المجلد الثالث - ذكر مسير علي إلى البصرة والوقعة

قد ذكرنا فيما تقدم  تجهز عليّ إلى الشام فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه فلما بلغه ذلك دعا وجوه أهل المدينة وخَطَبَهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

" إنّ آخرَ هذا الأمر لا يصلحُ إلا بما صلح أوله فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم امركم " . فتثاقلوا، فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب إلى علي وقال له : مَنْ نثاقل عنك فإنّا نخفُّ معك فنقاتل دونك ، وقام رجلان صالحان من أعظم الأنصار، أحدهما أبو الهيثم بن التًيِّهَان وهو بدري ؛ والثاني خزيمة بن ثابت ، قيل : هو ذو الشهادتين وقال الحكيم : ليس بذي الشهادتين مات ذو الشهادتين أيام عثمان فأجابه إلى نُصْرته . قال الشعبي : ما نهض في تلك الفتنة إلاّ ستة نفر بدريون ما لهم سابع. وقال سعيد بن زيد: ما اجتمع أربعة مِنْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لخيرٍ يعملونه إلا وعلي أحدهم .

قيل : وقال أبو قتادة الأنصاري لعليّ ؛ يا أمير المؤمنين إنٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلدني هذا السيف وقد أغمدته زماناً ، وقد حان تجريده على هؤلاء القوم [لظالمين الذين يألون الأمة غشاً، وقد أحببتُ أنْ تَقَدمَنِي فقدمِني .

وقالت أم سلمة : " يا أمير المؤمنين لولا أنْ أعصي اللّهَ وأنّك لا تقبله مني لخرجتُ معك ، وهذا ابنُ عمي –وهو والله أعز عليّ مِنْ نفسي -يخرج معك ويشهد مشاهدك " . فخرج معه وهو لم يزل معه ، واستعمله عليّ على البحرين ، ثم عزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي . .

فلما أراد عليّ المسير إلى البصرة - وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما- فلما سار استخلف على المدينة تمام بن العباس ، وعلى مكة قثم بن العباس ، وقيل : أمّر على المدينة سهل بن حنيف .

وسار عليّ من المدينة في تعبئته التي تعبأها لأهل الشام آخر شهر ربيع الأخر سنة ست وثلاثين فقالت أخت عليّ بن عديّ من بني عبد شمس :

لا هُم فاعْقِرْ بِعَليّ جَمَلَهْ ولا تُبَارِكْ فِي بَعِيْرٍ حَمَلَهْ

ألَا عَلِيّ بنُ عَدِى لَيْسَ لَهْ

وخرج معه مَنْ نشط مِن الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة وهو يرجو أنْ يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج أو يأخذهم فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال : ( يا أمير المؤمنين لا تخرج منها فوالله إنْ خرجتَ منها لا يعودُ إليها سلطانُ المسلمين أبداً فسبوه فقال : دعوا الرجل مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسار حتى انتهى إلي " الرَّبَذَة "، فلما انتهى إليها أتاه خبر سبقهم فأقام بها يأتمر ما يفعل ، وأتاه ابنه الحسن في الطريق فقال له : لقد أمرتُك فعصينني فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك ،

فقال له علي : إنك لا تزال تخن خنين ، الجارية،وما الذي أمرتني فعصيتك ؟ قال : أمرتُك يوم أحِيْطَ بعثمان أنْ تخرج مِن المدينة فيُفتل ولستَ بها، ثم أمرتُك يوم قُتل أنْ لا تبايع حتى تأتيك وفودُ العرب وبيعةُ أهل كُل مِضر فإنهم لن يقطعوا أمراً دونك فأبيت علي .

وأمرتُك حين خَرَجَتْ هذه المرأةَ وهذان الرجلان أنْ تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإنْ كان الفساد كان على يد غيرك فعصيتني في ذلك كله .

فقال : أيْ بُنَي أما قولك : لو خرجت من المدينة حين  أحيط بعثمان فوالله لقد أحيط بنا كما أحِيْط به ، وأما قولُك لا تبايع حتى يبايعَ أهلُ الأمصار فإن الأمر أمرُ أهل المدينة. وكرهنا أنْ يضيَع هذا الأمرُ، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أري أحداً أحق بهذا الأمر مني فبايع الناسُ أبا بكر الصديق فبايعته ، ثم أنَ أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني فبايع الناسُ عمر فبايعته ، ثم إنّ عمر انتقل إلى رحمة الله .

وما أرفى أحداً أحق بهذا الأمر مني فجعلني سهماً مِنْ ستة أسهم فبايع الناسُ عثمان فبايعته ، ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مُكْرَهِيْن فأنا مقاتل مَنْ خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . وأما قولك أنْ اجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير فكيف لي بما قد لزمنىِ أومن تريدني ! أتريدني أنْ أكون كالضَّبُع التي يحاط بها ويقال [دباب دباب ] ليست ههنا حتى يحل عرقوباها حتى يخرج  ! وإذا لم أنظر فيما يلزمني منْ هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه ؟ فكُف عنك يا بني .

ولما قدم عليّ الربَذَة وسمع بها ،خبر القوم أرسل منها إلي الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ، ومحمد بن جعفر، وكتب إليهم : ( إنى اخترتكم على الأمصار، وفزعت اليكم لما حدث ، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً ، وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إِخواناً ) فمضينا وبقي علي بالربذة [ يتهيأ ] ، وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده مِنْ دابة وسلاح ، وأمر أمره  ، وقام في الناس فخطبهم وقال :
"إن الله تبارك وتعالى أعزنا بالإسلام ورفعنا به ، وجعلنا به إخواناً بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد فجري الناس علي ذلك ما شاء الله الإسلام دينهم ، والحق فيهم ، والكتاب إمامهم حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا إنّ هذه ل لأمة لا بد مفترقة كما افترقتْ الأممُ قبلها فنعوذ بالله من شرما هو كائن " .

ثم عاد ثانية وقال : " إنه لا بد مما هو كائن أنْ يكون ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فِرْقة شَرُّهَا فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي ، وقد أدركتهُم ورأيتُهم فالزموا دينكم وأهدوا بهديي فإنه هَدْي نبيكم واتبعوا سنته وأعرِضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه ، وما أنكره فردوه ، وارضوا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، ومحمد نبياً ، وبالقرآن حَكَماً وإماماً " .

فلما أراد المسير مِن الربذة إلى البصرة قام إليه ابنٌ لرفاعة بن رافع فقال : " يا أمير المؤمنين إيّ شيءٍ تريدُ؟ وأين تذهب بنا؟ فقال : أمّا الذي نريد وننوي فالإصلاحُ إنْ قَبِلُوا منا وأجابونا إليه . قال : فإنْ لم يُجيبونا إليه ؟ قال : نَدَعُهُم بعذرِهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال : فإنْ لم يرضَوا قال : نَدَعُهم ما تركونا قال : فإنْ لم يتركونا قال : امتنعنا منهم قال : فنَعم إذن. وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال : لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول وقال :

دَرَاكِهَا دَرَاكِهَا قَبْلَ الفَوْتْ فانْفِرْ بِنا وَاسْمُ بِنَا نحو الصًوْتْ

لا وَالَتْ نفسي إنْ تكرهت المَوْت

والله لننصرنّ الله كما سمانا أنصاراً . ثم أتاه جماعةٌ من طيئ وهو بالربَذَة فقيل لعلي : هذه جماعةٌ قد أتتك منهم مَنْ يريدُ الخروج معك ، ومنهم فَنْ يريدُ التسليم عليك . قال : جزي اللّهُ كليهما خيراً، وفَضلَ اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما شهدتمونا به ؟ قالوا : شهدناك بكل ما تحب . فقال :

جزاكم الله خيراً فقد أسلمتم طائعين ، وقاتلتم المرتدين ، ووافيتم بصدقاتكم المسلمين فنهض سعيد بن عبيد الطافي فقال : يا أمير المؤمنين إن من الناس مَنْ يُعَبرُ لسانُه عما في قلبه ، وإني والله ما أجدُ لساني يُعَبرُ عما في قلي ، وسأجهد وبالله التوفيق : أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطنٍ ، وأري من الحق لك ما لا أراه لأحدٍ غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك . فقال : رحمك الله قد أدي لسانُك عما يجن ضميرُك . فقتل معه بصفين ، وسار عليّ من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمرٍ بن الجراح ، والراية مع محمد بن الحنفية، وعلي على ناقة حمراء يقودُ فرساً كميتا.

فلما نزل بفَيْد أتته أسَد وطيئ فعرضوا عليه أنفسهم فقال : ألزموا قراركم . في المهاجرين كفاية. وأتاه رجلٌ بفيد مِن الكوفة فتال له : من الرجل ؟ قال : عامر بن مطر الشيباني قال : أخبرْ عما وراءك . فأخبره فسأله عن أبي موسى فقال : إنْ أردتَ الصلح فأبو موسى صاحبه ، وإن أردتَ القتال فليس بصاحبه . فقال علي : والله ما أريدُ إلاّ الصلح حتى يرد علينا. ولما نزل على الثعلبية أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر أصحابه الخبر فقال : " اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير " . فلما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حُكَيْم بن جبلة وقتلة عثمان فقال : الله أكبر ما ينجيي مِنْ طلحة والزبير إنْ أصابا ثأرهما وقال :

دَعَا حُكَيْمُ دَعْوَةَ الزِّمَاع حَل بها مَنْزِلَةَ النزاع

فلما انتهى إلى "ذي قار" أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة -وقيل : أتاه بالربذة - وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته على ما ذكرناه فقال : يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد! فقال : أصبتَ أجراً وخيراً . إنّ الناسَ وليَهُم قبلي رجلان فعملا بالكتاب والسنة ثم وليهم ثالثٌ فقالوا وفعلوا ، ثم بايعوني وبايعي طلحة والزبير، ثم نَكَثَا بيعتي وألبا الناس عليّ ، ومِنْ العجب انقيادهما لأبي بكر، وعمر، وعثمان ، وخلافهما عليّ . والله إنهما ليعلمان أني لستُ بدون رجل مس تقدم ، "للهم فاحلل ما عقَدا، ولا تبرم ما احكما في أنفسهما، وأرِهِمَا المساءةَ فيما قد عملا. وأقام بذي قار ينتظر محمداً ومحمداً فأتاه الخبر بما لقمِت ربيعة وخروج عبد القيس فقال : " عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير، وقال :

يَالَهْفَ نَفْسِي عَلَى رَبِيْعَهْ رَبِيعَهْ السامِعَةَ المُطِيْعَهْ

قَدْ سَبَقَتْنِي فِيْهِمُ الوَقِيْعَهْ دَعَا علِيٌّ دَعْوَة سَمِيْعَهْ

حَلُوا بِهَا المَنْزِلَة الرفِيْعَهْ

وعُرضت عليه بكر بن وائل فقال لها ما قال لطيىء وأسد.

