المجلد الخامس - ذكر ولاية أبي جعفر عمر بن حفص أفريقية

وفي هذه السنة استعمل المنصور على افريقية أبا جعفر عُمرَ بنَ حفص من وُلْدِ قُبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب ، وإنما نُسِبَ لبيت المهلب لشهرته .

وكان سبب مسيره إليها أن المنصور لما بلغه قتْلُ الأغلبِ بن سالم ، خاف على أفريقية فوجه إليها عمر والياً فقدم القيروان في صفر سنة إحدى وخمسين ومائة في خمسمائة فارس ، فاجتمع وجوه البلد فوصلهم وأحسن إليهم ، وأقام والأمور مستقيمة ثلاًث سنين فسار إلى الزاب لبناء مدينة طبنة بأمر المنصور ؛ واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي . فخَلَتْ أفريقية من الجند فثار بها البربر فخرج إليهم حبيب فقُتِل، واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم الأباضي – واسمه يعقوب بن حبيب مولى كندة –وكان عامل عمر بن حفص على طرابلس الجنيد بن بشار الاسادي، وكتب إلى عمر يستمده فأمدَه بعسكر فالتقوا ، وقاتلوا أبا حاتم الأباضي ، فهزمهم ، فساروا إلى قابس ، وحصرهم أبو حاتم؛ - وعمر مقيم بالزاب على عمارة طبنة - وانتتضت أفريقية من كل ناحية .

ومضوا إلى طبنة فاحاطوا بها في اثني عشر عسكراً ، منهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفاً ، وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفاً . وأبو حاتم في عسكر كثير ، وعاصم السدراتي الأباضي في ستة آلاف ، والمسعود الزناتي الأباضي في عشرة آلاًف فارس وغير من ذكرنا.

فلما رأى عمر بن حفص إحاطتهم به ، عزم على الخروج إلى قتالهم فمنعه اصحابه وقالوا : إن اصبتَ تلف العرب ، فعدل إلى إعمال الحيلة فأرسل إلى أبي قرة مقدم الصفرية يبذل له ستين ألف درهم ليرجعَ عنه فقال : بعد أن سلم علي بالخلاًفة أربعين سنة أبيعُ حربكم بعرض قليلٍ من الدنيا ولم يُجبْهُم إلى ذلك ، فأرسله إلى أخي أبي قرة فدفع إليه أربعة آلاف درهم وثياباً، على أن يعمل في صرف أخيه الصفرية ، فأجابهم وارتحل من ليلته ، وتبعه العسكر منصرفين إلى بلادهم ، فاضطر أبو قرة إلى اتباعهم .

فلما سارت الصفرية ، سير عمر جيشاً إلى ابن رستم وهو في تهوذا - قبيلة من البربر- فقاتلوه فانهزم ابن رستم إلى تاهرت ، فضعف أمر الأباضية عن مقاومة عمر ، فساروا عن طبنة إلى القيروان ، فحصرها أبو حاتم وعمر بطبنة ليصلح أمورَها ويحفظها ممن يجاورُهُ من الخوراج ،فلما علم ضيقَ الحال بالقيروان ، سار إِليها ، ولما سارَ عمرُ بنُ حفص إلى القيروان ، استخلف على طبنة عسكراً ،فلما سَمِعَ أبو قرة بمسير عمر بن حفص ، سار هو إلى طبنة فحصرها ، فخرج إِليه مَنْ بها من العساكر وقاتلوه فانهزم منهم وقُتِلَ من عسكره خلق كثيرٌ .
وأما أبو حاتم فانه لما حصر القيروان ، كَثرَ جمعُهُ ولازم حصارها ، وليس في بيت مالها دينار ولا في اهَرائها شيء من الطعام ، فدام الحصار ثمانية أشهر، وكان . الجند يخرجون فيقاتلون الخوارج طرفي النهار حتى جَهَدَهم الجوع وأكلوا دوابهم وكلابهم ولَحِقَ كثيرٌ من أهلها بالبربرِ ولم يبقَ غيرُ دخولِ الخوارجِ اليها ، فأتاهم الخبرُ بوصول عمرِ بن حفص من طبنة ، فنزل الهريشَ وهو في سبعمائة فارس فزحف الخوارج إليه بأجمعهم وتركوا القيروان ، فلما فارقوها سار عمر إلى تونس فتبعه البربر فعاد إلى القيروان مجداً وأدخل اليها ما يحتاج من طعام ، ودواب ، وحطب وغير ذلك ، ووصل أبو حاتم والبربر إليه فحصروه فطال الحصار حتى أكلوا دوابهم وفي كل

يوم يكون بينهم قتال وحرب؛ فلما ضاقَ الأمر بعمر وبمن معه قال لهم : الرأي أن أخرج من الحصار وأغيرَ على بلاد البربر وأحملَ إليكم الميرةَ قالوا : إنَّا نخافُ بعدَك قال : فأرسل فلاًناً وفلاًناً يفعلان ذلك فاجابوه فلما قال للرجلين قالا : لا نتركك في الحصار ونسير عنك ، فعزم على إلقاء نفسه إلى الموت .

فأتى الخبر أن المنصور قد سيَّر إليه يزيد بن حاتم بن قتيبة بن المهلب في ستين ألف مقاتل ، وأشار عليه من عنده بالتوقفِ عن القتال إلى أن يصلَ العسكرُ فلم يفعل ، وخرج وقاتل فقتل منتصف ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة ، وقام بأمر الناس حميد بن صخر-وهو أخو عمر لأمه - فوادعَ أبا حاتم وصالحَهُ على أنَّ حميداً ومن معه لا يخلعون المنصور ولاً ينازعهم أبو حاتم في سوادهم ، وسلاًحهم ، وأجابهم إلى ذلك وفتحت له القيروان وخرج أكثر الجند إلى طبنة ، وأحرقَ أبو حاتم أبواب القيروان ، وثلم سورها ، وبلغه وصول يزيد بن حاتم فسار إلى طرابلس وأمر صاحبه بالقيروان بأخْذِ سلاحِ الجند وأن يفرقَ بينهم ، فخالف بعض أصحابه وقالوا : لا نغدر بهم ، وكان المُقدَّمُ على المخالفين عمرُ بنُ عثمان الفهري ، وقام في القيروان وقتَلَ أصحابَ أبي حاتم ، فعاد أبو حاتم فهرب عمر بن عثمان من بين يديه إلى تونس ، وعاد أبو حاتم إلى طرابلس لقتال يزيد بن حاتمٍ فقيل : كان بين الخوارج والجنود من الذين فاتلوا عمرَ بنَ حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعةً .

ذكر ولاية يزيد بن حاتم أفريقية وقتال الخوارج

لمّا بلغَ المنصور ما حل بعمرَ بنِ حفص من الخوارجِ ، جهَّز يزيد بن حاتم بن قبيصة بن أبي صفرة في ستين ألف فارسٍ ، وسيَّره إلى أفريقيةَ، فوصلها سنة أربع وخمسين ومائة ، فلما قارَبها ،سار إليه بعض جندها ، واجتمعوا به ، وساروا معه إلى طرابلس؛ فسار أبو حاتم الخارجي إلى جبال نفوسة ، وسيًر يزيد طائفةً من العسكر إلى قابس ، فلقيهم أبو حاتم ، فهزمهم ، فعادوا إلى يزيد ، ونزل أبو حاتم في مكان وعرٍ ، وخَنْدَقََ على عسكره ، وعبى يزيد أصحابه ، وسار إليه فالتقوا في ربيع الأول سنة خمس وخمسين ، فاقتتلوا أشد قتال ، فانهزمت البربرُ وقُتِلَ أبو حاتم وأهل نجدته ، وطلبهم يزيد في كل سهل وجبل ، فقتلهم قتلاً ذريعاً ، وكان عدّةُ مَنْ قُتِلَ في المعركة ثلاًثين ألفاً ، وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج ويقولون : يا لثارات عمر بن حفص؛ وأقام شهراً يقتل الخوارج . ثم رحل إلى القيروان.

فكان عبد الرحمن بن حبيب بنِ عبد الرحمن الفهري مع أبي حاتم فهرب إلى كتامة ، فسيَّر إليهم يزيدُ بن حاتم جيشاَ ، فحصروا البربر ، وظفروا بهم ، وقتلوا منهم خَلقاً كثيراً ، وهرب عبد الرحمن ، وقُتِلَ جميعُ من كان معه .

وصَفَتْ أفريقية وأحسن يزيد السيرة وأمن الناس إلى أن انتقضتْ ورفجومة سنة أربع وستين ومائة بأرض الزاب - وعليها أيوب الهواري - فسيّر إليهم عسكراً كثيراً واستعملَ عليهم يزيد بن مجزا المهلبي ، فالتقوا واقتتلوا فانهزمَ يزيدُ وقُتِلَ كثيرٌ من أصحابه ، وقتل المخارقَ بن عقار صاحب الزاب ، فوُلي مكـانه المهلب بن يزيد المهلبي ، وأمدَّهم يزيدُ بن حاتم بجمْعٍ كثيرٍ ، واستعملَ عليهم العلاء بن سعيد المهلبي ، وانضمَّ إليهم المنهزمون ولقوا ورفجومة ، واقتتلوا واشتدّ القتالُ ، فانهزمت البربر، وأيوب ،وقُتِلوا بكل مكان حتى أتى على آخرهم ، ولم يقتل من الجند بم حد . ثم مات يزيد في رمضان سنة سبعين ومائة وكانت ولاًيته خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر واستخلف ابنه داود على افريقية .

