المجلد الخامس - ذكر دخول قحطبة الري

ولما مات نصر بن سيار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن خازم إلى سمنان ، وأقبل قحطبة من جرجان وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري - وكان قد ندم على اتباع أبي مسلم - فانخزل عن خطبة فأخذ طريق اصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة ، فوجه خطبة المسيب بن زهير الضبي فلحقه من غد بعد العصر فقاتله فأنهزم زياد وقتل عامة من معه ورجع المسيب بن زهير إلى قحطبة ؛ ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن وقدم خزيمة بن خازم سمنان ، فقدم قحطبة ابنه الحسن إلى الري وبلغ حبيب ، ابن يزيد النهشلي  ومن معه من أهل الشام مسير الحسن فخرجوا عن الري ودخل الحسن في صفر فاقام حتى قدم أبوه ، ولما قدم خطبة الري كتب إلى أبي مسلم يعلمه بذلك ، ولما استقر أمر بني العباس بالري هرب أكثر أهلها لميلهم إلى بني أمية لانهم كانوا سفيانية فأمر أبو مسلم بأخذ أملاكهم وأموالهم ، ولما عادوا من الحج أقاموا بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم كتبوا إلى السفاح يتظلمون من أبي مسلم فأمر برد أملاكهم ، فأعاد أبو مسلم الجواب يعرف حالهم وأنهم م شد الاعداء فلم يسمع قوله وعزم على أبي مسلم برد أملاكهم ففعل . ولما دخل قحطبة الري وأقام بها أخذ أمره بالحزم ، والاحتياط ، والحفظ ، وضبط الطرق – وكأن لا يسلكها أحد الا بجواز منه – فأقام بالري وبلغه أن بدستبى قوماً من الخوارج وصعاليك تجمعوا بها فوجه إليهم أبا عون في عسكر كثيف فنازلهم ودعاهم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجيبوه فقاتلهم قتالًا شديداً حتى ظفر بهم فتحصن عدة منهم حتى أمنهم أبو عون فخرجوا إليه وأقام معه بعضهم وتفرق بعضهم ، وكتب أبو مسلم الى اصبهبذ طبرستان يدعوه إلى الطاعة وأداء الخراج فأجابه إلى ذلك

وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند بمثل ذلك فأجابه إنما أنت خارجي وإن أمرك سينقضي فغضب أبو مسلم وكتب إلى موسى بن كعب وهو بالري يأمره بالمسير إليه وقتاله إلى أن يذعن بالطاعة ، فسار إليه وراسله فامتنع من الطاعة وأداء الخراج ، فأقام موسى ولم يتمكن من المصمغان لضيق بلاده ، وكان المصمغان يرسل إليه كل يوم عدة  كثيرة من الديلم يقاتله في عسكره وأخذ عليه الطرق ومنع الميرة وكثرت في أصحاب موسى الجراح والقتل ، فلما رأى أنه لا يبلغٍ غرضاً عاد إلى الري ، ولم يزل المصمغان ممتنعاً إلى أيام المنصور فأغزاه جيشاً كثيفا عليهم حماد بن عمرو ففتح دنباوند على يده ، ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم - فيما ذكر- عن مرو فنزل نيسابور ، وأما قحطبة فإنه سيّر ابنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث ،ليالٍ إلى همذان فلما توجه إليها سار عنها مالك بن أدهم ومن كأن بها من أهل الشام ، وأهل خراسان إلى نهاوند فأقام بها وفارقه ناس كثير ، ودخل الحسن همذان وسار منها إلى نهاوند فنزل على أربعة فراسخ من المدينة ، فأمده قحطبة بأبي الجهم بن عطية مولى بأهلة في سبعمائة وأطال حتى أطاف بالمدينة وحصرهم

ذكر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهان

وكأن سبب قتله أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هارباً نحو خراسان وسلك إليها طريق كرمان وسار عامر في أثره ، وبلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان فلما بلغه خبره كتب إلى ابن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد ابن عمر بن هبيرة أن يسيرا إِلى قحطبة وكانا بكرمان ، فسارا في خمسين ألفاً فنزلوا بأصبهان - وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر- ، فبعث قحطبة إليهم جماعة من القواد وعليهم جميعاً مقاتل بن حكيم العكي فساروا حتى نزلوا قم ، وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بن قحطبة بنهاوند فسار ليعين من بها من أصحاب مروان ، فأرسل العكي من قُمّ إلى قحطبة يعلمه بذلك ، فأقبل قحطبة من الري حتى لحق مقاتل بن حكيم العكي ثم سار فالتقوا هم وابن ضبارة ، وداود بن يزيد بن هبيرة ، وكان عسكر قحطبة عشرين ألفاً فيهم خالد بن برمك ، وكان عسكر ابن ضبارة مائة ألف ؟ وقيل : خمسين ومائة ألف ، فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح ونادى يا أهل الشام أنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف فشتموه وأفحشوه في القول ، فأرسل قحطبة إلى أصحابه يأمرهم بالحملة فحمل عليهم العكي وتهايج الناس ولم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلًا ذريعاً ، وانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره وتبعه قحطبة فنزل ابن ضبارة ونادى إلى إلى فانهزم الناس عنه ، وانهزم داود بن هبيرة فسأل عن ابن ضبارة فقيل : انهزم فقال : لعن الله شرنا منقلباً وقاتل حتى قتل وأصابوا عسكره وأخذوا منه ما لا يعلم قدره من السلاح ، والمتاع ، والرقيق ، والخيل ، وما رؤي عسكر قط كان فيه من أصناف الأشياء ما في هذا العسكر كأنه مدينة ، وكان فيه من البرابط ، والطنابير ، والمزامر ، والخمر ما لا يحص ، وأرسل قحطبة بالظفر إلى ابنه الحسن وهو بنهاوند وكانت الوقعة بنواحي اصبهان في رجب .

