حدَّثني جعفر بن إبراهيم بن نصير قال: حدثني محمد بن عامر الحنفي قال: كان بين أحمد بن يوسف الكاتب وبين محمد بن يسير مودة، فكتب إليه يوماً يستزيره ليتآنسا ويتمتعا، فأجابه ابن يسير:
أجيء على شرط فإن كنت فاعـلاً |
|
وإلا فإنـي راجـع لا أنـاظـر |
ليسرج لي البرذون في وقت دلجتي |
|
وأنت بدلجاتي مع الصبح خـابـر |
فأقضى عليه حاجتي ثم أنـثـنـى |
|
إليك وحجام إذا جـئت حـاضـر |
يقصر من شعري ويحتف شاربـي |
|
ومن بعد حمام مـعـد وجـامـر |
ودستيجة مملوءة بـخـتـامـهـا |
|
يزودنيهـا طـائعـاً لا يعـاسـر |
فكتب إليه أحمد بن يوسف مجيباً له:
تشرط لما جاء حتى كأنـه |
|
مغن مجيد أو غلام مواجز |
وأقسم لولا حرمة هي بيننا |
|
لقفد بشار قفـاه وياسـر |
وحدثني إبراهيم بن منصور النحوي قال: حدثني ابن أبي العلاء قال: فاخر رجل من الجلة يوماً ابن يسير، فقال له الرجل: يا هذا أتفاخرني وقد ركب جدي إلى الصيد في أربعة آلاف جارية، على أربعة آلاف برذون أشهب، على يد كل جارية بازي أبيض يصطاد الطواويس من أفرخة الزعفران؟ قال ابن يسير: "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذه إلا اختلاق" . فحمله الرجل على برذون أشهب فاره، وأمر له بجارية حسنة، وكساه ثوب خز طاووسي، وحمله معه سلة زعفران. ثم قال: إن كان ما قلته باطلاً فما فعلته حق. قال ابن يسير: ما قلت أيضاً حق.
ومما يستحسن لابن يسير وسار له في العرب والعجم قوله:
لولا البنية لم أجزع من الـعـدم |
|
ولم أجب في الليالي حندس الظلم |
وزادني رغبة في العيش معرفتي |
|
ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحـم |
أخشى فظاظة عم أو جفـاء أخٍ |
|
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم |
إذا تذكرت بنتي حين تنـدبـنـي |
|
جرت لعبرة بنتي عبرتـي بـدم |
تهوى بقائي وأهوى موتها شفقـاً |
|
والموت أكرم نزال على الحرم |
وهذه ألفاظ كما سمعت في عذوبة الماء الزلال، ومعان أرق من السحر الحلال.
ومما يستحسن له قوله:
تخلى بهم في الفـواد دخـيل |
|
وأقلقه عزم النوى برحـيل |
وأبدى له وجه المنـية يغـتةً |
|
صدود حبيب وانحراف خليل |
وساوره سقم وأسهره هـوىً |
|
وروحه واش وابتكار عذول |
وأسلمه صـبـر وبـان عـزاؤه |
|
فصودف حياً في عـيان قـتـيل |
يرى لا طراد الدمع في صحن خده |
|
أخاديد شقت باستـنـان هـمـول |
على بدعة لما يرى الله خـلـقـه |
|
فصوره فـرداً بـغـير مـثـيل |
تبدي كبدر لـم يمـر بـبـرجـه |
|
كسوف ولم يكـدر غـداة أفـول |
أمات قلوباً واستمـال بـأنـفـس |
|
تكشفن منه عن ذهـاب عـقـول |
خليلي إني قد رضـيت قـلـيلـه |
|
وإن كنت لا أرضى له بـقـلـيل |
خليلي جثماني بكـف نـحـولـه |
|
ينادمه قلبـي بـكـأس عـلـيل |
وهذا نمط كما تراه إنما هو السحر الحلال.
ومما يستحسن له قوله:
وصاحب السوء كـالـداء الـعـياء إذا |
|
ما ارفض في الخد يجري من هنا وهنا |
يبدي ويخبر عن عـوراء صـاحـبـه |
|
وما يرى عنده مـن صـالـح دفـنـا |
فإن يكن ذا فكـن عـنـه بـمـعـزلة |
|
أو مات هذا فلا تشهـد لـه خـبـنـا |
ولمحمد بن يسير حكم كثيرة، ومواعظ حسنة، وهو أنعت الناس للحيوان والطير والشاء، وما أشبه ذلك وله مرثية طويلة في بستان أكلته الشاء، ويقال أنه بستانه كان ذراعاً في ذراع، وقال بعضهم: بل كان شعيراً تحت جرة ماء فهلك. ولم نذكرها خوف الإطالة.