المجلد الأول - ذكر يونس بن متى وكان أمره من الأحداث أيام ملوك الطوائف

قيل‏:‏ لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه إلا عيسى بن مريم ويونس بن متى وهي أمه وكان من قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى وكان قومه يعبدون الأصنام فبعثه الله إليهم بالنهي عن عبادتها والأمر بالتوحيد فأقام فيهم ثلاثًا وثلاثين سنة يدعوهم فلم يؤمن غير رجلين فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم فقيل له‏:‏ ما أسرع ما دعوت على عبادي‏!‏ ارجع إليهم فادعهم أربعين يومًا فدعاهم سبعة وثلاثين يومًا فلم يجيبوه فقال لهم‏:‏ إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام وآية ذلك أن ألوانكم تتغير فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم فقالوا‏:‏ قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذبًا فانظروا فإن بات فيكم فأمنوا من العذاب وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب يصبحكم‏.‏

فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس بنزول العذاب فخرج من بين أظهرهم‏.‏

فلما كان الغد تغشاهم العذاب فوق رؤوسهم خرج عليهم غيم أسود هائل يدخن دخانًا شديدًا ثم نزل إلى المدينة فاسودت منه سطوحهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا يونس فلم يجدوه فألهمهم الله التوبة فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخًا وقالوا له‏:‏ قد نزل بنا ما ترى فما نفعل فقال‏:‏ آمنوا بالله وتوبوا وقولوا‏:‏ يا حي يا قيوم يا حي حين لا حي يا حي محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت‏.‏

فخرجوا من القرية إلى مكان رفيع في براز من الأرض وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله واستقالوه وردوا المظالم جميعًا حتى إن كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه‏.‏

فكشف الله عنهم العذاب وكان يوم عاشوراء يوم الأربعاء وقيل‏:‏ للنصف من شوال يوم الأربعاء وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال‏:‏ ما فعل أهل القرية فقال‏:‏ تابوا إلى الله فقبل منهم وأخر عنهم العذاب‏.‏

فغضب يونس عند ذلك فقال‏:‏ والله لا أرجع كذابًا ‏!‏ ولم تكن قرية رد الله عنهم العذاب بعدما غشيهم إلا قوم يونس ومضى مغاضبًا لربه‏.‏

وكان فيه حدة وعجلة وقلة صبر ولذلك نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون مثله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏‏.‏

ولما مضى ظن أن الله لا يقدر عليه أي يقضي عليه العقوبة وقيل‏:‏ يضيق عليه الحبس فسار حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف من الريح وقيل‏:‏ بل وقفت فلم تسر فقال من فيها‏:‏ هذه بخطيئة أحدكم‏!‏ فقال يونس‏:‏ هذه بخطيئتي فألقوني في البحر فأبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم ‏{‏فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 141‏]‏‏.‏ فلم يلقوه وفعلوا ذلك ثلاثًا ولم يلقوه فألقى نفسه في البحر وذلك تحت الليل فالتقمه الحوت فأوحى الله إلى الحوت أن يأخذه ولا يخدش له لحمًا ولا يكسر له عظمًا فأخذه وعاد إلى مسكنه من البحر فلما انتهى إليه سمع يونس حسًا فقال في نفسه‏:‏ ما هذا فأوحى الله إليه في بطن الحوت‏:‏ إن هذا تسبيح دواب البحر فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا‏:‏ ربنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة‏.‏

فقال‏:‏ ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر‏.‏

فقالوا‏:‏ العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم عمل صالح فشفعوا له عند ذلك ‏{‏فَنَادَى في الظُّلُمَات‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل - ‏{‏أنْ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وكان قد سبق له من العمل الصالح فأنزل الله فيه‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143‏]‏‏.‏ وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر ‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ألقي على ساحل البحر وهو كالصبي المنفوس ومكث في بطن الحوت أربعين يومًا وقيل‏:‏ عشرين يومًا وقيل‏:‏ ثلاثة أيام وقيل‏:‏ سبعة أيام والله أعلم‏.‏

