أخبار سديف

كان سديف شاعراً مفلقاً وأديباً بارعاً وخطيباً مصقعاً، وكان مطبوع الشعر حسنه. حدَّثني العوفي قال: حدَّثني أحمد بن إبراهيم الرياحي قال: سلم سديف بن ميمون على رجل من بني عبد الدار فقال له الرجل: من أنت؟ قال سديف: أصلحك الله أنا أحد أهلك، أنا سديف بن ميمون. قال العبدي: والله ما أعرف في أهلي ميموناً قال سديف ولا مباركاً.

وحدثني جعفر بن إبراهيم الجعفري: كان سديف مولى لامرأة من خزاعة وكان لها زوج من اللهبيين وادعى سديف بذلك ولاء بني هاشم، وزعم المدائني أنه مولى بني العباس وشاعرهم.

وكان سديف في أيام بني أمية يقول: هو برئ من جورهم وظلمهم وعدوانهم، اللهم صار فيئنا دولة بعد القسمة، وإمارتنا غلبة بعد المشورة وعهدنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة، واشتريت المعازف والملاهي بمال اليتيم والأرملة، وحكم في أبشار المسلمين أهل الذمة، وتولى القيام بأمرهم فاسق كل محلة، فلا ذائد يذود عن هلكة، ولا مشفق ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا رادع يردع من أوى إليهم بمظلمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من السغب، فهم أهل ضرع وضيعة وحلفاء كآبة وذلة قد استحصد زرع الباطل وبلغ نهايته، واستجمع طريده، واستوسق، وضرب بجرانه. اللهم فأتح له يداً من الحق حاصدة تجتث سنامه، وتهشم سوقه، وتبدد شمله وتفرق كلمته، ليظهر الحق في أحسن صورته، وأتم نوره، وأعظم بركته. اللهم- وقد عرفنا من أنفسنا خلالاً تقعد بنا عن استجابة الدعوة، وأنت المفضل على الخلائق أجمعين، والمتولى الإحسان إلى السائلين- فآت لنا من أمرنا حسب كرمك وجودك وامتنانك، فإنك تقضي ما تشاء، وتفعل ما تريد. حدَّثني جعفر ابن إبراهيم بن ميمون قال: حدَّثني إسحاق بن منصور قال: حدَّثني أبو الخصيب الأسدي قال: لما تناهت أيام بني أمية وانقضت دولتهم وأفضت الخلافة إلى بني العباس، وولى منهم السفاح- وهو ابن الحارثية- اتصل الخبر بسديف وهو إذ ذاك بمكة، فاستوى على راحلته وتوجه نحو أبي العباس- وكان به عارفاً- فلما وصل إليه قال له: من أنت؟ قال: أنا سديف بن ميمون. قال: مولاي سديف؟ نعم يا أمير المؤمنين، ثم هنأه بالخلافة، ودعا له بالبركة، وأنشده قصيدة التي أولها:

أصبح الملك ثابـت الآسـاس

 

بالبهاليل من بني العـبـاس

لا تقيلن عبد شمس عـثـاراً

 

واقطعن كل رقلة وغِـراس

ولقد ساءني وسـاءَ سـوائي

 

قربهم من منابر وكراسـي

فاذكروا مصرع الحسين وزيد

 

وقتيلاً بجانب الـمـهـراس

والقتيل الذي بحران أضحـى

 

رهن رمس وغربة وتناسى

ذلهما أظهر التودد مـنـهـا

 

وبها منكم كحز المـواسـي

أنزلوها بحيث أنزلهـا الـل

 

ه بدار الإتعاس والإنـكـاس

فعملت كلمته في أبي العباس وحركت منه، وعنده قوم من بني أمية فقالوا: أعرابي جلف جاف لا يدري ما يخرج من رأسه. فتفرق القوم على ذلك، فلما كان من الغد، وجه أبو العباس إليهم: أن اجتمعوا واغدوا على أمير المؤمنين مع سيدكم سليمان بن هشام ليفرض لكم ويجيزكم- وكان سليمان يكنى أبا الغمر، وكان صديقاً لأبي العباس من قبل أن تفضى إليه الخلافة، يكاتبه ويقضي حوائجه- فلما أصبحوا تهيئوا بأجمعهم، وبكروا إلى أبي العباس مع أبي الغمر، فأذن لهم ورفع مجالسهم، وأجلس أبا الغمر سليمان بن هشام عن يمينه على سريره، وجاء سديف حين سمع باجتماعهم حتى استأذن عليه، فلما مثل بين يديه ونظر إلى مجالسهم كهيئتها بالأمس ورأى أبا الغمر على السرير- وفيهم رجل من كلب من أخوال أبي الغمر، وكان منعه الحاجب وقت دخولهم، فنادى: يا أبا الغمر هذا يمنعني من الدخول، فقال أبو الغمر: هذا رجل من أخوالي فاتركه، فقال له الحاجب: ويلك ارجع فهو خير لك، فقال لا والله لأدخلن، قال: أنت أعلم- ثم أنشأ سديف يقول:

