أخبار سلم الخاسر

وهو سلم بن عمرو  حدثني الخاسر خالي. فقلت له: جعلت فداك، لم سمي الخاسر؟ فضحك وقال: سمي الخاسر لأنه تقرَّأ فبقي في تقرئه مدة يسيرة. فرقت حاله فاغتم لذلك، ورجع إلى شيء مما كان عليه من الفسق والمجون، وباع مصحفاً كان ورثه من أبيه، فاشترى بثمنه طنبوراً- وقيل: باع مصحفاً واشترى بثمنه دفتر شِعْر- فشاخ بالناس خبره، فسمي الخاسر بذلك، وقيل له: ويلك، في الدنيا أحد فعل ما فعلت؟ تبيع مصحفاً وتشتري بثمنه طنبوراً فقال: ما تقرب أحد إلى إبليس بمثل ما تقربت إليه، فإني أقررت عينه.

وقد قيل: إنما فعل ذلك مجوناً، ولم يكن رديء الدين. وأما الذين زعموا أنه اشترى بثمن المصحف الشعر، فقد رووا في أخباره أنه لما أفاد من الخلفاء والبرامكة بشعره ما أفاد من الأموال الجليلة قال: أنا الرابح ولست بالخاسر.

وكان من المطبوعين المجيدين. وكان تلميذاً لبشار بن برد الأعمى، ولما قال بشار بيته هذا:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

 

وفاز بالطيبات الفاتك اللـهـجُ

أخذ سلم هذا المعنى، وجاء به في أجود من ألفاظه وأفصح وأوجز فقال:

من راقب الناس مات غماً

 

وفاز باللذة الـجَـسُـورُ

وقال بشار- حين قال بيته ذلك-: ما سبقني أحد إلى هذا المعنى ولا يأتي بمثله أحد. فلما قال سَلْمٌ هذا البيت، قال راوية بشار: صرت إليه فقلت: يا أبا معاذ، قد قال سلم بيتاً أجود من بيتك الذي تعجب به. قال: وما هو؟ فأنشدته البيت، فقال: أوخ، ذهب والله بيتي، لوددت أن ولاءه لغير آل أبي بكر الصديق فأقطعه وقومه بهجوي. وهذا مما يدل أن بشارً كان صحيح الدين. ثم نحاه عن نفسه، حتى كلمه فيه بعض إخوانه فرده.

وسلم أحد المطبوعين المحسنين وكان كثير البدائع والروائع في شعره وسار بيت سلم الذي ذكرناه، ولم يسر بيت بشار.

ومن جيد ما يروى لسلم كلمته في يحيى بن خالد- ويقال: إنه أخذ عليها مالاً عظيماً ويقال: إنه من عمل بما في هذه الأبيات من قصيدته جاز أن يكون وزيراً والأبيات هذه:

بقاء الدين والدنيا جـمـيعـاً

 

إذا بقي الخلـيفة والـوزيرُ

يغار على حمى الإسلام يحيى

 

إذا ما ضيع الحزم الغـيور

وليس يقـوم بـالإسـلام إلا

 

معار يستجار ويسـتـجـير

كِلا يوميك من نفـع وضـر

 

يحوط حماهما كرم وخـير

وما ألهاك عمـا أنـت فـيه

 

نعيم الملك والوطئ الوثـير

إليك سبيلنا مـن كـل وجـه

 

وكل الأمر أنت به بصـير

بلوت الناس من عجم وعرب

 

فما أحد يسير كما تـسـير

فكل الأمر من قول وفـعـل

 

إذا علقت يداك به صـغـير

وفي كفيك مدرجة المـنـايا

 

ومن جدواهما الغيث المطير

وأنت العز في حرب وسلـم

 

يضاف إلى مناكبك الطهور

عرفت الدهر من خير وشر

 

فكل الرأي أنت به خـبـير

ولست مجازياً بالضغن ضفنا

 

ولو أبدى المظاهرة الظهير

فكل الناس بين غنى وعفـو

 

لديك، كلاهـمـا در درور

وما تخفى عليك وأنت طـب

 

بطون للأمور ولا ظهـور

سرابيل المحامد ضـافـيات

 

عليك يزينها الوشي الحبـير

وما نزغتك للدنـيا هـنـات

 

إليك أعين الوزراء صـور

وما إن نال مـن دين لـدنـيا

 

قليل من هواك ولا كـثـير

وكانت قبلك الوزراء غرقى

 

يؤم كبيرهم فيها الصـغـير

وما إن جاء مقطع كل حـق

 

صعود في هواك ولا حدور

تفرجت الأمور ببـرمـكـي

 

تضيء له المنابر والسـرير

حملت فوادح الأعباء عـنـا

 

عن الإسلام إن شكر الشكور

منا ملك نعم ووزير مـلـك

 

عليه من لباس الشيب نـورُ

بديهته وفـكـرتـه سـواء

 

إذا ما نابه الخطب الكـبـير

وأجزل ما يكون الدهـر رأياً

 

إذا عمي المشاور والمشـير

ولا غرس الأمور ولا اجتناها

 

كيحيى حين يعزم أو يسـير

إذا قامت مساعي الفخر يوماً

 

