المجلد الخامس - ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبدالله وقتله

ثم إن المنصور أحضر ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد فقال : شاور عمومتك يا أمير المؤمنين ، ثم قال : فأين قول ابن هرثمة :

# نزورُ امرءاً لا يمخضُ القومَ سِره ولا ينتَجِي الأدْنَيْنِ عما يحاولُ

# إذا ما أتن شيئاً مض كالذي أتى وإن قالَ إني فاعلٌ فهو فاعلُ

فقال المنصور : امضِ أيها الرجل ، فوالله ما يُراد غيري وغيرك ، وما هو إلا أن تشخصَ أنت أو أشخصُ أنا ، فسار وسير معه الجنود ، وقال المنصور لما سار عيسى : لا أبالي أيهما قتلَ صاحبَه ، وبعث معه محمد بن أي العباس السّفاح ، وكثيّر بن  حصينٍ العَبْدي ، وابن قحْطبة ، وهزارمرد ، وغيرهم ، وقال له حين ودعه : يا عيسى إني أبعثك إلى ما بين هذين وأشار إلى جنبيه ، فإن ظفرتَ بالرجل فاغمد سيفَك ابذل الأمانَ وإن تغيب فضمّنهم إياه فإنّهم يعرفون مذاهبَه ، ومن لقيَك من آل أبي طالب فاكتب إلف باسمه ، ومن لم يلقَك فاقض ماله . وكان جعفر الصادق تغيّب عنه فقبض ماله ، فلما قدم المنصور المدينة قال له جعفر في معنى ماله ، فقال : قبضَه مهديكم ، فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق حرير ، منهم عبد العزيز بن المطلب المخزومي ، وعبيدالله بن محمد بن صفوان الجمحي ، وكتب إلى عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه ، فخرج هو وعمر بن محمد بن عمر ، وأبو عقيل محمد بن عبدالله بن محمد بن قيل ، وأبو عيسى ، ولما بلغ محمداً قرب عيسى من المدينة ، استشار أصحابه في الخروج من المدينة أو المقام بها ، فأشار بعضهم بالخروج عنها وأشار بعضهم بالمقام بها ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيتني في درع حصيْنة فأولتها المدينة " : فأقام؛ ثم استشارهم في حض خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جابر بن أنس رئيس سليم : يا أمير المؤمنين نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاحُ والكراعُ فلا تخندقِ الخندقَ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقَ خندقه لما الله أعلم به وان خندقته لم يحسنِ القتال رجالة ولم توجه لنا الخيل بين الأرقةَ وان الذين تخندق دونهم هم الذين يحولُ الخندقُ دونهم ، فقال أحد بني شجاع : خندق خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد به وتريد أنت أن يَدع أثرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك ، قال : انه والله يا ابن شجاع ما شيء أثقلَ عليك وعلى أصحابك من لقائهم وما شيء أحبَ إلينا من مناجزتهم ، فقال محمد : إنما اتبعنا في الخندق أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فلا لِردني أحدٌ عنه فلست بتاركه ، وأمر به فحفر وبدأ هو ، فحفرَ بنفسه بر الخندقَ الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للاحزاب ، وسار عيسى حتى نزل الأعوصَ  ، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون وخطبهم محمد بن عبدالله فقال لهم : إن عدو الله وعدوَّكم مد نزل الأعوص ، وان أحقَ الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار ، ألا لانا قد جمعناكم وأخذنا عليِكم الميثاق ، وعدوكم عددٌ كثيرٌ ، والنصرُ من الله والأمر بيده ، وأنه قد بدالي أن آذن لكم ،  فمن أحب منكم أن يقيمَ أقامَ ومن أحب أن يظعنَ ظعن ، فخرج عالم كثير ، وخرج ناس من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال ، وبقي محمد في شرذمةٍ يسيرةٍ فأمر أبا القلمس برد من قَدِرَ عليه فأعجزه كثير منهم فتركهم ، وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى ينزله المنازل فلما قدموا أنزلوا على ميل من المدينة ،فقال ابن الأصم : إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة ، وإني أخاف إن كشفوكم كشفةً أن يدخلوا عسكركم فتأخروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف ، وهي على أربعة أميال من المدينة - وقال : لا يهرول الراجل أكثر من ميلين وثلاث حتى يأخذه الخيل : وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر على ستة . أميال من المدينة ، فأقاموا بها وقال : أخاف أن ينهزم محمدٌ فيأتي مكة فيرده هؤلاء فأقاموا بها حتى قتل ، وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور قد أمنه وأهله ، فأعاد الجواب يا هذا إنك لك برسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة قريبة ، واني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه ، والعمل بطاعته ، وأحذرك نقمته وعذابه ، وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه ، وإياك أن يقتلك من يدعوك الى الله فتكون شر قتيل ، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك فلما بلغته الرسالة قال عيسى : ليس بيننا وبينه إلا القتال . وقال محمد للرسول : علام تقتلونني وإنما أنا رجل فرمن أن يُقتل ؟ قال : القوم يدعونك الى الأمان فانْ أبَيْتَ إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك طلحة ، والزبير على نكث بيعتهم وكيد ملكه ، فلما سمع المنصور قوله قال : ما سرني أنه قال "غير ذلك ، ونزل عيسى بالجرف لاثنتي عشرة من رمضان يوم السبت ، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الاثنين ، فوقف على سلع فنظر الى المدينة ومن فيها فنادى : يا أهل المدينة إن الله حرمَ دماءَ بعضنا على بعض فهلمُّوا إلى الأمان فمن قام تحت رايتنا فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن خرج من المدينة فهو آمن خلوا بيننا وبين صاحبنا فاما لنا واما له فشتموه ؛ وانصرف من يومه وعاد من الغد وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة ، وأخلى ناحية مسجد أبي الجراح وهو على بطحان فانه أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم ، وبرز محمد في أصحابه وكانت رايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير ، وكان شعاره أحد أحد ، فبرز أبو القلمس – وهو من أصحاب محمد ، فبرز إليه أخو أسد ، واقتتلوا طويلًا ، فقتله أبو القلمس وبرز إليه ،آخر فقتله ، فقال حين ضربه : خذها وأنا ابن الفاروق فقال رجل من أصحاب عيسى : قتلت خيراً من ألف فاروقَ ، وقاتل محمد بن عبد الله يومئذ قتالاً عظيماً ، فقتل بيده سبعين رجلاً ، وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه ، ، فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندقَ ، عليه ناسٌ من أصحاب محمد فهدم حميد الحائط ، وانتهى إلى الخندقَ ، ونصب عليه أبواباً ، وعبر هو وأصحابه عليها فجازوا الخندقَ ، وقاتلوا من ورائه أشدّ قتال من بُكرة إلى العصر ، وأمر عيسى أصحابه ، فالقوا الحقائب وغيرها في الخندقَ ، وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فانصرف محمد قبل الظهر فاغتسل وتحنط ثم رجع فقال له عبد الله بن جعفر : بأبي أنت وأمي والله مالك بما ترى طاقة ، فلو أتيت الحسن بن معاوية بمكة ، فان معه جل أصحابك فقال : لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتلَ وأنت مني في سعة فاذهبْ حيث شئت فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه وتفرّق عنه جل أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة رجلٍ يزيدون قليلاً فقال لجض أصحابه : نحن اليوم بعده أهل بدر، وصلى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده إلا ذهبت إلى البصرة أو غيرها ، ومحمد يقول : والله لا تبتلون بي مرتين ولكن اذهب أنت حيث شئت فقال ابن خضير : وأين المذهب عنك ؟ ثم مضى فاحرق الديوان الذي فيه أسماء مَنْ بايعه ، وقتل رياح بن عثمان ، وأخاه عباس بن عثمان ، وقتل ابن مسلم بن عقبة المرىِ ، ومضى إلى محمد بن القسري وهو محبوس ليقتله ، فعلم به فردم الاًبواب دونه فلم يقدر عليه ، ورجع إلى محمد فقاتل بين لدله حتى قُتِلَ .

