المجلد الثاني - ذكر فرض العطاء وعمل الديوان

وفي سنة خمس عشرة فرض عمر للمسلمين الفروض ودون الدواوين وأعطى العطايا على السابقة وأعطى صفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل ابن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم فامتنعوا من أخذه وقالوا‏:‏ لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا‏.‏

فقال‏:‏ إني أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب‏.‏

قالوا‏:‏ فنعم إذًا وأخذوا وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشام فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب وقيل‏:‏ ماتا في طاعون عمواس‏.‏

ولما أراد عمر وضع الديوان قال له علي وعبد الرحمن بن عوف‏:‏ ابدأ بنفسك‏.‏

قال‏:‏ لا بل أبدأ بعم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم الأقرب فالأقرب ففرض للعباس وبدأ به ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر ومن ولي الأيام قبل القادسية كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين وفرض لأهل البلاء النازع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة‏.‏

فقيل له‏:‏ لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام فقال‏:‏ لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا‏.‏

وقيل له‏:‏ قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه‏.‏

فقال‏:‏ من قربت داره بالزيادة لأنهم كانوا ردءًا للحتوف وشجىً للعدو قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقتين منهم والأنصار‏!‏ فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم وهاجر إليهم المهاجرون من بعد‏.‏

وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفًا ألفًا ثم فرض للروادف المثنى خمسمائة خمسمائة ثم للروادف الثليث بعدهم ثلاثمائة ثلاثمائة سوى كل طبقة في العطاء قويهم وضعيفهم عربهم وعجمهم وفرض للروداف الربيع على مائتين وخمسين وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين وألحق أهل بدر أربعة من غير أهلها‏:‏ الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان‏.‏

وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفًا وقيل‏:‏ اثني عشر الفًا وأعطى نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرة آلاف عشرة آلاف إلا من جرى عليها الملك‏.‏

فقال نسوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفضلنا عليهن في القسمة فسو بيننا ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياها فلم تأخذ‏.‏

وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة خمسمائة ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلاثمائة ثلاثمائة ونساء أهل القادسية مائتين مائتين ثم سوى بين النساء بعد ذلك وجعل الصبيان سواء على مائة مائة ثم جمع ستين مسكينًا وأطعمهم الخبز فأحصوا ما أكلوا فوجدوه يخرج من جريبتين ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر‏.‏

وقال عمر قبل موته‏:‏ لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف ألفًا يجعلها الرجل في أهله والفًا يزودها معه وألفًا يتجهز بها وألفًا يترفق بها‏.‏

فمات قبل أن يفعل‏.‏

وقال له قائل عند فرض العطاء‏:‏ يا أمير المؤمنين لو شركت في بيوت الأموال عدة لكونٍ إن كان‏.‏

فقال‏:‏ كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها وهي فتنة لمن بعدي بل أعد لهم ما أعد الله ورسوله طاعة لله ورسوله هما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون فإذا كان المال ثمن دين أحدكم هلكتم‏.‏

وقال عمر للمسلمين‏:‏ إني كنت أمرًا تاجرًا يغني الله عيالي بتجارتي وقد شغلتموني بأمركم هذا فما ترون أنه يحل لي في هذا المال وعليٌّ ساكت‏.‏

فأكثر القوم فقال‏:‏ ما تقول يا علي

فقال‏:‏ ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره‏.‏

فقال القوم‏:‏ ما قال علي‏.‏

فأخذ قوته واشتدت حاجة عمر فاجتمع نفر من الصحابة منهم عثمان وعلي وطلحة والزبير فقالوا‏:‏ لو قلنا لعمر في زيادة نزيده إياها في رزقه‏.‏

فقال عثمان‏:‏ هلموا فلنستبرىء ما عنده من وراء وراء فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال واستكتموها أن لا تخبر بهم عمر‏.‏

فلقيت عمر في ذلك فغضب وقال‏:‏ من هؤلاء لأسوءهم قالت‏:‏ لا سبيل إلى علمهم‏.‏

قال‏:‏ أنت بيني وبينهم ما أفضل ما اقتنى رضي الله عنه في بيتك الملبس قالت‏:‏ ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد والجمع‏.‏

