المجلد الثالث - ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة

وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة مِنْ سبّ معاوية إياه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح النقل به ولو صح لكان ينبغي أنْ يعتذر عن عثمان فإنّ للِإمام أنْ يؤدب رعيته وغير ذلك من الأعذار لا أنْ يجعل ذلك سبباً للطعن عليه - كرهتُ ذكرها .

وأما العاذرون فإنّهم قالوا : لما ورد ابن السوداء إلي الشام لقي أبا ذر فقال : يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول : " المال مالُ الله إلاً إن كلَ شيءٍ لله كأنه يريد أنْ يحتجنه دون الناس وبمحو اسم المسلمين . فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلي أنْ تسمي مال المسلمين مال الله الساعة؟ قال : يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله ، والمال ماله [ والخلق خلقه ، والأمر أمره ]! قال : فلا تقله . قال : سأقول مال المسلمين . وأتي ابنُ السوداء أبا الدرداء فقال له مثل ذلك فقال [ له من أنت ؟ ] أظنك والله يهودياً فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به عُبَادة، وأتى به معاوية فقال : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر .

وكان أبو ذر يذهب إلى أنّ المسلم لا ينبغي له أنْ يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيءٌ ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم ويأخذ بظاهر القرآن " الذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ والفِضّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيْلِ الله فَبَشَرهم بِعَذَابٍ ألِيم " [التوبة : 34 ] فكان يقوم بالشام ويقول : " يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء بشًر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوي بها جباهُهُم وجُنُوبهم وظهورهم " . فما زال حتى وَلعَ الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم ، فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جَنََح الليل فأنفقها ، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال : اذهب إلى أبي ذر فقل له : " انقِذْ جسدي من عذاب معاوية فإنه أرسلني إلى غيرك ، وإنّي أخطأتُ بك " ففعل ذلك فقال له أبو ذر : يا بني قُلْ له : والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنَا ثلاثة أيام حتي نجمَعَهَا .

فلما رأى معاوية أنّ فعله يصدِّق قوله كتب إلى عثمان أنّ أبا ذر قد ضيّق عليّ ، وقد كان كذا كذا - للذي يقوله الفقراء، فكتب إليه عثمان أنّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلا أنْ تَثِب ، فلا تنكأ القرح ، وجَهَّز أبا ذر إلي وأبعث معه دليلاً ، [وزوده ، وأرفق به ] ، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت . وبعث إليه بابني ذر فلما قدم المدينة ورأي المجالس في أصل جبل سلع قال : بشر أهل المدينة بغارةٍ شعواء وحرب مذكار .

ودخل على عثمان فقال له : ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك ؟ فأخبره فقال : يا أبا ذر علي أنْ أقضي ما علي وأنْ ادعو الرعية إلى الأجتهاد والاقتصاد وما عليّ أن أجبرهم على الزهد فقال أبو ذر: لا ترضوا من الأغنياء حتي يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ، وَيصِلوا القرابات . فقال كعب الأحبار وكان حاضراً : مَنْ أدي الفريضة فقد قضى ما عليه . فضربه أبو ذر فشجه ، وقال له : يا بن اليهودية ما أنت وما هنا ؟ فاستوهب عثمان كعباً شجته فوهبه ، فقال أبو ذر لعثمان : تأذن لي في الخروج من المدينة فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً .

فأذن له ، فنزل الربذة وبنى بها مسجداً ، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل ، وأعطاه مملوكَيْن ، وأجري عليه كل يوم عطاء، وكذلك على رافع بن خديج - وكان قد خرج أيضاً عن المدينة لشيءٍ سمعه . وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيا، وأخرج معاوية إليه أهله فخرجوا ومعهم جراب مثقل يد الرجل فقال : انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده ؟ فقالت امرأته : والله ما هو دينار ولا درهم ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا . ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة فقال : تقدم يا أبا ذر فقال : لا تقدم أنت فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي : أسمع وأطع وإنْ كان عليك عبدٌ مجدع فأنت عبدٌ ولستَ بأجدع . وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء

وفيها مات حَاطِب بن أبي بَلْتَعَة اللخمي وهو من أهل بدر (حاطب) بالحاء المهملة (وبلتعة) بالباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة . وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري وكان بدرياً . وفيها مات مسعود بن الربيع ، وقيل : ابن ربيعة بن عمرو القاري من القارة . أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وشهد بدراً وكان عمره قد جاوز الستين . وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري شهد بدراً وكان على غنائم النبي صلى الله عليه وسلم فيها وفي غيرها. وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدرياً .

وجبار بن صخر وهو بدري أيضاً ( جبار ) بالجيم وآخره راء .

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين

ذكر غزوة الصواري

قيل : وفي هذه السنة كانت غزوة الصواري ، وقيل : كانت سنة أربع وثلاثين ، وقيل : في سنة إحدي وثلاثين كانت غزوة الأساورة، وقيل : كانتا معاً سنة إحدى وثلاثين .

وكان على المسلمين معاوية، وكان قد جُمِعَ الشامُ له أيام عثمان ، وسبب جمعه له أنّ أبا عبيدة بن الجراحٍ لما حضر استخلف على عمله عياض بن غنم وكان خاله وابن عمه وكان جواداً مشهورا، وقيل : استخلف معاذ بن جبل على ما تقدم فمات عياض واستخلف عمر بعده سعيد بن حذيف الجمحي ، ومات سعيد [ بعد ] وأمّر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري ، ومات عمر وعمير على حمص ، وقنسرين ، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه أخاه معاوية أ ونعاه لابي سفيان فقال : -مَنْ جعلت على عمله يا أمير المؤمنين ؟ فقال : معاوية فقال : وصلتك رحم ] .

فاجتمعت لمعاوية الأردن ، ودمشق ، ومرض عمير بن سعد فاستعفى عثمان وأستأذنه في الرجوع إلى أهله فأذِن له ، وضم عثمان حمص وقنسرين إلى معاوية، ومات عبد الرحمن بن علقمة- وكان على فلسطين - فضم عثمان عمله إلى معاوية فاجتمع الشام لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان ، فهذا كان سبب اجتماع الشام له.

وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم خرج قسطنطين بن هرقل في جمعٍ له لم تجمع الروم مثله مُذ كان الإسلام فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة ، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان ، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكانت الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم فأرسى المسلمون والروم وسكنت الريح ، فقال المسلمون : الأمان بينتا  .

فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرأون القرآن ويصلون ويدعون ، والروم يضربون بالنواقيس وقرّبوا من الند سفنهم وقرب المسلمون سفنهم فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر وقتل من المسلمين بشرٌ كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى ، وصبروا يومئذ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله ، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم قسطنطين جريحاً ولم ينج من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع ثم فكان أول ما تكلم به محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي .بكر في أمر عثمان في هذه الغزوة وأظهرا عيبه وما غير وما خالف به أبا بكر، وعمر، ويقولان : أستعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح دمه ، ونزل القرآن بكفرِهِ ؟ وأخرج رسول الله لنَن قوماً أدخلهم ، ونزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعمل سعيد بن العاص ، وابن عامر.

فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال : لا تركبا معنا فركبا في مركب ما معهما إلا القبط فلقوا العدو فكانا أقل المسلمين نكاية وقتالاً فقيل لهما في ذلك فقالا: كيف نقاتل مع عبد الله بن سعد؟ استعمله عثمان وعثمان فعل كذا وكذا فأرسل إليهما عبد الله ينهاهما ويتهددهما ففسد الناس بقولهما، وتكلموا ما لم يكونوا ينطقون به .

