المجلد الخامس - ذكر مسير مروان إلى الشام وخلع ابراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

وفي هذه السنة سار مروان إلى الشام لمحاربة ابراهيم بن الوليد ، وكان السبب في ذلك ما قد ذكرنا بعضه من مسير مروان بعد مقتل الوليد وانكاره قتَله وغلبته على الجزيرة ثم مبايعته ليزيد بن الوليد وما ولاه يزيد من عمل أبيه ، فلما مات يزيد بن الوليد سار مروان في جنود الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك في جمع عظيم بالرقة ، فلما انتهى مروان الى قنسرين لقي بها بشر بن الوليد - وكان ولاه أخوه يزيد قنسرين - ومعه أخوه مسرور بن الوليد فتصافوا ، ودعاهم مروان إلى بيعته فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسية وأسلموا بشراً ، وأخاه مسروراً فأخذهما مروان فحبسهما ، وسار ومعه أهل قنسرين متوجهاً إلى حمص ، وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات يزيد من بيعة ابراهيم ، وعبد العزيز فوجه إليهم ابراهيم عبد العزيز وجند أهل دمشق فحاصرهم في مدينتهم ، وأسرع مروان السير فلما دنا من حمص رحل عبد العزيز عنها وخرج أهلها إلى مروان فبايعوه وساروا معه ، ووجه إبراهيم بن الوليد الجنود من دمشق مع سليمان ابن هاشم فنزل عين الجرفي مائة وعشرين ألفاً ونزلها مروان في ثمانين الفاً ، فدعاهم مروان إلى الكف عن قتاله وإطلاق ابني الوليد الحكم ، وعثمان من السجن وضمن لهم أنه لا يطلب أحداً من قتلة الوليد فلم يجيبوه وجدوا في قتاله فاقتتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر وكثر القتل بينهم ، وكان مروان ذا رأي ومكيدة فأرسل ثلاثة آلاف فارس فساروا خلف عسكره وقطعوا نهراً كان هناك وقصدوا عسكر ابراهيم ليغيروا فيه فلم يشعر سليمان ومن معه وهم مشغولون بالقتال الا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم فلما رأوا ذلك انهزموا ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحنقهم عليهم فقتلوا منهم سبعة عشر الفاً ، وكف أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم ، وأتوا مروان من اسرائهم بمثل القتلى وأكثر فأخذ مروان عليهم البيعة لولدي الوليد وخلى عنهم ولم يقتل منهم إلا رجلين يزيد بن العقار ، والوليد بن مصاد الكلبيين وكانا ممن ولي قتل الوليد فحبسهما حتى هلكا في حبسه ، وهرب يزيد بن خالد بن عبد الله القسري فيمن هرب مع سليمان إلى دمشق واجتمعوا مع ابراهيم ، وعبد العزيز بن الحجاج فقال بعضهمٍ لبعض : ان بقي ولدا الوليد حتى يخرجهما مروان ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدا من قتلة أبيهما والرأي قتلهما ، فرأى ذلك يزيد بن خالد فأمر أبا الأسد مولى خالد بقتلهما ، فأخرج يوسف بن عمر فضرب رقبته وأرادوا قتل أبي محمد السفياني فدخل بيتاً من بيوت السجن وأغلقه وألقى خلفه الفرش والوسائد واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه فأرادوا إحراقه فلم يؤتوا بنار حتى قيل : قد دخلت خيل مروان المدينة فهربوا وهرب ابراهيم واختفى ، وانتهب سليمان ما في بيت المال فقسمه في أصحابه وخرج من المدينة .

ذكر بيعة مروان بن محمد بن مروان

وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بالخلافة ، وكان سبب ذلك أنه لما دخل دمشق وهرب ابراهيم بن الوليد ، وسليمان ثار من بدمشق من موالي الوليد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية ، وأتِيَ مروان بالغلامين الحكم ، وعثمان ابني الوليد مقتولين ، وبيوسف بن عمر فدفنهم ، وأتِيَ بأبي محمد السفياني في قيوده فسلم عليه بالخلافة -ومروان يسلم عليه يومئذ بالإمرة- فقال له مروان : مه فقال : انهما جعلاها لك بعدهما ، وأنشده شعراً قاله الحكم في السجن وكانا قد بلغا وولد لأحدهما وهو الحكم ، فقال الحكم :

