المجلد الخامس - ذكر انتقال المنصور إلى بغداد وكيفية بنائها

وفيها في صفر تحولَ المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد وبنى مدينتها ، وقد ذكرنا في سنة خمس وأربعين ومائة ، السبب الباعثَ للمنصور على بناء مدينة بغداد ونذكر الآن بناءها .

ولما عزم المنصور على بناء بغداد ، شاور أصحابه وكان فيهم خالد بن برمك ، فأشار أيضاً بذلك وهو خطّها ، فاستشاره في نقض المدائن . وإيوان كسرى ونقل نقضها إلى بغداد فقال : لا أرى ذلك لأنه عَلَمٌ من أعلاًم الاسلام يُستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا ، وإنما هو على أمردين ، ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب ، قال المنصور : لا أبيت يا خالد إلاً بالميل إلى اصحابك العجم ، وأمر بنقض القصر الأبيض ، فنقضَتْ ناحيةٌ منه وحملَ نقضهُ فنظر فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الجديد ، فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك فقال : يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لاً تفعل ، فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم لئلاً يقال : إنك عجزْتَ عن هدم ما بناه غيرك.

فاعرض عنه ، وترك هدمَهُ ، ونقلَ أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وباباً جيء به من الشام ، وباباً آخر جيء به من الكوفة ، كان عمله خالد بن عبد الله القسري ، وجعل المدينة مدوّرة لئلاً يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض؛ وعمل لها سورين السور الداخل أعلى من الخارج ، وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان الحجاج بن أرطاة هو الذي خط المسجد ، وقِبْلَتُهُ غير مستقيمة يحتاج المصلي أن ينحرف إلى باب البصرة لأنه وُضِعَ بعد القصر .

وكان القصر غير مستقيم على القبلة، وكان اللبن الذي يبنَى به ذراع في ذراع ووزن بعضها لما نقض ، فكان وزن لبنة منه مائة رطل وستة عشر رطلًا .

وكانت مقاصير جماعة من قواد المنصور وكتابه ، تشرعُ أبوابها إلى رحبة الجامع ، فطلب إليه عمه عيسى بن علي أن يأذنَ له في الركوب من باب الرحبة إلى القصر لضعفه ، فلم يأذن له قال : فاحسبني راوية فأمر الناس بإخراج أبوابهم من الرحبة إلى فصلان الطافات .
وكانت الأسواقَ في المدينة فجاء رسول لملك الروم ، فأمر الربيع فطاف به في المدينة ، فقال كيف رأيت ؟ قال : رأيت بناء حسناً إلاً أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة؛ فلما عاد الرسول عنه أمر باخراجهم إلى ناحية الكرخ ، وقيل : إنما أخرجهم لأن الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس .

وقيل : إنَّ المنصور كان يتبع من خرج مع إبراهيم بن عبد الله وكان أبو زكريا يحيى بن عبد الله محتسب بغداد له مع إبراهيم ميل ، فجمع جماعةً من السَّفَلةِِ فشغبوا على المنصور ، فسكنهم وأخذ أبا زكريا فقتله ، وأخرج الأسواقَ ، فكلم في بقال فأمر أن يجعل في كل ربع بقال يبيع البقل والخل حسب ، وجعل الطريق أربعين ذراعاً . وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواقَ والفصلان والخنادقَ وأبوابها ، أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاًثة وثلاثين درهماً ؛ وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة ، والروزكاري بحبتين ، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلًا منهم بما بقي عنده فأخذه حتى أنَ خالد بن الصلت بقي عليه خمسة عشر درهماً فحبسه وأخذها منه .

ذكر خروج العلاء بالأندلس

وفيها سار العلاء بن مغيث اليحصبي من أفريقية إلى مدينة بناحية من الأندلس ، ولبس السواد ، وقام بالدولة العباسية ، وخطب للمنصور ، واجتمع إليه خلق كثير ، فخرج إليه الأمير عبد الرحمن الأموي ، فالتقيا بنواحي أشبيلية ، ثم تحاربا أياماً فانهزم العلاًء وأصحابه ، وقُتِلَ منهم في المعركة سبعة آلاًف وقُتِلَ العلاء ، وأمر بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس جماعة من مشاهير أصحابه إلى القيروان ، والقائها بالسوقَ سراً ففعل ذلك ، ثم حُمِل منها شيءٌ إلى مكة فوصلت وكان بها المنصور وكان مع الرؤوس لواء أسود، وكتاب كتبه المنصور للعلاء.

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عُزِلَ سلم بن قتيبة عن البصرة ، وكان سبب عزلِهِ أنَّ المنصور كتب إليه يأمره بهدم دُورِ مَنْ خرجَ مع إبراهيم وبِعَقْرِ نَخْلِهم .
فكتب سلم بأي ذلك أبدأ بالدور أم النخل ؟ فانكر المنصور ذلك عليه وعَزَله واستعمل محمد بن سليمان فعاث بالبصرة وهدم دار أبي مروان ، ودار عون بن مالك ، ودار عبد الواحد بن زياد وغيرهم .

وغزا الصائفة هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني ، وفيها عُزل عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي وولي مكانه جعفر بن سليمان ؛ فقدِمَها في ربيع الأول ، وفيها عزلَ عن مكة السري بن عبد الله وَوَليها عبد الصمد بن علي .

