المجلد الرابع - ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس

في هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر وكانت من أحصن القلاع زامنعها وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيمًا لها وقال كعب بم معدان الأشقري يذكرها‏:‏ وباذغيس التي من حل ذروتها عز الملوك فإن شا جار أو ظلما منيعة لم يكدها قبله ملك إلا إذا واجهت جيشًا له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها بعض النجوم إذا ما ليلها عتما

نفى نيزكًا عن باذغيس ونيزك بمنزلةٍ أعيا الملوك اغتصابها محلقةٍ دون السماء كأنها غمامة صيفٍ زال عنها سحابها ولا تبلغ الأروى شماريخها العلى ولا الطير إلا نسرها وعقابها وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ولا نبحت إلا النجوم كلابها في أبيات غيرها‏.‏

فلما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح - وكان يكتب له يحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل - إنا لحقنا العدو فمنحنا الله أكتافهم فقتلنا طائفةً وأسرنا طائفةً ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية فأهضام الغيطان وأثناء الأنهار‏.‏

فقال الحجاج‏:‏ من يكتب ليزيد فقيل‏:‏ يحيى بن يعمر فكتب إليه بحمله على البريد‏.‏

فقدم إليه أفصح الناس‏.‏

فقال‏:‏ أين ولدت قال‏:‏ بالأهواز‏.‏

قال‏:‏ فهذه الفصاحة من أين قال‏:‏ حفظت من كلام أبي وكان فصيحًا‏.‏

قال‏:‏ أخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد قال‏:‏ نعم كثيرًا‏.‏

قال‏:‏ ففلان قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل ألحن قال‏:‏ نعم تلحن لحنًا خفيًا تزيد حرفًا وتنقص حرفًا وتجعل أن في موضع إن وإن في موضع أن‏.‏

قال‏:‏ قد أجلتك ثلاثًا فإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان‏.‏

في هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك الروم ففتح المصيصة وبنى حصنها ووضع بها ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك وبنى مسجدها‏.‏

وحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل‏.‏

وكان العمال من تقدم ذكرهم‏.‏

وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية‏.‏

وفيها مات عبد الله بن الحارث بن نوفل الملقب ببة بعمان وكان يسكن البصرة وكان مولده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثمانين

ذكر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث

لما انصرف عبد الرحمن إلى رتبيل من هراة قال له علقمة بن عمرو الأودي‏:‏ ما أريد أن أدخل معك لأني أتخوف عليك وعلى من معك والله لكأني بالحجاج وقد كتب إلى رتبيل يرغبه ويرهبة فإذا هو قد بعث بك سلمًا أو قتلكم ولكن معي خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها حتى نعطى الأمان أو نموت كرامًا ولم يدخل إلى بلاد رتبيل معه وخرج هؤلاء الخمسمائة وجعلوا عليهم مودودا البصري وقدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم

وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن‏:‏ أن أبعث به إلي وإلا والذي لا إله غيره لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل‏.‏

وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم يقال له عبيد بن سبيع التميمي وكان رسوله إلى رتبيل فخص برتبيل وخف عليه فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن‏:‏ إني لا آمن غدر هذا التميمي فاقتله‏.‏

فخافه عبيد ووشى به إلى رتبيل وخوفه الحجاج ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث وقال له‏:‏ أنا آخذ لك من الحجاج عهدًا ليكفن عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن‏.‏

فأجابه إلى ذلك فخرج عبيد إلى عمارة سرًا فذكر له ما استقر مع رتبيل وما بذل له وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك وأجابه إليه أيضًا وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج‏.‏

وقيل‏:‏ إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فأرسل رتبيل إليه فقطع رأسه قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمي على ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأطلق له خراج بلاده عشر سنين فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته فحضروا فيدهم وأرسلهم إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر فمات فاحتز رأسه وسيره إلى الحجاج فسيره الحجاج إلى عبد الملك وسيره عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز

هيهات موضع جثةٍ من رأسها رأس بمصر وجثة بالرخج وقيل‏:‏ إن هلاك عبد الرحمن كان سنة أبع وثمانين‏.‏

ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل

وفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان‏.‏

وكان سبب عزله إياه أن الحجاج وفد إلى عبد الملك فمر في طريقه براهب فقيل له‏:‏ إن عنده علمًا فدعا به وسأله ل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ مسمى أم موصوف فقال‏:‏ كل ذلك نجده موصوفًا بغير اسم ومسمى بغير صفة‏.‏

قال‏:‏ فما تجدون صفة أمير المؤمنين قال‏:‏ نجده في زماننا‏:‏ ملك أفرع من يقم لسبيله يصرع‏.‏

قال‏:‏ ثم من قال‏:‏ اسم رجل يقال له الوليد ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس‏.‏

قال‏:‏ أفتعلم من يلي بعدي قال‏:‏ نعم رجل يقال له يزيد‏.‏

قال‏:‏ أفتعرف صفته قال‏:‏ يغدر غدرة لا أعرف غير هذا‏.‏

فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب ثم سار وهو وجل من قول الراهب ثم عاد وكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب ويخبره أنهم زبيرية‏.‏

فكتب إليه عبد الملك‏:‏ إني لا أرى طاعتهم لآل فكتب إليه الحجاج يخوفه غدره وبما قال الراهب‏.‏

فكتب عبد الملك إليه‏:‏ إنك قد أكثرت في يزيد وآل المهلب فسم لي رجلًا يصلح لخراسان‏.‏

فسمى قتيبة بن مسلم فكتب إليه أن وله‏.‏

وبلغ يزيد أن الحجاج عزله فقال لأهل بيته‏:‏ من ترون الحجاج يولي خراسان قالوا‏:‏ رجلًا من ثقيف‏.‏

قال‏:‏ كلا ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلًا من قيس وأخلق بقتيبة بن مسلم‏.‏

فلما أذن عبد الملك في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضل ويقبل إليه‏.‏

واستشار يزيد حضين بن المنذر الرقاشي فقال له‏:‏ أقم واعتل واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرك فإنه حسن الحال والرأي فيك‏.‏

قال يزيد‏:‏ نحن أهل بيت قد بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف‏.‏

فأخذ يتجهز فأبطأ فكتب الحجاج إلى المفضل‏:‏ إني قد وليتك خراسان‏.‏فجعل المفضل يستحث يزيد فقال له يزيد‏:‏ عن الحجاج لا يقرك بعدي وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن امتنع عليه وستعلم‏.‏

وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وأقر الحجاج أخاه المفضل تسعة أشهر ثم عزله‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن سبب عزله أن الحجاج لما فرغ من عبد الرحمن بن الأشعث لم يكن له هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته وقد كان أذل أهل العراق كلهم إلا آل المهلب ومن معهم بخراسان وتخوفه على العراق وكان يبعث إليه ليأتيه فيعتل عليه بالعدو والحروب فكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد ويخبره بطاعتهم لآل الزبير فكتب إليه عبد الملك بنحو ما تقدم وساق باقي الخبر كما تقدم وقال حضين ليزيد‏:‏ أمرتك أمر حازمًا فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابةً وما أنا بالداعي لترجع سالما قال‏:‏ فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين‏:‏ ما قلت ليزيد قال‏:‏ قلت‏:‏ أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني فنفسك رد اللوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته فإنكا تلقى أمره متفاقما قال‏:‏ فماذا أمرته به فعصاك قال‏:‏ أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير‏.‏

قال بعضهم‏:‏ فوجده قتيبة قارحًا‏.‏

وقيل‏:‏ كتب الحجاج إلى يزيد‏:‏ اغز خوارزم فكتب‏:‏ إنها قليلة السلب شديدة الكلب‏.‏

فكتب إليه الحجاج‏:‏ استخلف واقدم‏.‏

فكتب‏:‏ إني أريد أن أغزو خوارزم‏.‏

فكتب الحجاج‏:‏ لا تغزها فإنها كما ذكرت‏.‏

فغزا ولم يطعه فصالحه أهلها وأصاب سبيًا وقفل في الشتاء وأصاب الناس برد فأخذوا ثياب الأسرى فمات ذلك السبي‏.‏

فكتب إليه الحجاج أن اقدم‏.‏

فسار إليه فكان لا يمر ببلد إلا فرش أهله الرياحين‏.‏

حضين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة والضاد المعجمة المفتوحة وآخره نون ذكر غزو المفضل باذغيس وآخرون لما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنمًا فقسمه فأصاب كل رجل ثماني مائة‏.‏

