان ، فليس بدوث ،لأن قوله غير مقبول على خصمه ‏.‏ ولو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل ، لم يكن لوثاً ، لأنهم لم يعينوا واحداً ، ومن شرط القسامة التعين ‏.‏

فصل

و لا يشترط في اللوث أن يكون بالقتيل أثر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار عن هذا ‏.‏ ولو اشترط ، لاستفصل عليه السلام ، وسأل عنه ‏.‏ ولأنه قد يقتل بما لا يظهر أثره ، كغم الوجه ، وعصر الخصيتين ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ يشترط ذلك ‏.‏ وقد أومأ إليه أحمد ، لأن الغالب أن القتل لا يحصل إلا بما يؤثر ‏.‏ فإذا لم يكن به أثر ، فالظاهر أنه مات بغير قتل ‏.‏

فصل

و إذا ادعى رجل على رجل قتل وليه وبينهما لوث ، فجاء آخر ، فقال أنا قتلته ، ولم يقتله هذا ، لم تسقط القسامة بإقراره ، لأنه قول أجنبي ‏.‏ ولا يثبت القتل على المقر ، لأن الولي لم يدعه ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أن الدعوى تبطل على الأول ، لأنها عن ظن ، وقد بان خلافه ‏.‏ وله الدية على الثاني ، لأنه مقر على نفسه بها ، ولا قصاص عليه ، ولأن دعوى الولي على الأول شبهة في تبرئة الثاني ، فيمتنع القصاص ، ويحتمل أن لا يملك مطالبته بالدية كذلك ‏.‏ وإن كان قد أخذ الدية من الأول ، ردها عليه ‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏


باب اختلاف الجاني والمجني عليه

إذا قتل رجلاً وادعى أنه قتله وهو عبد ، فأنكر وليه ، فالقول قول الولي مع يمنيه لأن الأصل الحرية ‏.‏ والظاهر في الدار الحرية ، ولهذا يحكم بإسلام لقيطها وحريته ‏.‏ وإن ادعى أنه كان قد ارتد ، فأنكر الولي ، فالقول قوله كذلك ‏.‏ وإن قدم ملفوفاً في كساء ‏.‏ وادعى أنه كان ميتاً ، فالقول قول الولي ، لأن الأصل حياته ، وكونه مضموناً ، فأشبه ما ذكرنا ‏.‏ وإن جنى على عضو ، وادعى أنه كان أشل بعد اتفاقهما على أنه كان سليماً ، فالقول قول المجني عليه وإن لم يتفقا على ذلك ‏.‏ فإن كان من الأعضاء الباطنة ، فالقول قول المجني عليه ، لأن الأصل السلامة ‏.‏ وإن كان من الأعضاء الظاهرة ، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما ‏:‏ القول قول الولي ، لأن الأصل السلامة ‏.‏

و الثاني ‏:‏ القول قول الجاني ، لأن العضو يظهر ويعرف حاله ، فلو كان سليماً ، لم تتعذر إقامة البينة عليه ‏.‏ وهذا اختيار القاضي ‏.‏

فصل

و إذا زاد المقتص على حقه ، وادعى أنه أخطأ ، وقال الجاني ‏:‏ تعمد فالقول قول المقتص مع يمينه ، لأنه أعلم بقصده ، إلا أن يكون مما لا يجوز الخطأ في مثله ، فلا يقبل قوله فيه لعدم الاحتمال ‏.‏ وإن قال ‏:‏ هذه الزيادة حصلت بإضرابه ، فأنكر الجاني ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدم الاضطراب ‏.‏ وفيه وجه آخر ‏:‏ أن القول قول المقتص ، لأن الأصل براءة ذمته‏.‏

فصل

وإذا جرح ثلاثة رجلاً ، فمات ، فادعى أحدهم أن جرحه برأ ، وأنكره الآخران ، فصدق الولي المدعي في موضع يريد القصاص ، قبل تصديقه ، وليس على المدعي إلا ضمان الجرح ، لأنه لا ضرر على الآخرين في تصديقه ، لأن القصاص يلزمهما في الحالين ‏.‏وإن أراد أخذ الدية ، لم يقبل تصديقه في حقهما ، لأن عليهما ضرراً ‏.‏ فإنه إذا حصل القتل من ثلاثة ، وجب على كل واحد ثلث الدية ‏.‏ وإذا برأ جرح أحدهم ، كان القتل من اثنين ، فلزم كل واحد نصفها ‏.‏ ويقبل تصديقه في حق نفسه ، ويسقط عن المدعي ثلث الدية ، ويلزمه أرش الجرح ، ويجب على الآخرين ثلثا الدية ‏.‏