وأما قسطنطين فإنّه سار في مركبه إلى صِقِلَيّة فسأله أهلها عن حاله فأخبرهم فقالوا : أهلكتَ النصرانية وأفنيتَ رجالها لو أتانا العرب لم يكن عندنا مَنْ يمنعهم ، ثم أدخلوه الحمام وقتلوه وتركوا من كان معه في المركب ، وأذنوا لهم في المسير إلى القسطنطينية .
وقيل : في هذه السنة فتحت أرمينية على يد حبيب بن مسلمة وقد تقدم ذكر ذلك .

ذكر مقتل يزدجرد بن شهريار

في هذه السنة هرب يزدجرد من فارس إلى خُرَاسَان في قولِ بعضهم ، وقد تقدم الخلاف فيه ، وكان ابن عامر قد خرج من البصرة حينَ ولِيَهَا إلى فارس فافتتحها وهرب

يزدجرد من جور وهي أردشير خره في سنة ثلاثين فوجّه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود، وقيل : هرم بن حيان العبدي ، وقيل : هرم بن حيان اليشكري فاتبعه إلى كرمان فهرب يزدجرد إلى خراسان وأصاب مجاشع بن مسعود ومن معه الثلج والدمق واشتد البرد وكان الثلج قيد رمح فهلك الجند وسلم مجاشع ورجل معه جارية فشق بطن بعير فادخلها فيه وهرب فلما كان الغد جاء فوجدها حية فحملها فسمى ذلك القصر" قصر مجاشع لأن جيشه هلكوا فيه وهو على خمسة فراسخ أو ستة من السيرجان من أعمال كرمان هذا على قول من يقول إن هرب يزدجرد من فارس كان هذه السنة .

وأما سبب قتله على ما تقدم ذِكْرُه من فتح فارس ، وخراسان فقد اختلف الناسُ في سبب قتله فقيل : إنه هرب من كرمان في جماعة [يسيرة ] إلى مرو ومعه خرزاد أخو رستم فرجع عنه إلى العراق ووصى به ما هويه مرزبان مرو فسأله يزدجرد مالاً فمنعه ، فخافه أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه ، فأتوه فبيّتوه فقتلوا أصحابه ، فهرب يزدجرد ماشياً إلى شطّ المرغاب فأوي إلي بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله .

وقيل : بل بيّته أهل مرو ولم يستنصروا بالترك فقتلوا أصحابه وهرب منهم فقتله النقار، وتبعوا أثره إلى بيت الذي ينقر الأرحاء فأخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله ، وكان يزدجرد قد وطىء امرأةً بها فولدتْ له غلاماً ذاهب الشق ولدته بعد قتله فسمي "المخدّج" ، فولد له أولاد بخراسان ، فوجد قتيبة بن مسلم حين افتتح الصعد . وغيرها جاريتين من ولد المخدج فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك ، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص .

وأخرج يزدجرد من النهر وجُعل في تابوت وحمل إلى إصطخر فوضع في ناووس هناك .

وقيل : إنّ يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان وبها رجل يقال له : مطياز كان قد أصاب من العرب شيئاً يسيراً فصار له بها محل كبير فأتى مطيار يزدجرد.

ذات يوم [ زائراً ] فحجبه بوابه ليستأذن له فضربه وشَجًه [أنفةً وحميةً لحجبه إياه] فدخل البواب على يزدجرد مُدمى [ فلما نظر إليه أفظعه ذلك ] فرحل عن أصبهان من ساعته فأتى الري ، فخرج إليه صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده ، وأخبره بحصانتها [ وقال له : إنْ أنت لم تُجِبْني يومك هذا ثم أتيتني بعد ذلك فلم أقبلك ولم أراك ] . فلم يجبه .

