أخبار مروان بن أبي حفصة

هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة: وكان أبو حفصة مولى لمروان بن الحكم أعتقه يوم الدار لأنه أبلى يومئذ. والدليل على ذلك قول مروان يذكر عتق أبي حفصة:

بنو مروان قوم أعتقوني

 

وكل الناس بعدهم عبيد

حدَّثني عبد الرحمن بن محمد التميمي عن أبيه محمد بن حنظلة قال: قال شراحيل بن معن بن زائدة: عرضت في طريق مكة ليحيى بن خالد وهو في قبة وعديله يوسف القاضي وهما يريدان الحج، فإني لأسير تحت القبة إذ عرض له رجل من بني أسد في شارة حسنة فأنشده شعراً؛ فقال يحيى في بيت: ألم أقل لك ألا ترجع إلى مثل هذا المعنى؟ ثم قال: يا أخا بني أسد، إذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول:

بنو مطر يوم اللـقـاء كـأنـهـم

 

أسودٌ لها في بطن خفّان أشـبـل

همُ يمنعون الجار حتى كـأنّـمـا

 

لجارهم بين السماكـين مـنـزل

لهاميم في الإسلام سادوا ولم يكـن

 

كأوّلهم فـي الـجـاهـلـية أوّل

هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا

 

أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

وما يستطيع الفاعلون فعـالـهـم

 

وإن أحسنوا في النائبات وأجملـوا

ثلاث بأمثال الجبـال حـبـاهـم

 

وأحلامهم منها لدى الوزن أثقـل

فقال له أبو يوسف:- وقد أعجبته الأبيات- : من قائل هذه الأبيات يا أبا علي؟ قال يحيى: قائلها مروان بن أبي حفصة يمدح أبا هذا الفتى الذي تحت القبة؛ قال شراحيل: فرمقني أبو يوسف بعينه وأنا على فرسي.
وقال: من أنت يا فتى حياك الله؟ قلت: شراحيل بن معن بن زائدة. قال شراحيل: فوالله ما مرت عليّ ساعة قط. كانت أقر لعيني من تلك الساعة ارتياحاً وسروراً.

وكان يحيى بن أبي حفصة تزوج عمرة بنت إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاري على صداق عشرين ألف درهم، وسير إليها مهرها قبل أن يبنى بها، ولام الناس إبراهيم في ذلك وقالوا: زوجت عبداً وفضحت نفسك وأباك.

وأرادوه على انتزاعها فأبى وعظم الأمر في ذلك جداً ففي ذلك يقول إبراهيم:

فما تركت عشرون ألـفـاً لـقـائل

 

مقالاً ولـم أحـفـل مـقـالة لائم

فإن كنت قد زوجت مولى فقد مضت

 

به سنّةٌ قبلـي وحـب الـدراهـم

ويقال: إن أبا حفصة كان يهودياً، فأسلم على يدي عثمان، فأثرى وكثر ماله، وتولى الخزن لبني أمية، وتزوج خولة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم، وكان قيس بن عاصم سيد أهل الوبر، فقال في ذلك القلاخ الشاعر يهجو مقاتل بن طلبة:

نبئت خولة قالت حين أنـكـحـهـا

 

لطالما كنت منك العار أنـتـظـر

أنكحت عبدين ترجو فضل مالهمـا

 

في فيك مما رجوت الترب والحجر

للـه در جـياد أنـت قـائدهـــا

 

برذنتها وبها التحجـيل والـغـرر

ومروان من المجيدين المحككين للشعر ومما يستحسن له مراثيه في معن بن زائدة، ومدائحه أيضاً العجيبة فيه. ويقال: إنه دخل على جعفر ابن يحيى البرمكي، وقد امتدحه بهذه القصيدة، فوقف ينشد:

أبر فما يرجو جواد لـحـاقـه

وزير إذا ناب الخليفة حادث

 

أشار بما عنه الخليفة يصدر

       

فقال ويحكّ! أنشدني مرثيتك في معن:

وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا

فأنشده إياها حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه، فلما سكن قال: أثابك أحد من ولده وأهله على هذه شيئاً؟ قال: لا. قال جعفر: فلو كان معن حياً ثم سمعها منك، كم كان يثيبك عليها؟ قال: أربعمائة دينار. قال جعفر: لكني أظن أنه كان لا يرضى لك بذاك، وقد أمرنا لك عن معن بضعف ما قلت، وزدنا نحن مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفاً وسبعمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك. فقال مروان يذكر ذلك، ويمدح جعفر، وزادها في مرثيته لمعن:

نفحت مكارماً عن قبر معن

 

لنا ممّا تجود به سـجـالا

فعجلت العطية يا بن يحيى

 

بتأدية ولم ترد المـطـالا

فكافي عن صدى معن جواد

 

بأجواد راحةٍ بذلت نـوالا

بني مالك خالد وأبوك يحيى

 

بناء في المكارم لن ينـالا

كأنّ البرمكي بكـلّ مـال

 

تجود بـه يداه يفـيد مـالا

ومن قلائده وأمهات قصائده كلمته في معن بن زائده- وهو معن بن زائده بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن قيس ابن شراحيل بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان- والقصيدة مختارة أولها:

أمسى المشيب من الشباب بديلاً

 

ضيفاً أقام فمـا يريد رحـيلاً

والشيب إذ طرد السواد بياضه

 

كالصبح أحدث للظلام أفـولا

وقال مروان يفتخر، وليس له فخر قديم ولا حديث غير الشعر، وكان ناصبياَّ معرّضاً في شعره بآل الرسول صلى الله عليه وعليهم:

ذهب الفرزدق بالفخار وإنما

 

حلو الـقـصـيد ومـره لـجـــرير

ولقـد هجا فأمض أخطل تغلـب

 

وحوى اللها ببـيانـه الـمـشـهـور

كل الثلاثة قد أبـر بـمـدحــه

 

وهجـاؤه قد سار كل مــسـير

ولقـد جريت مع الجياد ففتـهـا

 

بعنـان لا شبـم ولا مـبـهــور

ما نالت الشعراء من مستخلــف

 

ما نلـت مـن جـاه وأخــذ بـــدور

عزت معاً عند الملوك مقالتي

 

 ما قال حيهم مع المقبور

ولقد حبيت بألف ألف تثب

 

إلا بـســيب خليفة وأمـــير

ما زلـت آنــف أن أؤلف مدحـه

 

إلا لـصـاحـب مـنـبـر وســرير

ما ضـرنـي حـسـد الـلــئام ولم يزل

 

ذو الـفـضـل يحـسـده ذو والتقـصـير

وتـظـل لـلإحـسـان ضـامـنة القـرى

 

من كـل تـامـكة الـسـنـام عـقـيري

أروى الـظـمـاء بـكـل حـوض مـفعـم

 

جوداً وأتـرع للـسـغـاب قـدوري

أعـطـى الـلـهـا مـتـبـرعـاً عوداً على

 

بدءٍ وذاك عــلـــيّ غـير كثـير

وإذا أهـدرت مـع الـقـروم مـحاضراً

 

في مـوطـن فـضـح الـقــروم هـديري

ومما يستحسن لمروان قوله:

يا من بمطلع شمس ثم مغربـهـا

 

إن السخاء عليكم غـير مـردود

قل للعفاة أريحوا العيس من طلب

 

ما بعد معن حليف الجود من جود

قل للمنية لا تبقي عـلـى أحـد

 

إذ مات معن فما ميت بمفـقـود

والقصيدة مشهورة، وهي طويلة وإنما ذكرت فقراً وعيوناً ومن أراد شعر القوم على الوجه فإن دواوينهم موجودة، ولا سيما هؤلاء المشهورين عند أكثر الناس، فأما من ليس يوجد شعره إلا عند الخواص فسنضمن الكتاب لهم قطعة صالحة، وصدراً وافراً، ليكون أكمل للفائدة عندنا، وسنورد من شعر مروان وطبقته من المعروفين القصائد التي يقل وجودها عند أكثر الناس، مثل كافيته وما أشبهها من مخزون شعره، والكافية هذه، وأولها:

لام في أم مالـك عـاذلا كـا

 

ولعمر الإله ما أنصـفـاكـا

 

وكلا عاذليك أصـبـح مـمـا

 

بك خلوا، هواه غير هـواكـا

 

عذلا في الهوى، ولو جـربـاه

 

أسعدا إذ بكيت أو عـذراكـا

 

كلما قلت: بعض ذا اللوم قـالا

 

إن جهلاً بعد المشيب صباكـا

 

بثّ في الرأس حرثه الشيب لما

 

حان إبان حرثـه فـعـلاكـا

 

فاسل عن أم مالك، وأنه قلبـاً

 

طالما في طلابـه عـنّـاكـا

 

أصبـح الدهر بعد عشر وعـشـر

 

وثلاثـين حجة قـد رماكا

ما ترى الـبـرق نـحـو قران إلا

 

هاج شوقاً عليك فاستبـكاكـا

قد نأتك التي هـويت وشـطت

 