وحج بالناس هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الامام . وفيها مات هشام بن عروة بن الزبير، وقيل : سنة سبع وأربعين في شعبان ، وعوف الاعرابي ، وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي الكوفي ، وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الذي يقال له : مالك الصوائف –وهو من أهل فلسطين - بلاًد الروم فغنم غنائم كثيرة ، ثم قفل فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلاً بموضع يدعى الرهوة ،نزل بها ثلاثاً ، وباع الغنائم ، وقسم سهام الغنيمة فسُميت تلك الرهوة رهوة مالك ، وفيها تُوفي ابن السائب الكلبي النسابة.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

ذكر قتل حرب بن عبد الله

فيها أغار استرخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية ارمينية وسبى من المسلمين وأهل الذمة خلقاً ودخلوا تفيس ، وكان حرب مقيماً بالموصل في ألفيْن من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزيرة ، وسير المنصور إلى محاربة الترك جبرائيل بن يحيى ، وحرب بن عبد الله ، فقاتلوهم فهُزِمَ جبرائيل وقتل حرب وقُتِلَ من أصحاب جبرائيل خلقٌ كثيرٌ .

ذكر البيعة للمهدي ، وخلع عيسى بن موسى

وفيها خُلِع عيسى بن موسى بن محمد بن علي من ولاًية العهد، وبويع للمهدي محمد بن المنصور ، وقد اختلف في السبب الذي خُلِعَ لأجله نفسه فقيل : إنّ عيسى لم يزل على ولاًية العهد وامارة الكوفة من أيام السفاح إلى الآن ، فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له ، كلم عيسى بن موسى في ذلك وكان يكرِمُه ويُجْلِسُه عن يمينه ، ويجلس المهدي عن يساره ؛ فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال : يا أمير المؤمنين كيف بالأيمان عليّ وعلى المسلمين من العتق ، والطلاقَ ، وغير ذلك ؟ ليس إلى الخلع سبيل .

فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة وصار يأذن للمهدي قبله ، وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى، ثم يؤذن لعيسى، فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي ، ولم يجلس عن يسار المنصور، فاغتاظ منه ، ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي ، ثم لعبد الصمد بن علي ثم عيسى بن موسى ، وربما قدَّم وأخر إلا أنه يبدأ بالِإذن للمهدي على كل حال .

وتوهم عيسى أنه يقدّم اذنهم لحاجة له اليهم وعيسى صامت لاً يشكو منه شيئاً ؛ ثم صار حال عيسى إلى أعظم من ذلك؛ فكان يكون في المجلس معه بعض وُلْده فيسمع الحفر في أصل الحائط ، وينثر عليه التراب ، وينظر إلى الخشبة من السقف ، قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه ، فيأمر مَنْ معه من وُلْدِه بالتحول ، ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لاً ينفضه فيقول له المنصور : يا عيسى ما يدخل على أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب ؛ أفَكلُّ هذا من الشارع ؟ فيقول : أحسب ذلك يا أمير المؤمنين ولاً يشكو شيئاً.

وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك فكان عيسى بن موسى لا يُؤثرُهُ ويتهمه فقيل : ان المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه ، فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة، فأذن له فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشْفِيَ .

وقال عيسى بن علي للمنصور: إن ابن موسى انما يتربَصُ بالخلاًفة لاًبنه موسى فابنه الذي يمنعه فقال له (ا): خوفه وتَهدب ، فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوَفه فخاف عيسى بن موسى وأتى العباس بن محمد فقال : يا عم إني أرى ما يُسئِمُ أبي من إخراج هذا الأمر من عُنُقِهِ وهو يؤذى بصنوف الأذى بالمكروه فهو يهدد مرة، ويؤخر إذنه مرة، ويهدِمُ عليه الحيطانَ مرةً ، وتدلقُ إليه الحتوف مرة ، وأبي لا يعطي على ذلك شيئاً ولاً يكون ذلك أبداً؛ ولكن ههنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلاً، قال : وما هو؟ قال : يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له : إني أعلم إنك لا تبخل بهذا الأمر لنفسك لكبر سنك ، وأنه لاً تطول مدتك فيه وإنما تبخلِ به لاًبنك أفتراني أدعُ ابنك يبقى بعدك حتى يلي على ابني ؟ كلاً والله لا يكون ذلك أبداَ ولأبثنَ على ابنك وأنت تنظر حتى ييأس منه ؛ فإن فعل ذلك فلعله أن يجيب إلى ما يراد منه ، فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك ، فلما اجتمعوا عنده قال ذلك .

وكان عيسى بن علي حاضراً فقام ليبول –فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه ، فقام معه فقال له عيسى بن علي : بأبي أنت وبابي أب وبدك والله إني لأعلم أنه لا خيْرَ في هذا الأمر بعدكما ، وأنكما لأحقً به ، ولكن المرء مغرى بما تعجل .

فقال موسى في نفسه : أمكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغري بأبي ، والله لأقتلنَهُ ،فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سراً فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه فقال له أبوه : إن لفذا رأياً ومذهباً أيأتمنك عمك على مقالةٍ أراد أن يسرك بها فجعلتها سبباً لمكروهه لاً يسمعنَ هذا أحدُ ، اِرجعْ إلى مكانك .

