المجلد الثالث - ذكر تفريق علي عماله وخلاف معاوية

وفي هذه السنة فرّق عليّ عماله على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة وكان له هجرة، وعبيد الله بن عباس على، اليمن ، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام .

فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقالوا : مَنْ أنت ؟ قال : أمير.

قالوا: على أي شيء ؟ قال : على الشام . قالوا: إنْ كان بعثك عثمان فحيهلاً بك ، وإنْ كان بعثك غيره فارجع . قال : أو ما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى . فرجع إلى علي.

وأما قيس بن سعد فإنّه لما انتهى إلى أيْلَة لقيته خيلٌ فقالوا له : من أنت ؟

قال : مِنْ فالَة عثمان فأنا أطلب مَنْ آوي إليه فأنتصر به لله . قالوا: من أنت ؟ قال : قيس بن سعد. قالوا: امض .

فمضى حتى دخِل مصر فافترَق أهلُ مصر فِرَقاً فِرْقة دخلت في الجماعة فكانوا معه ، وفِرْقة اعتزلتْ بخرنَبَا  وقالوا : إنْ قُتِلَ قَتَلَةَ عثمان فنحن معكم وإلاّ فنحن على جديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا. وفرقة قالوا: نحن مع عليّ ما لم يُقِدْ من إخواننا وهم في ذلك مع الجماعة . وكتب قيس إلي عليّ بذلك .

وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يردّه أحدٌ عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر في ذلك رأياً ولا استقلالاً بحرب ، وافترق الناس بها فاتبعت فرقةٌ القومَ ، ودخلت فرقةٌ  في الجماعة، وقالتْ فِرْقَة: ننظر ما يصنع أهلُ المدينة فنصنع كما صنعوا . وأما عُمارة بن شهاب فلما بلغ " زُبَالة "  لقيه طليحة بي خُويلد وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول : " لهفي على أمرٍ لم يسبقني ولم أدْرِكْه ". وكان خروجه عند عَوْد القعقاع مِنْ إغاثة عثمان ، فلما لقي عُمارة قال له : ارجع فإن القومَ لا يريدون بأميرهم بدلاً، فإنْ أبيتَ ضربت عنقك . فرجع عُمارة إلي علي بالخبر.

وانطلق عبيد الله بن عباس إلي اليمن فجمع يعلى بن منية كل شيء مِن الجبَايَة وخرج به إلى مكة فقَدِمَهَا بالمال ، ودخل عبيد الله اليمن ولما رجع سهل بن حنيف مِن الشام وأتتْ علياً الأخبارُ دعا طلحة، والزبير فقال : " إن الأمر الذي كنتُ أحذركم قد وقع ، وإنً الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته ، وإنّها فتنة كالنار كلما سُعَرَتْ ازدادتْ واستشارتْ ! .

فقالا له : ائذن لنا نخرج من المدينة فإما أن نكاثر وإما أنْ تدعنا . فقال : سأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بُدّأ فاخرُ الداء الكَيّ .

وكتب إلى معاوية، وإلى أبي موسى فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومَنْ بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم ، وكان رسولُ عليّ إلي أبي موسي معبداً الأسلمي ، وكان رسوله إلي معاوية سبرة الجهني فقدِم عليه فلم يُجِبْه معاوية بشيء كلما تَنَجَّزَ جوابه لم يزد على قوله :

ادِمْ إدَامَةَ حِصْن أو خُذا  بِيَدِي حَرْباً ضَرُوساً تَشُبُّ الجَزْلَ والضِّرَمَا

في جَارِكُم وشًكُم إذْ كان مَقْتَلَهُ شَنعاءَ شيَّبَتِ الأصداغَ واللِّمَمَا

أعْيا المَسودُ بها والسيِّدون فلَم يوجَدْ لنا غَيْرُنَا مولىً ولا حَكَما

حتى إذا كان الشهر الثالث مِنْ مقتل عثمان في صفر دعي معاوية رجلاً مِنْ بني عبس يدعي قبيصة فدفع إليه طًوماراً مختوماً عنوانه (من معاوية إلى عليّ ) وقال له :