ثم غزا آخرون وشومان فغنم وقسم ما أصاب ولم يكن للمفضل بيت مال كان يعطي الناس كلما جاء شيء وغن غنم شيئًا قسمه بينهم‏.‏

ذكر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم


في هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ‏.‏

وكان سبب مصيره إلى ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من بني تميم وقد تقدم ذكر ذلك تفرق عنه أكثر من كان معه منهم فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى‏:‏ خذ ثقلي واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه‏.‏

فرحل موسى عن مرو في عشرين ومائتي فارس واجتمع إليه تتمة أربعمائة وانضم إليه قوم من بني سليم فأتى زم فقاتله أهلها فظفر بهم فأصاب مالًا وقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى‏.‏

فخافه وقال‏:‏ رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه‏.‏

ووصله وسار فلم يأت ملكًا يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده فأتى سمر قند فأقام بها وأكرمه ملكها طرخون وأذن له في المقام وأقام ما شاء الله‏.‏

ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب وذلك كل عام يومًا يجعلون ذلك لفارس الصغد فلا يقربه غيره فإن أكل منه أحد بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له‏.‏

فقال رجل من أصحاب موسى‏:‏ ما هذه المائدة فأخبر فجلس فأكل ما عليها وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضبًا وقال‏:‏ يا عربي بارزني‏!‏ فبارزه فقتله صاحب موسى فقال ملك الصغد‏:‏ أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي لولا أني آمنتك وأصحابك لقتلتكم اخرجوا عن بلدي فخرجوا‏.‏

فأتى كش فضعف صاحبها عنه فاستنصر طرخون فأتاه فخرج موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة فقال لزرعة بن علقمة‏:‏ احتل لنا على طرخون‏.‏

فأتاه فقال‏:‏ أيها الملك ما حاجتك إلى أن تقتل موسى وتقتل معه فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا مثل عدتهم منكم ولو قتلته وإياهم جميعًا ما نلت حظًا لأن له قدرًا في العرب فلا يأتي أحد خراسان إلا طالبك بدمه‏.‏

فقال‏:‏ ليس لي إلى ترك كش في يده سبيل‏.‏

قال‏:‏ فكف عنه حتى يرتحل‏.‏فكف‏.‏

وسار موسى فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه أن يدخله حصنه فأبى فأهدى له موسى ولا طفه حتى حصل بينهما مودة وخرج فتصيد معه‏.‏

فصنع صاحب ترمذ طعامًا وأحضر موسى ليأكل معه ولا يحضر إلا في مائة من أصحابه فاختار موسى مائة من أصحابه فدخلوا الحصن وأكلوا فلما فرغوا قال له‏:‏ اخرج قال‏:‏ لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري‏.‏

وقاتلهم فقتل منهم عدةً وهرب الباقون واستولى موسى عليها وأخرج ترمذ شاه منها ولم يعرض له ولا لأصحابه فأتوا الترك يستنصرونهم على موسى فلم ينصروهم وقالوا‏:‏ لا نقاتل هؤلاء‏.‏

وأقام موسى بترمذ فأتاه جمع من أحاب أبيه فقوزي بهم فكان يخرج فيغير على ما حوله‏.‏

ثم ولي بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له ثم قدم أمية فسار بنفسه يريد مخالفة بكير فرجع على ما تقدم ذكره‏.‏

ثم إن أمية وجه إلى موسى بعد صلح بكير رجلًا من خزاعة في جمع كثير وعاد أهل ترمذ إلى الترك فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه‏.‏

فسارت الترك في جمع كثير إلى الخزاعي فأطاف بموسى الترك والخزاعي فكان يقاتل

الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار فقاتلهم شهرين أو ثلاثة‏.‏

ثم إنه أراد أن يبت الخزاعي وعسكره فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابي‏:‏ ليكن البيات بالعجم فإن العرب اشد حذرًا وأجرأ على الليل فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب‏.‏

فأقام حتى ذهب ثلث الليل وخرج موسى في أربعمائة وقال لعمرو بن خالد‏:‏ اخرج بعدنا فكن أنت ومن معك قريبًا فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا‏.‏

ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم وجعل أصحابه أرباعًا وأقبل إليهم فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا‏:‏ من أنتم قالوا‏:‏ عابرو سبيل‏.‏

