المجلد الثالث - ذكر ظفر الترك ، وقتل عبد الرحمن بن ربيعة

في هذه السنة انتصرت الخزر، والترك على المسلمين .

وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا [ وتعايروا ] وقالوا : كنا [ أمة ] لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصِرْنا لا نقوم لها! قتال بعضهم : إن هؤلاء لا يموتون ، وما أصيب منهم أحد في غزوهم ، وقد كان المسلمون غزوهم قبل ذلك فلم يقتل منهم أحدٌ ، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون فقال بعضهم : أفلا تجربون ؟

فكمنوا لهم في الغياض فمر بالكمين نفر من الجند فرموهم منها فقتلوهم ، فتواعد رؤوسهم إلى حربهم ثم اتعدوا يوماً، وكان عثمان قد كتب إلي عبد الرحمن بن ربيعة وهو على الباب أن الرعية قد أبطرها البطنة فلا تقتحم بالمسلمين فإني اخشى أنْ يقتلوا.

فلم يُرجع [ذلك] عبد الرحمن عن مقصده فغزا نحو بلنجر وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً ، وقتل عبد الرحمن وكان يقال له " ذو النور" وهو اسم سيفه ، فأخذ أهل بلنجر جسده وجعلوه في تابوت فهم يستسقون به [ ويستنصرون به ]، فلما قتل أنهزم الناس وافترقوا فرقتين : فرقة نحو الباب فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن كان قد سيَّره سعيد بن العاص مدداً للمسلمين بأمر عثمان ، فلما لقوه نجوا معه وفرقة نحو جيلان ، وجرجان فيهم سلمان الفارسي ، وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي ، وعلقمة بن قيس ، ومعضد الشيباني ، وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وعمرو بن عتبة، وخالد بن ربيعة، والحلحال بن درى، والقرثع في خباء فكانوا متجاورين في ذلك العسكر وكان القرثع يقول : ما أحسن لمع الدماء على الثياب .

وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه : ما أحسن حُمَرة الدماء على بياضك.

ورأى يزيد بن معاوية أنّ غزالاً جِيْءَ به [ إلى خبائه ] لم ير أحسن منه فلف في ملحفة ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه عليه ثلاثة نفر قعود، فلما استيقظ واقتتل الناس رمى بحجر فهشم رأسه فمات فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ فدفن في قبرٍ على الصورة التى رأى .

وقال معضد لعلقمة : أعِرني بردك أعصب به رأسي . ففعل فأتى برج بلنجر الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم وأتاه حجر عرادة ففضخ هامته فأخذه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله فلا يخرج أثَر الدم منه وكان يشهد فيه الجمعة ويقول : يحملني على هذا أن دم معضد فيه .

وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قباءة كما اشتهى ثم قتل .

وأما القرثع فإنّه قاتل حتى خرق بالحراب [ وما زال الناس ثبوتاً حتى أصيب ، وكانت هزيمة الناس مع مقتله ] فبلغ الخبر بذلك عثمان فقال: إنا لله [ وإنّا إليه راجعون ] . أتنكث أهل الكوفة! اللهم تُبْ عليهم واقبل بهم .

وكان عثمان قد كتب إلي سعيد بن العاص أنْ ينفذ سلمان إلي الباب للغزو فستره

فلقى المهزومين على ما تقدم فنجاهم الله به ، فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سعيد سلمان بن ربيعة على الباب ، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدهم عثمان [ في سنة عشر ] بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة فتأمَر عليهم سلمان وأبو حبيب حتى قال أهل الشام ؛ لقد هممنا بضرب سلمان .

فقال الكوفيون : إذن والله نضرب حبيباً ونحبسه وإنْ أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم . وقال أوس بن مغراء في ذلك :

إنْ تضربوا سلمان نضرب حبيبكم      وإنْ ترحلوا نحو ابن عفان نرحل

وأن تقسطوا فالتغر ثغر أميرنا         وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاةُ الأمر كنا حماته             ليالي نرمي كل ثغر ونعكل

وأراد حبيب أنْ يتأمّر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة فكان ذلك أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة والشام .

وغزا حذيفة ثلاث غزوات فقُتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان ، فقال حذيفة بن اليَمَان : اللهم ألعن قَتَلَته وشُتامَه اللهم إنّا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة، اللهم لا تُمِتْهُم إلا بالسيوف .

