أخبار أبي الخطاب البهدلي

حدَّثني أبو غانم قال: حدثني موسى بن سعيد بن مسلم عن أبيه قال: كان موسى الهادي لا يأذن لأحد من الشعراء مدة أيام خلافته، ولا يرغب في الشعر، ولا يلتفت إليه، وقد أنهمك في الشرب والقصف، وكان مشغوفاً بالسماع، فلما قال أبو الخطاب البهدلي رائيته سألني فأوصلتها إليه، فلما سمعها أعجب بها شديداً وقال للحاجب: اخرج إلى الباب فمر من ينادي: أين نسابة الأسد؟ ففعل. فلما سمع أبو الخطاب ذلك علم أن شعره قد وصل وعمل عمله. والشعراء مجتمعون- فقال: هأنذا. وأخذ الحاجب بيده وأدخله البيت. فقال: هات أنشدنا، فأنشده قصيدته الرائية، فاستحسنها موسى وأعجب بها، وأمر في ذلك اليوم ألا يحجب عنه شاعر، وأن يعلموا أن أبا الخطاب كان السبب في ذلك. وأمر لأبي الخطاب بألف دينار وكساه وحمله والقصيدة مشهورة وهي هذه:

ماذا يهجيك من دار بمـحنـية

كالبرد غير منها الجدة العـصــر

عفت معارفهـا ريح تنسـفهـا

حتى كأن بقايا رسمـهـا سـطـر

أزرى بـجدتها بـعدي وغيرهـا

هوج الرياح التي تغدو وتبتـكــر

دار لواضـحة الخدين نـاعــمة

غرثى الوشاح لها في دلهـا خـفـر

كأنها درة أغلى التـجار بهــا

مكنونة، ربحوا فيها وما خسـروا

قل للخليفة مـوسـى: إن نائلـه

جزل هني وما في سـيبـه كـدر

متوج بالهدى، بالحمد ملتـحـف

مسربل بالندى، بالمجـد متـزر

موسى الذي بذل المعروف ينهـبـه

في الناس، فالجود من كفيه ينهمــر

أشم تـنميه آباء جحاجـحـه

شم الأنوف، على ما نابهم صبـروا

لن يؤمن الناس من لم يؤمنـوا أبدا

والله يؤمن مـن آووا ومن نصـروا

لا يكسر الناس ما شدوا جبائره

وليس يجبر طول الدهر من كسـروا

أنت الدعامة يا موسـى إذا احتدمـت

نيرانهـا وحماة الحرب تجـتــزر

وإن غضبت فما في الناس من بشـر

إلا على خطر ما مثله خطـر

ما مخدر خدر مسـتأسد أسـد

ضبـارم خادر ذو صــولة زئر

غضنـفر غضف قرضابة ثـقـف

مسترعب لقلوب الناس مصطبـر

ذو برثـن شرث ضـخـم مزورة

خبثن الخلق في أخلاقـه زعــر

جأب الشراسيف رحب الجوف مفتـرس

عنـد التجاول للأقران مهتـصــر

عفرنس أهرت الشدقين ذو حـنـق

للقـرن عند لقا الأقران مقتـســر

جهـم المحيا هموس لا ينهـنهـه

صوت الرجال ولا للزجـر ينـزجـر

في خطمه خنس في أنفه فطس

كأنما وجهه من هضبة حجر  

ذوالة قيسري حين تبرزه

غشـمشـي فلا يبقـي ولا يذر

ببالغ عشر عشر من شجاعـتـه

إذا تنازلت الأبطال واشـتـجروا

بل أنت أجرأ منه في تقـدمـه

وأنت أقدم منه حـين يجـتـئر

يا خير من عقدت كفاه حجزتـه

وخير من قلدته أمرها مضـر

إلا النبي رسول الـلـه إن لـه

فضلاً وأنت بذاك الفضل تفتخر

فهذا- كما ترى- مقتدر على الكلام مجيد للوصف حسن الوصف قد جمع إلى قوة الكلام محاسن المولدين ومعاني المتقدمين.

ومما يستحسن له قوله:

وقد اغتدى قبل ضوء الصباح

 

وقبل ورود الغطاط الحثـاث

بصاقي الثلاث قصير الثلاث

 

طويل الثلاث عريض الثلاث

محجل رجلين طلـق الـيدين

 

له غرة مثل ضـوء الإراث

إذا احترث القوم ما عنـدهـم

 

فإن الجياد تكون احتـراثـي

ومما يستجاد له قوله للفضل بن يحيى بن خالد:

تشاغل الناس ببنـيانـهـم

 

والفضل في بنا العلا جاهد

كل ذوي الرأي أهل النهى

 

للفضل في تدبيره حامـد

ومما سار له قوله:

قلت لرجلي وهي عوجاء الخطا

 

تشكو إليّ وجعاً مـن الـنـسـا

ومن أذى العرق وفي العرق أذى

 

مري فهيهاتك من أخذ العصـا

لا تطمعن في الذي لا يشتـهـي

 

وفي تسعيك الذي لا يرتـجـى

كم بين قول الغانيات: يا فـتـى

 

وقولهن: شاب هذا وانـحـنـى

وقد نظرن اليوم من قبح الجـلا

 

جبين وجه وجبينا في الـقـفـا

أسره منـهـن كـيمـا لا يرى

 

ولو بدا رمين رأسي بالحـصـا

وأشعار أبي الخطاب كثيرة جيدة، وهو أحد العرجان، وقد ذكره الجاحظ في كتابه. وزعموا أنه بلغ من معرته وخوف الناس بادرة لسانه أن يبعث بعصاه إلى الأبواب في حوائجه، فلا تحجب العصا عن أحد، ولا ينهنه حتى تقضي حوائجه.