ذكر محاربة قحطبة أهل نهاوند ودخولها

ولما قتل ابن ضبارة كتب قحطبة بذلك إلى ابنه الحسن - وهو يحاصر نهاوند -

فلما أتاه الكتاب كبر هو وجنده ونادوا بقتله ، فقال عاصم بن عمير السعدي : ما نادى هؤلاء بقتله إِلا وهو حق فأخرجوا إِلى الحسن بن قحطبة فانكم لا تقومون له فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أو مدد من عنده ، فقالت الرجالة : تخرجون وأنتم فرسان على خيول وتتركوننا، وقال له مالك بن أدهم الباهلي : لا أبرح حتى يقدم عليّ قحطبة .

وأقام قحطبة على أصبهان عشرين يوما ثم سار فقدم على ابنه بنهاوند فحصرهم ثلاثة أشهر شعبان ، رمضان ، وشوال ووضع عليهم المجانيق ، وأرسل إلى من بنهاوند من أهل خراسان يدعوهم إليه وأعطاهم الأمان فأبوا ذلك ، ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فأجابوه وقبلوا أمانه وبعثوا إليه يسألونه أن يشغل عنهم أهل المدينة بالقتال ليفتحوا له الباب الذي يليهم ، ففعل ذلك قحطبة وقاتلهم ففتح أهل الشام الباب فخرجوا ، فلما رأى أهل خراسان ذلك سألوهم عن خروجهم ، فقالوا : اخذنا الأمان لنا ولكم فخرج رؤساء أهل خراسان فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى قائد من قواده ثم أمر فنودي من كان بيده أسير ممن خرج إلينا فليضرب عنقه وليأتنا برأسه ففعلوا ذلك ، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم إلا قتل إلا أهل الشام فإنه وفى لهم وخلى سبيلهم وأخذ عليهم أن لا يمالؤا عليه عدواً ولم يقتل منهم أحداً ؛ وكان ممن قتل من أهل خراسان أبو كامل ، وحاتم بن الحرث بن سريج ، وابن نصر بن سيار ، وعاصم بن عمير ، وعلي بن عمّيل ، وبيهس ، ولما حاصر قحطبة نهاوند أرسل ابنه الحسن إلى مرج القلعة فقدم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكندي فهرب من حلوان وخلاها.

ذكر فتح شهر زور

ثم إن قحطبة وجه أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ، ومالك بن طرافة(1) الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور - وبها عثمان بن سفيان على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد- فنزلوا على فرسخين من شهر زور في العشرين من ذي الحجة ، وقاتلوا عثمان بعد يوم وليلة من نزولهم فانهزم أصحاب عثمان وقتل وأقام أبو عون في بلاد الموصل ، وقيل : إن عثمان لم يقتل ولكنه هرب إلى عبد الله بن مروان وغنم ابو عون عسكره وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة ، وسير قحطبة العساكر إلى أبي عون فاجتمع معه ثلاثون الفاً .
ولما بلغ خبر أبي عون مروان بن محمد - وهو بحران - سار منها ومعه جنود أهل الشام ، والجزيرة ، والموصل وحشر معه بنو أمية أبناءهم وأقبل نحو أبي عون حتى نزل الزاب الأكبر ، وأقام أبو عون بشهرزور بقية ذي الحجة والمحرم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة وفرض بها بخمسة آلاف .

ذكر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراق

ولما قدم على يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق ابنه داود منهزماً من حلوان خرج يزيد نحو قحطبة في عدد كثير لا يحصى ومعه حوثرة بن سهيل الباهلي -وكان مروان أمد به ابن هبيرة - وسار ابن هبيرة حتى نزل جلولاء الوقيعة واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفروه أيام وقعة جلولاء وأقام ، وأقبل قحطبة حتى نزل قرماسين ثم سار إلى حلوان ثم إلى خانقين وأتى عكبرا وعبر دجلة ومضى حتى نزل دمما دون الانبار وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفاً مبادراً إلى الكوفة لقحطبة وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفاً إلى الكوفة وقيل : إن حوثرة لم يفارق ابن هبيرة ، وأرسل قحطبة طائفة من أصحابه إلى الانبار وغيرها وأمرهم باحدار ما فيها من السفن إلى دمما ليعبروا الفرات فحملوا إليه كل سفينة هناك ، فقطع قحطبة الفرات من دمما حتى صار في غربيه ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة وخرجت السنة .


