أخبار الخليل بن أحمد

حدَّثني إسحاق بن الصلت الأنباري قال: حدثني المعلى بن جعفر السعدي قال: كان الخليل بن أحمد أعلم الناس بالنحو والغريب، وأكثرهم دقائق في ذلك، وهو أستاذ الناس، وواحد عصره، وأول من اخترع العروض وفتقه، وجعله ميزاناً للشعر، وكان سببه أنه مر في سكة القصارين بالبصرة فسمع من وقع الكدين أصواتاً مختلفة، ففكر في هذا العلم وقال: لأضعن من هذا أصلاً لم أسبق إليه، فعمل العروض على هذه الأصوات التي في أيدي الناس، وكان ذكياً فطناً عالماً بأيام الناس وأخبارهم، وكان مع ذلك شاعراً مفلقاً، وأديباً بارعاً، وله أيضاً في الألحان والنغم كتاب معروف، وهو صاحب كتاب العين الذي جمع فيه أصول الكلام للعرب كلها.

حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني أبان بن رزين البصري قال: زعم يونس النحوي أن الخليل بن أحمد كان يستدل بالعربية على سائر اللغات ذكاء منه وفطنة.

وحدثني أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثني الحسن بن المهلبي قال: كان الخليل بن أحمد منقطعاً إلى الليث بن نصر بن سيار، وكان الليث من أكتب الناس في زمانه، وكان بارع الأدب، بصيراً بالنحو والشعر والغريب، وكان يكتب للبرامكة، ويطير معهم في دولتهم بجناحين، وكانوا معجبين، فارتحل إليه الخليل بن أحمد، فلما عاشره وجده بحراً، فأجزل له وأغناه. وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تليق به، فأقبل وأدبر، وعلم أن المال والأثاث لا يقع منه موقعاً حسناً، لوجود ذلك عنده، وكثرته لديه، وأنه لا يسر بشيء سروره بمعنى لطيف من الأدب، فجهد نفسه في تصنيف كتاب العين، فصنفه لليث بن نصر دون سائر الناس، ونمقه وحبره، وأخرجه في أسرى ظرف وأحسن خط، فوقع منه موقعاً: عظيماً، وسر به سروراً شديداً، فوصله بمائة ألف درهم، واعتذر إليه من التقصير، وأقبل ينظر فيه ليلاً ونهاراً، ولا يمل منه ولا يفتر، وكان يغدو ويروح على البرامكة، فكأنه على الرضف حتى يرجع إلى الكتاب وينظر فيه، إلى أن حفظ نصف الكتاب. وكانت تحته بنت عم له، وكانت سرية نبيلة موسرة جميلة، وكانت تهوى ابن عمها وتحبه، فاشترى الليث جارية نفيسة فائقة الجمال، بثمن جزيل، فأقعدها في منزل صديق له يتسرى بها، فبلغ ذلك ابنة عمه، فوجدت من ذلك أشد وجد، وحزنت وقالت: والله لأغيظنه ولا أتقي الغاية. وقالت: إن غظته في المال فهو لا يبالي به ولا يكترث له، ولكني أراه مشغوفاً بهذا الكتاب، وقد هجر كل لهو ولذة، وأقبل على النظر فيه، والله لأفجعنه به. ثم عمدت إلى الكتاب بأسره فأحرقته، فلما كان بالعشي، وراح الليث من دار البرامكة، ودخل المنزل، لم يكن له هم إلا الكتاب، فصاح بالغلام أن يحمله إليه، فلم يوجد الكتاب، وكاد يطير طيشاً، وظن أنه سرق، فجمع غلمانه وتهددهم. فقال بعضهم: يا سيدنا أخذته الحرة، فبادر إليها ليترضاها ويسترجع الكتاب، وقال لها: ردي الكتاب والجارية لك، وقد حرمتها على نفسي، فأخذت بيده، وأدخلته البيت الذي أحرقته فيه، فلما نظر إلى رماده وصح عنده أنه احترق، سقط في يديه. وظن أنه أصيب بمال عظيم أو يولد أو أعظم منه، وكان قد حفظ نصف الكتاب، ويبقى عليه نصفه- وقد مات الخليل- فطلبه في الدنيا كلها فأعجزه ذلك، ولم تكن النسخة وقعت إلى أحد، فاستدرك النصف من حفظه وجمع على النصف الباقي علماء أهل زمانه. فقالوا: ما تروم؟ قال: مثلوا عليه، فمثلوا، فلم يلحقوه، ولا شقوا غباره. فأنت ترى ما في أيدي الناس من ذلك، فإذا ما تأملته تراه نصفين، النصف الأول أتقن وأحكم، والنصف الآخر مقصر عن ذلك.

ومما يستحسن للخليل بن أحمد من شعره قوله:

ومـا هـي إلا لـيلة ثـم يومـهـا

 

وحول إلى حول وشهر إلى شهـر

مطايا يقربن الجديد إلـى الـبـلـى

 

ويدنين أشلاء الكريم إلى الـقـبـر

ويتركن أزواج الـغـيور لـغـيره

 

ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر

ومما سار له في الدنيا قوله:

أبلغا عني المـنـجـم أنـي

 

كافر بالذي قضته الكواكبْ

عالم أن ما يكون ومـا كـا

 

ن قضاء من المهيمن واجبْ

ومن السائر الذي يروي له قوله:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

 

أو كنت تعلم ما تقول عذلتُكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتنـي

 

وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

ومما يختار له قوله لسليمان بن قبيصة بن يزيد بن المهلب وقد كتب إليه يستزيره إلى السند وكان والياً عليها:

أبلغ سليمان أني عنه فـي سـعة

 

وفي غنى غير أني لست ذا مال

الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه

 

ولا يزيدك فيه حول مـحـتـال

وأهدى إليه سليمان من السند هدية برزة فردها وقال:

وخصلة يكثر الشيطـان إن ذكـرت

 

منها التعجب جاءت من سلـيمـانـا

لا تعجـبـن لـخـير زل عـن يده

 

فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا

وأخبار الخليل وعجائبه كثيرة، وشعره قليل لأن شغله بالعلم كان أكثر منه بقول الشعر، وفيما أوردنا من جملة قصته كفاية.