بعد قرب نـواهم من نواكـا

وغدت فيهم أوانـس بـيض

 

كعواطـي الظباء تعـطوا الأراكا

كنت ترعى عهودهـن وتعـصـي

 

في هواهن كل لاح لـحاكـا

إذ تلاقي من الصـبابة برحا

 

وتجيب الهوى إذا ما دعاكـا

عدّ عن ذكرهن واذكر هـماما

 

بقوى حبلـه عـقـدت قـواكـا

أين لا أين مثـل زائدة الـخـيرات إلا أبـوه؟ لا أين ذاكا

 

 

يا بن معن يفكُّ كلّ أسير

 

مسلم لا يبيت يرجـو الفكـاكـا

وبه تفعـض الرئيس لدى الـمـو

 

ت إذا اصطكـت العوالي اصـطكاكـا

مطري أغر تلقـاه بـالـعر

 

ف قؤولا وللخـنـا تـراكــا

من يرم جاره يكن مثـل ما را

 

م بكفّـيه أن ينال الـسـمـاكـا

لم تزل عند موطن يا بن معنعن مقام تـقـومـه قـدمكا

 

 

إنّ معناً يحمي الثغور ويعطي

 

ما له في الـعلا وأنت كذاكـا

لا يضر امـرأً إذا نـال ودّا

 

منك ألا ينالـه مـن سواكــا

ما عدا المجتدي أبـاك. وما من

 

راغب يجتديه إلا اجـتـداكـا

ودّ كل امرئ من النـاس لو كـا

 

ن أبوه لدى الـفخار أبـاكــا

قد وفى البأس والندى لك بـالـعق

 

د، كما قد وفيت إذ حالفـاكــا

وأجاباك إذ دعوت بلبيك كما قد أجبت إذ دعواكـا

 

 

فهما دون من له تخلص الود، وترعى إخاءه أخواكا

 

 

لست ما عشت والوفاء سناءٌلهما مخفراً ولن يخفراكا

 

 

رفعت في ذرا المعالي قديماً

 

فوق أيدي الـملـوك طرّاً يداكا

وسما الفرع منك في خير أصل

 

من نزار فطاب منه ثـراكـا

فبمعن تسـمو، وزائدة الخي

 

ر، وعبد الإله، كل نمـاكــا

زين ما قدموا. ولم تلف صعبا

 

في سلاليم مجدهم مرتقـاكــا

أعصمت منكـم نـزارٌ بـحبل

 

لم يريدوا بغيره اسـتـمسـاكـا

ورأبتم صدوعهـا بـحـلـومٍ

 

راجحات دفعن عنها الهـلاكــا

فأشارت معاً إليكم وقالت

 

إنمـا يرأب الصـدوع أولاكــا

يئس النـاس أن ينالوا قديماً

 

في المعالي لسـعيكم إدراكـــا

إن معنا كما كسـاه أبـوه

 

عزة السابق الجواد كسـاكـــا

كم به عارفاً يخالــك أيا

 

ه، وطوراً يخالـه إياكـــا

لك من فضل بأسـه يعرف البـأ

 

س، كما من نداه فـضل نـداكا

كل من قد رآه يعـرف مـنـه

 

نسـم الـخـير فيك حين يراكـا

سبـق النـاس إذ جرى ثم صلـي

 

ت كما من أبيه جاء كذاكــا

دانياً مـن مدى أبـيه مــداه

 

مثـل ما من مداه أمـسـى مداكا

ماجدا النيل نيل مصـر إذا ما

 

طم آذيه كـبـعض جداكـا

زاد نعمى أبي الوليد تمامـاً

 

فضل ما كان من جدي نعماكـا

سخطك الحتف حين تسخط، والغنم إذا ما رضيت يوماً رضاكا

 

 

كل ذي طاعة من الناس يرجو

 

ك كما كل مجرمٍ يخشـاكا

           

وهذه القصيدة تسمى الغراء أخذ عليها من ابن معن مالاً كثيراً. ويقال ما أخذ أحدٌ من الشعراء المتقدمين ولا المحدثين ما أخذ مروان بالشعر. كان رسمه على الخلفاء مائة ألف درهم.

ومن قلائده وأمهات شعره هذه اللامية:

كأن التي يوم الرحيل تعرضـت

 

لنا من ظباء الرمل أدماء مغزل

تصدّ لمكحول المـدامـع لابـنٍ

 

إذا خلفته خلفها، الطرف يعمل

وأشعاره كثيرة، ونوادره جمة.