فصل

وإن أوضحه ، موضحتين بينهما حاجز ، فأزيل الحاجز ، فقال الجاني ‏:‏ تأكل بالسراية ، فلا يلزمني إلا دية موضحة ، وقال المجني عليه ‏:‏ أنا أزلته ، فالقول قول المجني عليه ، لأن الأصل بقاء أرش موضحتين ‏.‏ وإن قال الجاني ‏:‏ ما أوضحتك إلا واحدة ، وقال المجني عليه ، بل أوضحتني اثنتين ، فخرقت ما بينهما ، فصارا واحدة ، فالقول قول الجاني ، لأن الأصل براءة ذمته من أرش أخرى ‏.‏ وإن قطع أصابع امرأة ، فقال ‏:‏ قطعت من أصابعك أربعاً ، فقالت ‏:‏ إنما قطعت ثلاثاً ، والرابعة قطعها غيرك ، فالقول قولها ، لأن الأصل وجوب دية ثلاث ‏.‏

فصل

و إن قطع أنف رجل وأذنيه ، فمات ، فقال الجاني ‏:‏ مات من الجناية ، فلا يلزمني إلا دية نفسه ، وقال وليه ‏:‏ بل اندملت الجنايتان ، فالقول قول وليه ، لأن الأصل وجوب ديتين ، فلا يسقط بالاحتمال ‏.‏ وإن قطع ذلك ، ثم ضرب عنقه في مدة لا يحتمل البرء فيها ، فليس عليه إلا دية واحدة ‏.‏ وإن كان بينهما مدة تحتمل البرء فادعاه الولي ، فالقول قوله ‏.‏ وعلى الجاني ، ثلاث ديات ، لما ذكرنا ‏.‏ وإن ضرب عنقه أجنبي آخر ، فعلى الأول ديتان ، وعلى الثاني ‏:‏ دية وإن كان قبل الاندمال ، لأن جناية الثاني قطعت سراية الأول ‏.‏ فإن قال القاطع ‏:‏ أنا قتلته ، وقال الولي ‏:‏ بل قتله غيرك ، فالقول قول الولي ‏:‏ لما ذكرنا ‏.‏

فصل

و إن جنى على عين ، فأذهب ضوءها ، ثم مات المجني عليه ، فقال الجاني ‏:‏ عاد بصره قبل موته ، وأنكر الولي ، فالقول قوله ، لأن الأصل معه ‏.‏ وإن قلع العين آخر ، وادعى أنه قلعها قبل عود بصرها ، فأنكر الولي والجاني الأول ، فالقول قول الثاني ، لأن الأصل معه ، فإن صدق الولي والمجني عليه الأول ، قبل قوله في إبرائه ، لأنه يسقط حقه ، ولم يقبل على الثاني ، لأنه يوجب عليه حقاً الأصل عدمه ‏.‏


فصل

و إذا ادعى المجني عليه ذهاب سمعه بالجناية ، فأنكر الجاني ، امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد أخرى ‏.‏ فإن ظهر منه انزعاج ، أو إجابة ، أو أمارة للسماع ، فالقول قول الجاني ، لأن الظاهر معه ، ويحلف ، لئلا يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقاً ‏.‏ وإن لم يظهر منه أمارة السماع ، فالقول قول المجني عليه ، لأن الظاهر معه ، ويحلف ، لئلا يكون ذلك لجودة تحفظه ‏.‏ وإن ادعى ذهاب شمه ، امتحن في أوقات غفلاته بالرائحة الطيبة ، والمنتنة ، فإن ظهر منه تعبيس من المنتنة ، وارتياح للطيبة ، فالقول قول الجاني مع يمينه ، وإلا فالقول قول المجني عليه مع يمينه ‏.‏ وإن ادعى ذهاب سمع إحدى أذنيه ، أو الشم من أحد منخريه ، سد الصحيح ، وامتحن بما ذكرنا ‏.‏ وإن ادعى نقص سمعه ، أو شمه ، فالقول قوله مع يمينه ، لأنه يدعي محتملاً لا يعرف إلا من جهته ‏.‏ ولا سبيل إلى إقامة البينة عليه ، فيقبل قوله مع يمينه ، كقول المرأة في حيضها ‏.‏ ومتى حكم له بالدية ثم انزعج عند صوت ، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة ، فطولب بالدية فادعى أنه فعل ذلك اتفاقاً ، فالقول قوله ، لأنه يحتمل ما قاله ، فلا ينقض الحكم بالاحتمال ‏.‏ وإن تكرر منه ذلك ، بحيث تعلم صحة سمعه وشمه ، رد مأخذ ، لأننا تبينا كذبه ‏.‏ ولو كسر صلبه ، فادعى ذهاب جماعه ، فالقول قوله مع يمينه ، لأنه محتمل لا يعرف إلا من جهته ‏.‏