وأنبت الله ‏{‏عليه شجرة من يقطين‏}‏ ‏[‏ الصافات‏:‏ 146‏]‏‏.‏ وهو القرع يتقطر إليه منه اللبن وقيل‏:‏ هيأ الله له أروية وحشية فكانت ترضعه بكرة وعشية حتى رجعت إليه قوته وصار يمشي فرجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست فحزن وبكى عليها فعاتبه الله وقيل له‏:‏ أتبكي وتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف وزيادة أردت أن تهلكهم‏!‏ ثم إن الله أمره أن يأتي قومه فيخبرهم أن الله قد تاب عليهم فعمد إليهم فلقي راعيًا فسأله عن قوم يونس فأخبره أنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم قال‏:‏ فأخبرهم أنك قد لقيت يونس‏.‏

قال‏:‏ لا أستطيع إلا بشاهد فسمى له عنزًا من غنمه والبقعة التي كانا فيها وشجرة هناك وقال‏:‏ كل هذه تشهد لك‏.‏

فرجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه رأى يونس فهموا به فقال‏:‏ لا تعجلوا حتى أصبح‏.‏

فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس فاستنطقها فشهدت له وكذلك الشاة والشجرة وكان يونس قد اختفى هناك‏.‏

فلما شهدت الشاة قالت لهم‏:‏ إن أردتم نبي الله فهو بمكان كذا وكذا فأتوه فلما رأوه قبلوا يديه ورجليه وأدخلوه المدينة بعد امتناع فمكث مع أهله وولده أربعين يومًا وخرج سائحًا وخرج الملك معه يصحبه وسلم الملك إلى الراعي فأقام يدبر أمرهم أربعين سنة بعد ذلك‏.‏

ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك‏.‏

وقال ابن عباس وشهر بن حوشب‏:‏ كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت وقالا‏:‏ كذلك أخبر الله تعالى في سورة الصافات فإنه قال‏:‏ ‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 145 - 147‏]‏‏.‏

وقال شهر‏:‏ إن جبرائيل أتى يونس فقال له‏:‏ انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم العذاب فإنه قد حضرهم‏.‏

قال‏:‏ ألتمس دابة‏.‏

قال‏:‏ الأمر أعجل من ذلك‏.‏

قال‏:‏ ألتمس حذاء‏.‏

قال‏:‏ الأمر أعجل من ذلك‏.‏

قال‏:‏ فغضب وانطلق إلى السفينة فركب فلما ركب احتبست قال‏:‏ فساهموا فسهم فجاءت الحوت فنودي الحوت‏:‏ إنا لم نجعل يونس من رزقك إنما جعلناك له حرزًا فالتقمه الحوت وانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الابلة ثم انطلق به على دجلة حتى ألقاه بنينوى‏.‏


ومما كان من الاحداث أيام ملوك

الطوائف إرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى مدينة إنطاكية‏.‏ وكانوا من الحواريين أصحاب المسيح أرسل أولًا اثنين وقد اختلف في أسمائهما فقدما إنطاكية فرأيا عندها شيخًا يرعى غنمًا وهو حبيب النجار فسلما عليه فقال‏:‏ من أنتما قالا‏:‏ رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ معكما آية قالا‏:‏ نعم نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله‏.‏

قال حبيب‏:‏ إن لي ابنًا مريضًا مذ سنين وأتى بهما منزله فمسحا ابنه فقام في الوقت صحيحًا ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرًا من المرض‏.‏

وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام فبلغ إليه خبرهما فدعاهما فقال‏:‏ من أنتما قالا‏:‏ رسل عيسى ندعوك إلى الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ فما آيتكما قالا‏:‏ نبرئ الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله‏.‏

فقال‏:‏ قوما حتى ننظر في أمركما فقاما فضربهما العامة‏.‏وقيل‏:‏ إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك فخرج الملك يومًا فكبرا وذكرا الله فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواريين لينصرهما فدخل البلد متنكرًا وعاشر حاشية الملك فرفعوا خبره إلى الملك فأحضره ورضي عشرته وأنس به وأكرمه فقال له يومًا‏:‏ أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى دينهما فهل كلمتهما وسمعت قولهما فقال الملك‏:‏ حال الغضب بيني وبين ذلك‏.‏