ذكر عدة حوادث

وحج بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي - وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد الذي قتل أبا حمزة وكان هو على الحجاز-ولما بلغ الوليد قتل عمه عبد الملك مضى إلى الذين قتلوه فقتل منهم مقتلة عظيمة وبقر بطون نسائهم وقتل، الصبيان وحرق بالنار من قدر عليه منهم ، وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي ، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.

وفيها توفي منصور بن المعمر السلمي أبو عتاب الكوفي .

وفيها قتل أبو مسلم الخراساني جبلة بن أبي داود العتكىِ مولاهم أخا عبد العزيز ابن داود ويكنى أبا مروان .

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة

ذكر هلاك قحطبة ، وهزيمة ابن هبيرة

وفي هذه السنة هلك قحطبة بن شبيب ، وكان سبب ذلك أن قحطبة لما عبر الفرات وصار في غربيه وذلك في المحرم لثمان مضين منه وكان ابن هبيرة قد عسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا على رأس ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة وقد اجتمع إليه فل بن ضبارة فأمده مروان بحوثرة الباهلي ، فقال حوثرة وغيره لابن هبيرة : إن قحطبة قد مضى يريد الكوفة فاقصد أنت خراسان ودعه ومروان فإنك تكسره وبالحري أن يتبعك ، قال : ما كان ليتبعني ويدع الكوفة ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة فعبر دجلة من المدائن يريد الكوفة ، فاستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة - والفريقان يسيران على جانبي الفرات - وقال قحطبة : إن الامام أخبرني أن في هذا المكان وقعة يكون النصر لنا ، ونزل قحطبة الجبارية وقد دلوه على مخاضة فعبر منها وقاتل حوثرة ، ومحمد بن نباتة فانهزم أهل الشام وفقدوا قحطبة ، فقال أصحابه : من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به . فقال مقاتل بن مالك العتكي : سمعت قحطبة يقول : إن حدث بي حدث فالحسن ابني أمير الناس فبايع الناس حميد بن قحطبة لأخيه الحسن - وكان قد سيره أبوه في سرية - فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا إليه الأمر ، ولما فقدوا قحطبة بحثوا عنه فوجدوه في جدول وحرب بن سالم بن أحوز قتيلين فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه .

وقيل : ان معن بن زائدة ضرب قحطبة لما عبر الفرات على حبل عاتقه فسقط في الماء فأخرجوه فقال : شدوا يدي إذا أنا متّ وألقوني في الماء لئلا يعلم الناس بقتلي ، وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة ، وأهل الشام ، ومات قحطبة وقال قبل موته : إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلال فسلموا هذا الأمر إليه ، وقيل : بل غرق قحطبة، ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة فانهزم ابن هبيرة بهزيمتهم ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال ، والسلاح ، وغير ذلك ، ولما قام الحسن بن قحطبة بالأمر أمر بإحصاء ما في العسكر ، وقيل : إن حوثرة كان بالكوفة فبلغه هزيمة ابن هبيرة فسار إليه فيمن معه .

ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوداً

وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد بن عبد الله القسري بالكوفة وسود قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وأخرج عنها عامل ابن هبيرة ثم دخلها الحسن ، وكأن من خبره أن محمداً خرج بالكوفة ليلة عاشوراء مسوداً، وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي ، وعلى شرطه عبد الرحمن بن بشير العجلي ، وسار محمد الى القصر فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام ودخل محمد القصر ، وسمع حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة فتفرق عن محمد عامة من معه لما بلغهم الخبر وبقي في نفر يسير من أهل الشام ، ومن اليمانيين من كان هرب من مروان وكان معه مواليه ، وأرسل أبو سلمة الخلال -ولم يظهر بعد -إلى محمد يأمره بالخروج من القصر تخوفاً عليه من حوثرة ومن معه . ولم يبلغ أحداً من الفريقين هلاك قحطبة - فأبى محمد أن يخرج ، وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيأ للمسير نحوه ، فيينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه فقال له : قد جاءت خيل من أهل الشام فوجه إليهم عدة من مواليه فناداهم الشاميون نحن بجيلة وفينا مليح بن خالد البجلي جئنا لندخل في طاعة الأمير فدخلوا ، ثم جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الأصفح الكناني ، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل ، فلما رأى ذلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة -وهولا يعلم بهلاكه -يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة ، فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة فلما دفع إليه . كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس ثم ارتحل نحو الكوفة ، فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة ، ويوم السبت ، والأحد وصبحه الحسن يوم الاثنين .

