بشار بن برد

كان شاعراً مجيداً مفلقاً ظريفاً محسناً، خدم الملوك وحضر مجالس الخلفاء، وأخذ فوائدهم، وكان يمدح المهدي ويخضر مجلسه، وكان يأنس به ويدنيه ويجزل في العطايا، وكان صاحب صوت حسن ومنادمة، وكان حضر المهدي في مجلس مع جواريه بعث إليه لأجل المسامرة والمحادثة وكان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء وله قصائد وأشعار كثيرة، فوشى به بعض من يبغضه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي. وقيل: بل قيل للمهدي: إنه يهجوك، فقتله والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي، والمهدي ينعم عليه، فرمي بالزندقة فقتله. وقيل: ضربه سبعين سوطاً فمات؛ وقيل ضرب عنقه. وكانت وفاته سنة سبع، وقيل: ثمان وستين ومائة في أيام المهدي.


ولما توفي تذكره المهدي وحسن معاشرته له. كان أنيس مجلسه وقد كان معجباً به وبشعره، وكان يدنيه، وكان بشار كفيفاً قبل موته بأربعين سنة، ولهذا كان يحضر المجلس والجواري عند المهدي لكونه لا يبصرهن. وحكى أن المهدي لما قتل بشاراً ندم على قتله وأحبّ أن يجد شيئاً يتعلق به، فبعث إلى كتبه، فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعاً في أن يجد فيها شيئاً مما حزبه عليه، فلم يجد من ذلك شيئاً، ومرّ بطومار مختوم، فظن أن فيه شيئاً، فأمر بنشره، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، فمنعني ذلك من هجوهم، ووهبت جرمهم لله عز وجل، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عرضاً ولم أقدح في دين، وهما:

دينار آل سليمان ودرهمـهـم

 

كالبابليين شدّاً بالـعـفـاريت

لا يوجدان ولا يرجى لقاؤهما

 

كما سمعت بهاروت وماروت

فقال: الآن والله صح الندم.

وحدثني أبو جعفر قال: قال ابن أبي أفلح: قال رجل لبشار: إن الله عز وجل ما سلب أحداً كريمتيه إلا عوضه عنهما حسن صوت أو ذكاء، فأنت فماذا عوضك من بصرك؟ فقال: عوضني فقدان النظر إلى ابن زانية مثلك منذ أربعين سنة.

قال السدري: كان عمي بشار من أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله، فعاشر قوماً من الحرانيين فخبث دينه. وكان مفتنا بارعاً، وكان من الشعر بمكان لم يكن به أحد غيره، وكان يقول: ما أعلم شيئاً مما عندي أقل من الشعر.

حدَّثني ابن أبي أفلح قال: أخبرني أبو حاتم السجستاني قال: سئل أبو عبيدة- وأنا حاضر- عن شعر بشار فقال شذرة ونقرة.

قال: ودخل المهدي أيام خلافته على جماعة من جواريه، وهن مجتمعات في حجرة بعضهن، فجلس عندهن يشرب، فقلن له: لو أذنت لبشار في الدخول علينا لنسامره ونحادثه- وكان من أحسن الناس حديثاً وأظرفهم مجلساً، وأكثرهم ملحا- فأمر به فأحضر. واجتمعن عليه فحدثهن، وجعل يسرد عليهن من نوادره وملحه وينشدهن عيون شعره، فسررن بذلك سروراً شديداً، وقلن له: يا بشار، ليتك أبونا فلا نفارقك أبداً. قال: نعم، وأنا على دين كسرى. فضحك منه المهدي، وأمر له بجائزة.

واطلع المهدي يوماً على بعض جواريه، وهي عريانة تغتسل، فأحست به، فضمت فخذيها، وسترت متاعها بكفيها، فلم يشملاه، حتى انثنت فسترته بعكن بطنها، فخرج المهدي ضاحكاً، وبشار في الدار، فقال: أجز هذا البيت. "أبصرت عيني لحيني" فقال بشار على البديهة:

.................