ذكر بناء الرصافة للمهدي

وفي هذه السنة قَدِمَ المهديُّ من خُراسان في شوال ، فقَدِمَ عليه أهل بيته من الشام ، والكوفة ، والبصرة ، وغيرها فهنَّأوه بمقْدمِهِ ، فأجازهم وحملهم وكساهم ، وفعل بهم المنصور مثل ذلك ، وبنى له الرصافة ، وكان سبب بنائها ، أن بعض الجند شغبوا على المنصور، وحاربوه على باب الذهب ، فدخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس وهو شيخهم ،وله الحرمة والتقدم عندهم فقال له المنصور : أما ترى ما نحن -فيه من التياث الجند علينا وقد خفتُ أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا فما ترى ؟ قال : يا أمير المؤمنين عندي رأيُ إنْ أظهرته لك فسدَ وإنْ تركته أمضيته وصلحت خلاًفتك وهابَكَ جندُكَ قال له : أفتمضي في خلافتي شيئاً لاً أعلمه ؟ فقال له ؛ إن كنتُ عندك متهماً فلاً تشاورني فإن كنت مأموناً عليها فدعني أفعل رأي ، قال له المنصور ؛ فأمضِه .
فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلاماً له فقال له : إذا كان الغد فتقدمني واجلس

في دار أمير المؤمنين فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحابَ المراتب ، فخذ بعِنان بغلتي ، فاستحلفني بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحق العباس ، وبحق أمير المؤمنين إلاً ما وقفت لك وسمعتُ مسألتك وأجَبْتك عنها فإني سأنتهرُك وأغلظُ لك القولَ . فلاً تخف وعاود المسألة الا فإني سأضربك بسوطي فعاودْ وقلْ لي : أيّ الحيين أشرف اليمن أم مضر ؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر .

ففعل الغلاًم ما أمره وفعل قثم به ما قاله ثم قال : مضر أشرف لأن منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها كتابُ الله ، وفيها بيتُ الله ، ومنها خليفةُ الله ، فامتعضتْ لذلك اليمن ، إذ لم يَذْكُرْ لهم شيئاً من شرفها وقال بعضُ قوَادهم : ليس الأمر كذلك مطلقاً بغير فضيلة لليمن ثم قال لغلام له : قم إلى بغلة الشيخ فاكْبحْها ، ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا : يفعل هذا بشيخنا ، فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلاًم فقطعها فنفر الحيان ؛ ودخل قثم على المنصور فافترقَ الجند فصارت مضر فرقةً ، وربيعة فرقة ، والخراسانية فرقة ، فقال قثم للمنصور : قد فرَّقت بين جندك وجعلتهم أحزاباً ، كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثاً فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية وهي أن تعبُرَ بابنك فتُنزِلُه في ذلك الجانب وتحوِّل معه قطعة من جيشك ، فيصير ذلك بلداً وهذا بلداً، فإن فسدَ عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء ، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك ، وإن فَسَدَ عليك بعضُ القبائلِ ضربتهم بالقبيلة الأخرى ؛ فقبل رأيه واستقام ملكُة وبنى الرصافة وتولّى صالح صاحبُ المصلى ذلك .

ذكر قتل سليمان بن حكيم العبدي

في هذه السنة سار عقبة بن سلم من البصرة ، واستخلفَ عليها نافعُ بن عقبةِ إلى البحرين فقتل لسليمان بن حكيم ، وسبى أهل البحرين وأنفذَ بعض السبي ، والأسارى إلى المنصور فقَتَلَ بعضهم ، ووهبَ الباقين للمهدي فأطلقهم وكساهم ؛ ثم عزل عقبة عن البصرة ، لأنه لم يستقصِ على أهل البحرين ، وزعم بعضهم أن المنصور استعمل معن بن زائدة الشيباني على سجستان هذه السنة ، وحَجَّ بالناس هذه السنة محمد بن

إبراهيم الامام ، وكان هو العامل بمكة ، والطائف ،وعلى المدينة الحسن بن زيد ،وعلى البصرة جابر بن توبة الكلابي ، وعلى الكوفة محمد بن سليمان ، وعلى بصر يزيد بن حاتم .

ذكر ابتداء أمر شقنا وخروجه بالاندلس

وفيها ثار في الشرقَ من الأندلس رجل من بربر مكناسة كان يعلم الصبيان ، وكان اسمه شقنا بن عبد الواحد وكانت أمه تسمى قاطمة، وادعى أنه من وُئد فاطمة عليقا السلام ، ثم من وُلد الحسين عليه السلام ، وتسمىَ بعبد الله بن محمد ، وسكن شنت برية(أ) واجتمع عليه خلق كثير من البربر ، وعَظُمَ أمرُه ، وسار إليه عبد الرحمن الأموي ، فلم يقف له ، وراغ في الجبال فكان إذا أمن انبسط ، وإذا خـاف ، صعدَ الجبال بحيث يصعب طلبه .

فاستعمل عبد الرحمن على طليطلة حبيب بن عبد الملك ، فـاستعمل حبيب على شنت برية سليمان بن عثمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان وأمره بطلب شقنا ، فنزل شقنا إلى شنت برية وأخذ سليمان فقتله ، واشتدَ أمرُهُ وطارَ وغَلب على ناحية قورية ،وأفسَد في الأرض ، فعاد عبدُ الرحمنِ الأموي فغزاه في سنة اثنتين وخمسين ومائة بنفسه ، فلم يثبتْ له فأعياهُ أمرُه فعاد عنْهُ ، وسيّر إليه سنة ثلاث وخمسين بدراً مولاًه ، فهرب شقنا وأخلى حصنه شيطران ، ثم غزاه عبد الرحمن الأموي بنفسه سنة أربع وخمسين ومائة فلم يثبت له شقنا؛ ثم سيَّر إليه سنة خمس وخمسين أبا عثمان عبيد الله بن عثمان فخدعه شقنا ، وأفسد عليه جنده فهرب عبيد الله وغَنِمَ شقنـا عسكره ، وقَتَلَ جماعة من بني أمية كانوا في العسكر ، وفي سنة خمس وخمسين أيضاً سار شقنا بعد أن غَنِمَ عَسْكرَ عبيد الله إلى حصن الهواريين المعروف بمدائن ، وبه عامِلٌ لعبد الرحمن فمكرَ بِهِ شقنا حتى خَرَج إليه فقتله شقنا وأخذ خَيْلَه وسلاًحَه وجميعَ ما كان معه .

ذكرُ قتل معن بن زائدة

في هذه السنة قُتِلَ معن بن زائدة الشيباني بسجستان ،وكان المنصور قد استعمله عليها ، فلمَّا وصلها أرسل إلى رتبيل يأمرُه بحمل القرارِ الذي عليه كل سنة ، فبعث إليه عروضاً وزاد في ثمنها ، فغضب معن ، وسار إلى الرخج ، وعلى مقدمته ابن أخيه مزيد بن زائدة فوجَد رتبيلَ قد خرج عنها إلى زابلستان ، ليصيف بها، ففتحة وأصابَ سبياً كثيراً ، وكان في السبي فرج الرخجي ،وهو صبي - وأبوه زياد ، فرأى معن غباراً ساطعاً أثارته حمر الوحش فظن أنه جيش أقبل ليختَص السبي ، والأسرى؛ فأمر بوضْع السيفِ فيهم فقَتَلَ منهم عُدَّةً كثيرةً ثم ظَهرَ لهُ أمرُ الغبار فأمسَكَ .

فخاف معن الشتاء وهجومه ، فانصرف إلى بست . وأنكر قومٌ من الخوارج سيرته فاندسوا مع فعلةٍ كانوا يبنون في منزله ، فلما بلغوا التسقيف أخفوا سيوفهم في القصب ، ثم دخلوا عليه بيته وهو يحتجم ،ففتكوا به وشق بعضهم بطنه بخنجر كان معه ، وقال أحدهم لفَا ضربه : أنا الغلاًم الطاقي والطاق رستاقَ بقرب زرنج ، فقتلهم يزيد بن مزيد فلم ينجُ منهم أحدٌ .

ثم إن يزيد قام بأمر سجستان واشتدت على العرب ، والعجم من أهلها وطأتهُ ، فاحتال بعض العرب فكتَبَ على لسانه إلى المنصور كتاباً يخبرُه فيه أن كُتُبَ المهدي إليه قد حيرته وأدهشته ، ويسأله أن يعفِيَهُ من معاملته ، فأغضب ذلك المنصور وشتَمَهُ وأقرَّ المهدي كتابه فعزله وأمرَ بحبْسهِ وبيع كل شيء له ، ثم انه كلم فيه ، فأشخص إلى مدينة السلاًم فلم يزل بها مجفواً حتى لقيَهُ الخوارج على الجسر فقاتلهمِ فتحرك أمره قليلاً ؛ ثم وجه إلى يوسف البرم بخراسان فلم يزل في ارتفاعٍ إلى أنْ مات .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنةِ غزا الصائفة عبدُ الوهابَ بنُ إبراهيم الامام ، وفيها استعملَ المنصور على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري ، وفيها مات عبدُ الله بنُ عون ؛ وكان مولده سنة ست وستين ، وفيها مات أسَيْدُ بن عبدِ الله في ذي الحجة –وهو أمير خراسان –بى حنظلة بن أبي سفيان الجمحي ، وعلي بن صالح بن حبي أخو الحسن بن صالح وكانا تقيين فيهما تشيعٌ .