وحدثني أبو مالك عن أبيه أن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله أتى الحسن بن علي فقال: أنا مولاك- وكان قديماً يكتب لعلي بن أبي طالب عليه السلام. فقال فيه مولى لتمام بن العباس بن عبد المطلب:

جحدت بني العباس حـقٌ أبـيهـم

 

فما كنت في الدعوى كريم العواقب

متى كان أولاد البنات كـوارث

 

يحوز ويدعى والداّ في المناسب

فسرق مروان هذا المعنى، وأودعه قصيدته التي يقول فيها:

أنّى يكون وليس ذاك بكائن

 

لبني البنات وراثة الأعمام؟

فأخذ بهذا البيت مالاً عظيماً.

ومما يستحسن من شعره كلمته في معن يرثيه ويذكر فعاله، وذلك قوله:

مضى لسبيله معنٌ وأبـقـى

 

مكارم لن تبيد ولـن تـنـالا

كأنّ الشمس يوم أصيب معنٌ

 

من الإظلام ملبسـه جـلالا

هو الجبل الذي كانت نـزار

 

تهد من العدو بـه جـبـالا

تعطلت الثغور لفقد مـعـنٍ

 

وقد يروي بها الأسل النهـالا

وأظلمت العراق وأورثتـهـا

 

مصيبته المجلـلة اخـتـلالا

وظل الشام يرجف جانـبـاه

 

لركن العز حين وهى ومالا

وكادت من تهامة كـل أرض

 

ومن نجدٍ تزول غـداة زالا

فإن يعل البلاد له خـشـوع

 

فقد كانت تطول به اختـيالا

أصاب الموت يوم أصاب معناً

 

من الأحياء أكرمهم فـعـالا

وكان الناس كلهم لـمـعـنٍ

 

إلى أن زار حفرتـه عـيالا

ولم يك طالب للعرف ينـوي

 

إلى غير ابن زائدة ارتحـالا

مضى من كان يحمل كل ثقل

 

ويسبق فيض نائلة السـؤالا

وما عمد الوفود لمثل مـعـن

 

ولا حلوا بساحته الـرحـالا

ولا بلغت أكفّ ذوي العطـايا

 

يميناً مـن يديه ولا شـمـالا

وما كانت تجف لـه حـياض

 

من المعروف مترعة سجالا

فليت الشامـتـين بـه فـدوه

 

وليت العمر مدّ له فـطـالا

ولم يك كنزه ذهبـاً ولـكـن

 

سيوف الهند والحلق الفضالا

وذابلة من الخطـيّ سـمـراً

 

ترى فيهن لينـاً واعـتـدالا

وذخراً من محامد بـاقـياتٍ

 

وفضل لهاً به الإفضال نـالا

مضى لسبيله من كنت ترجو

 

به عثرات دهرك أن تقـالا

وقائلة رأت جسمي ولـونـي

 

معاً عن عهدها قلبا فـحـالا

أرى مروان عاد كذي نحـولٍ

 

من الهندي قد فقد الصقـالا

رأت رجلاً براه الحزن حتى

 

أضر به وأورثـه خـبـالاً

وأيام المنون لهـا صـروف

 

تقلب بالفتى حـالا فـحـالا

كأن الليل واصل بعد مـعـنٍ

 

ليالي قد قرن بـه فـطـالا

فلهف أبي عليك إذ العطـايا

 

جعلن مني كواذب واعتـلالا

ولهف أبي عليك إذ اليتامـى

 

غدوا شعثاً كأن بهـم سـلالا

ولهف أبي عليك لكل هيجـا

 

غدت تلقى حواضنها السمالا

ولهف أبي عليك إذ القوافـي

 

لممتدح بها ذهبـت ضـلالا

أقمنا بالـيمـامة إذ يئسـنـا

 

مقامـاً لا نـريد لـه زيالا

وقلنا: أين نرحل بعد مـعـن

 

وقد ذهب النوال فلا نـوالا

سيذكرك الخليفة غـير قـالٍ

 

إذا هو بالأمور بلا الرجـالا

حباك أخو أمية بالـمـراثـي

 

مع المدح اللواتي كان قـالا

أقام وكان نحوك كـل عـام

 

يطيل بواسط الكور اعتقـالا

وألقى رحلة أسـفـاً وآلـى

 

يميناً لا يشـد لـه حـبـالا

وأشعار مروان كثيرة جدّاً، ولو أوردنا عيون شعره لطال بها الكتاب، فليس له إلاّ كل عينٍ، ولسنا نخرج عن الحدّ الذي استنناه من الإيجاز والاختصار.