المجلد الرابع - كتاب قتل أهل البغي

  كل من ثبتت إمامته ، حرم الخروج عليه وقتاله ، سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه ، كإمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أو بعهد الإمام الذي قبله إليه ، كعهد أبي بكر الى عمر رضي الله عنهما ، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودعوه إماما ، كعبد الملك بن مروان ،لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ ‏.‏ وروى أبو ذر وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، فميتته جاهلية رواه مسلم من حديث أبي هريرة ‏.‏

فصل

و الخارجون على الإمام على ثلاثة أقسام ‏:‏ قسم لا تأويل لهم ، فهؤلاء قطاع طريق ، نذكر حكمهم فيما بعد إن شاء الله ، وكذلك إن كان لهم تأويل ، لكنهم عدد يسير لا منعة عندهم ‏.‏و قال أبو بكر ‏:‏ هم بغاة ، لأن لهم تأويلاً ، فأشبه العدد الكثير ‏.‏

و الأول ‏:‏ أصح ، لأن علياً رضي الله عنه لم يجر ابن ملجم مجرى البغاة ، ولأن هذا يفضي إلى إهدار أموال الناس ‏.‏

القسم الثاني ‏:‏ الخوارج الذين يكفرون أهل الحق وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ ويستحلون دماء المسلمين ‏.‏ فذهب فقهاء أصحابنا إلى أن حكمهم حكم البغاة ، لأن علياً رضي الله عنه قال في الحرورية ‏:‏ لا تبدؤوهم بالقتال ‏.‏ وأجراهم مجرى البغاة ، وكذلك عمرو بن عبد العزيز رضي الله عنه ‏.‏ وذهبت طائفة من أهل الحديث الى أنهم كفار ، حكمهم حكم المرتدين لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم ‏:‏ إنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد ‏.‏ فعلى هذا يجوز قتلهم ابتداء ، وقتل أسيرهم ، واتباع مدبرهم ‏.‏ ومن قدر عليه منهم ، استتيب ، كالمرتد ، فإن تاب ، وإلا قتل ‏.‏

القسم الثالث ‏:‏ قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ ، وراموا خلعه ، ولهم منعة وشوكة ، فهؤلاء بغاة ، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعي الزكاة ، وقاتل علي رضي الله عنه أهل البصرة يوم الجمل ، وأهل الشام بصفين ‏.‏ ولا يقاتلهم الإمام حتى يسألهم ما ينقمون منه ‏.‏ فإن اعتلوا بمظلمته أزالها ، أو شبهة كشفها ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فأصلحوا بينهما‏}‏ وفي هذا إصلاح ، ولأن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة ‏.‏ وأمر أصحابه ألا يبدؤوهم بقتال ، وقال ‏:‏ إن هذا يوم ، من فلج فيه ، فلج يوم القيامة ‏.‏ وروى عبد الله بن شداد أن عليا لم اعتزلته الحرورية ، بعث إليهم عبد الله بن عباس ، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام ، فرجع منهم أربعة آلاف ‏.‏ فإذا راسلهم فأبوا ، وعظهم ‏.‏ وخوفهم القتال ، فإن أبوا ، قاتلهم ، فإن استنظروه مدة ، نظر في حالهم ، فإن بان له أن قصدهم تعرف الحق ، وكشف اللبس ، والرجوع إلى الطاعة ، إنظارهم، لأن في هذا إصلاحاً ، وإن علم أن قصدهم الاجتماع على حربه ، أو خديعته ، عاجلهم لما في التأخير من الضرر ‏.‏ فإن أعطوه مالاً على أنظارهم ، أو رهناً ، لم يقبل ، بأنه لا يؤمن جعل ذلك طريقاً إلى قهره وقهر أهل العدل ‏.‏

فصل

وإذا قوتلوا لم يتبع لهم مدبر ، ولم يجز على جريح ، ولم يقتل لهم أسير ، ولم يغنم لهم مال ، ولم يسب لهم ذرية ، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ‏:‏ يا ابن أم عبد ، ما حكم من بغى على أمتي ‏؟‏ فقلت ‏:‏ الله ورسوله أعلم ، فقال ‏:‏ لا يقتل مدبرهم ، ولا يجاز على جريحهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يقسم فيئهم وعن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل ‏:‏ لا يذفف على جريح ، ولا يهتك ستر ولا يفتح باب ، ومن أغلق باباً أو بابه ، فهو آمن ‏.‏ وعن أبي أمامة قال ‏:‏ شهدت صفين ، فكانوا لا يجيزون على جريح ، ولا يطلبون مولياً ، ولا يسلبون قتيلاً ‏.‏ ولأن المقصود دفعهم ، فإذا حصل لم يجز قتلهم ، كالصائل ‏.‏ وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله ، لأن علياً رضي الله عنه قال ‏:‏ إياكم وصاحب البرنس ، يعني محمد بن طلحت السجاد ، وكان قد حضر طاعة لأبيه ، ولم يقاتل ، ولأن القصد كفهم ، وهذا قد كف نفسه ‏.‏ ومن أسر منهم فدخل في الطاعة ، خلي سبيله ، وإن أبى ذلك وكان رجلاً جلداً ، حبس حتى تنقضي الحرب، لئلا يعين أصحابه على قتال أهل العدل ، فإذا انقضت الحرب ، خلي سبيله ، وإن لم يكن من أهل القتال ، خلي سبيله ، ولم يحبس ، لأنه لا يخشى الضرر من تخليته ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ فيه وجه آخر ‏:‏ أنه يحبس كسراً لقلوب أصحابه ، والأول أصح ‏.‏ وحكم النساء والصبيان حكم الرجال ، إن قاتلوا ، جاز دفعهم بالقتل ، وإلا فلا ‏.‏ ومن قتل أحداً مما منع من قتله ، ضمنه ، لأنه قتل معصوماً لم يؤمر بقتله ‏.‏ وهل يلزمه القصاص ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلزمه لأنه قتل مكافئاً عمداً ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يجب ، لأن في قتلهم اختلافاً ، فكان ذلك شبه دارئة للقصاص ‏.‏

فصل

ولا يجوز قتالهم بالنار ، ولا رميهم بالمنجنيق ، وما يعم إتلافه ، لأنه يعم من لا يجوز قتله ومن يجوز ‏.‏ فإن دعت إليه ضرورة ، جاز ، كما يجوز قتل الصائل ، ولا يستعين على قتالهم بكافر ، ولا بمن يستبيح قتلهم ، لأن القصد كفهم ، لا قتلهم ، وهؤلاء يقصدون قتلهم ‏.‏ فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم ، فقدر على كفهم عن فعل ما لا يجوز ، جازت الاستعانة بهم ، وإلا فلا ‏.‏ وإن اقتتلت طائفتان من أهل البغي ، فقدر الإمام على قهرهما ، لم يعن واحدة منهما ، لأنهما على الخطأ ، وإن لم يقدر ، ضم إليه أقربهما إلى الحق ، فإن استويا ، اجتهد ، في ضم إحداهما إلى نفسه ، يقصد بذلك الاستعانة بها على الأخرى ، فإذا قهرها ، لم يقاتل المضمومة إليه حتى يدعوها إلى الطاعة ، لأنها حصلت في أمانة بالاستعانة بها ‏.‏

فصل

ولا يجوز أخذ مالهم ، لما تقدم ، ولأن الإسلام عصم مالهم ، وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة ، فبقي المال على العصمة ، كمال قاطع الطريق ‏.‏ ولا يجوز الاستعانة بكراعهم وسلاحهم من غير ضرورة لذلك ‏.‏ فإن دعت إليه ضرورة ، جاز ، كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة ‏.‏

فصل

ومن أتلف من الفريقين على الآخر مالاً ، أو نفساً في غير القتال ، ضمنه ، لأن تحريم ذلك كتحريمه قبل البغي ، فكان ضمانه كضمانه قبل البغي ‏.‏ وما أتلف أحدهما عل الآخر حال الحرب بحكم القتال من نفس أو مال ، لم يضمنه ، لما روى الزهري قال ‏:‏ كانت الفتنة العظمى ، وفيهم البدريون ،وأجمعوا على أن لا يجب حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ، ولا يقتل رجل سفك دماً حراماً بتأويل القرآن ، ولا يغرم مالاً أتلفه بأويل القرآن ‏.‏ ولأن العادل مأمور بإتلافه ، فلم يضمنه ، كما لو قتل الصائل عليه ‏.‏ والبغاة‏:‏ طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب ، كأهل العدل ‏.‏ ولأن تضمينهم ذلك لفظي إلى تنفيرهم عن الطاعة ، فسقط ، كأهل الحرب ‏.‏ وعنه ‏:‏ يلزم البغاة الضمان ، لأنهم أتلفوه بغير حق ، فضمنوه ، كقطاع الطريق ‏.‏

فصل

وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب ، فأمنوهم بشرط المعاونة ، لم ينعقد أمانهم ، لأن من شرط الأمان ألا يقاتلوا المسلمين ، فلم ينعقد بدون شرطه ‏.‏ وإن أعانوهم ، فلأهل العدل قتلهم، وغنيمة أموالهم ، كما قبل الاستعانة ‏.‏ ولا يجوز لأهل البغي قتلهم ، ولا يحل لهم مالهم ، لأنهم أمنوهم ، فلزمهم الوفاء به ‏.‏ وإن استعانوا بأهل الذمة ، فقاتلوا معهم طائعين عالمين بتحريم ذلك ، فيه وجهان‏:‏

أحدهما ‏:‏ ينتقض عهدهم ، لأنهم قاتلوا المسلمين من غير عذر ، فانتقض عهدهم ، كما لو كانوا منفردين ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا ينتقض عهدهم ، لأنهم تابعون لأهل البغي ، فعلى هذا حكمهم حكم البغاة في قتل مقاتلتهم دون مدبرهم ، وأسيرهم ، وتذفيف جريحهم ، ولكنهم يضمنون ما أتلفوا من نفس أو مال ، في الحرب أو في غيره ، لأن سقوط التضمين عن البغاة كي لا يفضي الى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ، ولا يخاف تنفير أهل الذمة ‏.‏ وإن قالوا ‏:‏ كنا مكرهين ، أو ظنناً أنه يجوز لنا معاونتهم ، لم تنتقض الذمة ، لأن ما ادعوه محتمل ، فلا ينقض العهد مع الشبهة ‏.‏ وإن استعانوا بستأمن ، فحكمه حكم أهل الحرب إلا أن يقيم بينة على الإكراه ‏.‏

فصل

و إن ولوا قاضياً يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم ، لم ينفذ حكمه ، لأن العدالة شرط للقضاء ، وليس هذا بعدل وإن كان عدلاً مجتهداً ، نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي الإمام ، ورد منه ما يرد منه ، لأن له تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد فأشبه قاضي أهل العدل ‏.‏ وإن كتب إلى قاضي أهل العدل، استحب ألا يقبل كتابه كسراً لقلوبهم ، فإن قبله ، جاز ، لأن حكمه ينفذ ، فجاز قبول كتابه ، كقاضي الإمام ‏.‏

فصل

و إن استولوا على بلد ، فأقاموا الحدود ، وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتسب به ، لأن علياً رضي الله عنه ، لم يتتبع ما فعله أهل البصرة ، وأخذه ‏.‏ وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري ‏.‏ ومن ادعى دفع زكاته إليهم ، قبل منه ، ولم يستحلف ، لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ‏.‏ ومن ادعى من أهل الذمة دفع جزيته إليهم ، لم يقبل إلا ببينة ، لأنها عوض ، فأشبهت الأجرة ‏.‏ ومن ادعى دفع خراجه إليهم ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يقبل ، لأنه أجرة للأرض ، فأشبه أجرة الدار ، ولأنه خراج أشبه الجزية ‏.‏

و الثاني ‏:‏ يقبل قوله ، لأن الدافع مسلم ، فقبل قوله في الدفع ، كالزكاة ‏.‏

فصل

و إن أظهر قوم رأي الخوارج ، ولم يخرج عن قبضة الإمام ، فقال أبو بكر ‏:‏ لا يتعرض لهم ، لأن علياً رضي الله عنه سمع رجلاً يقول ‏:‏ لا حكم إلا لله - تعريضاً به في التحكيم - فقال ‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث ‏:‏ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدأكم بقتال ‏.‏ وحكمهم في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل ، لأن ابن ملجم جرح علياً رضي الله عنه ، فقال ‏:‏ أطعموه واسقوه واحبسوه ، فإن عشت فأن ولي دمي ، أعفو إن شئت ، وإن شئت استقدت ،وإن مت قتلتموه ولا تمثلوا به ‏.‏ ولا يتحتم القصاص إذا قتلوا مسلماً ، لقول علي رضي الله عنه ‏:‏ وإن شئت عفوت ‏.‏ وفيه وجه آخر أنه يتحتم ، لأنه قتل بإشهار السلاح في غير المعركة ، فتحتم قتله ، كقاطع الطريق ‏.‏ وإن سبوا الإمام ، أو غيره من أهل العدل ، عزروا ، لأنه محرم لا حد فيه ، ولا كفارة ، فشرع التعذير فيه ، وإن عرضوا بالسب ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يعزرون كي يصرحوا به ويخرقوا الهيبة ‏.‏


والثاني ‏:‏ لا يعزرون ، لما روي عن علي رضي الله عنه كان في صلاة الفجر ، فناداه رجل من الخوارج ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏}‏ ‏.‏ فأجابه علي رضي الله عنه ‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ ولم يعزره ‏.‏ فأما من ذهب من أصحابنا إلى تكفيرهم ، فإنهم متى أظهروا رأي الخوارج ، استتيبوا ، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم ، كسائر المرتدين ‏.‏

فصل

وإن اقتتلت طائفتان ، لطلب ملك أو رئاسة أو عصبية ، ولم تكن إحداهما في طاعة الإمام ، فهما ظالمتان ‏.‏ يلزم كل واحدة منهما ضمان ما أتلفت على الأخرى ‏.‏ فإن كانت إحداهما في طاعة الإمام تقاتل بأمره ، فهي المحقة ‏.‏ وحكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام ، لأنهم يقاتلون من أذن له الإمام ، فأشبه المقاتل لجيشه ‏.‏


باب أحكام المرتد


وهو ‏:‏ الراجع عن دين الإسلام ‏.‏ ولا يصح الإسلام والردة إلا من عاقل ، فأما المجنون والطفل ، فلا يصح إسلامهما ، ولا ردتهما ، لأنه قول له حكم ، فلا يصح منهما ، كالبيع وغيره من العقود ‏.‏ وأما الصبي المميز ، فيصح إسلامه وردته ، لأن علياً رضي الله عنه أسلم وهو ابن سبع ، فصح إسلامه ، وثبت إيمانه ، وعد بذلك سابقاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه ، فإما شاكراً ، وإما كفوراً ولأن الإسلام عبادة محضة ، فصح منه ، كالصلاة والحج ، ومن صح إسلامه صحت ردته ، كسائر الناس ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا تصح ردته ، لقول عليه السلام ‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة ‏.‏ ولأنه قول يثبت به عقوبة ، فلم يصح منه ، كالإقرار بالحد ، واختلف في السن المعتبرة لصحة إسلامه وردته ، فقال الخرقي ‏:‏ هي عشر سنين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربهم على الصلاة والتفريق بينهم في المضاجع لعشر ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أنه إذا كان ابن سبع سنين ، صح إسلامه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ مروهم بالصلاة لسبع ‏.‏ وعن عروة أن علياً والزبير أسلما وهما ابنا ثماني سنين ‏.‏ ولأنه تصح عباداته ، فصح إسلامه ، كابن عشر ، وفي ردة السكران روايتان ، كطلاقه ‏.‏

فصل

ولا تصح الردة من المكره ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏.‏ وإن لفظ بالكفر وهو أسير ، فثبت أنه لفظ به وهو آمن ، كفر ‏.‏ وإن لم يثبت ، لم يحكم بردته ، لأنه في محل المخافة ‏.‏ وإن لفظ بها غير الأسير ، حكم بردته ، إلا أن يثبت إكراهه ، ومن ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير ، أو شرب خمراً ، لم يحكم بردته ، لأنه قد يأكله معتقداً تحريمه ، والأفضل للمكره على كلمة الكفر ألا يقولها ، لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ إن كان الرجل ممن كان قبلكم يحفر له في الأرض ، ثم يجاء بمنشار فيوضع على رأسه ، ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه ‏.‏

فصل

و الردة تحصل بجحد الشهادتين ، أو إحداهما ، أو سب الله تعالى ، أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو جحد كتاب الله تعالى ، أو شيء منه ، أو شيء من أنبيائه ، أو كتاب من كتبه ، أو فريضة ظاهرة مجمع عليها ، كالعبادات الخمسة ، أو استحلال محرم مشهور أجمع عليه ، كالخمر ، والخنزير ، والميتة والدم ، والزنى ونحوه ‏.‏ فإن كان ذلك لجهل منه ، لحداثة عهده بالإسلام ، أو لإفاقة من جنون ونحوه ، لم يكفر ، وعرف حكمه ودليله ‏.‏ فإن أصر عليه كفر ، لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله وسنة رسوله ، فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله ، وسنة رسوله ‏.‏

فصل

ومن ارتد عن الإسلام ، وجب قتله ، لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من بدل دينه فاقتلوه ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ‏:‏ رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفس ‏.‏

فصل

وتقتل المرتدة للخبر ، ولأنها بدلت دين الحق بالباطل ، فتقتل كالرجل ‏.‏

فصل

ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً يدعى فيها إلى الإسلام ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه يقتل من غير استتابة ، للخبر ، ولأنه يروى أن معاذاً قدم على أبي موسى وعنده رجل محبوس على الردة ، فقال معاذ ‏:‏ لا أنزل حتى يقتل ، فقتل ‏.‏ والأول ظاهر المذهب ، لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى ، فقال له عمر ‏:‏ هل من مغربة خبر ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ رجل كفر بعد إسلامه ‏.‏ فقال ‏:‏ ما فعلتم به ‏؟‏ قال‏:‏ قدمناه ، فضربنا عنقه ‏.‏ قال عمر ‏:‏ فهل حبستموه ثلاثاً فأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب ، أو يراجع أمر الله ‏؟‏ اللهم إني لم أحضر ، ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني ‏.‏ ولو لم تجب الاستتابة ، لما تبرأ من فعلهم ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له ، فإذا تأنى عليه ، وكشفت شبهته ، رجع إلى الإسلام ، فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه ، فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة ، ويحبس ، ويدعى إلى الإسلام ، وتكشف شبهته ، ويبين له فساد ما وقع له ، فإن قتل قبل الاستتابة ، لم يجب ضمانه ، لأن عصمته قد زالت بردته ‏.‏ وإن ارتد وهو سكران ، لم يقتل قبل إفاقته ، لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره ‏.‏ فإذا صحا ، وتمت له ثلاثة أيام من وقت ردته ، قتل وإن ارتد صبي ، لم يقتل قبل بلوغه ، لأن القتل عقوبة متأكدة ، فلا تشرع في حق الصبي ، كالحد ‏.‏ وإذا بلغ ، استتيب ثلاثاً ، لأن البلوغ مظنة كمال للعقل ، فاعتبرت الاستتابة فيه ‏.‏ فإن لم يتب قتل ‏.‏ وإن ارتد عاقل فجن ، لم يقتل في جنونه ، لأن القتل يجب بالإصرار على الردة ، والمجنون ، لا يوصف بالإصرار ‏.‏ ومن قتل أحد هؤلاء ، عزر ، لارتكابه القتل المحرم ، ولم يضمن ، لأنه قتل كافراً لا عهد له ، فأشبه قتل نساء أهل الحرب ‏.‏

فصل

فإذا تاب المرتد قبلت توبته ، وخلي سبيله ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏إلا من تاب‏}‏ ‏.‏ وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ‏:‏ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ‏.‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أنه لا تقبل توبة الزنديق المستسر بكفره ، لأنه كان مستسراً به دهره ، فلا يزيد بتوبته عن الاستسرار الذي كان قبل الظهور عليه ، ولا توبة من تكررت ردته ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ ‏.‏ وقال أحمد ‏:‏ لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وقال الخرقي ‏:‏ ومن قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم ، قتل ، مسلماً كان أو كافراً ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ هل تقبل توبة من سب الله تعالى ورسوله ‏؟‏ على روايتين ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا تقبل ، لأن قتله موجب السب والقذف ، فلا يسقط بالتوبة ، كحد القذف ‏.‏