ثم دخلت سنة اثنين وخمسين ومائة

فيها غزا حميد بن قُحْطبة كابل ، وكان قد استعمله المنصور على خراسان سنة احدى وخمسين ، وغزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم ، وقيل : أخوه محمد بن إبراهيم الامام ولم يدربْ ، وفيها عَزَلَ المنصور جابرَ بن توبةٍ عن البصرة ، واستعمل عليها يزيد بن منصور . وفيها قَتَلَ المنصور هاشم بن الأساجيج  . كَان قد خالفَ وعَصَا بافريقية ، فحمل إليه فقتله .

وحج بالناس هذه السنة المنصور، وفيها عُزِلَ يزيدُ بن حاتم عن مصرَ، واستعمل عليها محمد بن سعيد، وكان عمال الأمصار سوى ما ذكرنا الذين تقدم ذكرهم ، وفيها فات محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبد الله بن شهاب - وهو أبن أخي محمد بن شهاب الزهري ، روى عنه عمُّه ، وفيها مات يونس بن يزيد الأيلي ، روى عن الزهري أيضاً ، وفيها مات طلحة بن عمرو الحضرمي ، وابراهيم بن أبي عبلة ، واسم أبي عبلة شمر بن يقظان بن عامر العقيلي . (الأيلي ) بفتح الهمزة وبالياء تحتها نقطتان ( والعقيلي ) بضم العين وفتح القاف .

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة

فيها عادَ المنصور من مكة إلى البصرة؛ فجهَّز جيشاً في البحر إلى الكرك الذين تَقَدَّم ذِكر إغارتهم على جدة . وفيها قَبَضَ المنصور على أبي أيوب المورياني ، وعلى أخيه ، وبني أخيه ، وكانت منازلهم المناذر ،وكان قد سعى به كاتبُهُ أبان بن صدقة ، وقيل : كان سبب قبضه أن المنصور في دولة بني أمية ورَدَ على الموصل وأقامٍ بها مستتراً ، وتزوج امرأةً من الأزد ، فحملت منه ثم فارقَ الموصل ، وأعطاها تذكرة وقال لها : إذا سمعت بدولة لبني هاشم فأرسلي هذه التذكرة إلى صاحب الأمر ، فهو يعرفُها ؛ فوضعت المرأةُ ولداً سمته جعفراً فنشأ وتعلم الكتابة ، وما يحتاج إليه الكاتبُ وولي المنصور الخلاًفة فقدم جعفر إلى بغداد واتصل بأبي أيوب ، فجعله كاتباً بالديوان فطلب المنصور يوماً من أبي أيوب كاتباً يكتب له شيئاً ، فأرسل جعفراً إليه ، فلما رآه المنصور مال إليه ، وأحبَّه ، فلما أمره بالكتابة رآه حاذفاً ماهراً فسأله من أين هو ومَنْ أبوه ؟ فذَكَرَ له الحال ، وأراه التذكرة وكانت معه فعَرفه المنصور ، وصار يطلبه كل وقت بحجة الكآبة، فخافه أبو أيوب ، ثمَّ إن المنصور أحضَرَه يوماً وأعطاهُ مالاً وأمرَ أنْ يصعدَ إلى الموصل ويحضرَ والدته ، فسار من بغداد، وكان أبو أيوب قد وضع عليه العيون يأتونه بأخباره ، فلما علم مسيره سيَّر وراءه من اغتاله في الطريق ، فقتله فلما أبطأ على المنصور أرسلَ إلى أمه بالموصل من يسألها عنه ، فذكرت له أنها لاً علم لها به ، إلا أنه ببغداد يكتب في ديوان الخليفة .

فلما علم المنصور ذلك أرسل من يقصُ أثرَهُ فانتهى إلى موضع ، وانقطع خبره ،فعُلم أنه قُتِلَ هناك ، وكُشفَ الخبرُ ؛ فرأى أن قتله من يد أبي أيوب فنكبه ، وفعل به ما فعل ، وقبض المنصور أيضاً على عباد مولاه ، وعلى هرثمة بن أعين بخراسان ، وأحضِرا مقعَديْن لتعصبهما لعيسى بن موسى ، وفيها أخذ المنصور الناس بتلبيس القلانس الطوال المفرطة الطول فقال أبو دلامة :

 وكـنـا نـرجى من إمـام زيـادة فزاد الإمام المصطفى في القلانس

وفيها توفي عبيد ابن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة ، فاستقضى مكانه شريك بن لا عبد الله النخعي ، وفيها غزا الصائفة معيوف بنُ يحيى الحجوري ،فوصل إلى حصنٍ من حصون الروم ليلاً وأهله نيام ، فسَبَى وأسَرَ مَنْ كان فيه ثم قَصَدَ اللاذقية الخراب فسبى منها ستة آلاف رأس سوى الرجال البالغين .

وحج بالناس هذه السنة المهدي ، وكان أميِرَ مكة محمد بن إبراهيم ، وأميرَ المدينة الحسنُ بنُ زيد ، وأميرَ مصرَ محمدٌ بنُ سعيد، وكان يزيدُ بن منصور على اليمن في قولِ بعضهمِ ، وعلى الموصل إسماعيلُ بنُ خالدٍ بنُ عبد الله بنُ خالد ، وفيها مات هشامُ بن الغاز بن ربيعة الجرشي ،وقيل : سنة ست وخمسين ، وقيل : تسع وخمسين ، والحسنُ بن عمارة ، وعبدُ الرحمن بن يزيد بن جابر ، وثورُ بن يزيد ،وعبدُ الحميد بنُ جعفر بن عبد الله الأنصاري ، والضحاكُ بنُ عثمان بنُ عبد الله بنُ خالدِ بنُ حزام من وُلْد أخي حُكيم بن حزام ، وفطر بنُ خليفة الكوفي ، ( فطر) بالفاء والراء المهملة ، و( الجُرشي ) بضم الجيم وبالشين المعجمة .

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

في هذه السنة سارَ المنصورُ إلى الشام ، وبيتِ المقدسِ وسير يزيدَ بنَ قُبَيْصة بن المهلب بنَ أبي صفرة إلى افريقية في خمسين ألفاً لحربِ الخوارج الذين قتلوا عمرَ بن حفص .

وأراد المنصور بناء الرافقة فمنعه أهلُ الرَّقة، فهم بمحاربتهم ، وسقطت في هذه السنة الصاعقة فقتلت بالمسجد خمسة نفر ، وفيها هلكَ أبو أيوب المُورياني ، وأخوه خالد، وأمر المنصور بقطع أيديَ بني أخيه وأرجلهم وضرب أعناقهم . وفيها استعمل على البصرة عبد الملك بن ظبيان النميري ، وغزا الصائفة زُفر بن عاصم الهلاًلي فبلغ الفرات .

وحج بالناس محمد بن إبراهيم وهو على مكـة ، وكان على افريقية يزيد بن حاتم ، وكان العمال مَنْ تقدمَ ذكرهم ، وفيها ماتَ أبو عمروٍ بن العلاًء ، وقيل : مات سنة سبع وخمسين وكان عمره ستاً وثمانين سنةً،ومحمد بن عبد الله الشُعَيْثي النصري – بالنون – وفيها مات عثمان بن عطاء ، وجعفر بن برقان الجزري ، وأشعب الطامع ، وعلي بن صالح بن حبي ، وعمر بن إسحاقَ بن يسار أخو محمد بن إسحاقَ، ووهيب بن الورد المكي الزاهد ، وقرة بن خالد أبو خالد السدوسي البصري ، وهشام الدستوائي ، وهو هشام بن أبي عبد الله البصري ، (الشعيثي ) بضم الشين المعجمة وفي آخره ثاء مثلثة .

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

فيها دَخَلَ يزيدُ بنُ حاتم افريقية، وقَتَل أبا حاتمٍ وملكَ القيروان وسائرَ الغرب ، وفد تقدم ذكرُ مسيرهِ وحروبه مستقصى . وفيها سيَّر المنصور المهدي لبناء مدينة الرافقة ، فسار إليها فبناها على بناء مدينة بغدادَ ، وعمل للكوفة، والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه من الأموال على أهلهما ، ولما أراد المنصور معرفةَ عددِهم ، أمرَ أن يقسمَ فيهم خمسة دراهم فلما علم عَددَهم أمرَ بجبايتهم أربعين درهماً لكل واحدٍ فقال الشاعر :

 يـا لـقَـوم مـا لقـينـا من أميـرِ المؤمنيـنـا

 قَسمَ الخـمسـةَ فيـنـا وجـبـانـا الأربـعـيـنـا

وفيها طَلَبَ ملكُ الروم الصُلْحَ إلى المنصور على أن يؤدي له الجزية، وفيها غزا الصائفةَ يزيدُ بن أسَيْد السلمي ، وعُزِلَ عبدُ الملك بنُ أيوبَ بنُ ظبيان عن البصرةِ، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي .

ذكر عزل العباس بن محمد عن الجزيرة واستعمال موسى بن كعب

وفيها عَزَلَ المنصور أخاه العباسَ بنَ محمدِ عن الجزيرة وغضب عليه ، وغرَّمَهُ مالَاَ ، فلم يزل ساخطاً عليه حتى غضب على عمه إسماعيل بن علي فشفعَ فيه عمومة المنـصور وضيقوا عليه حتى رَضِيَ عنه ، فقال عيسى بن موسى للمنصور : يا أميرَ المؤمنين أرى آل علي بن عبد الله وإن كانت نعَمكَ عليهم سابغةً، أنهم يرجعون إلى الحسد لنا فمن ذلك أنـا غضبت على إسماعيل بن علي منذ أيام فضيّقوا عليك حتى رَضِيْتَ عنه وأنتَ غضبانُ على أخيك العباسِ منذ كذا وكذا ، فما كلَّمك فيه أحدٌ منهم فرضِيَ عنه .

