المجلد الخامس - ذكر غزو الروم

في هذه السنة تَجهزَ المهدي لغزو الروم ، فخرج وعَسْكَر بالبردان وجَمَعَ الأجنادَ من خراسان وغيرها وسار عنها ، وكان قد توفي عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس في جمادى الآخرة ، وسار المهدي من الغد واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي ، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد ، وسار على الموصل ، والجزيرة وعَزَلَ عنها عبد الصمد بن علي في مسيره ذلك ؛ ولفَا حاذى قصر مسلمة بن عبد الملك قال العباس بن محمد بن علي المهدي : ان لمسلمة في أعناقنا منةً ، كان محمد بن علي مر به فأعطاه أربعة آلاف دينار وقال له : إذا نفذْتَ فلا تحتشمنا .

فاحضر المهدي وُلْدَ مسلمة ومواليه ، وأمر لهم بعشرين ألف دينار وأجرى عليهم ا الأرزاقَ ، وعبر الفرات إلى حلب وأرسل - وهو بحلب - فجمع مَنْ بتلك الناحية من الزنادقة فجمعوا فقتلهم وقطع كتبهم بالسكاكين ، وسارَ عنها مشيعاً لابنه هارون الرشيد حتى جاز الدرب وبلغ جيحان ، فسار هارون ومعه عيسى بن موسى ، وعبد الملك بن صالح ، والربيع ، والحسن بن قحطبة ، والحسن ، وسليمان بن برمك ويحيى بن خالد بن برمك - وكان إليه أمر العسكر والنفقات والكتابة وغير ذلك فساروا فنزلوا على حصن سمالو فحصره هارون ثمانية وثلاثين يوماً ونصب عليه المجانيق ففَتحَه الله عليهم بالأمان ووفى لهم وفتحوا فتوحاً كثيرة .

ولما عاد المهدي من الغزاة ، زار بيت المقدس ومعه يزيد بن منصور ، والعباس بن محمد بن علي ، والفضل بن صالح بن علي ، وعلي بن سليمان بن علي ؛ وقفل المسلمون سالمين إلا من قُتِلَ منهم ، وعَزَل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين ثم رده .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ولَّى المهدي ابنه هارون المغربَ كله ، وأذربيجان ، وأرمينية ، وجعلَ كاتبه على الجراج ثابت بن موسى ، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك .

وفيها عَزَلَ زفر بن عاصم عن الجزيرة ، واستعمل عليها عبد الله بن صالح ، وفيها عَزَلَ المهدي معاذ بن مسلم عن خراسان ، واستعمل عليها المسيبَ بن زهير الضبي ، وعزل يحيى الحرشي عن أصبهان ، ووَلَّى مكانه الحكم بن سعيد ، وعَزَلَ سعيد بن دعلج عن طبرستان ، والرويان وولاهما عمر بن العلاء .

وعُزل مهلهل بن صفوان عن جرجان وولاها هشام بن سعيد ؛ وكان على مكة والمدينة ، والطائف ، واليمامة جعفر بن سليمان ، وكان على الكـوفة إسحاق بن الصباح ، وعلى البصرة ، وفارس ، والبحرين ، والأهواز محمد بن سليمان ، وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث ، وعلى الموصل محمد بن الفضل .

وحجَّ بالناس هذه السنة علي بن المهدي ؛ وفيها أظهر عبد الرحمن الأموي صاحبُ الأندلس التجهُّز للخروجِ إلى الشام بزعمِهِ لمحو الدولة العباسية وأخذ ثأره منهم ، فعصى عليه سليمان بن يقظان ، والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري بسرقسطة واشتد أمرُهما فترك ما كان عزم عليه ، وفيها مات موسى بن علي بن رباح اللخمي .
( عُلي ) بضم العين مصغراً ، و( رَباح ) بالباء الموحدة ، وفيها مات إبراهيم بن طهمان وكان عالماً فاضلًا وكان مرجئاً من أهل نيسابور ومات بمكة .

وفيها توفي أبو الأشهب جعفر بن حيان بالبصرة ، وفيها توفي بكار بن شريح قاضي الموصل بها وكان فاضلاً ، وولي القضاء بها أبو مكرز الفهري واسمه يحيى بن عبد الله بن كرز .