وقيل : مض من فوره ذلك إِلى سجستان ، ثم سار إلى مَرْو في ألف فارس ، وقيل : بل قصد فارس فأقام بها أربع سنين ، ثم أتى كرمان فأقام بها سنتين أو ثلاثاً فطلب إليه دهقانه شيئاً فلم يجبه فجره برجله وطرده عن بلاده ، فسار إلى سجستان فأقام بها نحواً من خمس سنين ، ثم عزم على قصد خراسان ليجمع الجموع ويسير بهم إلى العرب فسار إِلى مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين ومعه [ في رؤسائهم ] فرخزاد ، فلما قدِمَ مَرْو كاتب ملوك الصين وملك فرغانة ، وملك كابل ، وملك الخزر يستمدهم وكان الدهقان يومئذ بمرو ماهويه أبو براز فوكل ماهويه بمرو ابنه براز ليحفظهما ويمنع عنها يزدجرد خوفاً من مكره ، فركب يزدجرد يوماً وطاف بالمدينة وأراد دخولها من بعض أبوابها فمنعه براز، فصاح به أبوه ليفتح الباب فلم يفعل وأومأ إليه أبوه أنْ لا يفعل ففطن له رجلٌ من أصحاب يزدجرد فأعلمه بذلك وأستأذنه في قتله [ وقال : إنْ فعلتُ صفت لك الأمور بهذه الناحية ] فلم يأذن له . وقيل : أراد يزدجرد صرف الدهقنة عن ماهويه إِلى صنجان ابن أخيه فبلغ ذلك ماهويه فعمل في هلاك يزدجرد، فكتب إلى نيزك طرخان [ يخبره أن يزدجرد وقع إليه مفلولاً ] يدعوه إلى القدوم عليه ليتفقا على قتله ، ومصالحة العرب عليه وضمن له إنْ فعل أن يعطيه كل يوم ألف درهم. فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنّه يقدم عليه بنفسه إنْ أبعد عسكره وفرخزاد عنه فاستشار يزدجرد أصحابه فقال له سنجان : لست أرى أن تبعد عنك أصحابك وفرخزاد . وقال أبو براز: أرى أن تتألف نيزك وتجيبه إلى ما سأل . فقبل رأيه وفرق عنه جنده [ وأمر فرخزاد أنْ يأتي أجمة سرخس ] ، فصاح فرخزاد وشق جيبه أ وتناول عموداً بين يديه يريد ضرب أبي براز به وقال : يا قتلة الملوك قتلتم ملكَيْن ] . وقال : أظنكم قاتلي هذا .

ولم يبرح فرخزاد حتى كتب له يزدجرد بخط يده أنه امن وأنه قد أسلم يزدجرد وأهله وما معه إلى ماهويه وأشهد بذلك .

وأقبل نيزك فلقيه يزدجرد بالمزامير والملاهي أشار عليه بذلك أبو براز فلما لقيه تأخر عنه أبو براز فاستقبله نيزك ماشياً [ ويزدجرد على فرس له ] فأمر له يزدجرد بجنيبة من جنائبه فركبها، فلما توسط عسكره تواقفا فقال له نيزك . فيما يقول : زوّجنِي إحدي بناتك حتى أناصحك في قتال عدوك .

فسبّه يزدجرد فضربه نيزك بمقرعته وصاح يزدجرد [ غَدَرَ الغادر ] ، وركض منهزماً ، وقتل أصحاب نيزك أصحاب يزدجرد وانتهى يزدجرد [ من هزيمته إلي مكان من نواحي مرو فنزل عن فرسه ودخل ] إلي بيت طحان فمكث فيه ثلاثة أيام لم يأكل طعاماً . فقال له الطحان : أخرج أيها الشقي فكُل طعاماً فقد جُعت .

فقال : لستُ أصل إِلى ذلك إلا بزمزمة .