فلما رجِعَ إلى مكانه أمرَ المنصور الربيعَ فقام إلى موسى فخَنَقَهُ بحمائِلِه وموسى يصيحُ : " الله الله فيِ دمي يا أمير المؤمنين " ، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضة عشر ذكراً والمنصور يقول : يا ربيع أزهقْ نفسه ؛ والربيع يوهم أنه يريد تَلْفَه وهو يُرفِقُ به وموسى يصيح .

فلما رأى ذلك أبوه قال : والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله ، فاكففْ عنه فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار وما أملِكُ في سبيلِ الله تصرفَ ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين ، وهذه يدي بالبيعة للمهدي ؛ فبايعه للمهدي ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي ، فقال بعض أهل الكوفة : هذا الذي كان غداً فصار بعد غدٍ ، وقيلَ : إنَ المنصور وضعَ الجندَ وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره ، فشكا ذلك من فعلهم ، فنهاهم المنصور عنه ، وكـانوا يكفُّون ثم يعودون ، ثم أنهما تكاتبا مكاتباتٍ أغضبتِ المنصور .

وعاد الجند معه لأشدّ ما كانوا ، منهم أسد بن المُرزُبان ، وعقبة بن سلم ، ونصر بن حرب بن عبـد الله وغيرهم فكـانوا يمنعونه من الدخول عليه ويسمعونه فشكاهم إلى المنصور فقال له : يا بن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي ، فإنهم يحبون هذا الفتى ، فلو قدمته بين يديك لكفّوا، فاجاب عيسى إلى ذلك ، وقيل : إن المنصور استشار خالدَ بن برمكٍ في ذلك ، وبعثه إلى عيسى فاخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم ، وقال لعيسى في أمر البيعة ، فامتنع .

فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي ، وجاء عيسى فانكر ذلك فلم يسمعْ منه ، وشكر لخالدِ صنيعه ، وقيل : بل اشترى المنصور منه ذلك بمال قدرُه أحدَ عشرَ ألفَ ألف درهمٍ له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع ، وكانت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنة، وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان بن علي عليها ليؤذي عيسى ويستخف به فلم يفعل ولم يزل معظِّماً له مبجِّلًا.

ذكرُ موتِ عبدِ الله بنِ علي

وكان المنصورُ قد أحضرَ عيسى بن موسى بعد أن خَلَعَ نفسَه وسلًم إليه عمه عبد الله بن علي ، وأمره بقتله وقال له : إن الخلافة صائرةٌ إليك بعد المهدي ؛ فاضرب عنقه وإياك أن تضعفَ فتنقضَ على أمري الذي دبرتَهُ ثم مض إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه ما فعل في الأمر الذي أمره ، فكتب عيسى في الجواب : " قد أنفذْتُ ما أمرت به فلم يشك أنه قتله " .

وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور ، دعا كاتبه يُونسَ بنَ فروة ، وأخبرَهُ الخبرَ فقال : أراد أن تقتله ثم يقتلك ، لأنه أمر بقتله سِراً ثم يدعيه عليك علاًنية ، فلاً تقتلْهُ ولا تدفعْهُ إليه سراً أبداً واكتمْ أمرَهُ ، ففعل ذلك عيسى .

فلما قدم المنصور ، وضعَ على أعمامه مَنْ يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله ففعلوا وشفعوا فشفعهم وقال لعيسى : إني كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله ليكون في منزلك ، وقد كلمني عمومتك فيه ، وقد صفحت عنه ، فأتنا به ، قال: يا أمير المؤمنين ألمْ تأمرني بقتله فقتلته ؟ قال : ما أمرتك قال : بلى أمرتني قال : ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت ، ثم قال المنصور لعمومته : إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم قالوا : فادفعه إلينا نقيده به؛ فسلمه إليهم وخرجوا به إلى الرحبة ، واجتمع الناسُ وشهرَ الأمر، وقام أحدُهم ليقتلَهُ ، فقال له عيسى : أفاعل أنت ؟ قال : إي والله قال : ردوني إلى أمير المؤمنين فردوه إليه فقال له : إنما أردت بقتله أن تقتلني ، هذا عمك حي سوي قال : ائتنا به؛ فأتاه به قال : يدخل حتى أرى رأي ثم انصرفوا ، ثم أمر به فجعل في بيتٍ أساسُهُ ملخ ، وأجرى الماء في أساسه ، فسقط عليه فمات ، فدفن في مقابر بابِ الشام ، فكان أول من دُفِنَ فيها وكان عمره اثنتين وخمسين سنةً .

