وهو فرض ، لقول الله تعالى : {كتب عليكم القتال} . وقوله سبحانه : {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وقوله تعالى {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً} . وهو من فروض الكفايات . إذا قام به من فيه كفاية ، سقط عن الباقين ، لقول الله سبحانه : {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} إلى قوله : {وكلاً وعد الله الحسنى} . ولو كان فرضاً على الجميع ، لما وعد تاركه الحسنى . وقال سبحانه : {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} . ولأنه لو فرض على الأعيان ، لاشتغل الناس به عن العمارة ، وطلب المعاش ، والعلم ، فيؤدي إلى خراب الأرض ، وهلاك الخلق . ولا يجب إلا بشروط خمسة :
أحدهما : التكليف ، فلا يجب على صبي ، ولا مجنون ، ولا كافر لما تقدم . ولأن هذه من شرائط التكليف بسائر الفروع . وقد روي عن ابن عمر أنه قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة ، فلم يجزني في المقاتلة . متفق عليه .
ولأن المجنون لا يستطيع الجهاد ، والكافر غير مأمون ، والصبي ضعيف البنية .
الثاني : السلامة من الضرر ، لقوله سبحانه : {غير أولي الضرر} وهو العمى ، والعرج ، والمرض ، والضعف ، لقول الله سبحانه : {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} . وقوله تعالى : {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} . ومن كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه ، وما يتقيه من سلاح ، لم يلزمه الجهاد ، لأنه في معنى الأعمى ، في عدم إمكان القتال ، وإن لم يمنعه من ذلك ، لم يسقط عنه فرضه ، ويجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل ، وعلى الأعور ، لأنهما يتمكنان من القتال . ولا يجب على أقطع اليد ، أو الرجل ، لأنه إذا سقط عن الأعرج ، فالأقطع أولى ، ولأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي ، واليدين ليتقي بأحدهما ، ويضرب بالأخرى ، والأشل ، كالأقطع . ومن أكثر أصابعه ذاهب ، أو إبهامه ، أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه ، فهو كالأقطع كذلك. ومن كان عرجه يسيراً أو مرضه يسيراً ، لا يمنعه الركوب والمشي ، والعدو والقتال ، لم يسقط عنه الجهاد ، لأنه متمكن منه .
الثالث : الحرية . فلا يجب على العبد ، لقوله سبحانه : {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} . والعبد لا يجد ما ينفق ، ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة ، فلم يجب على العبد كالحج .
الرابع : الذكورية : فلا يجب على المرأة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قل : جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة ولأن الجهاد القتال ، والمرأة ليست من أهله لضعفها وخورها . ولا يجب على خنثى مشكل . لأنه لا يعلم كونه رجلاً .
الخامس : الاستطاعة ، لقول الله تعالى : {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} . ولأنه يحتاج إلى قطع مسافة ، فأشبه الحج . وإن كان القتال قريباً من البلد ، لم يشترط ذلك ، لأنه لا يحتاج إلى ركوب ، ولا نفقة طريق ، والاستطاعة : وجدان الزاد ، والسلاح، وآلة القتال ، ومركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر ، لقول الله تعالى : {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون} .
فصل
ويتعين الجهاد في موضعين :
إحداهما : إذا التقى الزحفان ، تعين الجهاد على من حضر ، لقول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا} . وقوله سبحانه : {إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار} .الآية .
الثاني : إذا نزل الكفار ببلد المسلمين ، تعين على أهله قتالهم ، والنفير ، إليهم ، ولم يجز لأحد التخلف ، إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل ، والمكان ،و المال ، ومن يمنعه الأمير الخروج ، لقول الله تعالى : {انفروا خفافاً وثقالاً} ولأنهم في معنى حاضر الصف ، فتعين عليهم ، كما تعين عليه .
فصل
وأقل مل يفعله الجهاد مرة في كل عام ، لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام مرة ، وهي بدل عن النصرة ، فكذلك مبدلها ، وهو الجهاد ، إلا لعذر من ضعف بالمسلمين ، أو انتظار مدد ، أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره ، أو طمعه في إسلامهم بتأخير قتالهم ، ونحو هذا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشاً عشر سنين ، وأخر قتالهم حتى نفضوا عهده ، وإن دعت الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة ، وجب ، لأنه فرض كفاية ، فكان على حسب الحاجة .
فصل
ومن كان أحد أبويه مسلماً ، لم يجز له الجهاد إلا بإذنه ، لما روى ابن العباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أجاهد ؟ قال : لك أبوان قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد ، قال الترمذي : هذا حديث صحيح . ولأن الجهاد فرض كفاية ، وبرهما فرض عين ، فوجب تقديمه . فإن كانا كافرين ، فلا إذن لهما ، لأن أبا بكر الصديق ، وأبا حذيفة بن عتبة رضي الله عنهما ، وغيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم ، ولأنهما متهمان في الدين . وإن كانا رقيقين ، ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر إذنهما ، لأنهما كالحرين في البر والشفقة والدين .
والثاني : لا إذن لهما ، لأنه لا ولاية لهما ، ولا نفقة ولا إذن لهما في أنفسهما ، ففي غيرهما أولى ، ولا إذن لغيرهما من الأقارب ، كالجدين ، وسائر الأقارب لأن الشرع لم يرد بذلك ، ولا هو في معنى المنصوص عليه ، لتأكيد حرمة الوالدين في البر ، والتقديم في الإرث ، والنفقة ، والحجب ، والولاية وغيرها . ومتى تعين الجهاد ، فلا إذن لأبويه ، صار فرض عين ، فلم يعتبر إذنهما فيه ، كالحج الواجب . وكذلك كل الفرائض ، لا طاعة لهما في تركه ، لأن تركه معصية ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى ، كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده ، ونحو ذلك . وإن أراد سفراً غير واجب ، فمنعاه منه ، لم يجز له ، لما روي عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جئت أبايعك على الهجرة ، وتركت أبوي يبكيان ، قال : ارجع إليهما فأضحكهما ، كما أبكيتهما . من المسند .
فصل
ولا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلاً ، أو يعطي به رهناً ، أو يكون له من يقضيه عنه ، لما روى أبو قتادة أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن قتلت في سبيل الله ، كفر الله خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر . كفر الله عنك خطاياك ، إلا الدين كذلك قال جبريل رواه مسلم . ولأن فرض أداء الدين متعين عليه ، فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه .
والمؤجل ، كالحال ، لأنه يعرض نفسه للقتل ، فيضيع الحق . فإن كان له مال غائب ، فهو كالمعسر ، لأنه قد يتلف ، فيضيع الحق . وإن تعين عليه الجهاد ، فلا إذن لغريمه ، لما ذكرنا في الوالدين . وإن أذن له الغريم ، جاز له الجهاد ، لأن الحق له ، فجاز بإذنه . فإن رجع عن الإذن ، أو أذن له أبواه في الغزو ، ثم رجعا ، أو كانا كافرين فأسلما ، أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين ، لم يجز الخروج إلا بإذن مستأنف . وإن كان بعده ، فلا إذن لهما ، لأنه صار متعيناً ، فقدم ، لما ذكرنا .
فصل
وأفضل التطوع الجهاد في سبيل الله ، نص عليه أحمد ، وذكر له أمر الغزو ، فجعل يبكي ويقول : ما من أعمال البر أفضل منه ، وأي عمل أفضل منه ؟ والذين يقاتلون في سبيل الله : هم الذين يدفعون عن الإسلام ، وعن حريمهم ، وقد بذلوا مهج أنفسهم ، الناس آمنون ، وهم خائفون . وقد روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله ، أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله . متفق عليه . وعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ أو أي الأعمال خير؟ قال : إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم أي ؟ قال : الجهاد سنام العمل ، قيل : ثم أي ؟ قال : ثم حج مبرور حديث صحيح . ولأن نفعه عظيم ، وخطره كبير ، فكان أفضل مما دونه .
وغزو البحر أفضل من غزو البر ، لما روى أبو داود عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم : المائد في البحر الذي يصيبه القيء ، له أجر شهيد ، والغرق له أجر شهيدين وروى ابن ماجة بإسناده عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول شهيد البحر مثل شهيدي البر ، والمائد في البحر ، كالمتشحط في دمه في البر ، وما بين الموجتين ، كقاطع الدنيا في طاعة الله ، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح ، إلا شهيد البحر ، فإنه يتولى قبض أرواحهم ، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها ، إلا الدين ، ولشهيد البحر الذنوب والدين ولأن غزو البحر أعظم خطراً ، فإنه بين خطر القتل والغرق ، ولا يمكنه الفرار دون أصحابه .
فصل
وفي الرباط فضل عظيم : وهو المقام بالثغر مقوياً للمسلمين . والثغر : كل مكان يخيف العدو ويخافه . قال أحمد : ليس يعدل الرباط والجهاد شيء . وعن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان أخرجه مسلم .
وعن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل . حديث صحيح . وليس لأقله وأكثره حد ، وتمامه أربعون يوماً ، لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تمام الرباط أربعون يوماً أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب ويروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم . وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفاً ، لأنه أنفع للمسلمين ، وأشد خطراً ، ولا يستحب نقل أهله إلى الثغر المخوف . نص عليه أحمد وقال : أخاف عليه الإثم ، لأنه يعرض ذريته للمشركين . وقد قال عمر : لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر . ويستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم ، ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير . فيبلغ الخبر جميعهم ، وتراهم عين الكفار ، فتخافهم وتخوف منهم . قال الأوزاعي : لو أن لي ولاية على المساجد ، يعني التي في الثغر ، لسمرت أبوابها ، يريد أن تكون صلاتهم في موضع واحد .
فصل
ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو ، لقول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} ولأنهم أهم ، فتجب البداءة بهم ، إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم . إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم ، أو لمانع من قتال الأقرب ، فيبدأ بالأبعد لذلك ، ويستحب التحريض عل القتال ، لقول الله تعالى : {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} ويستحب ذكر الله ، والدعاء ، لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} ، ويستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم ، لما روى سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر : إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم متفق عليه . ولا تجب الدعوة . نص عليه أحمد . وقال : إن الدعوة قد بلغت كل أحد ، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى ، إنما كانت الدعوة في أول الإسلام . وقد روى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون ، وإبلهم تسقى على الماء ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرية . متفق عليه ، وإن اتفق في الجزائر البعيدة ، من لم تبلغه الدعوة ، وجبت دعوته ، لقول الله تعالى : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } . فلا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم .
فصل
ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ، ولا لجماعة أن يفروا من مثليهم ، لقول الله تعالى {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} . وهذا أمر بلفظ الخبر ، لأنه لو كان خبراً بمعناه ، لم يكن تخفيفاً ، ولوقع الخبر بخلاف المخبر ، والأمر يقتضي الوجوب {إلا متحرفاً لقتال} وهو أن ينصرف من ضيق إلى سعة ، أو من سفل إلى علو ، أو من مكان منكشف إلى مستتر ، أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما ، ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال {أو متحيزاً إلى فئة} ينضم إليهم ليقابل معهم ، لقول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} وسواء قربت الفئة أو بعدت ، لما روى ابن عمر : أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص المسلمون حيصة عظيمة ، وكنت فيمن حاص ، فلما برزنا قلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بغضب من الله ؟ فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر ، فلما خرج قمنا فقلنا له : نحن الفرارون . فقال : لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : أنا فئة كل مسلم ، وقال : لو أن أبا عبيد تحيز إلي ، لكنت له فئة وكان عبيد بالعراق . وإن كان العدو أكثر من المثلين ، لم تجب مصابرتهم ، لأن الله تعالى لما فرض مصابرة المثلين ، دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما . وقال ابن عباس : من فر من اثنين ، فقد فر . ومن فر من ثلاثة ، فما فر .لكن إن غلب على ظنهم الظفر ، فالأولى لهم الثبات ، ليحصل لهم الأجر والغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم . وإن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة، والنجاة في الفرار . فالفرار أولى ، لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم . وإن ثبتوا ، جاز لأن لهم غرضاً في الشهادة . وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف ، فالأولى الثبات ، ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين . ولأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا ويغنموا ، فإن الله تعالى يقول :{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} وإن خشوا الأسر ، قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة ، ولا يتسلط الكفار على إهانتهم وتعذيبهم . وإن استأسروا ،جاز ، لأن عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام ، فعرضوا عليهم أن يستأسروا ، فأبوا ، فقتلوا عاصماً في سبعة ، ونزل إليهم خبيب وزيد على العهد والميثاق ، فلم يذم أحداً منهم . وإن ألقى الكفار ناراً في سفينة فيها مسلمون ، فما غلب على ظنهم السلامة فيه ، فالأولى فعله ، لأن فيهم صيانتهم عن الهلاك . وإن ثبتوا ، جاز . قال أحمد : كيف شاء صنع . وإن تساوى الأمران ، فهم بالخيار بين المقام بالسفينة ، وإلقاء نفوسهم في الماء ، لأنهما موتتان ، فيختار أيسرهما . وعنه : أنه يلزمهم المقام ، لئلا يكون موته بفعله ، فيكون معيناً على نفسه .
باب ما يلزم الإمام وما يجوز له
يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ، ويقويها بالعدد ، والآلات ويؤمر عليهم أميراً ذا رأي ، وشجاعة ، ودين ، لأنه إذا لم يفعل ، لم يأمن دخول الكفار من بعض الثغور ، فيصيبون المسلمين وإن احتاج إلى بناء حصن ، أو حفر خندق ، فعل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة في غزوة الأحزاب . وإذا بعث جيشاً ، أو سرية ، لزمه أن يولي عليهم أميراً على الصفة المذكورة ، ويوصيه بجيشه ، لما روى بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية ، أو جيش ، أمره بتقوى الله في خاصته ، ومن معه من المسلمين ، ولما بعث أبو بكر رضي الله عنه جيوشه إلى الشام ، خرج مع أمرائهم يشيعهم ، ويوصيهم ، ويعهد إليهم .
فصل
وإذا أراد الإمام ، أو الأمير الغزو ، لزمه أن يعرض جيشه ، ويتعاهد الخيل والرجال ، فلا يدع فرساً حطماً ، وهو الكسير ، ولا قحماً ، وهو الكبير ، ولا ضرعاً وهو الصغير ، ولا هزيلاً يدخل معه أرض العدو ، لئلا ينقطع فيها ، وربما كانت سبباً للهزيمة . ولا يأذن لمخذل من الناس ، وهو الذي يفند الناس عن الغزو ، ولا لمرجف ، وهو الذي يحدث بقوة الكفار ، وضعف المسلمين ، وهلاك بعضهم ، ويخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم ، ولا لمن يعين العدو بمكاتبتهم ، بأخبار المسلمين ، والتجسس لهم ، ولا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم ، ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة ، لقول الله تعالى : {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} وقوله تعالى : {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} وقوله تعالى : {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} قيل : معناه : لأوقعوا بينكم الاختلاف ، وقيل : لأسرعوا في تفريق جمعكم. لأن في حضورهم ضرراً ، فيجب صيانة المسلمين عنه . ولا يأذن لطفل ولا مجنون ، لأن دخولهم تعرض للهلاك ، لغير فائدة . ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم معونة ونفعاً ، ولا يأذن لمشرك ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر ، فتبعه رجل من المشركين ، قال: تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا . قال : فارجع فلن نستعين بمشرك . حديث حسن . فإن دعت حاجة إليه ، ولم يكن حسن الرأي في المسلمين ، لم يستعن به أيضاً ، لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه ، وإن كان حسن الرأي فيهم ، جاز ، لأن صفوان بن أمية شهد حنيناً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شركه . ولا يأذن للمرأة الشابة الجميلة ، لأنها ليست من أهل القتال ، ولا يؤمن الضرر عليها وبها ، ويجوز أن يأذن للطاعنة في السن ، لسقي الماء ، ومعالجة الجرحى ، لما روى أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار ، يسقين الماء ، ويداوين الجرحى . وهذا حديث صحيح .
فصل
ويستحب أن يخرج يوم الخميس ، لما روى كعب بن مالك قال : قلما كان رسول الله صلى اله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس . ويعبئ جيشه ، ويرتب في كل جانب كفؤاً ، لما روى أبو هريرة قال : كنت مع النبي صلى عليه وسلم فجعل خالداً على إحدى المجنبتين ، وجعل الزبير في الأخرى ، وجعل أبا عبيدة على الساقة . ولأن ذلك أحوط للحرب ، وأبلغ في إرهاب العدو . ويعقد الألوية والرايات ، ويجعل لكل طائفة لواء ، لما روى ابن عباس : أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه : احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال فحبسته على الوادي ، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرت به القبائل على راياتها . وهو متحير في ألوانها . لكنه يغاير ألوانها ، ليعرف كل قوم راياتهم ، ويعرف عليهم العرفاء ، ويجعل لكل طائفة أميراً ، ويكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم ، لئلا ينقطع عنهم ، أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة رآها ، فيجوز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي : ليخرجن الأعز منها الأذل . ليشغل الناس عن الخوض فيه . ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم ، ويتتبع مكامنها فيحوطها عليهم ، ولا يغفل الحرس والطلائع ، ليحفظهم من البيات . وقد روى سهل بن الحنظلية : أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية ، قال : من يحرسنا الليلة فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله ، قال : فاركب فركب فرساً له ، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له : استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ، ولا نغرن من قبلك الليلة ، فلما أصبحنا ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه ، فركع ركعتين ، ثم قال : هل أحسستم فارسكم قالوا : لا ، فثوب بالصلاة ، فجعل رسو ل الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال : أبشروا فقد جاءكم فارسكم فإذا هو قد جاء ، حتى وقف عل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني انطلقت ، حتى كنت في أعلى هذا الشعب ، حيث أمرني رسوا الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت ، اطلعت الشعبين كليهما فنظرت ، فلم أر أحداً ، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم : هل نزلت الليلة قال : لا ، إلا مصلياً ، أو قاضياً حاجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد وجبت ، فلا عليك ألا تعمل بعدها . رواه أبو داود . ويذكي العيون ، ليعلم أخبار عدوه ، فيتحرز منهم ، ويتمكن من الفرصة فيهم ، ويستشير ذوي الرأي من أصحابه ، لقول الله تعالى : {وشاورهم في الأمر} . وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه . ويمنع جيشه من المعاصي ، والتشاغل بالتجارة المانعة لهم من القتال ، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب الظفر ، ويعد ذا الصبر منهم بالأجر والنفل ، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه ، لئلا يعلم به عدوه ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ، ورى بغيرها ، ولا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على مخالفيه ، لئلا تنكسر قلوبهم ، فيخذلوه عند الحاجة ، ويعد لهم الزاد ، ويراعي من معه ، ويرزق كل واحد بحسب حاجته .
فصل
ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ، حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، لقول الله تعالى : {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} . ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا ، في ظاهر المذهب . ولا يجوز قتل نسائهم ، وصبيانهم ، لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل النساء والصبيان ، متفق عليه . ولأنهما يصيران رقيقاً ومالاً للمسلمين ، فقتلهما إتلاف لمال المسلمين .
ولا قتل شيخ فإن ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة رواه أبو داود . ولأنه لا نكاية له في الحرب ، أشبه المرأة.
ولا قتل زمن ولا أعمى ، لأنهما في معنى الشيخ الفاني . ولا راهب ، لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ، فقال : لا تقتلوا الولدان ، ولا النساء ، ولا الشيوخ ، وستجدون قوماً حبسوا أنفسهم في الصوامع ، فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم ، ولا قتل خنثى مشكل ، أنه يحتمل أنه امرأة ، فلا يجوز فتله مع الشك . ومن قاتل من هؤلاء كلهم ، قتل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجراً على محمود بن مسلمة . ومن كان ذا رأي يعين به في الحرب ، جاز قتله ، لأن الرأي في الحرب ، أبلغ من القتال ، لأنه الأصل . وعنه يصدر القتال . قال المتنبي :
الرأي قبل شجاعة الشجعان ** هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ** بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ** بالرأي قبل تطاعن الفرسان
وإن تترس الكفار بصبياقنهم ونسائهم ، جاز رميهم ، بقصد المقاتلة ، لأن المنع من رميهم ، يفضي إلى تعطيل الجهاد . وإن تترسوا بأسارى المسلمين ، أو أهل الذمة ، لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب ، والخوف على المسلمين ، لأنهم معصومون لأنفسهم ، فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة . وفي حال الضرورة ، يباح رميهم ، لأن حفظ الجيش أهم .