وأما محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب عليّ وقاما في الناس بأمره فلم يُجَابا إلى شيءٍ فلما أمسوا دخل ناس مِنْ أهل الحجى على أبي موسى فقالوا : ما تري في الخروج فقال : " كان الرأيُ بالأمس ليسر اليوم ! إنّ الذي تهاونتم [ به ] فيما مضى هو الذي جَر عليكم ما تَرون ، إنما هما أمران القعود سبيلُ الآخرة والخروج سبيلُ الدنيا فاختاروا " . فلم ينفر إليه أحدٌ فغضب محمدٌ ، ومحمدٌ ، وأغلظا لأبي موسى فقال لهما: " والله إنّ بيعة عثمان لفي عُنُقِي وعُنُق صاحبكما، فإنْ لم يكن بُد مِنْ قتال لا نقاتل أحداً حتى نفرغ مِنْ قَتَلَة عثمان حيث كانوا.

فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي مَار فقال للأشتر- وكان معه -: أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء ، اذهبْ أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدتَ . فخرجا فقدِما الكوفة فكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر مِنْ أهل الكوفة فقام لهم أبو موسى وخطبهم وقال : "أيها الناس إنّ أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم الذين صَحِبوه أعلمُ بالله وبرسوله ممن لم يصحبه ، وإنّ لكم علينا لحقاً وأنا مؤدٍ إليكم نصيحة : كان الرأيُ أنْ لا تستخفوا بسلطان الله وأنْ لا تجترئوا على الله وأنْ لأخذوا مَنْ قَدِم عليكم مِن المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة، وهذه فتنةٌ صماء، النائمُ فيها خير من اليقظان ، واليقظانُ خيرٌ من القاعد ، والقاعدُ خيرٌ من القائم ، والقائمُ خيرٌ من الراكب ، والراكبُ خير من الساعي ، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فاغمدوا السيوف ، وانصلوا الأسنَّة ، واقطعوا الأوتار، وآووا الظلوم والمضطهد حتي يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة " .

فرجع ابن عباس ، والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر فأرسل ابنه الحسن ، وعمار بن يسار وقال لعمار : " انطلق فاصلح ما أفسدتَ " . فأقبلا حتي دخلا المسجد وكان أول من أتاهما المسروق بن الأجدع فسلم عليهما وأقبل على عمار فقال : يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان ؟ قال : على شَتْم أعراضنا وضَرْب أبشارنا. قال : فواللّه ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين . فخرجِ أبو موسى فلقي الحسن ، فضمَّه إليه ، وأقبل على عمار فقال : يا أبا اليقظان أعَدَوْت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللتَ نفسك مع الفجار؟ فقال : لم أفعل ولم يسؤني .

فقطع الحسن عليهما الكلام وأقبل على أبي موسى فقال له : لم تثبط الناس عنا؟ فوالته ما أردنا إِلاَ الإصلاح ، ولا مِثْل أسير المؤمنين يُخَافُ على شيءٍ . فقال : صدقتَ بأبي أنت وأمي ، ولكن المستشار مؤتمن ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنّها ستكونُ فِتْنَةٌ القاعدُ فيها خيرٌ ينْ القَائِمِ ، وَالقَائِمً خَيْر مِن المَاشِي ، والمَاشِي خَيْرٌ مِن الراكب "، وقد جعلنا اللهُ إخواناً، وقد حَرمَ علينا دماءنا وأموالنا. فنضب عمار وسبه ، وقام ، وقال : " يا أيها الناس إنما قال له وحده : أنت فيها قاعداً خير منك قائماً" .

فقام رجلٌ مِن بني تميم فسب عماراً، وقال : "أنت أمس مع الغوغاء، واليوم تسافه أميرنا ". وثار زيد بن صوحان وطبقته ، وثار الناس ، وجعل أبو موسى يكفكفُ الناسَ ، ووقف زيدٌ على باب المسجد ومعه كتابٌ إليه مِن عائشة تأمره فيه بملازمة بيته أو نُصْرَتَها وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه ، فأخرجهما فقرأهما على الناس ، فلما فرغ منهما قال : "أمِرتْ أنْ تقر في بيتها وأمرْنَا أنْ نقاتل حتى لا تكون فتنة فأمرتنا بما امرتْ به وركبتْ ما أمرنَا به ! "

فقال له شبث بن ربعي : يَا عُمَانِي -لأنّه مِنْ عبد القيس وهم يسكنون عُمَان - سرقت بجلولاء فقطعتْ يدك وعصيتَ أم المؤمنين [ فقتلك الله ] وتهاوي الناسُ ، وقام أبو موسى وقال : أيها الناس أطيعوني ، وكونوا جرثومة مِنْ جراثيم العرب يأوي اليكم المظلوم ،ويأمن فيكم الخائف ، إن الفتنة إذا أقبلت فقد شبهت فإذا أدبرت بينت ، لان هذه الفتنة فاقرة كداء البطن تجري بها الشمال ، والجنوب ، والصبا ، والدبور تَذَرُ الحليمَ وهو حيران كابن أمس ، شيموا سيوفكم ، وقصدوا(2) رماحكم ، وقطعوا أوتاركم ، والزموا بيوتكم . خلوا قريشاً إذا أبوا إلاّ الخروج مِنْ دار الهجرة وَفِراق أهل عه لم بالأمراء استنصحوني ولا تستغشوني ، أطيعوني يَسْلَم لكم دينكم ودنياكم ويشقى بِحَرِّ هذه الفتنة مَنْ جناها .

فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال : يا عبدالله بن قيس رد الفرات على أدراجه أردده مِنْ حيثُ يجيء حتى يعود كما بدأ فإنْ قدرتَ على ذلك فستقدر على ما تريد . فدعْ عنك ما لستَ مدركه ، سيروا إلي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق ، فقام القعقاع بن عمرو فقال : إنّي لكم ناصحٌ وعليكم شَفِيق أحِبُّ لكم أنْ ترشدوا ولأقولنّ لكم قولاً وهو الحق : أمّا ما قال الأمير فهو الحق لو أنّ إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه ، والقولُ الذي هو الحق أنّه لا بد من إمارة تنظم الناس ، وتزع الظالم ، وتعِز المظلوم ، وهذا أميرُ المؤمنين ولي بما ولي . وقد م نصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح فانفِرُوا وكونوا مِنْ هذا الأمر بمرأى ومسمع .

وقال عبد الخير الخيواني : يا أبا موسى هل بايع طلحة، والزبير؟ قال : نعم . قال : هل أحدث عليّ ما يحل به نقض بيعته ؟ قال : لا أدري . قال : لا دريتُ نحن نتركك حتى تدري ، هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة ! إنما الناسُ أربعُ فِرَق : عليٌّ بظهر الكوفة، وطلحة، والزير بالبصرة، ومعاوية بالشام ، وفِرْقَةٌ بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتَلُ بها عدو. فقال أبو موسى : أولئك خيرُ الناس ، وهي فتنة . فقال عبد الخير: غلب عليك غِشُك يا أبا موسى فقال سَيْحَان بن صوحان : أيها الناس لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس مِنْ وَالٍ يَدْفَعُ الظالم ويعزّ المظلوم ويجمع الناس ، وهذا واليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه وهو المأمون على الأمة، الفقيهُ في الدين ، فمن نهض إليه فإنّا سائرون معاً .

فلما فرغ سيحان قال عمار: هذا ابنُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنفركم إلى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلي طلحة والزبير، وإني أشهدُ أنّها زوجته في الدنيا والآخرة فانظروا ، ثم أنظروا في الحق فقاتِلوا معه فقال له رجل : أنا مع مَنْ شهدتَ له بالجنة على مَنْ لم تشهد له . فقال له الحسن : اكففْ عنا فإنّ للِإصلاح أهلاً، وقام الحسن بن علي فقال : أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم ، وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر مَنْ ينفر إليه ، وواللّه لأن يليه أولو النهي أمثل في العاجِل والاجل وخير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما أبتُلينا به وابتليتم ، وإن أمير المؤمنين يقول : قد خرجتُ مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وإنّي أذَكِّرُ الله رجلاً رعى حَقَّ الله إلا نَفَرَ فإنْ كنتُ مظلوماً أعانني ، وإنْ كنتُ ظالماً أخذ مني . والله إنّ طلحة ، والزبير لأوّل مَنْ بايعني وأوّل مَنْ غدر! فهل استأثرتُ بمالٍ ، أو بدّلتُ حكماً فانفروا فمُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر فسامح الناس وأجابوا ورضوا .

وأتى قوم من طيىء عَدِي بن حاتم فقالوا : ماذا تري وما تأمر؟ فقال : قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلي جميلٍ وإلي هذا الحدث العظيم لننظر فيه ونحن سائرون وناظرون ، فقام هند بن عمرو فقال : إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رُسُلَه حتى جاءنا ابنه فاسمعوا إلى قوله ، وانتهوا إلى أمره ، وانفروا إلي أميركم ، فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم ، وقام حُجْر بن عَدِيّ فقال : أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خِفَافاً وثقَالاً، مُرُّوا وأنا أوّلكم فأذعن الناسُ للمسير فقال الحسن : أيها الناس إنّي غادٍ فَمَن شاءَ منكم أنْ يخرج معي على الطَهْر، ومَنْ شاء في الماء. فنفر معه قريبٌ من تسعة آلاف أخذ في البرستة آلاف ومائتان ، وأخذ في الماء ألفان وأربعمائة .

وقيل : إنّ علياً أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن ، وعمار إلى الكوفة فدخلها والناسُ في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبِّطهم والحسن ، وعمار معه في منازعة وكذلك سائر الناس كما تقدم فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم ويقول : اتبعوني إلي القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة الناس فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبّطهم والحسن يقول له : " اعتزل عملنا لا أمَ لك وتنخ عن منبرنا " . وعمار ينازعه ، فأخرج الأشتر غلمان أبو موسى من القصر فخرجوا يَعْدُون وينادون : " يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا”، فنزل أبو موسي فدخل القصر فصاح به الأشتر : اخرجْ لا أم لك . أخرَج اللّهُ نفسك . فقال : أتجَلْني هذه العشية . فقال : هي لك ولا تبتِن في القصر الليلة . ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر وقال : أنا له جار. فكفوا عنه فنفر الناسُ في العدد المذكور.

وقيل : إن عدد مَنْ سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل ، قال أبو الطفيل :

سمعتُ عليِاً يقول ذلك قبل وصولهم فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً . وكان على كنانة، وأسد، وتميم ، والرباب ، ومزينة . معقل بن يسار الرياحي ، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر، وتغلب ، وعلة بن محدوج الذهلي ، وكان على مذحج ، والأشعريين حُجْر بن عدي ، وعلى بجيلة، وأنمار، وخثعم ، والأزد، مخنف بن سليم الأزدي فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال :يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارتْ إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم ، وأعنتم الناس على عدوهم ، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإنْ يرجعوا فذاك الذي نريد، وإنْ يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بظلم ، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلاّ آثرناه على ما فيه الفساد إنْ شاء الله . واجتمعوا عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها في الطريق بين عليّ ، والبصرة ينتظرونه وهم ألوف .

وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو، وسِعْر بن مالك ، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب ، وكان رؤساء النُّفَّار زيد بن صُوحان ، والأشتر وعَدِيّ بن حاتم ، والمسيب بن نَجَبَة، ونريد بن قيس ، وأمثال لهم ليسوا دونهم إلا أنهم لم يؤمروا منهم حُجْر بن عدي ، فلما نزلوا بذي قار دعا علي القعقاع فأرسله إِلى أهل البصرة وقال : " القَ هَذيبن الرجلين - وكان القعقاع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فادعهما إلى الألفة والجماعة وعَظَمْ عليهما الفُرْقَة، وقال له : " كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة؟ قال : نلقاهم بالذي أمرتَ به ، فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونري أنه ينبني . قال : أنْتَ لها فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة فسلّم عليها وقال : أي أمَّهْ ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت : أيْ بني الإصلاح بين الناس . قال : فابعثي إلي طلحة ، والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما .

فبعثت إليهما فجاء ا فقال لهما : إنّي سألتُ أم المؤمنين ما أقدمها فقالت : الإصلاحُ بين الناس ، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان ؟ قالا : متابعان . قال : فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح ؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا يصلح قالا: قَتَلَة عثمان فإنّ هذا إنْ تُرِك كان تركاً للقرآن . قال : قد قتلتما قتلة عثمان مِنْ أهل البصرة وأنتم قبل قَتْلِهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم ، قتلتم ستمائة رجل  فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا مِنْ بين أظهركم ، وطلبتم حرقُّوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإنْ تركتموهم كنتم تاركينن لما تقولون وإنْ قاتلتموهم والذي اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهوٍ ن ، وإنْ أنتم منعتم مضر، وربيعة مِنْ هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخُذلانكم نُصْرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحَدَث العظيم والذنب الكبير.

قالت عائشة : فماذا تقول أنت ؟ قال : أقول : إن هذا الأمر دواؤه التسكين فإذا سكن اختلجوا ، فإنْ أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر، وإنْ أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال . فآثِرُوا العافية تُرْزَقُوهَا، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم ولا تُعَرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا لإياكم . وأيم الله إني لأقول فذا القول وأدعوكم إليه وإني لخائف أن لا يتم حتي يأخذَ اللّهُ حاجته مِنْ هذه الأمة التي قَلَّ متاعها ونزل بها ما نزل ، فإن هذا الأمر الذي حدث أمرٌ ليس يقدر وليس كقتل الرجل الرجل ، ولا النفر الرجل ، ولا القبيلة الرجل . قالوا : قد أصبتَ وأحسنتَ فارجعْ فإنْ قَدِمَ عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.

فرجع إلى عليّ فأخبره فأعجبه ذلك ، وأشرف القوم على الصلح كَرِهَ ذلك مَنْ كرهه ورضيه مَنْ رضيه ، وأقبلت وفودُ العرب مِنْ أهل البصرة نحو علف بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأي إخوانهم مِنْ أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا إليهم ، وليعلموهم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قِتَالُهم على بال ، فلما لقوا عشائرهم مِنْ أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه بخبرهم ، وسأل عليّ جرير بن شرس عن طلحة ، والزبير فأخبره بدقيق أمرهما وجليله وقال له : أما الزبير فيقول : بايعنا كُرْهاً، وأما طلحة فيتمثل الأشعار ويقول :

ألَا أبْلِغْ بَنِي بَكْرٍ رَسُولاً فَلَيْس إلى بَنِي كَعْب سَبيلُ

سَيَرْجِعُ ظُلْمَكُم مِنْكمْ عَلَيكم طَوِيل الساعِدَيْنِ لًه فُضولُ

فتمثل عليّ عندها:

ألَمْ تَعْلَمْ أبا سَمْعَانَ أنا نَرُد الشَّيْخَ مِثْلَكَ ذا الصُّدَاعِ

ؤَيذْهَلُ عَقْلُه بالحَرْبِ حَتَى يَقومَ فيَسْتجيبَ لغَيْر ِدَاع

فَدَافَعَ عَنْ خُزَاعَةَ جَمْعُ بَكْرٍ وما بك يا سُرَاقَة مِنْ دِفَاعِ

ورجعتْ وفود أهل البصرة برأي أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة فقام علي خطيباً فحمد الله وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جَره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيِا حسدوا مَنْ أفاءها اللهُ عليه وعلى الفضيلة ، وأرادوا رَدَ الإسلام ، والأشياء على أدبارها والله بالغٌ أمره ، ". ألا وإني راحلٌ غداً فارتحلوا، ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيءٍ مِنْ أمرر الناس ، وليغن السفهاء عني أنفسهم ".
فاجتمع نفرٌ منهم علباء بن الهيثم ، وعَدِي بن حاتم ، وسالم بن ثعلبة القيسي ، وشريح بن أوفى ، والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضيَ بسير مَنْ  سار وجاء معهم المصريون ، وابن السوداء، وخالد بن ملجم فتشاوروا فقالوا : ما الرأي وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قَتَلَة عثمان وأقرب . إلي العمل بذلك وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه سواهم والقليل مِنْ غيرهم فكيف به إذا شام القوم وشاموه ورأوا قلتَنَا في كثرتهم وأنتم واللهُ تَرادُون وما أنتم بالحي من شيء  .

فقال الأشتر : قد عرفنا رأيَ طلحة، والزبير فينا وأمّا عليّ فلم نعرف رأيه إلى اليوم ورأي الناس فينا واحد فإنْ يصطلحوا مع علي فعلي دمائنا فهلمُّوا بنا نثب على عليّ وطلحة فنلحقهما بعثمان فتعود فتنة يُرْضَى منا فيها بالسكون . فقال عبد الله بن السوداء : بئس الرأي رأيتَ ، أنتم يا قتلة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة وهذا ابن الحنظلية - يعني طلحة وأصحابه - في نحو من خمسة آلاف بالأشواق إلى أنْ يجدوا إلى قِتالِكم سبيلاً فقال علباء بن الهيثم : انصرفوا بنا عنهم ودعوهم فإنْ قلُوا كان أقوي لعدوهم عليهم وإنْ كثروا كان أحري أنْ يصطلحوا عليكم ، دَعُوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلدٍ من البلدان حتى يأتيكم فيه مَنْ تقوون به وامتنعوا من الناس . فقال ابن السوداء : بئس ما رأيتَ ، وَدَ والله الناس أنكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوامٍ بُرَآء، ولو انفردتم لتخطفكم الناس كل شيء فقال : عديّ بن حاتم : والله ما رضيتُ ولا كرهتُ ، ولقد عجبتُ مِنْ تردد مَنْ تردد عن قتله في خوض الحديث ، فأمّا إذا وقع ما وقع ونزل مِن الناس بهذه المنزلة فإنّ لنا عتاداً من خيول وسلاح فإنْ أقدمتم أقدمنا وإنْ أمسكتم أمسكنا .

فقال ابن السوداء : أحسنتَ . وقال سالم بن ثعلبة : مَنْ كان أراد بما أتي الدنيا فإني لم أرِد ذلك ، والله لئن لقيتُهم غداً لا أرجع إلى شيء ، وأحلفُ بالله إنكم لتفرقن السيف فَرَق قوم لا تصير أمورُهم إلا إلى السيف . فقال ابن السوداء : قد قال . قولاً، وقال شريح بن أوفى : أبرموا أموركم قبل أن تحرجوا ولا تؤخروا أمراً ينبني لكم تعجيله ، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره فإنا عند الناس بشَرِّ المنازل ، وما أدري ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا، وقال ابن السوداء : يا قوم إنَّ عِزكم في خلطة الناس [ فصانعوهم ] فإذا ألتقى الناسُ غداً فانشبوا القتال ، ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجدُ بُداً مِنْ أنْ يمتنعِ ، ويشغل اللَهُ علياً ،وطلحة ، والزبير، ومَنْ رأي رأيهم ، عما تكرهون ، فأبصروا الرأيَ وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون .

وأصبح عليّ على ظهر ومضى ومضى معه الناسُ حتى نزل على عبد القيس فاًنضموا إليه ، وسار مِنْ هناك فنزل الزاوية ، وسار من الزاوية يريد البصرة ، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفُرْضَة فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد فلما نزل الناسُ أرسل شقيق بن ثور إلي عمرو بن مرحوم العبدي أن أخرج فإذا خرجت فمِلْ بنا إلى عسكر عليّ فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل فعدلوا إلى عسكر علي فقال الناس : مَنْ كان هؤلاء معه غَلَبَ . وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال فكان يُرْسِل عليٌّ إليهم يُكَلِّمهم ويدعوهم وكان نزولهم في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ونزل بهم علي وقد سبق أصحابَه وهم يتلاحقون به ، فلما نزل قال أبو الجرباء للزبير : " إنّ الرأيَ أنْ تبعث ألف فارس إلى علي قبل أنْ يوافي إليه أصحابه . فقال : إنّا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم مَنْ لم يلق الله فيه بعذر أنقطع عُذْرُه يوم القيامة وقد فارقنا وفدهم على أمرٍ وأنا أرجو أنْ يتم لنا الصلحُ فأبشروا واصبروا .

وأقبل صَبْرَة بن شَيْمان فقال لطلحة والزبير : انتهزا بنا هذا الرجل فإن الرأيَ في الحرب خيرٌ مِن الشدة . فقالا : إنّ هذا أمرٌ لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه لمُنّة مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وقد زعم قومِ أنّه لا يجوز تحريكه وهم علي ومن معه ، وقلنا نحن : إنه لا ينبغي لنا أنْ نتركه ولا نؤخره ، وقد قال عليّ تَرْكُ هؤلاء القوم شر وهو خَيْرٌ مِنْ شَرّ منه وقد كاد يتبين لنا وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بأعمها منفعة . وقال كعب بن سور : يا قوم اقطعوا هذا العُنُق مِنْ هؤلاء القوم. فأجابوه بنحو ما تقدم .

وقام عليّ فخطب الناس ، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة فقال له عليّ : على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم . قال : فان لم يجيبونا. قال : تركناهم ما تركونا. قال : فإنْ لم يتركونا؟ قال : دفعناهم عن أنفسنا قال : فهل لهم من هذا مثل الذي عليهم ؟ قال : نعم . وقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال : م ترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إنْ كانوا أرادوا الله بذلك . قال : نعم قال أفَتَرَي لك حُجّة بتأخير ذلك ؟ قال نعم إنّ الشيءَ إذا كان لا يُدْرَكُ إنّ اسَم فيه أحوطه وأعمّه نفعاً قال : فما حالنا وحالهم إنْ ابتلينا غداً؟ قال : إني لأرجو أنْ لا يُقْتَل منا ومنهم أحدٌ نَقِيُّ قلبه لهّ إلا أدخله الله الجنة .