وكان المنصور قد استعمل العباسَ على الجزيرة بعد يزيد بن أسَيْد فشكا يزيدُ منه وقال : إنه أساء عزلي ،أشتم عِرْضي ، فقال له المنصور : إجمع بين إحساني وإساءته يعتدلا ، فقال له يزيدُ بن أسَيْد : إذا كان إِحسانكم جزاءً لإساءتكم ،كانت طاعتنا تفضلًا مت ا محليكم ، ولما عَزَلَ المنصورُ أخاه عن الجزيرة إستعمل عليها موسى بنَ كعبِ .

ذِكْرُ عزلِ محمدٍ بنِ سليمان عن الكوفة واستعمالُ عمرو بن زهير

وفيها عُزِلَ محمدٌ بنُ لسليمان بكن علي بنُ عبد الله بنُ عبَّاس عن الكوفة ، واستعملَ عليها عمرو بنُ زهير الضبِّ أخا المسيب بن زهير ، وقيل : إنما عُزل سنة ثلاث وخمسين ، وكان عَزْلهُ لأسبابٍ بلغتهُ عنه ، منها أنه قتَلَ عبدَ الكريم بنَ أبي العوجاء وكان قد حَبَسَهُ على الزندقة، وهو خال معن بن زائدة الشيباني فكَثُرَ شُفَعاؤُهُ عند المنصورِ ولم يتكلمْ فيه إلا ظنين منهم فكتبَ إلى محمدٍ بنِ سليمان بالكفَ عنْهُ إلى أنْ يأتيَهُ رأيَهُ .

وكان ابن أبي العوجاء قد أرسل إلى محمدٍ بن سليمان يسألهُ أن يُؤخَرَهُ ثلاًثة أيام ويُعْطِيَهُ مائة ألف ، فلما ذكر لمحمد أمرَ بقتلِهِ ، فلما أيقن أنه مقتول قال : والله لقد وَضعتُ أربعة آلاًف حديث حلَّلْتُ فيها الحرام وحرَّمْتً فيها الحلاًل ، والله اتحد فطَرتكم يومَ صومِكم وصوَمتكم يومَ فَطْرِكم فقتل .

ووَرَدَ كتابُ المنصور إلى محمد يأمرُهُ بالكفَ عنه فوصل وقد قَتَلَهُ ، فلقَا بلَغ قَتْله المنصور غَضِبَ وقال : والله لقد همَمْتُ أنْ أقيِّده به ، ثم أحضرَ عمّه عيسى بن علي وقال له : هذا عملُك أنت ، أشرت بتوليـة هذا الغلاًم الغرّ قتلَ فلاًناً بغيم ز أمري وقد كتبتُ بعزلِهِ وتهديده ، ش عتال له عيسى : إن محمداً إنما قَتَلَه على الزندقة فإن كاِن أصاب فهو لك وإنْ أخطأ فعليه ولَئِنْ زلته على أثرِ ذلك ليذهبن بالثناء والذكر ولترجعنَ بالمقالةِ من العامة عليك فمزق الكتاب .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أنكَرتِ الخوارجُ الصفرية المجتمعة بمدينة سجلماسة على أميرهم عيسى بن جرير أشياء فشدُّوه وثاقاً ، وجعلوه على رأسِ الجبل ، فلم يزلْ كذلك حتى مات ؛ وقدموا على أنفسهم أبا القاسم سمكو بن واسول المكناسي جدَّ مدرار ، وفيها وُيدَ أبو سنان الفقيه المالكي بمدينة القيروان من أفريقية ، وفيها عُزِلَ الحسنُ بنُ زيد بنُ الحسن بنُ علي عن المدينة ، واستعمل عليها عمُه عبدُ الصمد بنُ علي ، وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم ، وعلى الكوفة عمرو بن زهير ، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية ، وعلى مصر محمد بن سعيد ، وعلى أفريقية يزيد بن حاتم ، وعلى الموصل خالد بن برمك ، وقيل : موسى بن كعب بن سفيان الخثعمي ؛ وفي هذه السنة مات مسعرُ بنُ كدام الكوفي الهلالي .

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

ذكر عصيان أهل إشبيلية على عبد الرحمن الأموي

في هذه السنة سارَ عبدُ الرحمن الأموي صاحبُ الأندلس إلى حربِ شقنا ، وقصدَ حصنَ شيطران ، فحصَرَهُ وضيق عليه فهربَ إلى المفازةِ كعادته ، وكان قد استخلفَ على قرطبةَ ا ابنه سليمان فأتاه كتابةُ يخبرُهُ بخروج أهل أشبيليِة مع عبدِ الغفار ، وحيوة بن ملابس عن طاعته ، وعصيانهم عليه ، واتّفَقَ مَنْ بها مِنَ اليمانية مَعَهُما ، فرجِعَ عبدُ الرحمن ولم يدخلْ قُرْطبة، وهالَهُ ما سَمِعَ من اجتماعهم ، وكثرتهم ، فقدَّم ابنَ عمّهِ عبدَ الملك بنَ عمر. وكان شهاب آل مروان - وبقِيَ عبدُ الرحمن خلفَهُ كالمدَدِ له ، فلما قاربَ عبدُ الملكِ أهلَ إشبيلية ، قدَّم ابنه أمية ليعرفَ حالهم ، فرآهم مستيقظين ، فرجع إلى أبيه ، فلاًمَهُ أبوه على إظهار الوهْن وضَرَبَ عُنُقَهُ ، وجمع أهلَ بيتِهِ ، وخاضَتهِ . وقال لهم : طُرِدْنا من المشرقَِ إلى أقص هذا الصَقْعِ ونُحسَد على لقمة تبقي الرمقَ ؛ اكسروا جفون السيوف فالموت أولى أو الظفر ، ففعلوا وحمل بين أيديهم فهزم اليمانية وأهلَ أشبيلية فلم تقم بعدهَا لليمانية قائمة وجُرِحَ عبدُ الملك ، وبَلَغَ الخبرُ إلى عبد الرحمن ، فأتاه ، وجرحُه يجري دماً وسيفُهُ يَقْطُرُ دماً ، وقد لُصِقتْ يده بقائم سيفِهِ ، فقبلَه بين عينيهِ وجزَاهُ خيراً وقال ؛ يا بن عم قَدْ أنكحْتُ ابني وولي عهدي هشاما ابنتكَ فلاًنة وأعطيتها كذا وكذا ، وأعطيتُكَ كذا وأولاًدَك كذا ، وأقطعتُكَ وإياهم ،ووليتكم الوزارة .

وعبد الملك هذا هو الذي ألزمَ عبدَ الرحمن بقطعِ خطبةِ المنصور وقال له : اقطعْها وإلاً قتلتُ نفسي ؛ وكان قد خطب له عشرة أشهرٍ فقَطَعها .

وكان عبد الغفار ، وحيوة بن ملابس ، قد سلِما من القتل ،فلما كانت سنة سبع وخمسين ومائة سار عبد الرحمن إلى إشبيلية فَقَتَلَ خَلْقاً كثيراً ممن كان مع عبد الغفار ، وحيوة ورجع ؛ وبسبب هذه الوقعة وغش العرب ، مالَ عبد الرحمن إلى إقتناء العبيد.

ذكر الفتنة بافريقية مع الخوارج

قد ذَكَرْنا هرَبَ عبد الرحمن بن حبيب الذي كان أبوه أمير إفريقية مع الخوارج ، واتصاله بكَتامة وتسيير يزيدَ بنِ حاتم أمير أفريقية العسكرَ في أثرِهِ وأنهم فاتلوا كتامة .

فلما كانت هذه السنة سير يزيدُ عسكراً آخر مدداً للذين يقاتلون عبد الرحمن ؛ فاشتد الحصارُ على عبد الرحمن فمضى هارباً، وفارقَ مكانه ، فعادت العساكرُ عنه . 

ثم ثار في هذه السنة على يزيد بن حاتم أبو يحيى بن فانوس الهواري بناحية طرابلس ، فاجتمع عليه كثيرٌ من البربر ، وكان بها عسكر ليزيد بن حاتم مع عامل البلد ، فخرت العاملُ والجيش معه ، فالتقوا على شاطىء البحر من أرض هوارة فاقتتلوا قتالاً فمديداً ، فانهزم أبو يحيى بن فانوس ، وقُتِل عامة أصحابه ، وسكن الناس بافريقية وصَفَتْ ليزيدَ بنِ حاتم .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنةِ ظَفرَ الهيثمُ بنُ معاويةَ عاملُ البصرةِ بعمرو بن شداد الذي كان عاملَ إبراهيم بنِ عبدِ الله على فارس ، وسبب ظَفره به ، أنه ضَرَبَ غلاماً له فأتى الهيثم فدك عليه ، فأخذه فقتله ،وصلبه بالمربد ، وفيها عُزِلَ الهيثم عن البصرة ، واستعمل سوار القاضي عنى الصلاًةِ مع القضاء، واستعمل سعيد بنُ دعلج على شرْطِ البصرةَ وأحداثها ؛ ولما وصل الهيثم إلى بغداد مات بها(ا) وصلى عليه المنصور ، وفيها غزا الصائفة زُفَرُ بنُ عاصم الهلاًلي .