 

منظراً وافق شيني

سترته إذ رأتـنـي

 

تحت بطن الراحتين

فبدت منهُ فضـول

 

لم توار بـالـيدين

فانثنت حتى توارت

 

بين طيٍّ العكنتـين

فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولو لا أنك أعمى لضربت عنقك، ولقد حكيت الأمر على وجهه حتى كأنك رأيته، ولكني أعلم أن ذلك من فرط ذكائك، وجودة فطنتك.

وكان بشار مولى لبنى عقيل. وقال بعضهم: لبنى سدوس، وكان يلقب المرعث. والمرعث: المقرط، والرعاث: القرط. وكان يرمي بالزندقة، وهو القائل:

كيف يبكي لمحبس في طلول

 

من سيبكي لحبس يوم طويل

إنّ في البعث والحساب لشغلا

 

عن وقوف برسم دارٍ محيل

وهذان البيتان يدلان على صحة إيمانه بالبعث. وكان مطبوعاً جدّاً لا يتكلف، وهو أستاذ المحدثين وسيدهم، ومن لا يقدم عليه، ولا يجارى في ميدانه. والصحيح عند أهل العلم أن المهدي قتله بهجوه يعقوب بن داوود وزيره بقوله:

بني أمية هبوا طال نـومـكـم

 

إنّ الخليفة يعقوب بـن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

 

خليفة الله بين الزقّ والـعـود

وقال قوم: بل قتله على قوله:

لا يؤيسنك مـن مـخـبـأة

 

قول تغلظه وإن قـبـحـا

عسر النساء إلى مـياسـرة

 

والصعب يمكن بعدما جمحا

فقال المهدي: رميت جميع نساء العالمين بالفاحشة. والقول الأول أثبت.

وكان حماد عجرد يهجو بشاراً ولا يلتفت إليه حتى قال فيه:

ويا أقبح من قـرد

 

إذا ما عمي القرد

وما اشتد عليه قوله:

لو طليت جلدته عنبـرا

 

لنتنت جلدته العنـبـرا

أو طليت مسكاً ذكياً إذا

 

تحول المسك عليه خرا

وكان حماد مفلقاً مجيداً، إلا أن موضعه لم يدان بشاراً ولا يقاربه.

ومن جيد شعر بشار كلمته في عمر بن العلاء:

إذا نبهتك حروب العـداة

 

فنبه لها عمراً ثـم نـم

ولولا الذي زعموا لم أكن

 

لأمدح ريحانة قبل شـمّ

وحضر بشار يوماً مجلس عقبة بن سلم الهنائي، وقد حضر عقبة بن رؤبة بن العجاج ينشده أرجوزة، فاستحسنها بشار. فقال عقبة: يا أبا معاذ، هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك، فغضب بشار فقال: تقول هذا؟ والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة ابن سلم الهنائي بأرجوزته الدالية التي يقول فيها:

يا طلل الدار بذات الصمد

 

بالله خبر كيف كنت بعدي

وفيها يقول:

الحر يلحى والعصا للعبد

 

وليس للمحلف مثل الردّ

وصاحب كالدمل الممـد

 

حملته في رقعة في جلد

فأعجب به عقبة، وقال لأبن رؤبة: والله ما قلت أنت ولا أبوك ولا جدك مثل هذا. ووصل بشاراً وأجزل له العطية.

وكان بشار أستاذ أهل عصره من الشعراء غير مدافع، ويجتمعون إليه وينشدونه ويرضون بحكمه.