وقد قيل : إن الحسن بن فحطبة أقبل نحو الكوفة بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلي فهرب عنها فسود محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلًا وبايع الناس ودخلها الحسن من الغد ، فلما دخلها الحسن هو ، وأصحابه أتوا أبا سلمة- وهو في بني سلمة- فاستخرجوه فعسكر بالنخيلة يومين ثم ارتحل إلى حمام أعين ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة ، وبايع الناس أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع - وكان يقال له وزير آل محمد - واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله على الكوفة وكان يقال له الأمير حتى ظهر أبو العباس السفاح ، ووجه ابن قحطبة إلى المدائن في قراد ، وبعث المسيب بن زهير ، وخالد بن برمك إلى ديرقني ، وبعث المهلبي ، وشراحيل إلى عين التمر ، وبسام بن ابراهيم بن بسام الى الأهواز وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة ، فلما أتى بسام الأهواز خرج عنها عبد الواحد إلى البصرةَ بعد أن قاتله وهزمه بسام ،وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملًا عليها فقدمها-وكان عليها سلم بن قتيبة الباهلي عاملًا لابن هبيرة وقد لحق به عبد الواحد بن هبيرة -كما تقدم ذكره -فأرسل سفيان بن معاوية إلى سلم يأمره بالتحول من دار الإمارة ويعلمه ما أتاه من رأي أبي سلمة ، وامتنع وجمع معه قيساً، ومضر، ومن بالبصرة من بني أمية ، وجمع سفيان جميع اليمانية ، وحلفاءهم من ربيعة، وغيرهم وأتاهم قائد من قواد ابن هبيرة كان بعثه مدداً لسلم في ألفي رجل من كلب ، فأتى سلم سوق الإبل ووجه الخيول في شكك البصرة ونادى من جاء برأس فله خمسمائة ومن جاء بأسير فله ألف درهم ؛ ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة وخاصته فلقيه خيل تميم فقل! معاوية وأتي برأسه إلى سلم فأعطى قاتله عشرة آلاف  وانكسر سفيان بقتل ابنه فانهزم ، وقدم على سلم بعد ذلك أربعة آلاف من عند مروان فأرادوا نهب من بقي من الأزد فقاتلهم قتالاً شديداً وكثرت القتلى بينهم وانهزمت الازد ونهبت دورهم وسبيت نساؤهم وهدموا البيوت ثلاثة أيام ، ولم يزل سلم بالبصرة حتى أتاه قتل ابن هبيرة فشخص عنها ، واجتمع من بالبصرة من ولد الحرث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أياماً يسيرة حتى قدم البصرة أبو مالك عبد اللّه بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم ، فلما قدم أبو العباس ولّاها سفيان بن معاوية ، وكان حرب سفيان ، وسلم بالبصرة في صفر ، وفيها عزل مروان عن المدينة الوليد بن عروة واستعمل أخاه يوسف بن عروة في شهر ربيع الأول ( انقضت الدولة الأموية ) .

ذكر ابتداء الدولة العباسية ربيعة أبي العباس

في هذه السنة بويع أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في شهر ربيع الأول ، وقيل : في ربيع الآخر لثلاث عشرة مضت منه ، وقيل : في جُمادى الأولى ، وكان بدء ذلك وأوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم العباس بن عبد الطلب أن الخلافة تؤول إلى ولده ، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك ويتحدثون به بينهم ، ثم ان أبا هاشم بن الحنفية خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقال له : إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم فلا يسمعنه منكم أحد ، وقد تقدم في خبر ابن الأشعث قول خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان : أما إذا كأن الفتق من سجستان فليس عليك منه بأس إنما كنا نتخوف لو كان من خراسان ، وقال محمد بن علي بن عبد اللّه : لنا ثلاثة أوقات ، موت الطاغية يزيد بن معاوية ، ورم س المائة ، وفنق افريقية فعند ذلك يدعو لنا دعاة ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيلهم المغرب ويستخرجون ما كنز الجبارون ؛ فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد بن علي إلى خراسان داعياً وأمره أن يدعو إلى الرضا ولا يسمي أحداً ، وقد ذكرنا فيما تقدم خبر الدعاة ، وخبر أبي مسلم .