ثم دخلت سنة أربع وشين ومائة

في هذه السنة غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث ، فأتاه ميخائيل البطريق وطازاذ الأرمني البطريق في تسعين ألفاً ، فخاف عبد الكبير ، ومنع الناس من القتال ، ورجع بهم ، فأراد المهدي قَتْله ، فشفع فيه فحبسه .
وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن البصرة وسائرِ أعمالِهِ ،،استعمل صالح بن داود مكانه ؛ وفيها سار المهدي ليحجَّ فلما بلغ العقبَة ورأى قلة الماء خاف أن الماء لا يحمل الناس ، وأخذته أيضاً حمى فرجع وسير أخاه صالحاً ليحج بالناس ؛ ولحق الناس عطشٌ شديدٌ حتى كادوا يهلكون ؛ وغضب المهدي على يقطين لأنه صاحب المصانع؛ وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة ووجه مَنْ يستقبله ويفتش متاعه ويحصي ما معه واستعمل على اليمن منصور بن يزيد بن منصور ، وعلى افريقية يزيد بن حاتم ، وكان العمال من تقدم ذكرهم ، وعلى الموصل محمد بن الفضل ، وفيها سار عبد الرحمن الأموي إلى سرقسطة بعد أن كان قد سير إليها ثعلبة بن عبيد في عسْكَر كثيف ، وكان سليمان بن يقظان ، والحسين بن يحيى قد اجتمعا على خلع طاعة عبد الرحمن كما ذكرنا وهما بها ، فقاتلهما ثعلبة قتالاً شديداً ، وفي بعض الأيام عاد إلى مخيمِهِ فاغتنم سليمان غرته فخرج اليه وقبض عليه ، وأخذه وتفرقَ عسكره ، واستدعى سليمان فار له ملك الاًفرنج ، ووعده بتسليم البلد وثعلبة إليه ، فلما وصل إليه لم يصح بيده غير ثعلبة فأخذه وعاد إلى بلاده وهو يظن أنه يأخذ به عظيم الفداء ، فأهمله عبد الرحمن مدة ، ثم وضع مَنْ طلبه من الفرنج فأطلقوه .

فلما كان هذه السنة سار عبد الرحمن إلى سرقسطة وفرق أولاده في الجهات ليدفعوا كل مخالف ثم يجتمعون بسرقسطة فسبقهم عبد الرحمن إليها؛ وكان الحسين بن يحيى قد قتل سليمان بن يقظان وانفرد بسرقسطة فوافاه عبد الرحمن على أثر ذلك فضيق على أهلها تضييقاً شديداً ، وأتاه أولاده من النواحي ومعهم كل من كان خالفهم وأخبروه عن طاعة غيرهم ، فرغب الحسين في الصلح ، وأذعن للطاعة فاجابه عبد الرحمن وصالحه ، وأخذ ابنه سعيداً رهينة ، ورجع عنه وغزا بلاًد الفرنج فدوخها ونهب وسبى وبلغ قلهرة(ا) وفتح مدينة فكيرة وهدم قلاع تلك الناحية ، وسار إلى بلاد البشكنس ونـزل على حصن مثمين الأقرع فـافتتحه ، ثم تقـدم إلى ملدوثـون بن اطلال ، وحصر قلعته وقصد الناس جبلها وقاتلوهم فيها ، فملكوها عنوة وخرَّبها ثم رجع إلى قرطبة .

وفيها ثارت فتنة بين بربر بلنسية وبربرشنت برية من الأندلس وجرى بينهم حروب كثيرة قُتِلَ فيها خلق كثيرٌ من الطائفتين وكانت وقائعهم مشهورة .

وفيها ماتَ شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي النحوي البصري ،وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم المنصور ، وقيل : مات سنة ثلاث وستين وكان عمره ثمانياً وسبعين سنة ، وقيل : ثمانين سنة ، وسعيد بن عبد العزيز الدمشقي ، وسلاًم بن مسكين النمري الأزدي أبو روح ، والمبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي مولى عمر بن الخطاب .

