حدثني المبرد قال: حدَّثني ابن أبي حبرة قال: أبو حية النميري يروي عن الفرزدق، وهو من أهل البصرة، واسمه الهيثم بن الربيع، وكان من أكذب الناس. قال ابن أبي حبرة: وسمعته يوماً يقول: عن لي ظبي فرميته بسهم، فراغ الظبي عن سهمي، فعارضه السهم، ثم راغ، فراوغه والله السهم حتى قتله.
وحدثني صالح بن إبراهيم قال: حدَّثني أبو المهزم الأعرابي قال: كان لأي حية النميري سيف يسميه لعاب المنية. وكانت المغرفة أقطع منه، فدخل بيته كلب ليلة من الليالي من حيث لا يدري به، فلما حسه في البيت توهمه لصاً، فقام في البيت وقال: أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، جئت والله إلى خير قليل، وسيف صقيل، ونفس تأبى الضيم وتأنف العار، جارها آمن، وعدوها خائف، أما سمعت بلعاب المنية- ثكلتك أمك- مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، يقرب الأجل. ويبطل الأمل. أما تخشى- إن كنت أوطأتك نفسك العشوة فينا، وسولت لك ما لا تجده فينا- إن أدع قساً ملأت عليك الأرض خيلاً ورجلاً. فيا طيبها وطيب كثرتها. ما أنت والله ببعيد من بائقتها، والرسوب في لجتها، إن أقمت وثبت على طغيانك، وإن هربت أدركتك.
فما زال ذلك دأبه وهو يخاف أن يدخل، وإذا به قد خرج عليه كلب يبصبص فقال له: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفاني منك حرباً. ثم قعد لا يدخل البيت، فقيل له: ما لك لا تدخل؟ فقال: لعل اللص في البيت وهذا كلبه قد خرج.
ومما يستحسن لأبي حية النميري قوله:
ألا حي من بعد الحبيب المغانيا |
|
لبسن البلى مما لبسن الليالـيا |
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة |
|
تقاضاه شيء لا يمل التقاضا |
ويستحسن أيضاً قوله:
تجود لك العينان من ذكر ما مضى |
|
إذا ضن بالدمع العيون الغـوارز |
ألوفان ينهلان من غصص الهوى |
|
كما انهل شق غيبته الـجـوارز |
يهيج لي نوح الحمـام صـبـابة |
|
ونوح مرنات شجتها الـجـنـائز |
لتفـريق ألاف كـأن عـيونـهـا |
|
عيون المها جازت بهن الأماعـز |
أولـئك مـن بـعـد الـهــوى |
|
تصدع شعب بينهم فـتـمـايزوا |
تركن بقلـبـي إذ نـأين حـزازة |
|
أبت أن تجلى إذ نجلي الحـزائز |
ومما يستحسن له قوله:
غراب ينادي يوم لا القلب عـقـلـه |
|
صحيح ولا الشعب الذي أنصاع ملتقى |
جزيت غراب البين شراً لطـالـمـا |
|
شجيت بتشحاج الغراب المـطـوق |
ومن مختار قوله:
زمان الصبا لـيت أيامـنـا |
|
رجعن لنا الخاليات القصارا |
ليالي رأسي غراب غـداف |
|
فطيرة الشيب عنّي فطـارا |
ولا يبعد الله ذاك الـشـبـاب |
|
وإن كان لا هو إلا ادكـارا |
فأصبح مونعـه مـمـحـلا |
|
جديباً خراباً يبابـاً قـفـارا |
وإما مشايخ قد أفـحـشـت |
|
فلا أنا أسطيع منها اعتـذارا |
أجارتـنـا إن ريب الـزمـا |
|
ن قبلي أفنى الرجال الخيارا |
وهـازئة إذ رأت كـبــرةً |
|
تلفع رأسي بها فاستـنـارا |
فإما ترى لمـتـي هـكـذا |
|
فأكثرت مما ترين النـفـارا |
فقد اغتدى وهي هم الحسـان |
|
وقد أسلب العطرات الخمارا |
وقد كنت أسحب ذيل الصبـا |
|
وأرخى على العقبين الإزارا |
ورقراقة لا تطـيق الـقـيا |
|
م إلا رويداً وإلا ابـتـهـارا |
خلوت بها نتجارى الـحـدي |
|
ث شيئاً علانا وشيئاً سـرارا |
كأن على الشمس منها الخمار |
|
إذا هي لاثت عليها الخمارا |
وكان أبو حية تزوج ابنة عم له. فتوفيت عنه. وكاد يخرج عليها من الدنيا. وأشعاره الجياد كلها فيها في وصفها في حياتها، ومراثيها بعد مماتها. وما رأيت ذكياً ولا عاقلاً ولا كاتباً ظريفاً إلا وهو يتمثل من شعر أبي حية النميري بشيء.
فمن ذلك قوله:
فلما أبت إلا اطـراقـاً بـودهـا |
|
وتكديرها الشرب الذي كان صافيا |
شربت برنق من هواها مـكـدر |
|
وكيف يعاف الرنق من كان صادياً |
وله أيضاَ:
استبق دمعك لا يود البكـاء بـه |
|
واكفف بوادر من عينيك تستبق |
وما الدموع وإن جادت ببـاقـية |
|
ولا الجفون على هذا ولا الحدق |
ومن ذلك قوله:
وألقت قناعاً دونه الشمس واتقـت |
|
بأحسن موصولين كفّ ومعـصـم |
فراح وما يدري أفي طلعة الضحى |
|
تروح أم داجٍ من الليل مـظـلـم |
وله شعر جيد ولكن لا نخرج عن الذي رسمناه للكتاب.
توفي في حدود العشر والمائتين.