فلما جاوزوا الرصد حملوا على الترك وكبروا فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف فيهم فساروا يقتل بعضهم بعضًا وولوا فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلًا وحموا عسكرهم وأصابوا سلاحًا كثيرًا ومالًا وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك فخافوا مثلها فقال عمرو بن خالد لموسى‏:‏ إننا لا نظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم كثيرون فدعني آته لعلى أصيب فرصة فاضربني وخلاك ذم‏.‏

فقال له موسى‏:‏ تتعجل الضرب وتتعرض للقتل‏.‏

قال‏:‏ أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد‏.‏

فضربه موسى خمسين سوطًا فخرج من عسكر موسى وأتى عسكر الخزاعي مستأمنًا وقال‏:‏ أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه وإنه اتهمني

وقال‏:‏ قد تعصبت لعدونا وأنت عين له فضربني ولم آمن القتل فهربت منه‏.‏

فأمنه الخزاعي وأقام معه فدخل يومًا وهو خالٍ ولم ير عنده سلاحًا فقال كأنه ينصح له‏:‏ أصلح الله الأمير إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح‏.‏

قال‏:‏ إن معي سلاحًا‏.‏

فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتضى فأخذه عمرو فضربه حتى قتله وخرج فركب فرسه وأتى موسى وتفرق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمنًا فآمنه ولم يوجه إليه أمية أحدًا‏.‏

وعزل أمية وقدم المهلب أميرًا فلم يتعرض لموسى وقال لبنيه‏:‏ إياكم وموسى فأنكم لا تزالون ولاة خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على خراسان من قيس‏.‏

فلما مات المهلب وولي يزيد لم يتعرض أيضًا لموسى‏.‏

وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعي فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ‏.‏

فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به وكان ثابت محبوبًا إلى الترك بعيد الصوت فيهم فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغاينان فقدموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل فاجتمع معه ثمانية آلاف فقال له ثابت وحريث‏:‏ سر حتى تقطع النهر وتخرج يزيد عن خراسان ونوليك‏.‏

فهم أن يفعل فقال له أصحابه‏:‏ إن أخرجت يزيد قدم عامل لعبد الملك ولكنا نخرج عمال يزيد عما وراء النهر ويكون لنا فأخرجوا عمال يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال فقوي أمرهم وانصرف طرخون ومن معه واستبد ثابت وحريث بتدبير الأمر والأمير موسى ليس له غير الأسم‏.‏

فقيل لموسى‏:‏ ليس لك من الأمور شيء والأمور إلى ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر فأبى فألحوا عليه حتى أفسدوا قلبه عليهما وهم بقتلهما‏.‏

فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبت والترك في سبعين ألفًا لا يعدون الحاسر ولا صاحب البيضة الجماء ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس‏.‏

فخرج ابن خازم وقاتلهم فيمن معه ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة والقتال أشد ما كان فقال موسى‏:‏ إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء‏.‏

فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم على التل ورمي حريث بنشابة في جبهته فتحاجزوا فبيتهم موسى وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى سمعة ملكهم فوجأ رجلًا منهم بقبيعة سيفه فطعن فرسه فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ فغرق وقتل من الترك خلق كثير ونجا من نجا منهم بشر ومات حريث بعد يومين‏.‏ ورجع موسى وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين‏.‏

وقال أصحاب موسى‏:‏ قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت‏.‏

فأبى وبلغ ثابتًا بعض ما يخوضون فيه فدس محمد بن عبد الله الخزاعي - عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري - على موسى وقال‏:‏ إياك أن تتكلم بالعربية وإن سألوك فقل أنا من سبي الباميان‏.‏

ففعل ذلك واتصل بموسى وكان يخدمه وينقل إلى ثابت خبرهم فحذر ثابت وألح القوم على موسى‏.‏

فقال لهم ليلة‏:‏ لقد أكثرتم علي وفيما تريدون هلاككم فعلى أي وجه تقتلونه ولا أغدر به قال له أخوه نوح‏:‏ إذا أتاك غدًا عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك فقال‏:‏ والله إنه هلاككم وأنتم أعلم‏.‏

