أخبار أبي دلامة

اسمه زند بن الجون، بالنون، وقال بعضهم: زيد بالباء وقد غلط. هكذا رواه العلماء بالنون، وكان أبو دلامة مطبوعاً مفلقاً ظريفاً كثير النوادر في الشعر وكان صاحب بديهة، يداخل الشعراء ويزاحمهم في جميع فنونهم، ينفرد في وصف الشراب والرياض وغير ذلك بما لا يجرون معه، وكان مداحاً للخلفاء.

حدَّثنا أبو مالك عبيد الله بن محمد قال: حدَّثنا أبي قال: لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور والناس عنده تعزيه فأنشأ يقول:

أمسيت بالأنبار يا بن محمد

 

لا تستطيع إلى البلاد حويلا

ويلي عليك وويل أهلي كلهـم

 

ويلا يكون إلى الممات طويلاً

مات الندى إذ مت يا بن محمد

 

فجعلته لك في التراب عديلاً

أني سألت الناس بعدك كلهـم

 

فوجدت أسمح من رأيت بخيلا

ألشقوتي أخرت بعدك لـلـذي

 

يدع السمين من العيال هزيلا

فأبكى الناس قوله، فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك بعدها تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقال أبو دلامة: إن أبا العباس كان لي مكرماً، وهو الذي جاء بي من البدو، كما جاء الله يوسف عليه السلام، بإخوته، فقل كما قال: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" فقال له: أقلناك فسل حاجتك. فقال أبو دلامة: قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً في مرضه، ولم أقبضها، فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ فقال: هؤلاء وأشار بيده إلى جماعة ممن حضره، فقام سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: يا أمير المؤمنين، صدق أبو دلامة ونحن نعلم ذلك.

فقال المنصور لأبي أيوب الخازن: يا سليمان أدفعها إليه وأخرجه في هذا الجيش الخارج إلى الطاغية، يعني عبد الله بن علي- وكان قد أظهر الخلاف بالشام ودعا إلى نفسه وجمع جمعاً كثيراً وبقايا أصحاب مروان: خلقاً من أهل الشام. وخاف المنصور أن يتمادى أمره- فوثب أبو دلامة وقال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تخرجني مع هذا العسكر فإن والله مشئوم، فقال المنصور: إن يمني يغلب شؤمك فاخرج مع العسكر فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين، ما أحب لك أن تجرب ذلك، فإني لا أدري أي المنزلتين تحصل، ولا آمن أن يغلب شؤمي، فقال له: دع عنك هذا، فما لك بد من المسير في الجيش، قال: يا أمير المؤمنين والله لأصدقنك، إني شهدت تسعة عساكر كلها هزمت، فأنا أعيذك بالله أن يكون العاشر. فاستفرغ ضحكاً أبو جعفر، وأمره بالمقام مع عيسى بن موسى بالكوفة.

وحدثني محمد بن خالد البصري قال: حدَّثني ابن أبي العوجاء قال: أراد موسى بن داوود بن علي بن عبد الله بن عباس الخروج إلى الحج. فدعا أبا دلامة وقال تأهب للخروج معي إلى هذا الوجه المبارك، فإنما هو الحج وأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: إن كان عليك دينٌ فاقضه وخلف لعيالك ما يكفيهم واخرج- وكان طمع في أن يعادله فيتمتع بفوائده وملحه ونوادره، فإنه كان من أتراب الملوك- فأخذ المال وأجابه إلى ذلك، فلما حضر خروج موسى طلبه فلم يقدر عليه، ففتش عن أمره، فقيل له: إنه بسواد الكوفة يتقلب في حانات الخمارين، وخاف موسى أن يفوته الحج فقال: اتركوه إلى لعنة الله، وخرج فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة قد خرج من قرية يريد الحيرة، فقال: ائتوني بعدو الله الفاسق، هرب من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حانات الخمارين، فجيء به إليه، فقيده وألقاه في بعض المحامل، وساروا، فلما رأى أبو دلامة ذلك أنشأ يقول:

يا أيها الناس قولوا أجمعين معـاً

 

صلّى الإله على موسى بن داوود

كأن ديباجي خـديه مـن ذهـب

 