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة

في هذه السنة سير المهدي ابنَه الرشيد لغزو الرومِ صائفة في جمادى الآخرة في خمسة وتسعين ألفاً وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلاً ومعه الربيع ، فأوغل هارون في بلاًد الروم ، ولَقِيَهُ عسْكَرُ نقيظا قومس القوامسة ، فبارزه يزيد بن مزيد الشيباني فأثخنه يزيد وانهزمت الروم ، وغَلَبَ يزيد على عسكرهم ؛ وساروا إلى الدمستق – وهو صاحب المسالح – فحمل لهم مائة ألف دينار وثلاثةوتسعين ألفاً وأربعمائة وخمسين ديناراً ، ومن الورقَ واحداً وعشرين ألف ألف درهم  وأربعة عشر ألف وثمانمائة درهم؛ وسار الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية .

وصاحب الروم يومئذ أغطسة امرأة أليون وذلك ان ابنها كان صغيراً قد هلك  أبوه وهو في حجرها - فجرى الصلح بينها وبين الرشيد على الفِدية وأن تقيم له الأدلاء والأسواقَ في الطريق ، وذلك أنه دخل مدخلاً ضيقاً مخوفاً فأجابته إلى ذلك ، ومقدار الفدية سبعون ألف دينار كل سنة ورجع عنها ، وكانت الهدنة ثلاًث سنين ، وكان مقدار ما غنم المسلمون إلى أن اصطلحوا خمسة آلاف رأس سبي وستمائة وثلاثة وأربعين رأساً ، ومن الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألف رأس ، وذُبح من البقر ، والغنم مائة ألف رأس . وقُتِلَ من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفاً . وقُتِل من الأسارى  صبراً ألفان وتسعون أسيراً.

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عُزِلَ خَلَفُ بن عبد الله عن الري ووَليهَا عيسى مولى جعفر ؛ وحج بالناس هذه السنة صالح بن المنصور ، وكان العمال مَنْ تقدم ذكرهم غير ان البصرة كان على احداثها والصلاة بها روح بن حاتم ، وكان على كور دجلة ، والبحرين ، وعمان ، وكسكر ، والأهواز ، وفارس ، وكرمان المعلى مولى المهدي ، وكان على الموصل احمد بن اسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس .

وفيها غدر الحسين بن يحيى بسرقسطة ،فنكث مع عبد الرحمن فسيَّر اليه عبد الرحمن غالب بن ثمامة بن علقمة في جند كثيف فاقتتلوا فأسَرَ جماعة من اصحاب الحسين فيهم ابنه يحيى فسيرهم إلى الأمير عبد الرحمن فقتلهم وأقام ثمامة بن علقمة على الحسين يحصرُهُ ، ثم ان الأمير عبد الرحمن سار سنة ست وستين ومائة إلى سرقسطة بنفسه فحصرها وضايقها ونصب عليها المجانيق ستة وثلاًثين منجنيقاً فملكها عنوة وقتل الحسين اقبح قتلة ، ونفى أهل سرقسطة منها ليمين تقدمت منه ، ثم ردهم اليها ، وفيها مات يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد بن شهر بن مثوب وهو من ولد شهر ذي الجناح الحميري خال المهدي ، وقد كان وَبيَ اليمن ، والبصرة ،لا والحج . وفيها توفي فَتْحُ بن الوشاح الموصلي الزاهد .

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

في هذه السنة أخذ المهدي البيعة لولده هارون الرشيد بولاية العهد بعد أخيه موسى الهادي ولقبه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة واستقضى خالد بن طليق بن عمران بن حصين فاستعفى اهل البصرة منه .

ذكر القبض على يعقوب بن داود

وفي هذه السنة سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود بن طهمان ، وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان – وهو أبو يعقوب -جمان يكتب لنصر بن سيار هو واخوته ، فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ، ما يسمعه من نصر ، فلما طلب أبو مسلم الخراساني بدم يحيى بن زيد ، أتاه داود لما كان بينه وبين يحيى فأمنه أبو مسلم في نفسه ، وأخذ ماله الذي استفاد أيام نصر .