فصل
ويجوز بيات الكفار ، ورميهم بالمنجنيق والنار ، وقطع المياه عنهم ، وإن تضمن ذلك إتلاف النساء والصبيان ، لما روى الصعب بن جثامة ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الدار من ديار المشركين ، نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم ؟ فقال : هم منهم متفق عليه . وروي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، نصب منجنيقاً على أهل الطائف . والتغريق بالماء في معناه .
فإن كان فيهم مسلمون ، فأمكن الفتح بدون ذلك ، لم يجز رميهم ، لأنه تعريض لقتلهم من غير حاجة ، وإن لم يمكن بدونه ، جاز ، لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل الجهاد .
فصل
ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم ، لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم ، فإذا صارت إلينا ، لم يجز قتلها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبراً ولأنها مال المسلمين . ولا يجوز ذبحها إلا لأكل لا بد لهم منه . ولا يجوز تحريق النحل ، ولا تغريقه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة ، وقال أبو بكر : لا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه . ويجوز أخذ الشهد ، وفي أخذه كله روايتان :
إحداهما : لا يجوز ، لأن فيه قتل النحل وهلاكه .
والثانية : يجوز ، لأن هلاكه إنما يحصل ضمناً غير مقصود ، فأشبه قتل النساء في البيات .
ويجوز هدم بنيانهم ، وقطع شجرهم ، وحرق زرعهم إذا احتيج إليه ، للتمكن من قتالهم ونحوه ، ولا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين ، لحاجتهم إلى الاستظلال أو الاستتار به ، أو الأكل منه ، أو علف دوابهم . وما عدا ذلك ، ففيه روايتان :
إحداهما : جوازه ، لقول الله تعالى : {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} . وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع ، وهي البويرة ، فأنزل الله تعالى : {ما قطعتم من لينة} ولها يقول حسان رضي الله عنه :
وهان على سراة بني لؤي ** حريق بالبويرة مستطير
رواه مسلم .
وروى أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: أعز على أبنى صباحاً وحرق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة .
والثانية : لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا . لما روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميراً : يا يزيد لا تقتل صبياً ، ولا امرأة ، ولا هرماً ، ولا تخربن عامراً ، ولا تعقون شجراً مثمراً ، ولا دابة عجماء ، ولا شاة إلا لمأكلة ، ولا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه ، ولا تغلل ، ولا تجبن . رواه سعيد . فإن كانوا يفعلونه في بلدنا ، جاز فعله بهم ، لينتهوا ، وإن أخذنا منهم مالاً ، فعجزنا عن تخليصه إلى دار الإسلام . جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به .
فصل
ويخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء ، القتل ، والفداء ، والمن ، والاسترقاق .فأما الفداء والمن ، فقول الله تعالى : {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي عزة الجمحي الشاعر ومن على أبي العاص بن الربيع ، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي . وفادى أسيراً برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف ، وفادى أسارى بدر بالمال . وأما القتل ، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط صبراً ، وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي ، وقال قريظة . ولأنه أنكى فيهم وأبلغ في إرهابهم ، فيكون أولى . وأما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب والمجوس ، لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية ، فالرق أولى ، لأنه أبلغ في صغارهم ، وإن كان من غيرهم ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز ، إرقاقه . اختارها الخرقي ، لأنه لا يقر بالجزية ، فلم يجز إرقاقه ، كالمرتد .
والثانية : يجوز ، لأنه كافر أصلي ، فأشبه الكتابي . وإن أسلم الأسير ، حرم قتله ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ويتخير فيه بين المن عليه ، لأنه جاز المن عليه حال كفره ، ففي حال إسلامه أولى ، بين إرقاقه وفدائه .
وقال أصحابنا : يصير رقيقاً بنفس الإسلام ، ويسقط التخيير ، لأنه ممن يحرم قتله ، فأشبه المرأة .
وأما النساء والصبيان ، فإنهم يصيرون رقيقاً بنفس السبي ، لأنهم مال ضرر في اقتنائه ، فأشبهوا البهائم .
وأما الرجال الذين يحرم قتلهم ، كالشيخ الفاني ونحوه ، فلا يجوز سبيهم لأنه لا نفع من استرقاقهم ، ولا يحل قتلهم . إذا ثبت هذا . فإن التخيير الثابت في الأسرى تخيير مصلحة واجتهاد ، لا تخيير شهوة ، فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال ، تعينت عليه ، ولم يجز له غيرها ، لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم ، كولي اليتيم ، فمتى رأى القتل ، ضرب عنقه بالسيف ، لقول الله تعالى : {فضرب الرقاب} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين قتلهم ، فضربت أعناقهم ، ولا يجوز التمثيل به لما روى بريدة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش ، أو سرية قال : اغزو بسم الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدوا ، ولا تمثلوا ولا تغلوا وإن اختار الفداء ، جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين ، وجاز بالمال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين . وقال أبو الخطاب : لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين ، فإن فادى بالمال ، أو استرقهم ، كان الرقيق ، والمال للغانمين . وليس له إطلاق الأسارى . ولا المال إلا برضاهم ، لما روى مروان بن الحكم ، والمسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال : إن إخوانكم جاؤوا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد عليهم ، سبيهم ، فمن أحب أن يطيب ذلك ، فليفعل ، ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا ، فليفعل فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله . أخرجه البخاري .
فصل
و منع أحمد رضي الله عنه فداء النساء بالمال ، لأن في بقائهن في الرق تعريضاً لهن للإسلام ، لمعاشرتهن للمسلمين ، وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع . رجلين من المسلمين . ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق إسلامه . وإن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار ، بفداء ولا غيره ، لقول الله تعالى : {فلا ترجعوهن إلى الكفار} . ولا يجوز المفاداة بالصبيان بحال ، لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم .
فصل
و لا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر . نص عليه أحمد رضي الله عنه ، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كتب إلى أمراء الأمصار : ينهاهم عنه ، ولأن في بقائهم رقيقاً للمسلمين ، تعريضاً لهم للإسلام ، وفي بيعهم لكافر ، تفويت ذلك ، فلم يجز .
فصل
وإن أسر من يقر بالجزية فبذلها ، لم يلزم قبولها ، لأنه قد ثبت حق التخيير فيه بين الأمور الأربعة ، فلم يسقط ببذله . ويجوز للإمام إجابته إليها إذا رأى ذلك ، لأنه بمنزلة المن عليه.
فصل
ويكره نقل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد ، ورميها في المنجنيق ، لأن فيه مثلة ، وقد روى عقبة بن عامر : أنه قدم على أبي بكر برأس بناق البطريق ، فأنكر ذلك ، فقيل : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنهم يفعلون بنا هذا ، قال : فاستبان بفارس والروم ؟ لا يحمل رأس ، وإنما يكفي الكتاب والخبر . رواه سعيد .
فصل
إذا حصر الإمام حصناً ، فرأى المصلحة في مصابرته ، لزمه ذلك ، لأن عليه فعل ما فيه الحظ للمسلمين . وإن كانت المصلحة في الانصراف ، انصرف لذلك . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئاً ، فقال : إنا قافلون إن شاء الله غداً فقال المسلمون : أنرجع ولم نفتتحه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اغدوا على القتال فغدوا عليه ، فأصابهم جراح ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قافلون غداً فأعجبهم ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .
وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه ، عصموا دماءهم وأموالهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها .
وإن طلبوا النزول على حكم الحاكم ، جاز ، لأن بني قريظة حين حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم : بقتل مقاتليهم ، وسبي ذراريهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة .
ويجب أن يكون الحاكم بالغاً عاقلاً حراً مسلماً ذكراً عدلاً عالماً ، لأنه ولاية حكم ، فأشبه ولاية القضاء ، ولا يشترط أن يكون بصيراً ، لأن الذي يقتضي الحكم فيهم هو الذي يشتهر من حالهم ، وذلك يدرك بالسمع ، فأشبه الشهادة فيما طريقه السمع .
ويكره أن يكون حسن الرأي فيهم ، لأنه يخشى ميله إليهم . ويجوز حكمه ، لأنه عل في دينه . فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام ، جاز ، لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه . ولا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه ، لأنهم قد يختارون من لا يصلح . ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين ، أو أكثر ، لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي ، فأشبه التحكيم في اختيار الإمام . وإن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه ، أو حكم من يجوز ، فمات قبل الحكم ، وجب ردهم إلى حصنهم ، لأنهم نزلوا على أمان ، فلا يجوز أخذهم ، ولا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين ، لأنه نائب الإمام ، فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور الأربعة . فإن حكم بالمن ، فقال القاضي : يلزم حكمه كذلك . وقال أبو الخطاب : لا يلزم ، لأن الإمام إذا لم يره ، تبين أنه لا حظ فيه ، فلم يلزم حكمه به . فإن حكم بعقد الذمة ، ففيه وجهان:
أحدهما : يلزم حكمه ، لأنهم رضوا بحكمه .
والثاني : لا يجوز ، لأنه عقد معارضة ، فلم يجز إلا برضى الفريقين ، فإن حكم بالقتل والسبي ، جاز ، لأن سعداً حكم به في بني قريظة ، فصادف حكم الله تعالى .
و للإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل ، لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي بعد الحكم عليهم ، فوهبه له ، وأطلق له أهله وماله ، وإن حكم باسترقاقهم ، لم يجز أن يمن عليهم ، إلا برضى الغانمين ، لأنهم صاروا مالاً لهم . وإن حكم بالقتل فأسلموا ، عصموا دماءهم ، لأن قتل المسلم حرام ، ولم يعصموا أموالهم ، لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم . وفي استرقاقهم روايتان :
إحداهما : لا يسترقون ، ذكره القاضي ، لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم ، فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم .
والثانية : يسترقون ، لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ، ووجوب قتلهم ، فأشبهوا الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله .
فصل
ومن أسلم قبل القدرة عليه ، عصم نفسه وماله ، وأولاده الصغار ، للخبر المذكور .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ، حاصر بني قريظة ، فأسلم ابنا سبيعة ، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما . ولأن الأولاد تبع لوالدهما في الإسلام ، فكذلك في العصمة . وإن كان للمسلم منفعة بإجارة ، لم تملك عليه ، لأنها مال . ولا يعصم زوجته ، لأن النكاح ليس بمال . ولا يجري مجراه ، وإن كانت حاملاً منه ، فولده مسلم معصوم . ويجوز استرقاقها ، لأنها حربية ، لا أمان لها ولا يعصم أولاده البالغين ، لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته . وإذا ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر . لم يقبل إلا ببينة . فإن شهد له مسلم وحلف معه ، ثبت ذلك له ، لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته وأطلقه من الأسر .
فصل
ومن أسلم من الأبوين ، كان أولاده الأصاغر تبعاً له في الإسلام ، رجلاً كان أو امرأة ، لقول الله تعالى : {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} .و يتبعه الحمل ، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه ، فتبعه كالولد . وإن لم يسلم واحد منهما ، فولدهما كافر ، لأنه لا حكم لنفسه ، فتبع أبويه ، كولد المسلم . فإن مات الأبوان . أو أحدهما في دار الإسلام ، حكم بإسلام الولد ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مولود يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فجعل التبعية لأبويه معاً . فإذا مات أحدهما ، انقطعت التبعية ، فوجب بقاؤه على حكم الفطرة . لأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام ، بدليل الحكم بإسلام لقيطها . وإنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه ، فإذا مات أحدهما ، اختل المانع ، فظهر حكم الدار . والحكم في المجنون الذي يبلغ مجنوناً ، كالحكم في الصبي ، لأنه لا حكم لقوله ، فتبع في الإسلام كالطفل ، ولأنه يتبع والديه في الكفر ، ففي الإسلام أولى . وإن بلغ عاقلاً ثم جن ، ففيه وجهان :
أحدهما : يتبع أباه ، لأنه لا حكم لقوله .
والثاني : لا يتبع ، لأنه زال حكم التبعية ، ببلوغه عاقلاً ، فلا يعود .
فصل
وإن سبي الطفل منفرداً عن أبويه ، تبع سابيه في الإسلام ، لأنه زال حكم أبويه ، لإفراده عنهما ، واختلاف الدار بهما ، فأشبه ما لو ماتا ، ولأن سابيه ، كأبيه في حضانته ، فكان مثله في استتباعه ، وإن سبي معهما ، تبعهما ، لخبر أبي هريرة ، ولأنه لم ينفرد عنهما ، أشبه ما لو كان ذمياً . وإن سبي مع أحد أبويه ، حكم بإسلامه ، لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه ، فأشبه ما لو أسلم ، أو مات ، وقال أبو الخطاب : يتبع أباه ، وقال القاضي : فيه روايتان :
أشهرهما : أنه يحكم بإسلامه ، لما ذكرنا .
والثانية : يتبع أباه .
فصل
ولا يجوز التفريق في البي بين الوالدة وولدها ، ولا بين الوالد وولده ، ولا بين ذوي رحم محرم ، إذا كان أحدهما صغيراً . فإن كانا بالغين ، فعلى روايتين ، ذكرناهما في البيع . فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق بينهما ، فتبين أنه جائز ، وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق ، لأنه تبين له الفضل لم يعلم به البائع ، فوجب رده ، كما لو قبض الثمن على أنه عشرة ، فبان أحد عشر . ولو اشترى من المغنم جارية معها مال ، أو حلي ، أو ثياب غير لباسها ، لزمه رده . نص عليه ، لقوله عليه السلام : من باع عبداً وله مال ، فماله للبائع لأن البيع إنما وقع عليها دونه .
فصل
إذا سبيت المرأة دون زوجها ، انفسخ نكاحها ، لقول الله تعالى : {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} . قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في سبي أوطاس ، أصبنا سبايا ولهن أزواج في قومهن ، فذكر ذلك لرسول الله ، فنزلت الآية . قال الترمذي :هذا حديث حسن . ولأنه استولى على محل حق الكافر الحربي ، فأزاله ، كما لو سبيت أمته. وقال أبو الخطاب : عندي لا ينفسخ . وإن سبي الرجل وحده ، لم ينفسخ نكاحه . لأنه لم يستول على محل حقه ، أشبه ما لو لم يسب . وإن سبي الزوجان ، لم ينفسخ نكاحهما ، لأن الرق لا يمنع ابتداء النكاح ، فلم يقطع استدامته ، كالعتق . ويحتمل أن ينفسخ نكاحهما ، لأنه استولى على محل حقه ، فزال ملكه عنه ، كماله ، أو كما لم يسب معها .
فصل
و إن أسلم عبد الحربي ولم يخرج إلينا ، فهو على رقه ، لأن يد سيده لم تزل عنه ، فلم يزل ملكه ، كما لو لم يسلم ، وإن خرج إلينا ، صار حراً ، لأنه أزال يد سيده قهراً ، فزال ملكه ، كما لو استولى عليه مسلم . وإن أسر سيده ، وأخذ ماله وعياله ، فالمال له ، والسبي رقيقه ، لأن دار الحرب دار قهر ، فما استولى عليها فيها ، فهو للمستولي . وقد روى أبو سعيد الأعشم قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد ، إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده ، أنه حر ، فإن خرج سيده بعد ، لم يرد إليه ، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد ، رد على سيده ، رواه سعيد .
فصل
وليس للإمام أن يقيم حداً في أرض الحرب ، ولا يستوفي قصاصاً ، لما روي عن بسر بن أرطاة ، أنه أتى برجل في الغزاة ، قد سرق بختية ، فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك . رواه أبو داود .
وروى سعيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى الناس : أن لا يجلدن أمير جيش ، ولا سرية ، رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز ، حتى يقطع الدرب قافلاً ، لئلا تحلقه حمية الشيطان ، فيلحق بالكفار ، ولأنا لا نأمن ، أن يحمله الخوف من الحد ، فيلحق بالكفار ، فيجب تأخيره . فإذا قفل وخرج من دار الحرب ، أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب ، لأنه واجب لوجود سببه ، تأخر لعارض زال بقفوله ، فتجب إقامته ، كما لو أخر لمرض . وأما الثغور ، فتقام بها الحدود والقصاص ، لأنها دار إسلام . وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما : أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين . وكتب إلى خالد يأمره بمثل ذلك .
باب ما يلزم الجيش من طاعة الإمام
يلزم الجيش طاعة أميرهم ، وامتثال أوامره ، والانتهاء عن مناهيه ، لقول الله تعالى : {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري ، فقد عصاني رواه النسائي . ولا يجوز الخروج إلى الغزو إلا بإذنه ، لأنه أعلم بمصالح الحرب ، والطرقات ، ومكامن العدو ، وكثرتهم وقلتهم ، فيجب الرجوع إلى رأيه ، إلا أن يعرض ما يمنع ، من استئذانه من مفاجأة عدو يخاف الضرر بتأخير حربه ، أو فرصة يخاف فوتها بانتظار رأيه ، فيجوز من غير إذنه . قال أحمد : وإذا نادى الأمام : الصلاة جامعة ، لأمر يحدث يشاور فيه ، لم يتخلف أحد إلا من عذر . وإن غضب على رجل ، فقال : اخرج ، عليك ألا تصحبني ، فلا يصحبه حتى يأذن له .
فصل :
ويغزى مع كل بر وفاجر ، لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم : الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً . رواه أبو داود. ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تعطيل الجهاد وظهور العدو .
و قال أحمد : لا يعجبني أن يخرج مع القائد إذا عرف بالهزيمة ، وتضييع المسلمين ، فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر ، والغلول ،يغزى معه إذا كان له شفقة وحيطة على المسلمين . إنما فجوره على نفسه ، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر متفق عليه
فصل
و إذا غزا الأمير بالناس ، لم يجز لأحد أن يخرج من المعسكر لتعلف ، ولا احتطاب ، ولا غارة ، ولا غير ذلك إلا بإذنه ، لقول الله تعالى: {وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه}. ولأن الأمير أعرف بحال الناس ، ومكامن العدو ، وقربه وبعده ، ومواضع الأمن ، فلا يأذن لهم ، إلا مع أمنه عليهم ، وإن خرجوا من غير أمره ، لم يأمنوا كميناً للعدو . أو مهلكة يهلكون بها ، وربما رحل الجيش فيضيع الخارج .
فصل
و تجوز المبارزة في الحرب ، وهو : أن يخرج الرجل من المسلمين ، إلى الرجل من الكافرين بين الصفين ، ليقاتل كل واحد منهما صاحبه ، لأن حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم ، بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم : {هذان خصمان اختصموا في ربهم} الآيات ولا يجوز إلا بإذن الأمير ، لأن أمر القتال موكول إليه ، وهو أعلم برجاله ، فلا يؤمن مع مخالفته ، أن يتم ما ينكسر به الجيش . ومتى خرج كافر يطلب البراز ، جاز رميه وقتله ، لأنه مشرك لا أمان له ، إلا أن تجري العادة بينهم بترك التعرض لمن يطلب البراز ، فلا يجوز التعرض له . لأن ذلك يجري مجرى الشرط ، ويستحب لمن يعلم من نفسه الشدة والشجاعة مبارزته ، لأن في ترك مبارزته كسراً على المسلمين . ويكره للضعيف الخروج إليه لأن القصد إظهار القوة . والظاهر من مبارزة الضعيف خلاف ذلك . فإن طلب الشجاع المبارزة ابتداء ، أبيح له ، لأن فيه إظهار القوة ، ولا يستحب ، لأنه لا حاجة إليه ، ولا يأمن الغلبة ، فيكسر قلوب المسلمين . ومتى تبارزا بشرط أن لا يعين واحداً أصحابه ، لم يجز رمي الكافر ، وفاء بشرطه . فإن ولى مثخناً ، أو محتازاً ، أو ولى عنه المسلم ، جاز رميه ، لأنه شرط الأمان حال القتال ، وقد انقضى القتال فزال الأمان . وإن استنجد الكافر أصحابه ، أو بدأوا بإعانته ، فلم يمنعهم ، انتقض أمانه لنقضه إياهز وإن منعهم فلم يقبلوا منه ، فهو على أمانه ، لأنه لم ينقضه . وإن شرط أن لا يرميه أحد حتى يرجع إلى صفه ، وفي له بشرطه . فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله ، جاز رميه ، لأنه نقض الشرط ، فسقط أمانه .