#ألا مَنْ مُبلغ مَروانَ عني وَعَمي الغمرَ طالَ به حَنِينا

#بأني قد ظُلمتُ وصارَ قومي على . قَتلِ الوَليدِ مُشايعينا

#أيذهبُ كلهمُ دمي ومالي فلا غَثاً أصبتُ ولاسمينا

#ومروانٌ بأرضِ بني نزارٍ كليثِ الغاب مُفترس عَبرينا

# أتئنْكَث بَيْعَتِي مِنْ أَجلِ أمي فقد بايعتم قَبْلي هَجينا

 فان أهلك أنا وَوَلي عهْدي . فمروان أمِيرٌ المؤمنينا

ثم مال : ابسط يدك أبايعك ، وسمعه من مع مروان ، وكان أول من بايعه معاوية

بن -يزيد بن حصين بن نمير ، ورؤوس أهل حمص ، والناس بعده ، فلما استقر له الأمر رجع إلى منزله بحران وطلب منه الامان لابراهيم بن الوليد ، وسليمان بن هشام فأمنهما فقدما عليه ، وكان سليمان بتدمر بمن معه من اخوته ، وأهل بيته ، ومواليه الذكوانية فبايعوا مروان بن محمد .

ذكر ظهور عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر

وفي هذه السنة ظهر عبد الله بن معاويهَ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه ، وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي الكوفة فأكرمه وأجازه وأجرى عليه وعلى اخوته كل يوم ثلاثمائة درهم فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد وبايع الناس أخاه ابراهيم بن الوليد وبعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ، فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع الناس وزاد في العطاء وكتب ببيعتهما إلى الأفاق فجاءته البيعة ثم بلغه امتناع مروان بن محمد من البيعة ومسيره إليهما إلى الشام فحبس عبدالله بن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه وأعده لمروان بن محمد إن هو ظفر بابراهيم بن الوليد ليبايع له ويقاتل به مروان ، فماج الناس وورد مروان الشام وظفر بابراهيم فانهزم إسماعيل بن عبدالله القسري الى الكوفة مسرعاً وافتعل كتاباً على لسان ابراهيم بأمرة الكوفة وجمع اليمانية وأعلمهم ذلك فأجابوه وامتنع عبد الله بن عمر عليه وقاتله ، فلما رأى الأمر كذلك خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل فغال لأصحابه : إني أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم فكفوا ، وظهر أمر ابراهيم وهربه ووقعت العصبية بين الناس .

وكان سببها أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر ، وربيعة عطايا كثيرة ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي ، وعثمان بن الخيبري من تيم اللات بن ثعلبة شيئاً وهما من ربيعة فكانا مغضبين ،وغضب لهما تمامة بن حوشب بن رويم الشيباني ، وخرجوا من عند عبد الله بن عمر- وهو بالحيرة -إلى الكوفة فنادوا يا آل ربيعة فاجتمعت ربيعة وتنمروا ، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فأرسل إليهم أخاه عاصماً فأتاهم - وهم بدير هند - فألقى نفسه بينهم وقال : هذه يدي لكم فاحكموا فاستحيوا ورجعوا وعظموا عاصماً وشكروه ، فلما كان المساء أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري بمائة ألف فقسمها في قومه بني همام بن مرة بن ذهل الشيباني ، وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف قسمها في قومه ، وأرسل الى جعفر بن نافع بمال ، وإلى عثمان بن الخيبري بمال  .

