المجلد الأول - ذكر غزو بختنصر العرب

قيل‏:‏ أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم وانتشر الخبر في العرب فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد فابتنوا الزنبار وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلًا حياة بخت نصّر‏.‏

فلمّا مات انضمّوا إلى أهل الأنبار وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار وسار إلى العرب بنجد والحجاز فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير إلى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه إلى حرّان وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ الذي يختم به الأنبياء فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر إلى معد فحملاه إلى حرّان في ساعتهما ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم وسار إلى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق قاتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر إلى حصون هناك واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه فكمّن بخت نصّر كمينًا وهو أول كمين عمل وأخذتهم السيوف فنادوا بالويل ونهي عدنان عن بخت نصّر وبخت نصّر عن عدنان فافترقا فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي منولد الحرث بن مضاض الجرهميّ فقيل له‏:‏ بقي جوشم بن جلهمة فتزوج معد ابنته معانة فولدت له نزار بن معدّ‏.‏

ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك واسمه خرزاسف وهو أخو أفراسياب وصالحه واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك فلما جاء زرادشت إلى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك وقال‏:‏ أنا أعيّن لك طالعًا تسير فيه إلى الحرب فتظفر وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم وكان زرادشت عالمًا بالنجوم جيّد المعرفة بها فأجابه بشتاسب إلى ذلك فأرسل إلى الدابّة التي بباب ملك الترك وإلى الموكّل بها فصرفهما فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته‏.‏

فكتب إليه بشتاسب كتابًا غليظًا يؤذنه فيه بالحرب وسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالًا شديدًا فكانت الهزيمة على الترك وقتلوا قتلًا ذريعًا ومرّوا منهزمين وعاد بشتاسب إلى بلخ وعظم أمر زرادشت عند الفرس وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله‏.‏

وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب فلما انجلت الحرب سعى الناس بي بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا‏:‏ ويريد الملك لنفسه فندبه لحرب بعد حرب ثمّ أخذه وحبسه مقيّدًا‏.‏

ثم إنّ بشتاسب سار إلى ناحية كرمان وسجستان وسار إلى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخًا قد أبطله الكبر وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار إلى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد فقتلوا وسبوا وأخربوا وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والأخرى باذافره وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان وسار متبعًا لبشتاسب وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس وضاق ذرعًا بما نزل به‏.‏

فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل إلى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولًا بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه وتابع الحملات وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم فانهزموا لا يلوون على شيء وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان‏.‏

فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلهم عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى إلى آخر حدود بلاد الترك وإلى التّبّت وأقطع بلاد الترك وجعل كلّ ناحية إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجًا يحملونه كلّ سنة إلى أبيه بشتاسب ثم عاد إلى بلخ‏.‏

فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك وأسرّ ذلك في نفسه وأمره بالتجهّز والمسير إلى قتال رستم الشديد بسجستان وقال له‏:‏ هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس وأعتقه فأقطعه إيّاها وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاوو وكان عغرض بشتاسب أن يقتله رستمُ أو يقتل هو رستم فإنه كان أيضًا شديد الكراهة لرستم فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه فخرج إليه رستم وقاتله فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه فخرج إليه رستم وقاتله فقتل إسفنديار قتله رستم‏.‏

ومات بشتاسب وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة وقيل‏:‏ مائة وعشرين سنة وقيل‏:‏ مائة وخمسين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه جاءه رجل من بني إسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضًا عن الإسرائيلي وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت‏.‏

ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن اسفنديار

قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح وصار الملك بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة قال أهل اليمن‏:‏ إنّه سار غازيًا نحو المغرب حتى بلغ واديًا يقال له وادي الرمل ولم يبلغه أحد قبله فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازًا لكثرة الرمل فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلًا يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يرجعوا فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند‏:‏ هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ وراء ذلك الرمل قومًا من أمّه موسى وهم الذين عنى الله بقوله‏:‏ ومن قوم موسى ثمّ ملك بعده تُبّع وهو تُبّان وهو أسعد وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ وكان يقال له الزايد وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب وإنه شخص متوجّهًا من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء ثمّ سار يريد الأنبار فلمّا انتهى إلى موضع الحيرة تحيّر وكان ليلًا فأقام بمكانه فسمّي ذلك المكان بالحيرة وخلّف به قومًا من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة فبنوا وأقاموا به ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد ثم توجّه إلى الموصل ثم إلى أذربيجان فلقي الترك فهزمهم فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة ثم عاد إلى اليمن فهابته الملوك وأهدوا إليه وقدمت عليه هديّة ملك الهند وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند فرأى ما لم يرَ مثله فقال للرسول‏:‏ كلّ هذا في بلدكم فقال‏:‏ أكثره من بلد الصين ووصف له بلد الصين فحلف ليغزونها فسار بحمير حتى أتى إلى الركائك وأصحاب القلانس السود ووجّه رجلًا من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم فأصيب فسار تبّع حتى دخل الصين فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين‏.‏ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير فهم أهل التّبّت ويزعمون أنهم عرب وألوانهم ألوان العرب وخلقهم‏.‏

وهكذا ذكر وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ وكل واحد منهم خالف الآخر وقدّم بعضهم من أخره الآخر فلم يحصل منهم كثير فائدة ولكن ننقل ما وجدنا مختصرًا‏.‏

ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني

ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار وكان مظفرًا في مغازيه وملك أكثر من أبيه وقيل‏:‏ إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى وابتنى بكور دجلة الأبلّة وسار إلى سجستان طالبًا بثأر أبيه فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز‏.‏

وبهمن هو أبو دارا الأكبر وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده وأمّ دارا خمانى ابنة بهمن فهي أخته وأمّه‏.‏

وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة وكان أعظم ملوك الفرس شأنًا وأفضلهم تدبيرًا‏.‏

وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة وقيل‏:‏ صمانين سنة وكان متواضعًا مرضيًّا فيهم وكانت كتبه تخرج‏:‏ من عبد الله خادم الله السائس لأموركم‏.‏

ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى ملكوها حبًّا لأبيها ولعقلها وفروسيتها وكانت تلقّب بشهرزاد وقيل‏:‏ إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملًا في بطنها وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنمًا وكان يتولاها بنفسه فاستبشعت العامّة ذلك منه‏.‏

وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه فملكوها ووضعته بعد أشهر من ملكها فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر وقيل‏:‏ بنهر بلخ وسار التابوت إلى طحّان من أهل اصطخر ففرح لما فيه من الجوهر فحضنته امرأته ثم ظهر أمره حين شبّ فأقرّت خمانى بإساءتها فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك فحوّلت التاج إليه وسارت إلى فارس وبنت مدينة اصطخر وكانت قد أوتيت ظفرًا وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها وخفّفت عن رعيّتها الخراج وكان ملكها ثلاثين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها فضبط الملك بشجاعة وحزم‏.‏

ونرجع إلى ذكر بني إسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس‏.‏

قد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه وقيل غير ذلك وقد تقدّم ذكر الاختلاف‏.‏

وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفردًا قطّ‏.‏

ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل دارًا بن دارا وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانيًا وثمانين سنة‏.‏

ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين

وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار وكان يلقّب جهرازاد يعني كريم الطبع فنزل ببابل وكان ضابطًا لملكه قاهرًا لمن حوله من الملوك يؤدّون إليه الخراج وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد وحذّف دوابّ البرد ورتّبها وكان معجبًا بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده‏.‏

وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة‏.‏

ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا وهي مشهورة إلى الآن واستوزر إنسانًا لا يصلح لها فأفسد قلبه على أصحابه فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة وكان شابًّا غرًّا جميلًا حقودًا سيّء السيرة في رعيّته‏.‏

وكان ملكه أربع عشرة سنة‏.‏ ‏