وحج بالناسِ العباسُ بنُ محمد بن علي ؛ وكان على مكة محمدُ بنُ إبراهيم الأمامُ ،وعلى الكوفةِ عمرو بن زهير ، وعلى الأحداث ، والجوالي ، والشرط بالبصرة سعيد بن دعلج ،وعلى الصلاة، والقضاء سوارُ بن عبد الله ، وعلى كور دجلة ، والأهواز ، وفارس عمارة بن حمزة ، وعلى كرمان ، والسند هشام بن عمرو ، وعلى افريقية يزيدُ بن حاتم ، وعلى مصرَ محمدُ بنُ سعيد ، وفيها سخط عبد الرحمن الأموي على مولاه بدر لفرط إدلاله عليه ، واحم يرع حقَّ خدمتَهِ وطولَ صحبتهِ وصدقََ مناصحتِهِ ،فأخذَ مالَهُ وسلبَهُ نعمتَهُ ونفاه إلى الثغر فبقي به إلى أن هلكَ ؛ وفيها مالت عبد الرحمن بن زياد بن أنعم فاضي أفريقية وقد تكلم الناس في حديثه ؛ وفيها توفي حمزة بن حبيب الزيات المقرىء أحد القراء السبعة .

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

في هذه السنة بنى المنصور قصرَه الذي يُدْعى الخلدُ ؛ وفيها حوَّلَ المنصور الأسواقََ إلى الكرخِ ،وغيرهُ .

وقد تقدم سبب ذلك ، واستعملَ سعيدَ بن دعلج على البحرين فأنفذَ إليها ابنَه تميماً ، وعرضَ المنصور جندَهُ في السلاًح والخيل وجَلَسَ لذلك ، وخَرَجَ هو لابساً درعاً وبيضةً؛ وفيها مات عامر بن إسماعيل المسلي بمدينة السلاًم وصلَّى عليه المنصور ؛ وتوفي سوار بن عبد الله قاضي البصرة واستعمل مكانه عبد الله بن الحسن بن الحُصيْن العنبري ، وعُزِلَ محمدُ بنُ سليمان  الكاتبُ عنْ مصرَ واستعملَ مولاًه مطراً، واستعمل معبد بن الخليل علىِ السند، وعُزِلَ هشامُ بن عمرُو، وغزا الصائفة يزيدُ بنُ أسيد السلمي ، فوجَهَ سناناَ مولى البطال إلى حصن فسبى وغنم ، وقيل : إنما غزا الصائفة زُفرُ بنُ عاصم .

وحجَّ بالناس إبراهيم بنُ يحيى بنُ محمد بنُ علي بن عبد الله بن عباس وكان على مكة ، وقيل : كان عليها عبد الصمد بن علي ، وعلى الأمصار من ذكرنا؛ وفيها قتل المِنصور يحيى بن زكريا المحتسب ، وكان يطعِنُ على المنصور، ويجمع  الجماعات فيما قيل ، وفيها مات عبد الوهاب بن إبراهيم الامام ، وقيل سنة ثمان وخمسين .لا وفي سنة سبع وخمسين مات الاوزاعي الفقيه واسمه عبد الرحمن بن عمرو وله سبعون سنة(ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوَّام جدُّ الزبير بن بكار ، وفيها أخْرَجَ سليمانُ بنُ يقظان الكلبي قارِلَهْ ملك الافرنج إلى بلاًدِ المسلمين من الأندلس ولَقِيَهُ بالطريق ، وسار معه إلى سَرْقُسْطَة، فسبقه اليها الحسين بن يحيى الأنصاري من وُلْدِ سعد بن عبادة، وامتنع بها فاتهمَ قارله ملك الإفرنج سليمان فقبض عليه وأخذه معه إلى بلاده ، فلما أبعِدَ من بلاد المسلمين واطمأنَّ ، هجم عليه مطروح ، وعيشون ابنا سليمان في أصحابهما فاستنقذا أباهما ورجعا به إلى سَرْقُسْطة ودخلوا مع الِحسين ووافقوا على خلاف عبد الرحمن .

وتوفي ايضاً الحسين بن واقد المروزي ابو عبد الله القاضي .

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

ذكر عزل موسى عن الموصل وولاية خالد بن برمك

في هذه السنة عزل المنصورُ موسى بن كعب عن الموصل ، وكان قد بلغه عنه ما أسْخطه عليه فأمر ابنه المهدي أنْ يسير إلى الرقَة ، وأظهر أنّه يُريد بيْتَ المقدِس ، وأمرَهُ أنْ يجعلَ طريتَهُ على الموصل ، فإذا صار بالبلد أخذ موبس وقيده واستعمل خالدَ بنَ برمك .

وكان المنصور قد ألزَمَ خالدَ بن برمك ثلاًثة آلاف ألف درهم ، وأجلهُ ثلاثة أيام فإن أحضرَ المالَ وإلا قَتَلهُ ، فقال لاًبنه يحيى : يا بني الق اخواننا،عمارة بن حمزة ، ومباركاً التركي ، وصالحاً صاحب المصلى، وغيرهم وأعْلِمْهم حالنا ، قال يحيى : فأتيتهم ، فمنهمِ مَنْ مَنَعني من الدخول عليه ، ووجَه المال وكمنهم من تجهَّمني بالردّ ووجه المال سراَ إلي ، قال : فأتيت عمارة بن حمزة ووجههُ إلى الحائط ،فما أقبلَ به عليَّ ، فسَلَّمْتُ فردَّ رداً ضعيفاً وقال : كيف أبوك ؟ فعرَّفته الحان ، وطلبت قرضَ مائة ألف فقال : إنْ أمكنني شيءٌ فسيأتيك ، فانصرفت وأنا ألعنه من تيهِهِ ، وحدثْتُ أبي بحديثه وإذ قد أنفذَ المال قال : فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف وبقي ثلاًثمائة ألف تبطل الجميع يتعذرها قال : فَعَبرتُ على الجسر وأنا مهمومٌ فَوَثَب إلي زاجر فقال : فرحُ (1) الطائر أخبَرِك ،فطويته فلحقني ، وأخذ بلجام دابتي وقال لرب أنتَ مهمومٌ ووالله لتفرحنَّ ولتمرَن غداً في هذا الموضعِ واللواءُ بين يديك فعجبتُ من قوله فقال : إن كان ذلك فلي عليك خمسةُ آلافِ درهمٍ فقلت : نعم وأنا أستَبعدُ ذلك . وورد على المنصور انتقاضُ الموصل، والجزيرة وانتشار الأكراد بها ، فقال : مَنْ لها؟ فقال المسيب بن زهير : عندي يا أمير المؤمنين رَأي أعلمُ أنك لاً تقبله مني ، وأعلمُ أنك ترده علي ولكني لاً أدعُ نصحَك قال : قلْ : قلت : ما لها مثلُ خالدِ بن برمك قال : فكيف يصلح لنا بعد ما فعلنا ؟ قال : إنُّما قوَمته بذلك وأنا الضامن له قال : فليحضرني غداً ، فأحضره فصفح له عن الثلاثمائة ألف الباقية وعقَد له ، وعقد لابنه يحيى على أذربيجان ، فاجتاز يحيى بالزاجر فأخذه معه ، وأعطاه خمسين ألف درهم ، وأنفذ خالد إلى عمارة بالمائة ألف التي أخذها منه مع ابنه يحيى فقال له : صيرفياً كنت لأبيك قم عني لا قمت ، فعاد بالمال وسار مع المهدىِ ، فعزَلَ موسى بن ى حب وولاَّهما ، فلم يزل خالد على الموصل وابنه يحيى على اذربيجان إلى أن توفي المنصور فذَكَرَ أحمد بن محمد بن سوار الموصلي قال : ما هِبْنا أميراً قط هيبتنا خالداً من غير أن يشتدَّ علينا ولكن هيبة كانت له في صدورنا .

ذكر موت المنصور ووصيته

وفي هذه السنة توفي المنصور لِسِتّ خلونَ من ذي الحجة ببئر ميمون ، وكان على ما قيل قد هتَفَ به هاتفٌ من قصره بالمدينة فسمعه يقول :

 أمـا وربِّ السكـون والحَـرَكِ إنَ المنـايـا كثمِـرةُ الشَـرَكِ

 عليكِ يـا نفسُ إن أسـأتِ وإن أحسنتِ بالقصد كـل ذاك لكِ

 مـا اختلفَ الليـلُ والنهـارُ ولا دارَتْ نجـومُ السمـاء في الفلكِ

 إلا بنقـل السلطانِ عن ملْكِ إذا انتهىمُلْكُـهُ إلى مَلِكِ

 حتى يُـصيِّـرانـه إلى مَلك مـاعـزَّ سُلطانـه بمُـشتَـرَكِ

 ذاك بديعُ السمـاءِ والأرضِ والمُرسِي الجبالِ المُسخر الفلك

فقال المنصور : هذا أوان أجلي ، قال الطبري : وقد حكى عبد العزيز بن مسلم أنه قال : دخلت على المنصور يوماً أسلم عليه ، فاذا هو باهت لا يحيرُ جواباً فوثبتُ لما أرى منه لاًنصرف فقال لي بعد ساعة : إنِّي رأيتُ في المنامِ كأن رجلًا ينشدني هذه الأبيات :