و الثانية ‏:‏ تقبل لأنه لا يزيد على اتخاذ الصاحبة والولد لله سبحانه وتعالى ، وقد سماه الله تعالى شتماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربه تعالى أنه قال ‏:‏ شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ، أما شتمه إياي ، فقوله ‏:‏ إن لي صاحبة وولداً والتوبة من هذا مقبولة بالاتفاق ‏.‏

فصل

و تثبت التوبة من الردة والكفر الأصلي ، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لخبر أنس ، إلا أن يكون ممن يعتقد أن محمداً بعث إلى العرب خاصة ، أو يزعم أن محمداً نبي يبعث غير نبينا صلى الله عليه وسلم ، فلا يصح إسلامه حتى يشهد أن نبينا محمداً نبي بعث إلى الناس كافة ، أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام ، لأنه يحتمل أن يريد بالشهادة ما يعتقده ‏.‏ وإن شهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما‏:‏ يحكم بإسلامه ، لأنه لا يقر برسالته ، إلا وهو مقر بمن أرسله ‏.‏

والثانية ‏:‏ إن كان ممن يقر بالتوحيد ، كاليهود ، حكم بإسلامه ، لأن كفره بجحده لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وإن كان ممن لا يوحد الله تعالى ، كالنصراني ، لم يحكم بإسلامه ، حتى يشهد أن لا إله إلا الله ، لأنه غير موحد فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى ، ويقر بما كان يجحده ، وإن ارتد بجحد فرض ، أو استحلال محرم ،لم يصح إسلامه ،حتى يرجع عما اعتقده ،ويعيد الشهادتين ،لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده‏.‏ وإن صلى الكافر ،حكمنا بإسلامه، سواء صلى جماعة، أو فرادى في دار الحرب ، أو الإسلام ، لأنها ركن يختص به الإسلام ، فحكم بإسلامه ، بها كالشهادتين ‏.‏ ولأن ما كان إسلاماً في دار الحرب ، كان بإسلاماً في دار الإسلام ، كالشهادتين ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أن مؤمن ، أو مسلم ، حكم بإسلامه وإن لم يلفظ بالشهادتين ، ذكره القاضي ، لأن ذلك اسم لشيء ، فإذا أخبر به ، فقد أخبر بذلك الشيء ‏.‏




فصل

و إن أصر على الردة ، قتل بالسيف ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ولا يقتله إلا الإمام ، لأنه قتل يجب لحق الله تعالى ، فكان الى الإمام ، كرجم الزاني ‏.‏ وإن قتله غيره بغير إذنه أساء ، ويعزر لافتئاته على الإمام ، ولا ضمان عليه ، لأنه أتلف محلاً غير معصوم ‏.‏

فصل

و إذا ارتد ، لم يزل ملكه ، لأنه سبب مبيح لدمه ، فلم يزل ملكه ، كزنا المحصن ، وإن وجد منه سبب يقتضي الملك ، كالاصطياد ، والابتياع ، ملك به كذلك ، ويرفع الحاكم يده عن ماله ، ويمنعه التصرف فيه ، ويقضي ديونه من ماله ، وأرش جناياته ، وينفق على من يلزمه الإنفاق عليه ‏.‏ وإن تصرف المرتد في ماله ، ببيع أو هبة ونحوها ، كان تصرفه موقوفاً ، إن أسلم ، تبينا وقوعه صحيحاً ، وإن لم يسلم ، كان باطلاً ، لأنه تعلق به حق جماعة المسلمين بردته ، فأشبه تبرع المريض لوارثه ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ يزول ملكه بردته ، لأن المسلمين ملكوا إراقة دمه ، فوجب أن يملكوا ماله ، كالأصلي لأنه زالت عصمته بردته ، فوجب أن تزول عصمة ماله ، فلا تصح تصرفاته ، ولا تملك بأسباب الملك ، ولا تنفق على أهله منه ، فإن أسلم ، رد إليه تمليكاً مستأنفاً ، وإن قتل ، أو مات ، قضيت ديونه ، لأن موته لا يمنع قضاء دينه ‏.‏

فصل

ولا يجوز استرقاق المرتد ، لأنه لا يجوز إقراره على ردته ‏.‏ وإن ارتد وله ولد ، لم يجز استرقاق ولده ،لأنه محكوم بإسلامه بإسلام والده ‏.‏فإذا بلغ ، أستتيب ثلاثاً ،فإن تاب وإلا قتل‏.‏ والحمل كالولد الظاهر ، لأنه يحكم له بالإسلام ،ولهذا نورثه من والده المسلم دون المرتد ‏.‏وإن ولد للمرتد ولد بعد ردته من كافرة ،جاز استرقاقه ،لأنه كافر ولد بين كافرين ،فجاز استرقاقه ،كولد الحربيين‏.‏ ونقل الفضل بن زياد عن أحمد في المرتد ‏:‏إذا تزوج في دار الحرب ، وولد له ،ما يصنع بولده ‏؟‏ قال ‏:‏يردون إلى الإسلام ،ويكونون عبيداً للمسلمين ‏.‏فظاهر هذا ، أنه لا يجوز إقرار ولده على الكفر ،ولا يقبل منه إلا الإسلام ‏.‏ وإذا أسلم بعد سبيه رق ، لأنه ولد من لا يقر على كفره ، فلا يقر على كفره ، كوالده الذي كان موجوداً قبل ردته ‏.‏

فصل

وما يتلفه المرتد مضمون عليه ، لأنه التزم حكم الإسلام بإسلامه واعترافه به ، فلا يسقط عنه بجحده ،كمن جحد الدين بعد إقراره به ، فإن لحق بدار الحرب ، فقد روي عن أحمد ‏:‏ أنه إذا لحق بدار الحرب ، فقتل ، أو سوق ، قال ‏:‏ قد زال عنه الحكم ‏.‏ يعني ‏:‏ لا يؤخذ بجنايته ، ثم توقف بعد ذلك ، فيحتمل أن يضمن ما أتلفه ، لما ذكرناه ، ويحتمل أن لا يضمن ، لأنه ممتنع بكفره في دار الحرب ، فلم يضمن ، كالكافر الأصلي ‏.‏

و إن ارتدت طائفة ، وامتنعت ، وجب على الإمام قتالها ، لأن أبا بكر الصديق قاتل أهل الردة ، ولأنهم كفار لا عهد لهم ، فوجب قتالهم كالأصليين ‏.‏ وما أتلفوه في حال الحرب ، لم يضمنوه ، لما روى طارق بن شهاب قال ‏:‏ جاء وفد بزاخة وغطفان ،إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يسألونه الصلح ، فقال ‏:‏ تدون قتلانا ، ولا ندي قتلاكم ، فقال عمر رضي الله عنه ‏:‏ إن قتلانا قتلوا على أمر الله ، ليس لهم ديات ، فتفرق الناس على قول عمر رضي الله عنه ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏

و إن أتلفوا في غير دار الحرب شيئاً ، ففيه وجهان ‏.‏ كالواحد إذا لحق بدار الحرب ‏.‏ وذكر ابن أبي موسى ، والقاضي ، وأبو الخطاب ‏:‏ أن ما أتلفه المرتد ، فهو مضمون عليه ، سواء كان واحداً ، أو جماعة ممتنعة بالحرب ‏.‏ ويحتمل في الجماعة الممتنعة ، ألا تضمن ما أتلفت ‏.‏

فصل

و من أكره على الإسلام بغير حق ، كالذمي ، والمستأمن ، لم يصح إسلامه ، ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد منه ذلك ، بعد زوال الإكراه ‏.‏ وإن أكره عليه بحق ، كالمرتد ، ومن لا يجوز إقراره على دينه ، حكم بإسلامه ‏.‏ ومن أسلم ، ثم قال ‏:‏ لم أعتقد الإسلام ، أو ‏:‏ لم أدر ما قلت ، لم يقبل منه ، وصار مرتداً ، نص عليه أحمد رضي الله عنه ‏.‏ وعنه أنه يقبل منه ‏.‏ والمذهب ‏:‏ الأول ‏.‏


باب الحكم في الساحر


السحر ‏:‏ عزائم ورقى وعقد تؤثر في الأبدان ، والقلوب ، فيمرض ، ويقتل ، ويفرق بين المرء وزوجه ، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه ‏.‏ قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه‏}‏ وقال الله سبحانه ‏:‏ ‏{‏قل أعوذ برب الفلق‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏ومن شر النفاثات في العقد‏}‏ ‏.‏ يعني ‏:‏ السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن ، وينفثن في عقدهن ، ولولا أن للسحر حقيقة ، لم يأمر بالاستعاذة منه ، وروت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سحر حتى أنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء ، ولم يفعله ، وأنه قال لها ذات يوم ‏:‏ أتاني ملكان ، فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر ‏:‏ ما وجع الرجل ‏؟‏ قال ‏:‏ مطبوب ،قال ‏:‏ ومن طبه ‏؟‏ قال ‏:‏ لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان رواه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ‏.‏

و تعلم السحر ، والعمل به حرام ، فإن فعله رجل ، وجب قتله إذا كان مسلماً ، لما روي عن بجالة قال ‏:‏ كنت كاتباً لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة ‏:‏ أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، فقتلنا ثلاث سواحر ‏.‏ في يوم ، رواه أحمد وأبوه داود ‏.‏ وقتلت حفصة أمة لها سحرتها ‏.‏ ورأى جندب بن كعب رجلاً يعمل سحراً بين يدي الوليد بن عقبة ، فضربه بالسيف ‏.‏ وأما ساحر أهل الكتاب ، فلا يقتل ‏.‏ نص عليه أحمد ‏.‏ وقال ‏:‏ الشرك أعظم من ذلك ‏.‏ وقد سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يقتله ‏.‏

قال أصحابنا ‏:‏ ويكفر بتعلم السحر ، والعمل به ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏ ‏.‏ فدل هذا على أنه يكفر بتعلمه ‏.‏ وهل يستتاب ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يستتاب ، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يستتيبوهم ، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة ‏.‏

و الثانية ‏:‏ يستتاب ‏.‏ فإن تاب ، قبلت توبته ، وخلي سبيله ، لأن دينه لا يزيد على الشرك‏.‏

و المشرك يستتاب ، وتقبل توبته ، فكذا الساحر ‏.‏ وعلمه بالسحر لا يمنع توبته ، بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم ، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم ‏.‏

فصل

الكاهن - الذي له رئي من الجن - والعراف ، وقد نقل عن أحمد ‏:‏ أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا ، لأنهما يلبسان أمرهما ، وليس هو من أمر الإسلام ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ العراف طرف من السحر ، والساحر أخبث ، لأنه شعبة من الكفر ‏.‏

فصل

فأما المعزم الذي يعزم على المصروع ،و يزعم أنه يجمع الجن ، وأنها تطيعه والذي يحل السحر ، فذكرهما أصحابنا من السحرة الذين ذكرنا حكمهم ‏.‏ وقد توقف أحمد لما سئل عن رجل ، يزعم أنه يحل السحر فقال ‏:‏ قد رخص فيه بعض الناس ‏.‏ قيل ‏:‏ إنه يجعل في الطنجير ماء ، ويغيب فيه ، ويفعل كذا ، فنفض يده كالمنكر ، وقال ما أدري ما هذا ‏؟‏ قيل له ‏:‏ فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر ‏؟‏ قال ‏:‏ ما أدري ما هذا ‏.‏

و سئل ابن سيرين عن امرأة تعذبها السحرة ، فقال رجل ‏:‏ اخط خطأ عليها ، واغرز السكين عند مجمع الخط ، واقرأ عليها القرآن ، فقال محمد ‏:‏ ما أعلم بقراءة القرآن بأساً على حال ، ولا أدري ما الخط والسكين ‏.‏ وسئل سعيد بن المسيب ،عن رجل يؤخذ عن امرأته يلتمس من يداويه ‏.‏ قال ‏:‏ إنما نهى الله تعالى عما يضر ، ولم ينه عما ينفع ‏.‏ إن استطعت أن تنفع أخاك ، فافعل ‏.‏ وهذا يدل على أن مثل هذا ، لا يكفر صاحبه ، ولا يقتل ‏.‏


كتاب الحدود


باب حد المحارب

وهو الذي يقطع الطريق ، ويخيف السبيل ، وعلى الإمام طلبه ، ليدفع عن الناس شره ، فإن ظفر به قبل أن يقتل ، ويأخذ مالاً ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ ينفيه ، فلا يتركه يأوي بلداً ‏.‏

و الثانية ‏:‏ يعزره بما يرى من حبس ، وغيره ‏.‏

ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏ وظاهر اللفظ وجوب نفيهم ، ووجه الثانية ‏:‏ أنه قد قيل ‏:‏ إن نفيهم ‏:‏ طلبهم لتعزيرهم ، وإقامة حد الله تعالى فيهم ‏.‏ فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ‏:‏ نفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا ، فتقام عليهم الحدود ، ولأن نفيهم من البلد يقضي إلى إغرائهم بما كانوا فيه ‏.‏

و إن شهر السلاح في الصحراء ، فقتل وأخذ مالاً ، قتل حتماً وإن عفا ولي الدم ، لأنه حد ، فلا يدخله عفو ، كسائر الحدود ، ثم يصلب قدر ما يشتهر أمره ، ولا توقيت فيه ، لأن التوقيت طريقة التوقيف ، ولا توقيف فيه ، ولا يصلب قبل القتل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ثم ينزل ويصلى عليه ، ويدفن ‏.‏ وإن مات قبل قتله ، لم يصلب ، لأنه تابع للقتل ، فسقط بفواته ‏.‏ وإن قتل ، ولم يأخذ مالاً قتل حتماً ، ولم يصلب ‏.‏ وإن أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده اليمنى ، ورجله اليسرى في مقام واحد ، ثم حسمتا ، وخلي ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ‏}‏ ‏.‏ وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال ‏:‏ وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي ،فجاء أناس يريدون الإسلام ، فقطع عليهم أصحابه ، فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم ‏:‏ أن من قتل وأخذ المال ، قتل ، وصلب ‏.‏ ومن قتل ولم يأخذ المال ، قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده ، ورجله من خلاف ، وهذا نص ‏.‏

وحكم الردء ،حكم المباشر في جميع هذه الجنايات ، لأنها محاربة ، فاستوى فيها الردء والمباشر ، كالجهاد يستوي الردء والمباشر في استحقاق الغنيمة ‏.‏ وذكر القاضي فيمن قتل وأخذ المال رواية أخرى ‏:‏ أنه يقطع ، ثم يقتل ، لأن القتل جزاء القتل ، والقطع جزاء أخذ المال مفرداً ، وإذا اجتمعا ، وجب حدهما ، كالزنا ، والسرقة ‏.‏ والأول أولى ، لأنه متى كان في الحدود قتل ، سقط ما دونه ، كالرجم في الزنا ، والقطع في السرقة ‏.‏

فصل

و من شرط المحارب أن يكون مع سلاح ، أو يقاتل بسلاح ، لأن من لا سلاح له لا منعة له ‏.‏ وإن قاتل بالعصا والحجارة ، فهو محارب ، لأنه سلاح يأتي على النفس ولأطرف ، أشبه الحديد ، وهل من شروطه أن يكون في الصحراء ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يكون محارباً حتى يشهر السلاح في الصحراء ، فإن شهره في مصر ، أو قرية ، وسعى فيها بالفساد ، فليس بمحارب ، هذا ظاهر كلام الخرقي ،لأن الواجب على المحاربين يسمى ‏:‏ حد قطاع الطريق ، وقطع الطريق إنما يكون في الصحراء ، ولأن المصر يلحق فيه الغوث غالباً ، فتذهب شوكتهم ، ويكونون مختلسين ‏.‏ وقال جماعة من أصحابنا ‏:‏ هم محاربون حيث كانوا ، لعموم الآية فيهم ، ولأن ضررهم في المصر أعظم ، فكانوا بالحد أولى ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إن كبسوا داراً في مصر بحيث يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين ‏.‏ وإن حضروا قرية ، أو بلداً ، بحيث لا يلحقهم الغوث ، لكثرة العدد ، أو بعد البلد من الغوث ، فهم قطاع طريق ، لأن الغوث لا يلحقهم عادة فأشبهوا من في الصحراء ‏.‏

فصل

و يشترط لتحتم القتل أن يقتل قاصداً لأخذ المال ، فإن قتل لغير ذلك فليس بمحارب ، وحكمه حكم القاتل في المصر ‏.‏ وإن قتل المحارب من لا يكافئه ، كحر قتل عبداً ، أو مسلم قتل ذمياً ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يقتل ويصلب ، لعموم ما روينا ‏.‏ ولأنه حد الله تعالى ، فلم تعتبر فيه المكافأة ‏.‏ كقطع السارق ‏.‏

و الثانية ‏:‏ لا تقتل به ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يقتل مسلم بكافر ‏.‏ وإن جرح إنساناً جرحاً يجب في مثله القصاص ، وجب القصاص ‏.‏ وهل يتحتم ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يتحتم ، لأنه نوع قود ، أشبه القود في النفس ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يتحتم ، لأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين ، فذكر القتل والصلب ، والقطع ، ولم يذكر الجرح ، فيكون حكمه حكم الجرح في غير المحاربة ‏.‏

فصل

و يشترط لوجوب القطع في المحاربة ثلاثة أشياء ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يأخذ المال مجاهرة وقهراً ، فإن أخذه مختفياً فهو سارق ‏.‏ وإن اختطفه وهرب به ، فهو منتهب ،لا قطع عليه ، لأن عادة قطاع الطريق القهر ، فيعتبر ذلك فيهم ‏.‏

و الثاني ‏:‏ أن يأخذ ما يقطع السارق في مثله ، لأنه قطع يجب بأخذ المال ، فاعتبر النصاب ، كقطع السارق ‏.‏ فإن أخذ جماعتهم ما يجب به القطع ، قطعوا كالمشتركين في السرقة ‏.‏

و الثالث ‏:‏ أن يأخذ من حرز ، فإن أخذ منفرداً عن القافلة ، أو من جمال ترك القائد تعهدها ، لم يقطع لما ذكرناه ‏.‏

فصل

و إذا كان المحارب معدوم اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، وأخذ المال ، انبنى ذلك على الروايتين في السارق ، إن قلنا ‏:‏ يؤتى على أطرافه كلها ، قطعت هنا يده اليسرى ، ورجله اليمنى ، وإن قلنا ‏:‏ لا يؤتى عليها ، سقط القطع ‏.‏ وإن وجد أحد طرفيه دون الآخر ، قطع الموجود حسب ، لأن ما يتعلق به الفرض معدوم ، فسقط ، كغسلها في الوضوء ‏.‏ وإن قطع القاطع يد المحارب اليسرى ، ورجله اليمنى مع وجود الطرفين الآخرين ، أساء ، وأجزأ ، لأننا لو أوجبنا قطع الطرفين الآخرين ، أفضى إلى قطع أربعته بمحاربة واحدة ‏.‏

فصل

و إن تاب المحارب قبل القدرة عليه ، سقط عنه حد المحاربة ، لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم‏}‏ ‏.‏ فيسقط عنه انحتام القتل ، والصلب ، والقطع ، والنفي ، ولا يسقط حق الآدمي من القصاص ، وغرامة المال ، وحد القذف ، لأنه حق للآدمي ، فلم يسقط بالتوبة ، كالضمان ‏.‏ وإن تاب بعد القدرة عليه ، لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه ، لأن الله تعالى شرطه في المغفرة لهم ، كون التوبة قبل القدرة ، فيدل على عدمها بعدها ، ولأن إسقاطه بالتوبة بعد القدرة يفضي إلى إسقاطه ، بالكلية ، لأنه يخبر بتوبته متى قدرنا عليه ، ولا نأمن أن يكون تقية ، فلا يسقط ما تيقنا وجوبه بالشك ‏.‏

فصل

ومن وجب عليه حد الله تعالى فتاب ، فهل يسقط عنه ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يسقط لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم‏}‏ وقال في الزانيين ‏:‏ ‏{‏فإن تابا وأصلحا ، فأعرضوا عنهما‏}‏ ولأنه حد فسقط بالتوبة ، كحد المحارب ‏.‏

و الثانية ‏:‏ لا يسقط لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏}‏

وقال سبحانه ‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏.‏ ولأن ماعزاً ‏.‏ والغامدية جاءا مقرين تائبين ‏.‏ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهما الحد ‏.‏