فخرج الغلام فأتى ثابتًا فأخبره فخرج من ليلته في عشرين فارسًا ومضى‏.‏

وأصبحوا فلم يروه ولم يروا الغلام فعلموا أنه كان عينًا له‏.‏

ونزل ثابت بحوشرا واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم فأقبل موسى إليه وقاتله وتحصن ثابت بالمدينة وأتاه طرخون معينًا له فرجع موسى إلى ترمذ وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى ونسف وكش فاجتمعوا في ثمانين ألفًا فحصروا موسى حتى جهد هو وأصحابه فلما اشتد عليهم قال يزيد بن هذيل‏:‏ والله لأقتلن ثابتًا أو لأموتن‏.‏

فخرج إلى ثابت فاستأمنه فقال له ظهير‏:‏ أنا أعرف بهذا منك ما أتاك إلا بغدره فاحذره فأخذ ابنيه قدامة والضحاك رهنًا فكانا في يد ظهير‏.‏

وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي فخرج ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه فوصل إلى الدماغ وهر فسلم وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما وعاش ثابت سبعة أيام ومات وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت فقاما قيامًا ضعيفًا وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم فأخبر طرخون بذلك فضحك وقال‏:‏ موسى يعجز أن يدخل متوضأه فكيف يبيتنا لا يحرس الليلة أحد‏.‏

فخرج موسى في ثمانمائة وجعلها أرباعًا وبينهم وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه من رجل ودابة وغير ذلك فليس نيزك سلاحه ووقف وأرسل طرخون إلى موسى أن كف أصحابك فإنا نرحل إذا أصبحنا‏.‏

فرجع موسى وارتحل طرخون والعجم جميعًا‏.‏

فكان أهل خراسان يقولون‏:‏ ما رأينا مثل موسى ولا سمعنا به قاتل مع أبيه سنتين ثم خرج يسير في بلاد خراسان فأتى ملكًا فغلب على مدينته وأخرجه منها وسار الجنود من العرب والترك إليه وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخر النهار‏.‏

فلما عزل يزيد بن المهلب وولي المفضل أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله فسير عثمان بن مسعود إليه في جيش وكتب إلى مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه فعبر النهر في خمسة عشر ألفًا فكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه فحصروا موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه‏.‏

فمكث شهرين في ضيق وقد خندق عثمان عليه وحذر البات فقال موسى لأصحابه‏:‏ اخرجوا بنا حتى منى نصبر‏!‏ فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم واقصدوا الترك‏.‏

فخرجوا وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة وقال له‏:‏ إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان وادفعها إلى مدرك بن المهلب‏.‏

وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال‏:‏ لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم‏.‏

وقصد لطرخون وأصحابه فصدقوهم لقتال فانهزم طرخون وأخذوا عسكرهم وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن فقاتلهم فعقروا فرسه فسقط فقال لمولى له‏:‏ احملني فقال‏:‏ الموت كريه ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا جميعًا وإن هلكنا هلكنا جميعًا‏.‏

قال‏:‏ فارتدف فلما نظر إليه عثمان حين وثب قال‏:‏ وثبة موسى ورب الكعبة‏!‏ وقصد إلى موسى وعقرت دابة موسى فسقط هو ومولاه فقتلوه نادى منادي عثمان‏:‏ من لقيتموه فخذوه أسيرًا ولا تقتلوا أحدًا‏.‏

فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقًا كثيرًا من العرب خاصة فكان يقتل العرب ويضرب المولى ويطلقه وكان فظًا غليظًا‏.‏

وكان الذي أجهز على موسى واصل بن طيلسة العنبري‏.‏

وبقيت المدينة بيد النصر بن سليمان فلم يدفعها إلى عثمان وسلمها إلى مدرك بن المهلب وآمنه فسلمها مدرك إلى عثمان‏.‏

وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى‏.‏

فقال‏:‏ العجب منه‏!‏ أكتب إليه بقتل ابن سبرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي أنه قد قتل موسى بن عبد الله بن خازم‏.‏

ولم يسره قتل موسى لأنه من قيس‏.‏

وقتل موسى سنة خمس وثمانين وضرب رجل من الجند ساق موسى فلما ولي قتيبة قال‏:‏ ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته قال‏:‏ كان قتل أخي‏.‏