فلما مات داود خرج أولاده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرِهم وأشعارهم ؛

ولم يكن لهم عند بني العباس منزلة ، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر ، واظهروا مقالة الزيدية ودنوا من آل الحسين ، وطمعوا أن تكون لهم دولة . فكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أحياناً ،ويخرج معه هو وعدة من إخوته ، فلما قُتل إبراهيم ، طلبهم المنصور فاخذ يعقوب ، وعلياً وحبسهما . فلما توفي المنصور أطلقهما المهدي مع منْ أطلقه ، وكان معهما الحسن بن إبراهيم ، فاتصل إلى المهدي يسببه كما تقدم ذكره ، وقيل : اتصل به بالسعاية بآل علي ، ولم يزل أمره يرتفع حتى استوزره .


وكان المهدي يقول : وصف لي يعقوب في منامي فقيل لي : استوزره فلما رأيته رأيت الخلقة التي وصفت لي فاتخذته وزيراً ، فلما وَبيَ الوزارة أرسل إلى الزيدية فجمعهم وولاهم الخلافة في المشرق َوالمغرب ،ولذلك قال بشار بن برد :

 بني أميـة هبوا طـالَ نـومُكُم إن الخليفـة يعقـوبَ بن داود

 ضاعتْ خلاًفتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الناي والعود

فحسده موالي المهدي وسعوا به ، وقيل له : إن الشرقَ والغرب في يد يعقوب وأصحابه ، وإنما يكفيه أن يكتبَ إليهم ، فيثوروا في يوم واحد فيأخذوا الدنيا لاسحاق بن الفضل ، فملأ ذلك قلب المهدي .

ولما بنى المهدي عيسا باذ ،أتاه خادم من خدمه فقال له : إن أحمد بن إسماعيل بن علي قال لي : أبنى متنزهاً أنفقَ عليه خمسين ألف ألف من بيت المال ، فحفظها المهدي ونسيَ أحمد بن اسماعيل ، وظنَّ أن يعقوب قالها .

فبينما يعقوب بين يديه إذ لببه ، فضرب به الأرض وقال : ألست القائل  كيت وكيت ؟ فقال : والله ما قلته ولاً سمعته قال : وكان السعاة يسعون بيعقوب ليلاً ويتفرقون وهم يعتقدون أنه يقبضه بكرة ، فاذا أصبح غدا عليه فإذا نظر إليه تبسم وسأله عن مبيته . وكان المهدي مستهتراً بالنساء فيخوض يعقوب معه في ذلك فيفترقان عن رضا .

ثم إنه كان ليعقوب برذون كان يركبه فخرج يوماً من عند المهدي وعليه طيلسان يتقعقع من كثرة دقه ، والبرذون مع الغلام وقد نام الغلاًم فركب يعقوب ، وأراد تسوية الطيلسان ، فنفر من قعقعته ، فسقط ، فدنا من دابته فرفسه ، فانكسر ساقه ، فانقطع عن الركوب .

فعاده المهدي من الغد ثم انقطع عنه فتمكن السعاة منه ، فاظهر المهدي السخط

عليه ثم أمر به فسجن في سجن نصر وأخذ عماله وأصحابه فحبسوا .

وقال يعقوب بن داود : بعث الي المهدي يوماً فدخلت عليه وهو في مجلس مفروش بفرش مورد على بستان فيه شجر ورؤوس الشجر مع صحن المجلس ، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأزهار من الخوخ والتفاح ؛ فما رأيت شيئاً أحسن منه ، وعنده جارية عليها نحو ذلك الفرش ما رأيت أحسن منها فقال لي : يا يعقوب كيف ترى مجلسنا هذا ؟ قلت :على غاية الحسن فمتع الله أمير المؤمنين به قال : هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قال : فدعوت له ،ثم قال لي : يا يعقوبُ وبي اليك حاجة أحبُّ أن تضمن لي قضاءها قلت : الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمعُ والطاعة ، فاستحلفني بالله وبرأسه فحلفت لأعملن بما قال فقال : هذا فلان بن فلاًن من ولدِ علىِ بن أبي طالب ، وأحب أن تكفيني مؤنته ، وتريحني منه ، وتعجل ذلك ، قلت : أفعل فأخذته ، وأخذت الجارية وجميع ما في المجلس وأمر لي بمائة الف درهم ، فلشدة سروري بالجارية صيَّرتها في مجلس ، بيني وبينها ستر ، وادخلت العلوي إلف وسألته عن حاله فأخبرني ، وإذا هو أعقل الناس وأحسنهم إبانةً عن نفسه ، ثم قال : ويحك يا يعقوب تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لا والله فهل فيك أنت خير؟ قال : إن فعلت خيراً شكرت ولك عندي دعاء واستغفار فقلت : أي الطريق  أحبُّ إليك ؟ قال : كذا وكذا فأرسلت إلى من يثق إليه العلوي فأخذه وأعطيته مالًا وأرسلت الجارية إلى المهدي تُعْلِمُهُ الحال ؛ فأرسل إلى الطريق فأخذ العلوي وصاحبه والمال .