وقال في خطبته : أيها الناس املكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم ، لإياكم أنْ تسبقونا فإنَّ المخصوم غدا مَنْ خصم اليوم . وبعث إليِهم حكيم بن سلامة، ومالك بن حبيب : إنْ كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع فكُفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر. وخرج إليه الأحنف بن قيس ، وبنو سعد مشمَرين قد منعوا حُرقوص بن زهير وهم معتزلون وكان الأحنف قد بايع علياً بالمدينة بعد قَتْل عثمان لأنه كان قد حج وعاد مِن الحج فبايعه ، قال الأحنف : ولم أبايع علياً حتى لقيتُ طلحة ، والزبير، وعائشة بالمدينة وأنا أريد الحج وعثمان محصور فقلتُ لكلٍ منهم : إنّ الرجلَ مقتول فمن تأمرونني أبايع ؟ فكلهم قال : بايعْ علياً. فقلتُ : أترضونه لي ؟ فقالوا: نعم . فلما قضيتُ حَجِّي ورجعتُ إلى المدينة رأيتُ عثمان قد قُتل فبايعتُ علياً ورجعتُ إلي أهلي ورأيتُ الأمرَ قد استقام فبينما أنا كذلك إذْ أتاني آتٍ فقال : هذه عائشة ، وطلحة ، والزبير بالخريبة يدعونك . فقلت : ما جاء بهم ؟ قال : يستنصرونك على قتال عليّ في دم عثمان . فأتاني أفظعُ أمر فقلت : " إنّ خُذْلاني أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم لشديد ، وأن قِتَال ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمروني ببيعته أشد " .

فلما أتيتهم قالوا : جئنا لكذا وكذا . قال : فقلت : يا أم المؤمنين ، ويا زبير، ويا طلحة نشدتكم الله أقلتُ لكم : مَنْ تأمرونني أبايع ؟ فقلتم : بايع علياً فقالوا : نعم ولكنه بَدل وغير. فقلتُ : والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين ولا أقاتل ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمرتموني ببيعته ولكني أعتزل . فأذِنُوا له في ذلك فاعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف وهي من البصرة على فرسخين ؛ فلما قدم علي أتاه الأحنف فقال له : إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إنْ ظهرتَ عليهم غداً قتلتَ رجالهم وسبيتَ نساءهم قال : ما مِثْلِي يُخَافُ هذا منه ، وهل يحل هذا إلا لمن تَوَلى وكَفَروهم قوم مسلمون . قال : اختر مني واحدةً من اثنتين إِما أنْ أقاتل معك وإما أنْ أكفّ عنك عشرة آلاف سيف . قال : فكيف بما أعطيتَ أصحابك مِن الاعتزال ؟ قال : إن من الوفاء لله قتالهم . قال : فاكفف عنا عشرة آلاف سيف . فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود ونادى : يا آل خندف فأجابه ناس ، ونادي : (يا آل تميم " . فأجابه ناسٌ ، ثم نادى : "يا آل سعد” . فلم يبق سعديّ إلا أجابه ، فاعتزل بهم ونظر ما يصنع الناس ، فلما كان القتال وظفر عليّ دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين .

فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فَرَسٍ عليه سلاح فقيل لعليّ : هذا الزبير فقال : "أما إنه أحري الرجلين إنْ ذُكِّر بالله تعالى أنْ يذكر". وخرج طلحة فخرج !ليهما عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهمِ فقال عليّ : " لَعَمْرِي قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إنْ كنتما أعددتما عند الله عُذْراَ فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضتْ غَزْلَهَا من بَعْد قُوَّةٍ أنْكَاثاً ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحَرِّمُ دَمَكُما؟ فهل مِنْ حَدَثٍ أحد لكما دمي ؟ قال طلحة : أتَبْتَ [ الناس ] على عثمان . قال علي : يومئذ يوفيهم الله دينَهم الحق . يا طلحة تطلبُ بدم عثمان فلَعَن اللهُ قتلة عثمان . يا طلحة أجئتَ بعرس رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم تقاتل بها وخبَّأتَ عرسك في البيت ! أما بايعتني قال : بايعتُك والسيفُ على عُنُقي .

فقال عليّ للزبير : يا زبير ما أخرجك ؟ قال : أنتَ ، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً، ولا أولى به منا فقال له عليّ : ألستُ له أهلاً بعد عثمان ؟ قد كنا نعدك مِنْ بني عبد المطلب حتى بلغ ابنُك ابنُ السوء ففرّق بيننا - وذكّره أشياء ، وقال له : تذكرُ يومَ مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه فقلت له : لا يَدَع ابن أبي طالب زَهوه . فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس بِمُزْهٍ لتقاتلنّه وأنت ظالمٌ له قال : اللهم نعم ، ولو ذكَرْتُ ما سرتُ مسيري هذا ، واللّه لا أقاتِلُك أبداً . فانصرف عليّ إلي أصحابه فقال : " أما الزبير فقد أعطن الله عَهْداً أنْ لا يقاتلكم ا" . ورجع الزبير إلي عائشة فقال لها : ما كنتُ في موطن عقلتُ إلاّ وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا . قالت : فما تريد أنْ تصنع ؟ قال : أريدُ أنُ أدعهم وأذهب . قال له ابنه عبد الله : جمعتَ بين هذين الفئتين حتى إذا حدد بعضُهم لبعضِهم أردتَ أنْ تتركهم وتذهب ! لكنك خشيتَ رايات ابن أبي طالب وعلِمت أنّها تحملها فتية أنجاد وأنّ تحتها الموتَ الأحمر فجبنتَ . فأحفظه ذلك وقال : إنّي حلفتُ أنْ لا. أقاتله . قال : كَفِّرْ عن يمينك وقاتِله فأعتق غلامه مكحولاً - وقيل : سَرْجَس (1) فقال عبد الرحمن بن سليمان التميمي :

لَمْ أرَ كَاليَوْمِ أخَا إخوانِ اعْجَبُ مِنْ مُكَفَرِ الأيمانِ
. . . الأبيات

وقبل : إنما عاد الزبيرُ عن القتال لتا سمع أن عمارَ بن ياسر مع علي فخاف أنْ يَقْتُلَ عماراً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عمار تقتُلُك الفئةُ الباغية ) فرده ابنُه عبد الله كما ذكرناه .

وافترق أهلُ البصرة ثلاثَ فِرَق : فِرْقَة مع طلحة والزبير، وفِرْقة مع علي ، وفرقة لا ترى القتال منهم الأحنف ، وعِمران بن حُصَين وغيرهما، وجاءتْ عائشةُ فنزلت في مسجد الحدان في الأزد ورأس الأزد يومئذٍ صبرة بن شيمان فقال له كعب بن سور: إن الجموع إذا تراءت لم تستطع ، إنّما هي بحورٌ تدفق فأطِعنْي ولا تَشهدهم ، وأعتزلْ بقومِك فإني أخافً أنْ لا يكون صُلْحٌ ، ودَع مُضَر وربيعة فهما أخوان فان اصطلحا فالصلحُ أردنا ط نْ اقتتلا كُنا حكاماً عليهم غداً - وكان كعب في الجاهلية نصرانياً فقال له صبرة: أخشى أنْ يكون فيك شيء مِن النصرانية . أتأمرني أنْ أغيبَ عن إصلاح بين الناس وأنْ أخذلَ أمَّ المؤمنين وطلحة والزبير إنْ ردوا عليهم الصلح ، وأدع الطلب بدم عثمان ! والله لا أفعل هذا أبداً . فأطبق أهلُ اليمن على الحضور.

وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد فيِ الرباب وهم تيم وعدي ، وثور، وعكل بنو عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مُضر، وضبة بن أد بن طابخة، وحضر أيضاً أبو الجرباء في بني عمرو بن تميم ، وهلال بن وكيع في بني حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السلمي على سليم ، وزفر بن الحارث في بني عامر، وغطفان ، ومالك بن مسمع على بكر، والخريت بن راشد على بني ناجية، وعلى اليمن ذو الآجرة الحميري .

ولما خرج طلحة والزبير نزلت مُضَر جميعاً وهم لا يَشكون في الصُّلْح ، ونزلت ربيعة فَوقهم وهم لا يَشكون في الصلح ، ونزلت اليمن أسفلَ منهم ولا يشكون في الصلح ، وعائشة في الحدان والناس بالزابوقة على رؤسائهم هؤلاء وهم ثلاثون ألفاً ، ورَدوا حكيماً، ومالكاً إلى علي : "إننا على ما فارقنا عليه القعقاع " . ونزل عليّ بحيالِهم فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرجُ إلى بعض لا يذكرون إلاّ الصلح ، وكان أصحاب علي عشرين ألفاً، وخرج علي وطلحة  الزبير فتواقفوا فلم يروا أمراً أمثل مِن الصلح ووَضْع الحرب فافترقوا على ذلك.

وبعث عليّ مِن العَشيّ عبد الله بن عباس إلي طلحة والزبير وبعثاهما محمد بن أبي طلحة إلي عليّ ، وأرسل علي إلي رؤساء أصحابه ، وطلحة، والزبير ألى رؤساء أصحابهما بذلك فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح .

وقوع القتال

وبات الذين أثاروا أمرَ عثمان بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة ، وباتوا يتشاوَرُون [ ليلتهم ] فاجتمعوا على إنشاب الحرب [ في السر] فغدوا مع الغَلَس وما يُشْعَرُ بهم فخرجوا متسللين وعليهم ظُلْمة فقصد مُضرُهُم إلي مضرهم وربيعتهم إلي ربيعتِهم ويَمَنِهم إلى يمنهم فوضعوا فيهم السلاح ، فثار أهلُ البصرة، وثار كلُ قوم في وجوهِ أصحابهم الذين أتَوْهم ، وبعث طلحة والزبير إلي الميمنة وهم ربيعة أمًيراً عليها عبد الرحمن بن الحارث ، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب ، وثبتا في القلب وقالا : ما هذا؟قالوا :طَرَقَنَا أهلُ الكوفة نيلاً . فقالا : قد علمنا أنّ علياً غير مُنْتَهٍ حتى يَسْفِكَ الدماء وأنه لن يطاوعنا. فرد أهلُ البصرة أولئك الكوفيين إلي عسكرهم ، فسمع عليّ وأهلُ الكوفة الصوتَ وقد وضع السبئيةُ رجلاً قريباً منه يخبره بما يريد، فلما قال علي : مما هذا؟

قال ذلك الرجل : ما شعرنا إلاّ وقومٌ منهم قد بيتونَا فرددناهم فوجدنا القومَ على رجل فركبونا وثار الناس ، فأرسل عليّ صاحب الميمنة إلي الميمنة، وصاحب الميسرة إلى الميسرة وقال : لقد علمت أنّ طلحة والزبير غير منتهين حتى يسفكا الدماء وأنّهما لن يطاوعانا والسبئية لا تفتر.

