المجلد الخامس - ذكر غزو الروم والفداء سهم

في هذه السنة فرغ صالح بن علي ، والعباس بن محمد من عمارة ما أخربه الروم من ملطية ، ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم ، وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ، ولبابة بنتا علي وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية ان تجاهدا في سبيل الله ، وغزا من درب ملطيِة جعفر بن حنظلة المهراني ، وفي هذه " السنة كان الفداء بين المنصور وملك الروم فاستفدى المنصور اسرى تالي قلا وغيرهم من الروم وبناها وعمرها ورد إليها أهلها ، وندب إليها جنداً من أهل الجزيرة وغيرهم فأقاموا بها وحمرها ، ولم يكن بعد ذلك صائفة فيما قيل إلا سنة ست وأربعين لاشتغال المنصور بابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي إلا أن بعضهم قال : ان الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن ابراهيم الامام في سنة اربعين وأقبل قسطنطين ملك الروم فى مائة ألف فبلغ جيحان فسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ثم لم يكن بعدها صائفة إلّى سنة ست وأربعين .

ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس

قد ذكرنا في سنة اثنتين وتسعين فتح الأندلس وعزل موسى بن نصير عنها ، فلما عزل عنها وسار إلى الشام استخلف عليها ابنه عبد العزيز وضبطها وحمى تغورها وافتتح ولايته مدائن كثيرة - وكان خيراً فاضلاً - وبقي أميراً إلى سنة سبع وتسعين ، وقيل : ثمان وتسعين فقتل بها وتد تقدم سبب قتله ، فلما قتل بقي أهل الاندلس ستة أشهر لا يجمعهم والٍ ، ثم اتفقوا على أيوب بن حبيب اللخمي –وهو ابن أخت مرسى بن نصبر- فكان يصلي بهم لصلاحه ، وتحول إلى قرطبة وجعلها دار إمارة في أول سنة

تسع وتسعين ، وقيل : سنة ثمان وتسعين ، ثم إن سليمان بن عبدالملك استعمل بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي فقدمها سنة ثمان وتسعين فأقام والياً عليها سنتين وتسعة أشهر ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان عنوة ويأخذ منه الخمس ويكتب إليه بصفة الأندلس ، وكأن رأيه اقفال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين ، فقدمها السمح سنة مائة في شهر رمضان وفعل ما أمره عمر وقتل عند انصرافه من دار الحرب سنة اثنتين ومائة ، وكان قد بدا لعمر في نقل أهلها عنها ثم تركهم ودعا لأهلها ، ثم وليها بعد السمح عنبسة بن سحيم الكلبي سنة ثلاث ومائة وتوفي في شعبان سنة سبع ومائة عند انصرافه من غزوة الافرنج ، ثم وليها وبعده يحمص بن سلمى الكلبي في ،ذي القعدة سنة سبع فبقي عليها والياً سنتين وستة أشهر .

ثم دخل الأندلس حذيفة بن الأبرص الاشجعي سنة عشر ومائة فبقي والياً عليها ستة أشهر ثم عزل ، ثم وليها عثمان بن أبي تسعة الخثعمي فقدمها سنة عشر ومائة وعزل آخر سنة عشر ومائة أيضاً وكانت ولايته خمسة أشهر ، ثم وليها الهيثم بن عبيد الكناني فقدمها في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة فأقام والياً عليها عشرة أشهر وأياماً ،ثم توفي في ذي الحجة فقدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي وكانت ولايته شهرين ، وولي بعدا، عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في صفر سنة اثنتي عشرة ومائة واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة أربع عشرة ومائة ، ثم وليها عبد الملك ابن قطن الفهري فأقام عليها سنتين وعزل ، ثم وليها بعده عقبة بن الحجاج السلولي دخلها سنة ست عشرة ومائة فوليها خمس سنين وثار أهل الأندلس به فخلعوه فولوا بعده عبد الملك بن قطن وهي ولايته الثانية .

وقد ذكر بعض مؤرخي الأندلس انه توفي فولي أهل الأندلس عبد الملك ، ثم وليها بلج بن بشر القشيري بايعه أصحابه فهرب عبد الملك ولحق بداره وهرب ابناه قطن ، وأمية فلحق أحدهما بماردة والآخر بسرقسطة ، ثم ثارت اليمن على بلج وسألوه قتل عبد الملك بن قطن فلما خشي فسادهم أمر به فقتل وصلب ، وكان عمره تسعين سنة فلما بلغ ابنيه قتله حشدا من ماردة إلى أربونة فاجتمع إليهما مائة ألف وزحفوا إلى بلج ومن معه بقرطبة ، فخرج إليهم بلج فلقيهم فيمن معه من أهل الشام بقرب قرطبة فئ مهما ورجع إِلى قرطبة فمات بعد أيام يسيرة ، وكان سبب قدوم بلج الأندلس أنه كان مع عمه كلثوم بن عياض في وقعة البربر سنة ثلاث وعشرين وقد تقدم ذكرها ، فلما قتل عمه سار إِلى الأندلس فأجازه عبد الملك بن قطن إليها وكان سبب قتله ، ثم ولى أهل الشام على الأندلس مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي فأقام إلى أن قدم أبو الخطار والياً على الأندلس سنة خمس وعشرين ومائة فدان له أهل الأندلس ، وأقبل إليه ثعلبة ، وابن أبي تسعة ، وابنا عبد الملك فأمنهم وأحسن إليهم واستقام أمره - وكان شجاعاً ذا رأي وكرم – وكثر أهل الشام عنده فلم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد ، فأنزل أهل دمشق البيرة لشبهها بها وسماها دمشق ، وأنزل أهل حمص اشبيلية وسماها حمص ، وأنزل أهل قنسرين بجيان وسماها قنسرين ، وأنزل أهل الأردن برية وسماها الأردن ، وأنزل أهل فلسطين بشذونة وسماها فلسطين ، وأنزل أهل مصر بتدمير وسماها مصر لشبهها بها.

