أخبار العباس بن الأحنف

حدَّثني إبراهيم بن معلى البصري قال: حدَّثني محمد بن عامر الحنفي قال: كان العباس بن الأحنف من بني حنيفة، وكان شاعراً ظريفاً ومفوهاً منطقياً مطبوعاً، وكان يتعاطي الفتوة على ستر وعفة، وله مع ذلك كرمٌ ومحاسن أخلاق وفضل من نفسه، وكان جواداً لا يليق درهماً ولا يحبس ما يملك، ويكنى أبا الفضل. حدَّثنا جابر بن عمرو الباهلي قال: حدثني ابن أبي العلاء قال: كان العباس بن الأحنف منشؤه ببغداد وكان من بني حنيفة، ويدلك على ذلك قوله:

فإن يقتلوني لا يفوتوا بمهـجـتـي

 

مصاليت قومي من حنيفة أو عجل

حدَّثني عون بن جعفر عن محمد بن روح قال: وقع بين مسلم بن الوليد صريع الغواني وبين العباس بن الأحنف تهاجٍ في أمر كان بينهما، فقال له مسلم يهجوه:

بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهـم

 

فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا

اذهب إلى عرب ترضى بنسبهم

 

إني أرى لك وجهاً يشبه العربـا

وحدثني أبو مالك عن الأجلح بن يزيد قال: كان العباس بن الأحنف صاحب غزل، رقيق الشعر، يشبه في عصره بعمر بن أبي ربيعة المخزومي في عصره، ولم يكن يمدح ولا يهجو، إنما كان شعره كله، في الغزل والوصف، وهو الذي يقول:

أشكو الذين أذاقونـي مـودتـهـم

 

حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا

لأخرجن من الـدنـيا وحـبـهـم

 

بين الجوانح لم يشعـر بـه أحـد

ألقيت بيني وبين الهـم مـعـركة

 

فليس تنفد حـتـى ينـفـد الأبـد

ومما يستحسن له قوله:

لو كنت عاتبة لسكـن لـوعـتـي

 

أملي رضاك، وزرت غير مراقب

لكن مللت فلم تـكـن لـي حـيلة

 

صد الملول خلاف صد العـاتـب

ما ضر من قطع الرجاء ببخـلـه

 

لو كان عللنـي بـوعـد كـاذب

وهذا المعنى يشبه قول الشاعر:

أميتني، فـهـل لـك أن تـردى

 

حياتي من مقالك بـالـغـرور

أرى حبيبـك ينـمـي كـل يوم

 

وجورك في الهوى عدلا فجوري

ومن بديع ما للعباس وطريفه ما ليس لأحد في معناه شيء يدانيه قوله:

أحرم منكم بما أقـول وقـد

صرت كأني ذبالة نصبـت

 

تضيء للناس وهي تحترق

       

وهو القائل أيضاً:

هبوني أغص إذا مـا بـدت

 

وأمنع طرفي ولا أنـظـر

فكيف استتاري إذا ما الدموع

 

نطقن فبحن بما أضـمـر؟

ومن بدائعه المليحة قوله:

بكت غير آنسة بالـبـكـاء

 

ترى الدمع في مقلتيها غريباً

وأسعدها نسوة بـالـبـكـاء

 

جعلن مغيض الدموع الجيوبا

أيا من تعلـقـتـه نـاشـئاً

 

وشبت وما آن لي أن أشيبـا

ويا من دعاني إلـى حـبـه

 

فلبيت حين دعاني مجـيبـا

وكم باسطين إلى حبـلـنـا

 

أكفهم لم ينالـوا نـصـيبـا

لعمري لقد كذب الزاعمـون

 

بأن القلوب تجاري القلوبـا

ولو كان حقاً كما يزعمـون

 

لما كان يشكو محب حبيبـا

وأنت إذا ما وطئت الـتـرا

 

ب صار ترابك للناس طيبـا

وذكر أن الرشيد هجر جاريته ماردة وهي أم المعتصم، وكان يموت من عشقها، فتكبر أن يبدأها بالصلح، وتكبرت هي أيضاً، فصبرا على ذلك بأمر عيش، وكاد الرشيد يتلف. وكان وزيره الفضل بن الربيع، فأحضر الفضل العباس بن الأحنف، وعرفه القصة وقال: في ذلك شيئاً، فقال:

العاشقان كلاهما متجـنـب

 

وكلاهما متعتب متغضـب

صدت مهاجرة وصد مهاجراً

 

وكلاهما مما يعالج متعـب

إن التجانب إن تطاول منهما

 

دب السلو له فعز المطلـب

فبعث إليه الفضل بالأبيات، فسر بها سروراً، ولم يستتم الرشيد قراءتها حتى قال العباس أيضاً بيتين في ذلك هما:

لا بد للعاشـق مـن وقـفة

 

تكون بين الوصل والصـرم

حتى إذا الهجر تمـادى بـه

 

راجع من يهوى على الرغم

فاستحسن الرشيد إصابته حالهما، وقال: والله لأصالحنها كما قال. وعرفت ماردة السبب في الشعر. ولم تدر من قائله. فسألت الرشيد فقال: لا أدري من صاحب الشعر. ولكن الفضل بن الربيع بعث به، فأرسلت إلى الفضل تسأله، فأعلمها، فأمرت له بألف دينار، وأمر له الرشيد بألفي دينار، وأمر له الفضل بخمسمائة دينار.
ومن بدائعه وصفه تمشي المرآة بالهوينا:

كأنها حين تمشي في وصـائفـهـا

 

تمشي على البيض أو فوق القوارير