وتشبيهاته- على أنه أعمى لا يبصر- من كل ما لغيره أحسن. ومن ذلك قوله:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

 

وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه

ومن خبيث هجائه قوله:

فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنـه

 

مخافة أن يرجي نداه حـزين

إذا جئته للعرف أغلق بـابـه

 

فلم تلقه إلا وأنـت كـمـين

فقل لأبي يحيى: من تبلغ العلا

 

وفي كل معروف عليك يمين؟

وفيه يقول:

بجدك يا بن قزعة نلت مالاً

 

ألا إن اللئام بهـم جـدود

ومن حذر الزيادة في الهدايا

 

أقمت دجاجة فيمـن يزيد

ومما يستحسن لبشار، لإحكام رصفه، وحسن وصفه كلمته التي يقول فيها بيته الذي ذكرناه في التشبيه، فأولها:

جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه

وأزرى به أن لا يزال يصـاحبـه

خليلي لا تستكثرا لوعة الـهوى

ولا لوعة المحزون شطـت حبائبـه

شفى النفس ما يلقى بعبدة مغرماً

وما كان يلقى قلبـه وضـرائبـه

فأقصر عن داعي الفـؤاد وإنمـا

يميل به أمس الهوى ويطالـبـه

إذا كـان ذواقـاً أخوك الـهوى

توجّهه في كلّ أوب ركـائبـه

فخّل له وجه الطـريق ولا تـكـن

مطيّة رحّال كثـير مذاهـبـه

أخوك الذي إن ربتـــه قال إنـما

أربت وإن عاتبتـه لان جـانـبـه

إذا كنت في كل الأمـور معاتـبـاً

أخاً لك لم تلق الذي لا تعـاتـبـه

فعـش واحداً أو صـل أخـــاك فإنه

مقارف ذنب مرة ومجـانبـه

إذا أنت لم تشرب مراراً على الـقـذى

ظمئت وأي الناس تصفـو مشاربـه؟

من الحيّ قيس قـيس عـيلان إنـهـا

عيون الندى منها تروي سحائبـه

وما زال منها ممسك بمدينة  

 يراقب أو ثغر تخاف مرازبه

إذا الملك الجبار صعر خدّه

مشينا إليه بالـسيوف نـعاتـبـه

وكنّا إذا دبّ العدوّ لسخـطـنـا

وراقبنا في ظاهر لا نراقـبـه

غدونا له جهراً بكلّ مـثـقـف

وأبيض تستسقي الدماء مضاربه

كأن مثار النقع فوق رءوسـنـا

وأسيافنا ليل تهاوت كواكـبـه

وأرعن يعشى الشمس لون حديده

وتخلس أبصار الكماة كتـائبـه

تغص به الأرض الفضاء إذا غدا

تزاحم أركان الجبال مناكـبـه

تركنا به كلبا وقحطان تبتـغـي

مجيراً من الهبل المطلّ مغالبه

وكان بشار يعد في الخطباء والبلغاء. ولا أعرف أحداً من أهل العلم والفهم دفع فضله ولا رغب عن شعره. وكان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب. ومما يستحسن من شعره- وإن كان كله حسناً- قوله:

أمن تجنّي حبيب راح غضـبـانـا

 

أصبحت في سكرات الموت سكرانا

لا تعرف النوم، من شوق إلى شجن

 

كأنما لا ترى للنـاس أشـجـانـا

أود من لم ينلـنـي مـن مـودتـه

 

إلا سلاماً يردّ القـلـب حـيرانـا

يا قوم أذني لبعض الحيّ عـاشـقة

 

والأذن تعشق قبل العـين أحـيانـا

وهذا معنى بديع لم يسبقه إليه أحد. وهذه قصيدة طويلة وقد قدمنا في كتابنا هذا أنا نروم الإيجاز والاختصار.
ومما يستحسن من شعره أيضاً وهو المعنى الذي لم يسبق إليه:

لم يطل ليلي ولكن لـم أنـم

 

ونفى عني الكرى طيف ألمّ

فاهجر الشوق إلى رؤيتهـا

 

أيها المهجور إلا في الحلم

حدثني عن كتابٍ جـاءنـي

 

منك بالذم وما كـنـت أذم

ومن مستحسن شعره رائيته العجيبة البديعة المعاني الرفيعة المباني:

رأيت صحابتي بخنـاصـرات

 