فلما رأت الشيعة ضعف عبد الله بن عمر طمعوا فيه ودعوا الى عبدالله بن معاوية واجتمعوا في المسجد وثاروا وأتوا عبد الله بن معاوية وأخرجوه من داره وأدخلوه القصر ومنعوا عاصم بن عمر عن القصر فلحق بأخيه بالحيرة ، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه فيهم عمر بن الغضبان ، ومنصور بن جمهور ، واسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد ، وأقام أياماً يبايعه الناس وأتته البيعة من المدائن ، وفم النيل واجتمع إليه الناس ، فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة فقيل لابن عمر : قد أقبل ابن معاوية في الخلق فأطرق ملياً ، وأتاه رئيس خبازيه فأعلمه بادراك الطعام فأمره باحضاره فأحضره فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث -والناس يتوقعون أن يهجم عليهم ابن معاوية -وفرغ من طعامه ، وأخرجٍ المال ففرقه في قواده ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه ، كان اسمه اماميمونا ، واما رباحاً ، أو فتحاً ، أو اسماً يتبرك به فأعطاه اللواء وقال له : امض به إلى موضع كذا فأركزه وادع أصحابك وأقم حتى آتيك ففعل ، وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية ، فأمر ابن عمر منادياً فنادى من جاء برأس فله خمسمائة فأتي برؤوس كثيرة وهو يعطي ما ضمن ، وبرز رجل من أهل الشام فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلي فسأله الشامي فعرفه فقال : قد ظننت أنه لا يخرج إلى رجل من بكر بن وائل والله ما أريد قتالك ولكن أحببت أن القي إليك حديثاً ، أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن لا اسماعيل ، ولا منصور ، ولا غيرهما إلا وقد كاتب ابن عمر وكاتبته مضر وما أرى لكم يا ربيعة كتاباً ولا رسولًا وأنا رجل من قيس فان أردتم الكتاب أبلغته ونحن غداً بازائكم فانهم اليوم لا يقاتلونكم ، فبلغ الخبر ابن


معاوية فأخبر به عمر بن الغضبان فأشار عليه أن يستوثق من اسماعيل ، ومنصور ، وغيرهما فلم يفعل ، وأصبح الناص من الغد غادين على القتال ، فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا ، ومض اسماعيل ، ومنصور من فورهما إلى الحرة فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة وابن معاوية معهم فدخلوا القصر ، وبقي من بالمسيرة من ربيعة ، ومضر ومن بازائهم من أصحاب ابن عمر فقال لعمر بن الغضبان : ما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بكم فانصرفوا ، فقال ابن الغضبان : لا أبرح حق أقتل فأخذ أصحابه بعنان دابته فأدخلوه الكوفة ، فلما أمسوا قال لهم ابن معاوية : يا معشر ربيعة قد رأيتم ما صنع الناس بنا وقد علقنا دماءنا في أعناقكم فإن قاتلتم قاتلنا معكم وإن كنتم ترون الناس يخذلوننا وإياكم فخذوا لنا ولكم أماناً ، فقال له عمر بن الغضبان : ما نقاتل معكم وما نأخذ لكم أمانا كما نأخذ لأنفسنا ، فأقاموا في القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أيِاماً ، ثم إن ربيعة أخذت أماناً لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية ليذهبوا حيث شاؤوا ، وسار ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن فأتاه قوم من أهل الكوفة فخرج بهم فغلب على حلوان ، والجبال ، وهمذان ، واصبهان ، والري ، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة وكان شاعراً مجيداً ، فمن قوله :

#ولاتركَبَن الصنيعَ الذي تَلُوم أخاكَ على مثله

#ولا يُعجِبنك قَولُ امرِئ يخالفُ ما قال في فعله

ذكر رجوع الحرث بن سريج إلى مرو

وفي هذه السنة رجع الحرث إلى مرو- وكان مقيماً عند المشركين مدة- وقد تقدم سبب عوده ، وكأن قدومه مرو في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ، فلقيه الناس بكشميهن فلما لقيهم قال :ما قرت عيني منذ خرجت الى يومي هذا وما قرة عيني إلا أن يطاع الله ، ولقيه نصر وأنزله وأجرى عليه كل يوم خمسين درهماً فكان يقتصر على لون واحد وطلق أهله ، وأولاده ، وعرض عليه نصر ان يوليه ويعطيه مائة الف دينار فلم يقبل ، وأرسل الى نصر أني لست من الدنيا واللذات في فيء إِنما أسألك كتاب الله والعمل بالسنة وأن تستعمل أهل الخير فان فعلت ساعدتك على عدوك ، وأرسل الحرث إلى الكرماني إن أعطاني نصر العمل بالكتاب وما سألته عضدته وقمت بأمر الله لان لم يفعل أعنتك ان ضمنت لي القيام بالعدل ، والسنة ، ودعا بني تميم إلى نفسه . فأجابه منهم ومن غيرهم جمع كثير واجتمع إليه ثلاثة آلاف وقال لنصر : إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة انكاراً للجور وأنت تريدني عليه .