قيل : ركب المنصور يوماً ومعه ابن عياش المنتوف فقال له المنصور : تعرف ثلاًثة خلفاء أسماؤهم على العين ، قتلت ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم على العين قال : لا أعرف الا ما يقول العامة : إنَ علياً قتلَ عثمان وكذبوا ، وعبد الملك قتلَ عبد الرحمن بن الأشعث ، وعبد الله بن الزبير قتل عمراً بن سعيد، وعبد الله بن علي سقط عليه البيت ، فقال المنصور : إذا سقط عليه فما ذنبي أنا ؟ قال : ما قلت إن لك ذنباً قوله ابن الزبير قتل عمراً بن سعيد ليس بصحيحٍ ، إنما قتلَهُ عبد الملك عياش بالياء المثناة من تحت والشين المعجمة .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وليَ المنصور محمداً إبنَ أخيه أبي العباس السفاح البصرة فاستعفى منها ، فاعفاه فانصرف إلى بغداد ، واستخلف بها نخبةَ بنَ سالم ، فاقرَّه عليها ، فلما رجع إلى بغداد مات بها ؛ وحج بالناس هذه السنة المنصور ، وكان عامله على مكة؛ والطائف عمه عبد الصمد بن علي ، وعلى المدينة جعفر بن سليمان ، وعلى مصر يزيد بن حاتم المهلبي ، وفيها أغزى عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ، مولاه بدراً، وتمام بن علقمة طليطلة، وبها هاشم بن عذزة وضيقا عليه ثم أسراه هو، وحياة بن الوليد اليحصبي ، وعثمان بن حمزة بن عُبَيْد الله بن عمر بن الخطاب وأتيا بهم إلى عبد الرحمن في جباب صوف ، وقد حُلِقَتْ رؤوسهم ولحاهُم وقد اركِبوا الحميرَ وهم في السلاًسل ، ثم صُلِبُوا بقرطبة، وفيها قَدِمَ رسولُ عبد الرحمن الذي أرسله إلى الشام في إحضار ولده الأكبر سليمان ، فحضر وسليمان معه ، وكان قد وُبدَ لعبد الرحمن بالأندلس وَلَدُه هشام فقدمه الأمير عبد الرحمن على سليمان ، فحصل بينهما حقدّ وغِل أوجبا ما نذكره فيما بعد، وفيها تناثرت النجوم ، وفيها مات أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري ، وهشام بن حسان مولى لِعَتِيك ، وقيل : مات سنة ثمان وأربعين ، وعبد الرحمن بن زبيد بن الحرث اليامي أبو الأشعث الكوفي . .

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

ذكر خروج حسان بن مجالد

وفيها خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني ؛ ومالك هذا هو أخو مسروقَ بن الاجدع .

وكان خروجه بنواحي الموصل بقرية تسمى بافخارى ،قريب من الموصل على دجلة، فخرج اليه عسكر الموصل وعليها الصقر بن نجدة -وكان قد وليها بعد حرب بن عبد الله - فالتقوا ، واقتتلوا ، وانهزم عسكر الموصل إلى الجسر ، وأحرقَ الخوارجُ أصحاب حسان السوقَ هناك ونهبوه ، ثم ان حسان سار إلى الرقة ، ومنها إلى البحر ، ودخل إلى بلد السند؛ وكانت الخوارج من أهل عمان يدخلونهم ويدعونهم فاستأذنهم في المسير إليهم فلم يجيبوه ، فعاد إلى الموصل فخرج إليه الصقر أيضاً ، والحسن بن صالح بن حسان الهمداني ، وبلال القيسي فالتقوا فانهزم الصقرُ وأسِرَ الحسن بن صالح ، وبلال؛ فقَتَلَ حسانُ بلالاً واستبقى الحسنَ لأنه من همدان ، ففارقه بعض أصحابه لهذا .

وكان حسان قد أخذ رأي الخوارج عن خاله حفص بن أشيم ؛ وكان من علماء الخوارج وفقهائهم ،ولما بلغ المنصور خروج حسان قال : خارجي من همدان قالوا : إنه ابن أخت حفص بن أشيم فقال : فمن هناك ، وإنما أنكر المنصور ذلك لأن عامة همدان شيعةٌ لعلي ، وعزم المنصور على انفاذ الجيوش إلى الموصل والفتك بأهلها فاحضرَ أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة وقال لهم : إن أهل الموصل شرطوا لي أنهم لاً يخرجون علي أن فعلوا حلتْ دماؤهم وأموالهم ، وقد خرجوا فسكت أبو حنيفة وتكلم الرجلاًن وقالاً : رعيتك فإن عفوْتَ فأهلُ ذلك أنتَ ، وإنْ عاقبْتَ فيما يستحقون ، فقال لأبي حنيفة : أراك سكت يا شيخ فقال : يا أمير المؤمنين أباحوك مالا يملكون  أرأيت لو أن أمرأة أباحتْ فرجها بغيرِ عقدِ نكاح وملك يمين أكان يجوز أن تُوطأ؟ قال : لاً ؟ وكف عن أهل الموصل ، وأمر أبا حنيفة وصاحبيه بالعود إلى الكوفة .

ذكر استعمال خالد بن برمك

وفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن برمك ، وسببُ ذلك أنه بَلَغَهُ انتشارُ الأكرادِ بولاًيتها وإفسادهم فقال : من لها ؟ فقالوا : المسيب بن زهير، فأشار عمارة بن غمرة بخالد بن برمك ، فولاًه وسيره إليها وأحسَنَ إلن الناس ، وقهر المفسدين وكفَّهم ، وهابَهُ أهلُ البلدِ هيبةً شديدةً مع إحسانه إليهم ، وفيها وُبدَ الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك لسبع بقين من ذي الحجة قبل أن يولدَ الرشيدُ ابن المهدي بسبعة أيام ، فارضعته الخيزران أم الرشيد بلبن ابنها ، فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة ، ولذلك يقول سلم الخاسر :
 أصبـح الفضلُ والخليفـةُ هارون رضيعي لبـان خيـر النسـاء وقال أبو الجنوب :

 كفى لـك فضلاً أن أفضـل حـرةً غـذتك بثـدي والخليفـة واحـد

ذكر ولاية الأغلب بن سالم أفريقية

لما بلغ المنصور خروج محمد بن الأشعث من أفريقية ، بعث إلى الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي عهداً بولاًية أفريقية ، وكان هذا الأغلب ممن قام مع أبي مسلم الخراساني ، وقدم أفريقية مع محمد بن الأشعث ، فلما أتاه العهدُ قَدمَ القيروان فيِ جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين ومائة ، وأخرج جماعةً من قُواد المضرية وسَكَن الناس ، وخرج عليه أبو قرة في جمعٍ كثيرٍ من البربر ؛ فسار إليه الأغلب ، فهرب أبو قرة من غيرِ قتالٍ ، وسار الأغلَبُ يريد طنجة ، فاشتد ذلك على الجند وكرهوا المسير ، وتسلّلوا عنه إلى القيروان ، فلم يبق معه إلاً نفرٌ يسير.