ونادي عليّ في الناس : " كُفُّوا فلا شيء " . وكان من رأيهم جميعاً في تلك الفتنة أنْ لا يقتتلوا حتى يبدأوا يطلبون بذلك الحُجّة وأنْ لا يقتلوا مُدْبِراً، ولا يجْهِزُوا على جريح ، ولا يستحلوا سَلْباً، ولا يرزأوا بالبصرة سلاحاً ولا ثياباً ولا متاعاً .

وأقبل كعبُ بن سور حتى أتى عائشة فقال : أدركي فقد أبى القومُ إلاّ القتالَ لعل اللّهَ أنْ يصلَح بكِ. فركبتْ وألبسوا هودجها الأدراع ، فلما برزتْ من البيوت وهي على الجمل بحيثُ يسمع الغوغاء وقفت ، واقتتل الناسُ ، وقاتل الزبير فحمل عليه عمار بن ياسر فجعل يحوزه بالرمح والزبير كاف عنه وبقول : أتقتلني يا أبا اليقظان ؟

فيقول : لا يا أبا عبد الله . ط نما كَف الزبيرُ عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقتل عماراً الفئةُ الباغية ) ولولا ذلك لقتله .

ولينما عائشةُ واقفةٌ إذْ سمعتْ ضجةً شديدة فقالتْ : ما هذا؟ قالوا : ضجة العسكر قالت : بخيرٍ أو بشر ؟ قالوا : بشر فما فجأها إلا الهزيمة ، فمضى الزبير مِنْ وجهه إلى وادي السباع  وإنّما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيراً لما ذكر له علي .

وأما طلحة فأتاه سَهْمُ غَرْب  فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي : إلى إلى عبادَ الله . الصبر الصبر.

فقال له القعقاع بن عَمْرو: " يا أبا محمد إنك لجريح ، وإنك عما تريدُ لعليل ،فادخلْ البيوت " . فدخل وَدَمُهُ يسيل وهو يقول : " اللهم خُذ لعثمان مني حتي ترضى ". فلما امتلأ خُفهُ دماً وثَقُلَ قال لغلامه : أردفني ، وأمسكني ، وأبلغني مكاناً أنزل فيه . فدخل البصرة فأتي له في دار خربة فمات فيها .

وقيل : إنه اجتاز به رجلٌ من أصحاب علي فقال له: أنت من أصحاب أمير المؤمنين ؟ قال : نعم قال : أمدد يدك أبايعك له . فبايعه فخاف أنْ يموتَ وليس في عُنُقِه بيعة . ولما قضى دفن في بني سعد، وقال : لم أر شيخاً أضيع دَماً مِنِّي ، وتمثل عند دخول البصرة مثله ومثل الزبير:

فَإنْ تَكُنِ الخوَادِثُ أقْصَدَتْنِي وَأخْطَأهنَّ سَهْمِي حِيْنَ أرْمِي

فَقَد ضيعْتُ حِيْنَ تَبِعْتُ سهماً سَفَاهاً(4)ما سَفِهْتُ وَضَلَّ حِلْمِي

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِي لمَّا شَرَيْتُ رِضَا بني لسم بِرَغْمِي

أطَعْتهُمُ بِفُرْقَةِ آلِ لأيٍ .فَألْقَوا لِلسبَاعِ دَمِي وَلَحْمِي

وكان الذي رمى طلحة مَرْوان بن الحكم ، وقيل غيره .

وأما الزبير فانه مَر بعسكر "لأحنف بن قيس فقال : " والله ما هذا انحيازُ جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضُهم بعضاً لحق ببيته .

وقال الأحنف للناس : مَنْ يأتيني بخبره ؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه : أنا .

فاتبعه ، فلما لحقه نظر إليه الزبير قال : ما وراءك ؟ قال : إنما أريد أنْ أسألك . فقال غلامٌ للزبير اسمه عطية: إنه معد. قال : ما يهولك مِنْ رجلٍ وحضرتْ الصلاة . فقال ابن جرموز: الصلاة! فقال الزبير: الصلاة!

فلما نزلا استدبره ابن جرموز فطعنه في جربان دِرْعه فقتله وأخذ فَرَسَه وسِلَاحه وخاتمه وخلَّى عن الغلام فدفنه بوادي السباعِ ورجع إلى الناس بالخبر، وقال الأحنف لابن جرموز: والله ما أدري أحسنتَ أمْ أسأت .

فأتى ابن جرموز عَلِياً فقال لحاجبه : استأذن لقاتل الزبير.

فقال علي : ائذنْ له وبَشرْه بالنار.

وأحضِر سيفُ الزبير عند علي فأخذه فنظر إليه وقال : " طالما جَلى به الكُرَب عن وَجْه رسول الله صلى الله عليه وسلمَ "! وبَعَث به إلى عائشة لما انجلتْ الوقعة وانهزم الناسُ يريدون البصرة، فلما رَأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلباً كما كانوا حيث التقوا وعادوا في أمر جَدِيد ووقفتْ ربيعة بالبصرة ميمنة وبعضهم ميسرة، وقالت عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس لكعب بن سور: " خَل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعُهُم إليه ) وناولته مصحفاً، فاستقبل القومَ والسبئيةُ أمامهم فرموه رشقاً واحداً فقتلوه ، ورَمُوا أم المؤمنين في هَوْدجها فجعلتْ تنادي : " البقية البقية يا بني " ويعلو صوتها كثرة الله الله اذكروا الله والحساب فيأبون إلا إقداماً، فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أنْ قالت : " أيها الناس العنوا قَتَلَة عثمان وأشياعَهم ، وأقبلتْ تدعو، وضجَ الناسُ بالدعاء ، فسمع علي فقال : ما هذه الضجة؟ .

قالوا :عائشة تدعو على قَتَلَة عثمان وأشياعهم . فقال علي : ال هم [ل هنْ قتلة عثمان .

فأرسلت إلي عبد الرحمن بن عتاب ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنًْ أثبتا مكانكما، وحرضَتْ الناسَ حين رأتْ القومَ يريدونها ولا يَكُفون فَحَمَلَت مُضَر البصرة حتى قصفت مضر الكوفة حتى زُحم علي فَنَخسَ [ عليٌّ ] قفا ابنه " محمد ،- وكانت الرايةُ معه - وقال له : أحملِ ، فتقدمَ حى لم يجد متقدماً إِلا على سِنَان رمح فأخذ في الراية مِنْ يده وقال " يا بُني : بين يدي " .

وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا قدام الجمل حتى ضرسوا  والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئاً ومع علي قوم مِنْ غير مضر منهم زيد بن صوحان طلبوا ذلك منه فقال له رجل : تنح إلى قومك مالك ولهذا الموقف ؟ ألست تعلم أن مضر بحيالِك والجملُ بين يديك وأنٌ الموت دُونه ؟
فقال : الموت خير من الحياة، الموتُ أريد .

فأصيب هو وأخوه سيحان وأرتث صعصعة أخوهما واشتدتْ الحربُ . فلما رأى عليّ ذلك بعث إلى ربيعة وإلى اليمن أنْ أجمعوا مَنْ يليكم ، فقام رجل مِنْ عبد القيس من أصحاب علي فقال : ندعوكم إلى كتاب الله . فقالوا : وكيف يدعونا إليه مَنْ لا يستقيمُ ولا يقيم حدودَ الله ، وقد قتل كعب بن سور داعي الله ؟ ورمته ربيعة رشقاً واحداً فقتلوه ، فقام مسلم بن عبد الله العجلي مكانه فرشقوه رشقاً واحداً فقتلوه ، ودَعَتْ يَمَنُ الكوفة يمن البصرة فرشقوهم ، وأبى أهلُ الكوفة إِلا القتال ولم يريدوا إلا عائشة فذكرت أصحابها فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا ، ثم رجعوا فاقتتلوا وتزاحف الناسُ وظهرتْ يَمَنُ البصرة على يَمَنِ الكوفة فهزمتهم ، وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم ، ثم عاد يَمَنُ الكوفة فقُتِلَ على رايتهم عشرة خمسة مِنْ هَمْدان وخمسة مِنْ سائر اليمن فلقا رأى ذلك يزيد،بن قيس أخذها فثبتت في يده وهو يقول :
قدْ عِشتِ يَا نَفْسي وَقَدْ عشيت دهراً فقدك اليوم ما بقيت

أطلب طول العمر ما حَببتِ

وإنما تمثلها، وقال ابن أبي نِمْران الهَمْداني :

جردْتُ سَيْفِي فِي رجَالِ الأزْدِ أضْرِبُ في كُهُولهِمْ والمُرْدِ

كُل طَويلٍ الساعدَيْن نَهْدِ

ورجعتْ ربيعةُ الكوفة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل على رايتهم وهم في الميسرة زيد، وعبد الله بن رقبة ، وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول : اللهم أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا مِن الجهالة، وابتليتنا بالفِتْنَة فكنا في شبهة وعلى ريبة وقتل .

واشتدّ الأمرُ حتي لزقتْ ميمنةُ أهل الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أنْ يختلطوا بقلبهم وإنْ كانوا إلى جنبهم وفَعَل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة، فلما رأي الشجعان مِنْ مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادُوا : طَرِّفُوا  إذا فرِغ الصبر. فجعلوا يقصِدون الأطراف الأيدي والأرجل رُوي وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعاً مقطوعة ولا رِجْلاً مقطوعة، وأصيبت يدُ عبد الرحمن بن عتاب قبل قتله فنظرتْ عائشةُ مِنْ يسارِها فقالت : مَنْ القوم عن يساري ؟ قال صبرة بن شيمان : بَنُوكِ الأزد . فقالت : يا آل غسان حافِظوا اليوم فجلادكم الذي كنا نسمع به . وتمثلت :

وَجَالَدَ مِنْ غَسانَ أهْلُ حِفاظِهَا وَكَعبوأوْسٌ جالَدَتْ وشَبيبٌ

فكان الأزدُ يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك . وقالت لمن عن يمينها : مَنْ القوم عن يميني ؟ قال : بكر بن وائل . قالت : لكم يقول القائل :

وجاؤوا إلَيْنَا فِي الحَدِيْد كَأنهُمْ مِنَ العِزةِ القَعْساء بكْرُ بنُ وائل

إنما بإزائكم عبد القيس فاقتتلوا أشدَّ من قتالهم قبل ذلك .

وأقبلت على كتيبةٍ بين يديها فقالت : من القوم ؟ قالوا : بنو ناجية . قالت : بَخٍ بَخٍ سيوف أبطحية قرشيّة فجالِدوا جلاداً يُتفادي منه .