فأمر به فقتل‏.‏

ذكر موت عبد العزيز بن مروان والبيعة للوليد بولاية العهد

كان عبد الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذوئيب وقال‏:‏ لا تفعل فإنك تبعث على نفسك صوت فدخل عليه روح بن زنباع وكان أجل الناس عند عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان وأنا أول من يجيبك إلى ذلك‏.‏

قال‏:‏ نصبح إن شاء الله‏.‏

ونام روح عند عبد الملك فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجبوا قبيصة عنه وكان إليه الخاتم والسكة تأتيه الأخبار قبل عبد الملك والكتب‏.‏

فلما دخل سليم عليه قال‏:‏ آجرك الله ما كنا نريد وكان ذلك مخالفًا لك يا قبيصة‏.‏

فقال قبيصة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الرأي كله في الأناة فقال عبد الملك‏:‏ وربما كان في العجلة خير كثير رأيت أمر عمرو بن سعيد ألم تكن العجلة فيه خيرًا من الأناة وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر‏.‏

وقيل‏:‏ إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد وأوفد في ذلك وفدًا فلما أراد عبد الملك خلع عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز‏:‏ إن رأيت أن يصير هذا الأمر لابن أخيك‏.‏

فأبى فكتب إليه ليجعل الأمر له ويجعله له أيضًا من بعده‏.‏

فكتب إليه عبد العزيز‏:‏ إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد‏.‏

فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر فأجابه عبد العزيز‏:‏ إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سنًا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلًا وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولًا فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمري فافعل‏.‏

فرق له عبد الملك وتركه وقال للوليد وسلميان‏:‏ إن يرد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك‏.‏

فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز‏:‏ اللهم إنه قطعني فاقطعه‏.‏

فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام‏:‏ رد على أمير المؤمنين أمره‏.‏

فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسلميان فبايعوا وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان‏.‏

وكان على المدينة هشام بن إسماعي فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال‏:‏ لا أبايع وعبد الملك حي فضربه هشام ضربًا مبرحًا وطاف به وهو في تبان شعر حتى بلغ رأس الثنية التي يقتلون ويصلبون عندها ثم ردوه وحبسوه‏.‏

فقال سعيد‏:‏ لو ظننت أنهم لا يصلبونني ما لبست ثياب مسوح ولكنني قلت يصلبونني فيسترني‏.‏

فبلغ عبد الملك الخبر فقال‏:‏ قبح الله هشامًا إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة فإن أبى أن يبايع فيضرب عنقه أو يكف عنه‏.‏

وكتب إليه يلومه ويقول له‏:‏ إن سعيدًا ليس عنده شقاق ولا خلاف‏.‏

وقد كان سعيد امتنع من بيعة ابن الزبير وقال‏:‏ لا أبايع حتى يجتمع الناس‏.‏

فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستين سوطًا فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه وقال‏:‏ ما لنا ولسعيد دعه لا تعرض له‏.‏

وقيل‏:‏ إن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين والأول أصح قبل قدوم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال‏:‏ ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ بك وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك ولا يفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتعلم أنت الذي تأذن له أو ترده فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك وإذا انتهى إليك مسكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المهمة واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ عن مشورة وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إمضائها‏.‏

والسلام‏.‏

ذكر عدة حوادث

حج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي‏.‏

وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف‏.‏

وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فصاف فيها وشتى‏.‏

وفي هذه السنة مات عمرو بن حريث المخزومي‏.‏

وفيها مات عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وقيل سنة سبع وقيل سنة ثمان وثمانين وفيها مات عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف

ثم دخلت سنة ست وثمانين

ذكر وفاة عبد الملك

في هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان منتصف شوال وكان يقول‏:‏ أخاف الموت في شهر رمضان فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن وفيه بايع لي الناس فمات للنصف من شوال حين أمن الموت في نفسه‏.‏

وكان عمره ستين سنة وقيل ثلاثًا وستين سنة وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنةً وأربعة أشهر إلا سبع ليالٍ وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يومًا‏.‏