قال أصحابنا ‏:‏ ولا يعتبر إصلاح العمل مع التوبة في إسقاط الحد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ التوبة تجب ما قبلها ولأنها توبة من ذنب ، فلم يعتبر في حكمها إصلاح العمل ، كالإسلام ‏.‏ ويحتمل أن يعتبر إصلاح العمل مدة يتبين فيها أمره ، لقول الله ‏:‏ ‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح‏}‏ ‏.‏ وقال ‏:‏ ‏{‏فإن تابا وأصلحا‏}‏ علق الحكم على شرطين ، فلا يثبت بدونهما ، ولأنه لا يؤمن أن يكون إظهار التوبة تقية ، فلا يتحقق وجودها ، فلا يثبت الحكم بها بمجردها ، كتوبة المحارب بعد القدرة ‏.‏


باب حد السرقة


وحد السرقة ‏:‏ قطع اليد اليمنى ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ويعتبر في وجوبه أمور تسعة ‏:‏

أحدهما ‏:‏ السرقة ‏:‏ وهو أخذ المال مختفياً ، فإن اختطفه ، أو اختلسه ، فلا قطع عليه ، لما روى جابر قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ليس على المنتهب قطع وروى عنه عليه السلام أنه قال ‏:‏ ليس على الخائن ، ولا المختلس قطع ‏.‏ رواهما أبو داود ولأن الله تعالى إنما أوجب القطع على السارق ، وليس هؤلاء بسراق ‏.‏ وفي جاحد العارية روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا قطع عليه ، لأنه خائن ، فلا يقطع للخبر ، ولأنه ليس بسارق ، فلا يقطع ، كجاحد الوديعة ‏.‏ وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا ،و أبي الخطاب ‏.‏

و الثانية ‏:‏ يجب عليه القطع ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها ‏:‏ أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

فصل

الثاني ‏:‏ أن يكون مكلفاً ، فلا يجب الحد على صبي ، أو مجنون ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة ‏:‏ عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم ، حتى يستيقظ ولأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات ، والإثم في المعاصي ، فالحد المبني على الدرء ولإسقاط أولى ‏.‏ ولا قطع على مكره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ عفي لأمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ويخرج في قطع السكران وجهان ، بناء على الروايتين في طلاقه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ حكمه حكم الصاحي فيما يجب عليه من العقوبات ‏.‏ ويجب القطع على السارق من أهل الذمة ، والمستأمنين ، ويقطع المسلم بسرقة مالهما ، لأنهم التزموا حكم الإسلام ، فأشبهوا المسلم مع المسلم ‏.‏

فصل

الثالث ‏:‏ أن يكون المسروق نصاباً ، فلا قطع فيما دونه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً متفق عليه ‏.‏

و في قدر النصاب روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ ربع دينار من الذهب ، أو ثلاثة دراهم من الورق ، أو ما قيمته ذلك من غيرهما ، لما روت عائشة ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً ‏.‏ وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ‏.‏ متفق عليهما ‏.‏ وقال عليه السلام ‏:‏ فما بلغ ثمن المجن ، ففيه القطع وعنه ‏:‏ أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمته بالدراهم خاصة ، لهذا الخبر ‏.‏

و الثانية ‏:‏ الأصل الدراهم خاصة ، ويقوم الذهب بها ، لحديث ابن عمر ، والأول أولى ، لخبر عائشة ، ولأن ما كان فيه أحد النقدين أصلاً ، كان الآخر فيه أصلاً ، كالديات ، ونصب الزكوات ‏.‏ سواء في هذا الصحاح ، والمكسرة ، والتبر و، المضروب ، للخبر ‏.‏ فإنه اشترك اثنان في هتك حرز ، وسرقة نصاب منه ، فعليهما القطع ، لأنه قطع يجب على المنفرد ، فوجب على المشتركين فيه ، كالقصاص ، ويحتمل ألا يجب ، لأن كل واحد لم يسرق نصاباً ، فلا يجب عليه القطع ، للخبر ، وكما لو انفرد بسرقته ، فإن كان أحد الشريكين مما لا قطع عليه ، كالأب والصبي ، وكانت سرقة الأجنبي البالغ ، نصاباً ، فالقطع واجب عليه ، لأن المانع اختص بأحدهما ، فاختص السقوط به ، كالقصاص ، ويحتمل ألا يجب قطعه ، لأن سرقتهما علة قطعهما ، وسرقة الأب لا تصلح علة القطع ، فلم يجب على واحد منهما ‏.‏ وإن كانت سرقة الأجنبي ، لم تبلغ نصاباً ، لم يجب قطعه ، لأن ما سرقه لم يجب به القطع ، ولا يمكن بناء فعله على فعل شريكه ، لأن فعل الشريك لا يوجب ، ويحتمل أن يجب قطعه ، كما في القصاص ‏.‏ ومن هتك حرزاً ، فأخذ منه درهمين ثم عاد فسرق منه درهماً في ليلة أخرى ، أو وقيتين متباعدين ، فلا قطع عليه ، لأن كل سرقة منهما منفردة ، لا تبلغ نصاباً ، وإن تقاربا ، وجب القطع ، لأنهما سرقة واحدة من حرز هتكه ، فأشبه ما لو أخرجهما معاً ‏.‏ وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه ، فعلى فعل نفسه أولى ، ومتى شككنا في المسروق ، هل يبلغ نصاباً أو لا ‏؟‏ لم يجب القطع ، لأن الأصل عدمه ، فلا يجب الشك ‏.‏

فصل

و الشرط الرابع ‏:‏ أن يكون المسروق مما يتمول في العادة ، لأن القطع شرع لصيانة الأموال ، فلا يجب في غيرها ، وسواء في ذلك ما يبقى زمناً كالثياب ، وما يفسده طول بقائه ، كالفاكهة ، والأطعمة الرطبة ، وما أصله الإباحة ، كالصيود ، والفخار ، والآجر ، واللبن والخشب ، لأنه مال يتمول به عادة ، فوجب القطع بسرقته كالأثمان ‏.‏ فإم سرق حراً صغيراً ، فلا قطع عليه ، لأنه ليس بمال ‏.‏ وعنه ‏:‏ يقطع ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ لا يقطع وكان عليه حلي يبلغ نصاباً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع ، لأنه سرق نصاباً من المال ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا قطع عليه ، لأن يد الصبي ثابتة على ما عليه ، بدليل أن اللقيط يحكم له بما عليه ، فأشبه ما لو سرق جملاً ، صاحبه راكب عليه ‏.‏ وإن سرق عبداً صغيراً أو مجنوناً قطع ، لأنه مال ممكن سرقته ، وإن كان كبيراً عاقلاً ، فلا قطع عليه ، لأن سرقته غير ممكنة ، فإن قهره وأخذه ، كان غاصباً ، لا سارقاً ، إلا أن يكون نائماً ، أو غريباً لا يميز بين سيده وغيره ، فيقطع ، لأن سرقته ممكنة ‏.‏ فإن كانت أم ولد كذلك ، ققي قطع سارقها وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع ، لأنها مضمونة بالقيمة ، أشبهت القن ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يقطع لأن بيعها محرم ، أشبهت الحرة ، ويقطع سارق الوقف ، لأنه مملكوك للموقوف عليه ، ويحتمل أن لا يقطع ، لأنه لا يحل بيعه ، ولأنه غير مملوك على إحدى الروايتين ‏.‏

فإن سرق إناء يساوي نصاباً في خمر ، أو ماء ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع ، لأنه سرق نصاباً فلزمه القطع ، كما لو كان فيه بول ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يقطع لأن الإناء يراد وعاء لما فيه ، فصار تابعاً لما لا قطع فيه ، أشبه ثياب الحر إذا سرقه ‏.‏ وإن سرق آلة لهو ، كالطنبور والمزمار وشبهه ، فلا قطع عليه لأنه آلة معصية ، فأشبه الخمر ‏.‏ وسواء بلغ قيمة خشبه مكسوراً نصاباً ، أو لم يبلغ ، لأن معظم المقصود منه كونه آلة المعصية ، فصار المباح فيه تابعاً ‏.‏ وإن سرق إناء ذهب ، أو فضة تبلغ زنته نصاباً ، قطع ، لأن جوهره هو المقصود ، والصناعة مغمورة فيه ، فصارت تابعة له ، بخلاف التي قبلها ‏.‏ وإن سرق صليباً ، أو صنماً من ذهب أو من فضة ، فقال أبو الخطاب ‏:‏ فيه القطع ، لما ذكرنا ‏.‏ وقال القاضي فيه ، لأنه مجمع على تحريمه ، أشبه الطنبور ‏.‏

فصل

و إن سرق مصحفاً ، فقال أبو الخطاب ‏:‏ عليه القطع ، للآية ، ولأنه متقوم يبلغ نصاباً ، أشبه كتب الفقه ‏.‏ وقال أبو بكر والقاضي ‏:‏ لا قطع فيه ، لأن المقصود منه كلام الله تعالى‏.‏ فإن كان محلى بحلية تبلغ نصاباً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع ، وهو قول القاضي ، لأنه سرق نصاباً يجب به القطع منفرداً ، فيجب به مع غيره ، كما لو كانت الحلية منفصلة عنه ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا قطع فيها ، لأنها تابعة لما لا قطع فيه ، أشبه ثياب الحر ، ويقطع بسرقة سائر الكتب المتقومة المباحة ، لأنه يجوز بيعها ، أشبهت الثياب ‏.‏ فإن كانت محرمة ،ككتب البدع ، والشعر المحرم ، فلا قطع فيها ، لأنها محرمة ، أشبهت المزامير ، ولا يقطع بسرقة الماء ، لأنه لا يتمول عادة، ولا بسرقة السرجين ، وإن كان طاهراً لذلك ، ولأنه يوجد كثيراً مباحاً ، فلا تكثر تعلق الرغبات به ، فلا حاجة إلى الزجر عنه ‏.‏ وإن سرق كلأً ، أو ملحاً ، فقال أبو بكر ‏:‏ لا قطع عليه ، لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه ، أشبه الماء ‏.‏ وقال أبو إسحاق بن شاقلا ‏:‏ يقطع ، لأنه يتمول عادة أشبه الصيد ، والثلج مثله ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ هو كالماء ، لأنه ماء جامد ‏.‏

فصل

الشرط الخامس ‏:‏ أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه ، لأن الحدود تدراً بالشبهات ، فلا يقطع الوالد بسرقة مال ولده وإن سفل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أنت ومالك لأبيك رواه أبو داود ‏.‏ والأم كالأب في هذا ، لأنها أحد الأبوين أشبهت الأب ولا يقطع الابن بسرقة مال والده وإن علا في إحدى الروايتين ، لأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما لصاحبه ، أشبهت الأب ‏.‏ ويقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم ، لعدم ذلك فيهم ، ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده ، لما روي أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي قال لعمر ‏:‏ إن عبدي سرق مرآة امرأتي ، ثمنها ستون درهماً ، فقال ‏:‏ أرسله ‏:‏ لا قطع عليه ، غلامكم أخذ متاعكم ‏.‏ ولأن يده كيد مولاه ، بدليل أنه لو كان في يده مال ، فتنازعه السيد وأجنبي، كان لسيده ‏.‏ وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر الذي لم يحرزه عنه ، لم يقطع لأنه غير محرز عنه ‏.‏ وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا قطع عليه ، لقول عمر ‏:‏ غلامكم أخذ متاعكم ‏.‏ ولأن أحدهما يرث صاحبه من غير حجب ، وترد شهادته له ، أشبه الولد ، وهذا اختيار الخرقي وأبي بكر ‏.‏

و الأخرى ‏:‏ يقطع ، لعموم الآية ولأنه سرق مالاً محرزاً عنه ، لا شبهة له فيه ، أشبه الأجنبي ، ولا يقطع على من سرق مالاً له فيه شركة ، لأن له فيه حقاً ، فكان ذلك شبهة ، ولا قطع على مسلم بالسرقة من بيت المال لذلك ، ولأن عمر رضي الله عنه قال لابن مسعود حين سأله عمن سرق من بيت المال ‏:‏ أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق ‏.‏ وإن سرق منه ذمي قطع ، لأنه لا حق له فيه ‏.‏

ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق ، أو لولده ، أو لسيده ، لم يقطع لذلك ‏.‏ وإن لم يكن كذلك ، فسرق منها بعد إخراج الخمس ، قطع ، لأنه لا حق له فيها ‏.‏ وأن سرق قبل إخراج الخمس ، لم يقطع ، لأن له حقاً في خمس الخمس ‏.‏ وإن سرق مسكين من وقف المساكين لم يقطع لأن له فيه حقاً ، وإن سرق منه غني ، قطع ، لأنه لا حق له فيه ، وإن سرق حصير مسجد ، أو قنديله ، أو نحوه مما جعل لنفع المصلين ، لم يقطع ، لأن له فيه حقاً ‏.‏ وإن سرق بابه ، أو تأزيره ، أو شيئاً من خشب سقفه ، ففيه وجهان

أحدهما ‏:‏ يقطع ، لأنه لا حق له فيه وهو محرز بحرز مثله ، أشبه سارق ذلك من بيت آدمي ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا قطع عليه ، لأن المسجد كله إنما يراد لنفع المصلين ، ولأنه ليس له مالك من المخلوقين ‏.‏ والكعبة وغيرها في هذا سواء ، ولا يقطع بسرقة ستارتها الخارجة منها ، لأنها غير محرزة ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إن كانت مخيطة عليها ، قطع سارقها لأن هذا حرز مثلها ‏.‏

فصل

و لا قطع على الزوجة إذا منعت نفقتها فأخذت بقدرها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ولا على الضيف إذا منع قراه ، فأخذ بقدره ، لأن له حقاً وإن سرق غير ذلك من البت الذي هو فيه ، لم يقطع ، لأنه غير محرز عنه ، وإن كان محرزاً عنه ، فعليه القطع ، لعدم الشبهة ‏.‏ ولا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة ، لأنه فعل ما له فعله ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ لا قطع في المجاعة ، لأن عمر رضي الله عنه قال ‏:‏ لا قطع في عام سنة ‏.‏ قيل لأحمد ‏.‏ تقول به ‏؟‏ قال ‏:‏ أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة ‏.‏ ولا قطع على الغريم إذا جحده غريمه ، أو منعه ولم يقدر على استيفاء دينه ، فأخذ بقدره في أحد الوجهين ، وهو اختيار أبي الخطاب ، لأن طائفة من أهل العلم أباحت له ذلك ، فيكون شبهة ‏.‏ وفي الآخر عليه القطع ، وهو قول القاضي ، لأنه ليس له الأخذ ‏.‏ فإن كان غريمه باذلاً له ، قطع ، لأنه لا شبهة له في السرقة ، لإمكان التوصل إلى أخذه ‏.‏ وإن سرق المسروق منه مال السارق ، والمغصوب منه مال الغاصب من حرز فيه ماله ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا قطع عليه ، لأنه هتك حرزاً له هتكه ، لأخذ ماله ‏.‏

و الثاني ‏:‏ يقطع ، لأنه لما أخذ غير ماله ، علم أنه قصد سرقة مال غيره ‏.‏ وإن سرق ماله من حرز لا مال له فيه ، فحكمه حكم السارق من غريمه ، وإن أحرز المغصوب أو المسروق ، فسرقه أجنبي ، لم يقطع ، لأنه حرز لم يرضه مالكه ‏.‏ وإن غصب داراً ، فأحرز فيها متاعه لم يقطع سارقه ، لأنه لا حكم لحرزه حيث كان متعدياً به ظالماً فيه ‏.‏ وإن سرق المعير من الدار المستعارة أو المؤجر من الدار المستأجرة شيئاً ، قطع ، لأنه محرز عنه فأشبه الأجنبي ‏.‏

فصل

السادس ‏:‏ أن يسرق من حرز ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عم جده أن رجلاً من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار فقال ‏:‏ ما أخذ في أكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه ، وما كان في الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن رواه أبو داود ‏.‏

و يعتبر الحرز بما يتعارفه الناس ، فما عدوه حرزاً ، فهو حرز ، وما لا فلا ، لأن الشرع لما اعتبر الحرز ، ولم يبينه ، علمناه أنه رده إلى العرف ، كالقبض ، والتفرق ‏.‏ وإحياء الموات ‏.‏ هذا ظاهر قول أصحابنا ، وإليه ذهب ابن حامد ، والقاضي ‏.‏ وذكر أبو بكر كلاماً يدل على أن الإحراز لا يختلف ، فقال ‏:‏ إذا أفرد الشيء في الملك ، فهو محرز ، والعمل على الأول ‏.‏ فحرز الأثمان ، والجواهر ، ونحوها في الخانات الحريزة ‏.‏ والدور في العمران دونها الأغلاق والأقفال ، أو حافظ مستيقظ ، أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه ، أو كمه ، أو وسطه ، أو معضدته ونحن ذلك ‏.‏ ونقل حنبل عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل ، أو كمه ‏.‏ لا قطع عليه ، وهذا محمول على من اختلس دون من سرق ، لأنه قد بينه في رواية ابن منصور ، فقال ‏:‏ الطرار يقطع إذا كان يطر سراً ‏.‏

وإن اختلس ، لم يقطع ، فأما الجواسق في البساتين ، والخانات في البرية ، فإن كانت مغلقة وفيها حافظ ، فهي حرز ، نائماً كان أو يقظان ، وإن كانت مفتوحة ، فلا تكون حرزاً إلا أن يكون الحافظ يقظان ‏.‏ وإن لم يكن فيها حافظ ، فليست حرزاً بحال ، لأن المال لا يحرز فيها من غير حافظ ‏.‏

و الخيمة والخركاه المنصوبة ، كالجواسق فيما ذكرنا ‏.‏ ويقطع سارقها متى كان فيها حافظ ‏.‏ وإن كان نائماً ، لأنها تحرز بهذا ، وحرز متاع الباعة من العطارين ، وغيرهم بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق والأقفال ، وإن كانت مفتوحة ، فبحافظ يقظان ‏.‏ وحرز قدور الباقلا في الدكاكين ، وشرائح القصب ، وما جرت العادة بإحرازها به ‏.‏ وحرز باب الدار والدكان نصبه في موضعه ‏.‏ وحرز حلقة الباب تسميرها فيه وحرز آجر الحائط وحجارته كونه مبنياً في الحائط ‏.‏ وحرز الخشب والحطب بالحظائر ، وتغيبه بعضه على بعض ، مقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه ‏.‏ وإن كان في فندق مغلق ، أو فيه حافظ ، فهو محرز ، وإن لم يقيد ‏.‏ وحرز متاع الباعة وأشباههم كونه بين أيديهم ، لأنه محفوظ بذلك ، فإن نام عنه ‏.‏ أو اشتغل ، أو جعله خلفه بحيث تناله اليد ، خرج عن الحرز ، لأنه غير محفوظ ‏.‏ وإن نام إنسان على ثوبه ، أو متاعه ، فقد أحرزه ، لما روى صفوان بن أمية أنه نام في المسجد ، وتوسد رداءه ، فأخذ من تحت رأسه ، فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يقطع ، فقال صفوان يا رسول الله ‏:‏ لم أرد هذا ، ردائي عليه صدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فهلا قبل أن تأتيني به رواه ابن ماجه ‏.‏ فإن تدحرج عنه ، خرج من الحرز ‏.
فصل تابع باب حد السرقة


و حرز المواشي الراعية ينظر الراعي إليها ، فما استتر عنه بحائل ، أو نوم الراعي ، خرج عن الحرز ، لأنه غير محفوظ ، وحرز البارك من الإبل المعلقة بالحافظ ، نائماً كان أو يقظان ، لأن العادة أن صاحبها يعقلها إذا نام ، وإذا لم تكن معقلة فحرزها بحافظ يقظان ، لما ذكرنا ‏.‏ وحرز الحمولة بسائق يراها ، أو قائد يكثر الالتفات إليها ، ويراها إذا التفت ، لأنها لا تنحفظ إلا بذلك ‏.‏

فصل

ومن ترك ثيابه في الحمام لا حافظ لها ، فليست محرزة ‏.‏ وإن استحفظها إنساناً ، فحفظها، فعن أحمد أنها غير محرزة أيضاً ، إلا أن يتوسدها ، أو يجلس عليها ، لأن الحمام مستطرق وقال القاضي في موضع ‏.‏ يخرج في المسألة روايتان ، وفي موضع آخر ‏:‏ تصير محرزة بذلك ، كالقماش بين يدي الباعة ‏.‏ وإن نام الحافظ أو اشتغل ، فعليه الضمان ، ولا قطع على السارق ، لأنها خرجت عن الحرز ‏.‏ وإن لم يفرط في الحفظ ، فلا ضمان عليه لأنه مؤتمن ‏.‏