ثم أطافتْ بها بنو ضبّة فقالت : ويهاً جمْرةَ الجمرات . فلما رقُّوا خالطهم بنو عدي بن عبد مناة وكثروا حولها فقالت : من أنتم ؟ قالوا : بنو عدي خالطنا إخوتنا. فأقاموا رأس الجمل وضربوا ضرباً شديداً ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعاً راموا الجمل وقالوا : لا يزال القوم أو يُصرعَ الجملُ وصار مجنبتا عليّ إلى القلب ، وفعل ذلك أهلُ البصرة، وكَرِهَ القومُ بعضهم بعضاً، وأخذ عميرة بن يثربي برأس الجمل وكان قاضي البصرة قَبْل كعب بن سور فشهد الجمل هو وأخوه عبد الله فقال علي : مَنْ يحمل على الجمل ؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملي المرادي فاعترضه ابن يثربي فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي ، ثم حمل علْباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله وقتل سَيحان بن صوحان وارتث صعصعة، وقال ابن يثربي :

أنا لِمنْ يُنْكِرُني ابنُ يَثْربي قاتل عِلْباءَ وهِنْدِ الجملي

وابْنٍ لِصُوحَانَ عَلَى دِيْنِ عَلِيّ

وقال ابن يثربي أيضاً :

أضْرِبُهُم وَلا أرَي أبا حَسَنْ كَفَى بَهَذا حَزَناً مِن الحزنْ

إنا نُمِرُّ الأمَر إمرارَ الرسَنْ

فناداه عمار : لقد عُذْتَ بحريزٍ وما إليك مِنْ سبيل فإنْ كنتَ صادقاً فاخرجْ مِنْ هذه الكتيبة إلي .

فترك الزمامَ في يدِ رجلٍ مِنْ بني عدي حتى إذا كان بين الصفين تقدّم عمار-وهو ابن تسعين سنة، وقيل : أكثر من ذلك -عليه فرو قد شَد وسطه بحبل ليف وهو أضعف مِنْ مبارزة واسترجع الناسُ وقالوا : هذا لاحق بأصحابه وضربه ابن يثربي فاتقاه عمار بدرقته فنشب سيفَه فيها فعالجه فلم يخرج وأسف عمار لرجليه فضربه فقطعهما فوقع على إسته وأخِذَ أسيراً فأتيَ به إلي عليّ فقال : استبقني . فقال : أبعد ثلاثة تقتلهم ! وأمر به فَقُتِل وقيل : إن المقتول عمرو بن يثربي وأن عميرة بقي حتى ولي قضاءَ البصرة مع معاوية. ولما قُتل ابن يثربي تولى ذلك العدوي الزمام فتركه بيد رجلٍ من بني عدي وبرز فخرج إليه ربيعة العقيلي يرتجز ويقول :

يَا أمنَا أعَق أمّ نَعْلَم وَالأم تَغْذو وَلَداً وتَرْحَمُ

ألا تَرَينَ كَمْ شجَاعٍ يُكْلَمُ وَتُخْتَلَى مِنْهُ يَد وَمِعْصَمُ

( كذب فهي من أبر أم نعلم ) ثم اقتتلا فاثخن كُل واحدٍ منهما صاحبه فماتا جميعاً، وقام مقام العدوي الحارث الضبي فما رُويَ أشد منه وجعل يقول :

نَحْنُ بَنو(1) ضَبَة أصحَابُ الجَمَلْ نُبَارِزُ القَرْنَ إذا القَرْنُ نَزَلْ

نَنْعي ابنَ عَفانَ بأطْرَاف الأسَل الموتُ أخلَى عِندَنَا مِن العَسَلْ

رُدوا عَلَيْنَا شَيخَنَا ثُمَّ بَجَلْ

وقيل : إن هذه الأبيات لوسيم بن عَمْرو الضبي وكان عمرو يُحرض أصحابه يوم الجمل وقد أخذ الخطام ويقول :

نحن بنو ضبة لا نَفِر حَتى نَرَى جماجماً تَخِر

يَخر منها العَلَقُ المُحمَر

ويقول :

يا أمتايا عَيْشُ لن تُراعي كُل بَنِيكِ بَطَلٌ شُجَاعُ

ويقول :

يا أمتا يَا زَوْجَةَ النَبى يَا زوجة النبى المبارك المَهْدِي

ولم يزل الأمر كذلك حتى قُتِلَ عَلى الخطام أربعون رجلاً : قالت عائشة : " ما زال جملي معتدلاً حتى فقدتُ أصواتَ بني ضبة " .

قال : وأخذ الخطام سبعون رجلاً مِنْ قريش كلهم يُقْتل وهو آخذٌ بخطام الجمل - وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة وقال : يا أمتاه مريني بأمرك . قالت : آمرك م نْ تكونَ خير بني آدم إنْ تُرِكتَ .

فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل [ عليه ] وقال : حاميم لا يُنْضرُون . واجتمع عليه نفر كلهم ادعى قتله : المكْعبر الأسدي ، والمكعبر الضبّي ، ومعاوية بن شداد العبْسي ، وعمار  السعدي النصري فأنفذه بعضهم بالرمح ففي ذلك يقول :

وأشعَثَ قَوامٍ بآياتِ ربهِ قَليْل الأذى فيما تَرَي العَيْنُ مُسْلمِ هَتكتُ له بالرمحِ جَيْبَ قَمِيْصِهِ فَخرَ صَريْعاً لليَدَيْنِ وللفَمِ

يُذَكرُنِيِ حَاميم والرمحُ شاجِرَ فَهَلا تَلَا حَاميمَ قَبْلَ التقَدُّمِ

عَلَن غيْرِ شَيْء غيرَ أنْ ليسَ تَابِعاً عَلِتاً وَمَنْ لاَ يَتْبَع الحَق يَنْدَمِ

وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بالسيف ، فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول :

يا أمنا يَا خَيْرَ أم نَعْلَمُ أمَا تَرَينَ كَنم شُجَاع يُكْلَمُ

وتَخْتَلِي هَامَتُهُ وَالمِعْصَمًُ

فاختلفا ضربتين فقتل كُلُّ واحدٍ منهما صاحبه ، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة فكان لا يأخذ الخِطَام أحدٌ إلا قُتِلَ ، وكان لا يأخذه والراية إلا معروفٌ عند المطيفين بالجمل فينتسب : أنا فلان بن فلان ، فوالله إنْ كان ليقاتِلون عليه وإنه لَنمَوْت لا يُوصَل إليه إلا بطلبة وعَنَت ، وما رامه أحدٌ مِنْ أصحاب علي إلا قُتل أو أفلت ثم لم يعد، وحَمَلَ عَدِي بن حاتم الطائي عليهم فَفُقِئت عينه .

وجاء عبد الله بن الزبير ولم يتكلم فقالت : مَنْ أنت ؟ فقال : ابنك ابنُ أختك . قالت : واثُكل أسماء .

وانتهىٍ إليه الأشتر فاقتتلا فضربَه الأشترُ على رأسه فجرحه جُرحاً شديداً ، وضربه عبدُ الله ضربة خفيفة، واعتنق كل رجل منهما صاحبه وسقطا إلى الأرض يعتركان فقال ابن الزبير:

اقتُلُوني وَمَالِكاً وَاقْتُلُوا مَالِكاً مَعي

فلو يعلمون مَنْ مالك لقتلوه إنما كان يعرف بالأشتر، فحمل أصحابُ علي وعائشة فخلّصوهما .

قال الأشتر: لقيتُ عبد الرحمن بن عتاب فلقيتُ أشد الناس وأخرقه ما لبثته أنْ قتلته، ولقيتُ الأسود بن عوف فلقيتُ أشدّ الناس وأشجعه فما كدتُ أنجو منه فتمنيتُ أنّي لم أكن لقيته ، ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته فقتلته . قال : ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش وهو يقاتل عَدِيّ بن حاتم وهما يتصاولان تصاول الفَحْلَين فتعاورناه فقتلناه [ يعني عبد الله ] . قال : وأخذ الخِطَام الأسود بن أبي البختري فقُتل وهو قرشي أيضاً، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقُتل معه ثلاثة عشرٍ رجلاً من أهل بيته وهو أزدي ، وجُرح مَرْوان بن الحكم ، وجُرح عبد الله بن الزبير ه سبع وثلاثين جراحة مِنْ طعنةٍ ورَمْية . قال : وما رأيت مثل يوم الجمل ما ينهزمُ منا أحدً وما نحن إلاّ كالجبل الأسود، وما يأخذُ بخِطام الجملِ أحد إلاّ قُتل حتى ضاع الخطام ، ونادى علي : " اعقروا الجمل فإنه إنْ عُقِر تفرقوا ، . فضربه رجل فسقط ، فما سمعتُ صوتاً قط أشد مِنْ عجيج الجمل ، وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع محنف بن سليم فقُتل وأخذها الصقعب وأخوه عبد الله بن سليم فقتل ، وأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهي بيده .

وكانت رايةُ عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل ، وقتل معه زيد، وسيحان ابنا صوحان ، وأخذها عدة نفر فقُتِلوا منهم عبد الله بن رقية، ثم أخذها منقذ بن النعمان فدفعها إلى ابنه مُرَّة بن منقذ فانقضى الحربُ وير في يده . وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحارث بن حسان الذهلي فأقدم وقال : يا معشر بكر لم يكن أحد له من رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثل منزلة صاحبكم [ فانصروه ] . فتقدم وقاتلهم فقُتل ابنه وخمسة من بني أهله ، وقُتل الحارث ، فقيل فيه :

أنْعَى الرئيسَ الحارب بنَ حَسان لِآلِ ذُهْلٍ وَلآلِ شَيْبَانَ

قال رجل من بني ه ذُهْل :

تَنْعَى لنا خيرَ امرِىءٍ مِنْ عَدْنَانْ عند الطِّعَانِ وَنزالِ الأقْرَانْ

وقال أخوه بشر بن حسان :

أنا ابنُ حَسَّانَ بنِ خُوطٍ وَأبِي رسولُ بَكْرٍ كلّها إلى النَبيّ

وقتل رجال من بني محدوج ، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً .

وقالَ رجل لأخيه وهو يقاتل : يا أخي ما أحسن قتالنا إنْ كُنا على الحق ؟ قال : فإنّا على الحق إن الناسَ أخذوا يميناً وشمالاً وإنّا تمسّكنا بأهل بيت نبينا فقاتلا حتى قُتِلاَ . وجرح يومئذ عمير بن الأهلب الضبي فمر به رجل من أصحاب علي وهو في الجرحى يفحص برجليه ويقول :

لَقَدْ أوْرَدَتْنَا حَوْمَةَ المَوْتِ أمنَا فَلَمْ نَنْصَرِفْ إلاّ وَنَحْنُ رِواءُ

لَقَد كَان فِي نَصْر ابن ضَبةَ أمَهُ وَشِيعَتَها مَندوحةٌ وغَنَاءُ

أطَعنا قُريشاً ضلةَ من حلومنا ونصرتنا أهلُ الحِجَاز عناءُ أطَعْنَا بني تَيمِ .بن مُرة شَقْوَةً وَهَل تَيْم إلا أعْبُدُ وإمَاءُ

فقال له الرجل : قل لا إله إلا الله . قال : ادن مني فلقّني فبي صَمَمٌ . فدنا منه الرجلُ فوثب عليه فعض أذُنَه فقطعها.