وكان الحسنُ بنُ حرب الكندي بمدينة تونس ، وكاتب الجند، ودعاهم إلى نفسه فأجابوه ، فسار حتى دخلَ القيروان من غير مانع ، وبلغ الأغلب الخبرَ، فعاد مجداً فقال له بعض أصحابه : ليس من الرأي أن تَعْدل إلى لقاء العدو في هذه العدة القليلة ،

ولكن الرأي أنْ تعدلَ إلى قابسَ فان أكثر مَنْ معه يجيءُ إليك لأنهم إنما كَرِهوا المسير إلى طنجة لا غير ، وتقوى بهم وتقاتل عدوك .

ففعل ذلك وكثر جمعه وسار إلى الحسن بن حرب ، فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزمَ الحسن وقُتِلَ من أصحابه جمعٌ كثير ، ومض الحسن إلى تونسَ في جمادى الآخرة سنة خمسين ومائة ، ودخل الأغلب القيروانَ ، وحشد الحسن وجمع فصار في عدّة عظيمة فقصد الأغلب ، فخرج إليه الأغلب من القيروان ، فالتقوا واقتتلوا ،فأصاب الأغلب سَهْمَ فقتله ، وثبت أصحابه فتقدم عليهم المخارق بن غفار ، فحمل المخارقَ على الحسن ،وكان في ميمنة الأغلب - فهزمه فمض منهزماً إلى تونس في شعبان سنة خمسين ومائة .

ووليَ المخارقَ أفريقية في رمضان ووجه الخيل في طلب الحسن فهرب الحسن من تونس إلى كتامة فأقام شهرين ثم رجع إلى تونسَ فخرج إليه مَنْ بها من الجند فقتلوه ، وقد قيل : إن الحسن قُتِلَ بعد قَتْلِ الأغلبِ ، لأن أصحاب الأغلب ثبتوا بعد قتله في المعركة ، فقتل الحسن بن حرب أيضاً وولَّى أصحابه منهزمين وصُلِبَ الحسن ودُفِنَ الأغلبُ وشتي الشهيد ، وكانت هذه الوقعة في شعبان سنة خمسين ومائة .

ذكر الفتن بالأندلس

في هذه السنة خرجٍ سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بالأندلس بمدينة لبلة ، وسبب ذلك أنه سكر يوماً فتذكر مَنْ قُتِلَ من أصحابه اليمانية مع العلاء وقد ذكرناه فعقد لواء ، فلما صحا رآه معقوداً فسأل عنه ، فأخبر به فأراد حله ثم قال ؛ ما كنت أعقد لواء ثم أحله بغير شيء وشرع في الخلاًف ، فاجتمعت اليمانية إليه ، وقصد إشبيلية وتغلّبَ عليها ، وكَثُرَ جَمْعُه ، فبادره عبد الرحمن صاحبُ الأندلس في جموعه ، فامتنع المطري في قلعة زعواقَ لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فحصره عبد الرحمن فيها وضيق عليه ومنع أهل الخلاًف من الوصول إليه ، وكان قد وافقه على الخلاف غيَّاث بن علقمة اللخمي – وكان بمدينة شدونة – وقد انضاف إليه جماعة من رؤساء القبائل ، يريدون إمداد المطري وهم في جَمْع كل كثير، فلما سمعَ عبدُ الرحمن ذلك ، سير إليهم بدراً مولاه في جيش ، فحالَ بينهم وبين الوصول إلى المطري فطال الحصارُ عليه ، وقتَتْ رجاله بالقتل ، ففارقه بعضُهم ، فخرج يوماً من القلعة ، وقاتل فقُتِلَ وخمِلَ رأسُهُ إلى عبد الرحمن .

فَقَدِمَ أهلَ القلعة عليهم خليفةُ ابن مروان فدام الحصارُ عليهم ، فأرسل أهلُها يطلبون الأمانَ من عبد الرحمن ليسلموا إليه خليفة ، فأجابهم إلى ذلك وأفنهم فسلموا إليه الحصنَ وخليفة، فخرب الحصن ، وقُتِلَ خليفة ومَنْ معه ، ثم انتقل إلى غياث وكان موافقاً للمطري على الخلاف ، فحصرهم ، وضيق عليهم ، فطلبوا الأمان ، فأمنهم إلا نفراً كان يعرف كراهتهم لدولته ، فإنه قبض عليهم وعاد إلى قرطبة فلما عاد إليها، خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدي ، بكورة جيان ، فاجتمعت إليه جموع فأغار على قرطبة فسير اليه عبد الرحمن جيشاً فتفرقَ جمعُهُ ، فطلبَ الأمان فبذله له عبد الرحمن ووفى له .