ثم تعصب اليمانية وكأن ذلك سبباً لتألب الصميل بن حاتم عليه مع مضر وحربه وخلعه ، وقامت هذه الفتنة سنة سبع وعشرين ومائة ، وكان الصميل بن حاتم بن شمر ابن ذي الجوشن قد قدم الأندلس في امداد الشام فرأس بها فأراد أبو الخطار أن يضع منه فأمر به يوماً وعنده الجند فشتم وأهين فخرج وعمامته مائلة ، فقال له بعض الحجاب : ما بال عمامتك مائلة ؟ فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها ، وبعث إلى قومه فشكا إليهم ما لقي فقالوا : نحن لك تبع ، وكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي – وهو من أهل فلسطين – فوفد عليهم وأجابهم وتبعهم لخم ، وجذام ، فبلغ ذلك إلى أبى الخطار فسار إليهم فقتلوه فأنهزم أصحابه وأسر أبو الخطار ، ودخل ثوابة قصر قرطبة وأبو الخطار في قيوده فولي ثوابة الأندلس سنتين ، ثم توفي فأراد أهل اليمن إعادة أبي الخطار وامتنعت مضر ورأسهم الصميل وافترقت الكلمة فأقامت الأندلس أربعة أشهر بغير أمير ، وقد تقدم أبسط من هذا سنة سبع وعشرين ومائة ، فلما بقوا بغير أمير قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للأحكام .

فلما تفاقم الأمر اتفق رأيهم على يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري فوليها يوسف سنة تسع وعشرين ، فأستقر الأمر أن يلي سنة ثم يرد الأمر إلى اليمن فيولون من احبوا من قومهم ، فلما انقضت السنة أقبل أهل اليمن بأسرهم يريدون أن يولوا رجلًا منهم فبيتهم الصميل فقتل منهم خلقاً كثيراً في وقعة شقندة المشهورة ، وفيها قتل أبو الخطار واقتتلوا بالرماح حتى تقطعت وبالسيوف حتى تكسرت ثم تجاذبوا بالشعور وكان ذلك سنة ثلاثين ، واجتمع الناس على يوسف ولم يعترضه أحد ، وقد قيل غير ما ذكرنا وقد تقدم ذكره سنة سبع وعشرين ومائة ، ثم توالى القحط على الأندلس وجلا أهلها عنها وتضعضعت إلى سنة ست وثلاثين ومائة ،وفيها اجتمع تميم بن معبد الفهري وعامر العبدري بمدينة سرقسطة وحاربهما الصميل ثم سار إليهما يوسف الفهري فحاربهما فقتلهما ، وبقي يوسف على الأندلس إلى أن غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ، هذا ما ذكرناه من ولاة الأندلس على الاختصار ، وقد تقدم أبسط من هذا متفرقاً وإنما أوردناه ههنا متتابعاً ليتصل بعض أخبار الأندلس ببعض لأنها وردت متفرقة ، ونرجع إلى ذكر عبور عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إليها .

وأما سبب مسير عبد الرحمن إلى الغرب فإنه يحكى عنه أنه لما ظهرت الدولة العباسية وقتل من بني أمية من قتل ومن شيعتهم فر منهم من نجا في الارض ، وكان عبد الرحمن بن معاوية بذات الزيتون ففر منها ، إلى فلسطين وأقام هو ومولاه بدر يتجسس الأخبار ، فحكي عنه انه قال : لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس وأبيحت دماؤنا أتانا الخبر- وكنت منتبذاً من الناس - فرجعت الى منزلي آيساً ونظرت فيما يصلحني وأهلي وخرجت خائفاً حق صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض ، فبينا أنا ذات يوم بها وولدي سليمان يلعب بين يدي – وهو يومئذ ابن أربع سنين - فخرج عني ثم دخل الصبي من باب البيت باكياً فزعاً فتعلق بي وجعلت أدفعه وهو يتعلق بي فخرجت لأنظر لاذا بالخوف قد نزل بالقرية وإذا بالرايات السود منحطة عليها وأخ لي حدث السن يقول لي : النجاء النجاء فهذه رايات المسودة ، فأخذت دنانير معي ونجوت بنفسي وأخي وأعلمت أخواتي بمتوجهي فأمرتهن أن يلحقنني مولاي بدراً ، وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثراً ، فأتيت رجلًا من معارفي وأمرته فاشترى لي دواب وما يصلحني فدل عليّ عبد له العامل فاقبل في خيله يطلبني ، فخرجنا على أرجلنا هراباً والخيل تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات فسبقنا الخيل إلى الفرات فسبحنا فأما أنا فنجوت والخيل ينادوننا بالأمان ولا أرجع ، وأما أخي فانه عجز عن السباحة في نصف الفرات فرجع اليهم بالأمان وأخذوه فقتلوه وأنا أنظر إليه وهو ابن بث عشرة سنة فاحتملت فيه ثكلا ، ومضيت لوجهي فتواريت في غيضة أشبة حتى الطلب عني وخرجت فقصدت المغرب فبلغت افريقية، ثم إن أخته أم الأصبغ بدراً ومولاه ومعه نفقة له وجوهر ، فلما بلغ افريقية لج عبد الرحمن بن حبيب بن عبيدة الفهري ، قيل : هو والد يوسف أمير الأندلس وكان عبد الرحمن عامل بقية في طلبه واشتد عليه فهرب منه فأتى مكناسة -وهم قبيل من البربر-فلقي عندهم شدة يطول ذكرها ،ثم هرب من عندهم فأتى نفزاوة وهم أخواله وبدر معه .