فصل

و إن ضرب بطن امرأة ، فألقت جنيناً ، وقالت ‏:‏ هو من ضربك ، فأنكرها ، وكان الإسقاط عقيب الضرب ، أو بقيت متألمة إلى أن أسقطت ، فالقول قولها ، لأن الظاهر معها ‏.‏ وإن بقيت مدة غير متألمة ، فالقول قوله ، لأنه يحتمل ما قاله ، احتمالاً ظاهرياً ‏.‏ والأصل براءة ذمته ‏.‏ وإن اختلفا في التألم ، فالقول قول الجاني ، لأن الأصل عدم التألم ، وهو مما يظهر ، ويمكن إقامة البينة عليه ، وإن أسقطت الجنين حياً ، ثم مات ، فقالت المرأة‏:‏ مات من ضربك ، فأنكرها ، وكان موته عقب الإسقاط ، أو بقي متألماً إلى أن مات ، فالقول قولها ، لأن الظاهر معها ‏.‏ وإن بقي مدة صحيحاً ، ثم مات ، فالقول قول الجاني ‏.‏ وإن اختلفا في تألمه ‏.‏ فالقول قوله ، لما ذكرنا ، وإن قالت المرأة ‏:‏ استهل ، ثم مات ، فأنكرها ، فالقول قوله ، لأن الأصل عدمه ، وإن اتفقا على استهلاله ، فقالت ‏:‏ كان ذكراً ،

و قال ‏:‏ بل أنثى ، فالقول قوله ، لأن الأصل براءة ذمته من الزائد على دية أنثى ‏.‏و إن صدق الجاني المرأة في حياته ، وكونه ذكراً ، وأنكرت العاقلة ، وجبت الدية في مال الجاني ، لأن العاقلة لا تحمل اعترافاً ‏.‏ وإن مات الجنين مع أمه ، واعترف الجاني ، أنه سقط حياً ، ثم مات ، وأنكرت العاقلة ، فعلى العاقلة غرة ، لأنها لم تعترف بأكثر منها وما زاد على الجاني ، لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة ‏.‏

فصل

و إن اصطدمت سفينتان ، فتلفت إحداهما ، فادعى صاحبها أن القيم فرط في ضبطها ، فأنكر ، فالقول قوله مع يمينه ، لأن الأصل عدم التفريط ، ومتى اختلفا في وجود جناية غير ما يوجب القسامة ، كالجناية على الأطراف وغيرها ، فالقول قول الجاني ، لأن الأصل براءة ذمته ، وعدم الجناية ‏.‏

فصل

و إذا سلم دية العمد ، ثم اختلفا ، فقال الولي ‏:‏ لم يكن فيها خلفات ، وقال الجاني ‏:‏ كانت فيها ، ولم تكن ، رجع فيه إلى أهل الخبرة ، فالقول قول الولي ، لأن الأصل عدم الحمل ‏.‏ وإن رجع في الدفع إليهم ، فالقول قول الدافع ، لأننا حكمنا بأنها خلفات بقولهم ، فلا ينقض ما حكمنا به إلا بدليل ‏.‏


