المقصد الرابع: في المتواتر من اللغة والآحاد

قال العلامة أبو الفضل: نقلا عن لمع الأدلة لابن الأنباري، اعلم أن النقل على قسمين: تواتر وآحاد، فأما التواتر فلغة القرآن، وما تواتر من السنة وكلام العرب، وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النحو، يفيد العلم أي ضروريا، وإليه ذهب الأكثرون، أو نظريا، ومال إليه آخرون، وقيل: لا يفضي إلى علم البتة، وهو ضعيف، وما تفرد بنقله بعض أهل اللغة ولم يوجد فيه شرط التواتر، وهو دليل مأخوذ به، فذهب الأكثرون إلى أنه يفيد الظن، وقيل: العلم وليس بصحيح، لتطرق الاحتمال فيه، ثم قال: وشرط التواتر أن يبلغ عدد النقلة إلى حد لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب في لغة القرآن، وما تواتر من ألسنة العرب، وقيل: شرطه أن يبلغوا خمسة، والصحيح هو الأول. قال قوم من الأصوليين: إنهم أقاموا الدلائل على خبر الواحد أنه حجة في الشرع، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة، فكان هذا أولى.

وقال الإمام فخر الدين الرازي، وتابعه الإمام تاج الدين الأرموي صاحب الحاصل: إن اللغة والنحو والتصريف ينقسم إلى قسمين، قسم منه متواتر، والعلم الضروري حاصل بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعا لهذه المعاني، فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمانه صلى الله عليه وسلم في معناهما المعروف، وكذلك الماء والنار والهواء وأمثالها، وكذلك لم يزل الفاعل مرفوعا، والمفعول منصوبا، والمضاف إليه مجرورا، ثم قال: ومنه مظنون، وهو الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد، وأكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول، والثاني منه قليل جدا، فلا يتمسك به في القطعيات ويتمسك به في الظنيات، انتهى.

وأما المنقطع ففي لمع الأدلة: هو الذي انقطع سنده، نحو أن يروي ابن دريد عن أبي زيد، وهو غير مقبول، لأن العدالة شرط في قبول النقل، وانقطاع سند النقل يوجب الجهل بالعدالة، فإن من لم يذكر لم تعرف عدالته. وذهب بعضهم إلى قبوله، وهو غير مرضي.

وأما الآحاد فهو ما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة، ولم ينقله أحد غيره، وحكمه القبول إذا كان المنفرد به من أهل الضبط والإتقان، كأبي زيد الأنصاري، والخليل، والأصمعي، وأبي حاتم، وأبي عبيدة وأقرانهم، وشرطه أن لا يخالف فيه أكثر عددا منه.

وأما الضعيف فهو ما انحط عن درجة الفصيح. والمنكر أضعف منه وأقل استعمالا. والمتروك ما كان قديما من اللغات ثم ترك واستعمل غيره. وأما الفصيح من اللغة، ففي المزهر ما نصه: المفهوم من كلام ثعلب أن مدار الفصاحة على كثرة استعمال العرب لها، انتهى.

ومثله قال القزويني في الإيضاح: وقالوا أيضا: الفصاحة في المفرد خلوصه من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس اللغوي، وبيان ذلك مذكور في محله. قال ابن دريد في الجمهرة واعلم أن أكثر الحروف استعمالا عند العرب الواو والياء والهمزة، وأقل ما يستعملون لثقلها على ألسنتهم الظاء، ثم الذال، ثم الثاء، ثم الشين، ثم الخاء، ثم القاف، ثم العين، ثم النون، ثم اللام، ثم الراء، ثم الباء، ثم الميم، فأخف هذه الحروف كلها ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد، لاختلاف المعنى، انتهى.

صفحة : 11

وفي عروس الأفراح: رتب الفصاحة منها متقاربة، فإن الكلمة تخف وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربا أو بعدا، فإن كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر فذكرها، ثم قال: وأحسن هذه التراكيب وأكثرها استعمالا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى، ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى، ثم من الأعلى إلى الأدنى، وأقل الجميع استعمالا ما انتقل فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط، هذا إذا لم ترجع إلى ما انتقلت عنه، فإن رجعت فإن كان الانتقال من الحرف إلى الحرف الثاني في انحدار من غير طفرة، والطفرة الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه، كان التركيب أخف وأكثر، وإلا كان أثقل وأقل استعمالا. فيه أيضا أن الثلاثي أفصح من الثنائي والأحادي، ومن الرباعي والخماسي، انتهى.

وذكر حازم القرطاجني وغيره: من شروط الفصاحة أن تكون الكلمة متوسطة من قلة الحروف وكثرتها، والمتوسطة ثلاثة أحرف.