وقيل : أتى قوماً من الزناتيين فأحسنوا قبوله واطمأن فيهم ، وأخذ في تدبير المكاتبة إلى الأمويين من أهل الأندلس يعلمهم بقدومه ويدعوهم إلى نفسه ، ووجه بدراً مولاه اليهم - وأمير الأندلس حينئذ يوسف بن عبد الرحمن الفهري - فسار بدر إليهم وأعلمهم حال عبد-الرحمن ودعاهم إليه فأجابوه ووجهوا له مركبا فيه ثمامة بن علقمة ووهب بن الأصفر ، وشاكر بن أبي الأسمط فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم له وأخذوه ورجعوا إلى الأندلس فأرسى في المنكب في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائة ، فأتاه جماعة من رؤسائهم من أهل اشبيلية وكان أيضاً نفوس أهل اليمن حنقة على الصميل ، ويوسف الفهري فأتوه ، ثم انتقل إلى كورة رية فبايعه عاملها عيسى بن مساور ، ثم أتى شذونة فبايعه غياث بن علقمة اللخمي ، ثم أتى موزور فبايعه ابراهيم ابن شجرة عاملها ؛ ثم أتى اشبيلية فبايعه أبو الصباح يحيى بن يحص ونهض إلى قرطبة أ- فبه لغ خبره إلى يوسف – وكان غائباً عن قرطبة بنواحي طليلة فأتاه الخبر وهو راجع إلى كالا قرطبة- فسار عبد الرحمن نحو قرطبة فلما أتى قرطبة تراسل هو ويوسف في الصلح ،. فخادعه نحو يومين أحدهما يوم عرفة ، ولم يشك أحد من أصحاب يوسف أن الصلح قد ابترم وأقبل على إعداد الطعام ليأكله الناس على السماط يوم الأضحى ،وعبد الرحمن مرتب خيله ورجله وعبر النهر في أصحابه ليلاً ونشب القتال ليلة الأضحى وصبر الفريقان إلى أن ارتفع النهار وركب عبد الرحمن على بغل لئلا يظن الناس أنه يهرب فلما رأوه كذلك سكنت نفوسهم وأسرع القتل في أصحاب يوسف وانهزم وبقي الصميل يقاتل مع عصابة من عشيرته ثم انهزموا فظفر عبد الرحمن ، ولما انهزم يوسف أتى ماردة وأتى عبد الرحمن قرطبة فأخرج حشم يوسف من القصر على عوده ودخله بعد ذلك .

ثم سار في طلب يوسف فلما احس به يوسف خالفه إلى قرطبة فدخلها وملك قصرها فأخذ جميع أهله وماله ولحق بمدينة البيرة وكان الصميل لحق بمدينة شوذر، وورد إلى عبد الرحمن الخبر فرجع إلى قرطبة طمعاً في لحاقه بها فلما لم يجده عزم على النهوض إليه فسار إلى البيرة وكان الصميل قد لحق بيوسف وتجمع لهما هناك جمع فتراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن ينزل يوسف بأمان هو ومن معه وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة ورهنه يوسف ابنيه أبا الاسود محمداً ، وعبد الرحمن وسار يوسف مع عبد الرحمن فلما دخل قرطبة تمثل :

# فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

واستقر عبد الرحمن بقرطبة وبنى القصر والمسجد الجامع وأنفق فيه ثمانين ألف دينار ومات قبل تمامه وبنى مساجد الجماعات ، ووافاه جماعة من أهل بيته وكان يدعو للمنصور ، وقد ذكر أبو جعفر أن دخول عبد الرحمن كان سنة تسع وثلاثين ، وقيل : سنة ثمان وثلاثين على ما ذكرنا. وهذا القدر كاف في ذكر دخوله الاندلس لئلا نخرج عن الذي قصدنا له من الاختصار. :

ذكر حبس عبد اللّه بن علي

ولما عزل سليمان عن البصرة . اختفى أخوه عبد الله بن علي ومن معه من أصحابه خوفاً من المنصور ، فبلغ ذلك المنصور فأرسل إلى سليمان ، وعيسى ابني علي بن عبد اللّه بن عباس في أشخاص عبد الله وأعطاهما الأمان لعبد الله وعزم عليهما أن يفعلا ، فخرج سليمان ، وعيسى بعبد الله وقواده ومواليه حتى قدموا على المنصور في ذي الحجة ، فلما قدموا عليه أذن لسليمان ، وعيسى فدخلا عليه وأعلماه حضور عبد الله وسألاه الإِذن له فأجابهما إلى ذلك وشغلهما بالحديث ، وكان قد هيأ لعبد الله مكاناً في قصره فأمر به أن يصرف إليه بعد دخول سليمان ، وعيسى ففعل به ذلك ، ثم نهض المنصور وقال لسليمان ، وعيسى : خذا عبد الله معكما فلما خرجا لم يجدا عبد الله فعلما أنه قد حبس فرجعا إلى المنصور فمنعا عنه ، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحابه وحبسوا . وقد كان خفاف بن منصور حذرهم ذلك وندم على مجيئه معهم وقال : ان أطعتموني شددنا شدة واحدة على أبي جعفر فوالله لا يحول بينه وبيننا حائل حتى نأتي عليه ولا يعرض لنا أحد الا قتلناه وننجو بأنفسنا فعصوه ، فلما أخذت سيوفهم وحبسوا جعل خفاف يضرط في لحية نفسه ويتفل في وجوه أصحابه ، ثم أمر المنصور بقتل بعضهم بحضرته وبعث الباقين إلى أبي داود خالد بن ابراهيم بخراسان فقتلهم بها.

ذكر عدة حوادث

عزل سليمان بن علي عن امارة البصرة ، وقيل : سنة أربعين واستعمل عليها سفيان بن معاوية في رمضان ، وحج بالناس هذه السنة العباس بن محمد بن علي ، وكان على مكة ،،والمدينة ، والطائف زياد بن عبيد الله الحرثي : وعلى الكوفة عيسى ابن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية ، وعلى قضائها سوار بن عبد الله ، وعلى -خراسان أبو داود .

