أخبار عوف بن محلم الخزاعي

قال أبو عبد الله: هذا إنما هو من بني سعد، والشيباني غيره.

وكان صاحب أخبار ونوادر ومعرفة بأيام الناس، وكان طاهر بن الحسين ابن مصعب قد استخصه واختاره لمنادمته، فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر، وكان إذا سافر فهو عديله يحادثه ويسامره، وإذا أقام فهو جليسه يذاكره العلم ويدارسه، وكان طاهراً أديباً شاعراً يحب الأدب وأهله. وكان لا ينفق عنده شيء من متعة الدنيا كما ينفق الأدب، وكان عوف من أهل حران. وقال قوم: من رأس العين. وأقام مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، حتى ليسأله كثيراً أن يأذن له في الإلمام بأهله والخروج إلى وطنه، فلا يجيبه إلى ذلك، وكان يعطيه الجزيل حتى كثرت أمواله، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص، وأنه يلحق بأهله، ويتمتع بما قد اقتناه ببلده. فلوى عبد الله بن طاهر عليه يده، وتمسك به، وأنزله فوق منزله التي كانت من أبيه- وكان من آدب الناس وأعلمهم بأيام العرب وأجودهم قولاً للشعر- فعاد معه عوف إلى حاله التي كان عليها مع أبيه من الملازمة في الحضر والسفر، واجتهد في التخلص فلم يقدر على ذلك، حتى خروج عبد الله بن طاهر من العراق يريد خراسان، وعوف عديله في قبة يسامره ويحادثه. فلما شارفوا الري، وقد أدلجوا سحرة، إذا بقمري يغرد على سروة. بأشجى صوت وأرق نغمة، فالتفت عبد الله إلى عوف فقال: يا أبا ملحم، أما تسمع هذا الصوت؟ ما أرقه وأشجاه! قاتل الله أبا كبير الهذلي حيث يقول:

ألا يا حمام الأيك فرخك حاضر

 

وغصنك مياد ففـيم تـنـوح

قال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد أيها الأمير. كان في هذيل أربعون شاعراً مذكوراً محسناً سواء المتوسطين، وكان أبو كبير، من أظهرهم وأقدرهم على القول.

قال عبد الله: عزمت عليك إلا أجزت هذا البيت. قال عوف: أصلح الله الأمير، شيخ مسن وأحمل على البديهة، وعلى معارضة مثل أبي كبير، وهو من قد علمت؟ قال عبد الله: عزمت عليك وسألتك بحق طاهر إلا فعلت. فأنشأ يقول:

أفي كـل عـام غـربة ونـزوح

 

أما للنـوى مـن ونـية فـتـريح

لقد طلح البين المشـت ركـائبـي

 

فهل أرين البـين وهـو طـلـيح

وأرقني بالـري نـوح حـمـامة

 

فنحت وذو اللب الحـزين ينـوح

على أنها ناحت فلم تـر عـبـرة

 

ونحت وأسراب الدموع سـفـوح

وناحت وفرخاها بحيث تراهـمـا

 

ومن دون أفراخي مهامـه فـيح

ألا يا حمام الأيك فرخك حـاضـر

 

وغصنك مـياد فـفـيم تـنـوح

عسى جود عبد الله أن يعكس النوى

 

فتضحي عصا التسيار وهي طريح

فإن الغني يدني الفتى من صديقـه

 

وعدم الغني للمعسـرين طـروح

فاستعبر عبد الله ورق له لما سمع من تشوقه إلى أهله وبلده، فقال: يا بن محلم ما أحسن ما تلطفت لحاجتك، واستأذنت في الرجوع إلى أهلك وولدك! وإني بك لضنين، وبقربك لشحيح، ولكن والله لا جاوزت مكانك هذا حتى ترجع إلى أهلك وولدك. وأمر له بثلاثين ألف ردهم نفقة، ورده إلى موضعه ذلك. وذلك حيث يقول:

يا بـن الـذي دان لـه الـمـشـــرقــان

 

وألـبـس الأمـن بـه الـمـغــربــان

إن الثمانين وبلغتهاقد أحوجت سمعي إلى ترجمان

 

 

وأبدلتني بالشطاط انحنا

 

وكنـت كـالـصـعـدة تـحـت الـسـنـان

وعـوضـتـنـي مـن زمـاع الـفــتـــى

 

وهـمـه هـم الـهـجــين الـهـــدان

وهـمـت بـالأوطـان وجــدا بـــهـــا

 