قال‏:‏ فإن رأى الملك أن يحضرهما حتى نسمع كلامهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون‏:‏ من أرسلكما قالا‏:‏ الله الذي خلق كل شيء ولا شريك له‏.‏

قال‏:‏ فثفاه وأوجزا‏.‏

قالا‏:‏ إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏

قال شمعون‏:‏ فما آيتكما قالا‏:‏ ما تتمناه‏.‏

فأمر الملك فجيء بغلام مطموس العينين موضعهما كاللحمة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر وأخذ بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما‏.‏

فعجب الملك لذلك فقال‏:‏ إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما‏.‏

قالا‏:‏ إن إلهنا قادر على كل شيء‏.‏

فقال الملك‏:‏ إن ها هنا ميتًا منذ سبعة أيام فلم ندفنه حتى يرجع أبوه وهو غائب فأحضر الميت وقد تغيرت ريحه فدعوا الله تعالى علانيًا وشمعون يدعو سرًا فقام الميت فقال لقومه‏:‏ إني مت مشركًا وأدخلت في أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه‏.‏

ثم قال‏:‏ فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة‏.‏

فقال الملك‏:‏ ومن هم فقال‏:‏ هذا وأومأ إلى شمعون وهذان وأشار إليهما فعجب الملك فحينئذٍ دعا شمعون الملك إلى دينه فآمن قومه وكان الملك فيمن آمن وكفر آخرون‏.‏

وقيل‏:‏ بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبًا النجار وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم فيذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة المرسلين فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَينِ فَكّذَبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بثَالِثٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وهو شمعون فأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه وإنما أرسلهم المسيح لأنه أرسلهم بإذن الله تعالى‏.‏

فلما كذبهم أهل المدينة حبس الله عنهم المطر فقال أهلها للرسل‏:‏ ‏{‏إنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنّكُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ - بالحجارة وقيل‏:‏ لنقتلنكم - ‏{‏وَلْيَمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فلما حضر حبيب وكان مؤمنًا يكتم إيمانه وكان يجمع كسبه كل يوم وينفق على عياله نصفه ويتصدق بنصفه فقال‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اتّبِعُوا المُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 20‏]‏‏.‏

فقال قومه‏:‏ وأنت مخال لربنا ومؤمن بإله هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا ليَ لا أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَني وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فلما قال ذلك قتلوه فأوجب الله له الجنة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيلَ ادْخُلِ الجَنّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ بِمَا ومما كان من الأحداث شمسون وكان من قرية من قرى الروم قد آمن وكانوا يعبدون الأصنام وكان على أميال من المدينة وكان يغزوهم وحده ويقاتلهم بلحي جمل‏.‏

فكان إذا عطش انفجر له من الحجر الذي فيه ماء عذب فيشرب منه وكان قد أعطي قوة لا يوثقه حديد ولا غيره وكان على ذلك يجاهدهم ويصيب منهم ولا يقدرون منه على شيء فجعلوا لامرأته جعلًا لتوثقه لهم فأجابتهم إلى ذلك فاعطوها حبلًا وثيقًا فتركته حتى نام وشدت يديه فاستيقظ وجذبه فسقط الحبل من يديه فأرسلت إليهم فأعلمتهم فأرسلوا إليها بجامعة من حديد فتركتها في يديه وعنقه وهو نائم فاستيقظ وجذبها فسقطت من عنقه ويديه فقال لها في المرتين‏:‏ ما حملك على ما صنعت فقالت‏:‏ أريد أجرب قوتك وما رأيت مثلك في الدنيا فهل في الأرض شيء يغلبك قال‏:‏ نعم بشعر رأسه وكان كثيرًا فأرسلت إليهم فجاؤوا فأخذوه فجدعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينيه وأقاموه للناس‏.‏

وجاء الملك لينظر إليه وكانت المدينة على أساطين فدعا الله شمسون أن يسلطه عيهم فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة فيجذبهما ورد إليه بصره وما أصابوه من جسده وجذب العمودين فوقعت المدينة بالملك والناس وهلك من فيها هدمًا‏.‏

