أخبار دعبل بن علي الخزاعي

حدَّثني أبو العباس المبرد قال: كنت منحدراً من سر من رأى، فأدركني المساء فأمرت الملاح أن يقرب الزروق مظلل قد قرب من الشط لنبيت هناك. وكان عند غروب الشمس، فإذا أنا بزورق مظلل قد قرب من الشط، فلما صار إلى الشط خرج منه خادم معه قوس بندق، قم خرج آخر معه خريطة بندق، ثم خرج بعدهم شيخ بهيّ وضيء الوجه قد انحنى على خادم، فلما رأيته قلت في نفسي: ما أشك أن هذا الرجل من أهل النعمة. وقل ما يكون من النعمة إلا أديب وإما وحيد فتبعته وقد أخذ قوس بندق، فرمى عصفوراً فأخطأ. ثم رمى فأخطأ، ثم رمى ثالثاً فأخطأ، فناول القوس بعض الخدم وقال: "نرمي العصافير فنخطيهنّ" قال المبرد: فقلت على البديهة: رمياً ضعيفاً ليس يوذيهن فقال الشيخ: من هذا الذي يجيز عليّ؟ فقلت: أنا- جعلت فداك- المبرد، فمن أنت يا سيدي؟ قال: أنا دعبل. فأسرعت إليه وقبلت يده، ولم أزل أوانسه حتى دخل بغداد، فلما أردت أن أنصرف عنه إلى منزلي منعني وقال: فبمن أسر إذا انصرفت؟ فقلت: جعلت فداك، إن مفارقتك لتشق عليّ، ولكن أنا معذور هذا الوقت، وأعود بعد فنستأنس. فأذن لي. حدَّثني اليزيدي قال: قال رجل لابن الزيات: لم لا تجيب دعبلا عن قصيدته التي هجاك فيها؟ قال: إن دعبلاً قد نحت خشبته وجعلها على عنقه، يدور بها يطلب من يصلبه بها منذ ثلاثين سنة وهو لا يبالي ما قال هؤلاء وما فعل له.

وحدثني إبراهيم بن محمد قال: كان دعبل يخرج إلى خراسان والمأمون بها، والرضا عليه السلام معه هناك، فيمدحها فيجزلان له العطية، وكان يجتاز بقم فيقيم عند شيعتها فيسقطون له في كل سنة خمسين ألف درهم، وكان بقم إنسان يتعاطى الشعر، يقول شيئاً ضعيفاً يضحك منه. وأنشد دعبل شيئاً من شعره، فقال للمنشد، أمسك فإن استماع هذا يصدأ منه السمع. فبلغ الرجل ذلك فصار إليه وقال له: أنت الذي رذلت شعري؟ قد قلت فيك أبياتاً. فقال له: هات، فقال:

في است دعبل بلابل

 

ليس يشفى لقابـل

ليس يشـفــيه إلا

 

أير بغل بـكـابـل

قال: فسقط في يده وقال: والله ليسرن شعر هذا الجيفة على ألسنة العامة الصبيان، وقال: أعطيك شيئاً وتكتم هذه الأبيات ولا ترويها؟ قال: وما أريد غير ذلك، وكان خفيف الحال، فقال: أعطوه مائة درهم، فقال: والله لا أخذت إلا ألفاًن فقبضه وخرج، فقلنا له: ما صنعت؟ هذا يدفع إليه من درهم إلى درهمين وقد كان يرضيه منك خمسة دراهم، فقال: دعوني من هذا، والله لو احتكم على الخمسين الألف التي قسمت لي بقم لدفعتها إليه. ثم خرج دعبل، وشاع ذلك في البلاد، فهتف به الغوغاء، والسفل والعبيد، واحتاج أن يدع البلد بعد ذلك ولا يدخله.

وقصد إلى دعبل شاعر فقال: إني مدحتك، فقال: أوتعرفني؟ قال: نعم، أنت دعبل. قال: إذن فإنشد. فأنشده:

لقائل قلت وقد قال ليأكرم من تسأله دعبل

 

أيطلب السائل من سائل؟

 

فقـال لـي: الـسـائل لا يبــخـــل

لبئس مـا قدر فـي نـفـســـه

 

أن يسأل الـنـــاس ولا يســـأل

قال: فوصله وأكرمه.

ومما يستملح لدعبل أرجوزته في المأمون وهي فصيحة سهلة يقول فيها:

يا سلم ذات الوضح العـذاب

 

وربة المعصم ذي الخضاب

والكفل الرجراج في الحقاب

 

والفاحم الأسود كالـغـراب

بحق تلك القبل في الحقـاب

 

بعد التجني منك والعـتـاب

إلا كشفت اليوم عني ما بي

 

 

ومما يستحسن له قوله:

وبدل ضيفي في الظلام على القري

 

إشراق ناري أو نبـاح كـلابـي

حتى إذا واجـهـتـه ولـقـينـه

 

حيينه بـبـصـابـص الأذنـاب

فتكاد من عرفان مـا قـد عـودت

 

من ذاك أن يفحصن بالتـرحـاب

وله في أبي سعد المخزومي:

إن أبا سعد على مجونـه

 

ورقة في عقله ودينـه

يبترك الدهر على جبينه

 

لحية تنساب في تسعينه

يزرع قثا جاره في تينه

 

 

ولدعبل في القرى:

عللانـي بـسـمـاع وطـلا

 

وبضيف طارق يبغي القـرى

نغمات الضيف أحلى عنـدنـا

 

من رغاء الشاء في ذات الرغا

ننزل الضيف إذا ما حـل فـي

 

حبة القلب وألواذ الـحـشـا

رب ضيف تاجر أخـسـرتـه

 

بعته المطعم وابتعت الـثـنـا

أبغض المال إذا جمـعـتـه

 

إن بغض المال من حب العلا

إنما العيش خـلال خـمـسة

 

حبذا تـلـك خـلالا حـبـذا

خدمة الضيف، وكـأس لـذة

 

ونـديم، وفـتـاة، وغـنــا

وإذا فاتـك مـنـهـا واحـد

 

نقص العيش بنقصان الهـوى

وهو صاحب القصيدة التائية في آل الرسول صلوات الله عليه وسلم، وهي التي أولها:

مدارس آيات خلت من تـلاوة

 

ومنزل وحي مقفر العرصات

وهي أشهر من الشمس، ولا حاجة بنا إلى تضمينها ولا تضمين شيء منها. وهو صاحب التائية الأخرى التي أولها:

طرقتك طارقة المني ببـيات

 

لا تظهري جزعاً فأنت بدات

في حب آل المصطفى ووصيه

 

شغل عن اللذات والقـينـات

إن النشيد بحب آل مـحـمـد

 

أزكى وأنفع لي من القنـيات

فاحش القصيد بهم فرغ فيهـم

 

قلباً حشوت هواه بالـلـذات

واقطع حباله من يريد سواهـم

 

في حبه تحلل بـدار نـجـاة

وهي أيضاً طويلة مشهورة فتركنا أيرادها.