 أأخَي خفض  مِن منـاكـا فكـانَّ يـومَـكَ قـد أتـاكـا

 ولـقـد أرَاك الـدهـرُ مـن تَـصـريفِـهِ مـا قـد أراكـا

 فـإذا أرَدْتَ الـنـاقصَ العبـدَ الذليـلَ فـأنت ذاكـا

 مـلكْـت مـا مـلكْـتَـهُ والأمْـرُ فـيـه إلى سـواكـا

هذا الذي ترى من قلقي وغمِّي لما سمعت ورأيت ، فقلت : خيراً رأيت يا أمير المؤمنين فلم يلبث أنْ خرجَ إلى مكة ، فلما سار من بغداد ليحجَّ نزل قصرَ عبدويه فانقض في مقامه هنالك كوكب لثلاًثٍ بقيْنَ من شوَّال بعد إضاءة الفجر ، فبقي أثَرُهُ بينا إلى طلوع الشمس ، فأحضر المهدي - وكان قد صحبه ليودّعه - فوصَّاه بالمال والسلطان يفعل ذلك كلَّ يوم من أيام مقامه بكْرةً وعشيَّةً ، فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له : إني لم أدعْ شيئاً إلّا وقد تقدمْتُ إليك فيه، وسأوصيك بخصَالٍ والله ما أظنُك تفعلُ واحدةً منها ، وكان له سفط فيه دفاتر علمِهِ وعليه قفل لاً يفتحه غيره فقال للمهدي : أنظرْ إلى هذا السفطِ ، فاحتفظْ به ، فإنَ فيه علمُ آبائك ما كان وما هو كائنٌ ، إلى يوم القيامة ، قان أحزَنَك فانظرْ في الدفترِ الكبيرِ ، فإن أصبت فيه ما تريدُ وإلا ففي الثاني والثالث حتى بلغ سبعة ، فإن ثقل عليك فالكراَسة الصغيرة ،- فانك واجد فيها ما تريد، وما أظنّك تفعلُ ، وانظر هذه المدينة ، وإياك أنْ تستبدلَ بها غيرها وقد جمعْتُ لك فيها من الأموال ما إن كُسِرَ عليك الخراجُ عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث ، فاحتفظْ بها فإنك لاً تزال عزيزاً ما دام بيتُ مالِكَ عامراً وما أظنك تفعل ، وأوصيك بأهل بيتك أن تظهرَ كرامتهم وتحسنَ إليهم ، وتقدمَهم وتوطىء الناسَ أعقابهم ، وتوليهم المنابرَ، فإنَ عِزَّكَ عِزُهُم وذكرُهم لك ، وما أظنك تفعل ، وانظر مواليك فأحسن إليهم وقربهم ، واستكثرْ منهم فإنهم مادتك لشدتِكَ إنْ نزلَتْ بهم وما أظنك تفعل ، وأوصيك بأهل خراسان خيراً ، فانهم أنصارُك وشيعتُك الذين بذلُوا أموالهم ودماءَهم في دولتك ومَن لا تخرجُ محبتُك من قلوبهم أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافِئُهُم عفَا كان منهم ، وتخلفُ من مات منهم في أهله وولده ، وما أظنك تفعل ، وإياكَ أن تبني مدينة الشرقية فانك لاً تتمُّ بناءَها وأظنُّك ستفعل ، وإياك أنْ تستعينَ برجلٍ من بني سليم وأظنك ستفعل ، وإياك أن تُدخِلَ النساءُ في أمرك وأظنُّك ستفعلُ .

وقيل : قال له : ولِدْتُ في ذي الحجة ووليْت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أنِّي أموتُ في ذي الحجة من هذه السنة وإنما حداني على الحجِّ ذلك ، فاتق الله فيما أعهدُ إليكَ من أمور المسلمين بعدي ، يجعل لك فيما كربكَ وحُزْنكَ فرجاً ومخرجاً،ويرزقك السلامة وحسنَ العاقبة من حيث لا تحتسب .

يا بني احفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يَحْفَظْكَ الله ويحفظْ عليك أمورَكَ ، وإياك والدّم الحرام ، فإنه حوب عند الله عظيمٌ ، وعارٌ في الدنيا لاًزمٌ مقيمٌ ، و الزم الحدودَ، فإن فيها خلاًصك في الآجل ، وصلاحَك في العاجل ولاً تعتد فيها فتبور فإنّ الله تعالى لو علم شيئاً أصلحَ منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه .

واعلم أنَّ من شدةِ غضبِ الله لسلطانه ، أنه أمرَ في كتابه بتضعيف العذاب والعقابِ على من سعى في الأرضِ فساداً مع ما ذَخَرَ له عنده من العذاب العظيم فقال :َ { إنماء جزاء الذين يحاربون الله ورسولَه ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا} الآية .

فالسلطان - يا بنيّ - حبلُ الله المتين وعُرْوَتُهُ الوُثقى ودِينُهُ القيِّم ، فاحفظْهُ وحصِّنْهُ ، وذبْ عنه وأوْقِعْ بالملحدين فيه واقمع المارقين منه ، واقتل الخارجين عنهُ بالعقاب ، ولاً تجاوزْ ما أمر الله به في فحْكم القرآن واحكم بالعدل ولاً تشطّط فإنً ذلك أقْطَعُ (2) للشغب واحسمُ للعدوّ وانجعُ في الدواء ؛ وعُفَّ عن الفيء ، فليس بك إليه حاجة مع ما خلَّفَهُ الله لك ؛ وافتتحْ عملكَ بصلةِ الرحـم وبرّ القرابةِ ؛ وإياك والِإثرة والتبذير لأموال الرعيّة واشْحَن الثغورَ واضبطِ الأطرافَ وأمن السُبلَ وسكّن العامة وأدخِلِ المرافق عليهم ، وادفعِ المكارة عنهم وأعِدْ الأموال واخزنْها ؛ وإياك والتبذير ، فإن النوائبَ غيرُ مأمونةٍ وهي من شيم الزمان ؛ وأعد الكراع والرجالَ والجندَ ما استطعْتَ ، وإياك وتأخيرَ عمل اليوم إلى الغد ، فتتدارك عليك الأمورُ وتفجعُ ؛ جدً في أحكامِ الامورِ النازلاًتِ لأوقاتها أولاً فأولَاَ واجتهدْ وشقرْ فيها وأعِدْ رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ، ورجالاً بالنهارِ لمعرفةِ ما يكون بالليلِ ، وباشرِ الأمورَ بنفسكَ ولاً تضجرْ ولاً تكسلْ واستعمل حسنَ الظنِ بربك ، وأسِىء الظن بعمالِكِ وع شابِكَ ، وخذ نفسَك بالتيقُظِ وتفقدْ مَنْ تثبَّتَ  على بابك ، وسهل اذنَكَ للناسِ ، وانظرْ في أمرِ النزاعِ اليك ووكِّلْ بهم عيناً غير نائمةٍ ونفساً غيرَ لاهية ، ولاً تنمْ وإياك فإن أباك لم ينمْ منذ وُليَ الخلافة ، ولا دخلَ عينَه الغمضُ إلاً وقلبه مستيقظٌ ؛ هذه وصيتي اليك والله خليفتي عليك ، ثم ودعهُ وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه .

ثم سَار إلى الكوفة وجمعَ بين الحج والعمْرة وساقَ الهدي وأشعره  ، وقلَده لأيام خَلَتْ من ذي القعْدة، فلما سارَ منازل من الكوفة عرضَ له وجَعُه الذي مات به وهو القيامُ فلمّا اشتدَ وجَعُهُ جَعَلَ يقولُ للربيع : بادَرَني حرمُ ربّي هارباً من ذنوبي - وكان الربيعُ عديلَهُ - ووصَّاه بما أراد فلما وصلَ إلى بئرِ ميمون مات بها مع السحـر لسِتٍّ خلوْن من ذي الحجة ، ولم يحضرْهُ عند وفاته إلا خَدمُهُ والربيع مولاه ؛ فكتم الربيعُ موته ومَنَعَ من البكاء عليه ثم أصبح فحضَر أهلُ بيتِهِ كما كانوا يحضرون . وكان أول من دعا عمه عيسى بن علي فمكثَ ساعة ، ثم أذِنَ لابن أخيه عيسى بن موسى وكان فيما خلاً يقدم على عيسى بن علي ، ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان منهم ثم لعامتهم ، فبايعهم الربِيع للمهدي ولعيسى بن موسى بعده على يدي موسى الهادي بن المهدي ؛ فلما فرغ من بيعة بني هاشم بايع القواد وبايعَ عامة الناس .

وسار العباس بن محمد ، ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس فبايعوا بين الركن والمقام ، واشتغلوا بتجهيز المنصور ففرغوا منه العصرَ ، وكُفِّن ، وغُطِّيَ وجهُه وبدنُه وجُعِلَ رأسُهُ مكشوفاً لأجل إحرامه ، وصلَّى عليه عيسى بن موسَى ، وقيل : إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباسِ ، ودُفِنَ في مقبرة المعلاة ، وحفروا له مائة قبر ليغمُّوا على الناس ودفن في غيرها . ونزِلَ في قبرهِ عيسى بن علي ، وعيسى بن محمد ، والعباس بن محمد ، والربيع ، والريان مولياه ، ويقطين ، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة ، وقيل : أربعاً وستين ، وقيل : ثمانياً وستين سنة .

فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلاً أربعة وعشرين يوماً ، وقيل : إلاً ثلاًثة أيام ، وقيل : إلا ستة أيام ، وقيل : إلا يومين ، وقيم ! في موته : إنه لمَّا نزل آخر منزل بطريق مكة ، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

 أبا جعفر حـانتْ وفاتك وانقضتْ سنـوك وأمْـرُ الله لاً بـدَّ واقـعُ

 أبـا جعفرٍ هـلْ كـاهن أم منجمٌ لك اليوم من حرِّ المنية مانـعُ

فاحضرَ متولي المنازل وقال اسه : ألم آمرك أن لا يدخلَ المنازل أحدٌ من الناس

قال : والله ما دخله أحدٌ منذُ فَرِغَ فقال : إقرأ ما في صدر البيت فقال : ما أرى شيئاً فأحضرَ غيرَه فلم ير شيئاً فأملى البيتين ، ثم قال لحاجبه : إقرأ لي آية من كتاب الله فقرأ { وسيعلمُ الذين ظَلَموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون } فأمر به فضربَ ورحل من المنزل تطيُّراً فسقط عن دابته فاندقَ ظهرُه ومات فدُفِن ببئر ميمون . والصحيح ما تقدم .