وكان عند الطحان رجل يزمزم فكلّمه الطحان في ذلك ففعل وزمزم له فأكل ، فلما رجع المزمزم سمع بذكر يزدجرد فسأل عن حليته فوصفوه له ، فاخبرهم به وبحليته ، فأرسل إليه أبو براز رجلاً من الأساورة وأمره بخنقه وإلقائه في النهر، وأتي الطحان فضربه ليدلّه عليه فلم يفعل وجَحَده ، فلما أراد الانصراف عنه قال له بعض أصحابه : إني لأجد ريح مسك ، ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء فجذبه فإذا هو يزدجرد فسأله أنْ لا يقتله ولا يدل عليه وجعل له خاتمه ومنطقته وسواره فقال له : اعطني أربعة دراهم وأخلِّي عنك . فلم يكن معه وقال : إن خاتمي لا يحصى ثمنه فخُذْه فأبي عليه فقال له يزدجرد : قد كنتُ أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم [ وأضطرُّ إلى أنْ يكون أكلي أكل الهرّ ] ، فقد رأيتُ ذلك ، ثم نزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان ليستر عليه وأرادوا قتله فقال : ويحكم إنّا نجد في كتبنا أنّه من قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا، فلا تقتلوني واحملوني إلى الدهقان أو إلى العرب فإنهم يستبقون مثلي .

فأخذوا ما عليه [ من الحلى ]، وخنقوه بوتر القوس وألقوه في الماء . [ فجرى به الماء حتى انتهى إلى فوهة الرزيق فتعلّق بعود] فأخذه أسقف مرو وجعله في تابوت وسأل أبو براز عن أحد القرطين وأخذ الذي دلّ عليه فضربه حتى أتى على نفسه .

وقيل : بل ساَر يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إليها نحو مرو على الطبسين ، وقهستان في أربعة آلاف فلما قارب مرو لقيه قائدان يقال لأحدهما، براز وللآخر سنجان - وكانا متباغضين ، فسعى براز بسنجان حتى همّ يزدجرد بقتله وأفشى ذلك إلي آمرأةٍ من نسائه [ كان براز واطأها ] ففشا الحديث فجمع سنجان أصحابه وقصد قصر يزدجرد فهرب براز، وخاف يزدجرد فهرب أيضاً إلى رحى على فرسخين من مرو، فدخل بيت نقار الرحى فأطعمه الطحان فطلب منه شيئاً فأعطاه منطقته فقال : إنما يكفيني أربعة دراهم فلم يكن معه ثم نام يزدجرد فقتله الطحان بفأسٍ كان معه وأخذ ما عليه وألقى جيفته في الماء وشق بطنه وثقَّله ، وسمع بقتله مطران كان بمرو فجمع النصارى وقال : قتل ابن شهريار، وإنما شهريار بن شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها لإحسانها إِلى أهل ملتنا مع ما نال النصارى في مُلك جده أنوشروان من الشرف فينبغي أن نحزن لقتله ونبني له ناووساً فأجابوه إلى ذلك وبنوا له ناووساً وأخرجوا جثته وكفنوها ودفنوها في الناووس .

وكان ملكه عشرين سنة منها أربع سنين في دعة، وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إياه وغلظتهم عليه ، وكان آخر من ملك من آل أردشير بن بابك وصفا المُلك بعده للعرب .

ذكر مسير ابن عامر إلى خُرَاسَان وفتحها

لما قُتل عمر بن الخطاب نقض أهلُ خراسان وغدروا ، فلما افتتح ابن عامر فارس قام إليه حبيب بن أوس التميمي فقال له : أيها الأميران الأرض بين يديك ولم يفتح منها إلاّ القليل فسِر فإن الله ناصِرُك.

قال : أو لم نؤمر بالمسير. وكره أن يظهر أنه قَبِلَ رأيه .

