أخبار أبي الشيص

هو محمد بن عبد الله بن رزين الخزاعي، ابن عم دعبل: قال أحمد بن إبراهيم الأسدي: قال لي أبو عَصيدة: اجتمع مسلم ابن الوليد صريع الغواني وأبو فراس وأبو الشيص ودعبل بن علي بن رزين في مجلس على الشراب فقالوا: ينشد كل واحد منكم أجود ما قال. ثم قالوا لمسلم: كأنا بك يا أبا الوليد وقد جئت بقولك:

إذا ما عـلـت مـنـا ذؤابة واحـد

 

تمشت به مشى المقيد فـي وحـلِ

هل العيش إلا أن تروح مع الصبـا

 

وتغدو صريع الكأس والأعين النُّجْل

ومن هنا سمى صريح الغواني، سماه بذلك الرشيد، وله مع ذلك قصة عجيبة سنذكرها في أخباره- ثم قالوا لأبي نواس: كأنا بك يا أبا علي قد جئت بقولك:

لا تبكِ ليلى ولا تطـرب إلـى هـنـد

 

واشرب على الورد من حمراء كالوردِ

كأساً إذا انحدرت من كف شـاربـهـا

 

أجدته حمرتها في الـعـين والـخـد

فالكأس ياقوتة والخـمـر لـلـؤلـؤة

 

من كفة لؤلؤة مـمـشـوقة الـقـد

تسقيك من عينها خمـراً ومـن يدهـا

 

خمراً فمالك من سـكـرين مـن بـد

لي سكرتـان ولـلـنـدمـان واحـدة

 

شيء خصصت به من بينهـم وحـدي

ثم قالوا لدعبل: كأنك قد جئت بقولك:

لا تعجبي يا سلم من رجـل

 

ضحك المشيب برأسه فبكى

ومنها:

لا تأخذوا بظـلامـتـي أحـداً

 

طرفي وقلبي في دمي اشتركا

ثم قالوا لأبي الشيص: كأنك قد جئت بقول:

حُلي عقال مطيتي لا عن قلى

 

وأمضى فإني يا أميمة ماضي

اثنان لا تصبو النساءُ إليهـمـا

 

ذو شيبة ومحالف الإنفـاض

قال أبو الشيص: بل أنشدكم أبياتاً قلتها في هذه الأيام. قالوا: هات. فأنشدهم:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

 

متـأخـر عـنـه ولا مـتـقـدمُ

أجد المـلامة فـي هـواك لـذيذة

 

حبّاً لذكرك فليلُـمـنـي الـلـومُ

وأهنتني فأهنت نفسـي جـاهـداً

 

ما مَن يهون عليك ممـن يكـرم

أشبهت أعدائي فصرت أحـبـهـم

 

إذ كان حظي منك حظي منـهـم

قال أبو نواس: أحسنت والله وملحت ولتعلمن أني سآخذ منك هذا المعنى فيشتهر ما أقول ولا يشتهر ما قلت. فأخذه وضمنه قوله في الخصيب:

فما جازه جود وما حل دونـه

 

ولكن يصير الجود حيث يصير

فسار هذا لأبي نواس ولم يسر بيت أبي الشيص إلا دون ذلك.

وحدثني أبو مالك عبيد الله بن محمد قال: قال ابن الأعمش كان أبو الشيص عند عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي وكان من أكرم الناس عليه، لانقطاعه إليه ومدحه إياه، ولما بينهما من العشرة وكان لعقبة بن الأشعث خادم يحبه حباً شديداً، فشرب أبو الشيص ليلة مع عقبة فسكر وبات. فلما كان في بعض الليل دب إلى الخادم، فوجأه الخادم بالسكين فأصاب مقتله، فقال له أبو الشيص: ويحك قتلتني، فأما إذ قد فعلت فلا تفضحني ونفسك. فقال الخادم: وما أصنع؟ قال: هات قراباً فاكسره تحتي لأموت فوقه فيقال: إنه كان سكران فوقع عليه فمات. ففعل ذلك. ومات أبو الشيص من ساعته، فلم يأت على الخادم إلا أيام يسيرة حتى حدث مولاه الحديث فلم يُنَهنِه عقبة أن قتل الخادم.