وبـالـغـوانـي، أين مــن الــغــوان

فقرباني بأبي أنتمامن وطني قبل اصفرار البنان

 

 

وقبل منعاي إلى نسوة

 

أوطـانهـا حـران فـالـرقـمــتـــان

سقـى قـصـور الـشــادياخ الــحــيا

 

من بـعـد عـهـدي وقـصـور الـمـــيان

فكـم وكـم مـن دعـوة لــي بــهـــا

 

أن تـتـخـطـاهـا صـروف الـزمـــان

وهذه القصور التي ذكرها في شعره كلها بمرو ونيسابور، وهي مساكن آل طاهر، وكان عوف قد ألفها لكثرة غشيانه إياها، ومقامه معهم فيها، ولذلك يدعو لها. ثم ودع عبد الله وخرج من عنده على أيسر حال، فلما كان في بعض الطريق عاجلته منيته فلم يصل إلى أهله، واتصل الخبر بعبد الله فاشتد ذلك عليه وجزع له.
وفي عبد الله بن طاهر يقول عوف يمدحه:

إليك فما حظي لغـيري بـصـائر

 

ولا أجلي إن حم عني بـقـاصـر

أعف وأستغني وإني لـمـقـتـر

 

فتستر عفاتي علـيّ مـفـاقـري

وإني ليأتيني الغنى غـير ضـارع

 

فأدنو به من صاحبي ومجـاوري

لساني وقلبي شاعران كـلاهـمـا

 

ولكن وجهي مفحم غير شـاعـر

ولو كان وجهي شاعراً أكسب الغنى

 

ولكن وجهي مثل وجه ابن طاهر

فتى يختشي أن يخدش الذم عرضه

 

ولا يتقي حد السيوف الـبـواتـر

غليل وقد أوردت دلوي بـبـحـره

 

ولا عيب في ورد البحور الزواخر

وقال يذكر عبد الله وأجداده:

بنو مصعب للملك في السـلـم زينة

 

وفي الحرب دون الملك بيض بواتر

وحول رواق الملك من آل مصعب

 

ليوث لأعناق اللـيوث هـواصـر

فما حال عن ود الخلـيفة طـاهـر

 

ولا زال حتى غيبته الـمـقـابـر

وخلف عبد الله للمـلـك نـاصـراً

 

وهل مثل عبد الله للملك نـاصـر

فتى لو أسرت نفسه كفـر نـعـمة

 

لحاربها حتى تصح الـضـمـائر

ومما سار له في الدنيا قوله الطاهر، إذ وقف على الجسر وطاهر في حراقة ينحدر إلى دار السلطان، فقال عوف رافعاً صوته:

عجبت لحراقة ابن الحس

 

ين كيف تسير ولا تغرق

وبحران، من تحتها واحد

 

وآخر من فوقها مطبق

وأعجب من ذاك عيدانها

 

وقد مسها كيف لا تورق

وكان عوف بن محلم سخيا على الطعام جداً، صاحب شراب ولهو وخلاعة، وكان له إخوان يتمتع بهم ومعهم، ويعاشرهم ويفضل عليهم، وكان الشعراء الأصاغر يقصدونه ويمدحونه، فيعطيهم ويصلهم، ويتوسلون به إلى طاهر فيشفع لهم ويخرج جوائزهم. وقدم مرة شاعر على عبد الله يقال له روح من البصرة، فامتدح عبد الله بقصيدة، ومدح عوفاً بأبيات، وقد أنزله عنده وأحسن إليه، فلما سمع عوف أبياته وجدها ضعيفة جداً، قال أنشدني ما قلت في الأمير- واستدل بما سمع على ضعف نمط الرجل- فأنشده. فقال: لا توصلها إليه، فإن الأمير بصير بالشعر، وهو يقول منه الجيد القوي، ومثل هذا الشعر لا يقع منه موقعاً ينفعك، ولكني أقول فيه مدحه، فانتحلها والقه بها. فأبى، وظن أنه يقول ذلك حسداً، وكان الرجل رقيعاً لا يفطن لعيب نفسه، فقال له: فشأنك إذن وما تريد. فأنشد روح قصيدته عبد الله، فقال له: بمثل هذا الشعر يلقى الأمراء والملوك؟ أيقبل مثل هذا حر؟ وردها عليه، فصار إلى عوف وشكا إليه، فقال له: ألم أنصحك؟ ألم أقل لك: إنه لا يقبل مثل هذا الشعر؟ فلما دخل عوف على عبد الله قال: ويحك يا أبا ملحم، أما سمعت شعر هذا القادم علينا فينا؟ قال عوف: بلى، أعز الله الأمير، قد سمعته ونصحت له فلم يقبل.