قال‏:‏ فأي الطعام ناله عندك أرفع قالت‏:‏ حرفًا من خبز شعير فصببنا عليه وهو حار أسفل عكة لنا فجعلتها دسمة حلوة فأكل منها‏.‏

قال‏:‏ وأي مبسط كان يبسط عندك كان أوطأ قالت‏:‏ كساء ثخين كنا نربعه في الصيف فإن كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه‏.‏

قال‏:‏ يا حفصة فأبلغيهم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالتزجية فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالتزجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقًا فمضى الأول وقد تزود فبلغ المنزل ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه ثم اتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما ألحق بهما وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما‏.‏

ذكر الحروب إلى آخر السنة فمن ذلك

يوم برس وبابل وكوثى

لما فرغ سعد من أمر القادسية أقام بها بعد الفتح شهرين وكاتب عمر فيما يفعل فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى المدائن وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق وأن يجعل معهم جندًا كثيفًا وأن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم‏.‏

ففعل ذلك وسار من القادسية لأيام بقين من شوال وكل الناس مؤدٍ مذ نقل الله إليهم ما كان في عسكر الفرس من سلاح وكراع ومال‏.‏

فلما وصلت مقدمة المسلمين برس وعليهم عبد الله بن المعتم وزهرة بن حوية وشرحبيل ابن السمط لقيهم بها بصبهرا في جمع من الفرس فهزمه المسلمون ومن معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم النخيرخان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم وقد استعملوا عليهم الفيرزان وقدم بصبهرا منهزمًا من برس فوقع في النهر ومات من طعنة كان طعنه زهرة ولما هزم بصبهرا أقبل بسطام دهقان برس فصالح زهرة وعقد له الجسور وأخبره بمن اجتمع ببابل فأرسل زهرة إلى سعد يعرفه ذلك‏.‏

فقدم عليه سعد ببرس وسيره في المقدمة وأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشمًا المرقال واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل وقد قالوا‏:‏ نقاتلهم قبل أن نفترق فاقتتلوا فهزمهم المسلمون فانطلقوا على وجهين فسار الهرمزان نحو الأهواز فأخذها فأكلها وخرج الفيرزان نحو نهاوند فأخذها بأكلها وبها كنوز كسرى وأكل الماهين وسار النخيرخان ومهران إلى المدائن وقطعا الجسر‏.‏

وأقام سعد ببابل أيامًا وبلغه أن النخيرجان قد خلف شهريار دهقانًا من دهاقين الباب بكوثى في جمع فقدم زهرة بين يديه بكير بن عبد الله الليثي وكثير ابن شهاب السعدي حتى عبرا الصراة فلحقا بأخريات القوم وفيهم فيومان والفرخان فقتل بكير الفرخان وقتل كثير فيومان بسوراء وجاء زهرة فجاز سوراء ونزل وجاء سعد وهاشم والناس ونزلوا عليه وتقدم زهرة نحو الفرس وكانوا قد نزلوا بين الدير وكوثى وقد استخلف النخيرخان ومهران على جنودهما شهريار دهقان الباب فنازلهم زهرة فبرزوا إلى قتاله وخرج شهريار يطلب المبارزة فأخرج زهرة إليه أبا نباتة نائل بن جعشم الأعرجي وكان من شجعان بني تميم وكلاهما وثيق الخلق‏.‏

فلما رأى شهريار نائلًا ألقى الرمح لعتنقه وألقى أبو نباتة رمحه ليعتنقه أيضًا وانتضيا الخنجر وأراد حل أزرار درعه فوقعت إصبعه في في نائل فكسر عظمها ورأى منه فتورًا فبادره وجلد به الأرض ثم قعد على صدره وأخذ خنجره وكشف درعه عن بطنه وطعن به بطنه وجنبه حتى مات وأخذ فرسه وسواريه وسلبه وانهزم أصحابه فذهبوا إلى البلاد وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد فقدم إليه نائلًا والبسه سلاح شهريار وسواريه وأركبه برذونه وغنمه الجميع فكان أول أعرجي سور بالعراق وقام بها سعد أيامًا وزار مجلس إبراهيم الخليل عليه السلام‏.‏

