أخبار منصور النمري

واسمه منصور بن سلمة بن الزبرقان، وهو من رأس العين. ويكنى أبا الفضل حدثني أبو رجاء الضحاك بن رجاء الكوفي قال: حدثني ابن عبدل قال: مر منصور النمري يوماً بالعتابي- وكان صديقاً له، وكان النمري يجل العتابي ويعظمه لقناعته وديانته، ولعلمه مع ذلك وسعة أدبه- فسلم عليه فرأى به العتابي كآبة. فقال له النمري إني مغتم بامرأتي فلانة، فإنها تمخض منذ ثلاث وقد عسرت عليها ولادتها، فقال له العتابي: ويحك، فأين تركت الحزم ودواؤها عندك؟ قال: وما هو؟ فقال: تكتب على متاعها: الرشيد، حتى تسهل ولادتها فإنما عسر الولادة من ضيق المسلك. وإذا كتبت الرشيد على فرجها اتسع. فغضب النمري واختلط. وقال ويحك، أشكو إليك مثل هذا الأمر أفتستقبلني بمثل هذا، وتستخف باسم أمير المؤمنين وذكره؟ فقال العتابي: فلا تغضبن فأنت علمتنا هذا. ألست القائل في الرشيد في قصيدتك العينية:

إن أخلف القطر لم تخلف مخايله

 

أو ضاق أمر ذكرناه فيتـسـع

وهذه القصيدة عجيبة في المدح فصيحة، وتشبيبها في الشيب لم يقل مثله أحد- فاستحكم غضب النمري وغيظه عليه، ومر من وجهه ذلك إلى الرشيد فأعلمه، وحكى لفظه، ففار كما يفور المرجل غيظاً عليه، وحلف ليقتلنه. وكان جعفر بن يحيى يستخص العتابي ويقربه ويعاشره، فما زال بالرشيد حتى عفا عنه، ورضي وسكنت نفسه. وسكت العتابي على هذه مدة، حتى تمكن من الرشيد بعلمه وغزارة أدبه، فإنه كان بحراً لا ينزف، وحضر مجلسه ليلة يسامره، والنمري غائب بالرقة، فتحدث عنه طويلاً وأجرى الحديث إلى ذِكر الروافض محمداً، ثم أنشده القصيدة التي للنمري وأولها:

شاء من الناس رابع هامـل

 

يعللون النفوس بالـبـاطـل

تقتـل ذرية الـنـبـي وير

 

جون خلود الجنات للقـاتـل

ويلك يا قاتل الحسين لـقـد

 

بؤت بحمل ينوء بالحـامـل

أي حباء حبوت أحمـد فـي

 

حفرته من حرارة الثاكـل

بأي وجه تلقى النبـي وقـد

 

دخلت في قتله مع الداخـل

هلم فاطلب غداً شفـاعـتـه

 

أو لا فرد حوضه مع الناهل

ما الشك عندي في حال قاتله

 

لكنني قد أشك في الخـاذل

نفسي فداء الحسين يوم غدا

 

إلى المنايا غدو لا قـافـل

ذلك يوم أخنى بشـفـرتـه

 

على سنام الإسلام والكاهل

حتى متى أنتِ تعجلـين: ألا

 

تنزل بالقوم نقمة العاجـل

لا يعجل الله إن عجلت وما

 

ربك عما ترين بالغـافـل

وعاذلي أنني أحب بـنـي

 

أحمد فالترب في فم العاذل

قد دِنت ما دينكم عليه فمـا

 

وصلت من دينكم إلى طائل

دينكم جفوة النبـي ومـا ال

 

جافي لآل النبي كالواصل

فلما بلغ قوله في ذكر فاطمة عليه السلام وأمر فدك، وذكر أبي بكر وعمر، وزعمه أنهما ظلماها في أمر فدك وهو قوله:

مظلومة والإله ناصرها

 

تُديرُ أرجاء مقلة حافل

قال له الرشيد: يا عتابي، من قال هذا؟ قال: عدوك يا أمير المؤمنين الذي تظن أنه وليك. فقال: ويلي على ابن الفاعلة، يحض الناس على الخروج علي، يضمر عداوتي ويظهر من موالاتي ما يظهر، وقد اقتني مني هذه الأموال، ومنزلته هذه المنزلة- وكان منصور يعتزي إلى الرشيد بالخؤولة من جهة نتيلة النمرية أم العباس بن عبد المطلب، وكان يمدح الرشيد بالمدائح الجياد التي ليس لأحد مثلها، وكان يصله بالصلات الجزيلة، وكان النمري يدين بالإمامة سراً، ويمدح آل الرسول، ويعرض في شعره بالسلف، والرشيد لا يعلم ذلك حتى كثر، وكان ذلك اليوم- ثم أقبل العتابي يحضه، ويذكر مذهبه، وينشد شعره في الطالبيين شيئاً بعد شيءٍ، فدعا الرشيد بأبي عصمة الشيعي وهو من الزيدية في شيعة بني العباس. فقال له: اخرج من ساعتك هذه إلى الرقة، فخذ منصوراً النمري، فسل لسانه من قفاه، واقطع يده ورجله، ثم اضرب عنقه، واحمل إلى رأسه، واصلب هناك بدنه. فخرج أبو عصمة لذلك، فلما صار بباب الرقة، وهو يدخل المدينة، إذا هو بجنازة النمري قد استقبلته فانكفأ راجعاً إلى الرشيد فاعلمه. فقال له: فألا إذ صادفته ميتاً أحرقته بالنار؟ وهو القائل بقصيدته التي يمدح فيها الرشيد:

يا بن الأئمة من بعد النبي ويا أب

 

ن الأوصياء أقر الناس أم دفعوا

لولا عدي وتيم لم تكن وصلـت

 

إلى أمية تمريها وتـرتـضـعُ

إن الخلافة كانت إرث والدكـم

 

من دون تيم وعفو الله متـسـع

وما لآل علي في إمـارتـكـم

 

حق وما لهم في إرثكم طمـع

يا أيها الناس لا تغرب عقولكـم

 

ولا تضفكم إلى أكنافها البـدع

العم أولى من ابن العم فاستمعوا

 

قول النصيح فإن الحق يستمـع

وقد أقام القيامة في تشبيب هذه القصيدة بالشباب فالتشبيب منها:

أودى الشباب وفاتتني بـشـرتـه

 

صروف دهر وأيام لـهـا خـدع

ما كنت أوفي شبابي كنت غرتـه

 

حتى انقضى فإذا الدنيا له تـبـع

إن كنت لم تطمعي ثكل الشباب ولم

 

تشجى بغصته فالـعـذر لا يقـع

وأول هذه القصيدة:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع

 

إذا ذكرت شباباً ليس يرتجـع

ورووا أنه دخل على الرشيد يوماً فانشده:

بنـي حـسـن وقـل لـبـنـي حـــســـينٍ

 

علـيكـم بـالـســـداد مـــن الأمـــورِ

أمـيطـوا عـنـكـم كــذب الأمـــانـــي

 

وأحـــلامـــاً يعـــدن عـــدات زور

منـنـت عـلـى ابـن عـبـد الـلـه يحــيى

 

وكـان مـن الـحـتـوف عـلـى شـفـــير

ولـو جـايت مــا اقـــتـــرفـــت يداه

 

دلـفـت لـه بـقـاصـمة الـظــهـــور

يدٌ لـك فـي رقـاب بـنـــي عـــلـــي

 

ومـن لـيس بـالـمـن الــصـــغـــير

وإنك حين تبلغهم أذاة وإن ظلموا لمحترق الضمير

 

 

ألا لله در بني علي

 

وزور مـن مـقـالـتـهـــم كـــبـــير

يُسـمـون الـنــبـــي أبـــاً، ويأبـــى

 

من الأحـزاب سـطـر فـي ســـطـــور

يريد قوله عز وجل "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله" قال: فقال الرشيد لما سمع قوله:

وإنك حين تبلغهم أذاةوإن ظلموا لمحترق الضمير

ويحك، ما هذا؟ شيء كان في نفسي منذ عشرين سنة لم أقدر على إظهاره فأظهرته بهذا البيت. ثم قال للفضل بن الربيع: خذ بيد النمري فأدخله بيت المال، ودعه يأخذ ما شاءَ، فأدخلني وليس فيه إلا سبع وعشرون بدرة، فاحتملتها. وأخذ النمري على شعره في دفعتين ما لم يأخذه شاعر قط: إحداهما هذه، والأخرى أن الرشيد كان بالرقة، وكان يستحسنها ويستطيبها، فيقيم بها، وأطال المقام بها مرة، فقالت زبيدة للشعراء: من وصف مدينة السلام وطيبها في أبيات يشوق أمير المؤمنين إليها أغنيته. فقال في ذلك جماعة، منهم النمري قال أبياتاً أولها:

ماذا ببغداد من طيب أفـانـين

 

ومن عجائب للدنيا ولـلـدين

إذا الصبا نفحت والليل معتكر

 

فحرشت بين أغصان الرياحين

فوقعت أبياته من بين جميع ما قالوا، وانحدر الرشيد إلى بغداد. فوهبت زبيدة للنمري جوهرة. ثم دست إليه من اشتراها، بثلاثمائة ألف درهم.

ومن جيد ما قال في آل الرسول عليهم السلام:

آل الرسول ومن يحبـهـم

 

يتطامنون مخافة القـتـلِ

أمن النصارى واليهود وهم

 

من أمة التوحيد في أزلِ

وله الميمية التي يغني بها، يمدح فيها الرشيد وهي جيدة أولها:

يا زائرينا مـن الـخـيامِ

 

حياكما الله بـالـسـلام

لم تطرقاني وبي حـراك

 

إلى حـلال ولا حـرامِ

هيهات للهو والتصابـي

 

وللغوانـي ولـلـمـدامِ

أقصر جهلي وثاب حلمي

 

ونهنه الشيب من عرامي

لله حبي وتـرب حـبـي

 

ليلة أعياهما مـرامـي

آذنتاني بطول هـجـري

 

وعدتاني مع الـسـوامِ

وانطوتا لي علـى مـلامٍ

 

والشيب شر من المـلام

بورك هارون من إمـام

 

بطاعة الله ذو اعتصـام

يسعى على أمة تمـنـى

 

أن لو تقية من الحمـام

لو استطاعت لقاسمـتـه

 

أعمارها قسمة السهـام

يا خير ماض وخير بـاقٍ

 

بعد النبيين فـي الأنـام

وميميته في المأمون وهو ولي عهد عجيبة، قد صارت مثلاً في سائر الناس وأولها:

لعل عُذراً وأنت تـلـومْ

 

وكم لائم قد لام وهو مُليم

وأشعار النمري في آل الرسول عليهم السلام كثيرة جيدةً، من أجود ما مُدحوا به. وكذلك ما له في المدح والغزل كله جيد. وهو من فحولة المحدثين. وله أخبار كثيرة ونوادر.