فصل
ومن أسر أسيراً ، لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام ، فيرى فيه رأيه ، لأنه إذا صار أسيراً فالخيرة فيه إلى الإمام . وعنه : ما يدل على إباحة قتله ، لأنه في وقت الحرب ، فأشبه قتله حال القتال . وإن امتنع الأسير أن ينقاد معه . فله إكراهه بالضرب وغيره ، فإن لم يمكنه إكراهه ، أو خافه على نفسه ، أو خاف انقلابه ، فله قتله ، لأنه كافر لا أمان له ، يخاف شره ، فأبيح قتله ، كما قبل الأسر . وإن كان امتناعه لمرض ، أبيح قتله ، كما يجوز أن يذفف على جريحهم . وقد توقف أحمد عن قتله ، والأولى إباحته . ومتى قتل أسيره ، أو أسير غيره قبل بلوغه إلى الإمام ، أو بعده قبل الحكم باسترقاقه ، لم يضمنه ، لأنه ليس بمال ، ولذلك أبيح للأمير إتلافه . وإن قتل امرأة أو صبياً قبل الاستيلاء عليهم ، لم يضمنهم ، لأنهم لم يصيروا مالاً للمسلمين وإن قتلهم بعد الاستيلاء عليهم ضمنهم لأنهم يصيرون رقيقاً بنفس السبي .
فصل
و إذا وجد المسلمون بأرض الحرب طعاماً أو علفاً ، فلهم الأكل منه ، وعلف دوابهم مع الحاجة وعدمها من غير إذن الإمام ، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال : أصبنا طعاماً يوم خيبر ، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ، ثم ينصرف . وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر رضي الله عنه : إنا فتحنا أرضاً كثيرة الطعام والعلف ، وكرهنا أن نقدم في شيء من ذلك . فكتب إليه : دع الناس يعلفون ، ويأكلون ، فمن باع منهم شيئاً ، بذهب أو فضة ، ففيه خمس الله ، وسهام المسلمين . رواهما سعيد. ولأن الحاجة تدعو إليه ، ففي المنع ضرر بالجيش ، لأنه يشق عليهم حمل الزاد والعلف . ولآخذه أن يعطيه لمن يحتاج إليه ، فيكون أحق به . وليس له بيعه ، لأن الحاجة تدعو إلى الأكل دون البيع ، فإن باعه لبعض الغانمين ، صار الآخذ أحق به ، لأنه صار في يده ، وهو من الغانمين الذين لهم الأكل منه . وله أخذ ما دفع من ثمنه ، لأنه دفعه إلى من لا يستحق ، فإن رد الطعام إلى البائع ، صار البائع أحق به ، لأنه صار إليه . وإن باعه لغير الغانمين ، فالبيع باطل ، ويرد المبيع إلى الغنيمة ، لأنه لا يملك بيعه . فإن تعذر رده ، رد ثمنه ، لخبر عمر ، ولأنه تعذر رد المبيع ، فوجب رد قيمته ، كالمغصوب . وإن وجد دهناً مأكولاً ، فله أكله ، لأنه من الطعام. وقد روى عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خبير ، فأتينه فالتزمته وقلت : هذا لي ، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم لي ، فاستحييت منه . متفق عليه .
و إن أراد أن يدهن به ، أو يدهن به دابته ، فقال أحمد : إذا كان من ضرورة ، أو صداع ، فلا بأس ، وإن كان للزينة ، فلا يعجبني . وذلك ، لأن ما تدعو الحاجة إليه من هذا ، فهو مثل الطعام في الحاجة إليه ، فأبيح ، ولا حاجة إلى الزينة ، فلم تبح ، كلبس الثوب . وليس له غسل ثيابه بالصابون ، لأنه للزينة والتحسين , قال القاضي : وليس له إطعام الجوارح، كالفهد والكلب ، والصقر ، لأنه لا حاجة إليه . وما يحتاج إليه من المشروبات للدواء ، أبيح له تناوله ، لأنه طعام احتاج إليه ، فأشبه الفاكهة .
فصل
و إن أحرزت الغنيمة فقال الخرقي : لا يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة ، بأن لا يجدوا ما يأكلون . ونص عليه أحمد ، لأن المسلمين ملكوها بحيازتها ، فلم يجز الأكل منها ، كما لو حيزت إلى بلد الإسلام . وقال القاضي : لهم الأكل منها ما لم تحرز بدار الإسلام ، أو تقسم، لأن الحاجة تدعو إلى الأكل منها ، فأشبه ما قبل الحيازة . ويحتمل أن الخرقي أراد بالإحراز إدخالها دار الإسلام ، فيكون معنى القولين واحداً . وإذا وجد في دار الحرب حيواناً مأكولاً ، فقال الخرقي : لا تعتقر شاة ، ولا دابة إلا لأكل لا بد منه ، لأنها تقتنى لغير الأكل ،فأشبهت الفرس . وقال القاضي : يجوز ذبح ما جرت العادة بذبحه للأكل ، كالشاة وما دونها ، لأنها مما تؤكل عادة ، فأشبه الطعام . فأما الطيور ، كالدجاج ونحوها ، فيباح ذبحها وأكلها . نص عليه أحمد ، لأن هذا مما لا يمكن حمله إلى دار الإسلام . فأشبه الطعام .
فصل
ومن فضل معه من الطعام والعلف كثير ، فأدخله البلد ، فعليه رده إلى المغنم ، لأنه إنما أبيح للحاجة وقد زالت الحاجة . وإن كان يسيراً ، ففيه روايتان :
إحداهما : يجب رده ، لأنه أبيح للحاجة وقد زالت .
والثانية : له أخذه ، لأنه أخذ ما له أخذه ، فلم يجب رده ، كالسلب . ولأن اليسير تجري المسامحة فيه . قال الأوزاعي : أدركت الناس يقدمون من أرض العدو . بفضل الطعام والعلف ، فيعلفون دوابهم ، ويهديه بعضهم إلى بعض ، لا ينكره إمام ، ولا عامل ولا جماعة ، وكانوا يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض .
فصل
ولا يجوز أخذ إبرة ، ولا خيط ، ولا شعر ، ولا صوف ، لما روي أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبة من شعر الغنم ، فقال : يا رسول الله ، إنا نعمل الشعر فهبها لي قال : نصيبي منها لك رواه سعيد . ولا يجوز أخذ جلد ، سواء كان جلد ما نذبحه ، أو غيره ، لأنه لم يجز أخذ الشعر ، فالجلد أولى . ولأنه ليس بمأكول ، أشبه الثياب . ولا يجوز ركوب دابة من المغنم ، ولا لبس ثوب ، لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلق رده فيه وذكر أبو الخطاب رواية أخرى : أن له ركوب الفرس عند الحاجة حتى تنقضي الحرب ، ثم يردها ، لأنها من آلات الحرب ، فأشبهت السلاح .
فصل
ومن أخذ من مباحات دار الحرب شيئاً ، كالصيد ، والحجر ، والحشيش والشجر ونحوها ، فاحتاج إليه للأكل والعلف ، انتفع به . وإن لم يحتج إليه لذلك ، وله قيمة في موضعه، فهو غنيمة ، لأنه وصل إليه بقوة الجيش . وإن لم يكن له قيمة في موضعه ، وإنما يصير له قيمة بنقله ، فهو لآخذه ، لأنه إنما صارت له قيمة بفعله ، وكذلك الركاز .
وإن وجد لقطة يعلم أنها للكفار ، فهي غنيمة . وإن احتمل أن تكون لمسلم ، عرفها حولاً ، ثم ردها في الغنيمة إن لم تعرف لذلك . وإن ترك صاحب المغنم شيئاً عحز عن حمله ، فقال : من أخذ منه شيئاً ، فهو له ، فهو لمن أخذه . نص عليه . لأنه بمنزلة ما لا قيمة له في دارهم . وإن لم يقل ذلك ، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لآخذه كذلك . وعنه : يكون غنيمة ، لأنه ذو قيمة ، فهو كالصيد .
فصل
ومن وجد كتباً فيها كفر ، فعليه إتلافها ، لأن قراءتها والنظر فيها معصية ، وكذلك كتب التوراة والإنجيل ، لأنها مبدلة منسوخة منهي عن قراءتها . وإن أمكن الانتفاع بجلودها ، أو رقها إذا غسل ، فعل ذلك . وإن وجد خمراً ، وجبت إراقته ، لأن شربه معصية . وإن وجد خنزيراً ، قتله . وإن وجد كلباً لا يباح اقتناؤه تركه ، وإن أبيح اقتناؤه ، فله أخذه لنفسه ودفعه إلى من ينتفع به من الغانمين ، أو أهل الخمس ، لأن الكلب لا قيمة له . وإن وجد فهداً معلماً ، أو بازياً ، فهو غنيمة ، لأن له قيمة .
باب الأنفال والأسلاب
النفل : ما يعطاه زيادة على سهمه . وهو نوعان :
أحدهما : ما يستحق بالشرط ، وهو ضربان :
أحدهما : أن الأمير إذا دخل دار الحرب غازياً ، بعث سرية بين يديه تغير على العدو ، ويجعل لهم الربع بعد الخمس . فإذا قفل ، بعث سرية تغير ، ويجعل لهم الثلث بعد الخمس ، فما قدمت به السرية خمسه ، ثم أعطى السرية ما جعل لها ، ثم قسم الباقي في الجيش والسرية معه ، لما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة . وفي لفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس ، والثلث بعد الخمس ، إذا قفل ، رواهما أبو داود .وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع ، وفي القفول الثلث . قال الترمذي : هذا حديث حسن . وروى الأثرم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لجرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه يريد الشام : هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وسبي ؟ ولا تجوز الزيادة على الثلث ، لأن نفل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إليه ويجوز النقص منه ، لأنه إذا جاز أن لا ينفل شيئاً ، فلأن يجوز تنفيل القليل أولى ، ولا يستحق هذا النفل إلا بالشرط . نص عليه ، لأن استحقاقه بغير شرط إنما يثبت بالشرع ، ولم يرد الشرع باستحقاقه على الإطلاق .
الضرب الثاني :أن يجعل الأمير جعلاً لمن يعمل عملاً فيه غناء عن المسلمين ، مثل أن يقول : من طلع هذا الحصن ، فله كذا أو من نقبه ، أو من جاء بأسير ، فله كذا ، ومن جاء بعشرة رؤوس ، فله رأس ، وأشباه هذا مما يراه الإمام مصلحة للمسلمين ، فيجوز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قتل قتيلاً ، فله سلبه ويجوز أن يجعل الجعل من مال المسلمين ، ومما يؤخذ من المشركين ، فإن جعله من مال المسلمين لم يجز إلا معلوماً مقدراً ، كالجعل في المسابقة ، ورد الضالة . وإن كان من الكفار ، جاز مجهولاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث والربع ، وسلب المقتول ، وهو مجهول . ولأنه ضرر فيه على المسلمين ، فجاز مع الجهالة ، كسلب القتيل .
النوع الثاني : أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء ، لغنائه وبأسه ، أو لمكروه تحمله ، ككونه طليعة ، أو عيناً ، فيجوز من غير شرط ، لما روى سلمة بن الأكوع قال : أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ، وذكر الحديث إلى قوله : فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفارس والراجل ، وعنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر ، فبيتنا عدونا ، فقتلت منهم تسعة أهل أبيات ، فأخذت منهم امرأة ، فنفلنيها أبو بكر رضي الله عنه ، فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوهبتها له ، رواهما أبو داود ، ولأن في هذا تحريضاً على القتال ، ونفعاً للمسلمين ، والدفع عنهم ، فجاز ، كإعطاء السهم .
فصل
إذا قال : من دلني على القلعة الفلانية ، أومن دلني على طريق سهل ، ونحو ذلك ، فله كذا. جاز . فإن كان الجعل جارية من القلعة ، جاز أن تكون معينة ، وغير معينة كجارية مطلقة . فإن لم تفتح القلعة ، فلا شيء له ، لأن تقدير الكلام : من دلني على القلعة ففتحها الله علينا ، فله جارية منها ، لتعذر تسليمه جارية منها قبل فتحها ، فإن فتحت ، فلم يكن فيها جارية ، أو لم يكن فيها المعينة ، فلا شيء له ، لأنه شرط معدوماً . وإن كان فيها فماتت قبل الفتح ، فلا شيء له ، لأنها غير مقدور عليها ، أشبهت المعدومة . وإن كانت باقية ، سلمت إليه ، لأنه استحقها بالشرط . فإن كانت قد أسلمت قبل الفتح ، عصمت نفسها بإسلامها ، وله قيمتها ، لأنه تعذر تسليمها مع وجودها ، والقدرة عليها . وإن أسلمت بعد الفتح ، سلمت إليه إن كان مسلماً ، وإن كان مشركاً ، انتقل إلى قيمتها ، لتعذر تسليمها إليه مع القدرة عليها فإن أسلم بعد ذلك ، احتمل أن لا يستحقها ، لأن حقه انتقل إلى قيمتها ، واحتمل أن يستحقها ، لأن تعذر تسليمها إليه لمانع زال فأشبه من غصب عبداً ، فأبق ، ثم قدر عليه . وإن فتحت القلعة صلحاً ، فاستثنى الأمير الجارية وسلمها ، جاز . وإن وقع مطلقاً ، فرضي مستحقها بقيمتها ، أعطيها . وإن أبى وامتنع صاحب القلعة من بذلها بقيمتها ، فسخ الصلح ، لتعذر إمضائه ، لسبق حق الدال ، وتعذر إيصاله إليه مع تمام المصلحة ، ويحتمل أن يعطى مستحقها قيمتها ، لأنه تعذر دفعها إليه ، فأشبه ما لو أسلمت.
فصل
ومن قتل في وقت الحرب كافراً ، فله سلبه ، لما روى أبو قتادة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قتل قتيلاً له عليه بينة ، فله سلبه متفق عليه . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : من قتل كافراً فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين رجلاً ، وأخذ أسلابهم .
ولا يقبل دعوى القتل إلا ببينة ، للخبر. ولا يقبل فيه إلا شهادة رجلين ، نص عليه ، لأنه دعوى القتل ، فأشبه قتل المسلم . وقياس المذهب ، أن يقبل فيها ما يقبل في الأموال ، لأن مقصوده المال ، فأشبه الشهادة على الغصب ، والجناية الموجبة للمال . ويحتمل أن يقبل فيه قول واحد ، لأن أبا قتادة ، لما شهد له الرجل الذي أخذ سلبه ، دفعه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وحده ، ولا يخمس سلب ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم : فله سلبه يتناول جميعه . وقد روى عوف بن مالك ، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ، في السلب للقاتل ، ولم يخمس السلب رواه أبو داود .
فصل
ولا يستحقه إلا بشروط أربعة :
أحدها : أن يكون القاتل ذا حق في المغنم ، حراً كان أو عبداً ، رجلاً أو صبياً ، أو امرأة لعموم الخبر . وإن لم يكن ذا حق ، كالمخذل ، والمرجف ، والكافر إذا حضر بغير إذن ، لم يستحقه ، لأنه لا حق له في السهم الثابت ، فغيره أولى .
و الثاني أن يغرر بنفسه في قتله ، كالمبارز ، فإن قتله بسهم رماه من صف المسلمين ونحوه ، لم يستحقه ، لأنه إنما ورد الخبر في المبارز ونحوه .
الثالث : أن يقتله وهو مقبل على الحرب ، فإن قتل أسيراً ، أو مثخناً ، أو منهزماً إلى غير فئة ، لم يستحقه ، لأن ابن مسعود ذفف على أبي جهل يوم بدر ، فلم يعط سلبه ، ولأن استحقاق السلب للمخاطرة ، والتغرير بالنفس ، ولا خطر هاهنا . وإن قتل مولياً ليكر ، أو متحيزاً إلى فئة ، فله سلبه ، لأن سلمة بن الأكوع ، أدرك طليعة للكفار مولياً ، فقتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من قتله ؟ قالوا : ابن الأكوع ، قال : فله سلبه أجمع . ولأن القتال كر وفر .
الرابع : أن يقتله لأن الخبر خص القاتل بالسلب ، فاختص به دون غيره ، فإن أسره لم يستحق سلبه كذلك . وقال القاضي : له سلبه ، سواء قتله الإمام ، أو من عليه ، أو فاداه ، وله فداؤه ، لأن مال حصل بسبب تغريره في تحصيله ، أشبه سلب القتيل . وظاهر كلام أحمد أنه يشترط أن ينفرد بقتله ، لأنه قال في رواية حرب : له سلبه إذا انفرد بقتله . ولأنه يستحق للتغرير بالنفس ، ولا يحصل مع الاشتراك ، وإن قطع أحدهما يده ، أو رجله وقتله الآخر ، فكذلك ، لأنهما شريكان فيه . وإن قطع أحدهما أربعته وقتله الآخر ، فسلبه للقاطع ، لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وتمم عليه ابن مسعود ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ . ولأن القاطع كفى شره ، فأشبه القاتل ، وإن قطع يديه أو رجليه ، فكذلك لأنه قد عطله ، ويحتمل أن لا يستحقه ، لأنه إن قطع رجليه ، قاتل بيديه ، وإن قطع يديه فهو يعدو ، ويكثر ويهيب ، فما كفى شره . وإن عانق رجلاً فقتله الآخر فالسلب للقتل ، للخبر ولأنه قاتل لمن لم يكف المسلمون شره ، أشبه المطلق . وظاهر المذهب أنه يستحق ، وإن لم يشرطه الإمام له ، للخبر ، إلا أنه أعجب أحمد أن لا يأخذه إلا بإذن الإمام ، لأنه أمر مجتهد فيه ، فلا يأخذه إلا بإذنه كالسهم . وعنه : لا يستحقه إلا بجعل الإمام قبل قتله ، أو تنفيله بعده ، لأنه نفل فلا يستحقه إلا بإذنه ، كسائر الأنفال .
فصل
والسلب :ما على القتيل من ثيابه ، وحليه ، وسلاحه ، ، وإن كثر ، إنما روى أن عمرو بن معد يكرب حمل على أسوار ، فطعنه ، فدق صلبه ، فصرعه ، فنزل إليه ، فقطع يديه ، وأخذ سوارين كانا عليه ، ويلمقاً من ديباج وسيفاً ومنطقة ، فسلم ذلك له . وبارز البراء مرزبان الزارة ، فقتله ، فبلغ سواراه ومنطقته ثلاثين ألفاً .
وفي الدابة وآلتها روايتان :
إحداهما : هي من السلب ، اختارها الخرقي ، لأنها يستعان بها في الحرب ، فهي كالسلاح .
والثانية : ليست منه اختارها الخلال وأبو بكر ، لأن السلب ما كان على البدن ، والدابة ليست كذلك . فإن كان يقاتل وهو ممسك بعنانها ، فعن أحمد أنها من السلب ، لأنه يركبها إذا احتاج إليها . وعنه : ليست منه ، لأنه ليس بمستعين بها في حال قتاله ، أشبهت التي في رحله . فإن كان معه فرس مجنوبة إلى فرسه ، فليست من السلب ، كذلك ، وكذلك المال الذي كمرانه ، وغيره ورحله ، وسلاحه الذي ليس معه حال قتله ، ليس من السلب ، لأن سلبه ما عليه حال قتله ، أو ما يستعان به في القتال .
باب قسمة الغنائم
الغنيمة : ما أخذ من مال الكفار بإيجاف ، فخمسها لأهل الخمس ، وأربعة أخماسها للغانمين ، لقول الله تعالى : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} الآية . فأضافها إليهم ثم جعل خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم . ثم قال الله تعالى : {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم كذلك . والإمام مخير بين قسمتها ، في دار الحرب ، وبين تأخير القسمة إلى دار الإسلام ، أي ذلك رأي المصلحة فيه فعل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين جميعاً فقسم غنائم بدر ، بشعب من شعاب الصفراء ، قريباً من بدر ، وغنائم بني المصطلق على مياههم ، وغنائم حنين بأوطاس واد من حنين ، وقسم فداء أسارى بدر بالمدينة ، وهو غنيمة ، ولأن المسلمين قد ملكوا الغنيمة بالاستيلاء التام في دار الحرب ، فجازت قسمتها ، كما لو جاوزها إلى دار الإسلام .
فصل
فإذا أراد القسمة بدأ بالأسلب ، فدفعها إلى أهلها وإن كان فيها مال المسلم ، دفع إليه لأنه استحقه بسبب سابق ، ثم يدفع منه أجرة الحافظ ، والناقل ، والقاسم ، والحاسب ، لأنه لمصلحة الغنيمة . وفي الرضخ وجهان :
أحدهما : وهو من أصل الغنيمة لأنه يستحقه للمعاونة في تحصيلها ، أشبه أجرة النقال .