ذكر وفاة أبي ذر

وفيها مات أبو ذر وكان قد قال لابنته : استشرفى يا بنية هل ترين أحداً؟

قالت : لا. قال : فما جاءت ساعتي بعد.

ثم أمرها فذبحتْ شاة ثم طبختها ثم قال : إذا جاءك الذين يدفنوفي فإنّه سيشهدني قومٌ صالحون فقولي لهم : يُقسم عليكم أبو ذر أنْ لا تركبوا حتى تأكلوا .

فلما نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحد؟ قالت : نعم هؤلاء ركب [ مقبلون ]. قال : استقبلي بي الكعبة . ففعلت فقال : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم مات فخرجْت ابنته فتلقتهم وقالت : رحمكم الله أشهدوا أبا ذر. قالوا :

وأين هو؟ فأشارت إليه . قالوا: نعم ونعمة عين لقد أكرمنا الله بذلك . وكان فيهم ابن مسعود فبكى وقال : صدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "يموت وحده ويبعث وحده ".

فغسلوه وكفّنوه ، وصلوا عليه ، ودفنوه ، وقالت لهم ابنته : إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام ، وأقسم عليكم أنْ لا تركبوا حتى تأكلوا .

ففعلوا، وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة، ونعوه إلى عثمان ، فضمّ ابنته إلى عياله وقال : يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة .

ولما حضروا شموا من الخباء ريح مسك فسألوها عنه فقالت : إنه لما حُضِرَ قال : إنّ الميت يحضره شهود يجدون الريح لا يأكلون فدوفي لهم مِسْكاً بماء ورش به الخباء ، وكان النفر الذين شهدوه : ابن مسعود، وأبا مفرز، وبكر بن عبد الله التميميين ، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس ، ومالك الأشتر النخعيين ، والحلحال الضبي ، والحارث بن سويد التميمي ، وعمرو بن عتبة السلمي ، وابن ربيعة السلمي ، وأبا رافع المزني ، وسويد بن شعبة التميمي ، ويزيد بن معاوية النخعي وأخا القرثع الضبي ، وأخا معضد الشيباني .

وقيل : كان موته سنة إحدى وثلاثين ، وقيل : إنّ ابن مسعود لم يحمل أهل أبي ذر معه إنما تركهم حتي قدِم على عثمان بمكة فأعلمه بموته فجعل عثمان طريقه عليهم فحملهم معه .

ذكر خروج قارن

ثم جمع قارن جمعاً كثيراً من ناحية الطبسين ، وأهل باذغيس ، وهراة ، وقهستان ، وأقبل في أربعين ألفاً فقال قيس لابن خازم : ما ترى؟
قال : أري أنْ تخلي البلاد فإنّي أميرها ومعي عهد من ابق عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتاباً كان قد افتعله عمداً فكره قيس منازعته وخلاه والبلاد، وأقبل إلى ابن عامر فلامه ابن عامر وقال : قد تركت البلاد خراباً وأقبلت . قال : جاءني بعهد منك . قال : فصار ابن خازم إِلي قارن في أربعة آلاف وأمر الناس فحملوا الودك ، فلما قرب من قارن أمر الناس أن يدرج كل رجل منهم على زج رمحه خرقة أو قطناً ثم يكثروا دهنه ، ثم سار حتى أمسى فقدم مقدمته ستمائة، ثم أتبعهم وأمر الناس فأشعلوا النيران في أطراف الرماح فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف اللِيل فناوشوهم وهاج الناس على دهش وكانوا آمنين من البيات .

ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة ويسرة تتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع [ ولا يرون أحداً ] فهالهم ذلك ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم ، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين فقتل قارن فانهزم المشركون واتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤوا ، وأصابوا سبياً كثيراً ، وكتب  ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقرّه على خراسان فلبث عليها حتى انقضى ؟ أمر الجمل وأقبل إلى البصرة فشهد وقعة ابن الحضرمي وكان معه في دار سنبيل وقيل : لما جمع قارن استشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم فيما يصنع فقال : أري أنّك لا تطيق كثرة مَنْ قد أتانا فأخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة العدر، ونقيم نحن في الحصون ، ونطاولهم [ حتى تقدم ] ، ويأتينا مددكم .

فخرج قيس فلما أمعن أظهر ابن خازم عهداً وقال : قد وَلاني ابن عامر خراسان وسار إلى قارن فظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان ولم يزك أهل البصرة يغزون مَنْ لم يكن صالح من أهل خراسان فإذا عادوا تركوا أربعة آلاف نجدة .

