أخبار مسلم بن الوليد الأنصاري

وهو صريع الغواني.

حدثني صالح بن محمد العوفي قال: حدَّثنا إبراهيم بن أبي يحيى المدني الأنصاري قال: كان مسلم بن الوليد صريع الغواني مداحاً محسناً مجيداً مفلقاً، وهو أول من وسع البديع، لأن بشار بن برد أول من جاء به. ثم جاء مسلم فحشا به شعره، ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار.

وجل مدائح مسلم في يزيد بن مزيد، وداود بن مزيد، وفي البرامكة. وقد مدح الخلفاء حدثني ابن المغير قال.

كان مسلم بن الوليد مدح الرشيد باللامية السائرة، فلما دخل عليه فأنشده وبلغ قوله: ?هل العيش إلا أن تروح مع الصبا=وتغدو صريع الكأس والأعين النجل قال له: أنت صريع الغواني. فسمي بذلك حتى صار لا يعرف إلا به. ويقال: إن الرشيد كتب شعره بماء الذهب. وأول القصيدة:

أديرا الكأس لا تشربا قبـلـي

 

ولا تطلبا من عند قاتلي ذحلي

وهي مشهورة سائرة جيدة عجيبة. ومما يستحسن له- على أن شعره كله ديباج حسن لا يدفعه عن ذلك أحد- قوله:

فإني وإسـمـاعـيل يوم وداعـه

 

لكالغمد يوم الروع زايله النصل

فإن أغش قوماً بعده أو أزرهـم

 

فكالوحش يدنيها من الأنس المحل

وهذا معنى لا يتفق للشاعر مثله في ألف سنة.

وهو القائل في يزيد بن مزيد في قصيدة له جيدة طويلة عجيبة.

موف على مهج فـي يوم رهـج

 

كأنه أجـل يسـعـى إلـى أمـل

لا يرحل الناس إلا نحو حجـرتـه

 

كالبيت يضحى إليه ملتقى السبـل

يكسو السيوف نفوس الناكثـين بـه

 

ويجعل الروس تيجاناً على الـذيل

قد عود الطير عادات وثقن بـهـا

 

فهن يتبعنه في كـل مـرتـحـل

تراه في الأمن في ردع مضاعـفة

 

لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل

لله من هاشم في أرضـه جـبـل

 

وأنت وابنك ركنا ذلك الـجـبـل

صدقت ظني وصدقت الظنون بـه

 

وحط جودك جل الرحل عن جملي

وأول هذه القصيدة:

أجررت حبل خليع في الصبا غزل

 

وشمرت همم العذال في العـذل

وهي كما قلنا مشهورة، فتركناها إلا هذه الأبيات فإنها من عيون القصيدة، وإن كانت القصيدة كلها عينا.
ومما سار له من هجوه قوله:

يا ضعيف موسى أخي خزيمة صم

 

أو فتزود إن كنـت لـم تـصـم

أطرق لما أتـيت مـمـتـدحـاً

 

فلم يقل لا فضلاً عـلـى نـعـم

فخفـت إن مـات أن أقـاد بـه

 

فقمت أبغي النـجـاة مـن أمـم

لو أن كـنـز الـبـلاد فـي يده

 

لم يدع الإعـتـلال بـالـعــدم

ومما يختار له أيضاً قوله:

لن يبطئ الأمر ما أملت أوبتـه

 

إذا أعانك فيه رفـق مـتـئد

والدهر آخذ ما أعطي مكدر ما

 

أصفى ومفسد ما أهوى له بيد

فلا يغرك من دهر عطـيتـه

 

فليس يترك ما أعطي على أحد

ومما يستملح له قوله:

شججتها بلعاب المزن فاغتزلـت

 

نسجين من بين محلول ومعقـود

أهلاً بوافـدة لـلـشـيب واردة

 

وإن تراءت بشخص غير مودود

لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت

 

نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد

ومما يختار له قوله للفضل بن يحيى أو الفضل بن جعفر بن يحيى:

تساقط يمناه النـدى وشـمـالـه ال

 

ردى وعيون القول منطقه الفصـل

بكف أبي العباس يستمطر الغـنـى

 

وتستنزل النعمى ويسترعف النصل

متى شئت رفعت الستور عن الغنـى

 

إذا أنت زرت الفضل أو أذن الفضل

ومن السائر الذي يروي له قوله في السفينة:

كشـفت أهاويل الدجـى عن مـهـولة

 