ذكر صفة المنصور وأولاده

كان أسمرَ نحيفاً خفيفَ العارضين ولد بالحُميْمةِ من أرض الشراة ، وأما أولاًده فالمهدي واسمـه محمد ، وجعفر الأكبر وأمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بن منصور الحميري ، وكـانت تكنى أم موسى ؛ ومات جعفر قبل المنصور ، ومنهم سليمان ، وعيسى ، ويعقوب، أمهم فاطمة بنت محمد من وُلد طلحة بن عبيد الله ، وجعفر الأصغر وأمه أم ولد كردية ، وكان يقال له؛ ابن الكردية ، وصالح المسكين ، أمه أم ولد رومية ، والقاسم مات قبل المنصور وله عشرُ سنين ، أمه أم ولد تعرف بأم الف سم ولها بباب الشام يستانٌ يُعرفُ ببستان أم القاسم ، والعالية أمها امرأةٌ من بني أمية.

ذكر بعض سيره المنصور

قال سلام الاًبرش : كنت أخدمُ المنصور داخلاً في منزله وكان من أحسن الناس خلقاً ما لم يخرج إلى الناس ، وأشدُ احتمالاً لما يكون من عبث الصبيان ؛ فإذا لبس ثوبه أربَدَّ لونه ، واحمرتْ عيناه ، فيخرج منه ما يكون وقال لي يوماً : يا بني إذا رأيتني فد لبست ثيابي أو رجعتُ من مجلسي فلاً يدنونَ مني منكم أحدٌ مخافة أن أغرَّه  بشيء قال : ولم يُرَ في دار المنصور لهو ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبثَ إلا مرةً واحدة ،  رؤي بعض أولاده وقد ركب راحلةً وهو صبى وتنكَّب قوساً في هيئة الغلام الاعرابي بين جوالقيْن فيهما مقل ومساويك وما يهديه الاًعراب ، فعجب الناس من ذلك وأنكروه فعبر إلى المهدي بالرصافة فاهداه له فقبله وملأ الجوالقين دراهم فعاد بينهما فَعَلِمَ أنه ضَرْب من عبثِ الملوكِ .

قال حمَّاد التركي : كنت واقفاً على رأس المنصور ، فسَمِعَ جَلَبةً فقال : أنظر ما هذا؟ فذهبت فإذا خادمٌ له قد جلسَ حوله الجواري وهو يضرِبُ لهنً بالطنبور وهن يضحكْنَ فاخبرته فقال : وأيُّ شيءٍ الطنبورُ؟ فوصفته له فقال : ما يدريك أنت ما الطنبور ؟ قلت : رأيته بخراسان ، فقام ومشى إليهنَّ فلما رأينَهُ تفرقْنَ فأمر بالخـادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسر الطنبور وأخرج الخادمَ فباعه .

قال : وكان المنصور قد استعمل معن بن زائدة على اليمن لما بلغه من الاًختلاًف هناك ، فسار إليه وأصلحه وقصده الناس من اقطار الأرض لاًشتهار جوده ، ففرق فيهم الأموال ، فسخط عليه المنصور فأرسل إليه معن بن زائدة وفداً من قومه فيهم مجاعة بن الأزهر وسيَّرهم إلى المنصور ليزيلوا غيظَهُ وغضبه ،. فلما دخل على المنصور ابتدأ مجاعةُ بحمدِ الله والثناءِ عليه وذِكْرِ النبي صلى الله عليه وسلم فأطنبَ في ذلك حتى عَجِبَ القومُ ، ثم ذَكَرَ المنصور وما شرَّفه الله به وذكر بعد ذلك صاحبَه فلما انقضى كلاًمه قال : أمَّا ما ذكرتَ من حمدِ الله ، فالله أجلُّ مِنْ أنْ تبلغَه الصفاتُ ، وأما ما ذكرتَ من النبي صلى الله عليه وسلم فقد فضَّلَه الله تعالى بأكثر مما قلت ، وأمَّا ما وصفتَ به أميرَ المؤمنين فإنّه فضله الله بذلك وهو معينه على طاعتِه إنْ شاء الله تعالى ، وأمَّا ما ذكرتَ من صاحبك فكذبت ولؤمت اخرج فلا يقبلُ ما ذكرته ، فلما صاروا بآخر الأبوابِ أمرَ برده مع أصحابه فقال : ما قلت ؟ فأعادَه عليه فأخرجوَا، ثم أمرَ بهم فاوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر فقال : هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلًم حتى حسدْته وما منعني أن أتمِّ على ردِّه إلَّا أنْ يُقال حسدَه لأنه من ربيعة وما رأيت مثله رجلاً أرْبَطَ جاشعاً ولا أظهر بياناَ ردَّه يا غلاًم ، فلما صار بين يديه قال : أقصدْ بحاجتك  قال : يا أميرَ المؤمنين ، معن بن زائدة عبدُك وسيفُك وسهْمُكَ رميْتَ به عدوك فضرَبَ وطعنَ ورمى حتى سَهُلَ ما حزن ، وذلَّ ما صعبَ واستوى ما كان مِعْوجاً من اليمن ، فاصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ،فإن كان في نفس أميرِ المؤمنين هنة من ساعٍ أو واش أو حاسد ، فأمير المؤمنين أولى بالفضل على عبده ، ومن أفنى عمره في طاعته فقبل عذره ، وأمر بصرفهم اليه ، فلما قرأ معن الكتاب بالرضا قَبَّلَ ما بين عينيه ، وشكر أصحابه وأجازَهم على أقدارهم وأمرهم بالرحيل إلى المنصور فقال مجاعة :

 آليت في مجلس من وائل قسماً أن لا أبيعـك يا معنُ بـأطماعِ

 يـا معنُ إنك قـد أوليتني نعماً عفْتَ لحيمـاً وخصتَ آل مجـاع

 فلا أزال إِليك الدهر منقطعاً حتى يشيدَ بهلكي هتفه الناعي

وكان نعم معن على مجاعة أنه قض له ثلاًث حوائج ،، منها أنه كان يتعشّقُ جاريةً من أهلِ بيتِ معنٍ اسمها زهراء، فطلبها فلم يُجَبْ لفقْرِهِ ، فطلبها من معن ، فأحضر أباها فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وامهرها منْ عنده ، ومنها انه طلب منه حائطاً بعينه فاشتراها له ، ومنها انه استوهب منه شيئاً فوهَبَ له ثلاثين ألف درهم تمام مائة ألف .

قيل : وكان المنصور يقول : ما أحوجني أنَ يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعفُّ منهم ، هم أركان الدولة ، ولا يصلحُ الملكُ إلَّا بهم ، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومةُ لاًئمٍ ، والآخر صاحبُ شرطتن ينصُفُ .الضعيف من القوي ، والثالث صاحبُ خراج يستقصي ولاً يظلمُ الرعية فاني عن ظلمها غني ، ثم عض على إصبعه السبابة ثلاًث مرات يقول في كل مرة: آه آه، قيل : ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال ؛ صاحبُ بريد يكتبُ خبرَ هؤلاءِ على الصحة .

وقيل : دعا المنصورُ بعامل قد كسرَ خراجَه فقال له : أدِّ ما عليك فقال : والله ما أملك شيئاً وأذنَ مؤذن أشهدُ أنْ لا إله إلاً الله فقال : يا أميرَ المؤمنين هبْ ما علَيَّ لله وشهادة أن لاً إله إلا الله ، فخلَّى سبيله ، وقيل : أتى ه بعامل فحبسَه وطالبَه فقال العامل : عبدُك يا أمير المؤمنين فقال : بئسَ العبدُ أنت فقال : لكنك نِعْم المولى قال : أما لَك فلا ، قيل : وأتِيَ بخارجي قد هَزَمَ له جيوشاً فأرادَ ضرْبَ رقبتِهِ ثم ازْدَراه فقال : يا بن الفاعلة ، مثلك يهزمُ الجيوشَ ؟ فقال له : ويلَك وسوأة لك أمس بيني وبينك السيفُ واليوم القذف والسب ، وما كان يؤمنُك أنْ أردَّ عليك وقد يئسْتُ من الحياة فلا تستقيلها أبداً فاستحيا منه المنصور وأطلقه .

قيل : وكان شغلُ المنصور في صدرِ نهاره بالأمر ، والنهي ، والولايات ، والعزل ، وشحن الثغور والأطراف ، وأمن السبل ، والنظر في الخراج والنفقات ، ومصلحة معاش الرعية والتلطفِ بسكانهم وهدْيهم ، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته ، فاذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظرُ فيما وَرَدَ من كتب الثغور والأطراف ، والأفاقَ وشاورَ سمارَه ، فاذا مض ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره ، وإذا مضى الثلث الثاني قام فتوضأ وصلى حتى يطلع الفجرُ ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه .

قيل : وقال للمهدي : لا تبرمْ أمراً حتى تفكر فيه فإن فكْر العاقلُ مرآته تريهِ حسنه وسيئه ، يا بني لا يصلُح السلطان إلا بالتقوى ولا تصلحُ رعيته إلا بالطاعةِ ولا تعمرُ البلاًدُ بمثل العدْلِ وأقدر الناسِ على العفو أقدرهم على العقوبة وأعجزُ الناسِ من ظَلم منْ هو دونه ، واعتبرْ عمل صاحبك وعلمه باختباره .