فلما كان الغد استحضرني المهدي وسألني عن العلوي فأخبرته أني قتلته فاستحلفني بالله وبرأسه فحلفت له فقال : يا غلام اخرج إلينا ما في هذا البيت ؛ فأخرج العلوي وصاحبه والمال فبقيت متحيراً وامتنع مني الكلاًم فما أدري ما أقول ، فقال المهدي : قد حل لي دمك ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به فحبست في المطبق واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها ، فبقيت مدة لا أعرف عددها وأصبت ببصري وطال شعري حتى استرسل كهيئة البهائم قال : فإني لكذلك إذ دُعِيَ بي وقيل لي : سئم على أمير المؤمنين ، فسلمت قال : أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت : المهدي قال : رحم الله المهدي قلت : فالهادي قال : رحم الله الهادي قلت : فالرشيد قال : نعم سل حاجتك

قلت : المقام بمكة فما بقي فيَّ مستمتع لشيء  ولا بلاًغ فاذن لي فسرت إلى مكة قال : فلم تطل أيامه بها حتى مات .

وكان يعقوب قد ضجر بموضعه قبل حبسه ؛ وكان أصحاب المهدي يشربون عنده فكان يعقوب ينهاه عن ذلك ويعظه ويقول : ليس على هذا استوزرتني ولا عليه صحبتك بعد الصلوات الخمس  في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ، فضيّق على المهدي حتى قيل :
 فدعْ عنك يعقوب بن داود جانباً وأقبل على صهباءَ طيبـةِ النشر

وقال يعقوب يوماً للمهدي قي أمر أراده : هذا والله السرف فقال المهدي : وبحك يا يعقوب إنما يحسن السرف بأهل الشرف ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين .

ذكر عدة حوادث

وفي هذه السنة سار المهدي إلى جرجان ، وجعل على قضائه أبا يوسف ، يعقوب بن إبراهيم . وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة ، والمدينة ، واليمن ، ببغال وإبل ولم يكن هنالك بريد قبل ذلك ؛ وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير ، فولاًها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس ، وأضاف اليه سجستان ، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج بأمر المهدي . وفيها أخذ المهدي داود بن روح بن حاتم ، وإسماعيل بن مجالد ، ومحمد بن أبي أيـوب المكي ، ومحمد بن طيفور في الزندقة فاستتابهم ، وخلّى سبيلهم ، وبعث داود إلى أبيه وهو على البصرة وأمره بتأديبه . وفيها استعمل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله على المدينة ، وكان على مكـة ، والطائف عبيد الله بن قثم ، وفيها غزِلَ منصور بن يزيد بن منصور عن اليمن ، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي ، وفيها أطلق المهدي عبد الصمد بن علي من حبسه . وحج بالناس إبراهيم بن يحيى .