فصل

و حرز الكفن كونه على الميت في القبر ، فمن نبشه وسرقه ، قطع ، لأنه سارق ، بدليل قول عائشة رضي الله عنها ‏:‏ ‏(‏ سارق أمواتنا كسارق أحيائنا ‏)‏ ‏.‏ ولأن القبر حرز الكفن لأنه يوضع فيه عادة ، ولا يعد واضعه مفرطاً ، ولا مضيعاً وقد سرق منه ، وما زاد على الكفن المشروع ، كاللفافة الرابعة ، لم يكن القبر حرزاً له ، لأن تركه فيه تضييع ، فأشبه الكيس المدفون معه ‏.‏ وإن أكل الضبع الميت وبقي الكفن ، فلا قطع على سارقه ، لأنه غير محرز ، ويكون للورثة ، لأن لهم ما فضل عن حاجته من ماله ‏.‏

فصل

السابع ‏:‏ أن يخرجه من الحرز ، سواء أخرجه بيده ، أو بفيه ، أو رماه إلى خارج أو اجتذبه بمحجن ، أو بيده ، أو تركه على ظهر بهيمة وساقها ، أو على ماء جار ، أو في مهب ريح فأطارته ، أو على ماء راكد وحركه ، أو فجره فخرج به ، أو أمر صبياً مميزاً فأخرجه ، أو فتح طاقاً فانهال الطعام إليه ، أو بط جيبه إنسان ، أو كمه فسقط المال ، فأخذه ، فعليه القطع في هذا كله ، لأنه بسبب فعله ، فأشبه ما أخرجه بيده ، فإن جمعه في الحرز ثم تركه ومضى ، أو أخذ منه ، أو تركه في ماء راكد ، ففجره غيره فخرج به ، أو أخرج النباش الكفن من اللحد إلى القبر فتركه فيه ، أو التف المتاع في الحرز ، لم يقطع ، لأنه لم يسرق ‏.‏ وإن ترك المتاع على دابة ، فخرجت به بنفسها ، أو في ماء راكد فانفجر ، فخرج به ، أو على حائط في غير مهب ريح ، فهبت ريح فأطارته ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ عليه القطع ، لأن فعله سبب خروجه ، أشبه ما لو ساق البهيمة ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا قطع عليه ، لأن ذلك لم يكن آلة للإخراج وإنما خرج بسبب حادث ، أشبه ما لو فجر الماء آدمي آخر ، أو ساق البهيمة غيره ‏.‏ وإن أخرجه من الحرز ، فألقاه خارج الحرز ، أو رده إلى الحرز لخوف ، أو غيره ، فعليه القطع ، لأنه وجب بإخراجه ‏.‏ وإن أخرج خشبة ، فألقاها ومنها شيء في الحرز ، لم يقطع ، لأن بعضها لا ينفرد عن البعض ، ولذلك لو أمسك عمامة ، وطرفها في يد صاحبها ، لم يضمنها ‏.‏ وإن أخرج المتاع من البيت إلى صحن الدار ، وكان البيت مغلقاً ، ففتحه أو نقبه ، قطع ، لأنه أخرج المتاع من الحرز ، وإن لم يكن كذلك ، فلا قطع عليه ، لأنه لم يخرجه من الحرز ‏.‏

فصل

و إن دخل الحرز ، فأمل طعاماً فيه وخرج منه ، لم يقطع ، لأنه أتلفه، ولم يخرجه ‏.‏ وإن ابتلع ديناراً فلم يخرج منه ، فلا قطع عليه كذلك ‏.‏ وإن خرج منه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع ، لأنه أخرجه في وعاء ، فأشبه ما لو أخرجه في كمه ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا قطع عليه ، لأنه ضمنه بالبلع ‏.‏ فكان ذلك إتلافاً ‏.‏

و إن دخل ، فشرب لبن ماشية ، فلا قطع عليه ، لأنه أتلفه ‏.‏ وإن احتلب نصاباً وأخرجه ، قطع ، لأنه محرز بحرز الماشية ‏.‏ وإن ذبح الشاة وشق الثوب ، ثم أخرجه وقيمته بعد ذلك نصاباً ‏.‏ قطع لأنه أخرج نصاباً من الحرز ، وإلا فلا قطع فيه ، لأنه لم يخرج نصاباً ‏.‏ وإن تطيب في الحرز ، ثم خرج وعليه من عين الطيب ، ما إذا لو جمع بلغ نصاباً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع ، لأنه أخرج من الحرز نصاباً ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا قطع عليه ، لأنه أتلفه بالاستعمال ‏.‏ وإن لم يبق من عينه نصاب ، لم يقطع وجهاً واحداً ، لأنه لم يخرج نصاباً ، أشبه ما لو أكله ‏.‏

فصل

و إن أخرج نصاباً ، فنقصت قيمته عن النصاب قبل القطع ، قطع ، لأنه وجد شرط القطع فيه وقت الوجوب ، فلم يسقط القطع بفواته بعد ذلك ، كالحرز إذا تغير ، وإن ملك المسروق بهبة أو غيرها ، لم يسقط القطع ، لحديث سارق رداء صفوان ، لأن ملكه لمحل الجناية لا يسقط الحد ، كما لو زنى بأمة ثم اشتراها ‏.‏

فصل

و إن نقب الحرز ، ثم دخل آخر ، فأخرج المتاع ، فلا قطع عليهما ، لأن الأول لم يسرق ‏.‏

والثاني ‏:‏ سرق من حرز هتكه غيره ‏.‏ ويحتمل أن يقطعا إذا كانا شريكين ‏.‏ وإن نقبا معاً ، ودخل أحدهما فأخرج المتاع ، قطع الداخل ، لأن نقب وسرق ، ولم يقطع الآخر ، لأنه لم يسرق ‏.‏ وكذلك إذا رمى المتاع إلى خارج الحرز ، فأخذه الآخر ، أو خرج هو ، فأخذه ‏.‏ وإن نقبا ودخلا ، فأخرج أحدهما المتاع ، فالقطع عليهما ، لأن المخرج أخرجه بقوة صاحبه ومعونته ، وإن دخل أحدهما ، فقرب المتاع من النقب ، فمد الخارج يده فأخرجه ، أو شده الداخل بحبل ، فمده الخارج ، فأخرجه ، قطعا ، لاشتراكهما في هتك الحرز ، وإخراج المتاع ‏.‏

فصل

الثامن ‏:‏ أن تثبت السرقة عند الحاكم ، لأنه المتولي لاستيفاء الحدود ، فلا يجوز له استيفاء حد قبل ثبوته ، ولا يثبت إلا ببينة ، أو إقرار ‏.‏ فأما البينة فيشترط أن يكون فيها شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين فإذا وجب القطع بشهادتهما ، ثم غابا ، أو ماتا ، لم يسقط القطع على ما سنذكر إن شاء الله تعالى ‏.‏ وأما الإقرار ، فيعتبر أن يقر مرتين ، لما روى أبو أمية المخزومي ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف ، فقال له ‏:‏ ما أخالك سرقت ‏؟‏ قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فأمر به فقطع ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ ولم وجب لقطع بأول مرة ، لم يؤخره ، وعن القاسم بن عبد الرحمن ‏:‏ أن علياً رضي الله عنه أتاه رجل ، فقال ‏:‏ إني سرقت ، فطرده ، ثم عاد مرة أخرى ، فقال ‏:‏ إني سرقت ، فأمر به علي أن يقطع ، وقال ‏:‏ شهدت على نفسك مرتين ، وقطع يده ‏.‏ رواه الجوزجاني ولأنه حد يتضمن إتلافاً ، فاعتبر في إقراره التكرار ، كحد الزنا ‏.‏

فصل

قال أحمد ‏:‏ لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمقر بالسرقة ‏:‏ ما أخالك سرقت وطرد علي له ‏.‏ وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل فقال ‏:‏ أسرقت ‏؟‏ قل ‏:‏ لا ، فقال ‏:‏ لا ، فتركه ‏.‏

و لا بأس بالشفاعة في السارق قبل أن يبلغ الإمام ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه في الشفاعة في الحد ‏:‏ يفعل ذلك دون السلطان ، فإذا بلغ الإمام ، فلا أعفاه الله إن أعفاه ‏.‏ وإذا بلغ الإمام ، حرمت الشفاعة فيه كذلك ، لما روي ‏:‏ أن أسامة ابن زيد شفع في المخزومية التي سرقت ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال ‏:‏ أتشفع في حد من حدود الله ‏.‏ وقال ابن عمر ‏:‏ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في حكمه ‏.‏

فصل

التاسع ‏:‏ أن يأتي مالك المسروق ويدعيه سواء ثبتت سرقته ببينة ، أو إقرار ‏.‏ وقال أبو بكر ‏:‏ ليس بشرط ، لأن موجب الحد قد ثبت ، فوجب من غير طلب ، كالزنا ‏.‏

و الأول ‏:‏ أولى ، لأن المال يباح بالبذل والإباحة ، فيحتمل أن مالكه أباحه إياه ، أو أذن له في دخول حرزه ، أو وقفه على طائفة السارق منهم ، فاعتبر الطلب لنفي هذا الاحتمال ، بخلاف الزنا ‏.‏ فإن حضر المالك وطالب ، لكنه خالف المقر ، فقال ‏:‏ لم تسرق مني ، لكن غصبتني ، أو انتهبت مني ، أو خنتني ، أو جحدت وديعتي ، لم يقطع ، لأنه لم يوافق دعوى المدعي ‏.‏ وإن كان النصاب لاثنين ، فخالفه أحدهما في إقراره ، لم يقطع ، لأنه لم يوافق على سرقة النصاب ، وإن كان لمن وافقه نصاب قطع ، لموافقته على سرقة نصاب‏.‏ وإن كان المالك غائباً وله وكيل حاضر ، قام مقامه في الطلب ‏.‏ وإن لم يحضر له وكيل ، فقال القاضي ‏:‏ يحبس حتى يحضر ، وإن كانت العين في يده ، حفظها الحاكم للغائب ‏.‏

فصل

و إن ثبتت السرقة ببينة ، فأنكر السارق ، لم يلتفت إلى إنكاره ، لأن الإنكار شرط سماع البينة في مواضع فلم يقدح فيها ‏.‏ وإن قال ‏:‏ إنما أخذت ملكي ، أو لي فيه ملك ، أو دخلت بإذن المالك ، فالقول قول المسروق منه مع يمينه ‏.‏ وإن نكل ، قضي عليه ، وإن حلف ، ففي القطع ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ لا يقطع ، لأنه يحتمل صدقه ، ولذلك أحلفنا خصمه ، وهذا شبهة يندرئ بها الحد‏.‏

و الثانية ‏:‏ يقطع ، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى إسقاط القطع ، فتفوت مصلحته ‏.‏

و الثالثة ‏:‏ إن كان معروفاً بالسرقة ، لم تقبل دعواه ، لأننا نعلم كذبه ‏.‏ وإن لم يعرف بالسرقة ، قبلت دعواه ، لاحتمال صدقه ، فيصير ذلك شبهة ، والأول أولى ‏.‏ فإن أقر العبد بسرقة مال في يده ، وادعى ذلك المسروق منه ، وكذبه السيد ، وقال ‏:‏ بل هذه الدراهم لي ، قطع العبد ، وكانت الدراهم للسيد ، نص عليه أحمد ، لأن الموجب للقطع الإقرار مع مطالبة المدعي ، وقد وجد ذلك ، وتكون الدراهم للسيد ، لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده ، لأن يده كيده ‏.‏ ويحتمل ألا يجب القطع ، لأن المال محكوم به لسيده ، فلا يجب القطع بأخذه ، كما لو ثبت له ببينة ، ولأنه لم تثبت المطالبة من المالك ، فيكون ذلك محكوماً به للسيد ‏.‏ وإن طالب المالك وثبت القطع ، ثم عفا عن المطالبة بعد ذلك ، لم يسقط القطع ، بدليل أن صفوان عفا عن الطلب من سارق ردائه ، فلم يدرأ النبي صلى الله عليه وسلم عنه القطع ، ولأنه قد وجب ، فلم يسقط ، كما لو وهبه إياه ‏.‏ ولأن أكذب المدعي نفسه ، وقال ‏:‏ لم يكن هذا المال لي ، ولم يسرق مني شيئاً ، أو أنا أذنت له في أخذه ، ونحو هذا ، سقط القطع ، لأنه رجع عن شرط الوجوب ، فأشبه رجوع البينة عن الشهادة ، أو المقر عن الإقرار ‏.‏

فصل

و إذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع ، لأن في قراءة عبد الله بن مسعود ‏(‏ فاقطعوا أيمانهما ‏)‏ ولما روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا ‏:‏ إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من مفصل الكوع ، ولا مخالف لهما في الصحابة ‏.‏ ولأن البطش باليمنى وهو حاصل بالكف ، وما زاد من الذراع تابع ، لهذا تجب الدية فيه وحده ، ويحسم موضع القطع ، وهو ‏:‏ أن يغلى الزيت غلياً جيداً ، ثم تغمس فيه ، لتحسم العروق ، وينقطع الدم لما روى أبو هريرة ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقال ‏:‏ اذهبوا به ، فاقطعوه ، ثم احسموه ، ثم ائتوني به فقطع وأتي به ، فقال ‏:‏ تب إلى الله تعالى فقال تبت إلى الله ‏.‏ فقال ‏:‏ تاب الله عليك

و لا يجب الحسم لأنه مداواة ، فلم يجب على القاطع ، كالمقتص ، وثمن الزيت ، وأجرة القاطع من بيت المال ، لأنه من المصالح ، فإن لم يكن للسارق يد يمنى ، قطعت رجله اليسرى ،لأنه معدوم اليمنى ، فقطعت رجله اليسرى ، كالسارق في المرة الثانية ‏.‏ وإن كانت يده ناقصة الأصابع ، قطعت ، لأن اسم اليد يقع عليها ‏.‏ فإن ذهبت الأصابع كلها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يقطع الكف ، لأنه بعض ما يقطع في السرقة ، فوجب قطعه ، كما لو كان عليه بعض الأصابع ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يقطع ، لأنه تجب فيه دية اليد ، أشبه الذراع ، وإن كانت اليمنى شلاء ، لم تقطع ، نص عليه ، لأنها ذاهبة النفع ، فأشبه كفاً لا أصابع عليه ، وينتقل إلى الرجل ‏.‏ وعنه ‏:‏ يسأل أهل الطب ، فإن قالوا ‏:‏ إنها إذا قطعت ، رقأ دمها ، وانسدت عروقها ، قطعت لأن اسم اليد يقع عليها ، فهي كالصحيحة ‏.‏ وإن قالوا ‏:‏ لا يرقأ دمها ، لم تقطع ، لأن ذلك يؤدي إلى تلفه ‏.‏ ويعدل إلى الرجل ‏.‏ وإن سرق وله يد صحيحة ، فلم تقطع حتى ذهبت بآكلة ، أو نحوها ، سقط الحد ، لأن الحد تعلق بها ، فسقط بذهابها ، كما لو مات من عليه الحد ‏.‏




فصل

فإن سرق ثانياً ، قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ إن سرق ، فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ‏.‏و لأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى ، ورجله اليسرى كذا هاهنا ، وإنما قطعت اليسرى للرفق به ، لأنه يتمكن من المشي على خشبة ‏.‏ ولو قطعت يمناه ، لم يمكنه ذلك ‏.‏ وموضع القطع المفصل ، لأنه يروى عن عمر رضي الله عنه ، ولأنها أحد المقطوعين فتقطع من المفصل ‏.‏ كاليد ‏.‏

فصل

فإن سرق ثالثة ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحبس ، ولا يقطع غير يد ورجل ، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ إني لأستحي من الله ألا أدع له يداً يبطش بها ، ولا رجلاً يمشي عليها ‏.‏ ولأن قطعها يفوت منفعة الحبس ، فلم يشرع ، كالقتل ‏.‏

و الثانية ‏:‏ تقطع يده اليسرى ، فإن عاد ، فسرق مرة رابعة ، قطعت رجله اليمنى ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ، ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ‏.‏ ولأنها يد تقطع قوداً ، فجاز قطعها في السرقة كاليمنى ، ولأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قطعا اليد اليسرى في المرة الثالثة ‏.‏ فإن سرق بعد قطع يديه ورجليه ، حبس وعزر ، وكذلك إن سرق ثالثة على الرواية الأولى ، فإنه يحبس ولا يقطع ، لما روى سعيد بن منصور ‏:‏ حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال ‏:‏ أتي عمر بن الخطاب برجل أقطع اليد والرجل قد سرق ، فأمر به عمر أن تقطع رجله ، فقال علي ‏:‏ إنما قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏ إلى آخر الآية ‏.‏ وقد قطعت يد هذا ورجله ، فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها ، وإما أن تعزره ، أو تستودعه السجن ، فاستودعه السجن ‏.‏

فصل

فإن سرق ويده اليمنى صحيحة ، واليسرى مقطوعة ، أو شلاء ، انبنى على الروايتين ، فإن قلنا ‏:‏ إن يسراه تقطع في المرة الثالثة ، قطعت يمناه هاهنا ، لأنها موجودة ، وسبب قطعها متحقق ‏.‏ وإن قلنا ‏:‏ لا تقطع يسراه ، لم تقطع يمينه لأن قطعها يفوت منفعة الحبس ، ويتركه لا يد له يبطش بها ، وكذلك إن كانت يسراه صحيحة فقطعت ، أو شلت قبل يمينه ، فالحكم على ما ذكرنا ‏.‏ وإن كانت اليد قد قطعت أصابعها ، أو معظمها ، فهو كقطعها ، لأنه يفوت منفعة البطش ‏.‏

فصل

و إذا وجب قطع يمنيه ، فقطع القاطع يساره ، أساء ، وأجزأ ، ولا تقطع يمينه ، لئلا تقطع يداه بسرقة واحدة ، ولأن قطعها يفوت منفعة البطش ، ويتخرج على الرواية التي تقول ‏:‏ تقطع أربعته ، أن تقطع يمناه ، كما لو قطعت يسراه عدواناً ، فعلى هذا إن كان السارق أخرجها عمداً عالماً أنها لا تجزئ ، فلا ضمان على قاطعها ، لأنه قطعها بإذنه ‏.‏و إن أخرجها دهشة ، أو ظناً أنها تجزئه ، فعلى القاطع ضمانها بالقصاص إن تعمد ، وبالدية إن كان جاهلاً بالحال ، لأنه قطع يداً معصومة عمداً ، فضمنها ، كما لو قطع يد غير السارق ‏.‏

فصل

متى تكررت منه السرقة ولم يقطع ، أجزأ يده عن جميعها ‏.‏ وذكر القاضي فيما إذا طالب الجماعة متفرقين رواية أخرى ‏:‏ أنها لا تتدخل ، والصحيح الأول ويقطع للثانية ‏:‏ لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزى حد واحد ، كسائر الحدود ‏.‏ فأما إن قطع بسرقة ، ثم عاد فسرق ، قطع ثانية ، سواء سرق العين التي قطع بها ، أو لا أو غيرها من المسروق منه الأول ، أو من غيره ، لأنه حد يجب بفعل في عين ، فكان تكرره في عين واحدة كتكرره في أعيان ، كالزنا ‏.‏

فصل

ويسن تعليق يد السارق بعد قطعها في عنقه ، لما روى فضالة بن عبيد ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه رواه أبو داود ‏.‏ وفعل ذلك علي رضي الله عنه بالذي قطعه ، لأنه أبلغ في الزجر ‏.‏ ولو قال السارق ‏:‏ أنا أقطع نفسي ، لم يمكن ، لأنه حق عليه ، فلم يمكن من استيفائه من نفسه ، كالقصاص ‏.‏

فصل

و إذا قطع ، فإن كان المسروق قائماً ، رد إلى مالكه ، لأنه ملكه ، فرد إليه ، كما قبل القطع ‏.‏ وإن كان تالفاً ، فعلى السارق ضمانه ، لأنه مال آدمي تلف تحت يد عادية ، فوجب ضمانه ، كالذي تلف في يد الغاصب ، ولأن الضمان يجب للآدمي ، والحد لحق الله تعالى ، فوجبا جميعاً ، كالدية ، والكفارة في قتل الآدمي ‏.‏