وتقدم حميد بن قحطبة وتقدم محمد ، فلما صار ينظر مسيل سلع ، عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابهم ، ولم يبق أحد الا كسر جفن سيفه ، فقال لهم محمد : قد بايعتموني ولست بارحاً حتى أقتل فَمنْ أحب أن ينصرف فقد أذنت له واشتدّ القتال فهزموا أصحابَ عيسى مرتين وثلاًثاً ، وقال يزيد بن معاوية بن عباس بن جعفر: ويل أمه فتحاً لو ع لان له رجال ، فصعد نفر من أصحابِ عيس على جبل سلع ، وانحدروا منه إلى المدينة ، وامرت اسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بخمار أسود ، فرفع على منارةِ مسجدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب محمد : دخلت المدينة فهربوا فقال يزيد : لكل قوم جبل يعصمهم ولنا جبل لا نؤتى إلا منه -يعني سلعاً - وفتح بنو أبي عمر والغفاريون طريقاً في بني غفار لأصحاب عيسى ودخلوا منه أيضاً ، وجاؤوا من وراء أصحاب محمد ، ونادى محمد حميد بن قحطبة ابرز إليَّ فأنا محمد بن عبد الله فقال حميد قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم ، لا والله لاً أبرز اليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد ، فإذا فرغت منهم فسأبرز اليك ، وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ، ويشخ به على الموت وابن خضير يحمل على الناس راجلًا لاً يصغي إلى أمانه ، وهو يأخذه . بين يديه ، فضربه رجل من أصحاب عيسى على إليته ، فحلها فرجع إلى أصحابه فشدها بثوب ، ثم بهاد إلى القتال ، فضربه إنسان على عينه ، فغاص السيف وسقط فابتدروه فقتلوه واحتزوا رأسه وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه . فلما قتل تقدم محمد فقاتل على جيفته ، فجعل يهدُّ الناس هداً وكان أشبه الناس بقتال حمزة ، ولم يزل يقاتل حتى ضربه رجلٌ دون شحمة أذنه اليمنى ، فبرك لركبتيه ، وجعل يذب عن نفسه ويقول : ويحكم ابن نبيكم مُجرحٌ مظلومٌ فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه ، ثم نزل اليه فاحتز رأسه وأتى به عيسى وهولاً يعرف من كثرة الدماء ، وقيل ة إن عيسى اتهم ابن قحطبة -وكان في الخيل - فقال له : ما أراك تبالغ ، فقال له : أتتهمني فوالله لأضربنَّ محمداً حين أراه بالسيف أو أقتل دونه قال : فمر به - وهو مقتول - فضربه ليبر يمينه ، وقيل بل رمى بسهم وهو يقاتل ، فوقف إلى جدار فتحاماه الناس فلما وجد الموت ، تحامل على سيفه فكسره وهو ذو الفقار سيف علي ، وقيل : بل أعطاه رجلاً من التجار كان معه وله عليه أربعمائة دينار وقال : خذه فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلاً أخذه وأعطاك .حقك ؛ فلم يزل عنده حتى ولِّي جعفر بن سليمان المدينة ، فاخبر به ، فاخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار ، ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدي ، ثم صار إلى الهادي ، فجربه على كلب فانقطع السيف ، وقيل : بل بقي إلى أيام الرشيد وكان يتقلده ، وكان به ثماني عشرة فقارة ، ولما أتِيَ عيسى برأس محمد ، قال لأصحابه ؛ ما تقولون فيه فوقعوا فيه ؟ فقال بعضهم : كذبتم ما لهذا قاتلناه ، ولكنه خالفَ أميرَ المؤمنين ، وشق عصا المسلمين ، وان كان لصواماً قواماً فسكتوا ، فأرسل عيسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأرسل معه رؤوس بني شجاع ، فأمر  المنصور ، فطَيَّف برأسِ محمد في الكوفة وسيره إلى الأفاقَ ، ولما رأى المنصور رؤوس بني شجاع ، قال : هكذا فليكن الناس طلبت محمداً فاشتمل عليه هؤلاء ، ثم نقلوه وانتقلوا معه ، ثم فاتلوا معه حتى قتلوا ، وكان قتل محمد وأصحابه يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان ، وكان المنصور قد بلغه أن عيسى قد هُزم فقال : كلاً أين لعب أصحابنا وصبياننا بها على المنابر ، ومشورة النساء ما أتى كذلك بعد ، ثم بلغه أن محمداً هرب فقال : كلاً إنا أهل بيت لا نفر فجاءته بعد ذلك الرؤوس ، ولما وصل رم س محمد إلى المنصور ، وكان الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عنده ، فلما رأى الرأس ، عَظُم عليه فتجلَّد خرفاً من المنصور وقال لنقيب المنصور : أهو؟ قال : هو فِلذُهم وقال : " لوددت أنا الركانة إلى طاعته ، وانه لم يكن فعل ولا قال ، وإلا فأمُ موسى طالق ، وكانت غاية أيمانه ، ولكنه أراد قتله ، وكانت نفسه أكرم علينا من نفسه ، فبصق بعض الغلمان في وجهه ، فأمر المنصور بأنفه فكسر عقوبةً له أ ولما وردَ الخبرُ بقتل محمدٍ على أخيه إبراهيم بالبصرة كان يوم العيد ، فخرج فصلى بالناس ، ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه ، وتمثل على المنبر .