إذا تشرف في أثوابـه الـسـود

أما أبوك فعين الجود نـعـرفـه

 

وأنت أشبه خلق الله بـالـجـود

نبئت أن طريق الحج معـطـشة

 

من الطلاء وما شربي بتصـريد

والله ما بي من خير فتطلبـنـي

 

في المسلمين وما ديني بمحمـود

إني أعـوذ بـداوود وتـربـتـه

 

من أن أحج بكـرهٍ يا بـن داوود

فقال موسى القوه عن المحمل لعنه الله حتى يذهب حيث يشاء، فألقوه عن المحمل ومضى لوجهه، فما زال أبو دلامة في السواد حتى أتلف ذلك المال؛ وانصرف موسى. فدخل أبو دلامة عليه مهنئاً فقال له: يا محارف ماذا فاتك من تلك المشاهد؟ فقال: يا سيدي والله فاتني أفاضلها، يعني الحانات.

حدَّثني ابن داوود قال: حدَّثني العوفي قال: دخل أبو دلامة على المهدي وعنده عيسى بن موسى والعباس بن محمد وناس من بني هاشم، فقال له المهدي: اهج أينا شئت. فنظر إلى القوم وتصفحهم، فكلما مر نظره إلى رجل غمز بعينه: إني على رضاك ولا تفعل. فمكث هنيهة ثم أنشأ يقول:

ألا أبلـغ لـديك أبـا دلامة

 

فلست من الكرام ولا كرامة

جمعت دمامة وجمعت لؤماً

 

كذاك اللؤم تتبعه الـدمـامة

فإن تك يا عليج أصبت مالاً

 

فيوشك أن تقوم بك القيامة

إذا لبس العمامة قلت قرد

 

وخنزير إذا وضع العمامة

فضحك المهدي وتعجب من حسن ما أتى به من التخلص مما كان دفع إليه، فلم يبق أحد في القوم إلا وصله وأهدى إليه.

وخرج أبو دلامة مع روح بن حاتم في بعض الحروب، فلما التقى الجمعان قال أبو دلامة: لو أنّ تحتي فرساً من خيلك، وفي وسطي ألف دينار، لأشجيت عدوك نجدة وإقداما. قال روح: ادفعوا إليه ذلك فلما أخذه أنشأ يقول:

إني أعوذ بـروح أن يقـدمـنـي

 

إلى القتال فتشقى بي بـنـو أسـد

إن الملهب حب الموت أورثـكـم

 

ولم أرث نجدة في الحرب عن أحد

فأجابه روح، وكان شاعراً أديباً بطلا شجاعاً هزبراً ليثاً:

هون عليك فلن أريدك في وغى

 

لتطاعن وتـنـاوش وضـراب

كن واقفاً في الجيش آخر آخـر

 

فإن انهزمت مضيت في الهراب

حدَّثني محمد بن الصلت الكوفي قال: اختصم أبو دلامة مع رجل إلى عافية قاضى أبي جعفر المنصور، فأدعى الرجل عليه، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال: اسمع أولاً، وأنشأ يقول:

لقد خاصمتني دهـاة الـرجـال

 

وخاصمـتـهـا سـنة وافـيه

فما أدحض الـلـه لـي حـجةً

 

ولا خيب الـلـه لـي قـافـيه

فمن خفت من جوره في القضاء

 

فلسـت أخـافـك يا عـافـيه

فغضب وقال: لأشكونك إلى أمير المؤمنين. قال أبو دلامة: ولم تشكوني؟ قال: لأنك هجوتني قال: إذن والله يعزلك. قال عافيه: ولم يعزلني؟ قال: لأنك لا تعرف المدح من الهجاء.