باب كفارة القتل


تجب الكفارة ، على كل من قتل نفساً محرمة مضمونة ، خطأ ، بمباشرة أو تسبب ، كحفر البئر ، وشهادة الزور ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ ‏.‏ وتجب على من قتل في بلاد الروم مسلماً يعتقده كافراً ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏.‏ وكذلك يلزم من رمى صف الكفار فقتل مسلماً ، قياساً عليه ‏.‏ ومن ضرب بطن امرأة ، فألقت جنيناً حياً ، أو ميتاً فعليه كفارة ، لأنه آدمي محقون الدم لحرمته ، فوجبت فيه الكفارة كغيره ‏.‏و إن قتله وأمه ، فعليه كفارتان ،لأنه قتل نفسين ‏.‏ وإن قتل نفسه ‏.‏ أو عبده خطأ ، فعليه كفارة ، لأنها تجب لحق الله تعالى ‏.‏ وقتل نفسه وعبده كقتل غيرهما في التحريم ، لحق الله تعالى‏.‏ وإن اشترك جماعة في قتل واحد ، فعلى كل واحد منهم كفارة ، لأنها كفارة لا تجب على سبيل البدل ، اشتركوا في سببها فلزم كل واحد كفارة ، كالطيب في الإحرام ‏.‏وعنه ‏:‏ على الجميع كفارة لأنها تجب بالقتل فإن كان واحداً ، وجبت كفارة واحدة ، كقتل الصيد ‏.‏

فصل

ولا تجب الكفارة بالعمد المحض ، سواء أوجب القصاص ، أو لم يوجبه ،لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏.‏ فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره ‏.‏ ولأنها لو وجبت في العمد ، لمحت عقوبته في الآخرة ، لأنها شرعت لستر الذنب وعقوبة القاتل عمداً ثابتة بالنص لا تمحى بها ، فوجب ألا تجب الكفارة فيه ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنها تجب ، لأنها إذا وجبت في الخطأ مع قلة إثمه ، ففي العمد أولى ‏.‏

وأما شبه العمد ، فتجب فيه الكفارة ، لأنه أجري مجرى الخطأ وفي نفي عقوبته ، وتحمل العاقلة ديته ، وتأجيلها ، فكذلك في الكفارة ، ولأنه لو لم تجب الكفارة ، لم يلزم القاتل شيء ، لأن الدية تحملها العاقلة ، وتجب الكفارة في مال الصبي والمجنون إذا قتلا وإن تعمدا ، لأن عمدهما أجري مجرى الخطأ في أحكامه ، وهذا من أحكامه ‏.‏ وتجب على النائم إذا انقلب على شخص فقتله وعلى من قتلت بهيمته بيدها ، أو فمها إذا كان قائدها ،أو راكبها أو سائقها ، لأن حكم القتل لزمه ، فكذلك كفارته ‏.‏

فصل

و لا يجب بالجناية على الأطراف كفارة ، ولا بقتل غير الآدمي ، لأن وجوبها من الشرع ، وإنما أوجبها في النفس ‏.‏ وقياس غيرها عليها ممتنع ، لأنها أعظم حرمة ، ولذلك اختصت بالقسامة ‏.‏ ولا تجب بقتل مباح ، كقتل الزاني المحصن ، والقصاص ، وقتل أهل البغي ، والصائل ، ومن ضرب الحد فمات فيه أو في التعزير ، أو قطع بالسرقة ، أو القصاص ، فسرى إلى نفسه ، ونحو ذلك ، لأن الكفارة شرعت لتكفير والمحو ، وهذا لا شيء فيه يمحى ‏.‏

فصل

و الكفارة تحرير رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد ، فصيام شهرين متتابعين ، للآية ، فإن لم يستطع ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يلزمه إطعام ستين مسكيناً ، لأنها كفارة فيها العتق وصيام شهرين ، فوجب فيها إطعام ستين مسكيناً إذا عجز عنهما ، ككفارة الظهار ، والجماع في رمضان ‏.‏

و الأخرى ‏:‏ لا يجب فيها الإطعام لأن الله تعالى لم يذكره ‏.‏ وصفة الرقبة والصيام والإطعام ، كصفة الواجب في كفارة الظهار على ما ذكر فيه ‏.‏ ومن عجز عن الكفارة ، بقيت في ذمته ، لأنها كفارة تجب بالقتل ، فلا تسقط بالعجز ، ككفارة قتل الصيد الحرمي ‏.‏