 أبا المنازل يا خيرَ الفوارس مَنْ يُفجعُ بمثلك في الدنيا فقد فُجعا

 الله يعلمُ أني لـو خشيتهمٍ وأوجس القلب من خوفٍ لهم فزعاً

 لم يقتلوه ولم أسلِّم أخي أبدا حتى نموتَ جَميعاً أو نعيشَ معاً

ولما قُتِل محمد أرسلَ عيسى ألوية فنصبَ في مواضعَ بالمدينة ونادى مناديه :

" مَنْ دخل تحت لواء منها فهو آمن " ؟

وأخذَ أصحابَ محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفين ، ووكل بخشبة ابن خضير مَنْ يحفظها فاحتمَلهُ قوم من الليل فواروه سراً ؛ وبقي الآخرون ثلاثاً ، فأمر بهم عيسى فألقوا على مقابر اليهود ، ثم ألقوا بعد ذلك في خندقَ في أصل ذباب فأرسلت زينب بنت عبد الله أخت محمد وابنة فاطمة إلى عيسى : " انكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه ، فلو أذنتم لنا في دفنه " فأذن لها فدفن بالبقيع ، وقطع المنصور الميرة في البحر إلى المدينة ثم أذن فيها المهدي .

ذكر بعض المشهورين ممن كان معه

وكان فيمن معه من بني هاشم أخوه موسى بن عبد الله ، وحسين ، وعليِ ابنا زيد بن علي بن الحسين بن علي ، ولما بلغ المنصور أن ابني زيد أعانا محمداَ عليه قال : عجباً لهما قد خرجا عليَّ وقد قَتَلْنا فاتلَ أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه ، وأحرقناه كما أحرقه ، وكان معه حمزة بن عبد الله بن محمد بن الحسين ، وعلي ، وزيد ابنا الحسن بن زيد بن علي بن أبي طالب وكان أبوهما مع المنصور ، والحسن ، ويزيد ، وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر ، والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر وكان أبوه مع المنصور ، ومن غيرهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العباس ، ومحمد بن عجلاًن ، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ، أخِذَ أسيراً ، فأتِيَ به المنصور فقال له : أنت الخارج عليَّّ ؟ قال : لم أجد إلاً ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد ، وكان معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة ، وعبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرّمة، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ، وعبد الحميد بن جعفر ، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع ، وإبراهيم ، وإسحاقَ ، وربيعة ، وجعفر ، وعبد الله ، وعطاء، ويعقوب ،وعثمان ، وعبد العزيز بنو عبد الله بن عطاء ، وعيسى بن خضير ، وعثمان بن خضير ، وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير ، هرب بعد قتل محمد فأتى البصرة ، فأخذ منها وأتِيَ به المنصور فقال له : هيه يا عثمان ، أنت الخارج عليَّ مع محمد قال : بايعته أنم ا وأنت بمكة فوفيت ببيعتي وغدَرْتُ بيعتك قال : يابن اللخناء قال : ذاك من قامت عنه الِإماء -يعني المنصور- فأمر به فقُتِلَ .

وكان مع محمد عبد العزيز بن عبيد الله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب ، وأخذ أسيراً فاطلقه المنصور وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبدالله بن مطيع ، وعلي بن عبد المطلب بن عبدالله بن حنطب ، وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير ، وهشام بن عمارة بن الوليد بن عدي بن الخيار ، وعبد الله بن يزيد بن هرمز ، وغيرهم ممن تقذَم ذكرهم .

ذكر صفة محمد والاخبار بقتله

كان محمدٌ م سمرَ شديدَ السُّمْرة وكـان المنصور يسميه محمما ، وكـان سميناً شجاعاً كثيرَ الصوْم والصلاة ، شديدَ القوة ، وكان يخطبُ على المنبر ، فاعترضَ في حَلْقِهِ بَلْغمٌ فتنحنحَ فذهب ثم عاد ، فتنحنح فذهب ثم عاد ، فتنحنح ؟ فنظر فلم ير موضعاً يبصق فيه ،فرمى بنخامته في سقفِ المسجد فالصقها فيه .

وسُئِلَ جعفرُ الصادقِ عن أمرِ محمد فقال : فِتنةٌ يُقَتَلُ فيها محمد وُيقتلُ أخوه لأبيه وأقَهِ بالعراق وحوافر فرسه في ماء ، فلما قتل محمد قبض عيسى أموال بني الحسن كلها ، وأموال جعفر ، فلقي جعفر المنصور ، فقال له : رُدَ عَلَيّ قطيعتي من أبي زياد قال : إيايَ تكلمُ بهذا والله لأزهقنَّ نفسك قال : فلا تعجل عَليَّ قد بلغت ثلاًثاً وستين سنة ، وفيها مات أبى وجدي ، وعلي بن أبي طالب ، وعَلَيَّ كذا وكذا إن رِبْتُكَ بشيء وإن بقيت بعدك ان ربت الذي يقوم بعدك ، فرق َله المنصور ولم يرد عليه قطيعته فردها المهدي على ولده .

وقال محمد لعبد الله بن عامر الأسلمي : تغشانا سحابة فإنْ أمطرتنا ظفرنا وإنْ تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت قال : فوالله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا ، وتجاوزتنا إلى عيسى وأصحابه ، فظفروا وقتلوا محمداً ، ورأيت دمه عند أحجار الزيت ، وكان قتله يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وكان يلقب المهدي ، والنفس الزكية ، ومما رثُي به هو ، وأخوه قول عبد الله بن مصعب بن ثابت :