وكان شمسون ومما كان من الأحداث أيضًا جرجيس قيل‏:‏ كان بالموصل ملك يقال له دازانه وكان جبارًا عاتيًا وكان جرجيس رجلًا صالحًا من أهل فلسطين يكتم إيمانه مع أصحاب له صالحين وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فأخذوا عنهم وكان جرجيس كثير التجارة عظيم الصدقة وربما نفد ماله في الصدقة ثم يعود يكتسب مثله ولولا الصدقة لكان الفقر أحب إليه من الغنى وكان يخاف بالشام أن يفتتن عن دينه فقصد الموصل ومعه هدية لملكها لئلا يجعل لأحد عليه سبيلًا فجاءه حين جاءه وقد أحضر عظماء قومه وأوقد نارًا وأعد أصنافًا من العذاب وأمر بصنم له يقال له افلون فنصب فمن لم يسجد له عذبه وألقي في النار‏.‏

فلما رأى جرجيس ما يصنع استعظمه وحدث نفسه بجهاده فعمد إلى المال الذي معه فقسمه في أهل ملته وأقبل عليه وهو شديد الغضب فقال له‏:‏ اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئًا ولا لغيرك شيئًا وأن فوقك ربًا هو الذي خلقك ورزقك فأخذ في ذكر عظمة الله تعالى وعيب صنمه‏.‏

فأجابه الملك بأن سأله من هو ومن أين هو‏.‏

فقال جرجيس‏:‏ أنا عبد الله وابن أمته من التراب خلقت وإليه أعود‏.‏

فدعاه الملك إلى عبادة صنمه وقال له‏:‏ لو كان ربك ملك الملكوت لرؤي عليك أثره كما ترى على من حولي من ملوك قومي‏.‏

فأجابه جرجيس بتعظيم أمر الله وتمجيده وقال له‏:‏ تعبد افلون الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني من رب العالمين أم تعبد الذي قامت بأمره السموات والأرض أم تعبد طرقلينا عظيم قومك من الناس عليه السلام فإنه كان آدميًا يأكل ويشرب فأكرمه الله بأن جعله إنسيًا ملكيًا أم تعبد عظيم قومك مخليطيس أيضًا وما نال بولايتك من عيسى عليه السلام‏!‏ وذكر من معجزاته وما خصه الله من الكرامة‏.‏

فقال له الملك‏:‏ إنك أتيتنا بأشياء لا نعلمها ثم خيره بين العذاب والسجود للصنم‏.‏

فقال جرجيس‏:‏ إن كان صنمك هو الذي رفع السماء وعدد أشياء من قدرة الله عز وجل فقد أصبت ونصحت وإلا فاخسأ أيها الملعون‏.‏

فلما سمع الملك أمر بحبسه ومشط جسده بأمشاط الحديد حتى تقطع لحمه وعروقه وينضح بالخل والخردل فلم يمت‏.‏

فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى صارت نارًا ثم سمر بها رأسه فسال دماغه فحفظه الله تعالى‏.‏

فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس فأوقد عليه حتى جعله نارًا ثم أدخله فيه وأطبق عليه حتى برد‏.‏

فلما رأى ذلك لم يقتله دعاه وقال له‏:‏ ألم تجد ألم هذا العذاب قال‏:‏ إن إلهي حمل عني عذابك وصبرني ليحتج عليك‏.‏فأيقن الملك بالشر وخافه على نفسه وملكه فأجمع رأيه على أن يخلده في السجن فقال الملأ من قومه‏:‏ إنك إن تركته في السجن طليقًا يكلم الناس ويميل بهم عليك ولكن يعذب بعذاب يمنعه من الكلام‏.‏

فأمر به فبطح في السجن على وجهه ثم أوتد في يديه ورجليه أوتادًا من حديد ثم أمر بأسطوان من رخام حمله ثمانية عشر رجلًا فوضع على ظهره فظل يومه ذلك تحت الحجر فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكًا وذلك أول ما أيد بالملائكة فأول ما جاءه الوحي قلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبره وعزاه فلما أصبح أخرجه من السجن فقال له‏:‏ الحق بعدوك فجاهده فإني قد ابتليتك به سبع سنين يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرات في كل ذلك أرد إليك روحك فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك‏.‏