وفيها مات عبد ربه سعيد بن قيس الأنصاري . وقيل : سنة احدى وأربعين .

وفيها مات العلاء بن عبد الرحمن مولى الخرقة ، ومحمد بن عبدالله بن عبد الرحمن أبي صعصعة المازني ، ويزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي وكان موته بالاسكندرية .

ثم دخلت سنة أربعين ومائة

ذكر هلاك أبى داود عامل خراسان وولاية عبد الجبار

وفي هذه السنة هلك أبو داود خالد بن ابراهيم الذهلي عامل خراسان ، وكان سبب هلاكه ان ناساً من الجند ثاروا به - وهو بكشماهن - ووصلوا إلى المنزل الذي هو فيه فاشرف عليهم من الحائط ليلاً فوطىء حرف آجرة خارجة وجعل ينادي أصحابه ليعرفوا صوته فانكسرت الآجرة تحته عند الصبح فسقط على الأرض فانكسر ظهره فمات عند صلاة العصر . فقام عصام صاحب شرطته بعد. حتى تدم عليه عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي عاملًا على خراسان . فلما قدمها أخذ جماعة من القواد اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب ، منهم مجاشع بن حريث الأنصاري عامل بخارى ، وأبو المغيرة خالد بن كنير ، مولى بني تميم عامل قوهستان ، والحريش بن محمد الذهلي وهو ابن عم أبي داود فقتلهم وحبس جماعة غيرهم وألح على عمال أبي داود في استخراج ما عندهم من الأموال .

ذكر قتل يوسف الفهري في هذه السنة نكث يوسف الفهري الذَي كان أمير الأندلس عهد عبد الرحمن الأموي ، وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن كان يضع عليه من يهينه وينازعه في أملاكه فاذا أظهر حجة الشريعة لا يعمل بها ، ففطن لما يزاد منه فقصد ماردة واجتمع عليه عشرون ألفاً فسار نحو عبد الرحمن ، وخرج عبد الرحمن من قرطبة نحوه الى حصن المدور ، ثم ان يوسف رأى أن يسير إلى عبد الملك بن عمر بن مروان وكان والياً على اشبيلية ، وإلى ابنه عمر بن عبد الملك وكان على المدور فسار نحوهما وخرجا اليه فلقياه فاقتتلا قتالاً شديداً فصبر الفريقان وانهزم أصحاب يوسف وقتل منهم خلق كثير ، وهرب يوسف وبقي متردداً في البلاد فقتله بعض أصحابه في رجب من سنة اثنتين وأربعين بنواحي طليطلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن فنصبه بقرطبة ؛ وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذي كان عنده رهينة ونصب رأسه مع رأس أبيه ، وبقي أبو الأسود ابن يوسف عند عبد الرحمن الأموي رهينة وسيأتي ذكره وأما العميل فانه لما فر يوسف من قرطبة لم يهرب معه فدعاه الأمير عبد الرحمن وسأله عنه فقال : لم يعلمني بأمره ولا أعرف خبره فقال : لا بد أن تخبر فقال : لو كان تحت تدمي ما رفعتهما عنه فسجنه مع ابني يوسف. فلما هربا من السجن أنف من الهرب والفرار فبقي ني السجن . ثم أدخل إليه بعد ذلك مشيخة مضر فوجدوه ميتاً وعنده كاس ونمَل فقالوا : يا أبا جوشن قد علمنا انك ما شربت ولكن سقيت ودفع إلى أهله فدفنوه .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة هلك اذفنش ملك جليقية وملك بعده ابنه تدويلية-وكان أشجع من ابيه وأحسن سياسة للملك وضبطا له -وكان ملك أبيه ثماني عشرة سنة ، ولما ملك ابنه قوي أمره وعظم سلطانه وأخرج المسلمين من ثغور البلاد وملك مدينِة لك ، وبرطقال ، وشلمنقة ، وشمورة ، وايلة ، وشقوبية ، وفشتيالة ، وكل هذه من الاندلس .

وفيها سير المنصور عبد الوهاب بن أخيه ابراهيم الامام ، والحسن بن قحطبة في سبعين ألفاً من المقاتلة إلى ملطية فنزلوا عليها وعقَروا ما كان خربه الروم منها ففرغوا من العمارة في ستة أشهر وكان للحسن في ذلك أثر عظيم ، وأسكنها المنصور أربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح ، والذخائر وبنى حصن قلوذية ، ولما سمع ملك الروم بمسير عبد الوهاب ، والحسن إلى ملطية سار إليهم في مائة ألف مقاتل فنزل جيحان فبلغه كثرة المسلمين فعاد عنهم ، ولما عمرت ملطية عاد إليها من كان باقياً من أهلها ، وفيها حج المنصور فأحرم من الحيرة فلما قضى حجه توجه إلى بيت المقدس وسار منه إلى الرقة فقتل بها منصور بن جعونة العامري وعاد إلى هاشمية الكوفة.

وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصيصة على يد جبرائيل بن يحص وكان جمبهلأ، سورها قد تشعث من الزلازل وأهلها قليل فبنى السور وسماها المعمورة وبنى بها مسجداً جامعاً وفرض فيها لألف رجل وأسكنها كثيراً من أهلها ، وفيها توفي سعد بن  إسحاق بن كعب بن عجرة ، وعمرو بن يحيى بن أبي حمسن الأنصاري ، وعمارة بز غزية الأنصاري - وكان ثقة - وأبو العلاء أيوب القصاب ، وأبو جعفر محمد بن عبدالله الأسكافي - وهو من متكلمي المعتزلة وأئمتهم وله طائفة تنسب إليه - وأسماء بن عبيد بن مخارق والد حويزة بن أسماء .