يا أبا عبد الله : لا تجلسْ مجلساً إلا ومعك من أهلِ العلمِ منْ يحدثُك ؛ ومنْ أحب أن يحمدَ أحسَن السيرَة ،ومن أبغضَ الحمدَ أساءها وما أبغضَ الحمد أحدٌ إلا استذم وما استذَمَّ إلا كره، يا أبا عبد الله ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي غَشِيهُ بل العاقل الذي يحتالُ للأمر حتى لا يقعَ فيه .

وقال للمهدي يوماً : كم رايةً عندك ، قال : لا أدري قال : إنا لله  أنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً ولكنْ قد جَمَعْتُ لك ما لا يضركَ معه ما ضيعْتَ فاتقِ الله فيما خولك ، قيل : وقال اسحاقَ بن عيسى لم يكن أحدّ من يني العباس يتكلم فيبلغ حاجتَهُ على البديهةِ غير المنصور ، وأخيه العباس بن محمد ، وعمهما داود بن علي .

قيل : وخَطَب المنصورُ يوماً فقال : الحمد لله أحمدُهُ وأستعينُه وأومنُ به وأتوكلُ عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريك له ، فاعترضه انسان فقال : أيُّها الانسان أذكرك من ذكرت به ، فقطع الخطبة ثم قال : سمعاً سمعاً لمن حفظَ عن الله وأعوذُ بالله أن أكونَ جباراً عنيداً أو تأخذني العزةُ بالإثم فطه ضَللْتُ إذاً وما أنا من المهتدين ؛ وأنت أيها القائل فوالله ما أردت بهذا القولِ الله ، ولكنك أردتَ أن يُقال : قام فقالَ

فعوقِبَ فصَبَر وأهون بها ، ويلك لقد هممت واغتنمْها إذا عفوْتُ وإياك وإياكم معاشرَ المسلمين أختها ، فإنّ الحكمة علينا نزلتْ ومن عندنا فصلتْ فرُدُّوا الأمرَ إلى أهله تُورِدوه مواردَه وتصدروه مصادرَه ؛ ثم عاد إلى خطبته كأنما يقرؤها فقال : وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسوله .
وقال عبد الله بنُ صاعد: خَطَبَ المنصور بمكة بعد بناء بغدادَ فكان مما قال :

{ ولقدْ كتبْنا في الزَبور منْ بعد الذكر أنَّ الأرضَ يرِثُها عبادي الصالحون } أمر مبرمٌ وقوْل عذْل وقضاء فصل ، والحمد لله الذي أفلجَ حجًتَه وبُعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً والفيء إرثاً ، وجعلوا القرآن عضين لقد عاقَبهم ما كانوا به يستهزئون . فكم ترى من بئرٍ معطلةٍ ، وقصر مشيٌد ، أهملهم الله حينَ بدًلوا السنة وأهمَلُوا العِبْرة وعَنِدُوا واعتدَوْا واستكبروا ، وخاب كل جبًار عنيدِ ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمعُ لهم ركزاً .

قال : وكتب إليه رجلٌ يشكر بعضَ عمالِهِ فوقَعَ إلى العامل في الرقعة إن آثرْتَ العدلَ صحبَتْكَ السلاًمةُ لانْ آثرت الجوْر فما أقربُك من الندامة فأنصفْ هذا المتظلم من الظُلامةِ .

قيل : وكَتَبَ إلى المنصور صاحبُ أرمينية يخبرُه أن الجند قد شغَبوا عليه ، ونهبوا ما في بيتِ المال ، فوقَعَ في كتابه ؛ اعتزل عملنا مذموماً مدحوراً فلو عقلت لم يشغبوا ولو قويْتَ لم ينْهبوا .

وهذا وما تقدَّم من كلامه ووصاياه يدلُّ على فصاحته وبلاًغته ؛ وتد تقدم له أيضاً من الكتب وغيرها ما يدلّ على أنه كان واحدَ زمانهِ إلا أنه كان يبخلُ .

وما نُقِلَ عنه من ذلك قال الوضين بن عطاء : استزارني المنصورُ وكان بيني وبينه خلة قبل الخلافةِ فخلوْنا يوماً فقال لي : يا أبا عبد الله ما لَكَ ؟ قلت الخبر الذي تعرِفُه قال : وما عيالك ؟ قلت : ثلاًثُ بنات والمرأةً وخادمٌ لهن فقال : أربعٌ في بيتك ؟

قلت : نعم فردّدها حتى ظننت أنه سَيُعنُني ثم قال : أنت أيسرُ العربِ أربعُ مغازِلَ يدرْنَ في بيتك .

قيل : رَفَعَ غلاًمٌ لأبي عطاء الخراساني أنَّ له عشرة آلاف دِرْهم فأخذها منه وقال : هذا مالي ، قال : من أين يكونُ مالك ، ووالله ما وليتك عملًا قطّ ، ولا بيني وبينك رحمٌ ولا قرابة قال : بلى كنت تزوجتُ امرأةً لعيينة بن موسى بن كعب ، فورثتك مالاً وكان قد عَصِيَ بالسند وأخذ مالي وهو والٍ على السند فهذاَ المالُ من ذاك ، وقيل لجعفر الصادقَ: إنَ المنصور يكثرُ من لبسِ جبَّةِ هرويةِ وأنه يرقعُ قميصَه فقال جعفرُ: الحمد لله الذي لَطفَ به حتى ابتلاًه بفقر نفسه في مُلْكِهِ ، قيل : وكان المنصور إذا عَزَلَ عاملاً ، أخذَ مالَه وتركَهُ في بيتِ مال مفردٍ سماه بيتُ مالِ المظالمِ ، وكتب عليه اسمَ صاحبِهِ وقال للمهدي : قد هيأتُ لك شيئاً فإذا أنا متُ فادعُ مَنْ أخذتُ ماله فارددهُ عليه (ا) فإنك تستحمدُ بذلك إليهم وإلى العامةِ ففعل المهدي ذلك .

وله في ضدِّ ذلك أشياءٌ كثيرةٌ ، قيل : وذَكَر زيدُ مولى عيسى بن نهيك قال :

دعاني المنصور بعد موت مولاي فسألني كم خَلفَ مِنْ مال ؟ قلت : ألفَ دينار وأنفقَتْهُ امرأته في مأتمِهِ قال : كم خَلَّفَ من البنات ؟ قلت : ستاً فأطرق ملياً ثم رفـع رأسَهُ وقال : اغْدُ إلى المهدي ؛ فغدوت إليه فأعطاني مائة ألفٍ وثمانين ألف دينار، لكلِّ واحدةٍ منهنَّ ثلاًثون ألفاً ، ثم دعاني المنصور فقال : عدْ عليَّ بأكفائهن حتى أزوجهنَّ ، ففعلت فزوجهُنَ وأمرَ أنْ تُحمَلَ إليهن صَدقَاتهنَ من مالِه لكلِّ واحدةٍ منهنّ ثلاًثون ألف درهم ، وأمرني أن أشتري بمالهن ضياعاً لهنَ يكون معاشهنَّ منها .

قيل : وفرَّقَ المنصورُ على جماعةٍ منْ أهل بيته في يوم واحدٍ عشرة آلاف ألف درهم ، وأمر لجماعةٍ من أعمامه منهم سليمان ، وعيسى ، وصًالح ، وإسماعيل لكل رجلٍ منهم بألفِ ألفِ ، وهو أول من وصل بها ، وله في ذلك أخبارٌ كثيرة ؛ وأما غيرُ ذلك قال يزيد بن عمر بن هبيرة : ما رأيت رجلًا قط في حرب ولا سمعتُ به في سِلم أنكرَ ولاً أمكرَ تيقظاً من المنصور ؛ لقد حصرني تسعة أشهر ومعي فرسان العرب.
.

فجهدنا بكل الجهد أن ننالَ من عسكرهِ شيئاً فما تهيأ ، ولقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاءُ فخرجْت إليه وما في رأسي شعرة سوداء .

قيل : وأرسل ابن هبيرة إلى المنصور وهو محاصرُهُ يدعو إلى المبارزة؛ فكتب إليه : أنك متعدٍ طوركَ جار في عِنانِ غيك ، يعدُك الله ما هو مصدقُهُ ، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبُه ،ويقرب ما الله مباعده ، فرويداً يتم الكتاب أجله وقد ضربت مثلي ومثلك .

بلغني أن أسداً لقي خنزيراً فقال له الخنزير : قاتلني فقال الأسد : إنّما أنت خنزير ولست بكفء لي ولاً نظيرً، ومتى قاتَلْتُك فقَتَلْتُكَ قيل لي : قَتَلَ خنزيراً فلاً أعتقد فخراً ولا ذكراً وإن نالني منك شيئاً كان سَبَّةً علي ، فقال الخنزير : إنْ لم تفعل أعلمت السباعَ أنك نكلتَ عني ، فقال الأسد : احتمال عارُ كذبك عليَّ أيسرُ من لطْخ شرابي بدمك .

قيل : وكان المنصور أول من عَمَل الخيشَ ، فإن الأكاسرة كانوا يطينون كل يوم بيتاً يسكنونه في الصيف وكذلك بنو أمية ،قيل : وأتِيَ برجل من بني أمية فقال : إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان قال : نعم قال : من أين أتى بنو أمية حتى انتشرَ أمرهم ؟ قال : من تضييعِ الأخبارِ قال : فأي الأموالِ وجدُوها أنفعُ ؟ قال : الجوْهرُ قال : فغدَ مَنْ وجلوا الوفاء ؟ قال : عند مواليهم فأراد المنصور أن يستعينَ في الأخبار بأهلِ بيته ضال : أضع منهم فاستعانَ بمواليه .‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