وقيل : إن ابن عامر لما فتح فارس عاد إلى البصرة واستخلف على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي فبنى شريك مسجد إصطخر، فلما دخل البصرة أتاه الأحنف بن قيس - وقيل : غيره فقال له : إن عدوك منك هارب ، ولك هائب ، والبلاد واسعة فسِر فإن الله ناصِرُك ، ومعز دينه - فتجهّز وسار، واستخلف على البصرة زياداً ، وسار إلى كرمان فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي وله صحبة وأمره بمحاربة أهلها وكانوا

قد نكثوا أيضاً، واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحرثي وكانوا أيضاً قد غدروا ونقضوا الصلح ، وسار ابن عامر إلى نيسابور وجعل على مقدمتِهِ الأحنف بن قيس فأتي الطبسين وهما حصنان وهما بابا خراسان فصالحه أهلهما ، وسار إلى قهستان فلقيه أهلها وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم وقدم عليها ابن عامر فصالحه أهلها على ستمائة ألف درهم . وقيل : كان المتوجّه إلى قهستان أمَيْر بن أحمر اليشكري ، وهي بلاد بكر بن وائل ، وبعث ابن عامر سرية إلى رستاق زام من أعمال نيسابور ففتحه عنوة وفتح باخرز من أعمال نيسابور أيضاً، وفتح جُوَيْن من أعمال نيسابور أيضاً .

ووجه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عدي الرباب وكان ناسكاً إلى بَيْهَق من أعمالها أيضاً فقصَد قصبته ، ودخل حيطان البلد من ثَلمة كانت فيه ، ودخلت معه طائفة من المسلمين فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة فقاتل الأسود حتى قتل هو وطائفة ممن معه وقام بأمر الناس بعده أخوه أدهم بن كلثوم فظفر، وفتِح بيهق ، وكان الأسود يدعو الله أنْ يحشره من بطون السباع والطير فلم يواره أخوه ، ودَفنَ من استشهد من أصحابه ، وفتح ابن عامر بُشْت من نيسابور وهذه بثت بالشين المعجمة وليست ببُسْطَ التي بالسين المهملة تلك من بلاد الداون وهذه من خراسان من نيسابور.

وافتتح خَوَاف ، واسفراين ، وارغيان ، ثم قصد نيسابور بعدما استولي على أعمالها، وافتتحها فحصر أهلها أشهراً، وكان على كل ربع منها مرزبان للفرس يحفظه ، فطلب صاحب ربع من تلك الأرباع الأمان على أنْ يدخل المسلمين المدينة فأجيب إلى ذلك ، فأدخلهم ليلاً ففتحوا الباب وتحصن مرزبانها الأكبر في حصنها، ومعه جماعة وطلب الأمان ، والصلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم ، وولى نيسابور قيس بن الهيثم السلمي .

وستر جيشاً إلى نسا وأبِيْوَرْد فافتتحوها صلحاً، وسَير سرية أخرى إلى سَرْخَس مع عبد الله بن خازم السلمي فقاتلوا أهلها ثم طلبوا الأمان والصلح على أمان مائة رجل فأجيبوا إلي ذلك فصالحهم مرزبانها على ذلك ، وسمَّى مائة رجل ولم يذكر نفسه فقتله ودخل سرخس عَنوَة، وأتى مرزبان طوس إلى ابن عامر فصالحه عن طوس على ستمائة درهم ، وسيّر جيشاً إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم ، وقيل : غيره ، فبلغ مرزبان هراة ذلك فسار إلى ابن عامر فصالحه عن هراة ، وباذغيس ، وبوشنج .

وقيل : بل سار ابن عامر في الجيش إلى هراة فقاتله أهلها ثم صالحه مرزبانها على ألف ألف درهم ، ولما غلب ابن عامر على هذه البلاد أرسل إليه مرزبان مرو فصالحه على ألفي ألف ومائتي ألف درهم ، وقيل : غير ذلك .

وأرسل ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرزبانها وكانت مروُ كلها صلحاً إلاّ قرية منها يقال لها: " سِنْج " فإنها أخذت عَنْوَة وهي بكسر السين المهملة والنون الساكنة وآخرها جيم.

ووجه ابن عامر الأحنف بن قيس إلى طخارستان ، فمر برستاق يعرف برستاق الأحنف ويدعى سوانجرد فحصرها أهلها فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم ، فقال الأحنف : أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فُيَؤذنُ فيه ويقيم فيكم حتى ينصرف .