ذكر انتفاض أهل حمص

وفي هذه السنة انتفض أهل حمص على مروان ،وكان سبب ذلك أن مروان لما عاد إلى حران بعد فراغه من أهل الشام أقام ثلاثة أشهر فانتفض عليه أهل حمص وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم وراسلهم وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب فأتاهم الاصبغ بن ذؤالة الكلبي ، وأولاده ، ومعاوية السكسكي - وكان فارس أهل الشام - وغيرهما في نحو من ألف من فرسانهم فدخلوا ليلة الفطر ، فجد مروان في السير إليه ومعه ابراهيم المخلوع ، وسليمان بن هشام وكان قد أمنهما وكان يكرمهما فبلغهما بعد الفطر بيومين - وقد سد أهلها أبوابها - فأحدق بالمدينة ووقف بازاء باب من أبوابها فنادى مناديه الذين عند الباب ما دعاكم إلى النكث ؟ قالوا : إنَا على طاعتك لم ننكث قال : فافتحوا الباب ففتحوا الباب فدخله عمر بن الوضاح في الوضاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلهم من في البلد فكثرتهم خيل مروان فخرج من بها من باب تدمر فقاتلهم من عليه من أصحاب مروان فقتل عامة من خرج منه ، وأفلت الأصبغ بن ذؤالة ، وابنه فرافصة ؛ وقتل مروان جماعة من أسرائهم ، وصلب خمسمائة من القتلى حول المدينة ، وهدم من سورها نحو غلوة ، وقيل : ان فتح حمص وهدم سورها كان في سنة ثمان وعشرين.

ذكر خلاف أهل الغوطة
في هذه السنة خالف أهل الغوطة وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق - وأميرها زامل بن عمرو- فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث ، وعمر بن الوضاح في عشرة آلاف ، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم وخرج عليهم من بالمدينة فانهزموا واستباح أهل مروان عسكرهم ، واحرقوا المزة ، وقرى من اليمانية ، وأخذ يزيد بن خالد فقتل وبعث زامل برأسه إلى مروان بحمص ، وممن قتل في هذه الحرب عمر بن هانىء العبسي مع يزيد وكان عابداً كثير المجاهدة .


ذكر خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد

وفي هذه السنة خلع سليمان بن هاشم بن عبد الملك مروان بن محمد وحاربه ، وكان السبب في ذلك ما ذكرنا من قدوم الجنود عليه وتحسينهم له خلع مروان وقالوا له : أنت أوضأ عند الناس من مروان وأولى بالخلافة ، فأجابهم إلى ذلك وسار باخوته ومواليه معهم فعسكر بقنسرين وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه ، وبلغ الخبر مروان فرجع اليه من قرقيسيا وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالمقام ، واجتاز مروان في رجوعه بحصن الكامل وفيه جماعة من موالي سليمان ، وأولاد هشام فتحصنوا منه فأرسل إليهم إني أحذركم أن تعرضوا لاحد ممن يتبعني من جندي بأذى فإن فعلتم فلا أمان لكم عندي فأرسلوا إليه إنا نستكف ، ومض مروان فجعلوا يغيرون على من يتبعه من أخريات الناس وبلغه ذلك فتغيظ عليهم ، واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين الفاً من أهل الشام ، والذكوانية ، وغيرهم وعسكر بقرية خساف من أرض قنسرين ، وأتاه مروان فواقعه عند وصوله فاشتد بينهم القتال وانهزم سليمان ومن معه واتبعتهم خيل مروان تقتل وتأسر واستباحوا عسكرهم ، ووقف مروان موقفاً ، ووقف ابناه موقفين ، ووقف كوثر صاحب شرطته موقفاً وأمرهم أن لا يؤتوا بأسير إلا قتلوه الا عبداً مملوكاً ، فأحصي من قتلاهم يومئذ ما ينوف على ثلاثين ألف قتيل ، وقتل ابراهيم بن سليمان ، وأكثر ولده  وخالد بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك ، وادعى كثير من الاسراء للجند أنهم عبيد فكف عن قتلهم وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع من أصيب من عسكرهم ، ومضى سليمان حتى انتهى إلى حمص وانضم إليه من أفلت ممن كان معه فعسكر بها وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها ، وسار مروان إلى حصن الكامل حنقاً على من فِيه فحصرهم وأنزلهم على حكمه فمثل بهمٍ وأخذُهم أهل الرقة فداووا جراحاتهم فهلك بعضهم وبقي أكثرهم وكانت عدتهم نحوا من ثلاثمائة ، ثم سار الى سليمان ، ومن معه فقال بعضهم لبعض : حتى متى ننهزم من مروان ؟ فتبايع سبعمائة من فرسانهم على الموت وساروا بأجمعهم مجمعين على أن يبيتوه إن  أصابوا منه غرة ، وبلغه خبرهم فتحرز منهم وزحف اليهم في الخنادق على احتراس وتعبية فلم يمكنهم أن يبيتوه ، فكمنوا في زيتون على طريقه فخرجوا عليه –وهو مسير على تعبية - فوضعوا السلاح فيمن معه وانتدب لهم  ونادى خيوله فرجعت اليه فقاتلوه من لدن ارتفاع النهار الى بعد العصر وانهزم اصحاب سليمان وقتل منهم نحو من ستة آلاف، فلما بلغ سليمان هزيمتهم خلف أخاه سعيداً بحمص ومضى هو إلى تدمر فأقامٍ بها ونزل مروان على حمص فحصر أهلها عشرة أشهر ونصب .عليهم نيفاً وثمانين منجنيقا يرمي بها الليل والنهار وهم يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه وربما يلببون  نواحي عسكره ، فلما تتابع عليهم البلاء طلبوا الامان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام ، وابنيه عثمان ، ومروان ، ومن رجل كان يسمى السكسكي كان يغير على عسكره ، ومن رجل حبشي كان يشتم مروان وكان يشد في ذكره ذكر حمار ثم يقول : يا بني سليم يا أولاد كذا وكذا هذا لواؤكم فأجابهم إلى ذلك ، فاستوثق من سعيد ، وابنيه ، وقتل السكسكي ، وسلم الحبشي الى بني سليم فقطعوا ذكره وانفه ومثلوا به ، فلما فرغ من حمص سار نحو الضحاك الخارجي ، وقيل : إن سليمان بن هشام لما انهزم من وقعة خساف أقبل هارباً حتى صار إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بالعراق فخرج معه إلى الضحاك فبايعه وحرض على مروان فقال بعض شعرائهم :