فلم يشعر الملك إلا وقد وقف جرجيس على رأسه يدعوه إلى الله فقال له‏:‏ أجرجيس قال‏:‏ نعم‏.‏

من أخرجك من السجن قال‏:‏ أخرجني من سلطانه فوق سلطانك‏!‏ فمليء غيظًا ودعا بأصناف العذاب ومدوه بين خشبتين ووضعوا على رأسه سيفًا ثم وشروه حتى سقط بين رجلييه وصار جزلتين ثم قطعوهما قطعًا وكان له سبعة أسد ضارية في جب فألقوا جسده إليها فلما رأته خضعت برؤوسها وقامت على براثنها لا تألوا أن تقيه الأذى الذي تحتها فظل يومه تحتها ميتًا فكانت أول ميتة ذاقها‏.‏

فلما أدركه الليل جمع الله جسده وسواه ورد فيه روحه وأخرجه من قعر الجب‏.‏

فلما أصبحوا أقبل جرجيس وهم في عيد لهم صنعوه فرحًا بموت جرجيس فلما نظروا إليه مقبلًا قالوا‏:‏ ما أشبه هذا بجرجيس‏!‏ قال الملك‏:‏ هو هو‏!‏ قال جرجيس‏:‏ أنا هو حقًا بئس القوم أنتم‏!‏ قتلتم ومثلتم فرد الله روحي إلي‏!‏ هلموا إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم قدرته‏.‏

فقالوا‏:‏ ساحر سحر أعينكم وأيديكم عنه فجمعوا من ببلادهم من السحرة فلما جاؤوا قال الملك لكبيرهم‏:‏ اعرض علي من سحرك ما يسرى به عني‏.‏

فدعا بثور فنفخ في أذنيه فإذا هو ثوران ودعا ببذر فحرث وزرع وحصد ودق وذرى وطحن وخبز وأكل في وطحن وخبز وأكل في ساعته‏.‏

فقال له الملك‏:‏ هل تقدر أن تمسخه كلبًا قال‏:‏ ادع لي بقدح من ماء فأتي به فنفث فيه الساحر ثم قال الملك لجرجيس‏:‏ اشربه فشربه جرجيس حتى أتى على آخره‏.‏

فقال له الساحر‏:‏ ماذا تجد قال‏:‏ ما أجد إلا خيرًا‏!‏ كنت عطشان فلطف الله بي فسقاني‏.‏

وأقبل الساحر على الملك وقال‏:‏ لو كنت تقاسي جبارًا مثلك لغلته إنما تقاسي جبار السماء والأرض‏.‏

وكانت أتت جرجيس امرأةٌ من الشام وهو في أشد العذاب فقالت له‏:‏ إنه لم يكن لي مال إلا ثورًا أعيش به من حرثه فمات وجئتك لترحمني وتسأل الله أن يحيي ثوري‏.‏

فأعطاها عصًا وقال‏:‏ اذهبي إلى ثورك فاضربيه بهذه العصا وقولي له‏:‏ احي بإذن الله‏.‏

فأخذت العصا وأتت مصرع الثور فرأت روقيه وشعر وذنبه فجمعتها ثم قرعتها بالعصا وقالت ما أمرها به جرجيس فعاش ثورها وجاء الخبر بذلك‏.‏

فلما قال الساحر ما قال‏:‏ قال رجل من أصحاب الملك وكان أعظمهم بعد الملك‏:‏ اسمعوا مني‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ إنكم قد وضعتم أمره على السحر وإنه لم يعذب ولم يقتل فهل رأيتم ساحرًا قط قدر أن يدفع عن نفسه الموت أو أحيا ميتًا وذكر الثور وإحياءه‏.‏

فقالوا له‏:‏ إن كلامك كلام رجل قد أصغى إليه‏.‏

فقال‏:‏ قد آمنت به وأشهد الله أني بريء مما تعبدون‏!‏ فقام إليه الملك وأصحابه بالخناجر فقطعوا لسانه بالخناجر فلم يلبث أن مات‏.‏

