أخبار الحارثي

واسمه عبد الملك بن عبد الرحيم. حدَّثنا أبو مالك الأنصاري قال: حدَّثني أبو الأسود الشاعر قال: كان الحارثي شاعراً مفلقاً مفوهاً مقتدراً مطبوعاً، وكان لا يشبه بشعره شعر المحدثني الحضريين. وكان نمطه نمط الأعراب. ولما قال قصيدته المعروفة العجيبة انقاد الشعراء وأذعنوا. وهو أحد من نسخ شعره بماء الذهب، والقصيدة التي ذكرناها هي هذه:

هأنذا يا طـالـبـي سـاعـي

 

محتضر بزي إلى الـداعـي

أحمي حمى من غاب من مذحجٍ

 

ويحمد الـشـاهـد إيقـاعـي

لا هلع في الحـرب هـاع إذا

 

ريق فـيهـا كـل هـلـواع

قد باضت الحرب على هامتـي

 

وصممتـنـي أذنـي واعـي

واستودعتني مـقـلـتـي أرق

 

لا يضع الجنب لـتـهـجـاع

مستحصد الـمـرة ذي هـمة

 

ضرار أقـوام ونــفـــاع

لا توجد الـغـرة مـنـه وإن

 

هيج به هـيج بـمـنـصـاع

أشوس ينضو الدرع عن منكب

 

مثل سنان الرمح شـعـشـاع

كما ترى أفـطـح ذا رقـطة

 

تنجاب عنه هـبـوة الـقـاع

فاجتمعت الشعراء والأدباء على أن هذه الأبيات ليست من نمط عصره، وأن لا أحد يطمع في مثلها، ولعمري إنه لكلام مع فصاحته وقوته يقدر من يسمعه أنه سيأتي بمثله، فإذا رامه وجده أبعد من الثريا، وكذلك الشعر المتناهي الذي ليس قبله في الجودة غاية، وقد سئل بعض العلماء فقيل له ما الشعر عندك؟ قال: السهل الممتنع.

وللحارثي قصيدة يرثي فيها أخاه سعيد بن عبد الرحيم ليست بدون قصيدة متمم التي يرثي أخاه مالكاً، وهي على روي تلك، يقول فيها:

فما أم خـشـف أودعـتـه قـراره

 

من الأرض وانساحت لترعى وتهجعا

خليس كلون الأيهـقـان ابـن لـيلة

 

أمـر قـواه أن ينـوء فـيركـعـا

ويهتز في الممشي القـريب كـأنـه

 

قضيب من البان التوى فترعـرعـا

فظلت بمستن الصبـا مـن أمـامـه

 

تنغم في المرعى إليه لـيسـمـعـا

إذا أغفلت نـادت وإن نـاب نـبـأة

 

على سامعها تذكر طلاها فتربـعـا

فخالفها عاري النـواهـق شـاسـب

 

أخو قفرة أضحى وأمسى مجـوعـا

فأنهل مـنـه بـعـد عـل ولـم يدع

 

لملتمس إلا شـريحـاً مـذعـذعـا

فجاء برياه نـسـيم مـن الـصـبـا

 

صباحاً ودر جر ثكـلاً فـأرجـعـا

وهذا كلام يعجز الشعراء ويفضحهم، وفيها يقول:

وأبيض وضاح الجبـين كـأنـه

 

سنا قمر أوفى على العشر أربعا

ولولا خروجنا من شرط الكتاب لكان إثبات هذه القصيدة خيراً من تركها، وإن كنا قد كتبنا في بعض المواضع القصائد الطوال، وإنما نشبت منها ما لم يكن موجوداً عند أكثر الناس، وأما الموجود المشهور فلا نورد ما طال منه، وإنما نقتصر من كل قصيدة على هذه الأبيات اليسيرة، بل ربما اقتصرنا على ذكر القصيدة وبيت واحد منها فقط، كما صنعنا في أخبار السيد ونظرائه، وإنما سمينا أمهات قصائد.

ومما يستحسن له أيضاً كلمته في أخيه وهي التي يقول فيها:

إن سليما وإن ظـرفـاً

 

وإن جريالة شـمـولا

نعيم دنـيا وكـل دنـيا

 

مصيرها عنه أن تزولا

إذا أرت فرحة أخاهـا

 

مالت إلى ترحة بـديلا

وكل خير وكـل شـرّ

 

فيها قمين بـأن يحـولا

إن سعيداً شقيق نفسـي

 

أبقى لنفسي جوىً دخيلا

ومن جيد شعره وإن كان كل شعره جيداً:

أتى دون حلو الوعد من تكتم المـطـل

 

وأيّ هوىً يبقـي إذا لـم يكـن بـذل

فقالت وأبدي الوجد ما دون صـدرهـا

 

فلم يبق بـاب دون سـر ولا قـفـل

أأشعرت بي أهلي عـشـية زرتـنـا

 

جهاراً، وما عذري رقد شعر الأهـل

فقلت فذا قد كان مـا لـيس راجـعـاً

 

فهل عندكم إلا التحـفـظ. والـعـذل

فقالت وما أزرى بنا مـن تـحـفـظ

 

علينا وقولي في عواقـبـه الـذحـل

فقلت لها ما زرتكم قـاصـداً لـكـم

 

وإن كان ما في الناس لي ولكم مثـل

وما جئتكم عمداً ولـكـن ذا الـهـوى

 

إلى حيث يهوي القلب تهوي به الرجل

والحارثي هو القائل:

ولا يسـتخص القـدر مـن دون جاره

 

ليشبع والجيران يمـشون جوعـا

أناف بإبقاء على العرض مالهفأنجح إذ أكدى البخيل وأوضعا

 

 

له راحةٌ فيها الحبا لصديقه

 

وأخرى لمن عادى بها السـم منقعــا

أجل عن العور الـهـواجـر سـمـعـه

 

ونزهة من أن يقال فـيسمعـا

إذا نال من أقصى عرا المجـد غــاية

 

سما طالباً من تلك أسنى وأرفعا

هذا البيت سجدة للشعراء، ولو لم يكن في كتابنا إلا شعراً الحارثي لكان جليلا.