باب حد الزنا


الزنا حرام ، وهو من الكبائر العظام ، بدليل قول الله تعلى ‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا‏}‏ ‏.‏ وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أي الذنب أعظم ‏؟‏ قال ‏:‏ أن تجعل لله نداً وهو خلقك ‏.‏ قلت ‏:‏ ثم أي ‏؟‏ قال ‏:‏ أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قلت ‏:‏ ثم أي ‏؟‏ قال ‏:‏ أن تزني بحليلة جارك ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

فصل

والزنا ‏:‏ هو وطء في الفرج لا يملكه ، ولا يحب الحد بغير ذلك ، لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لماعز ‏:‏ لعلك قبلت ، أو غمرت قال ‏:‏ لا ‏.‏ قال ‏:‏ أفنكتها لا يكني ‏.‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ قال فعند ذلك رجمه ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ وفي رواية عن أبي هريرة قال ‏:‏ أنكتها ‏.‏ قال ‏:‏ نعم ، قال حتى غاب ذاك منك في ذاك منها قال نعم ‏.‏ قال ‏:‏ كما يغيب المرود في المكحلة ، والرشاء في البئر قال ‏:‏ نعم ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

و أدناه أن تغيب الحشفة في الفرج ، للخبر ، ولأن أحكام الوطء تتعلق بذلك ، لا بما دونه ، وسواء كان الفرج قبلاً ، أو دبراً ، لأن الدبر فرج مقصود ، فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل ، ولأنه إذا وجب الحد بالوطء في القبل وهو مما يستباح ، فلأن يجب الوطء في الدبر الذي لا يستباح بحال أولى ، ولو تلوط بغلام ، لزمه الحد كذلك ، وفي حده روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجب عليه حد الزنا ، يرجم إن كان ثيباً ،و يجلد إن كان بكراً ، لأنه زان ، بدليل ما روى أبو موسى ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إذا أتى الرجل الرجل ،فهما زانيان ‏.‏ وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ولأنه حد يجب بالوطء ، فاختلف فيه البكر والثيب ، كالزنا بالمرأة ‏.‏

و الثانية ‏:‏ حده القتل ، بكراً كان أو ثيباً ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ فارجموا الأعلى والأسفل واحتج أحمد بعلي رضي الله عنه أنه كان يرى رجمه ‏.‏ ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم ، فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك ‏.‏ وإن وطئ الرجل امرأة ميتة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يلزم الحد ، لأنه إيلاج في فرج محرم لا شبهة له فيه ، أشبه الحية ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يجب ، لأنه لا يقصد ، فلا حاجة إلى الزجر عنه ‏.‏ وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحد ، لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه رواه أبو داود ‏.‏ ولما ذكرنا فيما تقدم ‏.‏

و الثانية‏:‏ لا يحد ، ولكن يعزر ، لأن الحد يجب للزجر عما يشتهى وتميل إليه النفس ، وهذا مما تعافه وتنفر عنه ‏.‏

فإن قلنا ‏:‏ يحد ففي حده وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ القتل للخبر‏.‏

و الثاني ‏:‏ كحد الزنا ، لما ذكرنا في اللائط ‏.‏ وإن تدالكت المرأتان ، فهما زانيتان ، للخبر، ولا حد عليهما ، لأنه لا إيلاج فيه ، فأشبه المباشرة فيما دون الفرج ، وعليهما التعزير ، لأنها فاحشة لا حد فيها ، أشبهت المباشرة دون الفرج ‏.‏

فصل

ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يكون الزاني مكلفاً ، كما ذكرنا في السرقة ، فإن كان أحد الزانيين ، غير مكلف ، أو مكرهاً ، أو جاهلاً بالتحريم ، وشريكه بخلاف ذلك ، وجب الحد على من هو أهل للحد ، دون الآخر، لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد ، وانفرد الآخر بما يسقطه ، فثبت في كل واحد منهما حكمه ، دون صاحبه كما لو كان شريكه فذاً ‏.‏ وأن كان أحدهما محصناً ، والآخر بكراً ‏.‏ فعلى المحصن حد المحصنين ، وعلى البكر حد الأبكار كذلك ‏.‏ وإن أقر أحدهما بالزنا ، دون الآخر ، حد المقر وحده ، لما روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه قد زنا بامرأة ، فسماها له ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك ، فأنكرت أن تكون قد زنت ، فجلده الحد ، وتركها ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ ولأن عدم الإقرار من صاحبه لا يبطل إقراره ، كما لو سكت ‏.‏

فصل

الشرط الثاني ‏:‏ أن يكون مختاراً ، فإن أكرهت المرأة ، فلا حد عليها ، سواء أكرهت بالإلجاء أو بغيره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ‏.‏ وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب قال ‏:‏ أتي عمر بامرأة قد زنت ، قالت ‏:‏ إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي ، فخلى سبيلها ولم يضربها ‏.‏ وروي ‏:‏ أنه أتي بامرأة قد استسقت راعياً ، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ‏.‏ فقال لعلي ‏:‏ ما ترى فيها ‏؟‏ فقال ‏:‏ إنها مضطرة ، فأعطاها شيئاً وتركها ‏.‏ فأما الرجل إذا أكره بالتهديد ، فقال أصحابنا ‏:‏ يجب عليه الحد ، لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة ، والاختيار ، بخلاف المرأة ، ويحتمل أن لا يجب عليه حد ، لعموم الخبر ، ولأن الحد يدرأ بالشبهات ، وهذا من أعظمها ‏.‏ فأما إن استدخلت امرأة ذكره وهو نائم ، فلا حد عليه ، لأنه غير مكلف ، ولم يفعل الزنا ‏.‏

فصل

و الثالث ‏:‏ أن يكون عالماً بالتحريم ، ولا حد على من جهل التحريم ، لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، أنهما قالا ‏:‏ لا حد إلا على من علمه ‏.‏ وروى سعيد بن المسيب قال‏:‏ ذكر الزنا بالشام ، فقال رجل ‏:‏ زنيت البارحة ، قالوا ‏:‏ ما تقول ‏؟‏ قال ‏:‏ ما علمت أن الله حرمه ، فكتب بها إلى عمر رضي الله عنه ، فكتب ‏:‏ إن كان يعلم أن الله حرمه ، فحدوه ، وإن لم يكن علم ، فأعلموه ، فإن عاد فارجموه ‏.‏ وسواء جهل تحريم الزنا ، أو تحريم عين المرأة ، مثل أن تزف إليه غير زوجته ، فيظنها زوجته ، أو يدفع إليه غير جاريته ، فيظنها جاريته ، أو يجد على فراشه امرأة يحسبها زوجته أو جاريته ، فيطأها ، فلا حد عليه ، لأنه غير قاصد لفعل المحرم ‏.‏ ومن ادعى الجهل بتحريم الزنا ، ممن نشأ بين المسلمين ، لم يصدق ، لأننا نعلم كذبه ‏.‏ وإن كان حديث عهد بالإسلام ، أو بإفاقة من جنون ، أو ناشئاً ببادية بعيدة عن المسلمين ، صدق ، لأنه يحتمل الصدق ، فلم يجب الحد مع الشك في الشرط ‏.‏ وإن ادعى الجهل بتحريم شيء من الأنكحة الباطلة ، كنكاح المعتدة ، أو وطء الجارية المرهونة بإذن الراهن ، وادعى الجهل بالتحريم ، قبل ، لأن تحريم ذلك يحتاج إلى فقه ، ويحتمل أن لا يقبل ، إلا ممن يقبل قوله في الجهل بتحريم الزنا ، لأنه زنا ، والأول أصح ، لما روى عن عبيد بن نضلة قال ‏:‏ رفع إلى عمر رضي الله عنه امرأة تزوجت في عدتها ، فقال ‏:‏ هل علمتما ‏؟‏ فقالا ‏:‏ لا ‏.‏ قال ‏:‏ لو علمتما لرجمتكما ، فجلده أسواطاً ، ثم فرق بينهما ‏.‏ وإن ادعى الجهل بانقضاء العدة ، قبل إذا كان يحتمل ذلك لأنه مما يخفى ‏.‏

فصل

الرابع ‏:‏ انتفاء الشبهة ، فلا حد عليه بوطء الجارية المشتركة بينه وبين غيره ، أو وطء مكاتبته ، أو جاريته ، المرهونة ، أو المزوجة ، أو جارية ابنه ، أو وطء زوجته أو جاريته ، في دبرها ، ولا بوطء امرأة في نكاح مختلف في صحته ، كالنكاح بلا ولي أو بلا شهود ، ونكاح الشغار ، والمتعة ، وأشباه ذلك ، لأن الحد مبني على الدرء والإسقاط بالشبهات ، وهذه شبهات فيسقط بها

فصل

فأما الأنكحة المجمع على بطلانها ، كنكاح الخامسة ، والمعتدة ، والمزوجة ، ومطلقته ثلاثاً ، وذوات محارمه من نسب ، أو رضاع ، فلا يمنع وجوب الحد ، لما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه ‏.‏ وروى أبو بكر بإسناده عن خلاس عن علي رضي الله عنه ‏:‏ أنه رفع إليه امرأة تزوجت ولها زوج ، فكتمته ، فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة ، ولأنه وطء محرم بالإجماع في غير ملك ، ولا شبهة ملك ، أشبه وطأها قبل العقد ‏.‏ وفي حد الواطئ لذات محرمه بعقد أو بغير عقد ، روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ حده حد الزنا ، لعموم الآية والخبر فيه ‏.‏

و الثانية ‏:‏ يقتل بكل حال ، لما روى البراء قال ‏:‏ لقيت عمي ومعه الراية ، قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ إلى أين تريد ‏؟‏ فقال ‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده ، أن أضرب عنقه ، وآخذ ماله ‏.‏ قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث حسن ‏.‏ وروى ابن ماجة بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من وقع على ذات محرم فاقتلوه ‏.‏

فصل

فإن ملك من يحرم عليه بالرضاع ، كأمه ، وأخته ، فوطئها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ عليه الحد ، لأنها لا تستباح بحال ، فأشبهت المحرمة بالنسب ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا حد عليه ، لأنها مملوكته ، فأشبهت مكاتبته ‏.‏ بخلاف ذات محرمه من النسب ‏.‏ فإنه لا يثبت ملكه عليها ، ولا يصح عقد تزويجها ‏.‏

فصل

وإن استأجر أمة ليزني بها ، أو لغير ذلك ، فزنى بها ، فعليه الحد ، لأنه لا تصح إجارتها للزنا ، فوجوده كعدمه ، ولا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم‏.‏ ومن وطئ جارية غيره ، أو زوجته بإذنه ، فهو زان عليه الحد ، لأنه لا يستباح بالبذل والإباحة ، سواء كانت جارية أبيه ، أو أمه ، أو أخته ، أو غيرهم ، إلا جارية ابنه ، لما ذكرنا ، وذكر ابن أبي موسى قولاً في الابن يطأ جارية أبيه ‏:‏ لا حد عليه ، لأنه لا يقطع بسرقة ماله ، فلا يلزمه حد بوطء جاريته ، كالأب ، وجارية زوجته ، إذا أذنت له في وطئها ، فإنه يجلد مائة ، ولا يرجم بكراً كان ، أو ثيباً ، ولا تغريب عليه ، لما روى حبيب بن سالم أن عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته ، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة ، فقال ‏:‏ لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن كانت أحلتها لك ، جلدتك مائة ، وإن لم تكن أحلتها لك ، رجمتك بالحجارة ، فوجدوه قد أحلتها له ، فجلده مائة ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

فإن علقت منه ‏.‏ فهل يلحقه نسبه ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يلحق به ، لأنه وطء لا حد فيه ، أشبه وطء الأمة المشتركة ‏.‏

و الثانية ‏:‏ لا يلحق به ، لأنه وطء في غير ملك ، ولا شبهة ملك ، أشبه ما لو لم تأذن له ‏.‏

فصل

الخامس ‏:‏ ثبوت الزنا عند الحاكم ، لما ذكرنا في السرقة ، ولا يثبت إلا بأحد شيئين إقرار ، أو بينة ، لأنه لا يعلم الزنا الموجب للحد إلا بهما ، ويعتبر في الإقرار ثلاثة أمور ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يقر لأربع مرات ، سواء كان في مجلس واحد ، أو مجالس ، لما روى أبو هريرة قال ‏:‏ أتى رجل من الأسلميين ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فقال ‏:‏ يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه ، فتنحى تلقاء وجهه ، فقال ‏:‏ يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أبع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات ، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ أبك جنون قال ‏:‏ لا قال ‏:‏ فهل أحصنت ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ارجموه متفق عليه ‏.‏ ولو وجب الحد الأول بأول مرة ، لم يعرض عنه ‏.‏ وفي حديث آخر ‏:‏ حتى قالها أربع مرات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إنك قد قلتها أربع مرار ،فبمن ‏؟‏ قال بفلانة ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وفي حديث ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه له عند النبي ‏:‏ إن أقررت أربعاً ، رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

الأمر الثاني ‏:‏ أن يذكر حقيقة الفعل ، لما روينا في أول الباب ، ولأنه يحتمل أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد ، فيجب بيانه ‏.‏ فإن لم يذكر حقيقته ، استفصله الحاكم ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بماعز ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن يكون ثابت العقل ‏.‏ فإن كان مجنوناً ، أو سكراناً ، لم يثبت قوله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز ‏:‏ أبك جنون وروى أنه استنكهه ، ليعلم أبه سكر ، أم لا ، ولأنه إذا لم يكن عاقلاً ، لا تحصل الثقة بقوله ‏.‏

فصل

و إن ثبتت ببينة ، اعتبر فيهم ستة شروط ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يكونوا أربعة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء‏}‏ ‏.‏ وقال ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يكونوا رجالاً كلهم ، لأن في شهادة النساء شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ‏.‏

و الثالث ‏:‏ أن يكونوا أحراراً ، لأن شهادة العبيد مختلف فيها ، فيكون ذلك شبهة فيما يدرأ بالشبهات ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن يكونوا عدولاً ، لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق ، ففي الحد أولى ‏.‏

الخامس ‏:‏ أن يصفوا الزنا ، فيقولوا ‏:‏ رأينا ذكره في فرجها ، كالمرود في المكحلة ، لما ذكرنا في الإقرار ‏.‏

السادس ‏:‏ مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد ، سواء جاؤوا جملة ، أو سبق بعضهم بعضاً ، لأن عمر رضي الله عنه لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة ، حدهم حد القذف ، ولو لم يشترط المجلس ، لم يجز أن يحدهم ، لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ، ولأنه لو جاء الرابع بعد حد الثلاثة ، لم تقبل شهادته ، ولولا اشتراط المجلس ، لوجب أن يقبل ‏.‏

فصل

و إن حبلت امرأة لا زوج لها ، ولا سيد ، لم يلزمها حد ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ‏:‏ أتى بامرأة ليس لها زوج وقد حملت ، فسألها عمر رضي الله عنه ، فقالت ‏:‏ إني امرأة ثقيلة الرأس ، ووقع علي رجل ، وأنا نائمة ، فما استيقظت حتى فرغ ، فدرأ عنها الحد ‏.‏ ولأنه يحتمل أن يكون من وطء شبهة ، أو إكراه ‏.‏ والحد يدرأ الشبهات ‏.‏ ولا يجوز للحاكم أن يقيم الحد بعلمه ، لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ولأنه متهم في حكمه بعلمه ، فوجب أن لا يتمكن منه مع التهمة فيه ‏.‏

فصل

ومن وجب عليه حد الزنا ، لم يخل من أحوال أربعة ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يكون محصناً ، فحده الرجم حتى الموت ، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأتها ، وعقلتها ، ووعيتها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ‏:‏ ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ‏.‏ فالرجم حق على من زنى وقد أحصن من الرجال والنساء إذا قامت ببينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف ‏.‏ وقد قرأتها ‏:‏ الشيخ والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما البتة ، متفق عليه ‏.‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية ، ورجم الخلفاء من بعده ‏.‏ وهل يجب الجلد مع الرجم ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجب ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏}‏ فلما وجب الرجم بالسنة ، انضم إلى ما في كتاب الله تعالى ، ولهذا قال علي رضي الله عنه في شراحة ‏:‏ جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وروى عبادة بن الصامت ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ‏.‏ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ‏.‏ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏

و الثانية ‏:‏ لا جلد عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية ، ولم يجلدهما ‏.‏و قال ‏:‏ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ‏.‏ ولم يأمره بجلدها ، ولو وجب لأمر به ، ولأنه معصية توجب القتل ، فلم توجب عقوبة أخرى ، كالردة‏.‏

الثاني ‏:‏ الحر غير المحصن ، فحده مائة جلدة وتغريب عام ، للآية وخبر عبادة ‏.‏

الثالث ‏:‏ المملوك ، فحده خمسون جلدة بكراً كان أو ثيباً ، رجلاً أو امرأة ، لقول الله تعالى ‏{‏فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ ‏.‏ والعذاب المذكور في الكتاب مائة جلدة ، ونصف ذلك خمسون ، ولا تغريب عليه ، لأن تغريبه إضرار بسيده دونه ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ‏.‏ فقال ‏:‏ إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير متفق عليه ‏.‏ ولم يأمر بتغريبها ‏.‏

الرابع ‏:‏ من بعضه حر ، فحده بالحساب من حد حر وعبد ‏.‏ فالذي نصفه حر ، حده خمس وسبعون جلدة ، وتغريب نصف عام ، لأنه يتبعض ، فكان في حقه بالحساب ، كالميراث ، والمكاتب ، وأم الولد ، والمدبر حكمهم حكم القن في الحد ، لأنهم عبيد ، ومن لزمه حد وهو رقيق ، فعتق قبل إقامته ، فعليه حد الرقيق ، لأنه الذي وجب عليه ‏.‏و لو زنى ذمي حر ، ثم لحق بدار الحرب ، فاسترق ، حد حد الأحرار كذلك ‏.‏


فصل

و المحصن من كملت فيه أربعة أشياء ‏:‏

أحدها ‏:‏ الإصابة في القبل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ‏.‏ ولا يكون ثيباً إلا بذلك ‏.‏

الثاني ‏:‏ كون الوطء في نكاح ‏.‏ فلو وطئ بشبهة ، أو زنا ، أو تسرية ، لم يصر محصناً ، للإجماع ، ولأن النعمة إنما تكمل بالوطء في ذلك ‏.‏ ولو وطئ في نكاح فاسد ، لم يصر محصناً ، لأنه ليس بنكاح في الشرع ، ولذلك لا يحنث به الحالف على اجتناب النكاح ‏.‏

الثالث ‏:‏ كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ ، والعقل ، والحرية ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ‏.‏ فلو كان الوطء بدون الكمال إحصاناً ، لما علق الرجم بالإحصان ، لأنه من لم يكمل بهذه الأمور ، لا يرجم ، ولأن الإحصان كمال ، فيشترط أن يكون في حال الكمال ‏.‏

الرابع أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال ، لأنه إذا كان ناقصاً لم يحصل الإحصان ، فلم يحصل لشريكه كوطء الشبهة ‏.‏

و لا يشترط الإسلام في الإحصان ، لما روى ابن عمر ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا فرجمهما ‏.‏

و إن تزوج مسلم ذمية ، فأصابها ، صارا محصنين ، لكمال الشروط الأربعة فيهما ‏.‏

فصل

ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا واللواط ، حرمت مباشرته فيما دون الفرج لشهوة ، وقبلته ، والتلذذ بلمسه لشهوة ، أو نظرة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يخلون رجل وامرأة ، فإن ثالثهما الشيطان ‏.‏ فإذا حرمت الخلوة بها ، فمباشرتها ، أولى ، لأنها أدعى إلى الزنا ، ولا حد في هذا ، لما روى ابن مسعود أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ إني وجدت امرأة في البستان ، فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها ، فافعل بي ما شئت ، فقرأ عليه ‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ ‏.‏ متفق عليه ، وعليه التعزير ، لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة ، فأشبهت ضرب الناس والتعدي عليهم ‏.‏

فصل

ويحرم وطء امرأته وجاريته في دبرهما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن رواه ابن ماجة ، ولأنه ليس بمحل للولد أشبه دبر الغلام ، ولا حد فيه ، لأنه في زوجته وما ملكت يمينه ، فيكون شبهة ، ولكن يعزر ، لما ذكرنا ، ويحرم الاستمناء باليد ، لأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل ، فحرمت كاللواط ، ولا حد فيه ، لأنه لا إيلاج فيه ، فإن خشي الزنا ، أبيح له ، لأنه يروى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ‏.‏