لا يغرنك ما ترى مـن رجـال

 

إن تحت الـضـلـوع داءً دوياً

فضع السيف وارفع السوط حتى

 

لا ترى فوق ظهرهـا أمـويا

واستمر في القصيدة حتى أتى على آخرها، وأبو العباس يغتاظ. ويحنق ويتلون. فقال سليمان بن هشام لسديف: يا ابن الفاعلة ألا تسكت؟ فلما قال ذلك اشتد غضب أبي العباس. ونظر إلى رجال خراسان وهم وقوف بالأعمدة فقال لهم بالفارسية: دهيد، يعني اضربوا. فشدخوا رءوسهم بالأعمدة حتى أتوا على آخرهم، ثم نظر إلى سليمان وقال له: يا أبا الغمر مالك في الحياة خير بعد هؤلاء، فقال: أجل، فشدخوا رأسه وجروه برجله حتى ألقوه مع القوم، وصاج الرجل الكلبي فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل من كلب، فقال أبو العباس: ساعدت القوم في سرائهم فساعدهم في ضرائهم، وأومأ أن اضربوه فإذا هو مع القوم، ثم جمعهم وأمر بالأنطاع فبسطت عليهم ثم جلس فوقهم، ودعا بالغداء فتغدى، وإن بعض القوم ليتحرك، وفيهم من يسمع أنينه، فلما فرغ من غدائه قيل له هلا أمرت بهم فدفنوا أو حولوا إلى مكان آخر فإن رائحتهم تؤذيك؟ قال: والله إن هذه الرائحة لأطيب عندي من رائحة المسك والعنبر الآن سكن غليلي.

ومما يستحسن من قول سديف في الغزل:

أعيب التي أهوى وأطري جواريا

 

يرين لها فضلا عليهـن بـينـا

برغمي أطيل الصد عنها إذا بدت

 

أحاذر آذاناً علـيهـا وأعـينـا

ومن قول سديف في أمير كان على مكة من بني جمح:

وأمير من بني جمـح

 

طيب الأعراق ممتدح

إن أبحناه مـدائحـنـا

 

عاضنا منهن بالوضح

ولما ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة صار إليه سديف هارباً من المنصور، وأظهر عداوة بني العباس. وصعد يوماً المنبر يخطب فقام سديف مقبلاً عليه بوجهه وقال:

إيه أبا إسـحـاق مـلـيتـهـا

 

في صحة منك وعمر طـويل

اذكر هداك اللـه ذحـل الألـى

 

يسرى بهم في مصمتات الكبول

يعني أباه ومن حمل معه. فلما قتل إبراهيم هرب سديف وتوارى حتى سكنت تلك الفورة ثم كتب إلى المنصور يسأله أن يمن عليه بالعفو وكتب إليه بهذه الأبيات:

أيها المنصور يا خير العرب

 

خير من ينميه عبد المطلـب

أنا مولاكم وأرجو عفـوكـم

 

فاعف عني اليوم قبل العطب

فوقع المنصور في كتابه بخطه:

لم يلدني محمد بن علي

 

إن تسميت بعدها بوليّ

ثم كتب إلى عبد الصمد بن علي عمه يأمره بقتله فيقال: أنه قطع يديه ورجليه ثم ضرب عنقه، وقيل أيضاً: إنه حمل إلى المنصور فدفنه حياً. وحدثني محمد بن حازم عن النمري الشاعر- وكان كثير الرواية لشعر سديف- قال: ما كان في زمان سديف أشعر منه ولا أطبع منه ولا أقدر على ما يريده من الشعر. وكان النمري ينكر أن يكون المنصور قتله ويقول:

ويحكم، ما نزل ببني أمية ما نزل إلا بسديف، وكان يقول: ما فارق سديف أبا العباس ثم من بعده المنصور إلى أن مات. قال: وأشعاره ونوادره كثيرة، ولكن اقتصرنا منه على هذه الجملة.