أخبار أبي العتاهية

حدثني أبو الخصيب قال: حدثني المزيدي قال: أبو العتاهية اسمه إسماعيل بن القاسم وكنيته أبو إسحاق وهو مولى لعنزة، ويرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ، وذكر الموت والحشر والنار والجنة والذي يصح لي أنه كان ثنوياً.


حدَّثني أبو رجاء البصري قال: حدَّثنا علي بن معمر التميمي قال: حدثني شيخ من قدماء الكتاب قال: كنت: آتي أبا العتاهية فأنسخ أشعاره في الزهد وغيره، وكان له بنتان: إحداهما يقال لها بالله، والأخرى لله وكان له ابن زاهد ناسك، وكان مع ذلك شاعراً، إلا أنه قد تخلى من الدنيا.


حدثني أبو الأزهر التبان عن أبي العنقاء البصري قال: كان أبو العتاهية أحد المطبوعين، وممن كاد يكون كلامه شعراً كله، وغزله لين جداً مشاكل لكلام النساء، موافق لطباعهن، وكذلك كان عمر بن أبي ربيعة المخزومي، والعباس بن الأحنف، وكان أبو العتاهية يتغزل في عتبة جارية رائطة بنت أبي العباس السفاح ويظهر عشقها، وكان يجيد الوصف. فمما قاله في عتبة قوله:

أعلمت عتـبة أنـنـي

 

منها على شرف مطل

وشكوت ما ألقى إلـي

 

ها والمدامع تستهـل

حتى إذا برمت بـمـا

 

أشكو كما يشكو الأذل

قالت: فأي النـاس يع

 

لم ما تقول فقلت: كل

أجمع أهل الأدب أنهم لم يسمعوا قافية أحق بمكانها من قوله فقلت كل وهي قصيدة مشهورة يغني بها.

وحدثني المبرد قال: حدثني محمد بن البصري قال: كان أبو العتاهية، لسهولة شعره وجودة طبعه فيه، ربما قال شعراً موزوناً ليس من الأعاريض المعروفة، وكان يلعب بالشعر لعباً، ويأخذ كيف شاء.

وحدثني إبراهيم بن العباس الكاتب عن أبيه قال: قال أبو العتاهية: قال لي المأمون: أنت أشعر أم أبو نواس؟ فقلت: أنا من قد علمت يا أمير المؤمنين، ولوددت أن أبيات أبي نواس لي فأستعلي بها على شعراء أهل الأرض، قال: وما هي؟ قلت قوله:

ومستبـعـد إخـوانـه بـثـرائه

 

لبست له كبر أبر على الـكـبـر

متى ضمني يوماً وإياه مـجـلـس

 

رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر

وقد زادني تيهاً على الناس أنني

 

أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر

قال المأمون: أحسن الرجل أحسن.

وحدثني المعروسي الكوفي قال: حدثني محمد بن زياد- كان يروي لأبي العتاهية شعراً كثيراً قال: جلس أبو العتاهية يوماً إلى قصار فسمع صوت الكدين فقال باقتداره شعراً على إيقاعه، منه هذا البيت:

المنون مفنيات

 

واحداً فواحدا

كأنه نظر إلى القصار أخذ ثوباً بعد ثوب، فشبهه بأخذ الموت إنساناً بعد إنسان، وأخذ الوزن من وقع الكدين.
ومما سار له قوله:

بسطت كفي نحوكم سائلاً

 

ماذا تردون على السائل

إن لم تنيلوه فقولـوا لـه

 

قولاً جميلاً بدل النـائل

أو كنتم العام على عسرة

 