فصل

ومن أتى بهيمة ، وقلنا ، لا يحد ، فعليه التعزير ، ويجب قتل البهيمة ، لحديث ابن عباس فإن كانت مأكولة ، ففيها وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تذبح ، ويحل أكلها ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ ‏.‏

و الثاني ، تحرم ، لأن ابن عباس قال‏:‏ ما أرى أنه أمر بقتلها إلا لأنه كره أكلها ، وقد عمل بها بذلك العمل ‏.‏ ولأنه حيوان أبيح قتله لحق الله تعالى ، فحرم أكله ، كالفواسق ‏.‏ فإن كانت البهيمة لغيره ، وجب عليه ضمانها إن منعناه أكلها ، لأنه سبب تلفها ، إن أبيح أكلها، لزمه ضمان نقصها ‏.‏

فصل

و لا يؤخر حد الزنا ، لمرض ولا شدة حر ، ولا برد ، لأنه واجب فلا يجوز تأخيره لغير عذر ، وقد روي عن عمر أنه أقام الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض ، لأنه إن كان رجماً فالمقصود قتله ، فلا معنى لتأخيره ، وإن كان جلداً أمكن الإتيان به بسوط يؤمن معه التلف في حال المرض ، فلا حاجة إلى التأخير ‏.‏ ويحتمل أن يؤخر الجلد عن المريض المرجو زوال مرضه ، لما روى علي أن جارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي ، فقال ‏:‏ أحسنت رواه مسلم ‏.‏

فصل

و لا يحفر للمرجوم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز ، وسواء كان رجلاً أو امرأة ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ أكثر الأحاديث على أنه لا يحفر للمرجوم ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إن ثبت زنا المرأة بإقرارها ، لم يحفر لها لتتمكن من الهرب إن أرادت ، وإن ثبت ببينة ، حفر لها إلى الصدر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة ، فحفر لها إلى الثندوة ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

و لأنه أستر لها ، وعلى كل حال يشد على المرأة ثيابها ، لئلا تتكشف ، ويدور الناس حول المرجوم ، ويرجمونه حتى يموت ، فإن هرب المحدود والحد ببينة أتبع حتى يقتل ، لأنه لا سبيل إلى تركه ، وإن ثبت بإقراره ، ترك ، لما روي أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد ، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز عنه أصحابه ، فنزع له بوظيف بعير ، فرماه به ، فقتله ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال ‏:‏ هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه يحتمل أن ذلك لرجوعه عن الإقرار ، ورجوعه مقبول ‏.‏ فإن لم يترك ، وقتل ، فلا ضمان فيه ، لحديث ماعز ، ولأن إباحة دمه متيقنة ، فلا يجب ضمانه بالشك ، وإن ترك ، ثم أقام على الإقرار ، أقيم عليه الحد ‏.‏

فصل

وإن كان الحد جلداً ، لم يمد المحدود ، ولم يربط ، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ ليس في هذه الأمة مد ، ولا تجريد ، ولا غل ،و لا صفد و، ويفرق الضرب على أعضائه كلها إلا وجه ، والرأس ،و الفرج ، وموضع القتل ، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد ‏:‏ اضرب ، وأوجع ، واتق الرأس والوجه والفرج ‏.‏ وقال ‏:‏ لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج ‏.‏ ولأن القصد الردع ، لا القتل ‏.‏ ويضرب الرجل قائماً ، ليتمكن من تفريق الضرب على أعضائه ، والمرأة جالسة ، لأنه أستر لها ، وتشد عليها ثيابها ، وتمسك يداها لئلا تتكشف ‏.‏

فصل

فإن كان مريضاً ، أو نضو الخلق ‏.‏ أو في شدة حر ، أو برد ، أقيم الحد بسوط يؤمن التلف معه ، فإن كان لا يطيق الضرب لضعفه وكثرة ضرره ، ضرب بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ، أو ضربتين ، أو بسوط ‏.‏ فيه خمسون شمراخاً لما روى أبو أمامة ابن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار‏:‏ أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى ، فعاد جلداً على عظم ، فدخلت عليه جارية لبعضهم ، فوقع عليها ، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك ، وقال استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا ‏:‏ ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به ، لو حملناه إليك ، لتفسخت عظامه ، ما هو إلا جلد على عظم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ له مائة شمراخ ، فيضربونه بها ضربة واحدة ‏.‏ أخرجه أبو داود والنسائي ‏.‏

فصل

لا تغرب المرأة إلا مع ذي محرم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ليلة إلا مع ذي حرمة من أهلها فإن أعوز المحرم ، خرجت مع امرأة ثقة ، فإن أعوز ، استؤجر لها من مالها محرم لها ، فإن أعوز ، فمن بيت المال ، فإن أعوز ، نفيت ، بغير محرم ، لأنه حق لا سبيل إلى تأخيره ، فأشبه الهجرة ‏.‏ ويحتمل سقوط النفي هاهنا ، لئلا يفضي إلى إغرائها بالفجور ، وتعريضها للفتنة ، ومخالفة خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر بغير محرم ، ويخص عموم حديث النفي بخبر النهي عن السفر بغير محرم ، ويحتمل أن تنفى إلى دون مسافة القصر جمعاً بين الخبرين ‏.‏

فصل

ويجب أن يحضر حد الزنا طائفة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏ ‏.‏ وقال أصحابنا ‏:‏ أقل ذلك واحد مع الذي يقيم الحد ، لأن اسم الطائفة يقع على واحد ، بدليل قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا‏}‏ إلى قوله تعالى ‏{‏بين أخويكم‏}‏ وقد فسره ابن عباس بذلك ‏.‏ والمستحب أن يحضر أربعة ، لأن بهم يثبت الحد ، والله أعلم ‏.‏
باب حكم القذف


و هو الرمي بالزنا ، وهو محرم ، وكبيرة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم‏}‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اجتنبوا السبع الموبقات قالوا ‏:‏ يا رسول الله ‏.‏ ما هي ‏؟‏ قال‏:‏ الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات متفق عليه ‏.‏

فصل

ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يكون مكلفاً لما تقدم ‏.‏

والثاني ‏:‏ أن يكون المقذوف محصناً ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ ‏.‏ مفهومه أن لا يجلد بقذف غير المحصن ‏.‏ والمحصن ‏:‏ هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا الذي يجامع مثله ، فلا يجب الحد على قاذف الكافر ، والمملوك ، والفاجر ، لأن حرمتهم ناقصة ، فلم تنتهض لإيجاب الحد ، ولا يجب على قاذف الجنون ، لأن زناه لا يوجب الحد عليه ، فلم يجب الحد بالقذف به ، كالوطء دون الفرج ، ولا يجب الحد على قاذف الصغير الذي لا يجامع مثله كذلك ، ولأنه يتيقن كذب القاذف فيلحق العار به ، دون المقذوف ‏.‏ وهل يشترط البلوغ ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يشترط لما ذكرنا في المجنون ‏.‏

و الثانية لا يشترط ، بل متى قذف من يجامع مثله ، فعليه الحد لأنه عاقل حر عفيف ، يتعير بالقذف ، أشبه البالغ ‏.‏ وإن قذف محبوباً ، أو رتقاء ، فعليه الحد ، لعموم الآية ‏.‏ ولأن تعذر الوطء في حقهما بأمر خفي لا يعلم به ، فلا ينتفي العار عنه ‏.‏

فصل

الثالث ‏:‏ أن يكون القاذف والداً ، فإن قذف والد ولده وإن سفل ، فلا حد عليه ، أباً كان أو أماً ، لأنها عقوبة تجب لحق الآدمي ، فلم تجب لولد على والده ، كالقصاص ‏.‏ ولو قذف زوجته ، فماتت وله منها ولد ، أو قذفت زوجها ولها منه ولد ، سقط الحد ، لأنه لما لم يثبت له على والده بقذفه ، فلم يثبت له عليه بالإرث ‏.‏ وإن كان للميت ولد آخر من غيره ، ثبت الحد ، لأنه يثبت لكل واحد من الورثة على انفراد ‏.‏

فصل

الرابع ‏:‏ أن يقذف بالزنا الموجب للحد ، فإن قذف بالوطء دون الفرج والقبلة ، لم يجب الحد به ، لما تقدم ‏.‏

والقذف صريح وكناية ‏:‏ فالصريح أن يقول ‏:‏ زنيت أو يا زاني ، أو زنى فرجك ، أو دبرك أو ذكرك ، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف ، فهذا يجب به الحد ، ولا يقبل تفسيره بما يحيله ‏.‏ لأنه صريح فيه ، أشبه التصريح بالطلاق ‏.‏ وإن قال ‏:‏ يا لوطي ، فقال أكثر أصحابنا ‏:‏ هو صريح ، وقال الخرقي ‏:‏ إذا قال ‏:‏ أردت أنك من قوم لوط ، فلا حد عليه ، وهذا بعيد ، لأن قوم لوط أهلكهم الله فلم يبق منهم أحد ‏.‏ وإن قال ‏:‏ زنى فلان ، وأنت أزنى منه ، فهو قاذف لهما ، لأنه وصف هذا بالزنى على وجه المبالغة ، لأن لفظة أفعل للتفضيل‏.‏ وإن قال ‏:‏ أنت أزنى من فلان ، أو أزنى الناس ، فهو قاذف للمخاطب كذلك ، وليس بقاذف لفلان ، لأن لفظة أفعل يستعمل للمنفرد بالفعل ، كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع‏}‏ وإخباره عن قوم لوط ‏:‏ ‏{‏هؤلاء بناتي هن أطهر لكم‏}‏ وقال القاضي ‏:‏ هو قذف لهما ، لأن لفظة أفعل يقتضي اشتراكهما في الفعل ، وانفرد أحدهما بمزية ‏.‏ وإن قال ‏:‏ زنأت بالهمزة ، فهو قذف في قول أبي بكر وأبي الخطاب ، لأن العامة لا تفهم منه إلا القذف ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ إن كان القاذف عامياً فهو قاذف ، وإن كان يعلم العربية ‏؟‏، فليس بقاذف ، لأن معناه طلعت ، كما قال الشاعر ‏:‏

وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل **

و سواء قال في الجبل ، أو لم يقل ، لأن معناها لا يختلف بذلك وعدمه ‏.‏ وإن قال لرجل ‏:‏ يا زانية ، أو لامرأة يا زاني ، فهو قاذف لهما ، لأن اللفظ صريح في الزنا وزيادة هاء التأنيث في المذكر ، وحذفها من المؤنث خطأ لا يغير المعنى ، فلم يمنع الحد كاللحن ، هذا قول أبي بكر ‏.‏ وقال ابن حامد ‏:‏ ليس بقذف يوجب الحد ، لأنه يحتمل أن يريد بذلك أنك علامة في الزنا ، كالراية والحفظة ‏.‏ وإن قال لامرأة ‏:‏ زنيت بفتح التاء ، ولرجل زنيت بكسرها ، فهو قاذف لهما ، لأنه خاطبهما بنسبة الزنا إليهما ، فأشبه ما لو لم يلحن ‏.‏ وإن قذف رجلاً ‏.‏ فقال آخر ‏:‏ صدقت ، ففي المصدق وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يكون قاذفاً ، لأن تصديقه ينصرف إلى الكلام الذي قبله ، كما لو قال لي عليك ألف ‏.‏ قال صدقت ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يكون قذفاً ، لأنه يحتمل بتصديقه في غير هذا ‏.‏ وإن قال ‏:‏ أخبرني فلان أنك تزني ، فكذبه الآخر ، فليس بقاذف ، لأنه إنما أخبر عن غيره ، فأشبه ما لو صدقه الآخر ، ويحتمل أنه قاذف ، ذكره أبو الخطاب ، لأنه نسب إليه الزنا ‏.‏ وإن قال رجل لامرأة ‏:‏ زنيت ، فقالت ‏:‏ بك ، فلا حد عليهما ، لأنها صدقته ، فسقط الحد عنه ، ولا حد عليها ، لأنها لم تقذفه، لأنه يتصور زناها به من غير أن يكون زانياً ، بأن تكون عالمة بأنه أجنبي ، وهو يظنها زوجته ، أو نائماً ، استدخلت ذكره ونحو ذلك ‏.‏ وإن قال ‏:‏ زنت يداك ، أو رجلاك ، لم يكن قاذفاً في ظاهر المذهب ، وهو قول ابن حامد ، لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لعينان تزنيان وزناهما النظر ، واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان وزناهما المشي ، يصدق ذلك الفرج ، أو يكذبه ‏.‏ ويحتمل أن يكون قاذفاً ، لأنه أضاف الزنا إلى عضو منه ، فأشبه مل لو قال‏:‏ زنى فرجك ‏.‏ وإن قال زنى بدنك ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو كقوله ‏:‏ زنت يداك ، لأن الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة ، فلم يكن قذفاً ‏.‏

و الثاني ‏:‏ عليه الحد ، لأنه أضاف الزنا إلى جميع البدن والفرج منه ‏.‏

فصل

و أما الكتابة ‏:‏ فنحو قوله ‏:‏ يا قحبة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، أو يقول للرجل ‏:‏ يا مخنث ، أو يا نبطي يا فارسي وليس هو كذلك ، أو يقول لزوجة رجل ‏:‏ قد فضحتيه ، وجعلت له قروناً ، ونكست رأسه ، أو يقول لمن يخاصمه ‏:‏ يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا ، ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية ، فهذا ليس صريح في القذف لأنه يحتمل الفجور ، والخبث بغير الزنا ، والقحبة المتعرضة للزنا وإن لم تفعله ، والمخنث المتطبع بطباع التأنيث ، وسائر ما ذكرنا يحتمل غير الزنا ، فلم يجب به الحد مع الاحتمال ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن الحد يجب بذلك كله ، لما روى سالم عن أبيه ‏:‏ أن رجلاً قال ‏:‏ ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية ، فجلده عمر الحد ‏.‏ وروى الأثرم ‏:‏ أن عثمان جلد رجلاً قال لآخر ي ابن شامة الوذر ، يعرض بزنا أمه ‏.‏ ولأن هذه الألفاظ يراد بها القذف عزفاً فجرت مجرى الصريح ، ولأن الكناية مع القرينة كالصريح في إفادة الحكم ، بدليل الطلاق والعتاق ، كذا هاهنا ‏.‏ وفيما إذا قال ‏:‏ يا نبطي قد نفاه عن نسبه ، فيكون قاذفاً لأمه أو لإحدى جداته ‏.‏ وإن قال لثابت النسب ‏:‏ لست بابن فلان ، فهو قذف لأمه في الظاهر من المذهب ، لما روي عن ابن مسعود أنه قال ‏:‏ لا حد إلا في اثنين ، قذف محصنة ، أو نفي رجل عن أبيه ‏.‏ لأنه لا يكون لغير أبيه إلا بزنا أمه ‏.‏ ويحتمل ألا يكون قذفاً ، لأنه يحتمل أنه لا تشبهه في كرمه وأخلاقه ‏.‏

و إن كان الولد منفياً باللعان ، فليس بقذف ، لأن الشرع نفاه ‏.‏ وإن قال لابنه ‏:‏ لست بابني ، فقال القاضي ‏:‏ ليس بقذف ، لأن الإنسان يغلظ لولده في القول تأديباً ‏.‏

فصل

ومن قال لامرأة ‏:‏ أكرهت على الزنا ، فلا حد عليه ، لأنه لم يقذفها بالزنا وعليه التعزير ، لأنه ألحق بها العار ‏.‏ وكل موضع لا يجب فيه الحد مما ذكرنا ، يوجب التعزير ، لأنه أذى لمن لا يحل أذاه ‏.‏ وإذا تقاصر عن الحد ، أوجب التعزير ، كالزنا فيما دون الفرج ‏.‏

فصل

و حد القذف ثمانين جلدة إن كان القاذف حراً ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ وإن كان عبداً ، فأربعون ، لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال ‏:‏ ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حازم مملوكاً افترى على حر ثمانين ، فبلغ عبد الله ابن عامر بن ربيعة ، فقال ‏:‏ أدركت الناس زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم ، فما رأيت أحد ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو ‏.‏ ولأنه حد يتبعض ‏.‏ فكان المملوك على النصف من الحر ، كحد الزنا ‏.‏ وإن كان القاذف بعضه حر ، فعليه بالحساب لما ذكرنا ‏.‏

فصل

و الحد في القذف والتعزير الواجب بما دونه حق للمقذوف ، يستوفى إذا طالب ، ويسقط إذا عفا عنه ، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج يقول تصدقت بعرضي والصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما يجب له ‏.‏ ولأنه جزاء جناية عليه لا يستوفى إلا بمطالبته ، فكان له ، كالقصاص وعنه ‏:‏ أنه حق لله تعالى ، أنه حد فكان حقاً لله كسائر الحدود ‏.‏ فعلى هذا لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي ، ولا يسقط بعد وجوبه بالعفو ، كالقطع في السرقة ‏.‏ ولو قال لغيره ‏:‏ اقذفني ، فقذفه ، لم يجب الحد ، لأنه إذن في سبه ، فلم يوجب الحد كالقصاص ، والقطع في السرقة ‏.‏

فصل

و إن جن من له الحد ، لم يكن لوليه المطالبة به ، لأنه يجب للتشفي ، ودرك الغيظ ، فأخر إلى الإفاقة ، كالقصاص ‏.‏ وإن قذف مملوكاً ، فالطلب بالتعزير والعفو عنه له ، دون سيده، لأنه ليس بمال ، ولا بدل مال ، فأشبه فسخ النكاح للمعتقة تحت العبد ‏.‏ وإن مات العبد ، سقط ، لأنه لو ملكه السيد بحق الملك ، لملكه في حياته ، والعبد لا يورث ‏.‏ وإن سمع الإمام رجلاً يقذف آخر في حضرته ، أو غيبته ، لم يلزمه أن يسأل عن ذلك ويحققه لأن القذف لا يوجب حداً حتى يطالب به صاحبه ، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يجب المبالغة في إثباتها ‏.‏

فصل

ومن قذف جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم ، كأهل البلدة الكبيرة ، فلا حد عليه ، لأنه لا عار على المقذوف بذلك ، للقطع بكذب القاذف ، وإن قذف جماعة يمكن زناهم بكلمات ، فعليه لكل واحد حد ‏.‏ وإن قذفهم بكلمة واحدة ‏.‏ ففيه ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ عليه حد واحد ، لأن كلمة القذف واحدة ، فلم يجب بها أكثر من حد واحد ، كما لو كان المقذوف واحداً ، ولأنه بالحد الواحد يظهر كذبه ، ويزول عار القذف عن جميعهم ، فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم ، وإن طلبه واحد ، أقيم له ، أيضاً ، ولا مطالبة لغيره‏.‏ وإن أسقط أحدهم حقه ، لم يسقط حق غيره ، لأنه ثابت لهم على سبيل البدل ، فأشبه ولاية النكاح ‏.‏

و الثاني ‏:‏ عليه لكل واحد حد ، لأنه قذفه ، فلزمه الحد له ، كما لو قذفه بكلمة مفردة ‏.‏

و الثالث ‏:‏ إن طلبوه جملة ، فحد واحد ، لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم ‏.‏ وإن طلبوه متفرقاً ، أقيم لكل مطالب مرة ، لأن استيفاء المطالب الأول له خاصة ، فلم يسقط به حق الباقين ‏.‏ وإن قال لامرأة ‏:‏ زنى بك فلان ، فهي كالتي قبلها ، لأنه قذفهما بكلمة واحدة ويحتمل ألا يجب إلا حد واحد ، وجهاً واحداً ، لأن القذف لهما بزنا واحد ، يسقط حده ببينة واحدة ، ولعان واحد إن كانت المرأة زوجته ‏.‏

فصل

ومن وجبت عليه حدود قذف لجماعة ، فأيهم طالب بحده ، استوفي له ، ثم إذا طالب غيره استوفي له ، كالديون ‏.‏ فإن اجتمعا في الطلب قدم أسبقهما حقاً ، لأن السابق أولى ‏.‏ فإن تساويا ، أقرع بينهما إن تشاحا ‏.‏ ولو قال ‏:‏ يا زاني ابن الزانية ، كان قاذفاً لهما بكلمتين‏.‏ فأيهما طالب حد له ‏.‏ فإن اجتمعا وتشاحا ، حد للابن أولاً ، لأنه بدأ بقذفه ، ثم يحد لأمه ‏.‏ ومتى حد مرة ، لم يحد لآخر حتى يبرأ ظهره ، لأنه لا يؤمن مع الموالاة التلف ‏.‏ فإن كان القاذف عبداً فكذلك ، لأنهما حدان ، فأشبها حدي الحر ‏.‏ ويحتمل أن لا يوالى بينهما ، ولأنهما جميعاً كحد حر ، فيوالى بينهما ، كما يوالى بينه ‏.‏