وقبض مروان على ابراهيم بن محمد وكان مروان لما أرسل المقبض عليه وصف للرسول صفة أبي العباس لأنه كان يجد في الكتب أن من هذه صفته يقتلهم ويسلبهم ملكهم وقال له : ليأتيه بإبراهيم بن محمد ، فقدم الرسول فأخذ أبا العباس بالصفة فلما ظهر ابراهيم وأمن قيل للرسول : إنما أمرت بابراهيم وهذا عبد الله فترك أبا العباس وأخذ ابراهيم فانطلق به إلى مروان ، فلما رآه قال : ليس هذه الصفة التي وصفت لك فقالوا : قد رأينا الصفة التىِ وصفت وإنما سميت إبراهيم فهذا ابراهيم فأمر به فحبس وأعاد الرسل في طلب أبي العباس فلم يروه ، وكان سبب مسيره من الحميمة أن ابراهيم لما أخذه الرسول نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبدالله بن محمد وبالسمع له وبالطاعة وأوصى إلى أبي العباس وجعله الخليفة بعده فسار أبو العباس ومن معه من أهل بيته ، ومنهم أخوه أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ، ومحمد ابنا أخيه ابراهيم وأعمامه داود ، وعيسى ، وصالح وإسماعيل وعبد الله ، وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس ، وابن عمه داود ، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي ، ويحيى بن جعفر بن تمام بن عباس حتى قدموا الكوفة في صفر وشيعتهم من أهل خراسان بظاهر الكوفة بحمام أعين فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني داود وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من جميع القواد ، والشيعة ، - وأراد فيما ذكر- أن يحول الأمر إلىَ آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت ابراهيم الإِمام فقال له أبو الجهم : ما فعل الامام ؟ قال لم يقدم بعد فألح عليه فقال : ليس هذا وقت خروجه لأن واسطاً لم تفتح بعد ، وكان أبو سلمة إذا سئل عن الامام يقول : لا تعجلوا ، فلم يزل ذلك من أمره حتىٍ دخل أبو حميد محمد ابن ابراهيم الحميري من حمام أعين يريد الكناسة فلقي خادما لابراهيم الإِمام يقال له : سابق الخوارزمي فعرفه فقال له : ما فعل ابراهيم الِإمام ؟ فأخبره أن مروان قتله وأن ابراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس واستخلفه من بعده وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته ، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم فقال له سابق : الموعد بيني وبينك غداً في هذا الموضع وكره سابق أن يدله عليهم إلا بإذنهم ، فرجع أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره وهو في عسكر أبي سلمة فأمره أن يلطف للقائهم ، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقاً فلقيه فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته ، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد من الخليفة منهم ؟ فقال داود بن علي : هذا إمامكم وخليفتكم وأشار إلى أبي العباس فسلم عليه بالخلافة وقبل يديه ورجليه وقال : مرنا بأمرك وعزاه بإبراهيم الإِمام ، ثم رجع وصحبه ابراهيم بن سلمة رجل كان يخدم بني العباس إلى أبي الجهم فاخبره عن منزلهم وأن الإمام أرسل إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار يعطيها الجمال كراء الجمال التي حملتهم فلم يبعث بها إليهم ، فمشى أبو الجهم ، وأبو أحمد ، وابراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعب وقصوا عليه القصة وبعثوا إلى الإِمام بمائتي دينار مع ابراهيم بن سلمة ، واتفق رأي جماعة من القواد على أن يلقوا الامام . فمضى موسى بن كعب ، وابو الجهم ، وعبد الحميد بن ربعي ، وسلمة بن محمد ، وابراهيم بن سلمة ، وعبد الله الطائي ، واسحاق بن ابراهيم ، وشراحيل ، وعبد الله بن بسام ، وأبو حميد محمد بن ابراهيم ، وسليمان بن الاسود ، ومحمد بن الحصين إلى الامام أبي العباس ، وبلغ ذلك أبأ سلمة فسأل عنهم فقيل : إنهم دخلوا  .

الكوفة في حاجة لهم ، وأتى القوم أبا العباس فقال : وايكم عبد الله بن محمد بن الحارثية ؟ فقالوا : هذا فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في ابراهيم ، ورجع موسى بن كعب ، وأبو الجهم وأمر أبو الجهم الباقين فتخلفوا عند الامام ، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم أين كنت ؟ قال : ركبت إلى امامي ، فركب أبو سلمة الى الامام فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أن ابا سلمة قد أتاكم فلا يدخلن على الإمام إلا وحده ، فلما انتهى إليهم ابن سلمة منعوه أن يدخل معه م حد فدخل وحده فسلم بالخلافة على أبي العباس ، فقال له أبو حميد : على رغم أنفك يا ماص بظر أمه فقال له أبو العباس : مَهْ وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره فعاد.

وم صبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح واصطفوا لخروج أبي العباس وأتوا بالدواب فركب برذوناً أبلق وركب من معه من أهل بيته فدخلوا دار الامارة ، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلى بالناس ثم صعد المنبر حيِن بويع له بالخلافة فقام في أعلاه وصد عمه داود بن علي فقام دونه فتكلم أبو العباس فقال : الحمد لله الذي. اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له فالزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها ، وخصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته ، وأنشأنا من آبائنا وأنبتنا من شجرته واشتقنا من نبعته ، جعله من م نفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا حريصاً علينا بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً ، ووضعنا من الاسلام وأهله بالموضع الرفيع وأنزل بذلك على أهل الاسلام كتاباً يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه : { إنما يريدُ الله ليذهِبَ عنكمُ الرِجس أهلَ البيتِ ويطهركم تطهيراً }) وقال تعالى { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } وقال : { وأنذرْ عشيرَتَك الأقربين }( وقال : { وما أفاءَ الله على رسوله من أهلِ القرى فلله وللرسول ولذي القُربى واليتامى } وقال : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى" فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وفضلاً علينا والله ذو الفضل العظيم ، وزعمت الشامية  الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة ، والسياسة ، والخلافة منا فشاهت وجوههم ، بمَ وبمَ أيّها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصرهم بعد جهالتهمِ وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق ودحض الباطل وأصلح بنا منهم ما كان فاسداَ ورفع بنا الخسيسة وتمم بنا النقيصة وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم وإخواناً على سرر متقابلين في آخرتهم ، فتح الله ذلك منة وبهجة لمحمد صلى الله -عليه وسلم فلما قبضه الله إليه وقام بالأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم حووا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصاً منها ، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانبذوها وتداولوها فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حيناً حتى أسفوه فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولي نصرنا والقيام بأمرنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض ، وختم بنا كما افتتح بنا ، وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت !لا بالله ، يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا ، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا ، وقد زدتكمِ في أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح وكان موعوكاَ فاشتد عليه الوعك فجلس على المنبر .