ويلي فمنوه إلى قابـل

ولهذا الشعر من قلوب النساء موقع الزلال البارد من الظمآن لرقته، وحدثني أبو البلاد عن الأخوص الأصغر قال: كانت عتبة التي يسبب بها ويظهر عشقها أبو العتاهية جارية لرائطة بنت أبي العباس السفاح، وكان رائطة تحت ابن عمها المهدي بن المنصور أمير المؤمنين، فلما بلغ المهدي إكثاره في شعره من ذكرها ووصفها غضب وقال: ما يجد هذا الجرار أحداً يعبث بحرمة غيرنا؟ وكان أبو العتاهية قديماً يبيع الجرار في سوق الكوفة، ثم تأدب فارتفع بأدبه. قال: فأمر بحبسه، فعمل أبو العتاهية من قبل يزيد بن منصور خال المهدي- وكان أعز الناس إليه- حتى تخلص، فعاد إلى مثل حاله معها، فلما طال هذا دخلت رائطة على المهدي فشكته وقالت: قد شهر بجاريتي بشعره وفضحها، واحفظته عليه، فأحضره وضربه بالسياط في الدواوين بين يديه، وكان ضعيف البنية فغشى عليه، فلما أفاق رفع رأسه فإذا بعتبة واقفة تنظر إليه من سطح فقال:

بخ بخ يا عتب من مثلكم

 

قد قتل المهدي فيكم قتيل

فتعجب المهدي ورق له ورحمه، وأمر بالإحسان إليه، ووعده بالجارية أن يستوهبها من مولاتها ويدفعها إليه، فلما علمت الجارية ذلك، وألح أبو العتاهية على المهدي يقتضيه ما وعده بشعره قالت: يا أمير المؤمنين أستجير في مروءتك وشرفك وما يلزمك من حق خدمتي وصحبتي أن تخرجني من دار النعمة إلى بائع جرار سوقي دنيء النفس، وبعد، فإنما يريد الذكر والشهرة، وليس بعاشق، فإن أردت أن تعرف ما يقول فمر له بمال له خطر، فإنه سيلهيه عني ويشغله عن ذكري، فأمر له المهدي بمائة ألف، ولم يسم ورقاً ولا عيناً، فأورد أبو العتاهية توقيعة بذلك على الكتاب، فأعطوه مائة ألف درهم على أنه لم يسم شيئاً، فأبى ولم يرض وقال: أنا لا أراه وقع لي بمائة ألف دينار، فإنه لم يكن ليعوضني منها أقل من هذا، فقالوا: حتى نؤامره إذاً في هذا الكتاب، وكان يتردد شهراً يطالب به، فأشرقت عليه عتبة وقالت له:- وقد دخل الدار يقتضي ذلك- : يا صفيق الوجه، لو كنت عاشقاً لشغلك العشق عن المفاضلة بين الدراهم والدنانير. وبلغ كلامها المهدي، فعلم أنها كانت أعرف بقصة الرجل، فأمسك عن أمره.

ولأبي العتاهية في الرشيد وكان وجد عليه فحبسه فكتب إليه:

تفديك نفسي من كل ما كرهت

 

نفسك إن كنت مذنباً فاغفـر

يا ليت قلبي لديك صـور مـا

 

فيه لتستيقن الـذي أضـمـر

فرق له، ووقع في رقعته: لا بأس عليك، فاطمأن إلى ذلك. ثم تمادى مكثه في الحبس فكتب إليه:

كأن الخلق ركب فوق روح

 

له جسد وأنت علـيه رأس

أمين الله إن الحبـس بـأسٌ

 

وقد وقعت: ليس عليك باسُ

فأمر بإطلاقه.

ومما كتب إليه في الحبس أيضاً هذا:

إنمـا أنـت رحـمة وسـلامة

 

زادك الله غـبـطة وكـرامة

قيل لي قد رضيت عني فمن لي

 

أن أرى لي على رضاك علامه

وحـقـيق ألا يراع بـســوء

 

من رآك ابتسمت منه ابتسامـه

لو توجعت لي فروحت عـنـي

 

روح الله عنـك يوم الـقـيامة

وكان الرشيد حين حبسه جعل أمره خادم له يقال له ماهر، وكان يحسن إليه، فهو يقول:

كفاني العناية مـن أمـره

 