حمولا بعد ما متع النّـهـار

فكاد القلب من طرب إلـيهـم

 

ومن طول الصّبابة يستطـار

وفي الحيّ الذين رأيت خـود

 

خلـوب الـدل آنـسةٌ نـوار

برود العارضين كأن فـاهـا

 

بعيد النوم عانـقـه عـقـار

كأنّ فـؤاده كـرةٌ تـنــزّى

 

حذار البين لو نفع الـحـذار

يروّعه السرار بكـلّ شـيءٍ

 

مخافة أن يكون به السّـرار

وودّا لـلـيل زيد إلـيه لـيلٌ

 

ولم يخلق لـه أبـداً نـهـارُ

جفت عيني عن التغميض حتّى

 

كأنّ جفونها عنهـا قـصـار

وبلغني أن مسلم بن الوليد وجماعة، منهم أبو الشيص وأبو نواس وغيرهما، كانوا عند بعض الخلفاء، فسألهم عن ديباج الشعر الذي لا يتفاوت نمطه، فأنشدوه لجماعة من المتقدمين والمحدثين، فكأنه لم يقع منه بالغرض، وسأل عن أحسن من ذلك، فقال أبو نواس: أنا لها يا أمير المؤمنين. وأنشد هذه الأبيات الرائية لبشار، فاستحسنها جدّاً، وقال: ومما أجاد فيه وأفرط قوله في الافتخار:

إذا ما غضبنا غضـبة مـضـريّةٌ

 

هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دماً

إذا ما أعرنـا سـيّداً مـن قـبـيلة

 

ذرى منبر صلّى علينا وسـلّـمـا

ومما يستحسن له قوله في عقبة بن سلم:

حيّيا صاحـبـيّ أمّ الـعـلاء

 

واحذرا طرف عينها الحوراءِ

إن في طرفـهـا دواء وداءً

 

لمحبّ، والداء قبـل الـدواء

عذبتني بالحب عذبـهـا الـل

 

ه بما تشتهي مـن الأهـواء

يقع الطير حيث يلتقـط الـح

 

ب وتغشى منازل الكرمـاء

إنما همة الجواد ابـن سـلـم

 

في عطاء وموكب أو لقـاء

ليس يعطيك للرجاء وللـخـو

 

ف ولكن يلذ طعم العـطـاء

ومما يختار من مديحه قوله في ابن العلاء

فتى لا يبيت على دمنة

 

ولا يلعق الشهد إلا بسمّ

ثم يأخذ في الافتخار في قوله منها:

ألا أيّها السـائلـي جـاهـلاً

 

لتعرفني أنا أنـف الـكـرم

نمتني الجياد: بنـو عـامـر

 

فروعي وأصلي قريش العجم

وإنّي لأغني مقام الـفـتـى

 

وأصبي الفتاة ولا تعتـصـم

ومن غزله الطيب الحسن المليح قوله:

يا منية القلب إنّي لا أسميك

 

أكني بأخرى أسميها وأعنيك

يا أطيب الناس ريقاً غير مختبـر

 

إلاّ شهادة أطراف المـسـاويك

قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة

 

فاثني ولا تجعليها بيضة الـديك

يا رحمة الله حلّى في منازلـنـا

 

حسبي برائحة الفردوس من فيك

ومن بدائعه قوله:

وخـريدة سـودٍ ذوائبـهـا

 

قد ضمخت بالمسك والورس

أقبلن في رأد الضحاء بـهـا

 

فسترن عين الشمس بالشمس

وله القصيدة المشهورة التي يقول فيها هذا البيت "يا رحمة الله ...الخ" وقد ضمنه أبو نواس بشعره وهو هذا البيت:

يا رحمة الله حلي في منازلنـا

 

وجاورينا فدتك النفس من جار

وأخبار بشار كثيرة ونوادره في الشعر وطرائفه أكثر من أن يتضمنها هذا الكتاب على ما قدمنا فيه من إيثارها الإيجاز والاختصار وقد أتينا بما يستدل على ما سواه.