ثم دخلت سنة احدى وأربعين ومائة

ذكر خروج الراوندية

وفي هذه السنة كان خروج الراوندية على المنصور ، وهم قوم من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب الدعوة يقولون بتناسخ الأرواح ؛ يزعمون أن روح آدم فى عثمان بن نهيك وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور وان جبرائيل هو الهيثمّ ابن معاوية، فلما ظهروا لمتوا قصر المنصور فقالوا : هذا قصر ربنا ، فأخذ المنصور رؤساهم فحبس منهم مائتين فغضب أصحابهم وأخذوا نعشاً وحملوا السرير وليس في النعش أحد ومروا به حتى صاروا على باب السجن فرموا بالنعش وحملوا على الناس ودخلوا السجن وأخرجوا أصحابهم ، وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائة رجلِ فتنادى الناس وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد ، فخرج المنصور من القصر ماشياَ ولم يكن في القصر دابة – فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط دابة معه فى القصر- فلما خرج المنصور أتي بدابة فركبها وهو يريدهم وتكاثروا عليه حتى كادوا يقّتلونه .

وجاء معن بن زائدة الشيباني وكان مستتراً من المنصور بقتاله مع ابن هبيرة كما ذكرناه والمنصور شديد الطلب له وقد بذل فيه مالاً كثيراً فلما كان هذا اليوم حضر عند المنصور متلثماً وترجل وقاتل قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً ، وكان المنصور راكباً على بغلة ولجامها بيد الربيع حاجبه فأتى معن وقال : تنح فأنا أحق بهذا اللجام منك في هذا الوقت وأعظم غناء ، فقال المنصور : صدق فادفعه إليه فلم يزل يقاتل حتى تكشفت الحال وظفر بالراوندية ، فقال له المنصور : من أنت ؟ قال : طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة فقال : آمنك الله على نفسك ، ومالك ، وأهلك مثلك يصطنع ، وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب المنصور قال : أنا اليوم بواب ، ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم ، وفتح باب المدينة فدخل الناس ، فجاء خازم بن خزيمة فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى الحائط ثم حملوا عليه فكشفوه مرتين فقال خازم للهيثم بن شعبة ، اذا كروا علينا فاستبقهم إلى الحائط ، فإذا رجعوا فاقتلهم ، فحملوا على خازم فاطرد لهم وصار الهيثم من ورائهم فقتلوا جميعاً ، وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك فكلمهم فرموه بسهم عند رجوعه فوقع بين كتفيه فمرض أياماً ومات منها فصلى عليه المنصور ، وجعل على حرسه بعده عيسى بن نهيك فكان على الحرس حتى مات ، فجعل على الحرس أبو العباس الطوسي وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة فلما صلى المنصور الظهر دعا بالعشاء وأحضر معناً ورفع منزلته وقال لعمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس : يا أبا العباس أسمعت بأشد رجل ، قال : نعم. قال : لو رأيت اليوم معناً لعلمت أنه منهم فقال معن : والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الإقدام عليهم رأيت ما لم أره من خلق في حرب فشد ذلك من قلبي وحملني ما رأيت مني .

وقيل : كان معن متخفياً من المنصور لما كان منه من قتاله مع ابن هبيرة كما ذكرناه ، وكان اختفاؤه عند أبي الخصيب حاجب المنصور- وكان على أن يطلب له الامان - فلما خرجت الراوندية جاء معن فوقف بالباب فسأل المنصور أبا الخصيب من بالباب فقال : معن بن زائدة فقال المنصور : رجل من العرب شديد النفس عالم بالحرب كريم الحسب أدخله ، فلما دخل قال : إيه يا معن ما الرأي ؟ قال : الرأي أن تنادي في الناس فتأمر لهم بالاموال فقال : وأين الناس والأموال ؟ ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهولاء العلوج ؟ لم تصنع شيئاً يا معن ، الرأي أن أخرج فأقف للناس فإذا رأوني قاتلوا وتراجعوا إلي وإن أقمت تهاونوا وتخاذلوا فأخذ معن بيده وقال :لا يا أمير المؤمنين إذاً والله تقتل الساعة فأنشدك الله في نفسك فقال له أبو الخصيب مثلها ، فجذب ثوبه منهما وركب دابته وخرج ومعن آخذ بلجام دابته وأبو الخصيب مع ركابه ، وأتاه رجل فقتله معن حتى قتل أربعة في تلك الحالة حتى اجتمع إليه الناس فلم يكن إِلا ساعة حتى أفنوهم ، ثم لَغيب معن فسأل المنصور عنه أبا الخصيب فقال : لا أعلم مكانه ، فقال المنصور : أيظن معن أن لا أغفر ذنبه بعد بلائه أعطه الأمان وأدخله علي فأدخله إليه فأمر له بعشرة آلاف درهم ثم ولا. اليمن .

