أخبار سعيد بن وهب

حدَّثني ابن البختكان عن أبي بكر بن العلاء البصري قال: سعيد بن وهب الشاعر من أهل البصرة، وهو مولى لربيعة. وحدثني إبراهيم بن ميمون قال: حدثني أحمد بن عبد السلام قال: وجه الرشيد بمسرور الكبير إلى يحيى بن خالد بن برمك، والفضل بن يحيى، وذوي أنسابهم، وهم في الحبس، يتعرف على حالهم، فصار إليهم، فوجد الفضل بن يحيى ساجداً، فهتف به فلم يجبه، فدنا منه فوجده نائماً يغط، فرجع إلى الرشيد فأعلمه فقال له: ما كان عليه من اللباس؟ قال: كان في ثوب سمل- وكان هذا في الشتاء والبرد الشديد- فقال لمسرور: خذ ذلك الدواج فألقه عليه ولا تنبه؛ ففعل. فلما كان في الغد زاره سعيد بن وهب الشاعر، وكان يألفهم أيام نعمتهم وكانوا إليه محسنين، فكان يرعى لهم- أيام محنتهم- ذلك. فلما دخل عليهم قال: ما هذا الدواج، وقد كنت عندكم أمس ولم أره؟ فأخبروه فقال: نرجو أن يكون هذا سبب الرضا، وجلس يحدثهم، إذ مر إنسان في الشارع ينادي على خشف يبيعه، يدور به على القصور، فلما سمع الفضل ذكر الخشف غشي عليه، وصار كأنه ميت، فنضحوا الماء عليه وغمزوا أطرافه ساعة حتى أفاق، فقالوا له: ما قصتك؟ قال: سمعت ذكر الخشف- يعني جارية كان يهواها، يقال لها خشف- وهي سروري من الدنيا، فظننت أن خبرها قد رفع إلى الرشيد، وأنه عرض لها بسوء، فذهبت نفسي. فقيل له: إنما هو إنسان يبيع خشفاً. فلم يطمئن إلى ذلك حتى دعا السجان فسأله، فدعا الرجل حتى دخل عليه ومعه الخشف، فرآه بعينه فسكنت نفسه، قال لسعيد: أي شيء يشبه خبر هذا من أخبار الناس وأيامهم؟ قال سعيد: قول مجنون بني عامر حيث يقول:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منّي

 

فهيج أحزان الفـؤاد ومـا يدري

دعا باسم ليلى غيرها فـكـأنـمـا

 

أطار بليلى طائراً كان في صدري

قال: أحسنت والله وأجدت، هذا وأبيك يشبه ما نحن فيه، فخذ بالله هذا الدواج. قال سعيد: فقلت: والله لا أخذته على هذه الحالة. فقال: والله لتأخذنه فإن وقع الرضا كان عندنا مثله كثير، وإن لم يكن إلا ما نحن فيه فأنت أحق بذلك، هذا ليس مما تتغير به حال. فقلت له: جعلت فداك، شيء برك به أمير المؤمنين، ولا شك أن السجان يمنعني من إخراجه، قال: فبعث إلى السجان فقال له: إني قد وهبته له فلا تمنعه من إخراجه، فقال السجان أنا لا أمنعه. ولكن اكتب إلى مسرور الخادم فأعلمه، قال: فكتب إليه، فكثر عجبه منه، وأعلم الرشيد بما فعل فأطرق الرشيد ملياً وقال: ما وهبته له وأنا أعترض عليه في شيءٍ يفعله به؛ ليهبه من يشاء. فلما قام سعيد ليخرج من عند الفضل قال له: ها هنا شيء قال: وما هو؟ قال: إنه سيعرض لك، ويذهب لك إلى الرشيد، فيسألك عن السبب، ويقول لك: بأي شيء وهب لك الدواج؟ فإن أنت ذكرت له خشف أهلكتني. قال له سعيد: فما أصنع؟ فقال له الفضل: قل: تحدثنا ببعض أخبارك وملحك، فإذا سألك فقل: حديث كيت وكيت، فوهبه لي. قال سعيد: والله ما أدري ما أحدثه، قال لا بد من ذلك، فتفكر في شيء يكون عندي علامة فأينا سئل عن السبب خبر به، فلم يختلف الخبران قلت: كانت لي دار، ولها باب صغير في زقاق، سوى بابي المعروف الذي إلى الشارع، وكان لا يدخل إليّ من هذا الباب الصغير إلا المرد فقط. فأتى الخادم الموكل بذلك الباب يوماً فقال لي: فتى له لحية يستأذن عليك من هذا الباب الصغير فقلت له: صيره إلى الباب الكبير، فخرج إليه ثم رجع فقال: قلت له فأبى. وزعم أنه لا يدخل إلا من هذا الباب، فإن رسمه كذلك، فقمت فأطلعت من شق الباب، وإذا حريف لي غاب عن البلدة غيبة فرجع وهو ملتح وجاء للعادة من ذلك الباب، فكتبت إليه:

قل لمن رام بجهـل

 

مدخل الظبي الغرير

بعد ما علق في خدي

 

ه مخلاة الشـعـير

انفلت وادخل إذا شئ

 

ت من الباب الكبير

ووجهت الرقعة إليه، فلما قرأها ضحك وجاء إلى الباب الكبير واستأذن، فأذنت له ودخل. فقال له الفضل: أحسنت والله وملحت وقام فكتب الأبيات على الحائط وقال: امض في حفظ الله: فلما خرج سعيد عرض له: فذهب به إلى الرشيد، قال سعيد بن وهب: فلما دخلت عليه، صاروا بي إلى مجلس كان بيني وبينه سجف فسلمت فرد السلام. ثم قال: يا سعيد، بم حدثت الفضل حتى وهب لك الدواج؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني، فإنه كان شيء في أيام الحداثة والجهالة. قال: لا بد منه. قلت: يا أمير المؤمنين، أنت إمام، ولا يجوز أن أحدثك مثل هذا من غير أمان، أفأنا آمنٌ حتى أحدثك؟ قال: تحدث وأنت آمن. قال: فحدثته الحديث، وأنشدته الشعر. فضحك وقال: يا غلام أعط سعيداً ثلاثين ألف درهم. ثم قال: يا سعيد آنس القوم بحديثك، وأكثر من زيارتهم.

وكان سعيد يرمي بالأبنة، وكان شاعراً مفلقاً، يناضل أبا الصلت الشاعر، وفي سعيد يقول أبو الصلت:

قولاً لفضل يا بن الأولى ملكوا ال

 

أرض على رغم من ينازعهـا

بابـن وهـب داء يعـالـجــه

 

أدم ظباء نجـل مـدامـعـهـا

يغدو على صيدهـا ولـيس لـه

 

إلا ذكور الظـبـاء يافـعـهـا

وهو بروس الظباء يهتف في النا

 

س وإضـمـاره أكـارعـهـا

ومما يستحسن من شعر ابن وهب قوله:

كنت يوم العيد عبداً

 

لبنـي أم أبـيهـا

هائماً أبتعـهـم أو

 

كنت بالعبد شبيها

فلعمر اللـه مـا ذ

 

لك من حب بنيها

لا ولكن لـغـزال

 

هو مولى لأخيها

وفي مجونه يقول:

وقل لمن كان أمرداً يضع ال

 

معروف من قبل آفة الشعر

كأنهم بعد بـهـجة درسـت

 

ركب عليهم عمائم السـفـر

وصرت بعد بـهـجة بـهـم

 

أصرف عنهم إذا بدوا بصري

وله أيضاً

صبحك الرحمن يا سيدي

 

ما عشت بالخير ومساكا

أحمل الدهر وأوقـاتـه

 

كل البلايا غير شكواكـا

خبرني من كنت ساءلتـه

 

عن حال ممساك وحماكا

بكل ما أهوى ولكـنـه

 

قطع قلبي عند ذكراكـا

لا خير في الدنيا إذا لم أكن

 

أسمع فيها حسن نجواكـا

كان سعيد من المجيدين، وقد مدح الخلفاء والوزراء: وكان ذا مروءة وقدر.