 يا صاحبيّ دَعَا المَلامة واعلما أنْ لَسْتُ في هذا بألـوَمَ منكما

 وَقِفَـا بقبـر للنبيّ  فسَلِّما لا بـأسَ أن تَقِفا بـه وُتسلما

 قَبرٌ تضمنَ خيرَ أهلِ زمانهِ حسـبـاً وطيبَ سجيّـةٍ وتكـرُمـا

 رجل نفى بالعدلَ جَوْرَ بلاًدنَا وعفا عظيماتِ الأمورِ وأنعمـا

 لم يَجْتَنبْ قصد السبيل ولم يَجر عنـه ولم يفتح بفـاحشـةٍ فمـا

 لو أعظَمَ الحدثانُ شيئاً قبله بعـد النبيّ به لكنتَ المعـظما

 أو كـان أمتعَ بالسلاًمـة قبله أحـداً لكان قصـارُه أن يسلَّفـا

 ضحّوا بإبراهيمَ خيرَ ضَحيةٍ فتصـرَّمَتْ أيامُـه فتصـرَّمـا

 بطلاً يخوضُ بنفسه غمراته لاً طـائشاً رَعَشـاً ولا مُسْتَسْلما

 حتى مضَتْ فيه السُّيوفُ ورُبما كانت حُتُوفُهُم السيوفُ ورُبّما

 أضحى بنو حَسَن أبيحِ حَرِيمُهُمْ فينـا وأصبَـحَ نهبُهم متقسَّمـا

 ونسـاؤهم في دورهنَ نوائـحُ سَجعٍ الحمامِ اذا الحمامُ ترنما

 يتـوسلون بقتله وَيـرونـه شَرَفا لهم عند الإمام ومَغْنَمَـا

 والله لـو شهـد النبيُ محمـدٌ صلى الالـه على النبيّ وسلمـا

 اشـراعَ أمًتـه الاًسِنـة لابنـه حتى تقطَرَ من ظُبَـاتِهمُ دمـا

 حَقـاً لايْقَنَ أنهم قد ضَيعـوا تلك القرابة واستحلوا المحرما

ولما قُتِلَ محمدٌ قام عيسى بالمدينة أياماً ثم سار عنها صبح تسع عشرة خلت من رمضان يريد مكة معتمراً ، واستخلف على المدينة كثير بن خضير ، فأقام بها شهراً ، ثم استعمل المنصور عليها عبد الله بن الربيع الحارثي .

ذكر وثوب السودان بالمدينة

وفيها ثار السودان بالمدينة على عاملها عبد الله بن الربيع الحارثي ، فهرب منهم ، وسبب ذلك ، أن المنصور استعمل عبد الله بن الربيع على المدينة ، وقدمها لخمس بقين من شوال ، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم ، فشكا ذلك التجار إلى ابن الربيع ، فانتهرهم ، وشتمهم ، فتزايد طمعُ الجند فيهم ، فعدُوا على رجلٍ صيْرفي فنازعوه كيسه ، فاستعان بالناس فخلص ماله منهم ؛ وشكا أهل المدينة ذلك منهم ، فلم ينكره ابن الربيع ، ثم جاء رجل من الجند ، فاشترى من جزار لحماً يوم جمعة ولم يعطه ثمنه ، وشهر عليه السيف فضربه الجزار بشفرة في خاصرته فقتله ، واجتمع الجزارون وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة ، فقتلوهم

بالعُمْدِ ونفخوا فى بوق لهم فسمعه السودان من العالية والسافلة ، فاقبلوا واجتمعوا، وكان رؤساؤهم ثلاًثة نفر . وثيق ، ويعقل ، وزمعة . ولم يزالوا على ذلك من قتل الجند حتى أمسوا ؛ فلما كان الغد قصدوا ابن الربيع فهرب منهمِ ، وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به ، فانتهبوا طعاماً للمنصور ، وزيتاَ ، وقصباً ، فباعوا الحمل الدقيق بدرهمين ، وراوية الزيت بأربعة دراهم ، وسار سليمان بن مليح ، ذلك اليوم إلى المنصور فاخبره .

وكان أبو بكر بن ابي سبرة في الحبس قد أخذ مع محمد بن عبد الله فضُرب وحُبس مقيداً ، فلما كان من السودان ما كان ، خرج فى حديده من الحبس ، فأتى المسجدَ فارسلَ إلى محمد بن عمران ، ومحمد بن عبد العزيز ، وغيرهما فاحضرهم عنده فقال : أنشدكم الله وهذه البليَّة التي وقعت فوالله إن ثَبُتَتْ علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لهلاًك البلد ، وأهلِهِ ، والعبيد في السوق باجمعهم فاذهبوا اليهم ، فكلموهم في الرجعة والعود إلى رأيكم فانهم أخرجتهم الحميةُ ، فذهبوا إلى العبيد فكلموهم فقالوا : مرحباً بموالينا ، والله ما قمنا إلاً أنفة مما عمل بكم فامرنا اليكم فأقبلوا بهم إلى المسجد فخطبهم ابن ابي سبرة وحثَّهم على الطاعة فتراجعوا ولم يصل الناسُ يومئذ جمعة ، فلما كان وقت العشاء الآخرة ، لم يُجب المؤذنَ أحدٌ إلى الصلاة بهم ، فقدم الأصبغ بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان ، فلما وقف للصلاًة واستوت الصفوف ، أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته : " أنا فلاًن ابن فلان أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين " ؛ ثم يقول ذلك مرتين وثلاثاً ثم تقدم فصلى بهم ؛ فلما كان الغد قال لهم إبن أبي سبرة : انكم قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم ونهبتم طعام أمير المؤمنين ، فلاً يبقين عند أحد منه شيء إلا ردَّه فردوه ، ورجع ابن الربيع من بطن نخل فقطع يد وثيق ، ولمجل ، وغيرهما .