بتشمير ما كان من غرسه

وكان الشفيع إلـى غـيره

 

فصار الشفيع إلى نفسـه

وحدثني بعض أهل الأدب قال: أهدي أبو العتاهية إلى الرشيد نعلاً وكتب إليه:  

نعل بعثت بها لتلبـسـهـا

 

قدماً تسير بها إلى المجد

لو كان يمكن أن أشركهـا

 

خدي جعلت شراكها خدي

وسمع رجل أبا العتاهية ينشد:

فانظر بعينك حيث شئ

 

ت فلن ترى إلا بخيلا

أراد ما في صورة الإسراء "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً" فقال الرجل: يا أبا العتاهية بخلت بجميع الناس، قال: فأكذبني بواحد.

حدثني محمد بن راشد الكاتب عن ابن جبلة البنوي قال: أتى أبو العتاهية باب أحمد بن يوسف كاتب المأمون، فحجب عنه فقال:

متى يظفر الغـادي بـحـاجة

 

ونصفك محجوب ونصفك نائم

فسار بيته هذا في الأفاق، وجعل الناس يتناشدونه، فاعتذر إليه. ومما يستحسن له في المواعظ والحكمة:

وعظتك أجداث صمت

 

ونعتك أزمنة خفـت

وتكلمت عـن أوجـه

 

تبلى وعن صور شتت

وأرتك قبرك في القبو

 

ر وأنت حيّ لم تمت

وله في استبطاء بعض الناس، وما سمع بأحسن منها:

ما أنـا إلا لـمـن يرانـي

 

أرى خليلي كمـا يرانـي

لست أرى ما ملكت أمـري

 

مكان من لا يرى مكانـي

من ذا الذي يرتجي الأقاصي

 

إن لم ينل خـيره الأدانـي

فلي إلـى أن أمـوت رزق

 

لو جهد الخلق ما عدانـي

لا يكرم الدهر كل مـن لا

 

يصلح إلا على الـهـوان

واستغن باللـه عـن فـلان

 

وعن فلان وعـن فـلان

فالمال من حـلـه صـيان

 

للوجه والعرض واللسـان

والفقر بيت علـيه قـفـل

 

مفتاحه العجز والتـوانـي

ولا تدع مكـسـبـاً حـلالاً

 

تكون منـه عـلـى بـيان

ورزق ربـي لـه وجـوه

 

هن من الله في ضـمـان

سبحان من لم يزل عـلـيا

 

ليس له في العلو ثـانـي

قضى على خلقه المـنـايا

 

فكل شيء سـواه فـانـي

يا رب لم نبك مـن زمـان

 

إلا بكينـا عـلـى زمـان

وهو القائل أيضاً:

نعمى نفسي إليّ من الليالـي

 

تصرفهن حالاً بعـد حـال

فما لي لست مشغولاً بنفسـي

 

ومالي لا أخاف الموت مالي

لقد أيقـنـت أن غـير بـاق

 

ولكني أرانـي لا أبـالـي

أمالي عبرة في ذكـر قـوم

 

تفانوا ربما خطروا ببـالـي

كأن ممرضي قد قام يسعـى

 

بنعشي بين أربعة عـجـال

وخلفي نسوة يبكين شـجـواً

 

كأن قلوبهن على المقـالـي

تعالى الله يا سلم بن عمـرو

 

أذل الحرص أعناق الرجال

هب الدنيا تساق إليك عفـواً

 

أليس مصير ذاك إلى الزوال

فما ترجو بشيء ليس يبقـى

 

وشيكاً ما تغيره الـلـيالـي

بلوت الناس قرناً بعـد قـرن

 

فلم أر غير خلاب وقـالـي

وذقت مرارة الأشياء جمعـاً

 

فما شيء أمر من السـؤال

ولم أر في الأمور أشد هولاً

 

وأفظع من معاداة الرجـال

وأشعار أبي العتاهية كثيرة جداً، إلا أنها مشهورة وموجودة، وفيما أوردناه منها كفاية.