ذكر عدة حوادث

وفيها عسكر صالح بن علي بدابق ولم يغز ، وحجَّ بالناس أبو جعفر المنصور ، وكان ولاًة الأمصار مَنْ تقدمَ ذكرُهم ، وفيها مات سليمان بن مهران الأعمش  وكان مولده سنة ستين ، وفيها مات جعفر بن محمد الصادقَ وقبره بالمدينة يزار هو وأبوه ، وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب ، وفيها مات زكريا بن أبي زائدة ، وأبو أمية عمرو بن الحرث بن يعقوب مولى قيس بن سعد بن عبادة ، وقيل : غير ذلك وكان مولده سنة تسعين ، وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ويقال : مولى تميم وهو ثقة ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ، ومحمد بن الوليد الزبيدي ، ومحمد بن عجلاًن المدني ، وعوَام بن حوشب بن يزيد بن رويم الشيباني الواسطي ، ويحيى بن أبي عمرو الشيباني من أهل الرملة ،و( سيبان ) بالسين المهملة ثم بالياء المثناة من تحت ثم بالباء الموحدة بطن من حمير .
هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي المحدث المعروف بالأعمش من تابعي أهل الكوفة وكان خفيف الروح ذا دعابة .

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة

وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم ، ومعه الحسن بن قحطبة، ومحمد بن الأشعث فمات محمد في الطريق . وفيها استتم المنصور بناء سور مدينة بغداد ، وخندقها، وفرَّغ جميعَ أمورها ، وسار إلى حديثة الموصل ثم عاد ، وحج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس . وفيها عُزِلَ عبدُ الصمد بن علي عن مكة في قول بعضهم ، واستعمل محمد بن إبراهيم ؛ وكان عمال الأمصار مَنْ تقدم ذكرهم سوى مكة والطائف . وفيها أغزى عبد الرحمن صاحب الأندلس بدراً مولاًه إلى بلاد العدو ، فجاوز إليه وأخذ جزيتها .

وكان أبو الصباح حي بن يحيى على اشبيلية فعزله ، فدعا إلى الخلاف ، فأنفذ إليه عبد الرحمن وخدعه حتى حضر عنده فقتله ؛ وفيها مات سلم بن قتيبة الباهلي بالري وكان مشهوراً عظيم القدر(ا) وكهمس بن الحسن ابو الحسن التميمي البصري . وفيها توفي عيسى بن عمر الثقفي النحوي المشهور ، وعنه أخذ الخليل النحو وله فيه تصنيف .

ثم دخلت سنة خمسين ومائة

ذكر خروج استاذسيس

وفيها خرج أستاذ سيس في أهل هراة ، وباذغيس ، وسجستان ، وغيرها من خراسان . وكان فيما قيلَ في زهاء ثلاثمائة ألف مقاتل ، فغلبوا على عامة خراسان وسار حتى التقوا هم وأهلُ مرو والروذ ، فخرج إليهم الأجشم المرْورْوَذي في أهل مرو الروذ، فقاتلوه قتالاً شديداً ، فقُتِلَ الأجشم  وكَثُرَ القتلُ في أصحابه وهُزِمَ عدةٌ من القواد، منهم معاذ بن مسلم ، وجبرائيل بن يحيى ، وحماد بن عمرو ، وأبو النجم السجستاني ، وداود بن كرار .

ووجه المنصور - وهو بالراذان - خازم بن خزيمة إلى المهدي ، فولاه المهدي محاربة استاذسيس ، وضم إليه القواد، فسار خازم وأخذ معه مَنْ انهزم ، وجعلهم في أخريات الناس يكثر بهم من معه ، وكان معه من هذه الطبقة اثنان وعشرون ألفاً ، ثم انتخب منهم ستة آلاًف رجل وضمهم إلى إثني عشر ألفاً كانوا معه من المنتخبين . وكان بكار بن سلم فيمن انتخب وتعيى للقتال فجعل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته ، ونهارَ بنَ حصين السعدي على ميسرته ، وبنهَار بن سلم العقيلي في مقدمته ، وكان لؤلؤه مع الزبرقان ، فمكَرَ بهم وراوغهم في أن ينقلَهُم مِنْ موضِعٍ إلى موضعٍ ، وخندقٍَ إلى خندقَ حتى قطعهم وكان أكثرهم رجالة ، ثم سار خازم إلى موضعٍ ، فنزله وخندقَ عليه وعلى جميع أصحابه ، وجعل له أربعةَ أبوابٍ وجعلَ على كلِّ بابٍ الفاً من أصحابه الذين انتخبوا .

وأتى أصحاب أستاذسيس ومعهم الفؤوس ، والمرور ، والزبل ليطموا الخندقَ فأتوا الخندقَ من الباب الذي عليه بكار بن سلم فحملوا على أصحاب بكار حملة هزموهم بها ، فرمى بكار بنفسه فترتجَلَ على بابِ الخندقَِ وقال لأصحابه : لا يؤتى المسلمون من ناحيتنا ، فترجل معه من أهله وعشيرته نحو من خمسين رجلاً وقاتلوهم حق ردوهم من بابهم ، ثم أقبل إلى الباب الذي عليه خازم رجل من أصحابِ أستاذسيس من أهل سجستان اسمه الحرُيش، وهو الذي كان يدبَر أمره .