ذكر بناء مدينة بغداد

فيها ابتدأ المنصور في بناءِ مدينة بغداد ، وسبب ذلك أنه كان قد ابتن الهاشميةَ بنواحي الكوفة ، فلما ثارت الراوندية فيها ، كره سُكْناها لذلك ولجوار أهل الكوفة أيضاً ، فانه كان لاً يأمن أهلها على نفسه ، وكانوا قد أفسدوا جنده ، فخرج بنفسه يرتاد له موضعاً يسكنه هو وجنده ، فانحدر إلى جرجرايا ثم أصعد إلى الموصل وسار نحو الجبل في طلب منزل يبني به ، وكان قد تخلف بعض جنده بالمدائن لرمد لحقه فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة المنصور ، فأخبره فقال : إِنا نجد في كتاب عندنا أن رجلاً يدعى مقلاصاً يبني مدينة بين دجلة والصراة تدعى الزوراء ، فإذا اسسها وبنى بعضها، أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق ، ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه ، فلم يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود إلى بنائها ، فيتمه ثم يعمر عمراً طويلاً ؛ ويبقى الملك في عقبه ، فقدم ، ذلك الجندي إلى عسكر المنصور وهو بنواحي الجبل فأخبره الخبر فرجع وقال : إني أنا كنت أدعى مقلاصا وأنا صبي ، ثم زال عني ، وسار حتى نزل الدير الذي حذاء قصره المعروف بالخلد ، ودعا بصاحب الدير ، وبالبطريق صاحب رحا البطريق ، وصاحب بغداد ، وصاحب المخرّم ، وصاحب يستان النفس ، وصاحب العتيقة فسألهم من مواضعهم وكيف هي في الحر ، والبرد ، والأمطار ، والوحول ، والبق ، والهوام ، فأخبره كل منهم بما عنده ، ووقع اختيارهم على صاحب بغداد ، فأحضره وشاوره فقال : يا أمير المؤمنين سألتني عن هذه . الأمكنة وما تختار منها ، وإني أرى أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغربي طسوجين وهما بقطربل  ، وبادوريا وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوقَ ، وكلواذي فيكون بين نخل وقرب الماء وإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان في الطسوج الأخر العمارات ، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من الشام ، والرقة ، والغرب في طوائف مصر ، وتجيئك الميرة من الصين ، والهند، والبصرة، وواسط ، وديار بكر ، والروم ، والموصل وغيرها في دجلة ، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب ، فأنت بين أنهار لا يصل اليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسر وأخربت القنطرة ، لم يصل اليك . ودجلة ، والفرات ، والصراة خنادق هذه المدينة ، وأنت متوسط للبصرة ،  والكوفة ، وواسط ، والموصل ، والسواد ، وأنت قريب من البر ، والبحر ، والجبل ، فازداد المنصور عزماً على النزول في ذلك الموضع ، وقيل : إن المنصور لما أراد أن يبني مدينته بغداد ، رأى راهباً فناداه فأجابه فقال : هل تجدون في كتبكم أنه يبنى ههنا مدينة ؟ قال : نعم يبنيها مقلاص قال : فأنا كنت أدعى مقلاصاً في حداثتي قال : فإذاً أنت صاحبها ، فابتدأ المنصور بعملها سنة خمس وأربعين وكتب إلى الشام ، والجبل ، والكوفة ، وواسط والبصرة في معنى انفاذ الصناع والفعلة ، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل ، والعدالة ، والفقه ، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة ، والمعرفة بالهندسة ، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن ارطاة، وأبو حنيفة ، وأمر فخُطت المدينة وحُفِرَ الأساس وضُرب اللبنُ وطُبخ الأجرُ ، فكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطها بالرماد ، فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وير مخطوطة بالرماد ، ثم أمر أن يجعل على الرماد حبَ القطن ، ويشعل بالنار ففعلوا ، فنظر اليها وهي تشتعل ففهمها وعرف رسمها ، وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم ، ووَّكل بها أربعة من القواد كل فائد بربع ووكل أبا حنيفة بعدِّ الآجر واللبن .
وكان قبل ذلك قد أراد أبا حنيفة أن يتولى القضاء والمظالم ، فلم يجب فحلف المنصور انه لا يقلع عنه أو يعمل له ، فأجابه إلى أن ينظر في عمارة بغداد ، ويعد اللبن ، والآجر بالقصب ، وهو أول من فعل ذلك ، وجعل المنصور عرضَ أساس السور من أسفله خمسين ذراعاً ، ومن أعلاه عشرين ذراعاً ، وجعل في البناء القصب ، والخشب ، ووضع بيده أول لبنةٍ وقال :

يسم الله والحمد لله والأرض لله ، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة لم للمتقين ؛ ثم قال : ابنوا على بركة الله ، فلما بلغ السورُ مقدارَ قامةٍ ، جاء الخبر بظهور محمد بن عبد الله ، فقطع البناء ثم أقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد ، وأخيه إبراهيم ، ثم رجع إلى بغداد فأتمَّ بناءها، وأقطع فيها القطائعَ لأصحابه .

وكان المنصورُ قد أعدَّ جميع ما يحتاج اليه من بناء المدينة من خشب وساج وغير ذلك ، واستخلف حين يشخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعدّ أسلم مولاًه ، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكرَ المنصور ، فأحرق َما كان خلفه عليه المنصور ، فبلغ المنصور ذلك ، فكتب اليه يلومه ، فكتب إليه أسلم يخبره انه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه ، فلم يقل له شياً ، وسنذكر كيفية بنائها في سنة ست وأربعين إن شاء الله  .

ذكر ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد

فيها كان ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وهو أخو محمد المقدَّم ذكرهُ ، وكان قبل ظهوره قد طلب أشد الطلبِ ، فحكت جارية له انه لم تقرَّهم أرض خمس سنين ، مرة بفارس ، ومرة بكرمان ، ومرة بالجبل ، ومرة بالحجاز ، ومرة باليمن ، ومرة بالشام ، ثم انه قدم الموصل وقدمها المنصور في طلبه ، فحكى إبراهيم قال : اضطرني الطلب بالموصل حتى جلست على مائدة المنصور ، ثم خرجت وقد كفَ الطلب ، وكان قوم من أهل العسكـر يتشيعون فكتبوا إلى إبراهيم يسألونه القدوم اليهم ليثبوا بالمنصور ، فقدم عسكر أبي جعفر وهو ببغداد ، وقد خطها وكانت له مرآة ينظر فيها ، فيرى عدوه من صديقه ، فنظر فيها فقال : يا مسيب قد رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض أعدى لي منه فانظر أي رجل يكـون ، ثم ان المنصور أمر ببناء قنطرة الصراة العتيقة ، فخرج إبراهيم ينظر اليها مع الناس ، فوقعت عليه عين المنصور فجلس إبراهيم وذهب في الناس ، فاتى قاميا فلجأ اليه فاصعده غرفة له ، وجدَّ المنصور في طلبه ، وضع الرصدَ بكل مكان ، فنشب ابراهيم مكانه فقال له صاحبه سفيان بن حيان القمي : قد نزل بنا ما ترى ، ولاً بد من المخاطرة قال :فأنت وذاك ، فاقبل سفيان إلى الربيع فسأله الآذن على المنصور ، فادخله عليه فلما رآه شتمه فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا أهلٌ لما تقول غير أني أتيتك تائباً ولك عندي كل ما تحب ، وأنا آتيك بابراهيم بن عبد الله إني قد بلوتهم فلم أجد فيهم خيراً ، فاكتب لي جوازاً ولغلاًم معي يحملني على البريد ، ووجِّهْ معي جنداً ؛ فكتب له جوازاً ودفع اليه جنداً وقال : هذه الف دينار فاستعنْ بها قال : لا حاجة لي فيها وأخذ منها ثلاثمائة دينار، وأقبل الجند معه ، فدخل البيت وعلى إبراهيم جبة صوف وقباء كأقبية الغلمان ، فصاح به ، فوثب وجعل يأمره وينهاه ، وسار على البريد ، وقيل : لم يركب البريد ، وسارا حتى قدم المدائن ، فمنعه صاحب القنطرة بها ، فدفع جوازه اليه فلما جازها قال له الموكل بالقنطرة : ما هذا غلام وإنه لابراهيم بن عبد الله ، إذهبْ راشداً فأطلقهْما ، فركبا سفينة حتى قدما البصرة ، فجعل يأتي بالجند .