وكان على الكوفة هاشم بن سعيد ؛ وعلى-البصرة روح بن حاتم ؛ وعلى قضائها خالد بن طليق؛ وعلى كور دجلة ، وكسكر ، واعمال البصرة ، والبحـرين ، والاهواز ،وفارس ،وكرمان المعلي مولى المهدي ، وعلى مصر إبراهيم بن صالح ، وعلى افريقية يزيد بن حاتم ، وعلى طبرستان ، والرويان ، وجرجان يحيى الحرشي ، وعلى دنباوند، وقومس فراشة مولى المهدي ، وعلى الري سعد مولاه ، وعلى الموصل أحمد بن اسماعيل الهاشمي ، وقيل : موسى بن كعب الخثعمي ، وعلى قضائها علي بن مسهر بن عمير، ولم يكن فيِ هذه السنة صائفة للهدنة التي كانت فيها. وفيها قتل بشار بن برد الشاعر الأعمى على الزندقة؛ وكان خلق ممسوح العينين . وفيها توفي الجراح بن مليح الرؤاسي ، وهو والد وكيع ؛ وفيها توفي المبارك بن فضالة ، وحماد بن سلمة البصري ، وفيها قتل عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية بن هشام؛ وهذيل بن الصميل ، وسمرة بن جبلة لأنهم اجتمعوا على خلعه مع العلاء بن حميد القشيري فتقرب بهم .

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

في هذه السنة سار موسى الهادي إلى جرجان في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز أحذ بمثله لمحاربة ونداد هرمز وشروين -صاحبيْ طبرستان .

وجعل المهدي على رسائل موسى ابان بن صدقة ، ومحمد بن جميل على جنده ، ونفيعاً مولى المنصور على حجابته ،وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه ، فسير الهادي الجنود إليهما وأمر عليهم يزيد بن مزيد فحاصرهما ، وفيها توفي عيسى بن مرسى بالكوفة ؛ فاشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي ، وجماعة من الوجوه ودُفِنَ وكان عمره خمساً وستين سنة ، ومدة ولايته العهد ثلاثاً وعشرين سنة ، وقد لَقدم ذكر ولايته العهد وعزله عنه . وفيها جذ المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الأفاقَ وقتلهم؛ فأخذ يزيد بن الفيض فاتر فحبس فهرب فلم يقدر عليه؛ وكان المتولي لأمر الزنادقة الكلوذاني  . وفيها عَزَلَ المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاًه الربيع ، وفيها كان الوباء ببغداد ، والبصرة ، وفشا في الناس سعال شديد، وفيها توفي أبان بن صدقه كاتب الهادي ، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول ، وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت فيه دور كثيرة ؛ وكان المتولي لبنائه ، شطين بن موسى فبقي البناء فيه إلى أن توفي المهدي ؛ وكذلك أمر بالزيادة في المسجد الجامع بالموصل ، ورأيت لوحاً فيه ذكر ذلك وهو في حائط الجامع سنة ثلاث وستمائة وهو باقَ ، وفيها عزل يحص الحرشي عن طبرستان ، والرويان وما كان إليه ووليه عمر بن العلاء ، ووَليَ جرجان فراشة مولى المهدي ، وفيها أظلمت الدنيا لثلاث مَضيْنَ من ذي الحجة حتى تعالى النهار ، ولم يكن صائفة للهدنة ، التي كانت بين المسلمين والروم .

وحجَّ بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وهو  على المدينة ؛ ثم توفي بعد فراغه من الحج بأيام وتولّى مكانه إسحاقَ بن عيسى بن علي . وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي ، اغتاله رجل بخنجر فمات ببغداد .

وكان على اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري ، وكان على البصرة محمد بن سليمان ، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي ، وعلى الموصل أحمد بن إِسماعيل الهاشمي ، وقيل : موسى بن كعب ، وباقي الأمصار كما تقدم ، وفي هذه السنة توفي جعفر الأحمر أبو شيبة ، والحسن بن صالح بن حبي ، وكان شيعياً عابداً ، وسعيد بن عبد الله بن عامر التنوخي ، وحماد بن سلمة ، وعبد العزيز بن مسلم . وفيها أفسد العرب في بادية البصرة بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطريق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة فارسل المهدي إليهم جيشاً فقاتلهم واشتدَّ القتال ، وصبر العرب فظفروا وقتلوا عامة العسكر المنفذ إليهم فقويت شوكتهم وزاد شرُهم. "

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة .

في هذه السنة في رمضـان نقض الروم الصلح ، الـذي كان بينهم وبين المسلمين ، وكان من أوله إلى أن نقضوه اثنان وثلاثون شهراً ، فوجه علي بن سليمان - وهو على الجزيرة ، وقنسرين يزيد بن البدر البطال في خيل فغنموا وظفروا .