ذكر بهرسير وهي المدينة العتيقة  وهي المدائن الدنيا من الغرب

ثم إن سعدًا قدم زهرة إلى بهرسير فمضى في المقدمات فتلقاه شيرزاد دهقان ساباط بالصلح فأرسله إلى سعد فصالحه على تأدية الجزية ولقي زهرة كتيبة بنت كسرى التي تدعى بوران وكانوا يحلفون كل يوم أن لا يزول ملك فارس ما عشنا فهزمهم وقتل هاشم بن عتبة وهو ابن أخي سعد المقرط وهو أسد كان لكسرى قد ألفه فقبل سعد رأس هاشم وقبل هاشم قدم سعد وأرسله سعد في المقدمة إلى بهرسير فنزل إلى المظلم وقرأ‏:‏ ‏{‏أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏‏.‏ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ارتحل فنزل على بهرسير ووصلها سعد والمسلمون فرأوا الإيوان فقال ضرار بن الخطاب‏.‏

الله أكبر‏!‏ أبيض كسرى‏!‏ هذا ما وعد الله ورسوله‏.‏

وكبر وكبر الناس معه فكانوا كلما وصلت طائفة كبروا ثم نزلوا على المدينة وكان نزولهم في ذي الحجة‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب‏.‏

وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد في قول وعلى الطائف يعلى بن منية وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص وفيها مات سعد بن عبادة الأنصاري وقيل‏:‏ توفي في خلافة أبي بكر‏.‏

ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان أسن من أسلم من بني هاشم‏.‏

ثم دخلت سنة ست عشرة

ذكر فتح المدائن الغربية


وهي بهرسير في هذه السنة في صفر دخل المسلمون بهرسير وكان سعد محاصرًا لها وأرسل الخيول فأغارت على من ليس له عهد فأصابوا مائة ألف فلاح فأصاب كل واحد منهم فلاحًا لأن كل المسلمين كان فارسًا فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه فأجابه‏:‏ إن من جاءكم من الفلاحين ممن لم يعينوا عليكم فهو أمانهم ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به‏.‏

فخلى سعد عنهم وأرسل إلى الدهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذمة فتراجعوا ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادي إلا أمن واغتبط الإسلام‏.‏

وأقاموا على بهرسير شهرين يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات ويقاتلوهم بكل عدة ونصبوا عليها عشرين منجنيقًا فشغلوهم بها وربما خرج العجم فقاتلوهم فلا يقومون لهم وكان آخر ما خرجوا متجردين للحرب وتبايعوا على الصبر فقاتلهم المسلمون‏.‏

وكان على زهرة بن الحوية درع مفصومة فقيل له‏:‏ لو أمرت بهذا الفصم فسرد‏.‏

فقال لههم‏:‏ إني على الله لكريم أن ترك سهم فارس الجند كلهم أن لا يؤمنني من هذا الفصم حيث يثبت في‏!‏ فكان أول رجل أصيب من المسلمين يومئذٍ هو بنشابة من ذلك الفصم‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ انزعوها‏.‏

فقال‏:‏ دعوني فإن نفسي معي ما دامت في لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة‏.‏

فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل إصطخر فقتله وأحيط به فقتل وما انكشفوا‏.‏

وقيل‏:‏ إن زهرة عاش إلى أيام الحجاج فقتله شبيب الخارجي وسيرد ذكره‏.‏

واشتد الحصار بأهل المدائن الغربية حتى أكلوا السنانير والكلاب وصبروا من شدة الحصار على أمر عظيم فبينا هم يحاصرونهم إذا أشرف عليهم رسول الملك فقال‏:‏ الملك يقول لكم‏:‏ هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم‏!‏ فقال لهم أبو مفرز الأسود بن قطبة وقد أنطقه الله تعالى بما لا يدري ما هو ولا من معه‏.‏

فرجع الرجل فقطعوا دجلة إلى المدائن الشرقية التي فيها الإيوان فقال له من معه‏:‏ يا أبا مفرز ما قلت له قال‏:‏ والذي بعث محمدًا بالحق ما أدري وأنا أرجو أن أكون قد نطقت بالذي هو خيرٌ‏.‏

وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم‏.‏

فنادى سعد في الناس فنهدوا إليهم فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج رجل إلا رجل ينادي بالأمان فآمنوه فقال لهم‏:‏ ما بقي بالمدينة من يمنعكم‏.‏

فدخلوا فما وجدوا فيها شيئًا ولا أحدًا إلا أسارى وذلك الرجل فأسألوه لأي شيء هربوا فقال‏:‏ بعث الملك غليكم يعرض عليكم الصلح فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدًا حتى نأكل عسل أفريدون بأترج كوثى‏.‏

فقال الملك‏:‏ يا ويلتيه‏!‏ إن الملائكة تتكلم على ألسنتهم ترد علينا‏.‏

فساروا إلى المدينة القصوى‏.‏

فلما دخلها المسلمون أنزلهم سعد المنازل وأرادوا العبور إلى المدائن فوجدوا المعابر قد أخذوها ما بين المدائن وتكريت‏.‏


ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى

وكان فتحها في صفر أيضًا سنة ست عشرة قيل‏:‏ وأقام سعد ببهرسير أيامًا من صفر فأتاه علجٌ فدله على مخاضة تخاض إلى صلب الفرس فأبى وتردد عن ذلك وقحمهم المد وكانت السنة كثيرة المدود ودجلة تقذف بالزبد فأتاه علجٌ فقال‏:‏ ما يقيمك لا يأتي عليك ثلاثة حتى يذهب يزدجرد بكل شيء في المدائن‏.‏

فهيجه ذلك على العبور ورأوا رؤيا‏:‏ أن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرت فعزم سعد لتأويل الرؤيا فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏

إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذا شاؤوا في سفنهم فيناوشونكم وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه قد كفاكم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم‏.‏

فقالوا جميعًا‏:‏ عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل‏.‏

فندب الناس إلى العبور وقال‏:‏ من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من العبور فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس في ستمائة من أهل النجدات فاستعمل عليهم عاصمًا فقدمهم عاصم في ستين فارسًا وجعلهم على خيل ذكور وإناث ليكون أسلس لسباحة الخيل ثم اقتحموا دجلة‏.‏

فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أخرجوا للخيل التي تقدمت مثلها فاقتحموا عليهم دجلة فلقوا عاصمًا وقد دنا من الفراض‏.‏

فقال عاصم‏:‏ الرماح الرماح‏!‏ أشرعوها وتوخوا العيون‏.‏

فالتقوا فاطعنوا وتوخى المسلمون عيونهم فولوا ولحقهم المسلمون فقتلوا أكثرهم ومن نجا منهم صار أعور من الطعن وتلاحق الستمائة بالستين غير متعتين‏.‏

ولما رأى سعد عاصمًا على الفراض قد منعها أذن للناس في الاقتحام وقال‏:‏ قولوا نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه لا

حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء‏.‏

وكان الذي يساير سعدًا في الماء سلمان الفارسي فعامت بهم خيولهم وسعد يقول‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات‏.‏

فقال له سلمان‏:‏ الإسلام جديد ذللت لهم والله البحور كما ذلل لهم البر أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجًا كما دخلوا فيه أفواجًا‏.‏

فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئًا ولم يغرق منهم أحد إلا أن مالك بن عامر العنبري سقط منه قدح فذهبت به جرية الماء فقال له الذي يسايره معيرًا له‏:‏ أصابه القدر فطاح‏.‏

فقال‏:‏ والله إني لعلى حالة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين‏.‏

فلما عبروا ألقته الريح إلى الشاطئ فتناوله بعض الناس وعرفه صاحبه فأخذه‏.‏

ولم يغرق منهم أحد غير أن رجلًا من بارق يدعى غرقدة زال عن ظهر فرس له أشقر فثنى القعقاع عنان فرسه إليه فأخذ بيده فأخرجه سالمًا فقال البارقي وكان من أشد الناس‏:‏ أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكان للقعقاع فيهم خؤولة‏.‏

وخرج الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها‏.‏

فلما رأى الفرس ذلك وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان وكان يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان قبل ذلك وخلف مهران الرازي والنخيرخان وكان على بيت المال بالنهروان وخرجوا معهم بما قدروا عليه من خير متاعهم وخفيفه وما قدروا عليه من بيت المال وبالنساء والذراري وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف والأدهان ما لا يدرى قيمته وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة‏.‏

وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف الف ألف ثلاث مرات أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسية النصف وبقي النصف‏.‏

وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال وهي كتيبة عاصم بن عمرو ثم كتيبة الخرساء وهي كتيبة القعقاع بن عمرو فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدًا يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم ليس في ذلك ما كان لآل كسرى‏.‏

ونزل سعد القصر الأبيض وسرح سعد زهرة في آثارهم إلى النهروان ومقدار ذلك من كل جهة‏.‏وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم دعا أهل بهرسير ثلاثًا وأهل القصر الأبيض ثلاثًا واتخذ سعد إيوان كسرى مصلى ولم يغير ما فيه من التماثيل‏.‏

ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور الماء وكان يدعى يوم الجراثيم لا يبغي أحد إلا اشمخرت له جرثومة من الأرض يستريح عليها ما يبلغ الماء حزام فرسه ولذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود‏:‏

فانتثلنا خزائن المرء كسرى يوم ولوا وخاض منها جريضا ولما دخل سعد الإيوان قرأ‏:‏ ‏{‏كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قومًا آخرين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن ولا يصلي جماعة وأتم الصلاة لأنه نوى الإقامة وكانت أول جمعة بالعراق وجمعت بالمدائن في صفر سنة ست عشرة‏.‏

ولما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسيًا يحمي أصحابه فضرب فرسه ليقدم على المسلم فأحجم وأراد الفرار فتقاعس فأدركه المسلم فقتله وأخذ سلبه وأدرك رجلٌ آخر من المسلمين جماعةً من الفرس يتلاومون وقد نصبوا لأحدهم كرةً وهو يرميها لا يخطئها فرجعوا فلقيهم المسلم فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه‏.‏

أبو بجيد بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وبعدها ياء تحتها نقطتان ودال مهملة‏.‏

ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها

كان سعد قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلي فجمع ما في القصر والإيوان والدور وأحصى ما يأتيه به الطلب وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة وهربوا في كل وجه فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب فأخذوا ما معهم ورأوا بالمدائن قبابًا تركية مملوة سلالًا مختومة برصاص فحسبوها طعامًا فإذا فيها آنية الذهب والفضة وكان الرجل يطوف ليبيع الذهب بالفضة متماثلين‏.‏

ورأوا كافورًا كثيرًا فحسبوه ملحًا فعجنوا به فوجدوه مرًا‏.‏

وأدرك الطلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه فوقع منهم بغل في الماء فعجلوا وكبوا عليه فقال بعض المسلمين‏:‏ إن لهذا البغل لشأنًا فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه وفيه حلية كسرى ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي فيها الجوهر وكان يجلس فيها للمباهاة‏.‏

ولحق الكلج بغلين معهما فارسيان فقتلهما وأخذ البغلين فأبلغهما صاحب الأقباض وهو يكتب ما يأتيه به الرجال فقال له‏:‏ قف حتى ننظر ما معك‏.‏

فحط عنهما فإذا سفطان فيهما تاج كسرى مرصعًا وكان لا يحمله إلا أسطوانتان وفيه الجوهر وعلى البغل الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجًا منظومًا‏.‏

وأدرك القعقاع بن عمرو فارسيًا فقتله وأخذ منه عيبتين وغلافين في إحداهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدراع منها درع كسرى ومغافره ودرع هرقل ودرع خاقان ملك

الترك ودرع داهر ملك الهند ودرع بهرام جوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان استلبها الفرس أيام غزاهم خاقان وهرقل وداهر وأما النعمان وجوبين فحين هربا من كسرى وفي أحد الغلافين سيوف من سيوف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان فأحضر القعقاع الجميع عند سعد فخيره بين الأسياف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام ونفل سائرها في الخرساء إلا سيف كسرى والنعمان بعث بهما إلى عمر بن الخطاب لتسمع العرب بذلك وحسبوهما في الأخماس وبعثوا بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون‏.‏