وكان أبو الشيص أحد شعراء الرشيد ممن قد مدحه مدائح كثيرة ثم لما مات الرشيد رثاه ومدح محمداً الأمين فمما قال في ذلك:

جرت جوار بالسعد والنحـس

 

فنحن في وحشة وفي أنـسِ

العين تبكي والسن ضاحـكة

 

فنحن في مأتم وفي عـرسِ

يضحكنا القـائم الأمـين ويُب

 

كينا وفاةُ الإمـام بـالأمـس

بدران: بدر هذا ببغداد في ال

 

خلد وبدر بطوس في الرمس

ومما يختار من شعره قوله:

أبقى الزمان به ندوب عضاض

 

ورمى سواد قرونه بـبـياضِ

نفرت به كأس النديم وأغمضت

 

عنه الكواعب أيما إغـمـاض

ولربما جُعلت محاسن وجـهـه

 

لجفونها غرضاً من الأغراض

حسر المشيب قناعه عن رأسه

 

فرمينه بالصـد والإعـراض

اثنان لا تصبو النساء إليهـمـا

 

ذو شيبة ومحالف الإنـفـاض

فوعودهن إذا وعدنك بـاطـل

 

وبروقهن كـواذب الإيمـاض

لا تنكري صدى ولا إعراضـي

 

ليس المقل على الزمان براض

حُلّى عِقال مطيتي لا عن قلـى

 

وأمضى فإني يا أميمة مـاض

عُوِّضتُ عن برد الشباب ملاءةً

 

خَلَقاً وبئس معوضة المعتاض

أيام أفراس الشبـاب جـوامـحٌ

 

تأبى أعنتها علـى الـرواض

وركائبٍ صرفت إليك وجوهها

 

نكبات دهر للفتى عـضـاض

شدوا بأعواد الرحال مـطـيهـم

 

من كل أهوج للحصى رضاض

يرمين بالمرء الـطـريق وتـارة

 

يَحذفن وجه الأرض بالرضراض

قطعوا إليك رياض كل تـنـوفة

 

ومهامه ملس المتـون عـراض

أكل الوجيف لحومها ولحومـهـم

 

فأتوك أنقاضاً علـى أنـقـاض

ولقد أتتك على الزمان سواخطـاً

 

فرجعن عنك وهن عنـه رواض

إن الأمان من الـزمـان وريبـه

 

يا عُقبَ شطا بحرك الـفـياض

بحر يلوذ المعتـفـون بـنـيلـه

 

فعم الجداول مُتـرع الأحـواض

ثبت المقام إذا الـتـوى بـعـدوه

 

لم يخش من زلـل ولا إدحـاض

غيث توشحت الرياض عـهـاده

 

ليث يطوف بـغـابة وغـياض

ومشمرٍ للموت ذيلَ قـمـيصـه

 

قاني القناة إلى الردى خـواض

لأبي محمد المـرجـى راحـتـا

 

ملك إلى أعلى العـلا نـهـاض

فيد تدفـق بـالـنـدى لـولـيه

 

ويد على الأعـداء سـم قـاض

وجناح مقصوص وتحيف ريشـه

 

ريبُ الزمان تحيُّفَ المِقـراض

أنهضته ووصلت ريش جنـاحـه

 

وجبرته يا جابر الـمـنـهـاض

نفسي فـداؤك أي لـيث كـتـيبة

 

يرمى بها بين القنا المـرفـاض

ومن مختار أبي الشيص قوله:

خلع الصبا عن منكبيه مـشـيبُ

 

فطوى الذوائب رأسه المخضوب

نشر البلى في عارضيه عقاربـاً

 

بيضاً لهن على القـرون دبـيبُ

ومما يستحسن له قوله:

نهى عن خُلة الـخـمـر

 