وقام عمه داود على مراقي المنبر فقال : الحمد للهّ شكراً الذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أيها الناس الآن اقشعت حنادس الدنيا وانكشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه وأخذ القوس باريها وعاد السهم إلى منزعه ورجم ، الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم ، أيها الناس إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ولا عقياناً ولا نحفر نهراً ولا نبني قصراً وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزازهم حقنا والغضب لبني عمنا وما كرهنا من أموركم ، فلقد كانت أموركم ترفضنا ونحن على فرشنا ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم واستنزالهم  لكم واستثمارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم ، لكم ذمة الله تبارك وتعالى.

وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذمة العباس رحمه الله علينا أن نحكم فيكم بما أنزل الله ونعمل فيكم بكتاب الله ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تباً تباً لبني حرب بن أمية ، وبني مروان آثروا في مدتهم العاجلة على الآجلة والدار الفانية على الدار الباقية فركبوا الآثام وظلموا الأنام وانتهكوا المحارم وغشوا بالجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسنتهم في البلاد ومرحوا في أعنة المعاصي وركضوا في ميدان الغي جهلاً باستدراج الله وأمناً لمكر الله فاتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق فبعداَ للقوم ا الظالمين ، وأدالنا الله من مروان وقد غره بالله الغرور أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه وظن عدو الله أن لن نقدر عليه فنادى حزبه وجمع مكايده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله من مكر الله وباسه ونقمته ما أمات باطله ومحا ضلاله وجعل دائرة السوء به وأحيا شرفنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا.

أيها الناس إن أمير المؤمنين نصره الله نصراً عزيزاً إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة لأنه كاره أن يخلط بكلام الجمعة غيره ، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية ، فقد بدلكم الله مروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع السفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين الشاب المكتمل المتمهل المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى-فعج الناس له بالدعاء -ثم قال : يا أهل الكوفة إنَّا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أباح الله لنا شيعتنا أهل خراسان فأحيا بهم حقنا وأبلج بهم حجتنا وأظهر بهم دولتنا وأراكم الله بهم ما كنتم تنتظرون ، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيَّض به وجوهكم وأدالكم على أهل الشام  .

ونقل إليكم السلطان وأعز الإسلام ومنَّ عنتكم بإمام منحه العدالة وأعطاه حسن الإيالة فخذوا ما آتاكم الله بشكر والزموا طاعتنا ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الأمر أمركم وإن لكل أهل بيت مصراً وانكم مصرنا ، ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار بيده إلى أبي العباس السفاح ، واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام ، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ثم نزل أبو العباس ، وداود بن علي أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس في المسجد فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلى بهم العصر ثم المغرب وجنهم الليل فدخل .

وقيل : إن داود بن علي لما تكلم قال في آخر كلامه : أيها الناس إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة إلا علي بن أبي طالب ، وأمير المؤمنين الذي خلفي ثم نزلا ، وخرج أبو العباس بعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة ونزل معه في عمرته بينهما ستر ، وحاجب السفاح -يومئذ-عبد الله بن بسام ، واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن علي ، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور ، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط ، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن ، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن ابراهيم بن بسام بالأهواز ، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف ، وأقام السفاح بالعسكر أشهراً ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة - وكان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك .

وقد قيل : إن داود بن علي ، وابنه موسى لم يكونوا بالشام عند مسير بني العباس إلى العراق إنما كانا بالعراق أو بغيره فخرجا يريدان الشام فلقيهما أبو العباس وأهل بيته يريدون الكوفة بدومة الجندل ، فسألهم داود عن خبرهم فقص عليه أبو العباس قصتهم وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم ، فقال له داود : يا أبا العباس تأتي الكوفة وشيخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام ، والجزيرة وشيخ العرب يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق في جند العرب فقال : يا عمي من أحب الحياة ذل ، ثم لمثل بقول الأعشى :

# فما ميتَةٌ إن مِتُّها غيرَ عاجز بعار إذا ما غالتِ النفسَ غُولُها

فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال : صدق والله ابن عمك فارجع بنا معه نعش لم أعزاء ونمت كرماء فرجعوا جميعاً ، فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة : ان نفراً أربعة عشر رجلًا خرجوا من دارهم وأهلهم يطلبون ما لجلبنا لعظيمة همتهم ، كبيرة أنفسهم ، شديدة قلوبهم .