الدار لها بابان فيقعد البعض منهم على أحد البابين ويقول : لا تبرحوا حتى آتيكم فيخرج من الباب الأخر ، ويتركهم حتى فرّق لجند عن نفسه وبقي وحده ، وبلغ الخبر سفيان بن معاوية أميرَ البصرة فأرسل اليهم فجمعهم ، وتطلب القمي فأعجزه ، وكان إبراهيم قد قدم الأهواز قبل ذلك واختفى عند الحسن بن خبيب ، وكان محمد بن الحصين يطلبه فقال يوماً : إن أمير المؤمنين كتب إلى يخبرني أنّ المنجمين أخبروه أن إبراهيم نازل بالأهواز في جزيرة بين نهرين ، وقد طلبته في الجزيرة ، وليس هناك وقد عزمت أن أطلبه غداً بالمدينة لعل أمير المؤمنين يعني بقوله : بين نهرين بين دجيل والمسرفان ، فرجع الحسن بن خبيب إلى إبراهيم ، فأخبره وأخرجه إلى ظاهر البلد، ولم يطلبه محمد ذلك اليوم .

فلما كان آخر النهار ، خرج الحسن إلى إبراهيم فادخله ا أجلد ، وهما على حمارين وقت العشاء الآخرة فلقيه اوائل خيل ابن الحصين فنزل إبراهيم عن حماره كأنه يبول ، فسأل ابن الحصين الحسن بن خبيب عن مجيئه فقال : مِنْ عند بعض أهلي فمضى وتركه ، ورجـع الحسن إلى إبراهيم ، فاركبه وادخله إلى منزله ، فقال له إبراهيم : والله لقد بُلْتُ دماً قال : فاتيت الموضع فرأيته قد بال دماً ، ثم إن إبراهيم قدم البصرة فقيل : قدمها سنة خمس واربعين بعد ظهور اخيه محمد بالمدينة ، وقيل : قدمها سنة ثلاث واربعين ومائة ، وكان الذي أقدمه وتولى قراه في قول بعضهم يحيى بن زياد بن حيان النبطي ، وأنزله في داره في بني ليث ، وقيل : نزل في دار ابي فروة ، ودعا الناس إلى بيعة أخيه ، وكان أول من بايعه نميلة بن مره العبشمي ، وعفو الله بن سفيان ، وعبد الواحد بن زياد ، وعمرو بن سلمة الهجيمي ، وعبد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي ، وندبوا الناس فأجابهم المغيرة بن الفزع وأشباه له ، وأجابه أيضاً عيسى بن يونس ، ومعاذ بن معاذ ، وعباد بن العوام ، واسحاق بن يوسف الأزرقَ ، ومعاوية بن هشيم بن بشير ، وجماعة كثيرة من الفقهاء ، وأهل العلم حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف ، وشُهِرَ أمرُهُ فقالوا له : لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك الناس هم مستريحون فتحول فنزل دار أبي مروان مولى بني سُلَيْم في مقبرة بني يشكر.

وكان سفيان بن معاوية قد مالأ على امره ولما ظهر أخوه محمد ، كتب اليه يأمره بالظهور ، فوجم لذلك واغتمَّ فجعل بعض أصحابه يسهل عليه ذلك وقال له : قد اجتمع لك أمرك فتخرج إلى السجن فتكسره من الليل ، فتصبح وقد اجتمع لك عالمٌ من الناس وطابت نفسه .

وكان المنصور بظاهر الكوفة -كما تقدم - في قلة من العساكر وقد أرسل ثلاًثة من القواد إلى سفيان بن معاوية بالبصرة مدداً له ليكونوا عوناً له على إبراهيم ان ظهر؛ فلما أراد إبراهيم الظهور أرسل إلى سفيان فأعلمه ، فجمع القواد عنده وظهر إبراهيم أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة ، فغنم دواب أولئك الجند ، وصلى بالناس الصبح في الجامع ، وقصد دار الامارة وبها سفيان متحصناً في جماعة ، فحصره وطلب سفيان منه الأمان ، فأمنه إبراهيم ، ودخل الدار ففرشوا له حصيراً فهبت الريح فقلبته قبل أن يجلس ، فتطيَّرَ الناس بذلك فقال إبراهيم : إنا لا نتطيَّر وجلس عليه مقلوباً ، وحبس القواد، وحبس أيضاً سفيان بن معاوية في القصر وقيَّدهُ بقيدٍ خفيف ليْعلِمَ المنصور أنه محبوس ، وبلغ جعفراً ، ومحمداً ابنيْ سليمان بن علي ظهور إبراهيم . فأتيا في ستمائة رجلٍ ، فأرسل إليهما إبراهيم المضاء بن القاسم الجزري في خمسين رجلاً فهزمهما ، ونادى منادي إبراهيم لاً يتبع مهزوم ، ولاً يذفف على جريح ، ومض إبراهيم بنفسه إلى باب زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين فنادى بالأمان ، وأن لاً يعرض لهمِ أحد فصفت له البصرة ، ووجد في بيت مالها ألفيْ ألف درهم ، قَوِيَ بذلك وفرض لأصحابه لكـلِّ رجلٍ خمسين خمسين ، فلما استقرت له البصرة أرسل المغيرة إلى الأهواز ، فبلغها في مائتي رجل وكان بها محمد بن الحصين عاملًا للمنصور فخرج اليه في أربعة آلاف فالتقوا فانهزم ابن الحصين ودخل المغيرة الأهواز وقيل : إنما وجَهَ المغيرة بعد مسيره إلى باخمرى ، وسيرَ إبراهيم إلى فارس عمرو بن شداد ، فقدمها وبها اسماعيل ، وعبد الصمد ابنا . علي بن عبد الله بن عباس ، فبلغهما دنو عمرو وهما باصطخر ، فقصدا داراً بجرد فتحصنا بها فصارت فارس في يدِ عمرو ، وأرسل إبراهيم مروان بن سعيد العجلي في سبعة عشر الفاً إلى واسط وبها هارون بن حميد الأيادي من قبل المنصور ، فملكها العجلي .

وأرسل المنصور لحربه ، عامر بن إسماعيل المسلي في خمسة آلاًف ، وقيل :

في عشرين ألفاً فكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب حتى ينظروا ما يكون

من إبراهيم ، والمنصور ، فلما قُتِلَ إبراهيم هرب مروان بن سعيد عنهما فاختفى حتى مات ، فلم يزل إبراهيم بالبصرة يفرِّقَ العمال والجيوش ، حتى أتاه نعي أخيه محمد قبل عيد الفطر بثلاًثة أيام ، فخرج بالناس يوم العيد ، وفيه الاًنكسار فصلى بهم ، وأخبرهم بقتل محمد ، فازدادوا في قتال المنصور بصيرة ، وأصبح من الغد ، فعسكر واستخلف على البصرة وخلف ابنه حسناً معه .