فرضوا بذلك ومضى الأحنف إلى مَرْو الروذ فقاتله أهلها فقتلهم ، وهزمهم ، وحصرهم ، وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف أنه دعاني !لى الصلح إسلام باذان ، فصالحه على ستمائة ألف وستر الأحنف سرية فاستولتْ على رِسْتَاق بغ وأستاقتْ منه مواشي ، ثم صالحوا أهله وجمع له أهل طخارستان ، فاجتمع أهلُ الجَوْزِجَان والطالقان ، والفارياب ، ومَنْ حولهم في خلق كثير فالتقوا ، واقتتلوا ، وحمل ملك الصغانيان علي الأحنف فانتزع الأحنف الرمح من يده وقاتل قِتَالاً شديداً فانهزم المشركون وقتلهم المسلمون قَتْلاً ذريعاً كيف شاؤوا ،وعاد إلى مرو الروذ، ولحق بعض العدو بالجوزجان ، فوجّه إليهم الأحنف الأقرع بن حابس التميمي في خيل وقال : يا بني تميم تحابُوا وتباذَلُوا تعدل أموركم ، وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم ، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم .

فسار الأقرع فلقي العدو بالجوزجان فكانتْ بالمسلمين جولة ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، فقال ابن الغريزة النهشلي :

سقى صوب السحاب إذا استهلت     مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوت          أقادهم هناك الأقرعان

وفتح الأحنف الطالقان صلحاً وفتح الفارياب ، وقيل : بل فتحها أمَيْر بن أحمر ثم سار الأحنف إلى بلخ وهي مدينة طخارستان فصالحه أهلها على أربعمائة ألف ، وقيل : سبعمائة ألف ، واستعمل على بَلْخ أسيد بن المتشمس ثم سار إلى خوارزم وهي على نهر جيحون فلم يقدر عليها فاستشار أصحابه فقال له حضين بن المنذر: قال عمرو بن معديكرب :

إذا لم تستطع أمراً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع، فعاد إلى بلخ وقد قبض أَسِيْد صلحها ووافق وهو يجيبهم المهرجان فأهدوا له هدايا كثيرة من دراهم ، ودنانير، ودواب ، وأواني ، وثياب ، وغير ذلك .

فقال لهم :.ما صالحناهم على هذا. فقالوا: لا ولكن هذا شيء نفعله في هذا اليوم بأمرائنا . فقال : ما أدري ما هذا ولعله من حقي ولكن أقبضه حتى أنظر.

فقبضه حتى قدم الأحنف فأخبره فسألهم عنه فقالوا ما قالوا لأسيد، فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه فقال : خذه يا أبا بحر.

قال : لا حاجة لي فيه .

فأخذه ابن عامر. قال الحسن البصري : فضمّه القرشي وكان مضماً، ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس : ما فتح لأحد ما فتح عليك فارس ، وكرمان ، وسجستان ، وخراسان .

فقال : لا جَرَم لأجعلنَّ شكري لله على ذلك أنْ أخرج مُحْرِماً مِنْ موقفي هذا .

فأحرم بعمرةٍ من نيسابور، وقدم على عثمان ، واستخلف على خراسان قيس بن [لهيثم فسار قيس بعد شخوصه في أرض طخارستان فلم يأت بلداً فنها إلا صالحه أهله وأذعنوا له حتى أتى سِمِنْجان فامتنعوا عليه فحصرهم حتى فتحها عنوة .

( أَسِيْد ) بفتح الهمزة وكسر السين ( حضين بن المنذر ) بالضاد المعجمة .