ذ كر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدي اليه

في هذه السنة خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل خراسان للمنصور ، وسبب ذلك أن عبد الجبار لما استعمله المنصور على خراسان عمد إلى القواد فقتل بعضهم وحبس بعضهم ، فبلغ ذلك المنصور وأتاه من بعضهم كتاب قد نَغِل الأديم (ا)، فقال لأبي أبوب : إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا وما فعل ذلك إلا وهو يريد أن يخلع ، فقال له : اكتب إليه أنك تريد غزو الروم فليوجه إليك الجنود من خراسان وعليهم فرسانهم ووجوههم فإذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فلا تمنع ، فكتب المنصور إليه بذلك ، وأجابه أن الترك قد جاشت وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان ، فألقى الكتاب إلى أبي أيوب وقال له : ما ترى ؟ قال : قد أمكنك من قياده اكتب إليه أن خراسان أهم إلى من غيرها وأنا موجه إليك الجنود من قبلي ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان فان هم بخلع أخذوا بعنقه ، فلما ورد الكتاب بهذا على عبد الجبار أجابه ان خراسان لم تكن قط أسوأ حالًا منها في هذا العام وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء ، فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب فقال له أبو أيوب : قد أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره ، ووجه المنصور ابنه المهدي وأمره بنزول الري ، فسار إليها المهدي ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار وسار المهدي فنزل نيسابور فلما بلغ ذلك أهل مرو الروذ ساروا إلى عبد الجبار وحاربوه وقاتلوه قتالًا شديداً فانهزم منهم ولجأ إلى معطنة(2) فتوارى فيها فعبر إليه المجشر بن مزاحم من أهل مرو الروذ فأخذه أسيراً ، فلما قدم خازم أتاه به فالبسه جبة صوف وحمله على بعير وجعل وجهه مما يلي عجز البعير وحمله إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه فبسط عليهم العذاب حتى استخرج منهم الأموال ، ثم أمر فقطعت يدا عبد الجبار ورجلاه وضرب عنقه ، وأمر بتسيير ولده الى دهلك – وير جزيرة باليمن – فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم فيمن سبوا ثم فودوا بعد ذلك ، وكان ممن نجا منهم عبد الرحمن بن عبد الجبار صحب الخلفاء ومات أيام الرشيد سنة سبعين ومائة ، وقيل : وكان أمر عبد الجبار سنة اثنتين وأربعين في ربيع الأول ، وقيل : سنة أربعين .

ذكر فتح طبرستان

ولما ظفر المهدي بعبد الجبار بغير تعب ولا مباشرة قتال كره المنصور أن تبطل تلك النفقات التي أنفق على المهدي فكتب إليه أن يغزو طبرستان وينزل الري ويوجه أبا الخطب ، وخازم بن خزيمة ، والجنود إلى الأصبهبذ ، وكان الاصبهبذ يومئذ محارباً للمصمغان ملك دنباوند معسكراً بازائه ، فلما بلغه دخول الجنود بلاده ودخول أبي الخصيب سايره فقال المصمغان للاصبهبذ : متى قهروك صاروا إلي فاجتمعوا على حرب المسلمين ، فانصرف الاصبهبذ إلى بلاده فحارب المسلمين فطالت تلك الحروب ، فوجه المنصور عمر بن العلاء إلى طبرستان وهو الذي يقول فيه بشار :

#إذا أَيْقَظَتْكَ حُروبُ العِدَى فَنَنهْ لها عُمَرا ثم نَمْ

وكان عالماً ببلاد طبرستان فأخذ الجنود وقصد الرويان وفتحها وأخذ قلعة الطلق وما فيها ، وطالت الحرب فألح خازم على القتال ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثر ، وسار الاصبهبذ إلى قلعته فطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فيها من الذخائر، وكتب المهدي بذلك إلى المنصور ، فوجه المنصور صالحاً صاحب المصلى فاحصوا ما في الحصن وانصرفوا ، ودخل الاصبهبذ بلاد جيلان من الديلم فمات بها وأخذت اشته وهي أم ابراهيم بن العباس بن محمد ؛ وقصدت الجنود بلد المصمغان فظفروا به وبالبحترية أم منصور بن المهدي .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل زياد بن عبيد الله الحرثي عن مكة ، والمدينة ، والطائف ؛ واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري في رجب ، وعلى الطائف ، ومكة الهيثم بن معاوية العتكي من أهل خراسان .

وفيها توفي موسى بن كعب وهو على شرط المنصور ، وعلى مصر ، والهند خليفته على الهند عيينة ابنه ؛ وكأن قد عزل موسى عن مصر ووليها محمد بن الأشعث ثم عزل عنها ووليها نوفل بن محمد بن الفرات .

وحج بالناس هذه السنة صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الشام ،وعلى الكوفة عيسى بن موسى ، وعلى البصرة سفيان بن معاوية ، وعلى خراسان المهدى وخليفته بها السري بن عبد الله ،وعلى الموصل اسماعيل بن علي ، وفيها ماِت سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري ، وابان بن تغلب القارىء .

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة

ذكر خلع عيينة بن موسى بن كعب

في هذه السنة خلع عيينة بن موسى بالسند وكان عاملًا عليها،وسبب خلعه أن أباه كان استخلف المسيب بن زهير على الشرط فلما مات موسى أقام المسيب على ما كان يلي من الشرط وخاف أن يحضر المنصور عيينة فيوليه ما كان إلى أبيه فكتب إليه ببيت شعر ولم ينسب الكتاب إلى نفسه .

#فأرضك أرضك إن تأتنا تنم نومة ليس فيها حلم

فخلع الطاعة، فلما بلغ الخبر إلى المنصور سار بعسكره حتى نزل على جسر البصرة، ووجه عمر بن حفص بن أبي صفراء العتكي عاملًا على السند ، والهند فحاربه عيينة فسار حتى ورد السند فغلب عليها .

ذكر نكث الاصبهبذ

وفي هذه السنة نكث الاصبهبذ بطبرستان العهد بينه وبين المسلمين وقتل من كان ببلاده منهم ، فلما انتهى الخبر إلى المنصور سير مولاه أبا الخصيب ، وخازم بن خزيمة، وروح بن حاتم فأقاموا على الحصن يحاصرونه وهو فيه وهم يقاتلونه فلما طال عليهم المقام احتال أبو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه : اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي ففعلوا ذلك به ولحق بالاصبهبذ فقال له : فعل بي هذا تهمة منهم لي أن يكون هواي معك وأخبره أنه معه وانه دليل على عورة عسكرهم ، فقبل ذلك الاصبهبذ وجعله في خاصته وألطفه ، وكان باب حصنهم من حجر يلقى القاء يرفعه الرجال وتضه عند  فتحه واغلاقه وكأن الاصبهبذ يوكل به ثقات اصحابه نوباً بينهم فلما وثق الاصبهبذ إِلى أبي الخصيب وكله بالباب فتولى فتحه واغلاقه حتى أنس به ، ثم كتب أبو الخصيب الى روح ، وخازم وألقى الكتاب في سهم وأعلمهم أنه قد ظفر بالحيلة وواعدهم ليلة في فتح الباب ، فلما كان تلك الليلة فتح لهم فقتلوا من في الحصن من المقاتلة وسبوا الذرية وأخذوا شكلة أم ابراهيم بن المهدى ، وكان مع الاصبهبذ سم فشربه فمات ، وقد قيل : ان ذلك سنة ثلاث وأربعين ومائة .