بجارية محـمولة حامل بكــر

إذا أقبت راعـت بقلة قـرهـب

 

وإن أدبرت راقت بقـادمتـي نسر

أقلت بـمجدافين يعتـورانـهـا

 

وقومهـا كبح اللجام من الدبــر

كأن الصبا تحكي بها حين واجهتنسم الصبا مشي العروس إلى الخدر

 

 

ركبنا إليه البحر في أخرياته

 

فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر

ومما يستملح له حسن تشبيه وجودة معنى قوله:

إبريقنا سلب الغزالة جيدهـا

 

وحكى المدير بمقلتيه فزالا

يسقيك باللحظات كأس صبابة

 

ويعيدها من كفـه جـريالا

ومن مختاراته أيضاً قوله:

إذا شئتما أن تسقيانـي مـدامة

 

فلا تقتلاها، كل ميت محـرم

خلطنا دماً من كرمة بدمـائنـا

 

فأظهر في الألوان منا الدم الدم

ومن بديع ما يروي له قوله:

إن كنت تسقين عين الراح فاسقيني

 

كأساً ألذ بها من فيك تشـفـينـي

عيناك راحي وريحاني حديثك لي

 

ولون خديك لون الورد يكفـينـي

ومن بدائعه أيضاً قوله:

خفين على ريب المنون وغصت ال

 

رين فلم ينطق لها أبـداً حـحـل

ولما تلاقينا قضى الليل نـحـبـه

 

بوجه كوجه الشمس ما إن له مثل

وخال كخال البدر في وجه مثـلـه

 

لقينا المنى فيه فحاجزنـا الـبـذل

وماء كماء الشمس لا يقبـل الأذى

 

إذا درجت فيه الصبا خلته يغلـو

من الضحك الغر اللواتي إذا التقت

 

تحدث عن أسراره السبل السبـل

صدغنا به حد الشمول وقد طغت

 

فألبسها حلماً وفي حلمها جهـل

ومما يستحسن من لاميته في الرشيد قوله:

ومانحة شرابها المـلـك قـهـوة

 

يهودية الأصهار مسلمة البـعـل

بعثنا لها منا خطيباً لبـضـعـهـا

 

فجاء بها يمشي العرضنة في مهل

قد استودعـت دنـاّ فـهـو قـائمٌ

 

بها شغفاً بين الكروم على رجـل

شققنا لها في الدن عيناً فأسبـلـت

 

كألسنة الحيات خافت من القـتـل

ويختار من قوله هجوه لسعيد بن سلم:

وأحببت من حبها الباخـلـي

 

ن حتى ومقت ابن سلم سعيدا

إذا سيل عرفاً كسا وجـهـه

 

ثياباً من اللوم صفرا وسـودا

ومما السحر معناه رقة وحسناً

إذا التقينا منعنا النوم أعينـنـا

 

ولا تلائم غمضاَ حين نفترق

أقر بالذنب مني لست أعرفه

 

كيما أقول كما قالت فنتفـق

حبست دمعي على ذنب تجدده

 

فكل يوم دموع العين تستبق

ومن جيد ما يروى له قوله:

فما سلوت الهرى جهلاً بلـذتـه

 

ولا عصيت إليه الحلم من خرق

يا واشياً أحسنت فينـا إسـاءتـه

 

نجي حذارك إنساني من الغرق

ويختار له أيضاً قوله في غلبة اليأس على النفس والرجوع إلى الطمع:

أعاود ما قدمـتـه مـن رجـائهـا

 

إذا عاودت باليأس منها المطـامـع

رأتني عمى الطرف عنها فأعرضت

 

وهل خفت إلا ما تشير الأصـابـع

وما زينتها النفس لي عن لـجـاجة

 

ولكن جرى فيها الهوى وهو طائع

مللت من العذال فيها فـأطـرقـت

 

لهم أذن قد صم عنها المـسـامـع

فأقسمت أنسى الداعيات إلى الصبـا

 

وقد فاجأتها العين والستـر واقـع

ومما يستحسن له في الزهد قوله:

كم رأينا من أناس هلكـوا

 

فبكى أحبابهم ثم بـكـوا

تركوا الدنيا لمن بعـدهـم

 

ودهم لو قدموا ما تركوا

كم رأينا من ملوك سوقوا

 

ورأينا سوقة قد ملـكـوا

وضع الدهر عليهم بركة

 

فاستداروا حيث دار الفلك