ولما اشتد مرضه قال بعض الأطباء‏:‏ إن شرب الماء مات‏.‏

فاشتد عطشه فقال‏:‏ يا وليد اسقني ماء‏.‏

قال‏:‏ لا أعين عليك‏.‏

فقال لابنته فاطمة‏:‏ اسقيني ماء‏.‏

فمنعها الوليد‏.‏

فقال‏:‏ لتدعنها أو لأخلعنك‏.‏

فقال‏:‏ لم يبق بعد هذا شيء فسقته فمات‏.‏

ودخل الوليد عليه وابنته فاطمة عند رأسه تبكي فقال‏:‏ كيف أمير المؤمنين قال‏:‏ هو أصلح‏.‏

فلما خرج قال عبد الملك‏:‏ ومستخبر عنا يريد لنا الردى ومستخبرات والدموع سواجم وأوصى بنيه فقال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف ليعطف الكبر منكم على الصغير وليعرف الصغير حق الكبير وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومجنكم الذي عنه ترمون فأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء وكونوا بني أم بردة لا تدب بينكم العقارب وكونوا في الحرب أمرارًا فإن القتال لا يقرب ميتة وكونوا للمعروف منارًا فإن المعروف يبقى أجره وذكره وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه وتمغدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا‏.‏

ولما توفي دفن خارج باب الجابية وصلى عليه الوليد فتمثل هشام‏:‏ فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قومٍ تهدما فقال الوليد‏:‏ اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان ألا قلت كما قال أوس بن حجر‏:‏ إذا مقرمٍ منا ذرا حد نابه تخمط منا ناب آخر مقرم وقيل‏:‏ إن سليمان تمثل بالبيت الأول وهو الصحيح لأن هشامًا كان صغيرًا له أربع عشرة سنة‏.‏

وقد رثى الشعراء عبد الملك كثير عزة وغيره فمما قيل فيه‏:‏ سقاك ابن مروانٍ من الغيث مسبل أجش شمالي يجود ويهطل فما في حياةٍ بعد موتك رغبة لحرٍ وإن كنا الوليد نؤمل أما نسبه فهو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏

وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية‏.‏

وأما أولاده وأزواجه فمنهم‏:‏ الوليد وسليمان ومروان الأكبر درج وعائشة أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة العبسية ومنهم يزيد ومروان ومعاوية درج وأم كلثوم وأمهم عاتكة ابنة يزيد بن معاوية بن معاوية بن أبي سفيان ومنهم هشام وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية واسمها عائشة ومنهم أبو بكر وهو بكار أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله ومنهم الحكم درج أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان ومنهم فاطمة بنت عبد الملك أمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة ومنهم عبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة وحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد‏.‏

وكان له من النساء شقراء بنت مسلم بن حليس الطائي وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏.‏

وقيل‏:‏ كان عنده ابنة لعلي بن أبي طالب ولا يصح‏.‏كان عبد الملك عاقلًا حازمًا أديبًا لبيبًا عالمًا‏.‏

قال أبو الزياد‏:‏ كان فقهاء المدينة أربعة‏:‏ سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ ما ذاكرت أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني فيه ولا شعرًا إلا زادني فيه وقال جعفر بن عقبة الخطائي‏:‏ قيل لعبد الملك‏:‏ أسرع إليك الشيب‏.‏

فقال‏:‏ شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن‏.‏

وقال عبد الملك‏:‏ ما أعلم أحدًا أقوى على هذا الأمر مني إن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسًا‏.‏

قال أبو مسهر‏:‏ قبل لعبد الملك في مرضه‏:‏ كيف تجدك قال‏:‏ أجدني كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏ الآية وقال المفضل بن فضالة عن أبيه‏:‏ استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره فقال لهم‏:‏ إنكم دخلتم علي عند إقبال آخرتي وإدبار دنياي وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدتها غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها‏.‏

وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي‏:‏ لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره فإذا قصار يقصر ثوبًا فقال‏:‏ يا ليتني كنت قصارًا‏!‏ يا ليتني كنت قصارًا‏!‏ مرتين‏.‏

فقال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ الحمد الله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم‏.‏

وقال سعيد بن بشير‏:‏ إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال‏:‏ وددت أني كنت أكتسب يومًا بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله فذكر ذلك لابن خازم فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه‏.‏

وقال مسعود بن خلف‏:‏ قال عبد الملك بن مروان في مرضه‏:‏ والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنمًا في جبالها وأني لم أك شيئًا‏.‏