وقيل في عَقْر الجمل : إنّ القعقاع لقي الأشتر وقد عاد مِن القتال عند الجمل فقال : هل لك في العَوْد؟ فلم يجبه فقال : يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك ، وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحارث وكان آخر مَنْ أخذ الخطام فلم يبق شيخٌ من بني عامر إلا أصيب قدام الجمل وزفر بن الحارث يرتجز ويقول :

يا أمتا مثلك لا يراع كل بنيك بطل شجاع

ليس بوَهواه (1) ولا براع

وقال القعقاع :

إذا وَرَدْنَا اجِناً جَهَرْنَاه ولا يُطاق وردُ ما منعناه

وزحف إلى زفر بن الحارث الكلاعي وتسرعت عامر إلى حربه فأصيبوا فقال القعقاع لبجير بن دلجة- وهو مِنْ أصحاب علي -: يا بجير بن دلجة صِح بقومك فليعقروا الجمل قبل أنْ تصابوا وتصاب أم المؤمنين .

فقال بجير: يا آل ضبة، يا عمرو بن دلجة : ادع بي إليك . فدعاه فقال : أنا آمن حق أرجع عنكم . قال : نعم . فاجتث ساق البعير فرمى نفسه على شِقه وجرجر البعير فقال القعقاع لمن يليه : أنتم آمنون . واجتمع هو وزفر على قَطعِ بطان البعير، وحَمَلَا الهودج فوضعاه وإنه كالقنفذ لما فيه مِن السهَام ، ثم أطافا به وفز مَنْ وراء ذلك مِن الناس .

فلما انهزموا أمر علي منادياً فنادي : " ألا لا تتبعوا مدبِراً، ولا تُجْهِزُوا على جريح ، ولا تدخلوا الدُّور " .

وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج مِنْ بين القتلى ، وأمر أخاها محمد بن أبي بكر أنْ يضرب عليها قُبة وقال : " انظرْ هل وَصَلَ إِليها شيء مِنْ جراحة ".

فأدخل رأسه في هودجها فقالت : من أنت ؟ فقال : أبغضُ أهلِك إليك . قالت : ابن الخثعمية؟ قال : نعم . قالت : يا بأبي الحمد الله الذي عافاك . وقيل : لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عَمار فاحتملا الهودج فنّحياه فأدخل محمد يده فيه فقالت : مَنْ هذا؟ فقال : أخوك البَر. قالت : عقق (2) . قال : يا أخَيَّة هل أصابكِ شيءٌ ؟ قالت : ما أنمتَ وذاك . قال : فَمنْ إذاً الضلال ! قالت : بل "لهُدَاة . وقال لها عمار: كيف رأيتِ ضَرْب بَنْيِك اليوم يا أفه ؟ قالت : لستُ لك بأم . قال : بلي وإنْ كرهتِ .

قالت : فخرتم أنْ ظفرتم ! وأتيتم مثل الذي نقمتم ! هيهات والله لن يظفر مَنْ كان هذا دأبه ! فأبرزوا هودجها فوضعوها ليس قُرْبَها أحدٌ .

وأتاها عليّ فقال : كيف أنت يا أمّه ؟ قالت : بخير. قال : يغفُر الله لكِ . قالت : ولَك .

وجاء أعيَن بن ضُبيعة بن أعين المجاشعي حتي أطلع في الهَودَج فقالت : إليكَ لعنك الله .

فقال : والله ما أري إلا حُمَيْرَاء . فقالت له : هتك الله سترك ، وقطع يدك ، وأبدي عورتك . فقُتل بالبصرة، وسُلب ، وقطعتْ يده ، ورُمِيَ [ به ] عُريانا في خَرِبة من خرابات الأزد .

ثم أتى وجوهُ الناس عائشة وفيهم القعقاع بن عَمرو فسلم عليها فقالت : إني رأيتُ بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك ؟
قال : نعم ذاك الذي قال : أعَق أمّ نعلم وكذب إنك لأبر أمّ نعلم ولكن لم تطَاعي . قالت : والله لوددتُ أني متُ قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
وخرج من عندها فأتي علياً فقال له عليّ : والله لوددتُ أني مِتُ مِنْ قبل اليوم بعشرين سنة . وكان عليّ يقول ذلك اليوم بعد الفراغ من القتال :

إليك أشكو عُجَرِي وبُجَرِي ومَعْشَراً أغْشَوا عَلي بَصَري

قَتَلْتُ مِنهم مُضَراً بمضري شَفَيْتُ نفسي وقَتَلْتُ مَعْشَرِي

فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر البصرة فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وهي أمّ طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف ، وتسلل الجرحى مِنْ بين القتلى ليلاً فدخلوا البصرة فأقام عليّ بظاهر البصرة ثلاثاً .

[ دفن القتلى ] :

وأذِنَ للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم ، وطاف علي في القتلى فلما أتى على كعب بن سور قال : " أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحَبْر قد ترون " . وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال : هذا يَعْسُوبُ القوم -يعني أنهم كانوا يطيفون به - واجتمعوا على الرضابة لصلاتهم .

ومَرّ على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال : " لهفي عليك يا أبا محمد، إنّا لله وإنا إليه راجعون . والله لقد كنتُ أكرهُ أنْ أري قُرَيشاً صرعى ، أنتَ والله كما قال الشاعر : فتى كان يدنيه الغنى مِنْ صديقه إذا ما هو استغنى وببعده الفقر وجعل كلما مرّ برجل فيه خير قال : " زعم مَنْ زعم أنه لم يخرج إلينا إلاّ الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم !.

وصلى علي على القتلى مِنْ أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش مِنْ هؤلاء وهؤلاء، وأمَرَ فدُفنت الأطراف في قبر عظيم ، وجمع ما كان في العسكر شيء وبعث به إلي مسجد البصرة وقال : " مَنْ عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سِمة ا لسلطان " .

عدد قتلى الوقعة

كان جميع القتلى عشرة آلاف نِصْفهم مِنْ أصحاب علي ونصفهم مِنْ أصحاب عائشة، وقيل : غير ذلك .

وقُتل مِنْ ضبة ألف رجل ، وقُتل مِنْ بني عدي حول الجمل سبعون رجلاً كلهم قد قرأ القرآن سوي الشباب ومَنْ لَمْ يقرأ .

ولَما فرغ علي مِن الوقعة أتاه الأحنف بن قيس في بني سعد وكانوا قد اعتزلوا القتال فقال له علي : تربصتَ ؟

فقال : ما كنتُ أراني إلا وقد احسنتُ وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين ، فارفق فإن طريقك الذي سلكتَ بعيد، وأنتَ إليّ غداً أحوج منك أمس فاعرفْ إحساني ، واستصف مودَّتي لغدٍ، ولا تَقُلْ مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً .

ثم دخل عليٌّا لبصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة في المستأمنين أيضاً فقال له علي : وما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً - يعني أباه أبا بكرة - فقال : واللّه إنّه لمريض ، وإنه علن مسرّتك لحريص .

فقال علي : امشِ أمامي . فمشى معه إلى أبيه فلما دخل عليه عليّ قال له : تقاعدت بي وتربصتَ ؟ ووضع يده على صدره وقال : " هذا وَجَعٌ بَيِّن "ا، واعتذر إليه فقبِل عُذْرَه ، وأراده على البصرة فامتنع ، وقال : رجلٌ مِنْ أهلك يسكنُ إليه الناس وسأشير عليه . فافترقا على ابن عباس .

وولي زياداً على الخراج وبيت المال ، وأمر ابن عباس أنْ يسمع منه ويطيع ، وكان زياد معتزلاً ثم راح إلى عائشة وهي في دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة فوجد النساء يبكين على عبد الله ، وعثمان ابني خلف -وكان عبد الله قُتل مع عائشة، وعثمان قُتل مع علي -وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكي فلما رأته قالت له : " يا عليّ : يا قاتل الأحبّة، يا مفرق الجمع أيتم اللهُ منك بنيك كما أيتمتَ ولد عبد الله منه " . فلم يرد عليها شيئاً، ودخل على عائشة فسلّم عليها وقعد عندها، ثم قال : جبهتنا صفية . أما إنّي لم أرها منذ كانت جارية . فلما خرج عليّ أعادْت عليه القول فكفّ بغلته وقال : " لقد هممتُ أنْ أفتح هذا الباب - وأشار إلى بابٍ في الدار- وأقتُل مَنْ فيه " وكان فبه ناسٌ مِن الجرحى فأخبر عليّ بمكانهم فتغافل عنهم فسكت ، وكان مذهبه أنْ لا يقتل مُدْبِراً، ولا يذفف على جريح ، ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالاً .

ولما خرج علي مِنْ عند عائشة قال له رجل مِنْ أزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة . فغضب وقال : " مَهْ لا تهتكن ستراً ، ولا تدخلنّ داراً ، ولا تُهَيّجَنّ امرأة بأذى وإنْ شتمنَ أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم فإن النساءَ ضعيفات ، ولقد كنا نؤمَر بالكفِّ عنهن وهن مشركات فكيف إذا هن مسلمات .

ومضى علي فلحقه رجلٌ فقال له : يا أمير المؤمنين قام رجلان على الباب فتناوَلَا مَنْ هوامض شتيمة لك مِنْ صفية .

قال : ويحك لعلها عائشة؟ قال : نعم قال أحدهما : جزيت عنا أمنا عقوقنا . وقال الأخر: يا أمي توبي فقد أخطأتِ.

فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا على رجلين من أزد الكوفةِ وهما عجلان ، وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط وأخرجهما مِنْ ثيابهما . وسألتْ عائشةُ يومئذ عَقن قُتل مِن الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها فَكلمَا نعي واحد مِن الجميع قالت : " يرحمه الله ،. فقيل لها: كيف ذلك ؟

قالت : كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان في الجنة، وفلان في الجنة. وقال علي :

إني لأرجو أنْ لا يكون أحدُ نقٌي قلبه لله مِنْ هؤلاء إلا أدخله الله الجنة .

ثم جهز عليّ عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب ، وزاد، ومتاع ، وغير ذلك ،وبعث معها كُل مَنْ نجا ممن خرج معها إلا مَنْ أحب المقام ، واختار لها أربعين امرأة مِنْ نساء البصرة والمعروفات ، وسَيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلتْ فيه أتاها عليّ فوقف لها وحضر الناسُ فخرجتْ وودعتهم وقالت : يا بني لا يعتب بعضُنا على بعض ، إنه والله ما كان بيني وبين عليِّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها ،وإنه على معتبتي لمن الأخيار.

وقال علي : " صدقتْ والله ما كان [بيني ] وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة " .

وخرجتْ يوم السبت غرة رجب وشَيَّعَهَا أميالاً وسرح بنيه معها يوماً فكان وجهها إلى مكة فأقامتْ إلى الحج ثم رجعت إلى المدينة وقال لها عمار حين ودعها : " ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عُهد إليك .

قالت : والله إنك ما علمتُ لقوال بالحق. قال : الحمد لله الذي قضى على لسابك لي .