قال: ومدح أبو دلامة المهدي، فلما أنشده سر بذلك وقال: سل حاجتك. فقال له: يا أمير المؤمنين تأمر لي بكلب صيد، قال المهدي: يا ابن الحمقاء وما تصنع بكلب؟ وأية حاجة هذه؟ قال: يا أمير المؤمنين، الحاجة لي أم لك؟ قال: بل لك. قال: فإني أسألك أن تهب لي كلب صيد. فأمر له بكلب، فقال: يا أمير المؤمنين وإن تهيأ لي أن أخرج إلى الصيد أفاخرج راجلاً؟ فأمر له بدابة قال: ومن يسوس الدابة؟ قال: أعطوه سائس. قال: فمن يطبخ لنا في صيدنا؟ قال: أعطوه طباخاً. قال: وهؤلاء كلهم من يعولهم؟ قال: اكتبوا له بمائتي جريب غامرة قال: فما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا شيء فيها، فأنا أكتب لأمير المؤمنين بمائة ألف جريب من صحراء مزيقيا. قال: فمن أبن تريد أن أجعلها لك؟ قال: هب لي جريباً واحداً من بيت المال، قال: على ألا تخرج ما فيه، قال: إذن يكون غامراً. فضحك منه وقال: قد جعلناها لك عامرة كلها، قال: يا أمير المؤمنين ناولني يدك أقبلها. قال: أما هذه فدعها. قال: والله ما منعت عيالي شيئاً هو أهون عليهم من هذا. فضحك منه حتى استلقى.

وحدث أبو مالك عبيد الله بن محمد عن أبيه قال: أنشد أبو دلامة أبا جعفر المنصور شعراً استحسنه جداً، فجعل من عنده من ندمائه يظهرون استحسانه، فلما أفرطوا قال أبو دلامة: والله يا أمير المؤمنين إنهم لا يعرفون رديئة من جيده، وإنما يستحسن منه باستحسانك، وإن شئت بينت لك ذلك، قال: افعل. فأنشده:

أنعت مهراً كاملا في قدره

 

مركباً عجانه في ظهـره

حتى فرغ منها، فاستحسنوها، فقال أبو دلامة: ألم أخبرك يا أمير المؤمنين؟ قال المنصور: صدق والله أبو دلامة، كيف يكون عجانه في ظهره؟ قال الحنفي: خرج أبو دلامة مع المهدي وعلى بن سليمان إلى الصيد- وكان أبو دلامة صاحب نوادر- فرمى المهدي بنشابة فأصاب ظبياً. ورمى علي بن سليمان فأصاب كلب صيد. فضحك المهدي فنظر إلى أبي دلامة فقال: قد وجدت مقالا فقل ولك حكمك. فقال:

قد رمى المهدي ظبياً

 

شكّ بالسهم فـؤاده

وعليٌّ بن سـلـيمـا

 

ن رمى كلباً فصاده

فهنيئاً لكـمـا كـلّ

 

امرئٍ يأكـل زاده

فاستفرغ المهدي ضحكاً وقال لعلي بن سليمان: لأحكمنك على حكمه، قال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين. فقال: لا بد من ذلك. قال فإني أحكم أبا دلامة. قال: نعم إذن. وافتدى منه بمال.

أخبرنا أبو العباس بن محمد قال: قال لي محمد بن منصور قال لي سعيد بن مسلم: ما رأيت شاعراً أحسن زياً من أبي دلامة، ولا أظهر مروءة منه، ولا أنظف لباساً. ومما يستحسن له مرثيته للمنصور وتهنئة المهدي في قصيدته، يذكر في كل بيت المعنيين. والقصيدة جيدة، وهي التي يقول فيها:

عينان: واحدة ترى مـسـرورة

 

بإمامها جذلى وأخرى تـذرف

تبكي وتضحك مرّة، ويسوءهـا

 

ما أبصرت ويسرها ما تعـرف

فيسوءها موت الخليفة محرمـاً

 

ويسرها أن قـام هـذا الأرأف

ما إن رأيت ولا سمعت كما أرى

 

شعراً أرجله وآخـر أنـتـف

هلك الخلـيفة يا لأمة أحـمـد

 

فأتاكم من بعده مـن يخـلـف

أهدى لهذا الله فـضـل خـلافة

 

ولذاك جنات النعيم تـزخـرف

فابكوا لمصرع خيركم ووليكـم

 