وأدرك عصمة بن خالد الضبي رجلين معهما حماران فقتل أحدهما وهرب الآخر وأخذ الحمارين فأتى بهما صاحب الأقباض فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثفره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة ولجام كذلك وفارس من فضة مكلل بالجوهر وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب وكل ذلك منظوم بالياقوت وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر كان كسرى يضعهما على أسطوانتي التاج‏.‏

وأقبل رجل بحق إلى صاحب الأقباض فقال هو والذين معه‏:‏ ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه‏.‏

فقالوا‏:‏ هل أخذت منه شيئًا فقال‏:‏ والله لولا الله ما أتيتكم به‏.‏

فقالوا‏:‏ من أنت فقال‏:‏ والله لا أخبركم فتحمدوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه‏.‏

فأتبعوه رجلًا فسأل عنه فإذا عنه فإذا هو عامر ابن عبد قيس‏.‏

وقال سعد‏:‏ والله إن الجيش لذو أمانة ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر لقد تتبعت من أقوام منهم هناتٍ ما أحسبها من هؤلاء‏.‏

وقال جابر بن عبد الله‏:‏ والذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة فلقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كأمامنتهم وزهدهم وهم‏:‏ طليحة وعمرو بن معدي كرب وقيس بن المكشوح‏.‏

وقال عمر لما قدم عليه بسيف كسرى ومنطقته وبزبرجده‏:‏ إن قومًا أدوا هذا لذوو أمانة‏.‏

فقال عليك إنك عففت فعفت الرعية‏.‏

فلما جمعت الغنائم قسم سعد الفيء بين الناس خمسة وكانوا ستين ألفًا فأصاب الفارس اثنا عشر ألفًا وكلهم كان فارسًا ليس فيهم راجل ونفل من الأخماس في أهل البلاء وقسم المنازل بين الناس وأحضر العيالات فأنزلهم الدور فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ثم تحولوا إلى الكوفة‏.‏

وأرسل سعد في الخمس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب ومن كان يعجبهم أن يقع وأراد إخراج خمس القطف فلم تعتدل قسمته وهو بهار كسرى فقال للمسلمين‏:‏ هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه ينبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل وهو يقع من أهل المدينة موقعًا فقالوا‏:‏ نعم‏.‏

فبعثه إلى عمر‏.‏

والقطف بساط واحد طوله ستون ذراعًا وعرضه ستون ذراعًا مقدار جريب كانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه فكأنهم في رياض فيه طرق كالصور وفيه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة وخلال ذلك فصوص كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع والورق من الحرير على قضبان الذهب وزهره الذهب والفضة وثمره الجوهر وأشباه ذلك وكانت العرب تسميه القطف‏.‏

فلما قدمت الأخماس على عمر نفل منها من غاب ومن شهد من أهل البلاء ثم قسم الخمس في مواضعه ثم قال‏:‏ أشيروا علي في هذا القطف فمن بين مشير بقبضه وآخر مفوض إليه‏.‏

فقال له علي‏:‏ لم يجعل الله علمك جهلًا ويقينك شكًا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت وإنك إن تبقه على هذا اليوم لم تعدم في غدٍ من يستحق به ما ليس له‏.‏

فقال‏:‏ صدقني ونصحتني فقطعه بينهم فأصاب عليًا قطعةٌ منه فباعها بعشرين ألفًا وما هي بأجود تلك القطع‏.‏

وكان الذي سار بالأخماس بشير بن الخصاصية والذي ذهب بالفتح حليس بن فلان الأسدي والذي ولي القبض عمرو والقسم سلمان وأثنى الناس على أهل القادسية فقال عمر‏:‏ أولئك أعيان العرب‏.‏

ولما رأى عمر سيف النعمان سأل جبير بن مطعم عن نسب النعمان فقال جبير‏:‏ كانت العرب تنسبه إلى الأشلاء أشلاء قنص وكان أحد بني عجم بن قنص فجهل الناس عجم فقالوا لخم فنلفه سيفه‏.‏

وولى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه وولى الخراج النعمان وسويدًا ابني مقرن سويدًا على ما سقت الفرات والنعمان على ما سقت دجلة ثم استعفيا فولى عملهما حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزني ثم ولى عملهما بعد حذيفة بن النعمان وعثمان ابن حنيف‏.‏

خذيفة بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين‏.‏  ‏  ‏‏
‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏ ‏