وقيل‏:‏ أصابه الطاعون فأعجله قبل أن يتكلم وكتموا شأنه فكشفه جرجيس للناس فاتبعه أربعة آلاف وهو ميت فقتلهم الملك بأنواع العذاب حتى أفناهم وقال له رجل من عظماء أصحاب الملك‏:‏ يا جرجيس إنك زعمت أن إلهك يبدأ الخلق ثم يعيده وإني سائلك أمرًا إن فعله إلهك آمنت به وصدقتك وكفيتك قومي‏.‏

هذا تحتنا أربعة عشر منبرًا ومائدة وأقداح وصحاف من خشب يابس وهو من أشجار شتى فادع ربك أن يعيدها خضرًا كما بدأها يعرف كل عود بلونه وورقه وزهره وثمره‏.‏

قال جرجيس‏:‏ قد سألت أمرًا عزيزًا علي وعليك وإنه على الله يسير ودعا الله فما برحوا حتى اخضرت وساخت عروقها وتشعبت ونبت ورقها وزهرها حتى عرفوا كل عود فقال الذي سأله هذا‏:‏ أنا أتولى عذابه‏.‏

فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور مجوف ثم حشاها نفطًا ورصاصًا وكبريتًا وزرنيخًا وأدخل جرجيس في وسطها ثم أوقد تحت الصورة النار حتى التهبت وذاب كل شيء فيها واختلط ومات جرجيس في جوفها‏.‏

فلما مات أرسل الله ريحًا عاصفًا ورعدًا وبرقًا وسحابًا مظلمًا وأظلم ما بين السماء والأرض وبقوا أيامًا متحيرين فأرسل الله ميكائيل فاحتمل تلك الصورة فلما أقلها ضرب بها الأرض ففزع من روعتها كل من سمعها وانكسرت وخرج منها جرجيس حيًا فلما وقف وكلمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض‏.‏

قال له عظيم من عظمائهم‏:‏ ادع الله بأن يحيي موتانا من هذه القبور‏.‏

فأمر جرجيس بالقبور فنبشت وهي عظام رفات ثم دعا فلم يبرحوا حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانًا تسعة رجال وخمسة نسوة وثلاثة صبية وفيهم شيخ كبير‏.‏

فقال له جرجيس‏:‏ متى مت فقال‏:‏ في زمان كذا وكذا فإذا هو أربع مائة عام‏.‏

فلما رأى ذلك الملك قال‏:‏ لم يبق من عذابكم شيء إلا وقد عذبتموه وأصحابه به إلا الجوع والعطش فعذبوه به‏.‏

فعمدوا إلى بيت عجوز فقيرة وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد فحصروه فيه فلا يصل إليه طعام ولا شراب‏.‏

فلما جاع قال للعجوز‏:‏ هل عندك طعام أو شراب قالت‏:‏ لا والذي يحلف به ما لنا عهد بالطعام من كذا وكذا وسأخرج فألتمس لك شيئًا‏.‏

فقال لها‏:‏ هل تعبدين الله قالت‏:‏ لا‏.‏

فدعاها فآمنت وانطلقت تطلب له شيئًا وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت فدعا الله فاخضرت تلك الدعامة وأنبتت كل فاكهة تؤكل وتعرف فظهر للدعامة فروع من فوق البيت تظله وما حوله وعادت العجوز وهو يأكل رغدًا‏.‏

فلما رأت الذي حدث في بيتها قالت‏:‏ آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع فادع هذا الرب العظيم أن يشفي ابني‏.‏

قال‏:‏ أدنيه مني فأدنته فبصق في عينيه فأبصر فنفث في أذنيه فسمع‏.‏

قالت له‏:‏ أطلق لسانه ورجليه‏.‏

قال لها‏:‏ أخريه فإن له يومًا عظيمًا‏.‏

ورأى الملك الشجرة فقال‏:‏ أرى شجرة ما كنت أعهدها‏!‏ قالوا‏:‏ تلك الشجرة الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع وقد شبع منها وأشبعت العجوز وشفى لها ابنها‏.‏