بياض لاح في الشـعـرِ

وقد أغدو وعـين الـشـم

 

س في أثوابها الصـفـر

على جـرداء قـبـاء ال

 

حشا ملهبة الـحـضـرِ

بسـيف صـارم الـحـد

 

وزق احدب الـظـهـرِ

وظبـي يعـطـف الأزرَ

 

ويثنيها على الـخـصـر

على ألطـف مـا شـدت

 

علـيه عـقـــد الأزر

مهاة ترتـمـي الألـبـا

 

ب عن قوس السـحـر

لها طرف يشوب الـخـم

 

ر للندمان بـالـخـمـر

عفيف اللحظ والأعـضـا

 

ء في الصحو وفي السكر

على عذراء لم تـفـتـق

 

بنــار لا ولا قـــدر

عجوز نـسـج الـمـاء

 

لها طوقاً مـن الـشـذرِ

كأن الـذهـب الأحــم

 

ر في حافاتهـا يجـري

وليل تركـب الـركـبـا

 

ن في أجوافه الخـضـر

بأرض تقطـع الـحـير

 

ة فيها بالقطـا الـكـدر

تمسكـت عـلـى أهـوا

 

لها بالـلـه والـصـبـر

وإعمـال بـنـات الـري

 

ح في المهمة والقـفـر

شمـالـيل يصـافـحـن

 

متون الصخر بالصخـر

بإيجـاف يقـد الـلــي

 

ل عن ناصية الـفـجـر

ومما طار لأبي الشيص في الدنيا وسارت به الركبان هذه:

أشاقك والليل ملقى الـجـران

 

غراب ينوح على غصن بـان

أحمُّ الجناح شـديد الـصـياحِ

 

يبكي بعينـين لا تـهـمـلانِ

وفي نعبات الغراب اغـتـرابٌ

 

وفي البان بين بعـيد الـتـدان

لعمري لئن فزعت مقـلـتـاك

 

إلى دمعة قطرهـا غـير وان

فحق لـعـينـيك ألا تـجـف

 

دموعهما وهما تـطـرفـان

ومن كان في الحي بالأمس منك

 

قريب المكان بعيد الـمـكـان

فهل لك يا عيش مـن رجـعة

 

بأيامك المونقات الـحـسـان

فيا عيشنا، والـهـوى مـورق

 

له غصن أخضر الـعـود دانِ

لعـل الـشـبـاب وريعـانـه

 

يسود ما بـيض الـقـادمـان

وهيهات يا عيش مـن رجـعة

 

بأغصانك المائلات الـدوانـي

لقد صدع الشيب مـا بـينـنـا

 

وبينك صدع الرداء اليمـانـي

عليك الـسـلام فـكـم لـيلة

 

جموحٍ وليل خليعِ الـعـنـان

قصرت بك اللهو في جانـبـيه

 

بقرع الدفوف وعزف القـيان

وعذراء لم تفترعهـا الـسـقـاة

 

ولا استامها الشرب في بيت حان

ولا احتـلـبـت درهـا أرجـل

 

ولا وسـمـتـهـا بـنـار يدان

ولكن غذتـهـا بـألـبـانـهـا

 

ضروع يحف بـهـا جـدولان

إلى أن تحول عنهـا الـصـبـا

 

وأهدى الفطام لها المرضعـان

فلم تزل الشمـس مـشـغـولة

 

بصبغتها في بطـون الـدنـان

ترشحهـا لـلـثـام الـرجـال

 

إلى أن تصدى لها الـسـاقـيان

ففضا الخـواتـيم عـن جـونة

 

صدوف عن الفحل بكر عـوان

عجوز غذا المسك أصـداغـهـا

 

مضمخة الجلد بالـزعـفـران

يطوف علـينـا بـهـا أحـور

 

يداه من الكأس مخضـوبـتـان

ليالي تحسب لـي مـن سـنـيَّ

 

ثمـان وواحـدة واثـنـتــان

غلام صـغـير أخـو شــرةٍ

 