ذكر مسير إبراهيم وقتله

ثم إن إبراهيم عزم على المسير ، فأشار اصحابه البصريون ، أن تقيم وترسل الجنود ، فيكون اذا انهزم لك جند أمددتهم بغيرهم ، فخيف مكانك واتقاك عدوك ، وجُبيت الأموال وثُبِتَت وطأتك ؛ فقال مَنْ عنده من أهل الكوفة : إن بالكوفة أقواماً لو رأوك ماتوا دونك ، وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتى ، فسار عن البصرة إلى الكوفة ، وكان المنصور لما بلغه ظهور إبراهيم في قلة من العسكر فقال : والله ما أدري كيف أصنع ما في عسكري إلا ألفا رجل ، فرقت جندي مع المهدي بالري ثلاثون ألفاً ، ومع محمد بن الأشعث بافريقية أربعون ألفاً ، والباقون مع عيسى بن موسى ، والله لئن سلمت من هذه لاً يفارق عسكري ثلاًثون ألفاً ، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعاً ، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها وعاده .

وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري فقال له المنصور : اعمد إلى إبراهيم ولاً يروعنَّك جمعه ، فوالله انهما جملا بني هاشم المقتولاًن فثقْ بما أقول ، وضم اليه غيره من القواد وكتب إلى المهدي يأمره بانفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز ، فسيَّره في أربعة آلاًف قارس فوصلها وقاتل المغيرة فرجع المغيرة إلى البصرة واستباح خزيمة الأهواز ثلاثا ، وتوالت على المنصور الفتوق من البصرة ، والأهواز ، وفارس لم ، وواسط ، والمدائن ، والسواد ، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل ينتظرون به صيحة فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد :

 وجعلت نفسي للرمـاح دريئةً إن الرئيسَ لمِثْل ذاك فعولُ

ثم إنه رمى كل ناحية بحجرها ، وبقي المنصور على مصلاًه خمسين يوماً ينام

عليه ، وجلس عليه وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها لاً غيرها ، ولاً هجر المصلى إلا أنه

كان إذا ظهر للناس لبس السواد ، فإذا فارقهم رجع إلى هيئته ، وأهديت اليه امرأتان من المدينة ، احداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، والأخرى أم الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسَيْد ، فلم ينظر إليهما فقيل له : "انهما قد ساءت ظنونهما " فقال : ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما حتى أنظر رأسَ إبراهيم لي أو رأسي له ، قال الحجاج بن قتيبة : لما تتابعت الفتوق على المنصور دخلت مسلماً عليه وقد أتاه خبر البصرة ، والأهواز ، وفارس ، وعساكر إبراهيم قد عظمت .

وبالكوفة مائة ألف سيف بازاء عسكره ينتظر صيحة واحدة فيثبون به ، فرأيته أحوذياً مشمراً قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها فقام بها ولم تقعد به نفسه وإنه كما قال الأول :

 نفس عصام سودت عصـاما وَعلمتـه الكـر والإقـدامـا

 وصيرته ملكاً هماما

ثم وجًه المنصور إلى إبراهيم عيسى بن موسى في خمسة عشر الفاً ، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاًف وقال له : لما ودعه إنَ هؤلاء الخبثاء-يعني المنجمين - يزعمون أنك إذا لاًقيت إبراهيم تجول أصحابك جولة حتى تلقاه ، ثم يرجعون اليك وتكون العاقبة لك .

ولما سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلته في عسكره سراً فسمع أصوات الطنابير ثم فعل ذلك مرة أخرى فسمعها أيضاً فقال : ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا ، وسمع ينشدُ في طريقه أبيات القطامي :

 أمـورٌ لـو يُـدبِّـرُهـا حكيمٌ اذن أنهى وهيب ما استطاعا

 وَمعْصيـةُ الشفيقِ عليك ممـا يـزيدك صره منه استمـاعا

 وخيرُ الأمرِ مـا استقبلْت منه وليسَ بـأنْ تتبعـه التباعـا

 ولـكـنَ الأديـمَ اذا تـفـرَّى بلى وتعيبـا غلب الصنـاعـا

فعلموا أنه نادم على مسيره ، وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف ، وقيل : كان معه في طريقه عشرة آلاًف ، وقيل له في طريقه : ليأخذْ غيرَ الوجهِ الذي فيه عيسى ويقصدُ الكوفَة فإنَّ المنصور لاً يقومُ له وينضاف أهلُ الكوفةِ اليه ولاً يبقى للمنصور مرجعٌ دون حلوان ، فلم يفعل فقيل له ؛ ليبيت عيسى فقال : أكره البيات الا بعد الانذار ، وقام بعض أهل الكوفةِ ليأمرَه بالمسير إليها ليدعوَ اليه الناسَ وقال : م دعوهم سراً ثم أجهر فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان ، فاستشار بشيراً الرحال فقال : لو وثقنا بالذي تقول لكان رأياً ، ولكنا لا نأمن أن تجيئك منهم طائفة فيرسل اليهم المنصور الخيلَ ، فيأخذ البريء ، والصغير ، والمرأة، فيكون ذلك تعرضاً للمأثم فقال الكوفي : كأنكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتوقـون قتل الضيف ، والمرأة ، والصغير أوَ لمْ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثُ سراياه ليقاتلَ ويكون نحو هذا ؟ فقال بشير : أولئك كفار وهؤلاء مسلمون ، واتبع إبراهيم رأيه وسار حتى نزل باخمرا وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً مقابل عيسى بن موسى ، فارسل اليه سلم بن قتيبة ، إنك قد أصحرت ومثلك أنفس به عن الموت ، فخندقَْ على نفسك حتى لاً تؤتى إلا من مأتى واحدٍ فإنْ أنتَ لم تفعلْ فقد أغرى أبو جعفر عسكره ،فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه ، فدعا إبراهيم أصحابه ، وعرض عليهم ذلك فقالوا : نخندقَ على أنفسنا ونحن الظاهرون عليهم ، لا والله لا نفعل ، قال : فنأتي أبا جعفر قالوا : ولِمَ وهو في أيدينا متى أردناه ؟ فقال إبراهيم للرسول : أتسمع فارجعْ راشداً ، ثم انهم تصافوا . فصفَ إبراهيم أصحابه صفاً واحداً فاشار عليه بعضُ أصحابه بأن يجعلهم كراديسَ ،فإذا انهزم كردوس ، ثبت كردوس فإنَّ الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره ، فقال الباقون : لاً نصف إلاً صف أهل الاسلام ، يعني قول الله تعالى :