#ألم تر أن الله أظهر دينه وصلت قريش خلف بكر بن وائل

فلما رأى النضر بن سعيد الحرشي - وكان قد ولي العراق على ما نذكره إن شاء

الله - ذلك علم أنه لا طاقة له بعبد الله بن عمر فسار إلى مروان ، فلما كان بالقادسية خرج إليه ابن ملجان خليفة الضحاك بالكوفة فقاتله فقتله النضر ، واستعمل الضحاك على الكوفة المثنى بن عمران العائذي ثم سار الضحاك في ذي القعدة الى الموصل واقبل ابن هبيرة حتى نزل بعين التمر فسار إليه المثنى بن عمران فاقتتلوا أياماً فقتل المثنى وعدة من قواد الضحاك ، وانهزمت الخوارج ومعهم منصور بن جمهور وأتوا الكوفة فجمعوا من بها منهم وساروا نحو ابن هبيرة فلقوه فقاتلهم اياماً وانهزمت الخوارج واتى ابن هبيرة الى الكوفة وسار إلى واسط ، ولما بلغ الضحاك ما لقي أصحابه أرسل عبيدة بن سوار التغلبي إِليهم فنزل الصراة وبلغ ذلك ابن هبيرة فرجع إليهم فالتقوا بالصراة ؛ وسيرد خبر خروج الضحاك بعدها إن شاء الله تعالى ( الحرشي ) بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة .

ذكر خروج الضحاك محكماً

وفي هذه السنة خرج الضحاك بن قيس الشيباني محكماً ودخل الكوفة ، وكان سبب ذلك أن الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له : سعيد بن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة فيهم الضحاك فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشام فخرج بأرض كفرتوثا ، وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة فسار كل واحد منهما إلى صاحبه ، فلما تقاربا أرسل سعيد بن بهدل الخيبري – وهو أحد قواده - في مائة وخمسين فارساً فأتاهم وهم غارون فقتلوا فيهم وقتلوا بسطاماً وجميع من معه إلا أربعة عشر رجلًا ، ثم مضى سعيد بن بهدل إلى العراق لما بلغه أن الإختلاف بها فمات سعيد بن بهدل في الطريق واستخلف الضحاك بن قيس من بعده فبايعه الشراة فأتى أرض الموصل ثم شهرزور واجتمعت إليه الصفرية حتى صار في أربعة آلاف ، وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومروان بالحيرة ، فكتب مروان إلى النضر بن سعيد الحرشي – وهو أحد قواد ابن عمر- بولاية العراق فلم يسلم ابن عمر إليه العمل ، فشخص النضر إلى الكوفة وبقي ابن عمر بالحيرة فتحاربا أربعة أشهر ، وأمد مروان النضر بابن الغزيل واجتمعت المضرية مع النضر عصبية لمروان حيث طلب بدم الوليد -وكانت أم الوليد قيسية من مضر-وكان أهل اليمن مع ابن عمر عصبية له حيث كانوا مع يزيد في قتل الوليد حين أسلم خالد القسري إلى يوسف فقتله ، فلما سمع الضحاك باختلافهم أقبل نحوهم وقصد العراق سنة سبع وعشرين ، فأرسل ابن عمر الى النضر ان هذا لا يريد غيري وغيرك فهلم نجتمع عليه فتعاقدا عليه واجتمعا بالكوفة وكان كل منهما يصلي باصحابه ، وأقبل الضحاك فنزل بالنخيلة في رجب واستراح ثم تعبوا للقتال يوم الخميس من غد يوم نزوله فاقتتلوا قتالاً شديداً فكشفوا ابن عمر وقتلوا أخاه عاصماً وجعفر بن العباس الكندي أخا عبيد الله ودخل ابن عمر خندقه وبقي الخوارج عليهم إلى الليل ثم انصرفوا ، ثم اقتتلوا يوم الجمعة فانهزم أصحاب ابن عمر فدخلوا خنادقهم ، فلما أصبحوا يوم السبت تسلل أصحابه نحو واسط ورأوا قوماً لم يروا أشد بأساً منهم ، وكان ممن لحق بواسط النضر بن سعيد الحرشي ، واسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد ، ومنصور بن جمهور ، والاصبغ بن ذؤالة ، وغيرهم من الوجوه ، وبقي ابن عمر فيمن عنده من أصحابه لم يبرح فقال له أصحابه : قد هرب الناص فعلام تقيم ؟ فبقي يومين لا يرى الا هارباً فرحل عند ذلك إلى واسط ، واستولى الضحاك على الكوفة ودخلها ، ولم يأمنه عبيد الله بن العباس الكندي على نفسه فصار مع الضحاك وبايعه وصار في عسكره ، فقال أبو عطاء السندي له يعيره باتباعه الضحاك وقد قتل أخاه :

#فقلْ لِعُبَيد الله لوكأن جعفرٌ هو الحيُّ لم يجنح وأنتَ قَتِيلُ

#ولم يتبَع المُراقَ والثارُ فيهمُ وفي كفهِ عَضب الذبابِ صَقِيلُ

#الى معشَر رَدوا أخاك وأكفروا أباك فماذا بعد ذاك تقولُ

فلما بلغ عبيد الله هذا البيت من قول أبي عطاء : قال : أقول عض ببظر أمك :

#فلا وصلَتْكَ الرحْمُ من ذي قَرابةٍ وطالب وتر والذليلُ ذَلِيل

# تَرَكتَ أخا شَيْبَان يسلب بَزه ونجاك خَوَّار العِنَان مَطولُ

ووصل ابن عمر إلى واسط فنزل بدار الحجاج بن يرسف ؛ وعادت الحرب بين عبد الله والنضر إلى ما كانت عليه قبل قدوم الضحاك إلى النضر يطلب أن يسلم إليه ابن عمر ولاية العراق بعهد مروان له وابن عمر يمتنع ، وسار الضحاك من الكوفة إلى واسط واستخلف ملجان الشيباني  ، ونزل الضحاك باب المضمار فلمما رأى ذلك ابن عمر ، والنضر تركا الحرب بينهما واتفقا على قتال الضحاك فلم يزالوا على ذلك شعبان ، وشهر رمضان ، وشوال والقتال بينهم متواصل ، ثم ان منصَور بن جمهور قال لابن عمر : ما رأيت في الناس مثل هؤلاء فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان اعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان فانهم يرجعون عنا إليه ويوسعونه شراً فإن ظفروا به كأن ما أردت وكنت عندهم آمناً لان ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته وأنت مستريح ، فقال ابن عمر : لا تعجل حتى ننظر ، فلحق بهم منصور وناداهم إِني أريد أن أسلم  واسمع كلام الله وهي حجتهم  فدخل اليهم وبايعهم ، ثم ان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز خرج إليهم في شوال فصالحهم وبايع الضحاك ومعه سليمان بن هشام بن عبد الملك .