واستشرفوا لمقام ذا وتشرفـوا

حدَّثني نصر بن محمد الخزري عن بعض رواة الأخبار قال: كان أبو العباس مولعاً بأبي دلامة، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً لحسن أدبه، وجودة شعره، وكثرة ملحه، ومعرفته بأخبار الناس وأيامهم، وكان أبو دلامة خليعاً ماجنا، وكان يهرب منه، ويأتي حانات الخمارين، فيشرب مع إخوانه. ويكره مجالس الخلفاء لما في ذلك من المشقة والتعب وشدة التوقي، أبو دلامة يحب أن ينبسط ويتكلم، وكان لا يتهيأ ذلك له في مجلس الخلافة، فهرب، فعاتبه أبو العباس على ذلك وقال: ويحك، أراك تحيد عنا وعن مجالسنا، وتهرب منا. فليت شعري لم ذاك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، ما الخير والشرف والعز والفضل إلا في مجالستك، والوقوف على أبوابكم، ولزوم خدمتكم، ونكره مع ذلك أن تملونا، فنقبض على أنفسنا بعض القبض، ليكون أبقى لحالنا عندكم. قال أبو العباس: ما مللتك قطّ، وما ذاك كما ذكرت، ولكن قد اعتدت حانات الخمارين والخلعاء والمجان. ثم وكل به، وألزمه ألا يبرح حضرته، وكان يصلي معه الصلوات كلها، فأضر ذلك به. ففي ذلك يقول أبو دلامة:

ألم تعلمي أن الـخـلـيفة لـزنـي

 

بمسجده والقصر، مالي وللقـصـر

أصلي به الأولى مع العصـر دائبـاً

 

فويلي من الأولى وويلي من العصر

ويحبسني عن مجـلـس اسـتـلـذه

 

أعلل فيه بالسمـاع وبـالـخـمـر

ووالله ما بـي نـية فـي صـلاتـه

 

ولا البر والإحسان والخير من أمري

وما ضره والـلـه يصـلـح أمـره

 

لو أن ذنوب العالمين على ظهـري

فلما سمع أبو العباس الأبيات قال: والله ما يفلح هذا أبداً ، فذروه وأصحابه. ومن شعر أبي دلامة يهجو عليّ بن صالح وقد كان وعده شيئاً ولم يف له به:

لعلي بن صالح بن عـلـيّ

 

حسب لو يعينه بـسـمـاح

ومواعيده الرياح فـهـل أن

 

ت بكفيك قابض لـلـرياح

وبنو صالح كثـير ولـكـن

 

مالنا في عديدهم من صلاح

غير فضل فإن للفضل فضلاً

 

مستبيناً على قريش البطاح

ومن السائر الجيد قوله:

لو كان يقعد فوق الشمس من كـرمٍ

 

قوم لقيل اقـعـدوا يا آل عـبـاس

ثم ارتقوا في شعاع الشمس وارتفعوا

 

إلى السماء فأنتـم سـادة الـنـاس

ولأبي دلامة في بنية له- يقال لها أم دلام مدلله- يقول فيها ساعة ولدت:  

فما ولدتك مريم أم عيسى

 

ولم يكفلك لقمان الحكيم

ولكن قد تضمك أم سوء

 

إلى لباتهـا وأب لـئيم

ولأبي دلامة كلمته السائرة في أبي مسلم صاحب الدعوة، وكان توعده بالقتل لشيء بلغه عنه. فلما قتله المنصور دخل أبو دلامة، ورأسه في الطست فأنشأ:

أبا مجرم ما غير اللـه نـعـمة

 

على عبده حتى يغيرها العـبـد

أبا مجرم خوفتني القتل فانتحـى

 

عليك بما خوفتني الأسد الـورد

أفي دولة المنصور حاولت غدره

 

ألا إن أهل الغدر أباؤك الكـرد

وهو الذي يحكي عن امرأته:

ناشدتها بكتاب اللـه حـرمـتـنـا

 

ولم تكن بكتاب الـلـه تـرتـدع

فاخر نطمت ثم قالت وهي مغضبةٌ

 

أأنت تتلو كتاب الـلـه يا لـكـع

اذهب تبغ لنا نخـلا ومـزدرعـاً

 

كما لجيراننا نـخـل ومـزدرع

إيت الخليفة فاخدعه بـمـسـألـهٍ

 

إنّ الخليفة للـسـؤال ينـخـدع

وأخبار أبي دلامة وشعره كثيرة، وفيما ذكرنا منه كفاية ونهاية.