فصل

و إن قذف واحداً مرات ، ولم يحد ، فحد واحد ، لأنها من جنس واحد لمستحق واحد ‏.‏ فإذا كانت قبل الإقامة ، تداخلت ، كسائر الحدود ، وإن حد مرة ، ثم قذفه بذلك الزنا ، عزر ولم يحد ، لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا ، فجلده عمر ، ثم أعاد أبو بكرة القذف ، فأراد عمر جلده ، فقال علي ‏:‏ إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبه ، فترك عمر جلده ‏.‏ يعني ‏:‏ إن نزلته منزلة أجنبي شهد بزناه ، فقد كملت شهادة أربعة ‏.‏ فإن لم تجعله كشاهد آخر ، فلا تحده ، ولأنه قد حصل التكذيب بالحد ، فاستغني عما سواه ‏.‏ وإن قذفه بزنا آخر عقيب الحد ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحد ، لأنه قذف بعد الحد ، لم يظهر كذبه فيه بحد ، فلومه الحد ، كما لو قذفه بعد زمن طويل ‏.‏

و الثانية ‏:‏ لا حد عليه ، لأنه قد حد له مرة ، فلا يحد له ثانياً ، كما لو قذفه بالزنا الأول ‏.‏ وإن قذفه بعد طول فصل ، حد لأنه لا تسقط حرمة عرض المقذوف بإقامة الحد له ، وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها ‏:‏

فصل

و إذا قال الرجل ‏:‏ يا ولد الزنا ، أو ي ابن الزانية ، فهو قاذف لأمه ‏.‏ فإن كانت حية ، فهو قاذف لها دونه ، لأن الحق لها ، ويعتبر فيها شروط الإحصان ، لأنها المقذوفة ‏.‏ وإن كانت أمه ميتة ، فالقذف له ، لأنه قدح في نسبه ‏.‏ وعلى سياق هذا ، لو قذف جدته ، ملك المطالبة بالحد ، لما روى الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ لا أوتى برجل يقول ‏:‏ إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته لقول ابن مسعود ‏:‏ لا حد إلا في قذف محصنة ، أو نفي رجل عن أبيه ، فعلى هذا ، يعتبر الإحصان في الرجل ، دون أمه ‏.‏ فلو كانت أمه ميتة أو مشركة ، أو أمة ، وهو محصن ، لوجب له ‏.‏ وهذا اختيار الخرقي ، وقال أبو بكر ‏:‏ لا حد على قاذف ميت ، لأنه لا يطالب فلم يحد قاذفه كما لو قذف غير الأم، ولا خلاف في أنه لو قذف أباه أو أخاه ، لم يلزمه حد ، لأنه لم يقدح في نسبه ، بخلاف مسألتنا ، ولو مات المقذوف قبل المطالبة بالحد ، لم يجب ‏.‏ وإن مات بعد المطالبة به ، قام وارثه مقامه ، لأنه حق له يجب بالمطالبة ، فأشبه رجوع الأب فيما وهب لولده ‏.‏

فصل

و إذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة ، فعليهم الحد ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ ولأن أبا بكرة ، ونافعاً وشبل بن معبد ، شهدوا على المغيرة بن شعبة ، ولم يكمل زياد شهادته ، فحد عمر رضي الله عنه الثلاثة بمحضر من الصحابة ، فكان ذلك إجماعاً ، وكذلك إن لم يكمل الرابع شهادته ، فعليهم الحد كذلك ‏.‏ وإن شهد ثلاثة ، وزوج المرأة ، حد الثلاثة ، لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته بالزنا ، لإقراره على نفسه بعداوتها ، لجنايتها عليه ، بإفساد فراشه ، وإلحاق العار به ، وعل الزوج الحد ، إلا أن يسقط عنه بلعانه ‏.‏ وإن شهد أربعة ، فبانوا فساقاً ، أو عبيداً ، أو عمياناً ، أو بعضهم ، ففيهم ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ عليهم الحد ، لأن شهادتهم بالزنا لم تكمل ، فلزمهم الحد ، كما لو شهد ثلاثة ‏.‏

و الثانية ‏:‏ لا حد عليهم ، لقول الله تعالى ‏{‏ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏ وهؤلاء أربعة ‏.‏ ولأنه أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم ، فأشبه ما لو شهد أربعة بزناها ، فشهد ثقات أنها عذراء ‏.‏

و الثالثة ‏:‏ إن كانوا عمياناً ، فعليهم الحد ، وإن كانوا فساقاً ، أو عبيداً ، فلا حد عليهم ، لأن الأعمى يشهد بما لا يره يقيناً ، فيكون شاهد زور يقيناً ، وغيرهم بخلاف ذلك ‏.‏ وإن كان فيهم صبي ، أو مجنون ، أو من لا تقبل شهادته ، فكذلك ، والأولى أصح ‏.‏ لأن من لا شهادة له ، وجوده كعدمه ، فأشبه نقص العدد ‏.‏ ولو شهد ثلاثة رجال وامرأتان ، حد الجميع ، لأن شهادة النساء في هذا الباب ، كعدمها ‏.‏

فصل

و إن شهد أربعة بالزنا ، ثم رجع أحدهم ، فعليهم الحد ، لأنه نقص عدد الشهود ، فلزمهم الحد ، كما لو كانوا ثلاثة ‏.‏ وعنه ‏:‏ يحد الثلاثة دون الرابع ، اختارها أبو بكر ، وابن حامد ، لأن رجوعه قبل الحد ، كالتوبة قبل تنفيذ الحكم ، فيسقط الحد عنه ، وإن رجعوا كلهم ، فعليهم الحد ، لأنهم يقرون على أنفسهم أنهم قذفة ، ويحتمل أن لا يجب عليهم الحد ، كالتي قبلها وإن شهد أربعة ، فلم تكمل شهادتهم ، لاختلافهم في المكان أو الزمان ‏.‏ أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد ، أو لم يصفوا الزنا ، أو بعضهم ، فهم قذفة ، عليهم الحد ، لأن شهادة الأربعة لم تكمل ، فلومهم الحد ، كما لو نقص عددهم ‏.‏ وإن شهد أربعة بالزنا على امرأة ، فشهد ثقات من النساء أنها عذراء ، فلا حد على واحد منهم ، لأن ثبوت عذرة المرأة ، دليل على براءتها، فينتفي الحد عنها ‏.‏ لظهور براءتها ، وصدق الشهود محتمل ، لجواز أن يطأها ، ثم تعود عذرتها ، فانتفى الحد عنهم لاحتمال صدقهم ‏.‏

فصل

و إذا قذف امرأة ، وقال ‏:‏ كنت زائل العقل حين قذفتها ، ولم يعرف له زوال عقل قبل ذلك ، فالقول قولها ، لأن الظاهر عقله ، فأشبه ما لو ضرب ملفوفاً ، وادعى أنه كان ميتاً ‏.‏ وإن عرف له زوال عقل ، بجنون ، أو تبرسم ، أو نحوه ، فالقول قوله ، لأن الأصل براءته من الحد ، وصدقه محتمل ، ولأن الحد يدرأ بالشبهات ‏.‏ وإن قال ‏:‏ زنيت إذ كنت مشركة ، أو أمة ، ولم تكن كذلك ، حد ، لأنه يعلم كذبه في وصفها بذلك ‏.‏ وإن كانت مشركة أو أمة ، لم يحد ، لأنه أضاف قذفها إلى حال فيها غير محصنة ‏.‏ وعنه ‏:‏ يحد ، حكاها أبو الخطاب ، لأن القذف في حال لمحصنة ‏.‏ وإن قال ‏:‏ زنيت أنت مشركة ، وقال ‏:‏ أردت أنك زنيت في تلك الحال ، فقالت ‏:‏ بل قذفتني ، ونسبتني إلى الشرك في هذه الحال ، فقال القاضي ‏:‏ يحد ، لأنه خاطبها بالقذف في الحال ، فالظاهر إرادة القذف في الحال ‏.‏ واختار أبو الخطاب ‏:‏ أنه لا يحد ، لأنهما اختلفا في إرادته بكلامه ، وهو أعلم بمراده ، واللفظ محتمل لما ادعاه ، بأن تكون الواو للحال ‏.‏ وإن قال لها ‏:‏ زنيت ، ثم قال ‏:‏ أردت في الحال التي كنت غير محصنة ، وقالت ‏:‏ أردت قذفي في الحال ، حد ، لأنه قذفها في الحال ، فلا يقبل قوله فيما يحيله ، وإن قال ‏:‏ إنما كان قذفي لك قبل إحصانك ، وقالت ‏:‏ بل بعده ‏.‏ فإن ثبت أنها كانت غير محصنة ، فالقول قوله ، لأن الأصل براءة ذمته ‏.‏ وإن لم يثبت ذلك ، فالقول قولها ، لأن الأصل في الدار ، الإسلام والحرية ، وكذلك إن كانت مسلمة ، فادعى أنها ارتدت ، فالقول قولها ، لأن الأصل بقاؤها على دينها ‏.‏

فصل

وإن ادعت امرأة أو زوجها قذفها ، فأنكر ، فقامت عليه ببينة ، فله أن يلاعن ، لأن إنكار القذف ، لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا ، لأن القذف الكذب وهو يدعي أنه صادق ، فجاز أن يلاعن ، كما لو ادعى عليه وديعة ، فقال ‏:‏ ما لك عندي شيء ، ثم ادعى تلفها ، قبل منه ، لكون إنكاره لم يمنع الإيداع ، كذا هاهنا ‏.‏


باب الأشربة


كل شراب أسكر كثيره ، فقليله حرام ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏ وكل مسكر خمر ، فيدخل في عموم الآية ‏.‏ وقد روى عبد الله بن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ كل مسكر خمر وكل خمر حرام رواه مسلم وأبو داود ، وقال عمر رضي الله عنه ‏:‏ نزل تحريم الخمر ‏.‏ وهي ‏:‏ من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير ‏.‏ والخمر ‏:‏ ما خامر العقل ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ وروت عائشة ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ما أسكر الفرق منه ، فملء الكف منه حرام رواه أبو داود ولأنه شراب يسكر كثيره ، فحرم قليله ، كعصير العنب ‏.‏

فصل

وكل عصير غلى ، وقذف بزبده ، فهو حرام ، لما روى الشالنجي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل ‏.‏ وعن أبي هريرة قال ‏:‏ علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صائماً ، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ، ثم أتيته به فإذا هو ينش ، فقال ‏:‏ اضرب بهذا الحائط ، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر رواه أبو داود والنسائي ‏.‏ ولأنه إذا إلى واشتد ، صار مسكراً ‏.‏ فإن علم من شيء أنه لا يسكر ، كالفقاع ، فلا بأس بع وإن غلي ، لأن العلة في التحريم الإسكار ، فلا يثبت الحكم بدونها ‏.‏ وإن أتى على العصير ثلاث ، فقال أصحابنا ‏:‏ يحرم وإن لم يغل ، للخبر ‏.‏ وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب ، فبشربه اليوم ، والغد ،و بعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر به فيهراق أو يسقى الخدم ‏.‏ ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالباً ، وهي خفية تحتاج إلى ضابط ‏.‏ والثلاث تصلح ضابطاً لها ‏.‏ وقد قال ابن عمر ‏:‏ اشربه ما لم يأخذه شيطانه ‏.‏ قال ‏:‏ وفي كم يأخذه شيطانه ‏؟‏ قال ‏:‏ في الثلاث ‏.‏ والنبيذ ، كالعصير فيما ذكرنا ‏.‏ وهو ‏:‏ ماء ينبذ فيه تمرات ، أو زبيب ، ليجتذب ملوحته ، كان أهل الحجاز يفعلونه ‏.‏

فصل

و يكره الخليطان ‏.‏ وهو ‏:‏ أن ينبذ في الماء شيئين ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينتبذ البسر والرطب جميعاً ‏.‏ ونهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وفي رواية ‏.‏ وانتبذوا كل واحد على حدة ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ الخليطان حرام ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ يعني ‏:‏ إذا اشتد وأسكر ‏.‏ وإنما نهي عنه ، لأنه يسرع إلى السكر ‏.‏ فإذا لم يسكر ، لم يحرم ، لما روي عن عائشة قالت ‏:‏ كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب ، فنطرحها فيه ، ثن نصب عليه الماء ، فننبذه غدوة ، فيشربه عشية ، وننبذه عشية ، فيشربه غدوة ‏.‏ أخرجه أبو داود ‏.‏و يجوز الانتباذ في الأوعية كلها ، لما روي عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم ، فاشربوا في كل وعاء ، غير أن لا تشربوا مسكراً رواه مسلم ‏.‏

و ما لا يسكر من الدبس ، والخل ، ورب الخروب ، وسائر المربيات ، فهو حلال ، لأن تخصيص المسكر بالتحريم دليل على إباحة ما سواه ، لأن الله تعالى قال ‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات‏}‏ ‏.‏ وهذا منها ‏.‏

فصل

ومن شرب مسكراً - وهو مسلم مكلف - مختار ، يعلم أنها تسكر ، لزمه الحد ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من شرب الخمر فاجلدوه رواه أبو داود ‏.‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلدوا فيه الحد ، وفي قدره روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ أربعون ، لما روى حصين بن المنذر أن علياً رضي الله عنه جلد الوليد ابن عقبة في الخمر أربعين ، ثم قال ‏:‏ جلد النبي أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وعمر ثمانين ‏.‏ وكل سنة ‏.‏ وهذا أحب إلي ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏

و الثانية ‏:‏ ثمانون ، لما روى أنس ، أن عمر استشار الناس في حد الخمر ، فقال عبد الرحمن ‏:‏ اجعله كأخف الحدود ، فضرب عمر ثمانين ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ وكان ذلك بمحضر من الصحابة ، فاتفقوا عليه ، فكان إجماعاً ‏.‏

و حد العبد نصف حد الحر ، لأنه حد يتبعض ، فأشبه الحد في الزنا والقذف ‏.‏ ويجلد بالسوط ، ولأن عمر وعلياً رضي الله عنهما جلدا بالسياط ، ولأنه حد فيه ضرب ، فكان بالسوط ، كحد الزنا ‏.‏

فصل

و لا يثبت إلا ببينة ، أو إقرار ‏.‏ فالبينة شاهدان عدلان ‏.‏ ويقبل فيه إقرار مرة ، لأنه حد ليس فيه إتلاف بحال ، فأشبه حد القذف ، ولا يحد بوجود الرائحة منه ، لأنه يحتمل أنه تمضمض بها ، أو ظنها لا تسكر ، والحد يدرأ بالشبهات ‏.‏ عنه ‏:‏ أنه يحد ، لأن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما حدا بالرائحة ، وإن وجد سكران ، أو تيقنا المسكر ، فعن أحمد ‏:‏ أنه لا يحد ، لأنه يحتمل أن يكون مكرهاً ، أو ظن أنها لا تسكر ، وعلى الرواية التي يحد بالرائحة ، يجب أن يحد هاهنا ، لأن حصيناً قال ‏:‏ شهدت عثمان وأتي بالوليد ابن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر ، فشهد أحدهما أنه رآه شربها ، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأها ،فقال عثمان ‏:‏ إنه لم يتقيأها حتى شربها ، فقال لعلي ‏:‏ أقم عليه الحد ، ففعل ‏.‏ وقال عثمان ‏:‏ لقد تنطعت في الشهادة ‏.‏


باب إقامة الحد


لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام ، أو نائبه ، لأنه حق الله تعالى ‏.‏ ويفتقر إلى الاجتهاد ‏.‏ ولا يؤمن في استيفائه الحيف ، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته ، ثم خلفاؤه بعده ‏.‏ ولا يلزم الإمام حضور إقامته ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها وأمر برجم ماعز ولم يحضر ، وأتى بسارق ، فقال ‏:‏ اذهبوا فاقطعوه ‏.‏ وجميع الحدود في هذا سواء ، حد القذف وغيره ، لأنه لا يؤمن فيه الحيف ، والزيادة على الواجب ‏.‏ ويفتقر إلى الاجتهاد ، فأشبه سائر الحدود ، إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ‏.‏ وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ‏.‏ ولا يملك إقامته إلا بشروط أربعة ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يكون مكلفاً ، عالماً بالحدود وكيفية إقامتها ، لأنه إذا لم يعلم ، لا يمكنه الإتيان به على وجهه ‏.‏ وهل تشترط عدالته ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تشترط ، لأنه ولاية ، فنافاها الفسق ، كولاية التزويج ‏.‏ ولأنه لا يؤمن من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص ‏.‏

و الثاني ‏:‏ لا يشترط ، لأنها ولاية ثبتت بالملك ، أشبهت ولاية التأديب ‏.‏ وفي اشتراط الذكورية وجهان ، كما ذكرنا في العدالة ‏.‏ فإن قلنا ‏:‏ تشترط ، ففي أمة المرأة وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يفوض حدها إلى وليها ، كتزويجها ‏.‏

و الثاني ‏:‏ يفوض إلى الإمام ، كأمة الصغير ‏.‏ وهل تشترط الحرية ‏؟‏ فيه وجهان ‏:‏

ووجههما ما تقدم ‏.‏ فإن قلنا ، تشترط ، لم يثبت لمكاتب ، لأنه ليس من أهل الولاية ، ويفوض إلى الإمام ‏.‏

الشرط الثاني ‏:‏ أن يختص بالمملوك فأما المشترك ، والأمة المزوجة ، والمكاتبة ، فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام ، لأن ابن عمر قال ذلك ، ولا مخالف له في الصحابة ، ولأنه لم تكمل ولايته عليهم ، فأشبهوا من بعضه حر ‏.‏

الشرط الثالث ‏:‏ أن يكون الحد جلداً ، كحد الزنا والشرب والقذف ‏.‏ فأما القطع والقتل في الردة ، فلا يملكه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالجلد ، فلا يثبت في غيره ‏.‏ ولأن الحد تأديب ، فيملكه السيد ، كتأديبه على حقوقه ‏.‏ وفي تفويضه إليه ستر على عبده ، كيلا يفتضح بإقامة الإمام له ، فتنقص قيمته ‏.‏ وهذا منتف في القطع والقتل ‏.‏ ولأن فيهما إتلافاً فيحتاج إلى مزيد احتياط ‏.‏ قال القاضي‏:‏ وكلام أحمد يقتضي رواية أخرى ‏:‏ أنه يقيمهما ، لعموم قوله عليه السلام ‏:‏ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ولأن ابن عمر قطع عبداً سرق ‏.‏ وحفصة قتلت أمة سحرتها ‏.‏

الشرط الرابع ‏:‏ أن يثبت عنده سببه بإقرار ، أو بينة ‏.‏ فإن ثبت بإقرار ، فللسيد أن يسمعه ، ويقيم الحد به إذا كان عالماً بشروط الإقرار وكيفيته ‏.‏ وإن ثبت ببينة ، اعتبر ثبوتها عند الحاكم ، لأن للحاكم ولاية البحث عن العدالة ، والاجتهاد فيها ، ومعرفة شروطها ، بخلاف غيره ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أن السيد إن عرف شروطها ، وأحسن استماعها ، ملك سماعها ، وإقامة الحد بها كالإقرار ‏.‏ ولا يقيم الحد بعلمه ورؤيته ، لأن الإمام لا يقيمه بعلمه ، فالسيد أولى ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أنه يقيمه بعلمه ، لأنه ثبت عنده أشبه ما لو أقر به عنده ‏.‏

فصل

و لا يقام الحد على حامل حتى تضع ، سواء كان الحد رجماً أو غيره ، لأنه لا يؤمن تلف الولد ‏.‏ وقد روى بريدة ‏:‏ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت ‏:‏ إني فجرت ، فو الله إني لحبلى ، فقال لها ‏:‏ ارجعي حتى تلدي فرجعت ، فلما ولدت أتته بالصبي ، فقال ‏:‏ ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه ‏.‏ فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله ، فأمر بالصبي ، فدفع إلى رجل من المسلمين ، وأمر بها فحفر لها ، وأمر بها فرجمت ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ فإن كان الحد قتلاً ، فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل ‏.‏ وإن كان جلداً ، وكانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها ، أقيم عليها الحد ، وإن كانت ضعيفة أو في نفاسها ، فقال أبو بكر ‏:‏ يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها ، ولا تؤخر ، كالمريض ‏.‏