وقال عمران بن موسى المؤدب‏:‏ يروى أن عبد الملك بن مروان لما اشتد مرضه قال‏:‏ ارفعوني على شرف‏.‏ ففعل ذلك‏.‏

فتنسم الروح ثم قال‏:‏ يا دنيا ما أطيبك‏!‏ إن طويلك لقصير وإن كبيرك لحقير وإن كنا منك لفي غرور‏!‏ وتمثل بهذين البيتين‏:‏ إن تناقش يكن نقاشك يار ب عذابًا لا طوق لي بالعذاب أو تجعوز فأنت رب صفوح عن مسيء ذنوبه كالتراب ويروى أن هذه الأبيات تمثل بها معاوية ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف فإن من يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أي شيء يقدم عليه‏.‏

قال عبد الملك لسعيد بن المسيب‏:‏ يا أبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به وأصنع الشر فلا أساء به‏.‏

فقال‏:‏ الآن تكامل فيك موت القلب‏.‏

وكان عبد الملك أول من غدر في الإسلام وقد تقدم فعله بعمرو بن سعيد وكان أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء وكان الناس قبله يراجعونهم وأول خليفة بخل وكان يقال له رشح الحجارة لبخله وأول من نهى عن المر بالمعروف فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير‏:‏ ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه‏.‏

ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك

فلما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال‏:‏ إنا له وإنا إليه راجعون والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة قوموا فبايعوا‏.‏

وكان أول من عزى نفسه وهنأها وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السولي وهو يقول‏:‏ الله أعطاك التي لا فوقها وقد أراد الملحدون عوقها فبايعه ثم قام الناس لبيعته‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الوليد لما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس لا مقدم لما أخر الله ولا مؤخر لما قدم وهذا كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلي منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه لله في الشدة على المريب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزًا ولا مفرطًا‏.‏

أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإن الشيطان مع الفرد‏.‏

أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه‏.‏

ثم نزل‏.‏ وكان جبارًا عنيدًا‏.‏

ذكر ولاية قتيبة خراسان

وما كان منه هذه السنة وفي هذه السنة قدم قتيبة خراسان أميرًا عليها للحجاج فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد ثم عرضهم وسار وجعل بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو وعلى الخراج عثمان السعيدي‏.‏

فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه فقطع النهر فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده فمضى معه فسلمها إليه لأن ملك آخرون وسومان كان يسيء جواره‏.‏

ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وسومان وهما من طخارستان فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقلبها قتيبة قم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت وهي من فرغانة وفتح أخشيكت وهي مدينة فرغانة القديمة وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذٍ بلاءً حسنًا‏.‏

وقيل‏:‏ إن قيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند فغزوا آخرون وشومان ثم رجع إلى مرو‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أقام السنة ولم يقطع النهر لسبب بلخ فإن بعضها كان منتقصًا عليه فحاربهم وكان ممن سبى امرأة برمك أبي خالد بن برمك لعبد الله‏:‏ إني قد علقت منك وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة فأوصى أن يلحق به ما في بطنها وردت إلى برمك‏.‏

فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد فادعوه‏.‏

فقال لهم مسلم بن قتيبة‏:‏ إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه فتركوه‏.‏

وكان برمك طبيبًا‏.‏

ذكر عدة حوادث


وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم‏.‏

وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وبعد الملك عن شرطته‏.‏

وحج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي‏.‏

وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف‏.‏

وفي أيام عبد الملك مات أسيد بن ظهير الأنصاري‏.‏

أسيد بضم الهمزة‏.‏

وظهير بضم الظاء المعجمة‏.‏

وفيها مات عمر بن أبي سلمة وهو ابن أم سلمة‏.‏

وفي أيامه مات علقمة بن وقاص الليثي وله صحبة‏.‏

وفي هذه السنة مات قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وولد أول سنة من الهجرة وحنكه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان على خاتم عبد الملك بن مروان وكان فيهًا‏.‏

وفي أيامه مات سعد بن زيد الأنصاري وولد على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي أيامه مات سلمة ابن أبي أم سلمة ربيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي وقيل سنة سبع وثمانين شهد الحديبية وخيبر‏.‏

وفي آخر أيامه مات الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري وولد في آخر زمن النبي‏.‏

وفي هذه السنة توفي لاحق بن حميد أبو مجلز السدوسي‏.‏ ‏  ‏  ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