وفي ذلك يقول عوف:

أنشدنـي روح مـديحـاً لـه

 

فقلت: شعر؟ قال لي: فايش

فخلت لما أن بدا مـنـشـدا

 

كأنني فـي قـبة الـخـيش

فقلت: زدني وتغـنـمـتـه

 

والثلج في الصيف من العيش

ومما يستحسن لعوف ويختار له من شعره- على أنه كله مختار ليس فيه بيت ساقط. ولا ناقص- :

وكنت إذا صخبت ديار قـوم

 

صحبتهم ونيتـي الـوفـاء

فأحسن حين يحسن محسنوهم

 

وأجتنب الإساءة إن أساءوا

وأبصر ما يريبهـم بـعـين

 

عليها من عيونهم غـطـاء

ومما يختار له قوله:

وصغيرة علـقـتـهـا

 

كانت من الفتن الكبـار

كالـبـدر إلا أنـهــا

 

تبقي على ضوء النهار

قالت غبـار قـد عـلا

 

ك فقلت ذا غير الغبار

هذا الذي نقل الـمـلـو

 

ك إلى القبور من الديار

يا هـذه أرأيت لـــي

 

لاً يستنير بـلا نـهـار

قالت: ذهبت بحجـتـي

 

عني بحسن الإعتـذار

ومما يختار له أيضاً قوله:

وليلتنا طابت وطاب بها الهـوى

 

إلى أن بدا أو كاد منسلخ الفجـر

فما عدلتهـا لـيلة ذات نـعـمة

 

ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر

إذا هي قيست بالليالي وجدتـهـا

 

يكاد يساوي فضلها ليلة الـقـدر

تمليتها حتى الصباح بـطـفـلة

 

مصورة أبهى من الشمس والبدر

قتول بعينيها خلـوب بـدلـهـا

 

سلوب لألباب الرجال وما تدري

ومما يروى له ويستحسن قوله:

سألت المحبين الـذين تـجـشـمـوا

 

تباريح هذا الحب في سالف الـدهـر

فقلت لهم: ما يذهب الحب بـعـدمـا

 

تنشب ما بين الجـوانـح والـصـدر

فقالوا: شفاء الـحـب حـب تـفـيده

 

لآخر أو نأى طويل على الـهـجـر

أو اليأس حتى تذهل النفس بعـد مـا

 

رجت طمعاً واليأس عون على الصبر

قعيدك مـن حـب أمـالـك رحـمة

 

ولا بك عني مـن تـوان ولا فـتـر

وقتلتني حيناً وحـينـاً أعـشـتـنـي

 

فأفنيت عمري بالأمـانة والـنـشـر

ومما يستحسن له وهو من السائر المشهور له قوله:

فما زالت الكأس تغتالـهـا

 

وتـذهـب بـالأول الأول

إلى أن توافت صلاة العشاء

 

ونحن من السكر لم نعقـل

فمن كان يعرف حق النعيم

 

وحق الجليس فلا يجهـل

وما إن جرت بيننا مـزحة

 

تهيج مراء على السلسـل

ومما يختار له أيضاً قوله:

وإني لذو حلم على أن سـورتـي

 

إذا هزني قوم حميت بها عرضي

وإن طلبوا ودي عطفت علـيهـم

 

ولا خير فيمن لا يئول ولا يغضي

وما كل ذي غش يضرك غـشـه

 

ولا كل من يؤتى كرامته يرضي

ومعترض في القول غربت قوله

 

وقلت له ليس القضاء كما يقضي

ركبت به الأهوال حتى تركـتـه

 

بمنزل ضنك لا يكد ولا يمضـي

وإني لأجزي بالكرامة أهـلـهـا

 

وبالحقد حقداً في الشدائد والخفض

ومما يختار له قوله:

وإني لمن أحببـت حـبـي دائم

 

ولست بذي لونين أسود أبـلـق

مدوف يرى الخلان منه تظرفاً

 

له خلق عند البـلاء مـمـزق

يخالط إخوانـاً لـه بـمـلاقة

 

وثر الأخلاء الخئون الممـلـق

وإني لأستحيي الصديق وأتقـي

 

وكل امرئ لا يتقي الدمم أحمق

ومما سار له قوله:

ما ينزل الله بي أمـراً فـأكـرهـه

 

إلا سينزل بي من بعده الـفـرجـا

يا رب أمرين قد فرجت بينـهـمـا

 

من بعد ما اشتبكا في الصدر واعتلجا