ذكر هزيمة مروان بالزاب

قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور  وانه قتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل وإن مروان بن محمد سار إليه من حران حتى بلغ الزاب وحفر خندقاً وكان في عشرين ومائة ألف ، وسار أبو عون إِلى الزاب فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى ، والمنهال بن فتان  واسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف ، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين ، وعبد الله الطائي في ألف وخمسمائة ، وعبد الحميد بن ربعي الطائي ني ألفين ، ووداس بن نضلة في خمسمائة إلى أبي عون ثم قال : من يسير إلى مروان من أهل بيتي ؟ فقال عبدالله بن علي : أنا فسيره إلى أبىِ عون فقدم عليه فتحول أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه ، فلما كان لليلتين خلتا من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة سأل عبد الله ابن علي عن مخاضة فدل عليها بالتراب فأمر عيينة بن موسى فعبر في خمسة آلاف فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا ورجع إلى عبد الله بن علي ، وأصبح مروان فعقد الجسر وعبر عليه فنهاه وزراؤه عن ذلك فلم يقبل وسير إبنه عبد الله فنزل أسفل من عسكر عبد الله بن علي ، فبعث عبد الله بن علي المخارق في أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان فسرح إليه ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فالتقيا فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو فأسر هو وجماعة وسيَّرهم إلى مروان مع رؤوس القتلى ،فقال مروان : ادخلوا علي رجلاً من الأسرى فأتوه بالمخارق وكان نحيفاً ، فقال : أنت المخارق قال : لا أنا عبد من عبيد أهل العسكر قال : فتعرف المخارق ؟ قال : نعم ، قال : فانظر هل تراه في هذه الرؤوس ؟ فنظر إلى رأس منها فقال : هو هذا فخلى سبيله ،فقال رجل مع مروان حين نظر المخارق وهو لا يعرفه : لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم ، وقيل : إن المخارق لما نظر إلى الرؤوس قال : ما أرى رأسه فيها ولا أراه إلا قد ذهب فخلى سبيله .

ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن علي أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر لئلا ينكر قومهم وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال قبل أن يظهر أمر المخارق فيفت ذلك في أعضاد الناس ، فنادى فيهم بلبس السلاح والخروج إلى الحرب فركبوا ، واستخلف على عسكره محمد بن صول وسار نحو مروان ، وجعل على ميمنته أبا عون ، وعلى ميسرته الوليد بن معاوية ، وكان عسكره عشرين ألفاً ، وقيل : اثني عشر ألفاً ، وقيل : غير ذلك ، فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز : ان زالت اليوم الشمس ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح عليه السلام وان قاتلونا فأقبل الزوال فإنَّا للّه وإنَّا إليه راجعون ، وأرسل مروان إلى عبد اللّه يسأله الموادعة فقال عبد الله : كذب ابن رزيق لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء اللّه فقال مروان لأهل الشام : قفوا لا تبدؤهم بالقتال وجعل ينظر إلى الشمس ؛ فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم - وهو ختن مروان بن محمد على ابنته -فغضب وشتمه .

وقاتل ابن معاوية أبا عون فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي فقال لموسى بن كعب : يا عبد الله مر الناس فلينزلوا فنودي الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فقاتلوهم وجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون ، ومشى عبد اللّه بن علي فدعا وهو يقول : يا رب حتى متى نقتل فيك ؟ ونادى يا أهل خراسان يا لثارات ابراهيم يا محمد يا منصور واشتد بينهم القتال.

فقال مروان لقضاعة : انزلوا ، فقالوا : قل لبني سليم فلينزلوا ، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا :قل لبني عامر فليحملوا ،فأرسل إلى السكون أن احملوا  فقالوا : قل لغطفان فليحملوا ، فقال لصاحب شرطته :انزل ، فقال : والله ما كنت لأجعل نفسي غرضاً قال : اما والله لأسوأنك فقال : وددت والله أنك قدرت على ذلك ، وكان مروان ذلك اليوم لا يدبر شيئاً إلا كان فيه الخلل ، فأمر بالأموال فأخرجت وقال للناس : اصبروا وقاتلوا فهذه الاموال لكم فجعل نأس من الناس يصيبون من ذلك ، فقيل له : ان الناس قد مالوا على هذا المال ولا نأمنهم أن يذهبوا به ، فارسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى قوم عسكرك فاقتل من أخذ من المال فأمنعهم ، فمال عبد الله برايته وأصحابه فقال الناس : الهزيمة الهزيمة فأنهزم مروان وانهزموا وقطع الجسر وكان من غرق يومئذ اكثر ممن قتل ، فكان ممن غرق يومئذٍ إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن المخلوع فاستخرجوه في الغرقى فقرأ عبد الله { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون } وقيل : بل قتله عبد الله بن علي بالشام ، وقتل في هذه الوقعة سعيد بن هشام بن عبد الملك ، وقيل : بل قتله عبد اللّه بالشام ، وأقام عبد الله بن علي في عسكره سبعة أيام فقال رجل من ولد سعيد بن العاص يعير مروان :

