أخبار صالح بن عبد القدوس

حدثني محمد بن يزيد قال: حدَّثني العوفيّ قال: أخذ صالح بن عبد القدوس في الزندقة، فأدخل على المهدي، فلما خاطبه أعجب به، لغزارة أدبه وعلمه وبراعته، وبما رأى من فصاحته وحسن بيانه وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله، فلما ولّى ردّه وقال: ألست القائل:

وإن من أدبته في الـصـبـا

 

كالعود يسقي الماء في غرسه

حتى تراه مورقـاً نـاضـراً

 

من بعد ما أبصرت من يبسه

والشيخ لا يتـرك أخـلاقـه

 

حتى يواري في ثرى رمسه

إذا ارعوى عاد إلى جهـلـه

 

كذي الضنا عاد إلى نكـسـه

قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وأنت تترك أخلاقك؟ ونحن نحكم في نفسك بحكمك. فأمر به فقتل.
وحدثت من غير هذا الوجه بما هو عندي أثبت من الأول، وذلك ما رويناه أنه أنهى إلى الرشيد عنه هذه الأبيات، يعرض فيها بالنبي صلى الله عليه وآله:

غصب المسكين زوجـتـه

 

فجرت عينـاه مـن درره

ما قضى المسكين من وطرٍ

 

لا ولا المعشار من وطره

عذت بالله اللطـيف بـنـا

 

أن يكون الجور من قدره

عليه لعنة الله إن كان قالها- فقال له الرشيد: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: لا، والله يا أمير المؤمنين، ما أشركت بالله طرفة عين، ولا تسفك دمي على الشبهة، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: "ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" وأخذ يرقق قلبه، ويستنزله عما عزم عليه بفصاحته وبيانه، ويتلو القرآن، حتى رقّ له وأمر بتخلية سبيله، فلما أراد أن يخرج من بين يديه قال: أنشدني قصيدتك السينية فأنشده حتى إذا بلغ قوله:

والشيخ لا يتـرك أخـلاقـه

 

حتى يواري في ثرى رمسه

قال: يا شيخ، هذا الكلام يشبه هذا الكلام، وهذا الشعر من نمط ذلك الشعر- يعني الأبيات التي نسبت إليه- ونحن نتمثل وصيتك، ثم أمر فضربت عنقه وصلب على الجسر.

وحدثني أبو جعفر قال: حدَّثني زياد بن أحمد قال: اجتمع قوم من أهل الأدب في مجلس فيهم صالح بن عبد القدوس، يتناشدون الأشعار، إلى أن حانت الصلاة، فقام القوم إلى ذلك، وقام صالح فتوضأ وأحسن ثم صلى أتم صلاة وأحسنها، فقال بعضهم: أتصلي هذه الصلاة ومذهبك ما تذكر؟ فقال: إنما هو رسم البلد، وعادة الجسد.

والله أعلم بتحقيق ذلك. أما الرجل فله في الزهد في الدنيا، والترغيب في الجنة، والحث على الطاعة لله عز وجل، والأمر بمحاسن الأخلاق، وذكر الموت والقبر، ما ليس لأحد وكان شعره كله أمثالاً وحكماً فمما يستحسن له قوله:

تأوبني هـم فـبـت أخـاطـبـه

 

وبت أراعي النجم ثـم أراقـبـه

لما رابني من ريب دهر أضرنـي

 

فأنيابه يبريننـي ومـخـالـبـه

وأسهرني طول التفكـير، إنـنـي

 

عجيب لدهر ما تقضي عجائبـه

أرى عاجزاً يدعى جليداً لغشـمـه

 

ولو كلف التقوى لفلت مضاربـه

وعفّا يسمى عاجزاً لـعـفـافـه

 

ولو لا التقى ما أعجزته مذاهبـه

وأحمق مصنوعاً له فـي أمـوره

 

يسـوده إخـوانـه وأقـاربــه

على غير حزم في الأمور ولا تقى

 

ولا نائل جزل تعـد مـواهـبـه

وليس بعجز المرء إخطاؤه الغنـى

 

ولا باحتيال أدرك المال كاسـبـه

ولكنه قبـض الإلـه وبـسـطـه

 

فلا ذا يجاريه ولا ذا يغـالـبـه

إذا كمل الرحمن للمرء عـقـلـه

 

فقد كملت أخلاقه ومـنـاقـبـه

فيا عجبا كيف يمكن أن يقول زنديق مثل هذا القول؟! وكيف يكون قائله زنديقاً؟ ومما يستحسن له قوله:

ألا أحد يبكـي لأهـل مـحـلةٍ

 

مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا

كأنهم لم يعرفـوا غـير دارهـم

 

ولم يعرفوا غير التضايق والبلوى

ومما يختار من شعره قوله:

فو حق من سمك السماء بقدرة

 

والأرض صير للعباد مهـادا

إن المصر على الذنوب لهالك

 

صدقت قولي أو أردت عنادا

وحدثني أحمد بن إبراهيم المعبر قال: رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكاً مستبشراً، فقلت له: ما فعل الله بك؟ وكيف نجوت مما كنت فيه؟ فقال: إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: قد علمت براءتك مما كنت تعرف به وترمى باعتقاده.


وأشعاره كثيرة، إلا أنها موجودة عند جميع الناس مستفيضة فيهم، فاقتصرنا على ما ذكرنا منها