ذكر فتح كِرْمَان

لما سار ابن عامر عن كِرْمَان إلى خُرَاسَان وأستعمل مجاشع بن مسعود السلمي على كرمان على ما ذكرناه قبل أمره أنْ يفتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوة وأستبقى أهلها وأعطاهم أماناً، وبى بها قصراً يعرف بقصر مجاشع ، وأتى السيْرجان وهى مدينة كرمان فأقام عليها أياماً يسيرة وأهلها متحصنون فقاتلهم وفتحها عنوة فجلا كثيراً من أهلها وفتح جِيْرَفْت عنوة، وسار في كرمان فدّوخ أهلها وأتى القفص وقد تجمّع له خلقٌ كثير من الأعاجم الذين جَلُوا فقاتلهم فظفر بهم وظَهَرَ عليهم ، وهرب كثيرٌ من أهل كرمان فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران ، وبعضهم بسجستان فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها واحتفروا لها القنى في مواضع منها وأدوا العشر منها .

ذكر فتح سجستان ، وكابل وغيرهما

قد تقدم ذكر فتح سجستان أيام عمر بن الخطاب ، ثم إن أهلها نقضوا بعده فلما توجه ابن عامر إلى خراسان سيّر إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي فقطع المفازة حتى أتى حصن زالق فأغار على أهله يوم مهرجان وأخذ الدهقان فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهباً وفضة وصالحه على صلح فارس ، ثم أتى بلدة يقال لها : كركويه فصالحه أهلها وسار إلى زرنج فنزل على مدينة روشت بقرب زَرَنْج فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين ، ثم انهزم المشركون ، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها ، ثم أتى شرْواذ فغلب عليها ، وسار منها إلى زرنج فنازلها وقاتله أهلها فهزمهم وحصرهم فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه وأستأمنه على نفسه ليحضر عنده فأمنّه ، وجلس له الربيع على جسد من أجساد القتلى واتكأ على آخَر، وأمر أصحابه ففعلوا مثله . فلما رآهم المرزبان هاله ذلك فصالحه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب ، ودخل المسلمون المدينة ثم سار منها إلى سناروذ(2) وهي وادٍ فعبره ، وأتى القرية التي بها مربط فرس رستم الشديد فقاتله أهلها فظفر بهم ، ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة ، وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملاً فأخرج أهلها العامل وامتنعوا ، فكانت ولاية الربيع سنة ونصفاً .

وسبى فيها أربعين ألف رأس ، وكان كاتبه الحسن البصري ، فاستعمل ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان فسار إليها فحصر زرنج فصالحه مرزبانها على ألفي ألف درهم وألفي وصيف .

وغلب عبد الرحمن على ما بين زرنج والكَشّ من ناحية الهند. وغلب مِنْ ناحية الرُّخَّج على ما بينه وبين الداون فلما انتهى إلى بلد الداون حصرهم في جبل الزوز، ثم صالحهم ودخل على الزوز، وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان فقطع يده وأخذ الياقوتتين ، ثم قال للمرزبان : دونك الذهب ، والجوهر وإنما أردتُ أنْ أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع ، وفتح كابل ، وزَابُلِسْتان وهي ولاية غزنة ، ثم عاد إلى زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمرُ عثمان فاستخلف عليها أُمَيْر بن أحمر اليشكري وأنصرف فأخرج أهلها أُمَيْر بن أحمر وامتنعوا .

ولأُمَيْر يقول زياد بن الأعجم :

لولا أُمير هلكت يشكر         ويشكر هلكى على كل حال

ذكر عدة حوادث

وحج بالناس في هذه السنة عثمان

وفيها مات أبو الدرداء الأنصاري وهو بدري ، وقيل : سنة اثنتين وثلاثين .

وفيها مات أبو طلحة الأنصاري وهو بدري ، وقيل : سنة اثنتين وثلاثين . وقيل : سنة أحدى وخمسين . وفيها مات أبو أُسيد الساعدي، وقيل : مات سنة ستين ، وهو على هذا القول آخر مَنْ مات من البدريين .

( أُسيد ) بضم الهمزة .

وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم .

وأخوه الطفيل(4) .

وأبو سفيان بن حرب بن أمية وهو ابن ثمان وثمانين سنة .

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين

قيل : في هذه السنة غزا معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة وقيل : فاختة.‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏ ‏