ذكر عدة حوادث

وفي هذه السنة مات العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره يوم مات ثمانياً وثمانين سنة، كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين .

وفيها مات عبد الرحمن بن عوف وعمره خمس وسبعون سنة.

وعبد الله بن مسعود وصلى عليه عمار بن ياسر وقيل عثمان ، وتوفي عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى الآذان .

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

في هذه السنة كانت غزوة معاوية حصن المرأة مِنْ أرض الروم بناحية ملطية .

وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد أفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد. وفيها كان مسير الأحنف إلي خراسان وفتح المَرْوَيْن ومسير ابن عامر إلى نيسابور وفتحها في قول بعضهم ، وقد تقدم ذكر ذلك . وفيها كانت غزوة قبرس في قول بعضهم ، وقد تقدم ذكرها مستوفي ، وقيل إنّ فتحها كان سنة ثمان وعشرين ، فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعان أهلها. الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين ففتحها عنوة فقتل وسبى، ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليهم اثني عشر ألفاً فبنوا المساجد وبنى مدينة .

وقيل : كانت غزوته الثانية سنة خمس وثلاثين .

ذكر تسيير مَنْ سُيّر من أهل الكوفة إلى الشام

وفي هذه السنة سيّر عثمان نفراً من أهل الكوفة إلي الشام ، وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لَمّا ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر أمره أنْ يسيّر الوليد إليه ، فقدم سعيد الكوفة وسيَر الوليد وغسل المنبر فنهاه رجالٌ من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك فلم يُجِبْهُم ، واختار،سعيد وجوه الناس ، وأهل القادسية، وقُرّاء أهل الكوفة فكان هؤلاء دخلته داخلاً ، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه ، فدخلوا عليه يوماً فبيناهم يتحدّثون قال حبيش بن فلان الأسدي : ما أجود طلحة بن عبيد الله .

فقال سعيد : "إن فَن له مثل النشاستج لحقيق أنْ يكون جواداً ، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رَغَداً" . فقال عبد الرحمن بن حبيش وهو حَدَث : والله لوددتُ أن هذا الملطاط لك - يعني سعيد - وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة . فقالوا: فَضّ الله فاك ، والله لقد هَمَمْنَا بك . فقال أبوه : غلامٌ فلا تجازوه . فقالوا : يتمنى له سوادنا ! قال : ويتمنى لكم أضعافه .

فثار به الأشتر، وجندب ، وابن ذي الحنكة ، وصعصعة ، وابن الكواء ، وكميل ، وعمير بن ضابىء ،فأخذوه فثار أبوه ليمنع عنه فضربوهما حتى غُشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتي قضوا منهما وَطَراً، فسمعتْ بذلك بنو أسد فجاؤوا وفيهم طليحة فأحاطوا بالقصر، وركبتْ القبائلُ فعاذوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال : أيها الناس قومٌ تنازعوا وقد رزق الله العافية . فردّهم .

فتراجعوا ، وأفاق الرجلان فقالا : قاتلنا غاشيتك .

فقال : " لا يغشوني أبداً ، فكُفا ألسنتكما ولا تُحَزِّبَا الناس " . ففعلا، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان .

وقيل : بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوهُ أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبىِ ، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس النخعيان ، ومالك الأشتر، وغيرهم فقال سعيد : "إنما هذا السواد بستان قريش " . فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستانُ لك ولقومك ؟ .

وتكلّم القوم معه فقال عبد الرحمن الأسدي وكان علي شُرْطَة سعيد : أتردُّون على الأمير مقالته ! وأغلَظَ لهم ؟

فقال الأشتر: مِنْ ها هنا لا يفوتنكم الرجل .

فوثبوا عليه فوطأوه وَطْأ شديداً حتى غشي عليه ، ثم جروا برجله فنضج بماء فأفاق فقال : قتلني مَنْ انتخبت .

فقال : والله لا يسمر عندي أحدٌ أبداً .

فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان ، وسعيداً، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا فكتب بمعيد وأشراف أهل الكوفة إلي عثمان في إخراجهم ، فكتب إليهم أنْ يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية : إنّ نفراً قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم ، فإنْ آنستَ منهم رُشْداً فاقبل وإنْ أعيوك فاردُدْهَم عليّ .

فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان وكان يتغذى ويتعشى معهم فقال لهم يوماً: إنكم قومٌ من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم ، وحويتم مواريثهم ، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً ولو لم تكن قريش كنتم أذلة، إنّ أثمتكم لكم جُنَة فلا تفترقوا عن جُنَتِكم ، وإنّ أئمتكم يصبرون لكم علي الجور ويحتملون منكم المؤنة ، والله لتنتهُنّ أو ليبتلينّكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم علي الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم .

فقال رجل منهم وهو صعصعة : أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت مِن الجنة فإنّ الجُنّة إذا اختُرِقَتْ خُلِصَ إلينا. فقال معاوية :" عرفتكم الآن وعلمتُ أنّ الذي أغراكم على هذا قلة العقول ، وأنت خطيبهم ولا أري لك عقلاً . اعَظُمَ عليك أمرُ الإسلام [ وأذكّرك به ] وتذكرني بالجاهلية ! أخزي الله قوماً عَظَّموا أمركم ، افقهوا عني ولا أظنّكم تفقهون : إنّ قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم ، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً ، وأمحضهم أنساباً ، وأكملهم مروءة ، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً إلا بالله فبوّأهم حَرَماً آمناً يُتخطف الناس مِنْ حولهم ، هل تعرفون عربياً ، أو عجمياً ، أو أسؤ، أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحُرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يُرِدْهم أحد من الناس بكيد إلاّ جعلَ الله خَذه الأسفل ، حتى أراد الله أنْ يستنقذ مَنْ أكرم واتبع دينه مِنْ هوان الدنيا وسؤ مراد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه ثم أرتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا عليهم ، فكان الله يحوطهم في الجاهلية، وهم على كفرهم افتراءً لا يحوطهمٍ وهم على دينه أف لك ولأصحابك ، أمّا أنت يا صعصعة فإنّ قريتك شر القُرَي أنتنها بيتا وأعمقها وادياً وأعرفها بالشر وألأمها جيراناً ، لم يسكنها شريف قط ، ولا وضيعٌ إلأ سبّ بها ثم كانوا ألأم العرب ألقاباً وأصهاراً نزاع الأمم ، وأنتم جيران الخط ، وفعلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنت شر قومك ، حتى إذا أبرزك الإسلام ، وخلطك بالناس أقبلتَ تبغي دين الله عَوَجاً ، وتنزع إلي الذلة، ولا يضر ذلك قريشاً ولا يضعهم وإن يمنعهم من تأدية ما عليهم ، إن لشيطان عنكم غير غافل ، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس وهو صارعكم ولا تدركون بالشر أمراً أبداً إلاّ فتح الله عليكم شراً منه وأخزى " .

ثم قام وتركهم ، فتقاصرتْ إليهم أنفسهم ، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال : إنى قد أذنتُ لكم فاذهبوا حيثُ شئتُم ، لا ينفع الله بكم أحداً أبداً، ولا يضره ، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة، فإنْ أردتم النجاة فألزموا جماعتكم ، ولا يبطرنكم الأنعام فان البطر لا يعتري الخيار، أذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم .

فلما خرجوا دعاهم وقال لهم : إنّي مُعِيْذ عليكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوماً فولاني وأدخلني في أمره ، ثم استُخلف أبو بكر فولاني ، ثم استُخلف عمر فولاني ، ثم استخلف عثمان فولاني ، ولم يولني أحدٌ إلاّ وهو عني راض ، وإنّما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغناء، وإن الله ذو سطوات ونقمات ، يمكر بمن مكر به ، فلا تعرضوا الأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تُظهِرُون ، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم .

وكتب معاوية إلي عثمان : ا إنّه قَدِم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان ، أضجرهم العدل ، لا يريدون الله :شيء ، ولا يتكلمون بحجة ، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ، ثم فاضحيم ومخزيهم ، وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم فانْهَ سعيداً ومَنْ عنده عنهم فإنهم ليسوا لأكثر مِنْ شغب ونكير" .

فخرجوا من دمشق فقالوا: لا ترجعوا بنا إلي الكوفة فإنهم يشتمون بنا، ولكن ميلوا إلي الجزيرة فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- وكان على حمص - فدعاهم فقال : " يا آلة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد س جع الشيطان محسوراً وأنتم بعد نِشاط ! خَسر الله عبد الرحمن إنْ لم يؤدبكم يا معشر مَنْ لا أدري أعربٌ هم أم عَجَم ، لا تقولوا لي ما بلغني أنّكم قلتم لمعاوية ، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن مَنْ قد عجمته العاجمات ، أنا ابن فاقىء الردة، والله لئن بلغني يا صعصعة أنّ أحداً ممن معي دقّ أنفك ثم غمصك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوَى " .

فأقامهم شهراً كلما ركب أمشاهم فإذا مر به صعصعة قال : " يا بن الخطيئة أعلمتَ أن مَنْ لم يُصلحه الخير أصلحه الشر؟ مالك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية " ؟ فيقولون : نتوب إلى الله أقِلْنَا أقالك الله . فما زالوا به حتى قال : " تاب الله عليكم ". وسرّح الأشتر إلى عثمان فقَدِم إليه تائباً فقال له عثمان : احلل حيث شئت .

فقال : مع عبد الرحمن بن خالد . فقال : ذلك إليك . فرجع إليه . قيل : وقد روى أيضاً نحو ما تقدم وزادوا فيه أنّ معاوية لما عاد إليهم مِن القَابلة وذنهَرهم كان مما قال لهم : " وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأتُ فيه بنفسي وأهل بيتي ، وقد عَرَفْت قريشٌ أنّ أبا سفيان كان أكرمها، وابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنّه انتخبه وأكرمه ، وإنّي لأظنُّ أنّ أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً " .

فقال صعصعة : قد كذبتَ قد ولدهم خيرٌ من أبي سفيان مَنْ خلقه الله بيده ، ونفخ فيه مِن رُوحه ، وأمر الملائكةَ فسجدوا له ، وكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكَيِّس " .

فخرج تلك الليلة مِنْ عندهم ثم آتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثَم قال : " أيها القوم ردوا خيراً أو اسكتوا ، وتفكروا ، وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه " .

فقال صعصعة : لستَ بأهلِ ذلك ولا كرامة لك أنْ تطاع في معصية الله . فقال :أليس أوّل ما ابتدأتكم به أنْ أمرتكم بتقوي الله وطاعة نبيه ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرتَ بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني آمركم الآن إنْ كنتَ فعلتُ فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولزوم الجماعة، وأنْ توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه . فقال صعصعة : فإنَا نأمرك أنْ تعتزل عملك فإنّ في المسلمين مَنْ هو أحق به منك : مَنْ كان أبوه أحسن قدماً في الإسلام مِنْ أبيك وهو أحسن في الإسلام قدماً منك . فقال : والله إنّ لي في الإسلام قدماً ولغيري كان أحسن قدماً منّي ، ولكنه ليعبر في زماني أحدٌ أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأي ذلك عمر بن الخطاب فلو كان غيري أقوي مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري ولم أحدث من الحدث ما ينبني لي أنْ اعتزل عملي ، ولو رأي ذلك أمير المؤمنين لكتب إليّ فاعتزلتُ عمله. فمهلاً فإنّ في ذلك وأشباهه ما يتمش الشيطانُ ويأمر، ولعمري لو كانت الأمورُ تُقْضَى على رأيكم وأمانتكُم ما استقامت لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة ، فعاوِدوا الخير وقولوه ، وإنّ لله لسطوات ، وإنّي لخائفٌ عليكم أنْ تتابعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل .

فوثبوا عليه وأخذوا رأسه ولحيته .

فقال : مه إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأي أهلُ الشام ما صنعتم بي ما ملكتُ أنْ انهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً .

ثم قام من عندهم ، وكتب إلي عثمان نحو الكتاب المتقدم ، فكتب إليه عثمان يأمره أنْ يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم فأطلقوا ألسنتهم ، فضجّ سعيد منهم إلى عثمان ، فكتب إليه عثمان أنْ يُسَيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص فسيّرهم إليها فأنزلهم عبد الرحمن وأجري عليهم رِزْقاً، وكانوا : الأشتر، وثابت بن قيس الهمداني ، وكميل بن زياد، وزيد بن صوحان ، وأخاه صعصعة ، وجُنْدب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعُروة بن الجَعْد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وابن الكواء .

قيل : سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه فقال : أنْت بعيدُ الثري ، كثيرُ المرعي ، طيب البديهة ، بعيد الغوري ، الغالب عليك الحلم ، ركنٌ من أركان الإسلام ، سُدتْ بك فُرجة مخوفة.

قال : فأخبرني عن أهل الأحداث مِنْ الأمصار فإنك أعقل أصحابك . قال : أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه ، وأما أهل الكوفة فإنهم يَرِدُون جميعاً ويصدُرون شتى ، وأما أهل مِصْر فهم أوفى الناس بِشَر وأسرعهم ندامة ، وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم . ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏ ‏