والثاني : من أربعة الأخماس ، لأنه استحق بحضور الوقعة ، أشبه السهمان . فعلى الأول يعطى الرضخ لأهله ، ثم يقسم الباقي على خمسة أسهم ، سهم منها لأهل الخمس ، ثم يدفع الأنفال مما بقي ، ثم يقسم الباقي بين الغانمين ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له ، وسهمان لفرسه ، لما روى ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر ، للفارس ثلاثة أسهم ، سهمان لفرسه ، وسهم له . متفق عليه ، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس ثلاثة أسهم ، وأعطى الراجل سهماً . رواه الأثرم .
فصل
ويقسم مابين الغانمين ، كقسمة المتاع بين الشركاء ، فيقوم ما عدا الأثمان ، ويدفعها إليهم بقيمتها ، فإن أمكن تخصيص كل إنسان بعين ، كجارية وفرس وثوب ، فعل ، وإن لم يمكن ، شرك بين الجماعة في العين الواحدة . ويقسم الغنيمة بين من شهد الوقعة من أهل القتال ، من قاتل ومن لم يقاتل ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة . ولأن غير المقاتل ردء له ومعين فيشاركه ، كرد المحارب . فأما غير أهل القتال ، كطفل ، والمجنون ، ومن ينبغي للإمام منعه كالمرجف والمخذل ، والمعين للعدو ، فلا شيء له وإن قاتل ، لأن ضره أكثر من نفعه . ومن كان مريضاً مرضاً يمنعه القتال ، فلا سهم له ، كالمجنون ، وإن لم يمنعه القتال ، كحمى الخفيفة والصداع ، والسعال ، أسهم له ، لأنه من أهل القتال .
فصل
ولا يسهم بفرس ينبغي للإمام منعه كالقحم ، والحطم ، والضرع ، والأعجف لما ذكرنا في الرجل ، ولا لغير الخيل من البغال والحمير ، والإبل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لغير الخيل . ولأنها لا تلحق بالخيل في التأثير في الحرب والكر والفر ، فلم تلحق بها في الهسم . وهذا اختيار أبي الخطاب. وروي عن أحمد فيمن غزا على بعير لا يقدر على غيره ، قسم له ولبعيره سهمان ، لقول الله تعالى : {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض ، أشبه الفرس .
فصل
و في غير العربي من الخيل أربع روايات :
إحداهن : أنه كالعربي في سهمه ، اختارها الخلال ، ولأن اسم الفرس شامل له ، ولأنه حيوان ذو سهم ، فاستوى العربي وغيره ، كالرجال .
و الثانية : له سهم واحد ، اختارها الخرقي ، لما روى أبو الأقمر قال : غارت الخيل على الشام ، فأدركت العراب من يومها ، وأدركت الكوادن ضحى الغد ، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له : المنذر بن أبي حميضة فقال : لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك ، ففضل الخيل ، فقال عمر : هبلت الوداعي أمه ، امضوها على ما قال . أخرجه سعيد. ولأنهما تختلف غناؤهما فاختلفت سهمانهما ، كالفارس والراجل .
الثالثة : ما أدرك منها إدراك العراب ، فله سهمها ، لأنه عمل عملها ، وساواها في جنسها ، فساواها في سهمها ، كما لو اتفق نوعهما .
والرابعة : لا سهم له ، لأنه لا يعمل عمل العراب أشبه البغال .
فصل
ومن غزا على فرسين ، قسم لهما أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهم ، ولا يسهم لأكثر من فرسين ، لما روى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل ، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس . وعن أزهر بن عبد الله : أن عمر كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح : أن أسهم للفرس سهمين ، وللفرسين أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهماً ، فذلك خمسة أسهم . وما كان فوق الفرسين ، فهو جنائب .
فصل
ومن غزا على فرس حبيس ، فله سهمه ، لأنه استحق نفعه ، فملك سهمه ، كالمستعار . ومن غصب فرساً ، فقاتل عليه ، فسهم الفرس لمالكه . لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ، فكانا لمالكها ، كما لو كان راكبها . وإن كان الفرس عارية أو بأجرة ، فسهمها لراكبها لأنه ملك نفعه . وهذا من نفعه وعنه : أن سهم المستعار لمالكه ، لأنه من نمائه ، أشبه ولده . وإن قاتل العبد على فرس سيده ، قسم للفرس لأنه قوتل عليه في الحرب فاستحق السهم ، كما لو قاتل عليه حر، ويكون سهمه لمالكه . ومن دخل أرض الحرب فارساً ، وحضر الوقعة غير فارس لموت فرسه ، أو بيعه ، أو إجارته ، أو إعارته أو غصبه أو ضيعته ، فله سهم راجل . وإن دخل راجلاً ، فملك فرساً ، أو استأجره فحضر به الوقعة فله سهم فارس ، لأن الفرس حيوان ذو سهم ، فاعتبر وجوده حال القتال فيسهم له مع وجوده ، ولا يسهم له مع العدم ، كالآدمي .
فصل
ولا يسهم لامرأة ولا صبي ولا مملوك ، لأنهم من غير أهل القتال . ويرضخ لهم دون السهم ، لما روى ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ، ويحذين من الغنيمة . وأما سهم ، فلم يضرب لهن . رواه مسلم . وقال سعيد بن المسيب : كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة في صدر هذه الأمة . وقال تميم بن قرع : كنت في الجيش الذي فتح الإسكندرية في المرة الآخرة ، فلم يسهم لي عمرو شيئاً وقال: غلام لم يحتلم ، فسألوا أبا بصرة الغفاري ، وعقبة بن عامر ، فقالا : انظروا ، فإن كان قد أشعر فاقسموا له ، فنظر إلي بعض القوم ، فإذا أنا قد أنبت ، فقسم لي . وقال الجوزجاني : هذا من مشاهير حديث مصر ، وجيده . وعن عمير مولى آبي اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي ، فكلموا في رسول الله عليه وسلم ، فأمرني فقلدت سيفاً ، فإذا أنا أجره ، فأخبر أني مملوك ، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع . رواه أحمد ، وأبو داود والترمذي .
والمكاتب والمدبر ، كالقن ، لأنه عبد ، فأما المعتق بعضه ، فظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له ، لأنه لم يكتمل له الحرية ، أشبه القن . وقال أبو بكر : يسهم له بقدر ما فيه من الحرية والرق ، لأنه يتجزأ ، فقسم على قدر ما فيه كالميراث . قال ابن أي موسى : هذا هو الصحيح. ومن أعتق قبل انقضاء الحرب ، أو بلغ ، أسهم له ، لأنه صار من أهل الاستحقاق ، فأشبه المدد إذا لحق . والرضخ غير مقدر لكنه يرجع فيه إلى اجتهاد أمير الجيش ، فيفضل ذا الغناء على من دونه في النفع ، لأن الشرع لم يرد بتقديره ، فرجع في تقديره إلى الاجتهاد كالتعزير . ولا يبلغ بالرضخ لراجل سهم راجل ، لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه ، كالتعزير عن الحد . والحكومة لا يبلغ بها أرش العضو . ويكون الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة ، لأنهم من المجاهدين ، فكان حقهم من أربعة الأخماس ، كذوي السهمان .
فصل
و إذا غزا الكافر معنا من غير إذن الأمير فلا سهم له ، لأنهم ممن يستحق المنع من الغزو ، فأشبه المخذل . وإن غزا بإذنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا سهم له ، لأنه من غير أهل الجهاد ، فلم يسهم له ، كالعبد . فعلى هذا : يرضخ له كالعبد .
و الثانية : يسهم له . اختارها الخرقي ، لما روى سعيد بإسناده عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه ، فأسهم لهم . وروي أن صفوان ابن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو على شركه ، فأسهم له . ولأن الكفر نقص دين ، فلم يمنع استحقاق السهم للفسق .
فصل
ومن استؤجر على الجهاد من غير أهل القتال ، كالكافر والعبد ، لم يستحق غير الأجرة . وهكذا الأجير للخدمة ، والذي يكري دابته . فأما المسلم الحر إذا استؤجر للجهاد ، فقال القاضي : لا يصح استئجاره ، لأن الغزو يتعين بحضوره على من هو أهله ، فلا يصح أن يفعله عن غيره ، كالحج . فعلى هذا : يرد الأجرة وله سهمه ، لأن غزوه بغير أجرة . وظاهر كلام أحمد والخرقي ، صحة الإجارة لمن لم يتعين عليه الجهاد ، لأنه مما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربى ، فجاز استئجار الحر المسلم عليه ، كبناء المساجد ، ولأن ما صحت إجارة العبد والكافر عليه ، صح إجارة الحر المسلم عليه ، كالبناء . فعلى هذا إذا حضر القتال ، فظاهر نص أحمد والخرقي أنه لا يسهم له ، لما روى يعلى بن منية أنه استأجر أجيراً يكفيه من الغزو ، قال : فسميت له ثلاثة دنانير ، فلما حضرت غنيمة ، أردت أن أجري له سهمه ، فذكرت الدنانير ، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمره ، فقال : ما أجد له فس غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى رواه أبو داود. ولأن غزوه بعوض ، فكأنه واقع من غيره ، فلم يثبت له حكمه وفائدته ، كما له حج عن غيره . واستحقاق الغنيمة من أحكامه وفوائده ، وروي عن أحمد أنه يسهم له . قال الخلال : وهو الذي أعتمد عليه من قول أبي عبد الله ، لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال : للغازي أجره ، وللجاعل أجره وأجر الغازي . رواه أبو داود. وعن جبير بن نفير قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل الذين يغزون عن أمتي ، ويأخذون الجعل ، ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها . رواه سعيد . ولأنه حاضر للوقعة من أهل القتال ، فأشبه أهل الديوان.
فأما التاجر والصانع وأشباههما ، فيسهم لهم إذا حضروا القتال ، نص عليه أحمد ، لقول عمر رضي الله عنه : الغنيمة لمن حضر الوقعة . قال القاضي : هذا إذا كان قصدهم الجهاد ، ويقاتلون إذا احتيج إليهم وأمكنهم ، وكذلك من يكري دابته . ومن لم يكن كذلك ، لم يسهم له ، لأنه لا نفع في حضوره ، أشبه المخذل .
فصل
وإذا لحق الجيش مدد ، أو أسير أفلت ، أو فودي به قبل انقضاء الحرب ، أسهم لهم ، وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم ، لقول عمر رضي الله عنه : الغنيمة لمن شهد الوقعة . ولما روى أبو هريرة أن أبان ابن سعيد وأصحابه قدم على رسول الله صلىالله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها ، فقال : اقسم لنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجلس يا أبان ولم يقسم له . رواه أبو داود. ولأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب ، فقد شاركوا الغانمين في السبب ، فشاركوهم في الاستحقاق ، كما ولو قدموا قبل الحرب . وإذا قدموا بعد ذلك ، فلا شيء لهم ، لأنهم لم يشاركهم في السبب ولأنهم حضروا بعد أن صارت الغنيمة الغانمين ، فأشبه ما لو حضروا بعد القسمة . وإن حضروا بعد تقضي الحرب ، وقبل احراز الغنيمة ، فظاهر كلام الخرقي أنهم يشاركونهم ، لأن الغنيمة تملك بحيازتها ، والاستيلاء عليها ، ولا يتم إلا بحيازتها ، وظاهر قول القاضي : أنهم لا يشاركونهم ، لأنه ذكر أن الغنيمة تملك بتقضي الحرب قبل الحيازة ، لأنها صارت مقدوراً عليها بإزالة يد الكفار عنها ، فأشبه ما بعد الحيازة ، وإن حازها الغانمون ، ثم جاءهم الكفار يقاتلونهم عليها فأدركهم المدد ، فقاتلو معهم حتى سلموا الغنيمة ، فنص أحمد : أنه لا شيء للمدد ، لأن الأولين ملكوها ، والمدد يقاتلون عن الغانمين بعد ملكهم للغنيمة ، فأشبهت سائر أموالهم ، وإن استنقذها الكفار من أيديهم ، ثم جاءهم المدد ، فقاتلوا معهم حتى استنقذوها ، فقال أحمد : أعجب إلي أن يصطلحوا .
فصل
وإذا غزا الأمير بجيش ، فأسرى سرية ، أو سرايا إلى جهة مقصده ، أو غيره ، فغنمت ، شاركهم الجيش وإن غنم الجيش ، شارك سراياه ، لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين ، أسرى قبلً أوطاس سرية ، فغنمت ، فقسم غنائمهم بين الجميع . وفي تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم السرية الثلث والربع ، دليل على مقاسمه الجيش لها الباقي ، ولأن الجميع جيش واحد ، فلم يختص بغضهم بغنيمة ، كأحد جانبي الجيش ، وإن بعث السرايا ، وأقام الجيش في بلد الإسلام فلكل سرية غنيمتها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة ، فلم يشاركهم أهل المدينة في غنائهم . وإن خلف الأمير قوماً في بلد العدو لضعف ، أو غيره ، وغزا فغنم ، فأقاموا في بلد العدو حتى رجع ، شاركوهم . نص عليه . سواء رجع عليهم ، أو من غير طريقهم ، لأنهم كالسرية ، وإن رجعوا إلى حصون المسلمين ، أو بلادهم ، فلا سهم لهم ، لأنهم برجوعهم صاروا كالمقيمين بدار الإسلام .
فصل
ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش ، كالبريد ، والطليعة ، والجاسوس ، فلم يحضر الغنيمة أسهم له ، لأنه في مصلحة الجيش ، أشبه السرية ، ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش ، فلهؤلاء أولى . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لعثمان رضي الله عنه من بدر ولم يحضرها ، لاشتغاله بتمريض رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فصل
ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه ، لأنه ثبت ملكه فيه ، فقام وارثه مقامه ، كما بعد القسمة. وإن أسر ، فله سهمه كذلك .و إن أسر ، أو مات قبل تقضي الحرب ، فلا شيء له لأنه لم يملك شيء .
فصل
وإذا قال الإمام : من أخذ شيئاً ، فهو له ، ففيه روايتان :
إحداهما : يجوز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : ومن أخذ شيئاً فهو له ولأنهم غزوا على هذا ورضوا به .
والثانية : لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم ، والخلفاء بعده ، ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال ، فيفضي إلى ظفر العدو بهم ، وقصة بدر منسوخة بقول الله تعالى : {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}
فصل
فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض ، فإن كان على سبيل التنفيل لبعضهم ، فقد ذكرناه . وإن كان على غير ذلك ، لم يجز لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهم ، ولأنهم أشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية ، فيجب التسوية بينهم ، كسائر الشركاء .
فصل
ومن غل من الغنيمة وهو . أن يكتم ما غنمه ، أو شيء منه ، وجب احراق رحله ، إلا السلاح والمصحف ، وما فيه روح ، لما روى صالح بن محمد بن زائدة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتي برجل قد غل فسأل سالماً عنه ، فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : إذا وجدتم الرجل قد غل ، فأحرقوا متاعه واضربوه قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً ، فسألنا سالماً عنه ، فقال : بعه وتصدق بثمنه .
ولا يحرق المصحف والحيوان لحرمته ، ولا ثيابه ، لأنه يبقى عرياناً ، ولا ما غله لأنه للمسلمين . وإن مات قبل إحراق متاعه ، لم يحرق ، لأنه عقوبة فسقط بموته ، كالحد . ولأن ماله ينتقل إلى وارثه فيصير احراقه عقوبة لغير الجاني ، ولا يحرم الغال سهمه ، لأن سبب استحقاقه متحقق .
فصل
وإذا كان في السبي ، من يعتق على بعض الغانمين بالملك ، أو عتق عبداً من الغنيمة عتق عليه كله ، وعليه قيمته ، يرد في المقسم إن كان موسراً ، لأنه ملك جزءاً منه بفعله ، فعتق عليه جميعه ، كما لو اشترى جزءاً منه . وإن كان معسراً ، لم يعتق عليه ، إلا ما ملك منه كذلك . ومن وطئ جارية من المغنم ، ممن له فيها حق أو لولده ، فلا حد عليه للشبهة ويعزر ، وعليه مهرها ، لأنه وطء سقط فيه حد عن الواطئ للشبهة ، فوجب به المهر ، كالوطء في نكاح فاسد ، وإن أحبلها ، ثبت نسب الولد ، وينعقد حراً للشبهة ، وتصير أم ولد له ، وعليه قيمتها ترد في المغنم . وهل يلزمه قيمة الولد ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تلزمه لأنه فوت رقه .
والثانية لا يجب ، لأنه ينعقد حراً ، فلم يدخل في ملك الغانمين .
فصل
ويجوز للأمير البيع من الغنيمة قبل القسمة للغانمين ، ولغيرهم إذا رأى المصلحة فيه ، لأن الولاية ثابتة له عليها ، وقد تدعو الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة نقلها ، أو لتعذر قسمتها بعينها ، ويجوز لكل واحد من الغانمين ، بيع ما يحصل له بعد القسم ، والتصرف فيه كيف شاء ، لأن ملكه ثابت فيه . فإن باع الأمير ، أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئاً ، فغلب عليه العدو قبل إخراجه إلى دار الإسلام ، ففيه روايتان :
إحداهما: هو من ضمان المشتري . أختارها الخلال وصاحبه ، لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه ، فكان من ضمانه ، كما لو اشتراه في دار الإسلام .
والثانية : ينفسخ البيع ، ويسقط الثمن عن المشتري ، أو يرد إليه إن كان أخذ منه . اختارها الخرقي ، لأنه لم يكمل قبضه ، لكونه في دار الحرب ، في خطر قهر العدو ، فلم يضمنه المشتري كالثمر في الشجر . هذا إذا أخذ بغير تفريط من المشتري ، فإن أخذ منه لخروجه من العسكر ، فهو من ضمانه ، لأنه ذهب بتفريطه ، أشبه ما لو أتلفه .
فصل
قال أحمد [ رضي الله عنه ] : ولا يجوز لأمير الجيش ، أن يشتري من مغنم المسلمين شيئاً ، لأنه يحابي ، ولأن عمر [ رضي الله عنه ] رد ما اشتراه ابنه ، في غزوة جلولاء ، فأما إن وكل من يشتري له ، ممن لا يعرف أنه وكيله ، صح الشراء ، لعدم المحاباة . ورخص أبو عبد الله ، فيما إذا قوم أصحاب المقاسم ، فقالوا : جلود الماعز بكذا ، والخرفان بكذا ، فاحتاج أحد الغانمين إلى أخذ شيء منه بتلك القيمة أن يأخذه ، ولا يأتي المقاسم ، لأجل المشقة في استئذانهم في جميع ذلك .
فصل
وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين ، أو أهل الذمة ، ثم ظهر عليه المسلمون ، فأدركه صاحبه قبل قسمه ، وجب رده إليه ، لما روى ابن عمر أنه ذهب فرس له ، فأخذه العدو ، فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه : أن غلاماً له أبق إلى أرض العدو ، فظهر عليه المسلمون ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ، ولم يقسم رواهما أبو داود .
فإن لم يرده إليه الإمام ، وقسمه مع العلم ، لم تصح قسمته ، لأنه قسم مال مسلم ، يجب رده إليه فأشبه المغصوب ، ولصاحبه أخذه بغير شيء . فأما إن أدركه صاحبه بعد القسم ففيه روايتان :
إحداهما : لا حق له فيه ، لما روي أن أبا عبيد ، كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أحرز المشركون من المسلمين ، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد . قال : من وجد عين ماله بعينه ، فهو أحق به ما لم يقسم . وقال سلمان بن ربيعة : إذا قسم ، فلا حق له فيه رواهما سعيد . وروى أصحابنا عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ومن أدرك ماله قبل أن يقسم ، فهو له . وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء .
والثانية : هو أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً وجد بعيراً له ، كان المشركون أصابوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أصبته قبل القسمة ، فهو لك ، وإن أصبته بعد ما قسم ، أخذته بالقيمة. ولأن امتناع أخذه خشية ضياع حق آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري ، وهذا ينجبر بأداء الثمن ، فوجب أن يأخذه بالثمن ، كالشقص المشفوع . وإن أخذ أحد الرعية مال المسلم من الكفار بغير عوض ، كالهبة ، والسرقة ، فصاحبه أحق به ، لما روي : أن قوماً أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته ، وجارية من الأنصار ، فأقامت عندهم أياماً ، ثم خرجت في بعض الليل ، قالت : فما وضعت يدي على ناقة ، إلا رغت ، حتى وضعتها على ناقة ذلول ، فامتطيتها ، ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها ، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة ، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها ، فقلت : يارسول الله ، إني نذرت أن أنحرها ، فقال : بئس ما جازيتها ، لا نذر في معصية . وفي لفظ : لا نذر فيما لا يملك ابن آدم. ولأنه حصل في يده بغير عوض ولا قسمة ، أشبه ما لو أدركه في الغنيمة ، قبل القسمة . وإن أخذه من الكفار بثمن فحكمه حكم المقسوم . هل يكون صاحبه أحق به بالثمن ، أو لا يستحقه ؟ يحتمل وجهين :لما روى الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب ، فأصابوا سبايا العرب ، فكتب السائب ابن الأقرع ، إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم قد اشتراه التجار من أهل ماه ، فكتب عمر فيمن أصاب رقيقه ، ومتاعه في أيدي التجار بعدما اقتسم ، فلا سبيل إليه ، وأيما حر اشتراه التجار ، فإنه ترد إليهم رؤوس أموالهم . فإن الحر لا يباع ، ولا يشترى . رواه سعيد .
