أخبار أبي تمام بن أوس الطائي

حدثني أبو الأسود الموصلي قال: قال الحسن بن رجاء الضحاك: كنا مع أمير المؤمنين المؤمنين المعتصم بالرقة فجاء أبو تمام، وأنا في حراقتي، فجعل ينشدني ويلتفت إلى الخدم والغلمان الوقوف بين يدي، ويلاعبهم ويغامزهم- وكان الطائي من أكثر الناس عبثاً ومزاحاً- فقلت له: يا طائي قد ظننت أنك ستصير إلى أمير المؤمنين مع الذي أرى من جودة شعرك، فانظر: إنك إن وصلت إليه لا تمازح غلاماً ولا تلتفت إليه، فإنه من أشد الناس غيرة، وإني لا آمن إن وقف منك على شيء أن يأمر غلمانه فيصفعك كل واحد منهم مائة صفعة. فقال: إذاً أخرج من عنده ببدر مملوءة صفعاً.

وحدثني عبد الصمد الراوي قال: حدثني محمد بن حسان الضبي قال: قدمت بأبي تمام معي من الشام إلى العراق، وكان معي في سفينتي منجم قد حملته في حملتي، فكان الطائي قد أولع به يضربه ويخرق ثيابه، فكنت ألومه على ذلك وأعذله، وأقول: ويحك، رجل قد صحبنا، ووجب حقه علينا، لم تفعل به مثل هذا؟ والله ما هذا فعل الكرام، ولا من شأن أهل الأدب. وكان من جوابه لي أن قال: هذا من عض بظر أمه، لو كان منجماً، وكان يعلم شيئاً كما يزعم، لما ركب معنا هذه السفينة، وأنا أضربه هذا الضرب وأوذيه هذا الأذى.

وحدثني أبو الغصن محمد بن قدامة قال: دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه فما يكاد يرى، فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه، ثم رفع رأسه فنظر إلي فسلم علي، فقلت له: يا أبا تمام إنك لتنظر إلى الكتب كثيراً وتدمن الدرس فما أصيرك عليها! فقال: والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها، وإني لخليق إن اتفقدها أن أحسن. وإذا بحزمتين: واحدة عن يمينه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذي أرى من عنايتك به أؤكد من غيره؟ قال: أما التي عن يميني فاللات، وأما التي عن يساري فالعزى، أعبدهما من عشرين سنة. فإذا عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني، وعن يساره شعر أبي نواس.

ومما يستملح من شعره- وشعره كله حسن- داليته في المأمون التي أولها: "كشف الغطاء فأوقدي أو أخمدي" وهي أشهر من الفرس الأبلق، وكذلك كل ما نذكر من قصائد ها هنا، فإنا نقتصر على ذكر أوائلها نحو قوله: "وأبي المنازل إنها لشجون" وقوله: "سرت تستجير الدمع خوف نوى غد" وقوله: "متى أنت عن ذهلية القوم ذاهل" وقوله: "أصغى إلى البين معتزاً فلا جرما" وقوله: "دمن ألم بها فقال سلام" وقوله: "بدلت عبرة من الإيماض" وقوله: "الحق أبلج والسيوف عواري" وقوله: "السيف أصدق أنباء من الكتب" وقوله: "نسج المشيب له قناعاً مغدفا" وقوله: "خشنت عليه أخت بني خشين" وقوله: "خذي عبرات عينك من زماعي" وقوله: "يوم الفراق لقد خلقت طويلاً"  لو استقصينا ذكر أوائل قصائد الجياد التي هي عيون شعره لشغلنا قطعة من كتابنا هذا بذلك وإن لم نذكر منها إلا مصراعاً، لأن الرجل كثير الشعر جداً، ويقال إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ماله جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط. فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف البحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: جيد خير من جيدي، ورديي خير من رديه، وذلك أن البحتري لا يكاد يغلظ لفظ ه، إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، فأما أن يشق غبار الطائي في الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات، بل يغرق في بحره. على أن للبحتري المعاني الغزيرة، ولكن أكثرها مأخوذ من أبي تمام، ومسروق من شعره. وأبو تمام هو الذي يقول:

يا لابساً ثوب المـلاحة أبـلـه

 

فلأنت أولى لابسيه بلـبـسـه

لم يعطيك الله الذي أعطـاكـه

 

حتى استخف ببدره وبشمسـه

رشأ إذا ما كان يطلق طـرفـه

 

في فتكه أمر الحياء بحبـسـه

وأنا الذي أعطيته عض الهـوى

 

وضممته فأخذت عذرة أنسـه

وغرسته فلئن جنـيت ثـمـاره

 

ما كنت أول مجتنٍ من غرسه

مولاك، يا مولاي، صاحب لوعة

 

في يومه وصبابة في أمـسـه

وهو القائل:

محمـد بن حميد أخلـقـت رممه

 

هريق ماء المعالـي مذ هـريق دمه

تنبهت لبنى نبهان يوم ثوى

 

يد الزمان فعاثت فيهم وفمه

رأيته بنجاد السيف محتبياً

 

كالبدر لما جلت عن وجهـه ظلمه

في روضة قد كسا أطرافها زهـر

 

أيقنت عنـد انتباهـي أنهـا نعـمة

فقلت والدمع مـن حزن ومن فرح

 

في اليوم قد أخضل الخدين منسـجمه

ألم تمت يا شـقيق الـنفـس مذ زمن

 

فقـال لي: لم يمت مـن لم يمـت كرمه