# لَجَّ الفِرارُ بمروان فقلت له عاد الظلومُ ظَليماً همُه الهَرَبُ

# اينَ الفرار وتركُ المُلكِ إذ ذهبت عنك الهوَينا فلا دين ولا حَسَبُ

# فراشَةُالحلم فرعونُ العِقابِ وإن تَطلُبْ نداه فكلبٌ دونه كَلبُ

وكتب يومئذ عبد اللّه بن علي إلى السفاح بالفتح وحوى عسكر مروان بما فيه فوجد سلاحاً كثيراً وأموالًا ولم يجد فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد اللهّ بن مروان ، فلما أتى الكتاب السفاح صلى ركعتين ثم قال { فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر- إلى قوله - وعلمه مما يشاء } وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة دينار ورفع أرزاقهم إلى ثمانين ، وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لاحدى عشرة ليلة خلت من جُمادى الآخرة ، وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك -وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس -فلما تقدم إلى القتال رأى عبد اللّه بن علي فتى عليه أبهة الشرف يقاتل مستقتلَاَ فناداه يا فتى لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد فقال : إن لم أكنه فلست بدونه قال : فلك الأمان ولو كنت من كنت فأطرق ثم قال :

# أذل الحياة وكره الممات وكلا أراه طعاماً وبيلا

# فإن لم يكن غير إحداهما فسير إلى الموت سيراً جميلا

ثم قاتل حتى قتل فإذا هو مسلمة بن عبد الملك .

ذكر قتل ابراهيم بن محمد بن علي الإمام

قد ذكرنا سبب حبسه واختلف الناس في موته فقيل : إن مروان حبسه بحران وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ، ومروان ، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، والعباس بن الوليد بن عبد الملك ، وأبا محمد السفياني هلك منهم في وباء وقع بحران العباس بن الوليد ، وابراهيم بن محمد بن علي الامام ، وعبد الله بن عمر ، فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام ، وابن عمه ، ومن معه من المحبوسين فقتلوا صاحب السجن وخرجوا فقتلهم أهل حران ومن فيها من الغوغاء ، وكأن فيمن قتله أهل حران شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك ، وعبد الملك ابن بشر التغلبي ، وبطريق أرمينية الرابعة - واسمه كوشان - وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس فلم يخرج فيمن خرج ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس فقدمٍ مروان منهزماً من الزاب فجاء فخلى عنهم ، وقيل : إن مروان هدم على ابراهيم بيتا فقتلة .

وقد قيل : إن شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوساً مع ابراهيم فكانا يتزاوران فصار بينهما مودة فأتى رسول من شراحيل إلى ابراهيم يوماً بلبن فقال : يقول لك اخوك : إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فاحببت أن تشرب منه فشرب منه فتكسر جسده من ساعته - وكان يوماً يزور فيه شراحيل فأبطأ عليه - فأرسل إليه شراحيل إنك قد أبطأت فما حبسك ؟ فأعاد إبراهيم إني لما شربت اللبن الذي أرسلت به قد أسهلني فأتاه شراحيل فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما شربت اليوم لبناً ولا أرسلت به إليك فإنَا لله لانَّا إليه راجعون احتِيل واللّه عليك ، فبات ابراهيم ليلته وأصبح ميتاً من الغد فقال ابراهيم بن هرثمة يرثيه :

#قد كنتُ أحسِبُني جَلداً فَضعَضعَني قبرٌ بحرَّان فيه عِصمةُ الدينِ

#فيه الإمامُ وخير الناس كلهم بين الصفائح والأحجار والطينِ

#فيه الإِمامُ الذي عمّتْ مُصيبتهُ وعَيَّلَتْ كل ذي مال ومِسكينِ

#فلا عفا اللّه عن مروانَ مظلمةً لكن عفا اللّه عمَّن قال آمينِ

وكان ابراهيم خيراً فاضلاً كريماً قدم المدينة مرة ففرق في أهلها مالأ جليلاً ، وبعث إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بخمسمائة دينار ، وبعث إِلى جعفر بن محمد بألف دينار فبعث إلى جماعة العلويين بمال كثير ، فأتاه الحسين بن زيد بن علي -وهو صغير-فأجلسه في حجره قال : من أنت ؟ قال : أنا الحسين بن زيد بن علي فبكى حتى بل رداءه وأمر وكيله بإحضار ما بقي من المال فأحضر أربعمائة دينار فسلمها إليه وقال : لو كان عندنا شيء آخر لسلمته إليك ؛ وسير معه بعض مواليه إلى أمه ريطة بنت عبد الملك بن محمد ابن الحنفية يعتذر إليها ، وكان مولده سنة اثنتين وثمانين ، وأمه أم ولد بربرية اسمها سلمى ، وكان ينبغي أن يقدم ذكر قتله على هزيمة مروان وانما قدمنا ذلك لتتبع الحادثة بعضها بعضاً .‏  ‏  ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