ذكر عدة حوادث

وفيها مات سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس –وهو على البصرة -في جُمادى الآخرة وعمره تسع وخمسون سنة وصلى عليه أخوه عبد الصمد.

وفيها عزل نوفل بن الفرات عن مصر ووليها حميد بن قحطبة ، وحج بالناس اسماعيل بن علي بن عبد الله ، وكان العمال من تقدم ذكرهم ، وولى المنصور الجزيرة ، والثغور والعواصم أخاه العباس بن محمد ، وعزل المنصور عمه اسماعيل ابن علي عن الموصل فاستعمل عليها مالك بن الهيثم الخزاعي جد أحمد بن نصير الذي قتله الواثق -وكان خير أمير .

وفيها مات يحمص بن سعيد الأنصاري أبو سعيد قاضي المدينة ، وقيل : سنة ثلاث ، وقيل : سنة م ربع وأربعين .

وفيها مات موسى بن عقبة مولى آل الزبير.

وفيها توفي أيضاً عاصم بن سليمان الأحول ، وقيل : سنة ثلاث وأربعين .

وفيها مات حميد بن أبي حميد طرخان ، وقيل : مهران مولى ك بن عبد الله الخزاعي –وهو حميد الطويل -يروي عن أنس بن مالك وعمره خمس وسبعون سنة.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

في هذه السنة ثار الديلم بالمسلمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، فبلغ ذلك المنصور فندب الناس إلى قتال الديلم وجهادهم ، وفيها عُزل الهيثم بن معاوية عن مكة ، والطائف وولي ذلك السري بن عبد الله بن الحرث بن العباس - وكان على اليمامة - فسار إلى مكة واستعمل المنصور على اليمامة قثم بن عباس بن عبد اللّه .

وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر واستعمل عليها نوفل بن الفرات ثم عزل نوفل واستعمل عليها يزيد بن حاتم ، وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله وكان إليه ولاية الكوفة ، وفيها ثار بالأندلس رزق بن النعمان الغساني على عبد الرحمن ، وكان رزق على الجزيرة الخضراء فاجتمع إليه خلق عظيم فسار إلى شذونة فملكها ودخل مدينة اشبيلية وعاجله عبد الرحمن فحصره فيها وضيق على من بها فتقربوا إليه بتسليم رزق إليه فقتله فآمنهم ورجع عنهم .

وفيها مات عبد الرحمن بن عطاء صاحب الشارعة- وهي انخل - وسليمان بن طرخان التيمي ، وأشعث بن سوار ، ومجالد بن سعيد .

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة

في هذه السنة سير أبو جعفر الناس من الكوفة ، والبصرة ، والجزيرة ، والموصل الى غزو الديلم واستعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفاح .

وفيها رجع المهدي من خراسان الى العراق وبنى بريطة ابنة عمه السفاح ، وفيها حج المنصور واستعمل على عسكره والميرة خازم بن خزيمة .

ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة ، وأمر محمد بن عبد اللّه بن الحسن وفيها استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد ابن عبد الله القسري عنها ، وكان سبب عزله وعزل زياد قبله أن المنصور أهمه أمر محمد ، وابراهيم ابني عبد اللهّ بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حج أيام السفاح سنة ست وثلاثين ، وذكر أن محمد بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فبمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد ، فلما حج المنصور سنة ست وثلاثين سأل عنهما فقال له زياد بن عبيد اللّه الحرثىِ : ما لِهمك من أمرهما ؟ أنا آتيك بهما وكان معه بمكة فرده المنصور إلى المدينة ، فلما استخلف المنصور لم يكن همه إلا أمر محمد والمسألة عنه وما يريد فدعا بنى هاشم رجلاً رجلاً يسأله سراً عنه فكلهم يقول : قد علم أنك عرفته يطلب هذا الأمر فهو يخالفك على نفسه وهو لا يريد لك خلافاً وما أشبه هذا الكلام إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب فانه (نقص).

علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطاناً قال : فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين فلحظ المنصور عقبة بن سلم فاستدار حتى وقف بين يدي عبد الله فأعرض عنه فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه باصبعه فرفع رأسه فملأ عينه منه فوثب حتى قعد بين يدي المنصور فقال : أقلني يا أمير المؤمنين اقالك الله قال : لا أقالني الله ان أقلتك ثم أمر بحبسه ، وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة فنزلها في بني راسب يدعو إلى نفسه ، وقيل : نزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرة بن عبيد ثم خرج منها فبلغ المنصور مقدمه البصرة فسار إليها مجداً(ا) فنزل عند الجسر الأكبر فلقيه عمرو بن عبيد فقال له : يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد تخافه على أمرنا ، قال : لا قال : فاقتصر على قولك وانصرف قال : نعم ، وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور فرجع المنصور واشتد الخوف على محمد ، وابراهيم ابني عبد الله فخرجا حتى أتيا عدن ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة .

وكان المنصور قد حج سنة أربعين ومائة فقسم أموالًا عظيمة في آل أبي طالب فلم يظهر محمد ، وابراهيم فسأل أباهما عبد الله عنهما فقال : لا علم لي بهما فتغالظا فامصه أبو جعفر المنصور حتى قال له : امصص كذا وكذا من أمك فقال : يا أبا جعفر بأي أمهاتي تمصني أيفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم بفاطمة بنت الحسين بن علي ؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة ؟ أم بخديجة بنت خويلد ؟ قال : لا بواحدة منهن ولكن بالحرباء بنت قسامة بن زهير وهى امرأة من طيء ، فقال المسيب بن زهير : يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة ، فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال : هبه لي يا أمير المؤمنين فأستخرج لك ابنيه فتخلصه منه ، وكان محمد ، وابراهيم ابنا عبد الله قد تغيبا حين حج المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة ، وحج أيضاً فاجتمعوا بمكة وأرادوا اغتيال المنصور فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد : أنا أكفيكموه فقال محمد : لا والله لا أقتله أبدأ غيلة حتى أدعوه لينقض ما كانوا أجمعوا عليه . وكان قد دخل عليهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان اسمه خالد بن حسان يدعى أبا العساكر على ألف رجل فنمى الخبر إلى المنصور فطلب فلم يظفر به فظفر بأصحابه فقتلهم ، وأما القائد   فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد ، ثم ان المنصور حث زياد بن عبيد الله على طلب محمد ، وابراهيم فضمن له ذلك ووعده به ، فقدم محمد المدينة قدمة فبلغ ذلك زياداً فتلطف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس فوعده محمد ذلك ، فركب زياد مع المساء ووعد محمداً سوق الظهر ، وركب محمد فتصايح الناس يا أهل المدينة المهدي المهدي فوقف هو ، وزياد، فعَال زياد : أيها الناس هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ثم قال له : الحق بأي بلاد الله شئت فتوارى محمد . وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جُمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة فأمره أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن الطلب وأن يقبض على زياد ، وأصحابه ويسير بهم إليه ، فقدم أبو الأزهر المدينة ففعل ما أمره وأخذ زياداً ، وأصحابه وسار نحو المنصور ، وخلف زياد في بيت مال المدينة ثمانين ألف دينار فسجنهم المنصور ثم منَ عليهم بعد ذلك .

واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري وأمره بطلب محمد بن عبد الله وبسط يده في النفقة في طلبه ، فقدم المدينة في رجب سنة إحدى وأربعين فأخذ المال ورفع في محاسبته أموالًا كثيرة أنفقها في طلب محمد فاستبطأه أبو جعفر واتهمه فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمداً . فلقا رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ولم يظفر بمحمد استشار أبا العلاء رجلاً من قيس عيلان في أمر محمد بن عبد الله ، وأخيه فقال : أرى أن تستعمل رجلاً من ولد الزبير أو طلحة فإنهم يطلبونهما بزحل ويخرجونهما إليك فقال قاتلك الله ما أجود ما رأيت والله ما خفي عليُّ هذا ولكني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل بيتي بعدوي وعدوهم ولكني أبعث عليهم صعلوكاً من العرب يفعل بهم ما قلت ، فاستشار يزيد بن يزيد السلمي وقال له : دلني على فتى مُقِلً من قيس أغنيه وأشرفه وأمكنه منِ سيد اليمن -يعني ابن القسري -قال : هو رياح بن عثمان بن حيان المري فسيره أميراً على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين ، وقيل : ان رياحاً ضمن للمنصور أن يخرج محمداً ، وابراهيم ابني عبد الله ان استعمله على المدينة فاستعمله عليها فسار حتى دخلها ، فلما دخل دار مروان وهى التي كان ينزلها الأمراء قال لحاجب  كان له يقال له : ابو البختري : هذه دار مروان ؟ قال نعم . قال : أما إنها محلال مظعان ونحن أول من يظعن منها .

فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه : يا أبا البختري خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ -يعني عبد الله بن الحسن فدخلا عليه فقال رياح : أيها الشيخ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ولا ليد سلفت إليه والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد ، وابن القسري والله لازهقن نفسك او لتأتيني بابنيك محمد ، وابراهيم فرفع رأسه إليه وقال : نعم أما والله انك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة ؛ قال : أبو البختري : فانصرف والله رياح آخذاً بيدي أجد برد يده وأن رجليه ليخطان الأرض مما كلمه قال : فقلت له إن هذا ما اطلع على الغيب فقال : إيهاً ويلك فوالله ما قال إلا ما سمع فذبح كما تذبح الشاة ، ثم انه دعا بالقسري وسأله عن الاموال وضربه وسجنه وأخذ كاتبه زراعاً وعاقبه فأكثر وطلب إليه أن يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال وهولا يجيبه فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك فقال له رياح : احضر الرفيعة وقت اجتماع الناس ففعل ذلك ، فلما اجتمع الناس أحضره فقال : أيها الناس إن الأمير أمرني ان أرفع علي ابن خالد وقد كتب كتاباً خان فيه وإنَّا لنشهدكم أن كل ما فيه باطل ، فأمر رياح فضرب مائة سوط ورد إلى السجن ، وجد رياح في طلب محمد فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوي جبل جهينة –وهو من عمل ينبع – فأمر عامله في طلب محمد فهرب منه راجلاً فأفلت وله ابن صغير ولد في خوفه. وهو مع جارية له فسقط من الجبل فقطع فقال محمد:

# منخرقُ السّربالِ يشكو الوجى تنكُبُهُ أطرافُ مروٍ حِدَاد

# قد كان في الموت له راحة والموتُ حتمٌ في رقاب العباد

#شردِّهُ الخوفُ فَأَزرَى به كذاكَ مَنْ يَكْرهُ حَر الجلاد

وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمداً فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي فقال رياح : قاتله الله اعرابياً ما أحسن ذراعه .‏  ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