فلما رآه خازم مقبلاً ، بعث إلى الهيثم بن شعبة ، وكان في الميمنة أن يخرج من الباب الذي عليه بكار فإن مَنْ بإزائِهِ قد شُغِلُوا عنهم ، ويسير حتى يغيب عن أبصارهم ، ثم يرجع من خلف العدوّ .

وقد كانوا يتوقعون قدوم أبي عون ، وعمرو بن سلم بن قتيبة من طخارستان .

وبعث خازم إلى بكار إذا رأيت رايات الهيثم قد جاءت فكبروا وقولوا : قد جاءت فكبَروا وقولوا : قد جاء أهل طخارستان ، ففعل ذلك الهيثم ، وخرج خازم في القلب على الحريش وشغلهم بالقتالِ وصبر بعضهم لبعض فبينا هم على ذلك ،نظروا إلى اعلام الهيثم فتنادوا بينهم جاء أهل طخارستان فلما نظروا إليها حمل عليهم أصحاب خازم فكشفوهم ، ولقيهم أصحاب الهيثم ، فطعنوهم بالرماح ، ورموهم بالنشاب ، وخرج عليهم نهار بن حصين من ناحية الميسرة ، وبكـار بن سلم وأصحـابه من ناحيتهم ، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف ، فقتلهم المسلمون ، فاكثروا وكان عدد من قتل سبعين ألفاً وأسروا أربعة عشر ألفاً،ونجـا استاذسيس إلى جبل في نفر يسير فحَصَرَهم خازم وقَتَلَ الأسرى، ووافاه أبو عون ، وعمرو بن سلم ، ومن معهما فنزل أستاذسيس على حكم أبي عون فحكم ان يوثق استاذسيس ، وبنوه ، وأهل بيته بالحديد وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفاً قاضى خازم حكمه وكسَا كل رجل ثوبين ، وكتب إلى المهدي بذلك ؛ فكتب المهدي إلى المنصور ، وقيل : إنَ خروج استاذسيس كان سنة خمسين وكانت هزيمته سنة إحدى وخمسين ومائة ، وقد قيل : إن استاذسيس ادَعى النبوة ، وأظهر أصحائهُ الفسقَ ، وقطع السبيل ، وقيل : إنه جد المأمون أبو أمه مراجل وابنه غالب خال المأمون وهو الذي قَتَلَ ذا الرياستين الفضل بن سهل لمواطأةٍ من المأمون وسَيَرِدُ ذِكرهُ إن شاء الله .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عَزَلَ المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة وولَّاها الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي ، وفيها خرجٍ بالأندلس غياث بن المسير الأسدي بنائحة ، فجمع العمال لعبد الرحمن جمعاً كثيرا وسار إلى غياث ، فواقعه ، فانهزم غياث ومن معه ، وقُتِلَ غياث وبُعِثَ برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة ، وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور ، وصلّى عليه أبوه ودُفِنَ ليلاً في مقابر قريش ، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة ، وحجَّ بالناس عبد الصمد بن علي وكان هو العامل على مكة في قول بعضهم ، وقال بعضهم : بل كان العامل محمد بن إبراهيم ، وكان على الكوفة محمد بن سليمان بن علي ، وعلى البصرة عُقبة بن سلم ، وعلى قضائها سوار ، وعلى مصر يزيد بن حاتم ، وفي هذه السنة مات الامام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت  ، ومعمّر بن راشد ، وعمر بن ذر ، وقيل ؛ مات اعمر سنة خمس وخمسين ومائة وكان من الصالحين يقول بالِإرجاء، وفي سنة خمسين مات عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج ، ومحمد بن إسحاقَ بن يسار صاحب المغازي ، وقيل مات سنة إحدى وخمسين ؛ وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر ، وكان ضعيفاً في الحديث . وأبو جناب الكلبي ، وعثمان بن الأسود ، وسعيد بن أبىِ عروبة ، واسم أبي عروبة مهران مولى بني يشكر كنيته أبو النضر. (يسار) بالياء تحتها نقطتان وبالسين المهملة.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

فيها أغارت الكرك على جدة

ذكر عزل عمر بن حفص عن السند وولاية هشام بن عمرو

وفيها عَزَلَ المنصور عمرَ بنَ حفص بنَ عثمان بنَ قُبيصة بن أبي صُفرة المعروف بهزارمرد - يعني ألف رجل - عن السند واستعمل عليها هشام بن عمرو التغلبي واستعمل عمر بن حفص على افريقية .

وكان سبب عزله عن السند انه كان عليها لما ظهر محمد ، وابراهيم ابنا عبد الله بن الحسن ؛ فوجًه محمد ابنه عبد الله المعروف بالأشتر إلى البصرة فاشترى منها خيلاً عتاقاً ليكون سبب وصولهم إلى عمر بن حفص ، لأنه كان فيمن بايعه من قواد المنصور وكان يتشيع .
وساروا في البحر إلى السند فأمرَهُم غمَرُ أن يحضروا فقال له بعضهم : إنًا جئناك بما هو خيرٌ من الخيلِ ، وبما لَكَ فيه خير الدنيا والآخرةِ ، فاعطنا الأمان ، إما قبلت منا لاما سَتَرْتَ وأمسكت عن أذانا حتى نخرج عن بلادك راجعين ؛ فامنه فذكر له حالهم وحال عبدِ الله بنِ محمد بنِ عبد الله ؛ أرسله أبوه اليه فرحَّب بهم وبايعهم وانزل الأشتر عنده مختفياً ، ودعا كبراء أهل البلد ، وقوَّاده وأهلَ بيته إلى البيعة فاجابوه فقطع ألويتهم البيض، وهيأ لبسه من البياض ليخطب فيه ، وتهيأ لذلك يوم الخميس ، فوصله مركبٌ لطيفٌ فيه رسولٌ من امرأة عمر بن حفص تخبره بقتل محمد بن عبد الله ، فدخل على الاشتر فأخبره ، وعزاه فقالي له الأشترُ : إن أمري قد ظَهر ردمي في عنقك فانظر