فصل
و إن استولى حربي على مال مسلم ، ثم أسلم ، أو دخل إلينا بأمان ، فهو له . نص عليه أحمد وإن كان قد أتلفه أو باعه فلا شيء عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أسلم على شيء فهو له وإن كان أخذه من المستولي عليه بسرقة ، أو هبة ، أو شراء ، فكذلك في إحدى الروايتين ، لأنه قد حصل منه الاستيلاء ، والأخرى صاحبه أحق به بالقيمة ، لأنه كالمقسوم . فإن استولى على جارية ، فاستولدها ، فهي أم ولد له . فإن غنمها المسلمون فأدركها صاحبها ، أخذها ، وكان أولادها غنيمة ، لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها .
فصل
وإن استولى الكفار على حر من المسلمين ، أو أهل الذمة ، لم يملكوه . وإن اشتراه رجل منهم فعلى الأسير ، أداء ما اشتراه به ، لما ذكرنا من خبر عمر . وإن استولوا على عبد ، فحكمه حكم الأموال ، قناً كان أو مدبراً ، أو مكاتباً أو مدبراً ، لأنه يضمن بالقيمة . وهل يكون سيده أحق به بالثمن بعد القسمة ؟ على الروايتين . وإن استولوا على أم ولد ، فأدركها صاحبها بعد القسمة ، أو في يد مشتريها من الكفار ، فهو حق بها بالقيمة بكل حال ، لأنه قد حصل فيها سبب للحرية لازم ، فأثر ذلك في منع إقرار اليد عليها . فإن لم يحب سيد المكاتب أخذه . فهو في يده مشتريه ، أو من أعطيه من الغانمين فبقي على ما بقي عليه من كتابته ، يعتق بالأداء . وولاؤه لمن يؤدي إليه .
فصل
وإن غنم المسلمون من الكفار شيئاً عليه علامة المسلمين ، ولم يعرف صاحبه ، فهو غنيمة ، تجوز قسمته ، لأنه قد وجد سبب الملك وهو الاستيلاء ، ولم يتحقق ما يمنعه . فإن كان فيها شيء موسوم عليه ، حبيس ، رد إلى أهله ، لأته قد عرف مصرفه ، وإن كان فيها عبد فقال : أن لفلان ، قبل منه ورد إلى صاحبه ، وإن أصابوا مركباً ، كان للمسلمين ، وفيه النواتية ، فقالوا : هذا لفلان ، وهذا لفلان ، لم يقسم . نص أحمد رضي الله عنه على هذا كله .
فصل
وإذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام ، فغنموا ، ففي غنيمتهم ثلاث روايات:
إحداهن : فيها الخمس وسائرها لهم . لعموم قوله سبحانه : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} .
والثانية : هي لهم من غير خمس ، لأنه اكتساب مباح من غير جهاد ، فأشبه الإحتطاب .
والثالثة : هي فئ لا شيء لهم فيها ، لأنهم عصاة بفعلهم ، فلم يملكوه ، كالسرقة من المسلمين . وإن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك ، لما ذكرنا من التعليل ، وقيل : لا يكون لهم بغير خمس رواية واحدة لأنها غنيمة ، فلا يستحقونها بغير خمس ، وكسائر الغنائم .
فصل
ومن أجر نفسه على حفظ الغنيمة أو سوق دوابها ، أو رعيها أو حملها ، فله إجرته ، لأنه فعل بالمسلمين إليه حاجة لم يتعين عليه فعله ، فأبيح له إجارة نفسه فيه ، كالدلالة على الطريق . وليس له ركوب دابة من المغنم ، ولا حبيس ، لأنه يستعمل دابة المسلمين فيما يختص نفعه به ، فلم يجز ، كما لو أجر نفسه لأجنبي .فإن فعل فعليه أجرة مثل الدابة ، يرد في المغنم إن كانت من الغنيمة ، أو تصرف في نفقة دابة الحبيس ، إن كانت حبيساً . وإن شرط له في الإجارة ركوب دابة من المغنم ، جاز ، لأن ركوبها من الأجرة ، فجازت من المغنم ، كما لو أجر نفسه بدابة من المغنم .
فصل
وما أهداه أهل الحرب للأمير الجيش ، أو غيره من أهل الجيش في دار الحرب ، فهو غنيمة ، لأنه يغلب على الظن أنه بذله خوفاً من المسلمين . وإن كانت الهدية من دار الحرب إلى دار الإسلام ، فهي لمن أهدي إليه ، لأنه تبرع له بذلك من غير خوف ، فأشبه هدية المسلمين .
فصل
وإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد ، وإن حصلت غنائم ، قسمها أهلها بينهم على موجب الشرع ، لأنها مال لهم مشترك ، فجاز لهم قسمته كسائر الأموال . فإن كان فيها إماء ، أخروا قسمتهن حتى يظهر إمام ، لأن في قسمتهن إباحة الفروج ، فاحتيط في بابها .
باب قسمة الخمس
يقسم الخمس على خمسة أسهم . سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل ، لقول الله تعالى : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} . فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في مصالح المسلمين ، لما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول بيده وبرة من بعير ثم قال : والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله الخمس ، والخمس مردود عليكم فجعله لجميع المسلمين . ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم ، من سد الثغور ، وكفاية أهلها ، وشراء الكراع والسلاح ، ثم الأهم فالأهم ، على ما سنذكره في الفيء . وعنه : أن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم يختص بأهل الديوان ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحقه لحصول النصرة ، فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة وعنه : أنه يصرف في الكراع والسلاح .
فصل
وسهم ذو القربى لبني هاشم وبن المطلب ابني عبد مناف ، لما روى جبير بن مطعم قال : لما كان يوم خيبر ، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من بني هاشم وبني المطلب ، جئت أن وعثمان ، فقلنا : يا رسول الله ، إن إخواننا بني هاشم لا ننكر فضلهم ، لمكانك الذي وضعك الله به منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب ، أعطيتهم وتركتنا ؟ وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال : إنهم لم يفارقوني في جاهلية ، وإسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ثم شبك بين أصابعه . رواه أبو داود .
ويجب تعميمهم به حيث كانوا ، لعموم قوله تعالى : {ولذي القربى} ولأنه حق يستحق بالقرابة ، فوجب تعميمهم به كالميراث . ويعطى الغني والفقير والذكر والأنثى كذلك ، ولأم النبي صلى الله عليه وسلم أعطى منه العباس وهو غني ، وأعطى صفية عمته . ويقسم للذكر مثل حظ الإنثيين ، لأنه يستحق بقرابة الأب بالشرع ، أشبه الميراث ، ويحتمل أن يسوى بينهما ، كالمستحق بالوصية للقرابة .
فصل
و أما سهم اليتامى ، فهو لصغير لا أب له ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يتم بعد احتلام. ويعتبر أن يكون فقيراً ، لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب ، وسهم المساكين للفقراء ، أو المساكين الذين يستحقون من الزكاة ، لأنهم متى أفرد لفظ المساكين أو الفقراء ، تناول الصنفين ، بدليل مصرف الكفارات ، والوصايا والنذور . وسهم ابن السبيل للصنف المذكور في أصناف الزكاة .
فصل
و لا حق في الخمس لكافر ، لأنه عطية من الله ، فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة ، ولا للعبد ، لأن ما يعطاه لسيده ، فكانت العطية لسيده دونه .
باب قسم الفيء
فصل
وهو : كل مال أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية ، والخراج ، والعشور المأخوذة من تجارهم ، وما تركوه فزعاً هربوا ، أو بذلوه لنا في الهدنة ، ونحو ذلك ، فذكر الخرقي : أنه يخمس ، فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة ، لقول الله تعالى : {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وهؤلاء أهل الخمس ، وهذا إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله . وظاهر المذهب أنه لا يخمس ، لقول الله تعالى : {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} الآيات . فجعله كله لجميع المسلمين .قال عمر رضي الله عنه ، لما قرأها : هذه استوعبت المسلمين ، ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه . وعلى كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم . وأهم المصالح كفاية أجناد المسلمين بأرزاقهم ، وسد الثغور بمن فيه كفاية . وكفايتهم بأرزاقهم ، وبناء ما يحتاج إلى بنائه منها ، وحفره الخنادق ، وشراء ما يحتاج إليه من الكراع والسلاح ، ثم الأهم فالأهم من عمارة القناطر والطرق والمساجد ، وكري الأنهار ، وسد البثوق ، وأرزاق القضاة ، والأئمة ، والمؤذنين ، ومن يحتاج إليه المسلمون ، وكل ما يعود نفعه إلى المسلمين ، ثم ما فضل قسمه على المسلمين ، لما ذكرنا من الآية ، وقول عمر رضي الله عنه . وذكر القاضي : أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم من الأعراب ، ومن لا يعد نفسه للجهاد ، لأنه ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم لحصول النصرة به فلما مات ، أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك ، وهم المقاتلة دون غيرهم .
فصل
ويفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم ، لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فيجب أن يكفوا المؤنة ، ويتعاهد عدد عيالهم لأنهم قد يزيدون وينقصون ، ويتعرف أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة ، لأنه قد يغلوا ويرخص ، لتكون أعطيتهم على قدر كفايتهم ، ولا يفرض في المقاتلة لصبي ولا مجنون ، ولا عبد ولا مرأة ، ولا ضعيف عاجز عن الجهاد ، ولا لمريض لا يرجى برؤه ، لأنهم من غير أهل الجهاد . ويفرض للمريض المرجو برؤه ، لأن أحداً لا يخلو من عارض . وإن مات مجاهد وله عائلة ، أجري عليهم قدر كفايته ، لأن فيه تطبيب قلوب المجاهدين ، فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم ، توفروا على الجهاد . وإن علموا خلاف ذلك ، توفروا على الكسب ، وآثروه على الجهاد . فإذا بلغ الذكور منهم ، فاختاروا أن يكونوا من المقاتلة ، فرض لهم . وإن لم يختاروا ، تركوا . ومتى تزوجت المرأة ، سقط حقها ، لأنها خرجت من عيال الميت . ومن مات بعد حلول وقت العطاء ، دفع إلى ورثته حقه ، لأنه مات بعد الاستحقاق ، فانتقل حقه إلى وارثه ، كسائر الموروثات .
فصل
و ينبغي للإمام أن يضع ديواناً يكتب فيه أسماء المقاتلة ، وقدر أرزاقهم لما روي عن أبي هريرة قال : قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمائة ألف درهم ، فلما أصبح ، أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : قد جاء للناس مال لم يأتيهم مثله منذ كان الإسلام ، أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا : بك يا أمير المؤمنين ، إنك ولي ذلك . قال : لا ، ولكن ابدأوا بأهل بيت رسول الله عليه وسلم ، الأقرب فالأقرب ، فوضع الديوان على ذلك ، ويجعل لكل طائفة عريفاً يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ، ووقت الغزو ، لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً ، ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين . ولا يجعل في أقل من ذلك ، لئلا يشغلهم عن الغزو ، ويبدأ ببني هاشم ، لأنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من خبر عمر ، ثم ببني المطلب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه . ثم ببني عبد شمس ، لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه . قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : عبد شمس كان يتلو هاشماً ، وهما بعد لأم وأب ، ثم ببني نوفل ، لأنه أخو هاشم لأبيه ، ثم يعطى بنو عبد العزى ، وعبد الدار ويقدم عبد العزى ، لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة منهم ، فعلى هذا : يعطى الأقرب ، فالأقرب حتى تنقضي قريش ، وهم بنو النضر بن كنانة ، ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم وآثارهم الجميلة ، ثم سائر العرب ، ثم العجم ، وإن استوى اثنان في الدرجة ، قدم أسنهما ، ثم أقدمهما هجرة وسابقة .
فصل
واختلفت الرواية عن أحمد في جواز تفضيل بعضهم على بعض ، فروي عنه :أنه يسوى بينهم في العطاء ، ولا يجوز التفضيل ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سوى بينهم فيه ، وقال : فضائلهم عند ربهم . ولأن الغنائم تقسم بين من حضر الوقعة على السواء ، فكذلك الفيء . وعنه : أن للإمام تفضيل قوم على قوم ، لأن عمر رضي الله عنه قسم بينهم على السوابق ، وقال : لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلاً ، وهذا في معناه .
فصل
ومن ضل من أهل الحرب الطريق ، فوقع في دار الإسلام ، أو حملته الريح في المركب إلينا ، أو شرد من دوابهم فحصل في أيدينا ، ذكر أبو الخطاب ، فيه روايتين :
إحداهما : يكون فيئاً ، لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال ، أشبه ما تركوه فزعاً وهربوا .
و الثانية : هو لمن أخذه ، لأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد ، فكان لآخذه كمباحات دار الإسلام . وقد روي عن أحمد فيمن ضل الطريق منهم ، فدخل إلى قرية ، قال: هو لأهل القرية كلهم ، وقال في عبد أبق إلى أرض الروم ، ثم رجع ومعه متاع : فالعبد لمولاه ، وما معه من متاع والمال ، فهو للمسلمين . وقال القاضي : هذا على الرواية التي تجعل غنيمة الذين دخلوا أرض الحرب بغير إذن الإمام فيئاً ، فأما على الرواية الأخرى ، فيكون المال لسيده ، لأنه كسب عبده ، وفي تخميسه روايتان . ولو أسر الكفار رجلاً ، فغنم منهم شيئاً ، وخرج به إلى دار الإسلام ، كان له ، لأنه كسبه ، ويحتمل أن يجب فيه الخمس ، لأنه غنيمة . وقد روى الأوزاعي أنه لما أقفل عمر بن عبد العزبز الجيش الذين كانوا مع مسلمة ، كسر مركب بعضهم ، فأخذ المشركون ناساً من القبط ، فكانوا خدماً لهم ثم خرجوا إلى عبد لهم ، وخلف القبط في مركبهم ، ورفع القبط القلع ، وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم ، فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت ، فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز ، فكتب إليهم عمر : نفلوهم القلع وكل شيء جاؤوا به ، إلا الخمس . رواه سعيد . ويحتمل أن يكون فيئاً ، استدلالاً بقول عمر : نفلوهم الذي جاؤوا به ، ولو كان لهم ، لم يكن نفلاً .
باب حكم الأرضين المغنومة
الأرض التي بأيدي المسلمين تنقسم قسمين :
أحدهما : ما هو مملوك لأهله ، لا خراج عليه ، وهو ما أسلم عليه أهله ،كأرض مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو غنمه المسلمون فقسم بينهم ، كأرض خيبر التي قسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه الذين افتتحوها ، أو ما صالح أهله على أن الأرض لهم ، كأرض اليمن ، والحيرة وبانقيا ، وأليس من العراق ، أو ما أحياه المسلمون من موات الأرض ، كأرض البصرة، كانت سبخة ، فأحياها عتبة بن غزوان ، وعثمان بن أبي العاص ،فهذا ملك لأهله ، لهم التصرف فيه ، بالبيع وسائر التصرفات ، لأنه مملوك لهم ، أشبه الثياب والسلاح .
القسم الثاني : ما وقفه الأئمة على المسلمين ولم يقسموه ، كأرض الشام كلها ، ما خلا مدنها ، والعراق كله إلا ما ذكرنا منه ، والجزيرة ومصر ، والمغرب وسائر ما افتتح عنوة ، فهذا وقفه عمر رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه . أنه قسم أرضاً عنوة غير خيبر . وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه : أنه قدم الجابية ، فأراد قسمة الأرض بين المسلمين ، فقال له معاذ : والله إذاً ليكونن ما تكره ، وإنك إن قسمتها اليوم ، صار الريع العظيم في أيدي القوم ، ثم يبيدون ، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد ، والمرأة الواحدة ، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسداً ، وهم لا يجدون شيئاً ، فانظروا أمراً يسع أولهم وآخرهم ،فصار عمر إلى قول معاذ .
و لما افتتح عمرو بن العاص مصر ، طلب منه الزبير قسمتها ، فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة . وروى عن بكير بن عامر ، قال : اشترى عتبة بن فرقد أرضاً من أرض الخراج ، فأتى عمر فأخبره ، فقال عمر : ممن اشتريتها ؟ قال : من أهلها ، قال : فهؤلاء أهلها ، للمسلمين ، أ بعتموه شيئاً ؟ قالوا لا ، قال : فاذهب فاطلب مالك ، وعن عبد الله بن المغفل أنه قال : لا تشتر من أرض السواد ، إلا من أهل الحيرة ، وبانقيا ، وأليس . وروى هذا كله أبو عبيد . وقد اشتهرت قصة عمر رضي الله عنه في ضرب الخوارج على أرض السواد ، وإقراره في يد أهله الخوارج الذي ضربه ، وجعل ذلك أجرة له ، ولم يقدر مدته ، لعموم المصلحة فيه ، فهذا لا يجوز بيعه ، ولا شراؤه ، لخبر عتبة بن فرقد ، ولأنه موقوف للمسلمين كلهم ، فلم يجز بيعه ، كسائر الوقوف .فأما إجارته ، فجائزة ، لأنه مستأجر في أيدي أربابه بالخوارج . وإجارة المستأجر جائزة . وذكر القاضي في إجارته روايتين ، والصحيح ما ذكرناه . وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى : أنه كره بيعها ، وأجاز شراءها ، لأنه استنقاذ لها ، فجاز ، كشراء الأسير .و من كانت في يده أرض ، فهو أحق بها بالخوارج ، كالمستأجر . وتنتقل إلى وراثه بعده ، على وجه الذي كانت في يد موروثه . وإن آثر بها أحداً ، صار الثاني أحق بها . وإن عجز رب الأرض عن عمارتها ، وأداء خراجها ، أجبر على رفع يده عنها ، ودفعت إلى غيره ، لأن الأرض للمسلمين ، فلا يجوز تعطيلها عليهم .
فصل
ويجب الخراج في العامر الذي يمكن زرعه ، والانتفاع به ، فأما الموات الذي لا يمكن زرعه ، فلا خراج فيه ، لأن الخرج أجرة الأرض ، ولا أجرة لهذا . وعنه : يجب فيه الخراج إذا كان على صفقة يمكن إحياؤه ، ليحييه من هو في يده ، أو يرفع يده عنه فيحييه غيره ، وينتفع به . وما كان من الأرض لا يمكن زرعها حتى تراح عاماً ، وتزرع عاماً ، فخراجها على النصف من خراج غيرها ، لأن نفعها على النصف ، وحكم الخراج حكم الدين يطالب به الموسر ، وينظر به المعسر ، لأنه أجرة ، فأشبه أجرة المساكن . وإن رأى الإمام المصلحة في ترك خراج إنسان له ، أو تخفيفه ، جاز له ، لأنه فيء ، فكان النظر فيه إلى الإمام . ويجوز لصاحب الأرض ، أن يرشو العامل ، ليدفع عنه الظلم في خراجه ، لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه . ولا يجوز له ذلك ، ليدع له من خراجه شيئاً ، لأنه رشوة ، لإبطال حق ، فحرمت على الآخذ والمعطي ، كرشوة الحاكم ، ليحكم له بغير الحق .
فصل
ولا يسقط خراج هذه الأرض بإسلام أهلها ، أو انتقالها إلى مسلم ، لأنه أجرة ، فأشبه أجرة المساكن . قال أحمد : ما كان من أرض عنوة ، ثم أسلم صاحبها ، وضعت عنه الجزية وأقر على أرض الخراج . وقال أيضاً : أرض أهل الذمة فيها الخراج ، فإن اشتراها المسلم ، ففيها الخراج ، لأنه حق على الأرض . قال : ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج والمزارع ، لأن في الخراج معنى الذلة ، وبهذا وردت الأخبار عن عمر وغيره . ومعنى الشراء هاهنا : أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها ، لأن شراء هذه الأرض غير جائز ، أو يكون على الرواية التي أجاز شراءها ، لكونه استنقاذاً لها ، فهو كاستنقاذ الأسير .