و قال القاضي ‏:‏ ظاهر كلام الخرقي ، تأخيرها حتى تطهر من نفاسها ، ويؤمن معه تلفها ، لما روي عن علي قال ‏:‏ فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا علي انطلق فأقم عليها الحد فانطلقت ، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع ، فأتيته فأخبرته ، فقال ‏:‏ دعها حتى ينقطع عنها الدم ، ثم أقم عليها ‏.‏ رواه مسلم بنحو هذا المعنى ‏.‏

و لا يجلد السكران حتى يصحو ، لأن المقصود زجره وتنكيله ، ولا يحصل في حال سكره‏.‏

فصل

و لا يقام الحد في المسجد ، جلداً كان ، أو غيره ،لما روى حكيم بن حزام ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد في المسجد ، وأن تنشد فيه الأشعار ، وأن تقام فيه الحدود ‏.‏ ولأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء ، فيتلوث به المسجد ، فإن أقيم به سقط الفرض ، لأن المقصود حاصل ‏.‏ والمرتكب للنهي غير المحدود ، فلم يمنع ذلك سقوط الفرض عنه ، كما لو اقتص في غير المسجد ‏.‏

فصل

ومن أقيم عليه الحد ، فمات منه ، فالحق قتله ، ولا شيء على من حده جلداً كان أو غيره ، لأنه حد وجب لله ، فلم يود من مات به ، كالقطع في السرقة ‏.‏ وإن زاد على الحد ، فمات ، وجب ضمانه ، لأنه تعدى تعدياً أعان على تلفه ، فوجب عليه ضمانه ، كما لو ضربه أجنبي وفي قدره روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ الدية كلها ، لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله ، وعدوان ، فكان الضمان على العادي الدية ، كما لو ضرب مريضاً سوطاً فقتله ‏.‏

و الثانية ‏:‏ نصف الدية ، لأنه مات بفعل مضمون وغيره ، فكان على العادي ، نصف الدية ، كما لو جرح نفسه ، وجرحه آخر ، فمات ‏.‏ وسواء زاد سوطاً ، أو أكثر ، وسواء زاد خطأ ، أو عمداً ، لأن الخطأ يضمن ، كالعمد ‏.‏ ومتى كانت الزيادة من قبل الجلاد ، فالضمان على عاقلته في الخطأ ، وشبه العمد ‏.‏ وإن كان له من يعد عليه ، إما الأمام ، أو غيره ، فلم يخبره بانتهاء العدد ، فالضمان على من يعد ، لأن الخطأ منه ‏.‏ وإن أمره الإمام بالزيادة ، فزاد جاهلاً بتحريم الزيادة ، فالضمان على الإمام ، كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله ‏.‏ وإن علم تحريم ذلك ، فالضمان عليه ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ هو على الإمام ، كما لو جهل الحال ، ومتى كانت الزيادة من الإمام عمداً ، فالضمان على عاقلته ، لأنه عمد الخطأ ، إلا أن يكون مما يقتل غالباً ، فعليه في ماله ، لأنه عمد ‏.‏ وإن كان خطأ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ الضمان على عاقلته ، لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة ، فكانت على عاقلته ، كما لو أخطأ في غير الحكم ‏.‏

والثانية ‏:‏ هي في بيت المال ، لأنه نائب الله تعالى ، فيتعلق الحكم بمال الله ، ولأن خطأه يكثر ، فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم ‏.‏

فصل

و إذا اجتمع عليه حدود من جنس ، مثل أن زنى مرات ، أو شرب الخمر مرات ، ولم يحد، فحد واحد ، لأنها طهرة سببها واحد ، فتداخلت ، كالطهارة ‏.‏ وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها ، أقيمت كلها ، لأن أسبابها مختلفة ، فلم تتداخل ، كالطهارات المختلفة ، ويبدأ بالأخف فالأخف ، لأننا إذا بدأنا بالأغلظ ، لم نأمن أن يموت فيموت به سائرها ، وأخفها حد الشرب إن قلنا ‏:‏ هو أربعون ، فيبدأ به ، ثم بحد القذف ‏.‏ وإن قلنا‏:‏ هو ثمانون، بدئ بحد القذف ، لأنه كحد الشرب في عدده ، ويرجح لكونه حق آدمي ، ثم بحد الشرب ، ثم بحد للزنا ، ثم بقطع للسرقة ، ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول ، لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها ، والمقصود زجره لا قتله ‏.‏ وإن اجتمع قطع السرقة ، وقطع المحاربة ، قطعت يده لهما ، لأن محلهما واحد ، ثم تقطع رجله في الحال ، لأن قطعهما حد واحد ، فتجب الموالاة فيه ، كالجلدات في الزنا ، فأما إن كان في الحدود لله تعالى قتل ، كالرجم في الزنا ، أو القتل للمحاربة ، قتل ، وسقط سائرها ، لأن ذلك يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه ، ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل ، فاجتزئ به عنها ، كما لو قطع في المحاربة ، وأخذ المال ، ولأن زجره يحصل بالقتل ، فلا حاجة إلى غيره ‏.‏

فصل

و إن اجتمعت حدود للآدميين ، استوفيت كلها ، سواء كان فيها قتل ، أو لم يكن ‏.‏ ويبدأ بأخفها ، لما ذكرنا ‏.‏ وإن اجتمعت حدود لله تعالى ، وللآدمي ، ولا قتل فيها استوفيت كلها ، إلا أن يتفق الحقان في محل واحد ، كالقطع للقصاص والسرقة ، فإنه يقدم القصاص لأنه حق آدمي ، ويسقط الحد لفوات محله ‏.‏ وإن كان فيها قطع ، سقط ما سواه من حدود الله ، وتستوفى حقوق الآدميين ، ثم يقتل ، لما ذكرناه ‏.‏

فصل

و الضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود ، لأن الله تعالى ، خصه بمزيد تأكيد بقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله‏}‏ ولأن الفاحشة به أعظم ، فكانت عقوبته أشد ، ثم بعده الضرب في حد القذف ، لأنه يليه في العدد ، وهو حق آدمي ، ثم الضرب في الشرب ، لأنه أخف الحدود ، وهو محض خق الله تعالى ، ثم التعزير ، لأنه لا يبلغ به الحد ‏.‏ وذكر الخرقي ‏:‏ أن العبد يضرب بدون سوط الحر ، لأن حده أقل عدداً ، فيكون أخف سوطاً ، كالشرب مع الزنا ‏.‏ ويحتمل التسوية بينهما في السوط ، لأن الله تعالى قال ‏:‏ ‏{‏فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ ولا بتحقق النصف إذا نصفنا العدد ، إلا مع تساوي السوطين ‏.‏

فصل

و يضرب في جميع الحدود بسوط وسط ، لا جديد ، ولا خلق ، لما روي أن رجلاً اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال فوق هذا وأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته ، فقال ‏:‏ بين هذين ‏.‏ رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلاً ‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ ضرب بين ضربين ، وسوط بين سوطين ، وهكذا الضرب يكون وسطاً ، لا شديد فيقتل ، ولا ضعيف فلا يردع ، ولا يرفع باعه كل الرفع ، ولا يحطه كل الحط ، قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ لا يبدي إبطه في شيء من الحدود ‏.‏ يعني ‏:‏ لا يبالغ في رفع يده ، لأن المقصود أدبه ، لا قتله ‏.‏


باب التعزير


وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، كوطء جاريته المشتركة ، أو المزوجة ، ومباشرة الأجنبية فيما دون الفرج ، وسرقة ما لا يوجب الحد ، والجناية بما لا يوجب القصاص ونحوه ، لما روي عن علي رضي الله عنه ، أنه سئل عن قول الرجل للرجل ‏:‏ يا فاسق ، يا خبيث ‏.‏قال ‏:‏ هن فواحش ،فيهن تعزير ، ليس فيهن حد ‏.‏ ويجوز بالضرب ، والتوبيخ ، وبالحبس ‏.‏ ولا يجوز قطع شيء من أعضائه ، ولا جرحه ، لأنه لم يرد الشرع بذلك ، ولا يتعين الجلد ، إلا في وضعين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ إذا وطئ جارية زوجته بإذنها ، فإن يجلد مائة ، لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير ‏.‏

و الثاني ‏:‏ إذا وطئ الأمة المشتركة ، فإنه يجلد مائة إلا سوطاً ، لما روى سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطاً ، ولا تقدير فيما عداهما ، إلا أنه لا يزاد على عشر جلدات ، لما روى أبا بردة قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ ولا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله متفق عليه‏.‏ وعنه أن وطء الجارية المشتركة ، لا يزاد فيه على عشر جلدات ، للخبر ‏.‏ وعنه ‏:‏ ما يدل على أن ما كان سببه الوطء يجلد مائة إلا سوطاً ، لخبر عمر ‏.‏ وما كان سببه غير الوطء ، لم يبلغ به أدنى الحدود ، فلا يعزر الحر بما يجلد به في الخمر ، ولا يبلغ بالعبد حده ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ من بلغ حداً في غير حد ، فهو من المعتدين

فصل

و يجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما ، وما عداهما يفوض إلى اجتهاد الإمام ، لما روي أن رجلاً ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ إني لقيت امرأة ، فأصبت منها ما دون أن أطأها ، فقال ‏:‏ أصليت معنا ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ فتلا عليه ‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ ‏.‏ فإن جاء تائباً معترفاً يظهر منه الندم والإقلاع ، جاز ترك تعزيره للخبر ‏.‏و إن لم يكن كذلك ، وجب تعزيره ، لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى ، فوجب كالحد ‏.‏

فصل

و إن مات من التعزير ، لم يجب ضمانه ، لأنه مات من عقوبة مشروعة للردع والزجر ، فلم يضمن ما تلف بها ، كالحد ‏.‏ وإن تجاوز التعزير المشروع ، ضمن ، كما لو تجاوز الحد في الحد ‏.‏


باب دفع الصائل


كل من قصد إنساناً في نفسه ، أو أهله ، أو ماله ، أو دخل منزله بغير إذنه ، فله دفعه ‏.‏ لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل ، فهو شهيد ‏.‏ رواه الخلال بإسناده ‏.‏ وقال الحسن ‏:‏ من عرض لك في مالك ، فقاتله ، فإن قتلته فإلى النار ، وإن قتلك فشهيد ‏.‏ ولأنه لو لم يدفعه ،لاستولى قطاع الطرق على أموال الناس ، واستولى الظلمة والفساق على أنفس أهل الدين وأموالهم ‏.‏ ولا يجب الدفع ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة ‏:‏ اجلس في بيتك ، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف ، فغط وجهك ‏.‏ وفي لفظ فكن كخير ابني آدم وفي لفظ فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ‏.‏ ولأن عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه ، إلا أن يراد أهله ، فيجب الدفع ، لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه ، وللمسلمين عون المظلوم ، ودفع الظالم ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال ‏:‏ كيف أنصره إذا كان ظالماً ‏؟‏ قال ‏:‏ ترده عن ظلمه وقوله عليه السلام ‏:‏ المؤمنون يتعاونون على الفتان ولأنهم لو لم يتعاونوا على دفع الظلم ، لقهرهم الظلمة وقطاع الطريق ‏.‏

فصل

و يدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به ، فإن أمكن دفعه بيده ، لم يجز ضربه بالعصا ، وإن اندفع بالعصا ، لم يجز ضربه بحديدة ، وإن أمكن دفعه بقطع عضو ، لم يجز قتله ، وإن لم يمكن إلا بالقتل ، قتله ولم يضمنه ، لأنه قتل بحق فلم يضمنه ، كالباغي ‏.‏ وإن قتل الدافع ، فهو شهيد ، وعلى الصائل ضمانه ، للخبر ولأنه قتل مظلوماً ، فأشبه ما لو قتله في غير الدفع ‏.‏ فإن أمكنه دفعه بغير قطع شيء منه ، فقطع منه عضواً ، ضمنه ، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو ، فقتله ، أو قطع زيادة على ما يندفع به ، ضمنه ، لأنه جنى عليه بغير حق ، أشبه الجاني ابتداء ، ولأنه معصوم أبيح منه ما يندفع به شره ، ففيما عداه يبقى على العصمة ‏.‏ فإذا ضربه فعطله ، لم يجز أن يضربه أخرى ، لأنه قد انكف أذاه وهو المقصود ‏.‏ وإن قطع يده ، فولى عنه ، فضربه ، فقطع رجله ، ضمن رجله ، لأنها قطعت بغير حق ، ولم يضمن اليد ، لأنها قطعت بحق ‏.‏ وإن مات منهما ، فلا قصاص في النفس ، لأنه من مباح ومحظور ، ويضمن نصف ديته ‏.‏

فصل

وإن عض يد إنسان ، فانتزعها من فيه ، فانقلعت ثناياه ، لم يضمنها ، لما روى عمران بن حصين أن يعلى بن أمية قاتل رجلاً ، فعض أحدهما يد صاحبه ، فانتزع يده من فيه ، فانتزع ثنيته ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له متفق عليه ‏.‏ ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف ، فلم يضمنه ، كما لو رماه بحجر ، فعاد عليه فقتله ‏.‏

و إن أراد رجل امرأة فقتلته دفعاً عن نفسها ، لم تضمنه ، نص عليه أحمد ، وذكر حديثاً عن عبيدة بن عمير أن رجلاً ضاف ناساً من هذيل ، فأراد رجل منهم امرأة عن نفسها ، فرمته بحجر فقتلته ، فقال عمر والله لا يودى أبداً ‏.‏ ولو وجد رجل رجلاً يزني بامرأته فقتلهما لم يضمنهما ، لما روى سعيد بإسناده عن إبراهيم أن قوماً قالوا لعمر ‏:‏ ي أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته ، فقال عمر ‏:‏ ما يقول هؤلاء ‏؟‏ قال ‏:‏ ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف ، فإن كان بينهما أحد فقد قتله ، فقال له عمر ‏:‏ ما تقول ‏؟‏ قالوا ‏:‏ ضرب بسيفه ، فقطع فخذي المرأة ، فأصاب وسط الرجل ، فقطعه باثنين ، فقال عمر ‏:‏ إن عادوا فعد ‏.‏ إلا أن تكون المرأة مكرهة ، فلا يحل قتلها ‏.‏ وإن قتلها ، ضمنها ، لأنه قتلها بغير حق ‏.‏

فصل

و من اطلع في بيت غيره من ثقب ، أو شق باب ، أو باب غير مفتوح ‏.‏ فرماه صاحب البيت بحصاة ، أو طعنه بعود ، فقلع عينه ، لم يضمنها ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ، ففقأت عينه ، لم يكن عليك جناح ‏.‏ وعن سهل بن سعد ‏:‏ أن رجلاً اطلع في جحر من باب النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لو علمت أنك تنظرني ، لطعنت بها في عينك متفق عليهما ‏.‏ ظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر أن لا يمكن دفعه إلا بذلك ، لظاهر الخبر ‏.‏ قال ابن حامد ، يدفعه أولاً بأسهل ما يمكن دفعه به ، كالصائل سواء ‏.‏ وليس له رميه بحجر كبير يقتله ، ولا بحديدة ، فإن فعل ، ضمنه ، لأنه إنما يملك ما يقلع بع العين المبصرة التي حصل الأذى منها ‏.‏ فإن لم يمكن دفعه بالشيء اليسير ، جاز بالكبير حتى يأتي ذلك على نفسه ، ولا ضمان عليه ، لأنه تلف بفعل جائز ‏.‏ وسواء كان في البيت حرمة ينظر إليها ، أو لم يكن ، لعموم الخبر ‏.‏

و إن كان المطلع أعمى ، لم يجز رميه ، لأنه لا ينظر ، فصار وجهه ، كقفا غيره ‏.‏

وإن اطلع ذو محرم لأهله ، لم يجز رميه ، لأنه غير ممنوع من النظر إلا أن تكون المرأة متجردة ، فيجوز رميه ، لأنه يحرم عليه النظر إليها متجردة كالأجنبي ‏.‏ ولو تجرد إنسان في طريق ، لم يجز له رمي من نظر إليه ، لأنه هتك نفسه بتجرده في غير موضع التجرد ‏.‏

فصل

وإن صالت عليه بهيمة ، فله دفعها بأسهل ما تندفع به ، فإن لم يمكن إلا بالقتل فقتلها ، لم يضمنها ‏.‏ لأنه إتلاف بدفع جائز ، فلم يضمنه ، كدفع الآدمي الصائل ولأنه حيوان قتله لدفع شره ‏.‏ أشبه الآدمي ‏.‏

فصل

ومن قتل إنساناً ، أو بهيمة ، أو جنى عليهما ، وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه ، أو حرمته ، أو قتل ، رجلاً وامرأته ، وادعى أنه وجده معها ، فأنكر الولي ، فالقول قول الولي ، وله القصاص ، لما روي أن علياً رضي الله عنه سئل عن رجل قتل امرأته ، ورجلاً معها ، وادعى أنه وجدها معها ، وادعى أنه وجده معها ، فقال علي ‏:‏ إن جاء بأربعة شهداء ، وإلا دفع برمته ولأن القتل متحقق ، وما يدعيه خلاف الظاهر ‏.‏ وإن أقام بينة أنه قصده بسلاح مشهور ، فضربه هذا ، لم يضمنه ‏.‏لأن الظاهر أنه قصد قتله ‏.‏ وإن شهدت أنه دخل بسلاح غير مشهور ، لم يسقط الضمان ، لأنه ليس هاهنا ما يدفعه ‏.‏

فصل

ومن اقتنى كلباً عقوراً ، فأطلقه حتى عقر إنساناً أو دابة ، أو اقتنى هرة تأكل الطيور ، فأكلت طير إنسان ، ضمنه ، لأنه مفرط باقتنائه وترك حفظه ‏.‏ وإن دخل إنسان داره بغير إذنه ، فعقره الكلب ، لم يضمنه ، لأنه متعد بالدخول ، متسبب إلى إتلاف نفسه ، فلم يضمنه ، كما لو سقط في بئر فيها ‏.‏

فصل

وما أتلفت البهائم من الزرع ليلاً ، فضمانه على صاحبها ‏.‏ وما أتلفت منه نهاراً ، لم يضمنه إلا أن تكون يده عليها ، لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة ‏:‏ أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت بالليل ، فهو مضمون عليهم ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ ولأن عادة أهل المواشي لإرسالها بالنهار للرعي ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون الليل ، فكان التفريط من تارك الحفظ في وقت عادته ‏.‏ وذكر القاضي ‏:‏ أنه متى لم يكن في القرية مرعى إلا بين زرعين ،لا يمكن حفظ الزرع فيه من البهيمة ، كساقية ونحوها ، فليس لصاحبه إرسالها ليلاً ، ولا نهاراً ، فإن فعل ، فهو مفرط ، وعليه الضمان ‏.‏ ومتى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك ، مثل أن أرسلها غيره ، أو فتح بابها لص ، أو غيره ، فالضمان عليه دون المالك ، لأنه سبب الإتلاف ‏.‏

فصل

و إن أتلفت البهيمة غير الزرع ، ولا يد لصاحبها عليها ، لم يضمنه ليلاً كان أو نهاراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ العجماء جبار ‏.‏ يعني هدراً ، لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة ، فلم يجب حفظها عنه ‏.‏ فإن ابتلعت جوهرة إنسان ، فطلب ذبحها ليأخذ جوهرته ، فعليه ضمان ما نقص بالذبح ، لأنه فعل ذلك لتخليص ماله ، وليس على صاحب البهيمة ضمان نقص الجوهرة ، لأنها نقصت بفعل غير مضمون ‏.‏ وإن كانت يد صاحبها عليها ، ضمن الجوهرة ، لأن فعلها منسوب إليه ، ويخير بين ذبحها ، ورد الجوهرة ، وأرش نقصها ، وبين غرمها بقيمتها ، كمن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان ‏.‏ فإن عاد فذبحها رد الجوهرة إلى صاحبها ، واسترجع القيمة ، كما لو غصب عبداً فأبق ، فرد قيمته ، ثم قدر عليه ‏.‏