وأما المنهزمون فقد ذكرنا حالهم وكان منهم عتبة بن أبي سفيان فخرج هو،وعبد الرحمن ، ويحى ابنا الحكم فساروا في البلاد فلقَيهم عصمة بن أبي التيمي فقال لهم : هل لكم في الجوار؟ فقالوا : نعم . فأجارهم وأنزلهم حتى برأتْ جراحُهم وسَيرهم نحو الشام في أربعمائة راكب ، فلما وصلوا إلى دَوْمة الجَنْدل قالوا : قد وَفَيْتَ ذمتك وقضيتَ ما عليك . فرجع .

وأما ابن عامر فإنه خرج أيضاً فلقيه رجلٌ من بني حرقوص يدعى مُري فأجاره وسيّره إلى الشام .

وأما مَرْوان بن الحكم فاستجار بمالك بن مسمع فأجاره ، ووَفَّي له ، وحَفِظَ له بنو مَرْوان ذلك في خلافتهم ، وانتفع بهم وشرّفوه بذلك .

وقيل : إن مروان نزل مع عائشة بدار عبد الله بن خلف وصحبها إلي الحجاز،فلما سارتْ إلى مكة سار إلى المدينة .

وأما عبد الله بن الزبير فإنه نزل بدار رجل من الأزد يدعي وزيراً فقال له : أنتِ أمَ المؤمنين فأعلمها بمكاني ولا يعلم محمد بن أبي بكر. فأتى عائشة فأخبرها فقالت : عليٌّ بمحمد.

ففال لها إنّه قد نهاني أنْ يعلم محمد. فلم تسمع قوله وأرسلت إلى محمد وقالت : اذهب مع هذا الرجل حتى تأتيني بابن أختك . فانطَلقَ معه وخرج عبد الله ومحمد حتى انتهيا إلى دار عائشة في دار عبد الله بن خلف .

ولما فرغ عليّ مِنْ بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فرأي فيه ستمائة ألف وزيادة فقسّمها على مَنْ شهد معه فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة فقال لهم : أنْ أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم فخاض في ذلك السبئية وطعنوا علن عليّ مِنْ وراء وراء، وطعنوا فيه أيضاً حين نهاهم عن أخذ أموالهم فقالوا : ما يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم ؟ فقال لهم علي : القوم أمثالكم مَنْ صفح عنا فهو منا ومَنْ لجّ حتي يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.

وقال القعقاع : ما رأيتُ شيئاً أشبه بشيء مِنْ قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين ،لقد رأيتُنا ندافعهم بأسنتنا ونتكىء علي أزجتنا وهم مثل ذلك حتى لو أنّ الرجال مشتْ عليها لا ستقلت بهم وقال عبد الله بن سنان الكاهلي : لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت ، وتطاعنا بالرماح حتى تكسّرت وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارتْ ، ثم قال عليّ : "السيوف يا بني المهاجرين " فما شبهتُ أصواتها إلاّ بضرب القصارين ، وعَلِم أهلُ المدينة بالوقعة يوم الحرب قبل أنْ تغرب الشمس مِنْ نِسْرٍ مَرّ بماش حول المدينة ومعه شيء معلّق فسقط منه فإذا كف فيه خَاتَم نقشه : "عبد الرحمن بن عتاب "، وعلم مَنْ بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام .

وأراد عليّ المقام بالبصرة لِإصلاح حالها فأعجلته السبئية عن المقام فإنهم ارتحلوا بنير إذنِهِ فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إنْ أرادوه .

وتجد قيل في سبب القتال يوم الجمل غير ما تقدم مع الاتفاق على مسير أصحاب عائشة ونزولهم البصرة والوقعة الأولى مع عثمان بن حنيف وحُكَيْم .

وأما مسير عليّ ، وعزل أبي موسى فقال فيه : إن علياً لَمّا أرسل محمد بن أبي بكر إلي أبي موسى وجري له ما تقدّم سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى علي بالربذة فأعلمه الحال فأعاده علي إلي أبي موسى يقول له : أرسل الناس فإني لم أوَ لَك إلاّ لتكون مِنْ أعواني علي الحق . فامتنع أبو موسى، فكتب هاشم إلي علي : إني قدمتُ على رجل غالّ ، مشاقق ، ظاهر الشنئان وأرسل الكتاب مع المحل بن خليفة الطائي فبعث عليّ الحسن ابنه ، وعمار بن ياسر يستنفران الناس ، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً، وكتب معه إلي أبي موسى : إني قد بعثتُ الحسن وعماراً يستنفران الناس، وبعثتُ قرظة بن كعب والياً على الكوفة فاعتزلْ عملنا مذموماً مدحوراً وان لم تفعل فإني قد أمرته أنْ ينابذك فإنْ نابذتَه فظفر بك يقطعك إرباً إرباً فلما قدم الكتاب على أبي موسي اعتزل ، واستنفر الحسنُ الناس فنفروا نحو ما تقدم ، وسار عليّ عن نحو البصرة فقال جون بن قتادة : كنتُ مع الزبير فجاء فارس يسير فقال : السلام عليك أيها الأمير. فرد عليه فقال : إنّ هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا فلم أر أرَثّ سلاحاً، ولا أقلّ عدداً، ولا أرعب قلوباً منهم . ثم انصرف عنه وجاء فارس آخر فقال له : إنّ القوم قد بلغوا مكان كذا وكذا فسمِعوا بما جمع اللَّهُ لكم مِن العدد والعدة فخافوا فولّوا مدبرين . فقال الزبير: أيها عنك فوالله لو لم يجد علي بن أبي طالب إلا العرفج  لدب إلينا فيه فانصرف .

وجاء فارس وقد كادت الخيلُ تخرج مِن الرهج فقالى : هؤلاء القوم قد أتوك فلقيت عمار فقلت له وقال لي فقال الزبير: إنه ليس فيهم . فقال الرجل : بلى والله إنه لقيهم. فقال الزبير: والله ما جعله الله فيهم . فقال الرجل : بلى والله . فلما كرر عليه أرسل الزبير رجلين ينظران فانطلقا ثم رجعا فقالا : صدق الرجلُ . فقال الزبير: يا جَدع أنفاه ، يا قَطْع ظهراه . ثم أخذته رعْدَة فجعل السلاح ينتفض قال جون : فقلت : "ثكلتني أمي ! هذا الذي كنت أريد أنْ أموت معه أو أعيش ! ما أخذه هذا الأمر إلا لشيءٍ سمعه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وانصرف جون فاعتزل ، وجاء عليّ فلما تواقف الناسُ دعا الزبير وطلحة فتوافقوا.. . وذكر مِنْ أمر الزبير وعَوده وتكفيره عن يمينه مثل ما تقدم ، فلما أبوا إلا القتال قال علي :أيكم يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه فإنْ قطعت يده أخذه بيده الأخرى فإنْ قطعت أخذه بأسنانه وهو مقتول فقال شاب : أنا . فطاف به على أصحابه فلم يُجِبه إلاّ ذلك الشاب ثلاث مرات فسلّمه إليه فدعاهم فقُطعت يَدُه اليُمْنَى فأخذه باليسرى فقطعتْ فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه فقُتل فقال علي : الآن حلّ قتَالُهم . فقالت أم الفتى :

لا هُمَّ إنّ مسلماً دعاهم يتلو كِتَابَ الله لا يخشاهم

وَأمُّهُم قائمَة تُرَاهم تأمرُهم بالقتل لا تنهاهم

قَدْ خضبت مِنْ علق لحاهم

وحملت ميمنة علي على ميسرتهم فاقتتلوا فلاذ الناسُ بعائشة وكان أكثرهم مِنْ ضبة والأزد، وكان قتالهم مِن ارتفاع النهار إلي قريبٍ مِنْ العصر ثم انهزموا ، ونادي رجلٌ من الأزد : "كروا " فضربه محمد بن علي فقطع يده فقال : "يا معشر الأزد فِروا" .


واستحرّ القتلَ في الأزد فنادَوا : "نحن على دين علي " فقال رجل من بني ليث :

سائل بنا حين لقينا الأزدا والخيل تعدو أشقراً وورداً

لما قطعنا كبدهم والزندا سُحْقاً لهم في رأيهم وبُعْداً

وحمل عمار بن ياسر على الزبير فجعل يحوزه بالرمح فقال : أتريدُ أنْ تقتلني يا أبا اليقظان ؟ فقال : لا يا أبا عبد الله انصرفْ . فانصرف . وجرح عبد الله بن الزبير فألقى نفسه في الجرحى ثم برأ .

وعُقر الجمل ، واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة فأنزلها وضرب عليها قُبّة فوقف عليٌّ عليها وقال لها: استنفرتِ الناسَ وقد فروا . وألتتِ بينهم حتى قَتَل بعضُهم بعضاً! في كلام كثير .

فقالت عائشة :ملكتَ فاسجع . نعم ما ابتليت قومك اليوم. فسَّرحها وأرسل معها جماعة مِن رجال ونساء وجهزها بما تحتاج .
لم أذكر في وقعة الجمل إلاّ ما ذكره أبو جعفر إذ كان أوثق مَنْ نقل التاريخ فإنّ الناس قد حشوا تواريخهم بمقتضى أهوائِهم .

من قتلى يوم الجمل

وممن قتل يوم الجمل : عبد الرحمن بن عبيد الله أخو طلحة له صحبة.

وعمرو بن عبدالله بن أبي قيس بن عامر بن لُؤي له صُحبة.

وفيها قتل المحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس له صحبة واستعمله عمر على مكة ثم عزله . وفيها قتل معرض بن علاط السلمي أخو الحجاج بن علاط قتل مع عليّ . وفيها قتل مجاشع ، ومجالد ابنا مسعود السلميان مع عائشة لهما صحبة، فأما مجاشع فلا شك أنه قتل في الجمل .

وقتل عبد الله بن حكيم بن حزام الأسدي القرشي مع عائشة وكان إسلامه يوم الفتح . وفيها قتل هند بن أبي هالة الأُسَيدِي أمه خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع علي - وقيل : مات بالبصرة والأول أصح .

(الأُسَيْدِي ) بضم الهمزة منسوب الى أُسَيد بتشديد الياء وهم بطن من تيم .

وقتل هلال بن وكيع بن بشر التميمي مع عائشة له صحبة . وفيها قتل معاذ بن عفراء أخو معوذ وهما ابنا الحارث بن رفاعة الأنصاريان وشهدا بدراً وقتل مع علي وقيل : عاش وقتل في وقعة الحرة .

(التَّيِّهانَ ) بفتح التاء فوقها نقطتان وتشديد الياء تحتها نقطتان وآخره نون .

و(شَبث ) بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة وآخره ثاء مثلثة . و(سَيْحَان ) بفتح السين المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وفتح الحاء المهملة وآخره نون . و(نَجَبَة) بفتح النون والجيم والباء الموحدة . و(عَمِيْرة) بفتح العين وكسر الميم . و(أبَيْع بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة . و(الخِريْت ) بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها نقطتان وفي آخره تاء فوقها نقطتان .‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏ ‏