فصل
و يعتبر الخراج بما تحمله الأرض من القليل والكثير ، والمرجع فيه إلى اجتهاد الإمام ، في إحدى الروايات ، وهي اختبار الخلال وعامة شيوخنا ، لأنها أجرة ، فلم تقدر بمقدار ما لا يختلف ، كأجرة المساكن .
و الثانية : يرجع فيه إلى ما فرض عمر رضي الله عنه ، لا تجوز الزيادة عليه ، ولا النقصان منه ، لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره .
و الثالثة : تجوز الزيادة عليه ، ولا يجوز النقصان ، لما روى عمرو بن ميمون : أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول لحذيفة ، وعثمان بن حنيف : لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق ، فقال عثمان : والله لئن زدت عليهم ، لا تشق عليهم . ولا تجهدهم . فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم .
واختلف عن عمر رضي الله عنه في قدر الخراج ، إلا أنه روي عن عمرو بن ميمون : أنه وضع على كل جريب ، من أرض السواد قفيزاً ودرهماً . قال أحمد : أعلى وأصح حديث في أرض السواد ، حديث عمرو بن ميمون في الدرهم والقفيز . وهذا يل على أنه أخذ به .
فصل
قال أحمد رضي الله عنه : قدر القفيز ، صاع قدره ثمانية أرطال . قال القاضي : عندي أن ثمانية أرطال بالمكي ، فيكون ستة عشر رطلاً بالعراقي . وقال أبو بكر : قد قيل : إن قدره ثلاثون رطلاً ، وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض ، لأنه روي عن عمر رضي الله عنه : أنه ضرب على الطعام درهماً ، وقفيز حنطة ، وعلى الشعير درهماً وقفيز شعير .
فصل
والجريب : عشر قصبات في عشر قصبات . والقبضة : ستة أذرع بذراع عمر رضي الله عنه ، وهو ذراع وسط ، لا أطول ذراع ولا أقصرها ، وقبضة وإبهام قائمة ، وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها . ومن ظلم في خراجه ، لم يحتسبه من العشر ، لأنه ظلم ، فلم يحتسبه من العشر ، كالغصب . وعنه : يحتسبه من العشر ، لأن الآخذ لهما واحد ، وهذا اختيار أبي بكر .
فصل
وما فتح عنوة ، فالإمام مخير بين قسمته بين الغانمين ، فيصير ملكاً لهم ، لا خراج عليه ، وبين وقفها على المسلمين ، وضرب الخراج عليها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين في خيبر ، فقسم نصفها ، ووقف نصفها ، وعمر وقف كل شيء فتحه ولم يقسمه ، فدل على جواز الأمرين ، وليس له إلا فعل مايرى المصلحة فيه ، فما فعل من ذلك ، لزم . قال أحمد رحمه الله : هم على ما يفعل الفاتح ، إذا كان من أئمة الهدى . وعنه : أن الأرض تصير وقفاً بنفس الظهور عليها ، لأن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يقسموا أرضاً افتتحوها ، ولأن في قسمتها المحذور الذي ذكره معاذ رضي الله عنه . وإنما قسم النبي صلى الله عليه وسلم نصف خيبر في بدء الإسلام ، لضعفهم وحاجتهم . وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة :أنها تقسم بين الغانمين من غير تخيير ، لعموم قوله سبحانه : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} . لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من فعل غيره ، والأول أولى ، لأن عمر رضي الله عنه ومن بعده ، لم يقسموا الأرض ، وتابعهم علماء الصحابة عليه ، فحصل إجماعاً . وما وقفه الإمام ، فهو مخير بين إقرار أهله بالخراج وبين إجلائهم ، وجلب غيرهم ، لأن الأرض قد ملكت عليهم . فأما ما جلى عنها أهلها خوفاً من المسلمين ، فتصير وقفاً بنفس الظهور عليها ، لأنها ليست غنيمة ، فتقسم . وعنه : لا تصير وقفاً حتى يقفها الإمام ، لأن الوقف لا يثبت بنفسه . وحكمها حكم العنوة إذا وقفت ، وكذلك الحكم فيما صالحونا عليه ، على أن الأرض للمسلمين ، وتقر في أيديهم بالخراج . فأما إن صالحناهم على أن الأرض لهم ، ولنا عليها الخراج ، فهذه ملك لأربابها ، متى أسلموا ، سقط عنهم ، لأنه بمنزلة الجزية ، فيسقط بالإسلام ، كالجزية .و لهم بيعها والتصرف فيها . وإن انتقلت إلى مسلم . لم يؤخذ خراجها ، لما ذكرناه .
باب الأمان
يحوز عقد الأمان لجميع الكفار وآحادهم ، لقول الله تعالى : {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل . رواه البخاري .
وتصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ، ذكراً كان أو أنثى ، حراً أو عبداً للخبر وقالت عائشة رضي الله عنها : إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين ، فيجوز ، وعن فضيل بن يزيد الرقاشي قال : جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً فكنت فيه ، فحضرنا موضعاً ، فرأينا أنا سنفتحها اليوم ، وجعلنا نقبل ونروح ، ففي عبد منا ، فراطنهم وراطنوه ، فكتب لهم الأمان في صحيفة ، وشدها على سهم ، ورمى بها إليهم ، فأخذوها ، وخرجوا ، فكتب بذلك إلى عمر ، فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه . رواهما سعيد ، ويصح أمان الأسير المسلم إذا عقده غير مكره . كذلك .
فصل
ولا يصح من كافر ، لقوله عليه السلام : يسعى بها أدناهم وليس الكافر منهم ، ولأنه متهم في الدين . ولا من مجنون ، ولا طفل ، لأنه لا حكم لقولهما ، ولا مكره ، لأنه عقد أكره عليه بغير حق ، فلم يصح ، كالبيع ، وفي الصبي المميز روايتان :
إحداهما : لا يصح منه ، لأن القلم مرفوع ، عنه ، ولا يلزمه بقوله حكم ، فلا يلزم غيره كالمجنون .
والثانية : يصح ، لعموم الخبر ، ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه ، كالبالغ ، فإن دخل مشرك بأمان من لا يصح أمانه ، عالماً بفساده ، جاز قتله ، وأخذ ماله ، لأنه حربي لا أمان له وإن لم يعرف ، عرف ذلك ، ورد إلى مأمنه ، ولم يجز قتله ، لأنه دخل على أنه بأمان .
فصل
وللإمام عقده لجميع الكفار ، لأن له الولاية على جميع المسلمين ، وللأمير عقده لمن أقيم بإزائه ، لأن إليه الأمر فيهم . وأما سائر الرعية ، فلهم عقده للواحد ، والعشرة ، والحصن الصغير ، لحديث عمر في أمان العبد . ولا يصح لأهل بلدة ورستاق ونحوهم ، لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد ، والافتئات على الإمام . وللإمام والأمير أمان الأسير ، لأن عمر رضي الله عنه أمن الهرمزان وهو أسير ، ولأن له المن عليه ، فالأمان أولى ، وليس ذلك لغيره ، لأن أمر الأسير إلى الإمام ، فلم يجز لغيره الافتئاف عليه / ذكر أبو الخطاب : أن ذلك لكل مسلم ، لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره ، فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فصل
ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله ، ويعرف الشريعة ، وجب أن يعطاه ، ثم يرد إلى مأمنه ، لقول الله سبحانه : {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} . ويجوز عقده للمستأمن غير مقيد بمدة ، لأن ذلك لا يفضي إلى ترك الجهاد . قال القاضي : يجوز أن يقيموا في دارنا مدة الهدنة ، بغير جزية ، وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله لأن من جاز إقراره بغير جذية فيما دون السنة ، جاز فيما زاد كالمرأة ، وقال أبو الخطاب : عندي لا يجوز أن يقيموا سنة فصاعداً بغير جزية ، لقول الله تعالى : {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} .
فصل
ويحصل الأمان بما يدل عليه من قول وغيره ، فالقول ، مثل أمنتك ، أو أنت آمن ، او أجرتك ، أو أنت مجار ، أو في جواري ، أو في ذمي ، أو في أماني ، أو في خفارتي ، أو لا بأس عليك ، أو لا خوف عليك ، أو لا تخف ، أو مترس بالفارسية ، ونحو ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : من دخل دار أبي سفيان ، فهو آمن . وقال لأم هانئ : قد أجرنا من أجرت ، وأمنا من أمنت . وقال أنس لعمر في قصة الهرمزان : ليس إلى قتله سبيل قد قلت : تكلم لا بأس عليك ، فأمسك عمر . وروى زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إن الله يعلم كل لسان ، فمن أتى منكم أعجمياً ، فقال : له : مترس ، فقد أمنه ، وإن أشار إليه بالأمان ، فهو أمان ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك ، فنزل إليه ، فقتله ، لقتله به ، فإن قال المسلم : لم أرد به الأمان ، فالقول قوله ، لأنه أعلم بنيته ، ويرد المشرك إلى مأمنه ، لأنه نزل على أنه آمن . وإن قال له : قف ، أو قم ، أو ألق سلاحك ، فقال أصحابنا : هو أمان ، لأن الكافر يعتقده أماناً ، فأشبه قوله : لا تخف . ويحتمل أن يرجع فيه إلى النية ، فإن نوى به الأمان ، كان أمناً لأنه يحتمله . وإن لم ينو ، لم يكن أماناً ، لأنه يستعمل للإرهاب والتخويف والتهديد ، فلم ينصرف إلى الأمان بغير نية ، وإذا اختلفا في نيته ، فالقول قول المسلم ، لما ذكرنا ، وإن قال الكافر : أنت آمن ، فرد الأمان ، لم ينعقد ، لأنه إيجاب حق بعقده ، فلم يصح مع الرد ، كالبيع . وإن قبله ، ثم رده انتفض ، لأنه حق له ، فسقط بإسقاطه ، كالرق .
وأما الفعل ، فإذا دخل الحربي دار الإسلام ، رسولاً ، أو تاجراً ، وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا ، كان أماناً له ، ولم يجز التعرض له . لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسولي مسيلمة : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما رواه أبو داود والنسائي بمعناه. ولأنهم دخلوا يعتقدون الأمان ، فأشبه ما لو دخلوا بإشارة المسلم .
وإن دخل المسلم دار الحرب رسولاً ، أو تاجراً وقد جرت العادة بدخول تجارنا إليهم ، صار في أمانهم ، وصاروا في أمان منه . لأن الأمان إذا انعقد من أحد الطرفين ، انعقد من الآخر ، فلا تحل خيانتهم في أموالهم ، ولا معاملتهم بالربا، لأن من حرم ماله عليك ، ومالك عليه ، حرمت معاملته بالربا، كالمسلم في دار الإسلام . وإذا أخذ المسلمون حربياً ، فادعى أنه جاء مستأمناً نظرنا ، فإن كان بغير سلاح ، قبل قوله ، لأن تركه السلاح دليل على قصد الأمان . وإن كان معه سلاح ، لم يقبل منه ، نص عليه أحمد ، لأن حمله لآلة الحرب دليل على أنه محارب . وقال أحمد : إذا لقي الرجل العلج ، فطلب من الأمان ، لم يعطه . وإن كان المسلمون جماعة أعطوه الأمان ، لأن الواحد لا يأمن غدر العلج عند خلوته به ، والجماعة يأمنون ذلك .
فصل
ومن جاء بحربي ، فادعى الحربي أنه أمنه ، فأنكر المسلم ، ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : القول قول المسلم ، لأن الأصل معه. وهو إباحة دم الحربي ، وعدم الأمان .
والثانية : القول قول الأسير ، لأنه يدعي حقن دمه ، فيكون ذلك شبهة في درء القتل .
والثالثة : القول قول من يدل ظاهر الحال على صدقه ، فمتى كان أقوى من المسلم ومعه سلاحه ، فالقول قوله : لأن الظاهر معه ، وإن كان ضعيفاً مأخوذاً سلاحه ، فالقول قول المسلم ، لأن الظاهر معه .
فصل
وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان ، ثبت الأمان لنفسه وماله الذي معه ، لأن الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره ، وأخذ ماله يضره ، فإن أودع ماله ، أو أقرضه مسلماً ، أو ذمياً ، ثم عاد إلى دار الحرب رسولاً ، أو تاجراً ، أو متنزهاً ليعود إلى دار الإسلام ، فهو على أمانه . وإن دخل مستوطناً ، أو محارباً ، انتقض الأمان في نفسه ، لأنه تركه وبقي ماله ، لأنه بطل في نفسه بعوده ، ولم يوجد ذلك في المال ، ولأن الأمان ثبت للمال بأخذ المودع والمقترض له ، فأشبه ما لو استودعه في دار الحرب ، ودخل به دار الإسلام . فإن طلبه صاحبه ، بعث به إليه ، وإن مات ، بعث إلى وارثه ، وكذلك إن مات المستأمن في دار الإسلام ، بعث ماله إلى وارثه ، لأن الأمان حق لازم تعلق بالمال . فإذا انتقل إلى الوارث ، انتقل بحقه ، كسائر ماله ، وإن لم يكن له وارث ، فهو فيء ، لأنه مال انتقل عن الكافر ولا مستحق له ، فأشبه مال الذمي الذي يموت ولا وارث له ، وإن سبي مالكه ، كان موقوفاً فإن عتق ، رد إليه ، وإن مات في الرق ، أو قتل ، فماله فيء ، لأنه لا يورث ، فأشبه مال من لا وارث له .
فصل
وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالاً ، مضاربة ، أو وديعة ، ودخل به دار الإسلام ، فهو في أمان ، حكمه مثل ما ذكرنا ، وإن أخذه ببيع في الذمة ، أو اقتراض ، فالثمن في ذمته ، عليه أداؤه إليه . وإن اقترض حربي من حربي مالاً ، ثم دخل إلينا فأسلم ، فعليه رد البدل ، لأنه أخذه على سبيل المعاوضة ، فأشبه مالو تزوج حربية ، ثم أسلم ، فإنه يلزمه مهرها .
فصل
وإن حصر المسلمون حصناً ، فطلب رجل منهم الأمان ، ليفتح لهم الحصن ، جاز ، إعطاؤه . وكذلك إن طلبه لجماعة معينين ، جاز ، لما روي أن المهاجر بن أبي أمية لما حصر النجير ، بعث إليه الأشعث بن قيس : تعطيني الأمان لعشرة وأفتح لك الحصن ؟ ففعل . فإن فتح الحصن ، فادعى الأمان منهم جماعة ، كل واحد يقول أنا المعطى ، وأشكل ، لم يجز قتل واحد منهم ، لأنه اشتبه المباح بالمحرم ، فوجب تغليب التحريم ، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات ، وفي استرقاقهم وجهان :
أحدهما : لا يسترق واحد منهم كذلك ، قال القاضي : هذا المنصوص عليه .
والثاني : يقرع بينهم ، فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ، ويسترق الباقون ، اختارها أبو بكر : لأنه استبه الحر بالرقيق ، فوجب أن يخرج بالقرعة ، كما لو أعتق عبداً من عبيده وأشكل ، وإن أسلم واحد في الحصن قبل فتحه ، ثم فتح ، فأدعى كل واحد منهم أنه المسلم ، خرج فيها ما في التي فبلها ، لأنها في معناها .
فصل
وإذا أسر الكفار أسيراً ، فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة ، كانوا في أمان منه ، ولم يكن له أن يهرب منهم ، ولا أن يخونهم في أموالهم ، لأنهم على هذا أطلقوه . وإن أطلقوه ولم يشرطوا عليه شيئاً ، فله أن يقتل ، ويسرق ، ويهرب ، لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان . وكذلك إن أطلقوه على أن يكون رقيقاً لهم ، وملكاً ، لأنه حر لا يثبت عليه الملك ، ولم يصدر منه أمان . فإن أطلقوه وأمنوه ، ولم يشرطوا عليه شيئاً ، كان له الهرب ، لأنه ليس بمال لهم ، ولم يكن له خيانتهم في أموالهم وأنفسهم ، أن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه ، وإن شرطوا عليه الإقامة عندهم ، فالتزمه ، لزمه الوفاء لهم . نص عليه ، لقوله تعالى : {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} . وقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم. وإن شرطوا عليه أن يبعث إليهم فداءه من دار الإسلام ، لزمه ذلك ، لما ذكرنا . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاء ، وفى لهم ، وقال : إنا لا يصلح في ديننا الغدر فإن عجز عن الفداء ، كان في ذمته ، يبعثه إليهم متى قدر ، كثمن المبيع .
وإن شرطوا عليه أنه لم يقدر على الفداء ، رجع عليهم ، فلم يقدر عليه ، وكان رجلاً لزمه الوفاء في إحدى الروايتين ، لما ذكرناه .
والثانية : لا يعود إليهم ، لأن العود إليهم معصية ، فلم يلزم بالشرط . وإن كانت امرأة ، لم ترجع إليهم رواية واحدة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه ، منعه الله تعالى رد النساء ، ولأن في ردها تسليطاً على وطئها حراماً ، فلم يجز . وإن كان الأسير شرط لهم ذلك مكروهاً بضرب ، وتعذيب ، لم يلزمه الوفاء لهم بشرط مما شرطه . وإن اشترى الأسير منهم شيئاً مختاراً ، أو اقترضه ، لزمه الوفاء لهم لأنه عقد معارضة ، فأشبه غير الأسير . وإن كان مكروهاً لم يصح ، فإن أكرهوه على قبضه ، لم يلزمه ضمانه وإن تلف ، وعليه رده إن كان باقياً ، لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد وإن قبضه باختياره ، فعليه ضمانه كذلك ، والله أعلم .
باب الهدنة
ومعناها : موادعة أهل الحرب ، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين ، وتحصيل المصلحة لهم ، لقول الله تعالى : {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} ولأن هدنتهم من غير حاجة، ترك للجهاد الواجب لغير فائدة ، فإن رأى الإمام المصلحة فيها ، جازت ، لقول الله تعالى : {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} .وقوله تعالى : {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} وروى مروان ومسور بن مخرمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بم عمرو بالحديبية ، على وضع القتال عشر سنين ، ووادع النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من المشركين ، وقريظة ، والنضير ، ولأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم ، أو طمع في إسلامهم ، أو التزامهم الجزية ، أو غير ذلك . ولا يجوز عقدها إلا من الإمام ، أو نائبه ، لأنه عقد بقتضي الأمان لجميع المشركين ، فلم يجز لغيرهما ، كعقد الذمة .
فصل
و لا يجوز عقد الهدنة مطلقاً غير مقدرة بمدة ، لأن إطلاقها بقتضي التأبيد ، فيقضي إلى ترك الجهاد أبداً . ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل وكثير . وقال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين . هو اختيار أبي بكر ، لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها ، خص منه مدة العشر بصلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على عشرة ، ففيما زاد يبقى على العموم .
ووجه الأول : أنه عقد يجوز في العشر ، فجاز فيما زاد عليها ، كالإجارة . فإن هادنهم أكثر من قدر الحاجة ، بطل في الزائد ، وهل يبطل في قدر الحاجة على وجهين ، بناء على تفريق الصفقة . وكذلك إذا هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة ، وفي مدة العشر وجهان . فإن قال هدنتكم ما شئتم ، لم يصح ، لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين ، وإن قال : هادنتكم ما شئنا ، أو ما شاء فلان ، أو شرط أن له نقضها متى شاء ، لم يصح ، لأنه ينافي مقتضى العقد ، ولأنه عقد مؤقت ، فلم يجز تعليقه على مشيئة أحدهما ، كالإجارة . وقال القاضي : يصح لأنه جعل التحكم إليه . وإن قال : إلى أن يشاء الله ، أو نقركم ما أقركم الله ، لم يجز ، لأنه لا طريق إلى معرفة ما عند الله .
فصل
وتجوز الهدنة على غير مال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الحديبية ، وغيرهم بغير مال . وتجوز على مال يأخذه منهم ، لأنه إذا جازت بغير مال ، فعلى مال أولى ، فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم ، فقد أطلق أحمد المنع منه ، لأن فيه صغاراً على المسلمين . وهذا محمول على غير حال الضرورة . فأما عند الحاجة ، مثل أن يخاف على المسلمين قتلاً ، أو أسراً ، أو تعذيب من عندهم من الأسارى ، فيجوز ، لما روى الزهري قال : أرسل النبي صلىالله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان : أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار ، أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب فأرسل إليه عيينة : إن جعلت لي الشطر ، فعلت . فلولا أنه جائز ، لما جعله له النبي صلى الله عليه وسلم . ولأن الضرر المخوف أعظم من الضرر ببذل المال . فجاز دفع أعلاهما بأدناهما .