ذكر الخوارج بالموصل

وفيها خرج بأرض الموصل خارجى اسمه ياسين من بني تميم ، فخرج إليه

عسكر الموصل ، فهزمهم وغلب على أكثر ديار ربيعة ، والجزيرة - وكان يميل إلى مقالة صالح بن مسرح الخارجي .

فوجه إِليه المهدي أبا هريرة محمد بن فروخ القائد، وهرثمة بن أعين مولى بني

ضبة فحارباه ، فصبر لهما حتى قتِلَ وعدة من أصحابه وانهزمَ الباقون .

ذكر مخالفة أبي الأسود بالأندلس

في هذه السنة ثارَ أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس ؛ وكان من حديثه انه كان في سجن عبد الرحمن بقرطبة من حين هرب أبوه وقُتلَ أخوه عبد الرحمن على ما تقدَّم ، وحُبِسَ أبو الأسود وتعامى في الحبس ، فصار يحاكي العميان ولا يطرف عينه لشيء ، وبقي دهراً طويلاً حتى صح عند الأمير عبد الرحمن الأموي ذلك .

وكان في أقص السجن سرداب يفضي إلى النهر الأعظم يخرج منه المسجونون فيقضون حوائجهم من غسل وغيره ، وكان الموكلون يهملون أبا الأسود لعماه فإذا رجع من النهر يقول : من يدل الأعمى على موضعه ، وكان مولى له يحادثه على شاطىء النهر ولا ينكر عليه ، فواعده أن يأتيه بخيْل يحمله عليها، فخرج يوماً ومولاًه ينتظره ، فعبر النهر سباحة ، وركب الخيل ، ولحق بطليطلة فاجتمع له خلق كثير، فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن الأموي ، فالتقيا على الوادي الأحمر بقسطلونة ، واشتد القتال ثم انهزم أبو الأسود وقُتِلَ من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردى في النهر واتبعه الأموي يقتل من لحق حتى جاوز قلعة الرباح ، ثم جمع إلى قتال الأموي في سنة تسع وستين؛ فلما أحس بمقدمة الأموي انهزم أصحابه وهو معهم فأخذ عياله وقُتل أكثرُ رجاله ، وبقي إلى سنة سبعين فهلك بقرية من أعمال طليطلة ، وقام بعده أخوه فاسم وجمع جمعاً فغزاه الأمير فجاء إليه بغير أمان فقتله .

ذكر عدة حوادث

وفيها هلكَ شيلون ملك جليقية فولوا مكانه اذفونش  فوثب عليه مورقاط فقتله ، فاختل أمرهم .

فدخل عليهم نائب عبد الرحمن بطليطلة في عساكره فقَتَلَ وغَنِمَ وسبى ، ثم عاد سالماً ، وفيها توفِّي أبو القاسم بن واسول مقدم الخوارج الصفرية بسجلماسة فجأة في صلاة العشاء الآخرة ؛ وكانت إمارته اثنتي عشرة سنة وشهراً وَوَليَ بعده ابنه إلياس .

وفيها سيَّر المهدي سعيداً الحرشي في أربعين ألفاً إلى طبرستان ، وفيها مات عمر الكلوذاني صاحب الزنادقة ووليَ مكانه محمد بن عيسى بن حمدويه ، فقتل من الزنادقة خلقاً كثيراً .

وحجَّ بالناس عليٌ بن المهدي الذي يقال له : ابن ريطة ، وفيها توفي يحيى بن سلمة بن كهيل ، وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ، ومندل بن علي ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة القاضي ، والحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ؛ وكان قد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ، ثمٍ عزله وحبسه ببغداد ، وأخذ ماله ؛ فلما وَليَ المهدي أخرجه ورد عليه ماله وكان جوادا ، إلاً أنه كان منحرفاً عن أهل بيته مائلاً إلى المنصور ، وفيها توفي بشر بن الربيع ، وعبثر بن القاسم (عبثر) بفتح العين المهملة وبالباء الموحدة والثاء المثلثة .