{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } الآية ، فاقتتل الناس قتالاً شديداً ، وانهزم حميد بن قحطبة ، وانهزم الناسُ معه ، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلاً يلوون عليه ، فاقبل حميد منهزماً فقال له عيسى : الله الله والطاعة فقال : لا طاعةَ في الهزيمة .
ومرَّ الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسيرَّ فقيل له : لو تنحيْتَ عن مكانك حتى تؤب إليك الناس فتكر بهم فقال : لا أزول عن مكاني هذا أبداً حتى أقتلَ أو يفتح الله على يدي ، والله لاً ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبداً ، وقد انهزمت عن عدوهم ، وجعل يقول لمن يمرُّ به ؛ اقرىء أهلَ بيتي السلام ، وقولوا لهم ؛ لم أجد فداء أفديكم به أعز من نفسي وقد بذلتها دونكم .

فبينا هم على ذلك لا يلوي أحدٌ على أحدٍ إذ أتى جعفر ، ومحمد ابنا سليمان بن علي من ظهور أصحاب إبراهيم ، ولاً يشعر باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم ، فرأى القتال من ورائهم ، فعطفوا نحوه . ورجـع أصحاب المنصور يتبعونهم ، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم ، فلولا جعفر ، ومحمد لتمَّت الهزيمة .

وكان من صنع الله للمنصور أنَّ أصحابه لقيهم نفرٌ في طريقهم ، فلم يقدروا على الوثوب ، ولم يجدوا مخاضة ، فعادوا بأجمعهم ، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحدٍ ، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار ، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة ، وقيل : أربعمائة وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى .

وجاء إبراهيم سهم عائر فوقع في حلقه فنحرَهُ فتنحَّى من موقفه وقال : أنزلوني ، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول : { وكان أمر الله قدراً مقدورا} ؛ أردنا أمراً وأراد الله غيره .

واجتمع عليه أصحابُهُ وخاصتُهُ يحمونه ويقاتلون دونه ، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه : شُدُّوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم ، وتعلموا ما اجتمعوا عليه .

فشَدّوا عليهم فقاتلوهم أشدَّ قتالٍ حتى أفرجوهم عن إبراهيم ووصلوا اليه وحزَّوا رأسه فأتوا به عيسى ، فأراه ابن أبي الكرام الجعفري فقال : نعم هذا رأسه فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث برأسه إلى المنصور ، وكان قتله يوم الاثنين لخمس ليالٍ بَقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة ، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة ؛ ومكث منذ خرج إلى أنْ قُتِل ثلاًثة أشهر إلا خمسة ايام .

وقيل : كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم نادى منادي إبراهيم ألاً لاً تتبعوا مدبراً فرجعوا ، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ،  ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم وكانت الهزيمة .

وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولًا فعزم على إتيان الري فأتاه نوبخت المنجِّم وقال : يا أمير المؤمنين الظفرُ لك وسيقتل إبراهيم فلم يقبل منه فبينما هو كذلك إذْ جاءه الخبرُ بقتل إبراهيم فتمثَّلَ.

 فألقتْ عصاها واستقر بها النّوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر

فاقطع المنصور نوبخت ألفي جُرَيْب بنهر حُويزة ، وحملَ رأسُ إبراهيم إلى المنصور ، فوضعَ بين يديه ، فلما رآه بكى حتى خرجت دموعه على خَدّ إبراهيم ثم قال : أما والله إني كنت لهذا كارهاً ولكنك ابتليت بي ، وابتليت بك .

ثم جلس مجلساً عاماً وأذن للناس ، فكان الداخل يدخل ، فيتناول إبراهيم ،ويسيء القول فيه ويذكر فيه القبيح التماساً لرضا المنصور ، والمنصور متمسكٌ متغيرٌ لونُه ، حتى دخل جعفرُ بن حنظلة الدارمي فوقف فسلَّم ثم قال : أعظمَ الله أجرَكَ يا أمير المؤمنين في ابن عمك ، وغفر له ما فرط فيه من حقَك فاصفرَّ لونُ المنصور وأقبلَ عليه وقال : يا أبا خالد مرحباً ههنا فعلم الناس أن ذلك يرضيه فقالوا مثل قوله ، وقيل : لما وضع الرأس بصق - في وجهه رجلٌٌ من الحرس فأمرَ به المنصور فضُرِبَ بالعمد فهشمت أنفه ووجهه وضُربَ حتى خُمِدَ وأمِرَ به فجرّوا رجله فالقوه خارج الباب .

قيل : نظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكباً فقال : لله العجب كيف يقتلني ابن الفاعلة ؟ انقض امر إبراهيم رضي الله عنه .

ذكر عدة حوادث

وفيها خرجت الترك ، والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة . وحج بالناس هذه السنة السري بن عبد الله بن الحرث بن العباس وكان على مكة .

وكان على المدينة عبد الله بن الربيع ، وعلى الكوفة عيسى بن موسى ، وعلى البصرة سلم بن قتيبة الباهلي ، وعلى قضائها عبادُ بن منصور ، وعلى مصر يزيد بن حاتم؛ وفيها عزل المنصور مالك بن الهيثم عن الموصل بابنه جعفر بن أبي جعفر المنصور ، وسيَّر معه حرب بن عبد الله وقو من أكابر قواده ، وهو صاحب الحربية ببغداد ،وبنى باسفل الموصل قصراً وسكنه ، فهو يُعرف إلى اليوم بقصر حرب ، وفيه وبدَتْ زبيدةُ بنتُ جعفر زوجة الرشيد ؛ وعنده يومنا هذا قرية كانت مُلكاً لنا فبنيْنا فيها رباطاً للصوفية وقفنا القرية عليه قد جمعت كثيراً من هذا الكتاب في هذه القرية في دار لنا بها وهي ، من أنزه المواضع وأحسنها.

وأثر القصر باق بها إلى الآن سبحان من لاً يزول ولاً تغيّره الدهور ، وفيها مات عمرو بن ميمون بن مهران ، والحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وكان موته في حبس المنصور ، لأنه أخذه من المدينة كما ذكرناه وهو عم محمد ، وابراهيم ، وفيها مات عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، ويحيى بن الحرث الذماري وله سبعون سنة . واسماعيل بن أبي خالد البجلي ، وحبيب بن الشهيد مولى الأزد وكنيته أبو شهيد .

ثم دخلت سنة ست واربعين ومائة ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