فصل
ويجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية . ولا يجوز شرط رد النساء المسلمات ، لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} ولما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح في الحديبية ، جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أخواها يطلبانها ، فأنزل الله تعالى : {فلا ترجعوهن إلى الكفار} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله منع الصلح في النساء ولأنه لا يؤمن أن تتزوج بمشرك ، فيصيبها ، أو تفتن في دينها .
ولا يجوز رد الصبيان العقلاء ، لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم ، وقلة معرفتهم ، فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم . وإن شرط رد الرجال بها ، لزم الوفاء لهم ، بمعنى أنهم إن جاؤوا في طلب من جاء منهم ، لم بمنعوا من أخذه ولا يحبره الإمام على الرجوع معهم وله أن يأمره سراً بالفرار منهم وقتالهم ، لأن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ، فجاء الكفار في طلبه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا يصلح في ديننا الغدر ، وقد علمت ما عاهدناهم عليه ، ولعل الله أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً فرجع معهم ، قتل أحدهم ، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يلمه ، ولم ينكر عليه .
وإن جاءت امرأة مسلمة ، لم يجز ردها ، ولا يجب رد مهرها ، لأن بضعها لا يدخل في الأمان . وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم المهر ، لأنه شرط رد النساء ، فكان شرطاً صحيحاً ، فلما نسخ ذلك ، وجب رد البدل ، لصحة الشرط ، بخلاف حكم من بعده .
فصل
وإن شرط في الهدنة شرطاً فاسداً ، كرد المرأة أو مهرها ، أو السلاح ، أو ادخالهم الحرم ، أو شرط لهم مالاً ، فهل يبطل عقد الهدنة ؟ على وجهين : بناء على الشروط الفاسدة . ومتى وقع العقد باطلاً ، فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقداً للأمان ، وكان آمناً ، لأنه دخل بناء على العقد . ويرد إلى دار الحرب . ولا يقر في دار الإسلام . لأن الأمان لم يصح .
فصل
وإن عقدت الهدنة على مدة ، وجب الوفاء بها ، لما ذكرنا في أول الباب . ولأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم ، لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا ، فيذهب معنى الصلح . وإن مات الإمام . أو عزل ،وولي غيره ، لزمه إمضاؤه ، لأنه عقد لازم ، فلم يجز نقضه بموت عاقده ، كعقد الذمة . وعلى الإمام منع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين ، وأهل ذمتهم ، لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم . ولا يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب ، ولا منع بعضهم من بعض ، لأن الهدنة لم تعقد على ذلك . فإن سباهم قوم ، لم يكن للمسلمين شراؤهم ، لأنهم في عهدهم ، فلم يملكوهم ، كأهل الذمة . وإن أتلف عليهم المسلمون شيئاً ، لزمهم ضمانه ، لأنهم في عهد ، فأشبه أهل الذمة . وإن جاءنا منهم عبد أو أمة ، مسلماً ، لم يرد إليهم ، لأنه صار حراً بقهره سيده ، وإزالة يده بدخوله دار الإسلام .
فصل
ومن أتلف منهم شيئاً على مسلم ، لزمه ضمانه ، وإن قتله ، فعليه القصاص . وإن قذفه فعليه الحد ، لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم ، وأمانهم من المسلمين ، في النفس ، والمال ، والعرض ، فلزمهم ما يجب في ذلك . ومن شرب منهم خمراً أو زنى ، لم يحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة . وإن سرق مال مسلم ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقطع ، لأنه حق خالص لله تعالى . أشبه حد الزنا .
والثاني : يقطع، لأنه يجب لصيانة حق الآدمي ، فأشبه حد القذف .
فصل
وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال ، أو مظاهرة عدو ، أو قتل مسلم ، أو أخذ مال ، انتقض عهدهم لقول الله تعالى : {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} الآية والتي بعدها وقوله تعالى {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} وقوله سبحانه : {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} ولأن الهدنة تقتضي الكف ، فانتقضت بتركه ، ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام ، لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل ، وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد . وإن نقض بعضهم ، وسكت سائرهم ، انتقضت الهدنة في الجميع ، لأن ناقة صالح عقرها واحد ، فلم ينكر عليه قومه ، فعذبهم الله سبحانه جميعاً . ولما هادن النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً ، دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنو بكر مع قريش ، فعدت بنو بكر على خزاعة ، وأعانهم نفر من قريش ، وأمسك سائر قريش ، فكان ذلك نقض عهدهم ، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة . فإن أنكر الممسك على الناقض ، أو اعتزلهم ، أو راسل الإمام به ، لم ينتقض عهده ، لأنه لم ينقض ، ولا رضي بالنقض . ويؤمر بتسليم الناقض ، أو التميز عنه . فإن لم يفعل مع القدرة عليه ، انتقضت هدنته أيضاً ، لأنه صار مظاهراً للناقض . وإن لم يقدر على ذلك ، فحكمه حكم الأسير . فإذا أسر الإمام منهم قوماً ، فادعوا أنهم ممن لم ينقض ، وأشكل ، قبل قولهم ، لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم .
فصل
وإن خاف الإمام نقض العهد منهم ، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم ، لقول الله تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} ويعني : أعلمهم بنقض العهد ، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم ، ولا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض . ولا يفعل ذلك الإمام ، لأن نقضها لخوف الخيانة ، يحتاج إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحكم ، وإن خاف خيانة أهل الذمة ، لم ينبذ إليهم عهدهم ، لأن النظر في عقدها إليهم . وكذلك إذا طلبوا الذمة ، لزمته إجابتهم إليه . والنظر في الهدنة إلى الإمام ، فكان النظر إليه عند الخوف . ومتى نقضها في دارنا منهم أحد ، وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا بأمان ، فوجب ردهم إلى مأمنهم ،كما لو أفردهم بالأمان ، وإن كان عليهم حق ، استوفي منهم .
باب عقد الذمة
ولا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام ، أو نائبه ، لأنه عقد مؤيد تتعلق به المصالح العامة ، فلم يصح من غير الإمام ونائبه . ويجوز عقدها لأهل الكتاب ، والمجوس ، لقول الله تعالى : {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ، ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} ولما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر . وسواء كانوا عرباً أو عجماً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن ، وأمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً ، أو عدله معافر . رواه أبو داود . وكانوا عرباً .
وأهل الكتاب : هم اليهود والنصارى ، ومن وافقهم في أصل دينهم ، وآمن بنبيهم وكتابهم ، كالسامرة الموافقة لليهود في موسى والتوراة ، والفرنج يوافقون النصارى في عيسى والإنجيل . وليس المجوس بأهل كتاب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولا المتمسك بدين إبراهيم وشيث وداود بكتابي ، ولا تعقد له ذمة ، لقول الله سبحانه : {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} ولا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب والمجوس ، كعبدة الأوثان ، ومن عبد ما استحسن ، والدهرية ، ونحوهم ، لقول الله تعالى : {فاقتلوا المشركين} . ثم خص أهل الكتاب بإعطاء الجزية ، وألحق بهم صلى الله عليه وسلم المجوس ، فبقي من عداهم على مقتضى العموم . ولأنهم تغلظ كفرهم ، لكفرهم بجميع أنبياء الله تعالى وكتبه . وروى الحسن بن ثواب عن أحمد : أن الجزية تقبل من جميع الكفار ، إلا من عبدة الأوثان من العرب ، لأنه تغلظ كفرهم بدينهم وجنسهم ، لكونهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين، فقبلت الجزية منهم ، كالمجوس .
وأما الصابئون ، فينتظر فيهم . فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين ، في نبيهم وكتابهم ، فهم فرقة منهم . وإن لم يوافقوا واحداً منهم ، فهم غير أهل الكتاب ، حكمهم حكم عبدة الأوثان .
فصل
ومن دخل في دين أهل الكتاب ، أو المجوس من سائر الكفار ، صار منهم وحكمه حكمهم . سواء دخل قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، أو بعده ، لعموم النصوص فيهم . قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد . وقال أبو الخطاب : من دخل بعد بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، أو قبل بعثه ، وبعد تبديل كتابهم ، لم تعقد له الذمة ، لأنه دخل في دين باطل . ومن كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة ، والآخر ممن لا تعقد له ، عقدت له الذمة ، لما ذكرنا . ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية ، لأنه تبعه في الدين ، فتبعه في الجزية ، وقال أبو الخطاب : فيه وجهان .
وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم ، فادعوا إنهم أهل كتاب ، قبل منهم ، لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم . فإن أسلم منهم اثنان ، وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب ، وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم ، لأنه بان بطلانهم دعواهم .
فصل
ومن عقدت له الذمة ، أخذت منه الجزية . وفي قدرها ثلاث روايات .
إحداهن : يرجع إلى ما فرضه عمر رضي الله عنه ، عليهم : على الموسر ثمانية وأربعون درهماً ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهماً ، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهماً ، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه ، لأن عمر رضي الله عنه فرضها كذلك بمحضر من الصحابة ، وتابعه سائر الخلفاء بعده ، فكان إجماعاً .
والثانية : يرجع إلى اجتهاد الإمام ، في الزيادة على ذلك والنقصان منه ، على ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما بعث معاذاً الى اليمن ، قال له : خذ من كل حالم ديناراً رواه أبو داود . وعمر زاد عليهم ، فدل على جواز الزيادة والنقصان .
و الثالثة : يجوز الزيادة ، ولا يجوز النقصان ، لأن عمر رضي الله عنه ، زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص . فإذا قلنا : لا تجوز الزيادة ، فمتى بذلوا القدر الواجب ، لزم قبوله ، وحرم قتالهم ، لقول الله تعالى : {حتى يعطوا الجزية} . فمد قتالهم إلى إعطائها ، أي بذلها . وإن قلنا له الزيادة ، فله أن يزيد بقدر ما يراه . ولا يحرم قتالهم ، إلا أن يبذلوا ما طلب منهم .
فصل
ويؤخذ من نصارى بني تغلب ، مكان الجزية الزكاة ، مثلي ما يؤخذ من المسلمين ، من جميع أموالهم الزكاتية ، لما روى : أن عمر رضي الله عنه دعاهم إلى بذل الجزية ، فأبوا ، وأنفوا ، وقالوا : نحن عرب ، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة ، فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة ، فلحق بعضهم بالروم ، فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين ، إن القوم لهم بأس ، وشدة ، وهم عرب يأنفون من الجزية ، فلا تعن عليك عدوك بهم ، خذ منهم الجزية باسم الصدقة ، فبعث عمر في طلبهم ، فردهم وضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين ، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ، ومن كل عشرين ديناراً ديناراً ، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم ، ومما سقت السماء الخمس ، وفيما سقي بنضح ، أو غرب ، أو دولاب ، العشر . فاستقر ذلك من قول عمر ، ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعاً . قال أصحابنا : حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة ، في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلماً . فعلى هذا يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ، وزمناهم ، ومكافيفهم ، وشيوخهم ، لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض ، فأجابهم . ولأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ، فجاز ، أن يدخلوا في الواجب به ، كالرجال .و لا يؤخذ من مال لم يبلغ نصاباً ، ولا من مال غير زكاتي كذلك . ومن كان المأخوذ منه ، أقل من دينار ، أجزأ عنه . ومن ليس له نصاب زكاتي ، فلا شيء عليه ، لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على هذا . واختلف أصحابنا في مصرفه ، فقال القاضي : مصرفه مصرف الفيء ، لأنه جزية باسم الزكاة . ومعنى الشيء ، أخص به من اسمه ، ولأنه مال مشرك أخذ بغير قتال ، فكان فيئاً ، كالجزية . وقال أبو الخطاب : مصرفه مصرف الصدقة ، لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ ، والمأخوذ منه : فكذلك في المصرف . فإن بذل تغلبي الجزية ، مكان المفروض عليهم ، وكان حربياً ، قبل منه ، لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية ، فحقن دمه بها كغيره . وإن كان ممن عقد الذمة ، لم يقبل منه ، لأن الصلح وقع على غير ذلك ، فلم يجز تغيره .
فصل
فأما سائر أهل الكتاب من النصارى وغيرهم ، فلا يقبل منهم إلا الجزية ، ولا يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب . نص عليه أحمد ، للآية والأخبار . والعرب وغيرهم في هذا سواء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، بعث معاذاً إلى اليمن ، وأمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً ، وهم عرب . وإنما خص بنو تغلب بالصدقة ، لصالحهم ، فبقي من عداهم على مقتضى النصوص . وذكر القاضي : أن تنوخ وبهرا ، كبني تغلب ، وأن عمر صالحهم . وقال أبو الخطاب : وكذلك الحكم فيمن تنصر من تنوخ وبهرا ، أو تهود من كنانة ، وحمير ، أو تمجس من تميم ، لأنهم عرب ، فأشبهوا بني تغلب . والصحيح الأول . ولم يصح عن عمر ولا غيره مصالحة غير بني تغلب على غير الجزية .
فصل
و لا جزية على صبي ، لقوله عليه السلام لمعاذ : خذ من كل حالم ديناراً وروى أسلم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان ، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي . رواه سعيد . ولأنها تجب لحقن الدم ، وهو محقون بدونها ، ولا على امرأة كذلك ، ولا على خنثى مشكل ، لأنه لا يعلم كونه رجلاً ، فلم تجب عليه مع الشك ، ولا على مجنون ، لأنه في معنى الصبي ، فنقيسه عليه ، ولا على زمن ، ولا أعمى ، ولا شيخ فان ، ولا راهب ، لأن دماءهم محقونة ، فأشبهوا الصبي والمرأة ، ولا على فقير عاجز عن أدائها ، لقول الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} .
فأما المعتل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته ، فعليه الجزية ، لأنه في حكم الأغنياء ، ولا تجب على مملوك ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا جزية على مملوك ، ولأنه لا يقتل بالكفر ، أشبه الصبي . وعن أحمد : أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه . وهو ظاهر كلام الخرقي ، لأنه ذكر مكلف قوي مكتسب ، أشبه الحر . ومن كان بعضه حراً ، فعليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية ، لأن حكمه يتبعض ، فقسم على قدر ما فيه من الحرية . والرق ، كالميراث .
فصل
ومن بلغ من صبيانهم ، أو أفاق من مجانينهم ، أو عتق من عبيدهم ، فهو من أهلها بالعقد الأول ، لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان ، فيتبعه في الذمة ، وتعتبر جزيته بحاله لا بحال غيره ، لأنه حكم يختلف باختلاف الحال ، فاعتبر بحاله ، كالزكاة . فإن كان في أثناء الحول ، أخذ في آخر الحول بقدر ما أدرك منه ، لئلا تختلف أحوالهم ، فيشق ضبطها . ومن كان يجن ويفيق إفاقة مضبوطة ، كيوم ويوم ، أو نصف الحول ونصفه ، ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر بالأغلب منهما ، لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب .
و الثاني : تلفق إفاقته ، فإذا بلغ حولاً ، أخذت الجزية ، فإن كان سواء ، ففيه وجهان :
أحدهما : يؤخذ في كل حول نصف جزية ، لأن الجزية تؤخذ في كل حول ، فيؤخذ منه بقدر ما عليه .
والثاني : تلفق إفاقته ، فإذا بلغت حولاً ، أخذت منه ، لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ .
فصل
وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه ، فطلبوا عقد الذمة بغير جزية ، أجيبوا إليها ، لأنهم محقونون بدونها . وإن بذلوا جزية ، أخبروا أنه لا جزية عليهم ، فإن تبرعوا بها ، كانت هبة ، متى امتنعوا منهم ، لم يحوجوا إليها .
فصل
و تجب الجزية في آخر كل حول ، لأنه مال يتكرر بتكرار كل الحول ، فوجب في آخره ، كالزكاة ، والدية . فإن جن قبل انقضائه جنوناً مطبقاً ، أو مات أو أسلم ، فلا جزية عليه ، لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه ، كما لو مات بعض العاقلة قبل الحول ، وإن جن أو مات بعد الحول ، لم تسقط عنه ، لأنه دين وجب عليه في حياته ، فأشبه العاقل ودين الآدمي . وإن أسلم بعد الحول ، سقطت عنه ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على المسلم جزية . رواه الخلال . وقال أحمد : قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إن أخذها في كفه ، ثم أسلم ، ردها . وروى أبو عبيد : أن يهودياً أسلم ، فطولب بالجزية ، وقيل إنما أسلمت تعوذاً . قال : إن في الإسلام معاذاً ، فرفع إلى عمر ، فقال : إن في الإسلام معاذاً ، فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية . ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر ، فيسقطها الإسلام ، كالقتل . وإن اجتمعت على الذمي جزية سنين ، أخذت منه ، ولم تتداخل ، لأن الحق مالي يجب في آخر كل حول ، فلم تتداخل ، كالدية والزكاة .
فصل
ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين ، لما روى الأحنف بن قيس : أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة ، وأن يصلحو القناطر ، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم ، فعليهم ديته ، رواه الإمام أحمد . ولأن فيه مصلحة ، فإنه ربما تعذر الشراء على المسلمين ، ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم ، لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير رضاهم ، كالجزية ، وإن امتنعوا من قبول الشرط ، لم تعقد لهم الذمة ، لأنه شرط سائغ ، فإذا امتنعوا منه ، لم تعقد لهم ، كالجزية . فإن لم تشترط عليهم الضيافة ، لم تجب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : خذ من كل حالم ديناراً ولم يذكر الضيافة . ومن أصحابنا من قال : تجب بغير شرط ، كما تجب على المسلمين . وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة ، وعدد من يضاف من الرجال والفرسان ، وقدر الطعام والإدام والعلوفة ، لأنه أبعد من اللبس . فإن أطلق ذلك ، جاز . ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة ، لأن ذلك الواجب على المسلم ، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم ، لما روى أسلم ، أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : إن المسلمين إذا مروا بنا ، كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم ، فقال : أطعموهم مما تأكلون ، ولا تزيدوهم على ذلك . ولا تزاد الضيافة على ثلاثة أيام ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الضيافة ثلاثة أيام . وذكر القاضي : أن تقدير أيام الضيافة ، وعدد من يضاف ، والطعام ، والإدام ، والعلوفة شرط ، لأنه من الجزية ، فاعتبر العلم به ، كالنقود . والأول أولى ، لأن عمر لم يقدره ، ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف ، قال : أطعموهم مما تأكلون . وللمسلمين النزول في الكنائس ، والبيع ، لأن عمر صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب كنائسهم ، وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ، ليدخلها المسلمون ركباناً . فإن لم يجدوا مكاناً ، فلهم النزول في الأفنية ، وفضول المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله . فإن لم يسعهم ، فالسابق أحق ، فإن تساووا ، وتشاحوا ، أقرع بينهم . فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم ، أجبروا عليه ، فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة ، قوتلوا ، فإن قاتلوا ، انتفض عهدهم .
فصل
ويثبت الإمام عدد أهل الذمة ، وأسماءهم ، وأنسابهم ، ودينهم ، وحلاهم التي لا تتغير بالأيام ، كالطول ، والقصر ، والبياض ، والسواد ، والسمرة ، فيكتب أدعج العينين ، أقنى الأنف ، مقرون الحاجبين . ويثبت ما يأخذ منهم ، ويجعل لكل طائفة عريفاً ، يجمعهم عند أداء الجزية ، ويعرف من يبلغ من غلمانهم ، ويفيق من مجانينهم ، ويقدم من غائبهم ، ومن يموت أو يسلم ، لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط . وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : خذ من كل حالم ديناراً ، أو عدله معافر .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من أهل نجران ألفي حلة ، وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده ، ومن قبضت جزيته ، كتب له براءة ، لتكون له حجة إذا احتاج إليها ، ويمتهنون عند أخذ الجزية منهم ، ويطال قيامهم ، وتجر أيديهم عند أخذها . ومن بعثها منهم ، لم تقبل حتى يحضر فيؤديها ، لقول الله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} .
فصل
إذا مات الإمام ، أو عزل وولي غيره ، لم يحتج إلى تجديد عقد ، لأن الخلفاء لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقداً ، ولأنه عقد لازم ، فأشبه الإجارة ، فإن عرف الثاني مبلغ المشروط عليهم ، أقرهم عليه ، وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما يسوغ جعله جزية ، لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم . فإن ثبت بعد ذلك أنهم نقصوا من الشروط التي عليهم شيئاً ، رجع عليهم فيما نقص . وإن قال بعضهم : كنا نؤدي ديناراً ، وقال بعضهم : كنا نؤدي دينارين ،أخذ كل واحد منهم بإقراره ، ولم يقبل قول بعضهم على بعض ، لأن أقوالهم غير مقبولة .
باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين ، بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود والمعاملات ، وأروش الجنايات ، وقيم المتلفات . فإن عقد على غير هذين الشرطين ، لم يصح ، لقوله تعالى : {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} . قيل : الصغار : جريان أحكام المسلمين عليهم . ومن ادعى منهم كتاباً من عمر ، أو علي رضي الله عنهما بالبراءة من الجزية ، لم يصدق ، لأنه لا أصل له ، ولم يذكره علماء الإسلام ، وأخبار أهل الذمة لا تقبل .
فصل
ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء ، لباسهم ، وشعورهم ، وركوبهم ، وكناهم ، لما روى إسماعيل بن عياش ، عن غير واحد من أهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم : إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا في مراكبهم ، ولا نتكلم بكلامهم ، وأن لا نتكنى بكناهم ، وأن نجز مقادم رؤوسنا ، ولا نفرق نواصينا ، ونشد الزنانير في أوساطنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ، ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ، ولا نتقلد السيوف . وذكر سائره . رواه الخلال بإسناده ، وذكر في آخره : فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب ، فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا . فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوباً يخالف لونه لون سائر ثيابهم ، كالعسلي والأدكن ، والأزرق ، والأصفر . ويشدون الزنانير في أوساطهم فوق ثيابهم ، وإن لبسوا العمائم ، أو القلانس ، جعلوا فيها خرقة تخالف لونها ، ويختم في رقاب رجالهم ونسائهم خواتيم من رصاص ، أو حديد ، ليتميزوا في الحمام عن المسلمين . وتأخذ نساؤهم بالغيار والزنار تحت ثيابهن ، لئلا تنكشف رؤوسهن إن شددنه فوق ثيابهن ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أهل الآفاق : مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن . وإن لبسنا الخفاف ، جعلنا الخفين من لونين ، ليتميزن عن نساء المسلمين . فإن شرط عليهم الجمع بين الزنار والغيار ، أخذوا به . وإن شرط أحدهما ، اكتفي به ، ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب ، والطيلسان ، لأن التميز حصل بما ذكرناه . وأما التميز في الشعور ، فبأن يحذفوا مقاديم رؤوسهم ، ولا يفرقون شعورهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره .
و أما التميز في الركوب ، فلا يركبون الخيل ، لأن ركوبها عز ، ولهم ركوب ما سواها على غير السروج ، وروي عن ابن عمر : أن عمر أمر أن يركبوا عرضاً على الأكف بالعرض ، ولا يتكنون بكنى المسلمين ، كأبي القاسم ، وأبي بكر ، وأبي عبد الله ، ونحوها ، ولا يمنعون من الكنى بالكلية ، لأن النبي صلى الله وسلم قال لأسقف نجران : أسلم أبا الحارث وقال عمر لنصراني : يا أبا حسان أسلم ، تسلم . ذكرهما أحمد .
فصل
و لا يتصدرون في المجالس عند المسلمين ، لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم ، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ، ونرشد الطريق ، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ، ولا نطلع عليهم في منازلهم . ولا يبدؤون بالسلام ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطرهم إلى أضيقها ، ولا تبدؤوهم بالسلام .
و إن سلموا عليه ، قال : وعليكم لما روى أبو بصرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا غادون ، فلا تبدؤوهم بالسلام ، وإن سلموا عليكم ، فقولوا : وعليكم وقيل لأحمد : فإنا نأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون ، أفنسلم عليهم ؟ قال : نعم ننوي السلام على المسلمين .
فصل
ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين ، لقولهم في شروطهم : ولا تطلع عليهم في منازلهم ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام يعلو ولا يعلى وفي مساواتهم وجهان :
أحدهما : يجوز ، لأنه لا يفضي إلى علو الكفر .
والثاني : لا يجوز ، لأن القصد علو الإسلام ، ولا يحصل مع المساواة . فإن لم يكن لهم جار مسلم ، لم يمنعوا من تعلية بنيانهم ، لأنه لا يضر المسلمين . وإن ملكوا داراً عالية من مسلم ، لم يؤمروا بنقضها ، لأنهم ملكوها على هذه الصفة .
فصل
ويمنعون من إظهار المنكر ،كالخمر ،والخنزير ، وضرب الناقوس ، ورفع أصواتهم بكتابهم ، ولا ظهر أعيادهم ، وصلبهم ، لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم : إن شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا ، ولا نظهر عليها صليباً ، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ، ولا القراءة في صلاتنا فيما يحضره المسلمون ، وأن لا نخرج صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين ، وأن لا نخرج باعوثاً ، ولا شعانين ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين ، ولا نجاورهم بالخنازير ، ولا نظهر شركاً ، ولا نرغب في ديننا ، ولا ندعو إليه أحداً .
و الباعوث : عيد يجتمعون له ، كما يخرج المسلمون يوم الفطر والأضحى .
فصل
ويمنعون من إحداث البيع ، والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين ، لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم : إن شرطنا لك على أنفسنا ، أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا في ما حولها ديراً ، ولا قلاية ، ولا صومعة راهب ، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ، ولا ما كان منها في خطط المسلمين . وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحاً ، أقر ، لأن الصحابة رضي الله عنهم أقروهم على كنائسهم ، وبيعهم ، وما فتح عنوة فكذلك ، لأن الكنائس والبيع ، موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير ، ولم تهدمها الصحابة في بلد فتحوه . وفيه وجه آخر ، أنها تهدم ، لأنها بلاد مملوكة للمسلمين ، فلم يجز أن يكون فيها بيعة ، كالتي مصرها المسلمون ، ويجوز رم ما تشعث من بيعهم ، وكنائسهم رواية واحدة ، لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها .وأما تجديد ما خرب منها ،فلا يجوز لقولهم :ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ،ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام ،فمنع منه ،كابتداء بنائها .وعنه : يجوز ، لأنه أبقى لها ، أشبه لم ما تشعث . وإن عقدت لهم الذمة ، في بلد ينفردون به ،لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه ، ولم يأخذوا بغيار ، ولا زنار ،لأنهم في بلدانهم ،فلم يمنعوا من إظهار دينهم .
فصل
وينعون من سكنى الحجاز ،لما روى أبو عبيدة بن الجراح :أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال : أخرجوا اليهود من الحجاز رواه أحمد وأبو داود وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب رواه مسلم . والمراد الحجاز ، بدليل أن أحداً من الخلفاء لم يخرج أحداً من اليمن ، ولا أهل تيماء ، فدل على أن المراد به الحجاز ، وهو مكة ، والمدينة ، واليمامة ، وخيبر ، وفدك ، وما والاها - سمي حجازاً ، لأنه حدز بين تهامة ونجد - وليس نجران من الحجاز ، وإنما أجلاهم عمر منه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لا يكلوا الربا فأكلوه ، ونقضوا العهد ، فأمر بإجلائهم ، فأجلاهم عمر . ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة ، لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر ، وعثمان ، والخلفاء بعدهم . ولا يجوز لهم الدخول ، إلا بإذن الإمام ، لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين ، فوقف على رأي الإمام ، كدخول الحربي دار الإسلام ، فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع ، كتجارة ، ورسالة ، ونحوها ، أذن له لما فيه من المصلحة ، فإذا دخل ، لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام ، لأن عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجراً ، في إقامة ثلاثة أيام . فإذا انتقل إلى موضع آخر ، فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر ، لأنه لا يصير مقيما في موضع ، فأشبه المسافر ، وإن مرض فعجز عن الخروج ، أقام حتى يبرأ ، لأنه موضع ضرورة ، وإن مات دفن فيه ، لأنه موضع حاجة .
فصل
ويمنعون من دخول الحرم لقول الله تعالى {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} . والمسجد الحرام : الحرم ، بدليل قوله سبحانه : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} وأراد مكة ، لأنه أسري به من بيت أم هانىء . فإن جاء رسولاً . خرج إليه من يسمع منه ، فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام ، خرج إليه ، ولم يأذن له ، فإن دخله عالماً بالمنع ، عزر ، وإن كان جاهلاً ، أخرج ، ونهي ، وهدد ، وإن كان مريضاً ، أو ميتاً ، أخرج ،و لم يدفن فيه ، فإن دفن نبش ، وأخرج إلا أن يكون قد بلي ، لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته ، فدفن جيفته فيه أولى .
وحد الحرم : من طريق المدينة ، على ثلاثة أميال ، ومن طريق العراق على سبعة أميال ، ومن طريق الجعرانة ، تسعة أميال ، ومن طريق عرفة ، سبعة أميال ، ومن طريق جدة ، عشرة أميال ، فإن صالحهم على دخوله ، لم يجز ، وإن كان بعوض ، لم يجز . فإن دخلوا إلى الموضوع الذي صالحهم عليه ، أخذ منهم العوض ، لأنهم استوفوا المعوض ، فلزمهم العوض . فإن دخلوا إلى بعضه ، أخذ منهم بقدره .
فصل
و ليس لهم دخول مساجد الحل ، بغير إذن مسلم . فإن دخل ، عزر ، لما روت أم غراب قالت : رأيت علياً رضي الله عنه على المنبر وبصر بمجوسي ، فنزل ، فضربه ، وأخرجه من أبواب كندة .
فإن أذن له مسلم في الدخول ، جاز ، في الصحيح من المذهب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد الطائف ، فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم .
وعنه : لا يجوز لما روى عياض الأشعري : أن أبا موسى قدم على عمر ومعه نصراني ، فأعجب عمر خطه ، وقال : قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه ، قال : إنه لا يدخل المسجد . قال : لم ؟ أجنب هو ؟ قال هو نصراني فانتهره عمر ، ولأن الجنب يمنع المسجد فالمشرك أولى .
فصل
وعلى الإمام حفظ أهل الذمة ، ومنع من يقصدهم بأذى ، من المسلمين والكفار ، واستنقاذ من أسر منهم ، بعد استنقاد أسارى المسلمين ، واسترجاع ما أخذ منهم ، لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم ، وحفظ أموالهم ، وإن أخذ منهم خمر ، أو خنزير ، لم يجب استرجاعه ، لأنه محرم ، لا يحل اقتناؤه . وإن أخذ منهم أهل الحرب مالاً ، ثم قدر عليه المسلمون ، رد إليهم إذا علم به قبل القسمة ، كمال المسلم . وحكم أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين .
فصل
وإذا تحاكم مسلم وذمي إلى الحاكم ، لزمه الحكم بينهما ، لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واجب . وإن تحاكم ذميان إليه ، ففيه روايتان :
إحداهما : يلزمه الحكم بينهما ، لقول الله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ولأن دفع الظلم عنهم واجب ، والحكم طريق له ، فوجب ، كالحكم بين المسلمين .
والثانية : لا يجب ، بل يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم ، لقول الله تعالى : {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ولأنهما كافران ، يجب الحكم بينهما كالمستأمنين ، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام ، لقول الله تعالى : {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وإن دعي أحدكما إلى الحكم ، لزمته الإجابة ، وإن تحاكم إليه مستأمنان ، خير بين الحكم بينهما ، وبين تركهما ، للآية . وإن دعاهما إلى الحكم ، أو أحدهما ، لم يلزمهما الحضور ، لأن قوله تعالى : {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} نزلت في المعاهدين قبل الولاية .
فصل
ومن أتى محرماً من أهل الذمة ، مما يعتقد تحريمه في دينه ، كالقتل ، والزنا ، والسرقة والقذف ، وجب على المسلم لما روى أنس : أن يهودياً ، قتل جارية على أوضاح لها ، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين حجرين . متفق عليه .
وروى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما ، فرجمهما . ولأنه محرم في دينه ، وقد التزم حكم الإسلام ، قثبت في حقه حكمه ، كالمسلم .
فأما ما لا يعتقد تحريمه ، كشرب الخمر ، ونحوه ، فلا حد عليه فيه ، لأنه يعتقد حله ، فلم يجب عليه عقوبة ، كالكفر ، ولا يمكن من التظاهر به ، لأنه منكر ، فلا يمكن من إظهاره ، فإن أظهره عزر .
باب العشور
من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد ، أخذ منه نصف عشر ما معه من المال ، لما روى أنس بن سيرين قال : بعثني أنس بن مالك إلى العشور ، فقلت : تبعثني إلى العشور من بين عمالك ؟ فقال : ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر ، من أهل الذمة نصف العشر . رواه الإمام أحمد .
و الذكر والأنثى سواء في هذا للخبر ، ولأنه حق مال التجارة ، فوجب على الأنثى كالزكاة ، وقال القاضي : لا يجب على النساء ، لأنه جزية عليهن ، فعلى قوله لا تؤخذ إلا ممن تجب عليه الجزية من أهل الذمة ، والأول أصح ؟. وسواء كان تغلبياً ، أو غيره ، لعموم هذا الخبر ، ولأن الواجب على التغلبي ضعف ما على المسلم ، وذلك نصف العشر . وعن أحمد : أن الواجب عليه العشر ، لما روى زياد بن حدير ، قال : بعثني عمر رضي الله عنه مصدقاً ، فأمرني آخذ من نصارى بني تغلب العشر ، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر رواه أحمد : أيضاً .
و إن دخل إلينا تاجر حربي ، أخذ منه العشر ، لما لاحق بن حميد قال : قالوا لعمر : كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا ؟ قال : كيف يأخذون منكم ؟ قالوا العشر . قال : فكذلك خذوا منهم .
و إن رأى الإمام التخفيف عليهم ، أو الترك لمصلحة ، فعل ذلك ، لأنه فيء ، فملك تخفيفه كالخراج . وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ، ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ، ليكثر الحمل إلى المدينة . وذكر القاضي : أنهم إذا دخلوا بميرة ، لم يؤخذ منهم شيء ، لأنهم لنفع المسلمين . وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه يؤخذ من الكل ، وحديث عمر دليل عليه ، لأنه أخذ من الحنطة والزبيب . فإن كانت تجارته في الخمر وخنزير ، ففيه روايتان :
إحداهما : من ثمنها حقها . قال أحمد في حديث سويد بن غفلة في قول عمر : ولهم بيع الخمر والخنزير لعشرها . وهذا إسناد جيد ، ولا يكون ذلك إلا على الآخذ منها .
و الثانية : لا يؤخذ منها شيء ، لما روى أبو عبيد بإسناده : أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بأربعين ألف درهم صدقة الخمر ، فكتب إليه عمر : بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين ، فأخبر بذلك الناس ، وقال : والله لا استعملتك على شيء بعدها ، فنزعه ، وقال عمر : ولوهم بيعها وخذوا من ثمنها في الخراج ، لأن بلالاً قال : لعمر : إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج ، فقال : لا تأخذوها منهم وخذوا أنتم من الثمن .
فصل
ولا يؤخذ في السنة إلا مرة ، نص عليه أحمد وقال ابن حامد : يؤخذ من الحربي كما دخل إلينا ، لأننا لو لم نأخذ منه كل مرة ،لم نأمن أن لا يدخل إذا جاء وقت السنة فيتعذر الأخذ ، والأول أصح ، لما روي أن نصرايناً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : إن عاملك عشرني مرتين . قال عمر : ومن أنت ؟ قال : أنا الشيخ النصراني . قال عمر : وأنا الشيخ الحنيف ، ثم كتب إلى عامله أن لا تعشر في السنة إلا مرة ، رواه الإمام أحمد .
و لأنه حق مال التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة ، كالزكاة . وما ذكره ابن حامد ولا يلزم ، لأنه يوجد منه أول مرة ، ثم لا يؤخذ منه شيء حتى يحول عليه الحول .وينبغي أن يكتب له كتاباً بما أخذ منه ، ووقت الأخذ ، وقدر المال ، ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول .
فصل
ولا يجب في أقل من عشرة دنانير . نص عليه . وهل يجب العشر في العشرة ، أو في العشرين ؟ على روايتين :
إحداهما : تجب في العشرة ، لأنها مال يبلغ واجبه نصف مثقال ، فوجب فيه كالعشرين للمسلم .
والثانية : لا يجب إلا في عشرين ، لأنه لا يجب في أقل منها زكاة على مسلم ، ولا تغلبي ، فلم يجب فيه على ذمي شيء ، كاليسير . قال ابن حامد : يجب في القليل والكثير ، لأن عمر رضي الله عنه قال : خذ من كل عشرين درهماً درهماً .
فصل
وإن مر على العاشر منتقل بماله ، لم يؤخذ منه لأنه لغير التجارة ، وإن كانت معه تجارة ، وعليه دين ، فظهر كلام أحمد ، أنه يمنع الأخذ منه ، لأنه حق مال يتعلق بالتجارة ، فمنع الدين وجوبه ، كالزكاة . ولا تقبل دعوى الدين إلا ببينة ، لأن الأصل براءة ذمته منه وإن كانت معه جارية ، فادعى أنها ابنته ، ففيه روايتان :
إحداهما : يقبل ، لأن الأصل عم الملك فيها .
والثانية : لا يقبل ، لأنه يمكنه إقامة البينة عليها .
باب ما ينتقض به العهد
ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء . الامتناع من بذل الجزية ، والامتناع من التزام أحكام الإسلام ، وقتال المسلمين ،سواء شرط عليهم أو لم يشرط ، لأن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية ، ويلتزموا أحكام الملة ، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم . فإذا قاتلوا ، فقد نقضوا العهد ، لأن العقد يقتضي الأمان من الجانبين ، والقتال ينافيه ، فانتقض العهد به . فأما ما سوى ذلك فقسمان :
أحدهما : ما فيه ضرر بالمسلمين ، وهو ثمانية أشياء . قتل مسلم ، أو فتنه عن دينه أو قطع الطريق عليه ، أو الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح ، أو إيواء جاسوس ، أو دلالة على المسلمين ، أو ذكر الله تعالى أو رسوله أو كتابه بسوء ، ففيه روايتان :
إحداهما : ينتقض العهد به ، سواء شرط أو لم يشرط ، لما روي عن عمر رضي الله عنه : أنه رفع إليه رجل ، أراد استكراه مسلمة على الزنا ، فقال : ما على هذا صالحناكم ، وأمر به ، فصلب في بيت المقدس . وقيل لابن عمر : إن راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لو سمعته ، لقتلته . إنا لم نعط الأمان على هذا . وروى عن عمر رضي الله عنه : أنه أمر عبد الرحمن بن غنم : أن يلحق في كتاب صلح الجزيرة ، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده . ولأنه لم يف بمقتضى الذمة ، وهو الأمن من جانبه ، فانتقض عهده ، كما لو قاتل المسلمين .
والثانية : لا ينتقض العهد به ، ويقام عليه حد ذلك ، لأن ما يقتضيه العهد من التزام أداء الجزية . وأحكام المسلمين ، والكف عن قتالهم باق ، فوجب بقاء العهد ، فأما سائر الخصال ، كالتميز عن المسلمين ، وترك إظهار المنكر ، ونحوه ، فإن لم يشترط عليهم ، لم ينتقض عهدهم به ، لأن العقد لا يقتضيها ، ولا ضرر على المسلمين فيها ، وإن شرطت عليهم ، فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم ينتقض بمخالفتها ، لقوله : ومن ينقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه ، حل دمه وماله . ووجهه ، أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم ، بعد استيفاء الشروط : وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا ، وقبلنا الأمان عليه ، فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق . ولأنه عقد بشرط ، فزال بزوال شرطه ، كما لو امتنع من بذل الجزية . وقال غيره من أصحابنا ، لا ينتقض العهد به ، لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ، ولا ينافي عقد الذمة ، ولكنه يعزر ، ويلزم ما تركه .
فصل
ومن نقض العهد ،خير الإمام فيه بين أربعة أشياء ، كالأسير الحربي ،لأن عمر رضي الله عنه ، صلب الذي أراد استكراه المرأة ، ولأنه كافر لا أمان له ، فأشبه الحربي . ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه ، لأن النقض وجد منه دونهم ، فاختص حكمه به ، ولو هرب بأهله وذريته إلى دار الحرب ، لم ينتقض عهد ذريته ، ولم يجز سبيهم لذلك ، فأما المرأة ، فإن هربت طائعة ، انتقض عهدها ، لأن النقض وجد منها ، وإن لم تكن طائعة ، لم ينتقض عهدها ، لأنه لم يوجد منها . ومن ولد لع بعد دخوله دار الحرب ، فلا عهد له . والله تعالى أعلم .
تم والحمد الله على تمامه والله المسؤول الزيادة من إنعامه ، فرغ من تصنيفه عشية يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر صفر ست وتسعين وخمسمائة بمدينة دمشق المحروسة والله المحدود المشكور .