ذكر خلع أبى الخطار أمير الاندلس وإمارة ثوابة

وفي هذه السنة خلع أهل الاندلس أبا الخطار الحسام بن ضرار أميرهم ، وسبب ذلك انه لما قدم الاندلس اميراً أظهر العصبية لليمانية على المضرية ، فاتفق في بعض الأيام أنه اختصم رجل من كنانة ورجل من غسان فاستعان الكناني بالصميل بن حاتم بن ذي الجوشن الضبابي فكلم فيه أبا الخطار فاستغلظ له أبو الخطار فأجابه الصميل فأمر به فأقيم وضرب قفاه فمالت عمامته فلما خرج قيل له : نرى عمامتك مالت فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها -وكان الصميل من أشراف مضر فلما دخل الاندلس مع بلج شرف فيها بنفسه وأوليته - فلما جرى له ما ذكرناه جمع قومه وأعلمهم فقالوا له : نحن تبع لك ، فقال : أريد أن اخرج أبا الخطار من الأندلس فقال له بعض أصحابه : افعل واستعن بمن شئت ولا تستعن بأبي عطاء القيسي -وكان من أشراف قيس -وكان يناظر الصميل في الرياسة ويحسده .

وقال له غيره : الرأي انك تأتي أبا عطاء وتشد أمرك به فانه تحركه الحمية وينصرك لان تركته مال إلى أبي الخطار وأعانه عليك ليبلغ فيك ما يريد ، والرأي أيضاً أن تستعين عليه بأهل اليمن فضلاً عن معد ففعل ذلك وسار من ليلته إلى أبي عطاء - وكان يسكن مدينة أستجة- فعظمه أبو عطاء وسأله عن سبب قدومه فأعلمه فلم يكلمه حق قام فركب فرسه ولبس سلاحه وقال له : انهض الآن حيثِ شئت فأنا معك وأمر أهله وأصحابه باتباعه فساروا إلى مرو وبها ثوابة بن سلمة الحداني وكان مطاعاً في قومه وكان ابو الخطار قد استعمله على اشبيلية وغيرها ثم عزله ففسد عليه ، فدعاه الصميل إلى نصره ووعده أنهم إذا اخرجوا أبا الخطار صار اميراً فأجاب الى نصره ودعا قومه فأجابوه ، فساروا إلى شدونة وسار إليهم أبو الخطار من قرطبة واستخلف بها انساناً فالتقوا واقتتلوا في رجب من هذه السنة وصبر الفريقان ثم وقعت الهزيمة على أبي الخطار وقتل اصحابه أشد قتل وأسر ابو الخطار ، وكان بقرطبة أمية بن عبد الملك بن قطن فأخرج منها خليفة أبي الخطار وانتهب ما وجد لهما فيها ، ولما انهزم ابو الخطار سار ثوابة بن سلمة ، والصميل الى قرطبة فملكاها واستقر ثوابة في الامارة ، فثار به عبد الرحمن بن حسان الكلبي وأخرج ابا الخطار من السجن فاستجاش اليمانية فاجتمع له خلق كثير وأقبل بهم الى قرطبة ، وخرج إليه ثوابة فيمن معه من اليمانية والمضرية مع الصميل ، فلما ا تقاتل الطائفتان نادى رجل من مضر يا معشر اليمانية ما بالكم تتعرضون للحرب على أبي الخطار وقد جعلنا الأمير منكم - يعني ثوابة - فانه من اليمن ولو أن الأمير منا لقد كنتم تعتذرون في قتالكم لنا وما نقول هذا إلا تحرجاً من الدماء ورغبة في العافية للعامة ، فلما سمع الناس كلامه قالوا : صدق والله الأمير منا فما بالنا نقاتل قومنا فتركوا القتال وافترق الناس ، فهرب أبو الخطار فلحق بباجة ورجع ثوابة إلى قرطبة فسمي ذلك العسكر عسكر العافية . ‏  ‏  ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