( إذا دخلتَ المدينة فاقبضْ على أسفل الطومار ) ثم أوصاه بما يقول ، وأعاد رسول قي معه ، فخرجا فقدِما المدينة في ربيع الأول [ بغُرتِهِ ] فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه الناس ينظرون إليه وعَلِموا أنً معاوية مُعْتَرِضٌ ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار ففَض ختمه فلم يجد فيه كتاباً فقال للرسول : ما وراءك ؟ قال : آمنٌ أنا؟ قال : نعم. إن الرسولَ لا يُقْتَلُ .

قال : ورائي أني تركتُ قوماً لا يرضون إلا بالقَوْد. قال : ممن ؟ قال : مِنْ خيط رقبتك . وتركتُ ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوبٌ لهم قد ألبسوه منبر دمشق . قال : " أمِني يطلبون دم عثمان ! ألستُ موتوراً كترَة عثمان ؟ ! اللهم إني أبرأ إليك مِنْ دم عثمان . نجا والله قتلةُ عثمان إلا أنْ يشاء الله ، فإنّه إذا أراد أمراً أصابه . أخرج . قال : وإني آمن. قال : وأنت آمن .

فخرج العبسي وصاحت السبئيةُ وقالت : هذا الكلبُ رسولُ الكلاب ، اقتلوه .

فنادي: " يا آل مضر، يا آل قيس : الخيل والنبل أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصيّ ، فانظروا كم الفحول والركاب " .

وتعاوَوا عليه ، فمنعته مُضر فجعلوا يقولون له : أسكتْ ، فيقول : لا . والله لا يفلح هؤلاء أبداً أتاهم ما يوعَدون ، لقد حلَّ بهم ما يجدون ، انتهتْ والله أعمالُهم ، وذهبتْ ريحُهم. فوالله ما أمسَوا حتى عُرف الذل فيهم .

وأحب أهل المدينة أنْ يعلموا رأيَ علي في معاوية وقِتَاله أهل القبلة أيجسُر عليه أم ينكلُ عنه ، وقد بلغهم أنّ ابنه الحسن دعاه إلى القُعُود وتَرْك الناس فدسُوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إلى علي فجلس إليه ساعة فقال له علي : يا زياد تيسر.

فقال : لأي شي ؟ء فقال : لغزو الشام . فقالى زياد : الأناةُ والرفق أمثلُ وقال :

وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ فِي أمُورٍ كَثِيْرَة يُضَرسْ بِأنيابٍ وُيوطَأ بمنْسِمِ

فتمثل علي وكأنه لا يريده :

متى تَجْمَعِ القَلْبَ الزْكى وصَارِماً وَأنْفاً حَمِيّاً تَجْتَنِبكَ المَظَالِمُ

فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا : ما وراءك ؟ فقال : السيفُ يا قوم . فعرفوا ما هو فاعل .

وأستأذنه طلحة، والزبير في العُمْرة فأذِنَ لهما فَلحِقَا بمكّة .

ودعا عليٌّ محمد بن الحنيفة فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته ،وعمر بن أبي سلمة -أو عَمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولاه ميسرته ، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجرّاح فجعله على مقدمته ، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ، ولم يول مس خرج علي عثمان أحداً . وكتب إلى قيس بن سد، وإلى عثمان بن حنيف ، وإلى أبي موسى أنْ يندبوا الناس إلى أهل الشام ، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم ، وقال لهم : "إن في سلطان الله عصمةُ أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها، والله لَتَفْعَلُنً أو لينقُلَنَّ اللهُ عنتهم سلطان الإسلام ثم لا ينقله اليكم أبداً حتى يأزر الأمرُ إليها .

انهضوا إلي هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يُصْلِحُ بكم ما أفسد أهلُ للآفاقِ وتقضون الذي عليكم " .

( خَرْنَبَا ) بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح النون والباء الموحدة وآخره ألف.‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏ ‏