أخبار ابن ميادة

حدثني ابن الأخوص محمد بن عبد الملك الثقفي قال: أخبرني عمرو ابن أيوب العامري قال: وفد ابن ميادة على الوليد ين يزيد بن يزيد بن عبد الملك فأنشده شعراً له فيه، فاستحسنه منه أمره بملازمته، ففعل، فلما عنده طويلاً امتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

ألا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة

 

بحرة ليلي حيث ربتـنـي أهـلـي

بلاد بها نيطت عـلـىّ تـمـائمـي

 

وقطعن عني حيث أدركني عقـلـي

وهل أسمعن الدهر أصوات هجـمة

 

تطالعن من هجل حفيٍّ إلى هـجـل

فإن كنت عن تلك المواطن حابـسـي

 

فأسبغ عليّ الرزق واجمع إذن شملي

فقال له الوليد: قد أمرنا لك بمائتي ناقة سوداء، ومائتي ناقة حمراء، تضيء هذه من هنا، وتظلم تلك من هنالك، فخذ الكتب بذلك إلى مصدّق كلب يدفعها إليك. فأخذ ابن ميادة الكتب ومضى نحوه، فلما قرأ كتابه قال له: أعفني من الجعودة وقد كان أمر له بها جعادا، فأبي أن يقبلها إلا جعادا كما أمر له، وتماحل هو المصدق في ذلك، وكتب ابن ميادة إلى الوليد يعلمه ذلك، وضمن كتابه هذين البيتين:

ألم يبلغك أن الحيّ كلـبـاً

 

أرادوا في عطيتك ارتدادا

أرادوني بها لونين شتـى

 

وقد أعطيتها دهماً جعادا

فكتب الوليد إلى المصدق يتوعده ويأمره أن يسلمها إليه- كما أمر- برعاتها وأدواتها. فأقبل يسوقها حتى أقبل بها على حيه.

واسمه الرماح بن أبرد، وميادة أمه، وكانت أم ولد، وهو من بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. وكان ابن ميادة يضرب أمه في صباه ويقول:

اعر نزمـي

 

مياد للقوافي

يريد أنه سيهجو الناس فيهجونه ويذكرون أمه.

وأبوه من ولد ظالم بن الحارث بن ظالم المري وهو القائل يفتخر بذلك:

سقتني سقاة مـن آل ظـالـم

 

بأرشية أطرافها في الكواكب

وبقي ابن ميادة حتى أدرك أيام بني العباس. وقد مر على جعفر بن سليمان ابن علي وهو والي البصرة فأنشد:

فلما رأى جعفر ركاكة هذا الشعر وخفته قال: يا رماح. قال: لبيك أيها الأمير. قال: أتمدح الوليد بن يزيد الفاسق بمثل ذلك الشعر وتمدحني بمثل هذا؟ قال: أيها الأمير إن مدح الشاعر على قدر العطية. وما علي من فسق الوليد وقد أعطاني أربعمائة ناقة برعاتها وعبيدها وآلاتها؟ والله لا قلت أبداً أنه فاسق ولو ضربت عنقي فإن إحسانه يمنعني عن ذلك، فأعجبه ما رأى من شكره ووفائه للرجل بعد الموت وذهاب الدولة، فأمر له بأربعمائة ناقة، وقال له: قل الآن مثل شعرك الذي تقول فيه، فقال:

يا جـعـفـر الــخيرات يا جعـفـر

 

ليتــك لا تنعى ولا تقـبـر

فلما رأى جعفر ركاكة هذا الشعر وخفته قال: يا رماح. قال: لبيك أيها الأمير. قال: أتمدح الوليد بن يزيد الفاسق بمثل ذلك الشعر وتمدحني بمثل هذا؟ قال: أيها الأمير إن مدح الشاعر على قدر العطية. وما علي من فسق الوليد وقد أعطاني أربعمائة ناقة برعاتها وعبيدها وآلاتها؟ والله لا قلت أبداً أنه فاسق ولو ضربت عنقي فإن إحسانه يمنعني عن ذلك، فأعجبه ما رأى من شكره ووفائه للرجل بعد الموت وذهاب الدولة، فأمر له بأربعمائة ناقة، وقال له: قل الآن مثل شعرك الذي تقول فيه، فقال:

كنت امرأً أرمى الزوائل مرة

 

فأصبحت قد ودعت رمى الزوائل

وعطلت قوس اللهو من شـرعاتها

 

وصارت سهامي بين رثّ وناصل

إذا حل أهلي بالجناب وأهلها

 

بمنعرج العلان من ذي أذابل

فقل: خلة ضنت عليك بوصلها

 

تقطع منها باقيات الوصائل

يمنونني منك الوصال وقد أرى

 

بأني لا أقاك من دون قايل

وما أنس من الأشياء لا أنس قولها

 

وأدمعها يذرين حشو المكـاحل

تمتع بذا اليوم القصير فإنه

 

رهين بأيام الـشـهور الأطاول

وكان ابن ميادة جيد الغزل، ونمطه نمط الأعراب الفصحاء، وكان مطبوعاً، وهو الذي يقول:

كأن فؤادي في يد علـقـت بـه

 

محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه

وأشفق من وشك الفراق وإنـنـي

 

أظن لمحمول عليه فـراكـبـه

فوالله ما أدري: أيغلبني الـهـوى

 

إذا جدّ جدّ البين أم أنا غـالـبـه

فإن أستطع أغلب وما يغلب الهوى

 

 

فهذه معان وألفاظ يعجز عنها أكثر الشعراء، فإنه قد جمع إلى اقتدار الأعراب وفصاحتهم محاسن المحدثين وملحهم، وهو القائل:

أقول لركب قافلين رأيتهـم

 

ببئر سليم من صراد وأشجع

ألا إن بلغتم سالمين فأبلغـوا

 

تحية مرميّ بسهمين موجع

ومما يختار له قوله

هاج البكاء وعاق منه صدوح

 

خطباء باكية على التفـراح

تدعو هديلا في ذرا عبـرية

 

عيناء ليس عيونها بصـواح

ناحت بما علمت ولست بنائح

 

وأبت على دأب الدلال بصاح

ومما يستحسن له قوله:

سل الله صبراً واعترف بفراق

 

عسى بعد بين أن يكون تلاق

ألا ليتني قبل الفراق وبـعـده

 

سقاني بكأس للمنـية سـاق