فأمر بالبيت فهدم وبالشجرة أن تقطع فملا هموا بقطعها أيبسها الله وتركوها‏.‏

وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأمر بعجل فأوقر أسطوانًا وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارًا ثم دعا بأربعين ثورًا فنهضت بالعجلٍ نهضة واحدة وجرجيس تحتها فانقطع ثلاث قطع ثم أمر بقطعه فأحرقت حتى صارت رمادا وبعث بالمراد مع رجال فذروه في البحر فلم يبرحوا حتى سمعوا صوتًا من السماء‏:‏ يا بحر إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب فإني أريد أن أعيده‏.‏

فأرسل الرياح فجمعته كما كان قبل أن يذروه والذين ذروه قيام لم يبرحوا وخرج جرجيس حيًا مغبرًا فرجعوا ورجع معهم وأخبروا الملك خبر الصوت والرياح‏.‏

فقال له الملك‏:‏ هل لك فيما هو خير لي ولك ولولا أن يقال إنك غلبتني لآمنت بك ولكن اسجد لصنمي سجدة واحدة أو اذبح له شاة واحدة وأنا أفعل ما يسرك‏.‏

فطمع جرجيس في إهلاك الصنم حين يراه وإيمان الملك عند ذلك فقال له‏:‏ أفعل - خديعة منه - وأدخلني على صنمك أسجد له وأذبح‏.‏

ففرح الملك بذلك وقبل يديه ورجليه وطلب منه أن يكون يومه وليلته عنده ففعل فأخلى له الملك بيتًا ودخله جرجيس فلما جاء الليل قام يصلي ويقرأ الزبور وكان حسن الصوت فلما سمعته امرأة الملك استجابت له وآمنت به وكتمت إيمانها فلما اصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها‏.‏

وقيل للعجوز‏:‏ إن جرجيس قد افتتن وطمع في الملك بعد الملك‏.‏

فخرجت تحمل ابنها على عاتقها في أعراضهم توبخ جرجيس فلما دخل بيت الأصنام نظر فإذا العجوز وابنها أقرب الناس إليه فدعا ابنها فأجابه وما تكلم قبل ذلك قط ثم نزل عن عاتق أمه يمشي على قدميه سويتين وما وطئ الأرض قط فلما وقف بين يدي جرجيس قال له‏:‏ ادع لي هذه الأصنام وهي على منابر من ذهب واحد وسبعون صنمًا وهم يعبدون الشمس والقمر معها فدعاها فأقبلت تتدحرج إليه‏.‏

فلما انتهت إليه ركض برجله الأرض فخسف بها وبمنابرها فقال له الملك‏:‏ يا جرجيس خدعتني وأهلكت أصنامي‏!‏ فقال له‏:‏ فعلت ذلك عمدًا لتعتبر وتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت مني‏.‏

فلما قال هذا قالت امرأة الملك وأظهرت إسلامها وعدت عليهم أفعال جرجيس وقالت‏:‏ ما تنتظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتهلكون كما هلكت أصنامكم‏.‏

فقال الملك‏:‏ ما أسرع ما أضلك هذا الساحر‏!‏ ثم أمر بها فعلقت على خشبة ثم مشط لحمها بمشاط الحديد فلما آلمها العذاب قالت لجرجيس‏:‏ ادع الله أن يخفف عني الألم‏.‏

فقال‏:‏ انظري فوقك‏.‏

فنظرت فضحكت‏.‏

فقال لها الملك‏:‏ ما يضحكك قالت‏:‏ أرى على رأسي ملكين معهما تاج من حلي الجنة ينتظران خروج روحي ليزيناني به ويصعدا بها إلى الجنة‏.‏

فلما مات أقبل جرجيس على الدعاء وقال‏:‏ اللهم أكرمتني بهذا البلاء لتعطيني أفضل منازل الشهداء وهذا آخر أيامي فأسألك أن تنزل بهؤلاء المنكرين من سطواتك وعقوبتك ما لا بل لهم به فأمطر الله عليهم النار فأحرقتهم‏.‏

فلما احترقوا بحرها عمدوا إليه فضربوه بالسيوف فقتلوه وهي القتلة الرابعة‏.‏

فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها رفعت من الأرض وجعل عاليها سافلها فلبثت زمانًا يخرج من تحتها دخان منتن.‏ ‏ ‏