يطير معي للـهـوى طـائران

جرور الإزار خلـيل الـعـذار

 

على لعهد الصـبـا بـردتـان

أصـيب الـذنـوب ولا أتـقـي

 

عقوبة ما يكتب الـكـاتـبـان

تنافس فـي عـيون الـرجـال

 

وتعثر بي في الحجول الغوانـي

فأقصرت لما نهاني الـمـشـيبُ

 

وأقصر عن عذلـي الـعـاذلان

وعافـت عـيوف وأتـرابـهـا

 

رُنُوي إليها وملـت مـكـانـي

وراجعت لما أطار الـشـبـاب

 

غرابان عن مفرقـي طـائران

رأت رجلاً وَسَمَتْه الـسـنـون

 

بريب المشيب وريب الـزمـان

فصدت وقـالـت: أخـو شـيبة

 

عديم. ألا بئست الـحـالـتـان

فقلت: كـذلـك مـن عـضـه

 

من الدهر ناباه والمـخـلـبـان

وعجـت إلـى جـمـل بـازل

 

رحيب رحى الزور فحل هجان

سبوح اليدين طمـوح الـجـران

 

غؤول لأنساعـه والـبـطـان

فعضيت أعـواد رحـلـي بـه

 

وناباه مـن زمـع يضـربـان

فلمـا اسـتـقـل بـأجـرانـه

 

ولان على السير بعض اللـيان

قطعت به مـن بـلاد الـشـآم

 

خروقاً يضل بـهـا الـهـاديان

إلى ملك مـن بـنـي هـاشـم

 

كريم الضرائب سبط الـبـنـان

إلى علم الـبـأس، فـي كـفـه

 

من الجود عينان نضـاخـتـان

ومما يستحسن من شعره قوله هذه اللامية:

ختلته المنون بعد اخـتـيال

 

بين صفين من قناً ونصال

في رداء من الصفيح صقيل

 

وقميص من الحديد مـذال

لأبي الشيص في الرشيد مرثية عجيبة:

غربت في المشرق الشم

 

س فقل للعين تـدمـع

ما رأينا قطّ شـمـسـاً

 

غربت من حيث تطلع

وهي طويلة. ولو ذهبنا نسوق قصائد خرج الكتاب عن حدّ قصدناه، وإنما نأتي بالبيت والبيتين دليلاً على قصيدة مشهورة ونتفرق في خلال ذلك القصيدة- في الفرط- إذا كانت رائعة كثيرة الفوائد ليكون أحفظ. للناظر في الكتاب إذا أراد الحفظ.

 ومن قلائد أبي الشيص كلمته في عقبة بن الأشعث يمتدحه:

مرت عينه للشوق فالدمع منسـكـب

 طلـول ديار الـحـيّ مـغـتـرب

كسا الدهر برديها البلـى ولـربـمـا

 لبسنا جديديها وأعلامـنـا قـشـب

فغير مغناها ومحـت رسـومـهـا

 سماء وأرواح ودهر لهـا عـقـب

تربع في أطلالها بـعـد أهـلـهـا

 زمان يشت الشمل، في صرفه عجب

تبدلت الظلمـان بـعـد أنـيسـهـا

 وسوداً من الغربان تبكي وتنتـحـب

وعهدي بها غناء مخضـرة الـربـا

 يطيب الهوى فيها ويستحسن اللعـب

وفي عرصات الحي أظبٍ كـأنـهـا

 موائد أغصـان تـأود فـي كـثـب

عواتق قد صان النـعـيم وجـوهـا

 وخفرها خفر الحواضن والحـجـب

عفائف لم يكشفن سـتـراً لـغـدرةٍ

 ولم تنتح الأطراف منهن بـالـريب

فأدرجهم طيّ الجديدين فـانـطـووا

 كذاك انصداع الشعب ينأى ويقتـرب

وكأس كسا الساقي لنا بعـد هـجـعة

 حواشيها مامج من ريقه الـعـنـب

كمـيت أجادت جـمـرة الصيف طبخها

فآبت بلا نار تـحش ولا حطب

لطيمة مسك فت عنها ختـامهـــا

معتقة صهبـاء حيرية النسـب

ربيبة أحقاب جلا الدهر وجهها

 ليس بها إلا تلأ لؤهـا ندب

إذا فرجات الكاس منها تخليت

تأملت في حافاتها شعل اللهب

كأنّ اطـراد الماء في جنـباتها

تتبع ماء الدر في سـبك الذهـب

سقاني بها والليل قد شاب رأسه

 غزال بحناء الزجاجة مختضب

يكاد إذا ما ارتج ما في إزاره

ومالت أعاليه من اللين ينقضـب

لطيف الحشـى عبل الشوى مدمج القرى

مريض جفون العين في طيه قبب

أميل إذا ما قائد الجهل قادني

إليه وتلقـاني الغواني فتصطحـب

فورعني بعد الجهالة والـصـبـا

عن الجهـل عهد بالشبـيبة قـد ذهب

وأحداث شيب يفترعن عن البلي

 ودهر تهر الناس أيامه كلب

فأصبحت قد نكبت عن طرق الصبا

وجانبت أحداث الزجاجة والطــرب

يحطان كأساً للنديم إذا جـــرت

عليّ وإن كانت حلالاً لـمـن شـرب

ولو شئت عاطاني الزجاج أحورٌ

طويل قنـاة الصلب منخزل العصـب

ليالينـا بالطف إذ نحن جـيرة

وإذ للهوى فينا وفي وصـلنـا آزب

تخالسـني اللذات أيدي عواطل

وجوف من العيدان تبكي وتصطخـب

إلى أن رمى بـالأربعـين مشـبها

ووقرنـي قرع الحوادث والنـكـب

وكفكف من غربي مشـيب وكبـرة

وأحكمني طول التـجـارب والأدب

وبحر يحار الطرف فـيه قطعـتـه

بمهنوءة مـن غير عـر ولا جـرب

ملاحكة الأضلاع محبـوكة الـقرى

مداخلة الرايات بالقار والخشـــب

موثـقة الألواح لم يدم متـنهـا

ولا صفحيتـهـا عقد رحل ولا قـتـب

عريضة زور الصـدر دهمـاء رسـلة

سناد خليع الرأس مـزمـومة الـذنـب

جموح الصلاة موارة الصدر جـسـرة

تكاد من الإغراق في السـير تلتهــب

مجفـرة الـجنبين جوفاء جونة

نبيلة مجرى العرض في ظهرها حـدب

معلمة لا تشـتكي الأين والوجي

ولا تشـتكي عض النـسـوع ولا الدأب

ولم يدم من جذب الخشـاشة أنفهـا

ولا خانهـا رسم المنـاسب والنـقـب

مرققة الأخفاف صـم عـظامهـا

شديدة طي الصلب معصوبة العـصـب

يشق حباب الماء حد جرانهـا

إذا ما تفرى عن مناكبهـا الحبـب

إذا اعتلجت والريح في بطن لجةً

رأيت عجاج الموت من حولهـا يثـب

ترامى بها الخلجان من كل جانـب

إلى متن مقتر المسـافة منـجـذب

ومثقوبة الأخفاف تدمي أنوفـهــا

معرفة الأصلاب مـطوية الـقــرب

صوادع للشعـب الـشـــديد التيامه

شواعب للصدع الذي ليس ينشعـب

ومن قلائد أبي الشيص البالغة السائرة في الأرض قوله:

يا دار مالك ليس فـيك أنـيس

إلا مـعـالـم آيهـن دروس

الدهر غالك أم عراك من البلى

بعد النعيم خشـونة ويبـوس

ما كان أخصب عيشنا بك مرة

أيام ربعك آهـل مـأنـوس

فسقاك يا دار البلي متجـرف

فيه الرواعد والبروق هجوس

دار جلا عنها النعيم فربعـهـا

خلق تمر به الـرياح يبـيس

طلل محت آي السماء رسومه

فكأن باقي محوهـن دروس

ما استحلبت عينـيك إلا دمـنة

ومخرب عنه الشرى منكوس

ومخيس في الدار يندب أهلـه

رث القلادة في التراب دسيس

أنس الوحوش بها فليس بربعها

إلا النعام تـروده وتـحـوس

ربع تربع في جوانبه البـلـى

وعفت معالمه فهنّ طمـوس

يدعو الصدى في جوفه فيجيبه

ربد النعام كأنهـن قـسـوس

ولربما جر الصبا لـي ذيلـه

فيه، وفيه مـألـف وأنـيس

من كل ضامرة الحـشا مهـضومة

 لحبـالها بحبالنا تلـبـيس

متسـترات بـالحياء لوابس

 حلل العفاف عن الـفواحـش شوس

وسـبـيئةٌ من كرمها حـيريةٌ

 عذراء من لمـس الرجال شموس

لم يفتق النعمان عذرتها ولم

 يرشف مجاجة كأسـها قابوس

كتب اليهود على خواتم دنهـا

 يا دن أنت على الـزمان حـبـيس

ذمية صلّى وزمزم حولهـا

 من آل برمك هـربد ومجوس

تجلو الكئوس إذا جلت عن وجهها

 شمساً غذاها الشمس فهي عروس

عكفت بها عفر الظباء كأنها

 بأكفهن كواكب وشـمـوس

من كل مرتج الروادف أحـور

 كسـرى أبوه وأمه بلقـيس

رخو العنان، إذا ابتديت فخادم

 وإذا صبوت إلـيه فـهو جليس

يسـعى بإبريق كأن فدامـه

 من لونها في عصـفر مـغموس

يسقـيك ريق سبــيئة حــيرية

 مما استباه لفصـحــه القسـيس

بين الخـورنـق والـسدير مـحلة

 للهو فيهـا منزل مـطـمـوس

فالند من ريحانهـا متـضـوعٌ

 والظهر من غـزلانها مدحوس

نحس الزمان بأهلها فتـصـدعوا

 إن الزمان بأهلـه لنـحـوس

كنّا نحل به ونحن بـغبـطة

 أيام للأيام فيه حـســـيس

فبنـى عليه الدهر أبـنـية البلـى

 فعلى ربـاه كـآبة وعـبـوس

وصـريع كأس بـت أرقـبـه وقـد

 نهشته من أفعـى الــدام كئوس

عقـل الزجاج لسـانــه وتـخـاذلـت

 رجلاه فهـو كأنه مطـسـوس

سطت العقـار به فراح كأنمـا

 مجّ الـرّدى في كأسـه الـفاعوس

مما يختار له من قصيدته:

جلا الصبح أوني الكرى عن جفونه

 

وفي صدره مثل السهام القواصـد

تمكن من غراته الحب فانتـحـى

 

علـيه بـأيد أيدات حـواشـــد

إذا خطرات الشوق قلبن قـلـبـه

 

شددن بأنفاس شداد المـصـاعـد

يذكره خفض الهوى ونـعـيمـه

 

سوالـف أيام ولـيس بـعــائد

وبلغني أن هذه القصيدة أنشدت عند المأمون فأفرط في استحسانها، ثم أنشد في ذلك المجلس لجماعة من حذاق المحدثين، مثل بشار ومسلم ابن الوليد ونظرائهما، فلم يهش لشيء من ذلك، وفضل عليهم أبا الشيص. وأشعاره ونوادره وملحه كثيرة جدّاً، ولكنا لا نخرج من شرط الكتاب، لئلا يمله القارئ إذا طال عليه الفنّ الواحد، وليحفظ هذه النكت والنوادر والملح، وليستريح من أخبار المتقدمين وأشعارهم فإن هذا شيءٍ قد كثرت رواية الناس له فملوه، وقد قيل: لكل جديد لذة، والذي يستعمل في زماننا إنما هو أشعار المحدثين وأخبارهم، فمن ها هنا أخذنا من كل خبر عينه ومن كل قلادة حبتها.