على الأقدام أو مدح المرير

فما نفع كنفع أبـي عـلـي

 

ولا أحد يصير كما يصـير

ومما يستحسن لسلم كلمته في المهدي:

حي المنابـر بـالـسـلام

 

علـى وداع أو لـمــام

لم يبق منـك ومـنـهـم

 

غير الجلود على العظـام

ولقد سكرت من الهـوى

 

سكر الغوى من المـدام

فالقلب مضطرب الحشـا

 

والعين نافرة الـمـنـام

فإذا عزمت فأمـض هـمّ

 

ك بين مـحـمـود ودام

ودع النوافخ في الـبـري

 

يسبحن في بحر الظـلام

ويخضن أسراب الـفـلا

 

قوداً أعنـتـهـا سـوام

متسربلات بـالـحـمـيم

 

معممـات بـالـلـغـام

من كل خـرقـاء الـيدي

 

ن على انقضاب وانجذام

يهمسن في همس القطـا

 

ويخدن في وخد النـعـام

كم قد هتكن من الـرجـا

 

ومضين بين صدى وهام

حتى رجعن من السـرى

 

مثل الأهلة في الحـزام

لم يبـق غـير نـواظـر

 

منهـا وأخـفـاف دوام

يتبـعـن وخـد شـمـلة

 

وجناء تفسح في الزمـام

فمضت تـزف أمـامـه

 

ن كما تولى سـهـم رام

وإلى أمير المـؤمـنـي

 

ن محمـد خـير الأنـام

جمع الخلافة والـسـمـا

 

حة والشجاعة في نظـام

ملـك ضـــريبة رأيه

 

أمضى من السيف الحسام

يقضي أمور المؤمـنـي

 

ن برأي حزم واعـتـزام

قالـت قـريش كـلـهـا

 

وهم الكرام بنو الـكـرام

وخيار من وطئ الحصـا

 

من بين كهـل أو غـلام

: فضل الملوك محـمـد

 

فضل الحلال على الحرام

فاسلم أمير المـؤمـنـي

 

ن فأنت رهن بالـسـلام

ولك المكـارم كـلّـهـا

 

في دار ظعن أو مـقـام

أمن الحوادث من تـعـل

 

ق ذمة الملك الـهـمـام

يا خير من ضمـنـت يدا

 

ه كم في يديك من الذمام

كم في يديك من الـنـدى

 

وضروب ألوان الحمـام

حوض الخليفة بالـنـدى

 

يشفى الغليل مـن الأوام

إن الـخـلـيفة فـي يدي

 

ه سجال عفو وانـتـقـام

كان سلم الخاسر يذهب بالمهدي إلى أنه المهدي الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وآله.

ومما يستحسن من شعره قصيدته في موسى الهادي بن المهدي وهي هذه:

سألت الديار وأطـلالـهـا

 

وما إن تجاوب سؤالـهـا

منازل قد أقفـرت يعـدنـا

 

وجرت بها الريح أذيالهـا

وصهباء تعمل في الناظرين

 

شربت على الريق سلسالها

وقد كنت للكأس والغانـيات

 

إذا هجر القوم وصالـهـا

وكم قد رفعت ستور الملوك

 

وزاولت بالشعر أزوالهـا

ونلت مجالس مشـهـورة

 

ينال الكرام بمن نـالـهـا

ولقد جعل الله في راحتـيك

 

حياة النفوس وآجـالـهـا

وجدناك في كتـب الأولـي

 

ن محي النفوس وقتالـهـا

وموسى شبيه أبي جعـفـر

 

ومعطي الرغائب سؤالهـا

ولولا مكانك مـن بـعـده

 

لأنكرت العوذ أطفالـهـا

مما يستحسن له كلمته في نجاح الحاجة وهذه الأبيات منها:

يدير الأمور مقـاديرهـا

 

وللرزق داع إلى أهلـه

إذا أذن اللـه فـي حـاجة

 

أتاك النجاح على رسلـه

إذا قنع المرء نال الغنـى

 

وعرى المطية من رحله

ولا تسأل الناس من فضلهم

 

ولكن سل الله من فضلـه

وحدثني، أحمد بن محمد النوفلي قال: ما وفقت إلى شاعر أعرف بأشعار الجاهلية ولا أدري لها من سلم الخاسر، وكان سلم مزاحاً لطيفاً، مداحاً للملوك والأشراف، وكانوا يجزلون له في الثواب والعطية، فيأخذ الكثير وينفقه على إخواته وغيرهم من أهل الأدب.

ولما قال أبو العتاهية أبياته التي ذكر فيها سلما وبلغه قوله:

تعالى الله يا سلم بن عمـرو

 

أذل الحرص أعناق الرجال

هب الدنيا تساق إليك عفـوا

 

أليس مصير ذاك إلى الزوال

قال سلم: ويلي ابن الفاعلة قد كنز في بيته البدور، وأنا في ثوبي هذين. وليس عندي غيرهما. هو ينسبني إلى الحرص. وأشعاره وافرة كثيرة جداً، وقد أوردنا منها ما فيه الكفاية.