لنفسك أو دع قال عمر : قد رأيت رَأياً ههنا،ملك من ملوك السند عظيم الشأن كثيرُ المملكة وهو على شوكة أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وفيّ أرسلْ اليه فاعقدْ بينك وبينه عقداً فأوجِّهُكَ إليه تكون عنده فلست ترام معه ، ففعل ذلك وسار إليه الأشتر فاكرمه ،وأظهر بره ، وتسلَّلت اليه الزيدية حتى اجتمع مجه أربعمائة انسان من أهل البصائر ، فكان يركب فيهم ويتصيَّد في هيئة الملوك وآلاتهم .

فلما انتهى ذلك إلى المنصور ، بلغ منه ما بلغ ، وكتب إلى عمر بن حفص يخبره ما بلغه ، فقرأ الكتاب على أهله وقال لهم : إن أقررتُ بالقصة كل ت لني وإن سرْتُ إليه قتلني لان امتنعتُ حاربني فقال له رجل شهم : ألقِ الذنب عليَّ وخذني وقيِّدْني ، فانه سيكتب في حملي إليه فاحملني فإنه لا يقرأ عليَّ لمكانك في السند وحال أهل بيتك بالبصْرة، فقال عمر : أخاف عليك خـلاًف ما تظن قال : إن قُتلتُ فنفسي فداء لنفسك ، فقيده وحبسه وكتب إلى المنصور بأمره ؛ فكتب إليه المنصور يأمره بحمله فلما صار إليه ضرب عنقه .

ثم استعمل على السند هشام بن عمرو التغلبي ، وكـان سبب استعماله أن المنصور كأن تفكر فيمن يوليه السند ، فبينا هو راكب والمنصور ينظر إليه إذ غابَ يسيراً ، ثم عاد فاستأذن على المنصور فادخله فقال : إني لما انصرفْتُ من الموكب لقيتني أختي فلاًنة ، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين فاطرق ثم قـال : أخرجْ يأتِكَ أمري؛ فلما خرج قال المنصور لحاجبه الربيع : لولاً قول جرير :

 لا تـطلبنَّ خؤولـة في تغلب فالـزنـج أكـرمُ منهم أخـوالا

لتزوجت اليه قلْ له : لو كان لنا حاجة في النكات لقبلت ، فجزاك الله خيراً، وقد وليتك السند فتجهزْ إليها ، وأمره أن يكاتب الملك بتسليم عبد الله ، فإن سلَّمه وإلّا حاربه ، وكتب إلى عمر بن حفص بولاًيته افريقية، فسارَ هشامُ إلى السِّند فملكها ،وسار عصرُ إلى افريقيةَ فوليَها ، فلما صار هشام بالسِّندِ ، كره أخذَ عبد الله الأشتر وأقبلَ يُري الناس أنه يكاتبُ ذلك الملكَ .

واتصلت الأخبار بالمنصور بذلك فجعل يكتب إليه يستحثُّه ، فبينا هو كذلك إذْ  خرجَتْ خارجة ببلاد السند، فوجَه هشامُ أخاه سفنجاً ،فخرج في جيشه وطريقه بجنبات ذلك الملك ، فبينا هو يسيرُ إذْ غَبْرةٌ قد ارتفعت فظَنً أنهم مقدمةُ العدوّ يقصده فوجه طلاًئعه فزحفت إليه فقالوا : هذا عبد الله بن محمد العلوي يتنزه على شاطىء مهران ؛ فمضى يريده فقال نصحاؤه : هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تركه أخوك معتمَداً مخافة أن يبؤ بدمه ، فلم يقصده فقال : ما كنت لأدع أخْذَهُ ولا أدع أحداً يحظى بأخذِهِ وقَتْلِهِ عندَ المنصور ، وكان عبدُ الله في عشرةٍ فقصده ، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه ، حتى قُتِلَ ، وقُتلوا جميعاً فلم يفلت منهم مُخبِرٌ وسَقَطَ عبدُ الله بين القتلى فلم يشعر به ، وقيل : إن أصحابه قذفوه في مهران حتى لا يُحْمل رأسُه . فكتب هشام بذلك إلى المنصور فكتب إليه المنصور يشكره ويأمره بمحاربة ذلك الملك ، فحاربه حتى ظَفرَ به وقتله ، وغلب على مملكته . وكان عبد الله قد اتخذ سراري فأولدَ واحدةً منهن ولداً وهو محمد بن عبد الله الذي يقال له ابن الأشتر فأخذ هشام السراري – والولد معهنَ – فسيرهُنَّ إلى المنصور ؛ فسير المنصور الولد إلى عامله بالمدينة وكتب سه بصحةِ نسَبِهِ وتَسْلِيمِهِ إلى أهْلِه . ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