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

ذكر موت المهدي

في هذه السنة مات المهدي أبو عبد الله محمد بن عبد الله المنصور بما سبذان ؛ وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد ، وتقديمه على الهادي ، فبعث إليهم وهو بجرجان في المعنى فلم يفعل ، فبعث اليه في القدوم عليه فضرَب الرسول ، وامتنع من القدوم عليه ؛ فسار المهدي يريده فلما بلغ ماسبذان أكل طعاماً ثم قال : إني داخل إلى البهو أنام فلا توقظوني حتى أكون أنا الذي انتبه فدخله فنام ، ونام أصحابه ، فاستيقظوا ببكائه فأتوه مسرعين فقال : وقف على الباب رجل فقال :
 كأني بهذا القصر قد باد أهله وأوحش منـه ربعـه ومنـازلـه

 وصار عميدَ القوم من بعد بهجة وملك إلى قبـر عليـه جنـادلـه

 فلم يبق إلا ذكـره وحـديثـه تنـادي عليه معـولات حـلائله

فبقي بعد ذلك عشرة أيام ومات ، وقد اختلِفَ في سبب موته فقيل : إنه كان يتصيَّد فطردت الكلاًب ظبياً وتبعته فدخل باب خربة ، ودخلت الكـلاًب خلفه ، ثم تبعها فرس المهدي ، فدخلها فدَقَ البابُ ظهرَه ، فمات من ساعته ؛ وقيل : بل بعثت جارية من جواريه إلى ضرة لها بإناء فيه سم  فدعا به المهدي فأكل منه فخافت الجارية أن تقول : إنه مسموم فمات من ساعته .

وقيل : بل عمدت حسنة جارية له إلى كمثري فأهدته إلى جارية أخرى كان المهدي يتحظاها ، وسمت منه كمثراة هي أحسن الكمثري ، فاجتاز بالمهدي فدَعا به وكان يحب الكمثري فاخذ تلك الكمثراة المسمومة فأكلها ، فلما وصلت إلى جوفه صاح جوفي جوفي فسمعت صوته فجاءت تلطم وجهها وتبكي وتقول : أردت أن أنفرد بك فقتلتك فمات من يومه ، ورجعت حسنة وعلى قبتها المسوح فقال أبو العتاهية في ذلكَ :

رُحنَ في الـوشي وأقبلنَ عليهنَ المسـوحُ

 كل نطاحٍ مـن الـدنيـا لـه يومٌ نطوحُ

 لَمتَ بـالباقي ولـو عمرت مـا عمـر نـوحُ

 فعلى نـفسـك نـحْ إن كـنـت لا بـد تَنْـوح

وكان موته في المحرم لثمان بقيْن منه ، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً ، وقيل : عشر سنين وتسعاً وأربعين يوماً ، وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ودُفن تحت جوزة كان يجلس تحتها وصلى عليه ابنه الرشيد، وكان أبيض طويلًا ، وقيل : اسمر باحدى عينيه نكتة بياض .

ذكر بعض سيرته

كان المهدي إذا جلس للمظالم قال‏:‏ أدخلوا علي القضاة فلولم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم لكفى‏.‏

وسعتب المهدي على بعض القواد غير مرة وقال له في آخر ذلك‏:‏ إلى متى تذنب قال‏:‏ إلى إبد نسيء ويبقيك الله فتعفوعنا‏.‏

فاستحيا منه ورضي عنه‏.‏

وقال مسور بن مساور‏:‏ ظلمني وكيل المهدي وغصبني ضيعة لي فكتب إلى المهدي أتظلم فوصلت الرقعة وعنده عمه العباس ومحمد بن علاثة وعافية القاضي فاستدناني المهدي وسألني عن حالي فذكرته فقال‏:‏ أترضى بأحد هذين قلت‏:‏ نعم‏!‏ فاستدناني حتى التزقت بالفراش وحاكمني فقال له القاضي‏:‏ أطلقها له يا أمير المؤمنين‏!‏ قال‏:‏ قد فعلت فقال عمه العباس‏:‏ والله لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم‏.‏

وخرج المهدي متنزه أن ومعه عمر بن ربيع مولاه فانقطعا في الصيد من العسكر وأصاب المهدي جوع فقال‏:‏ هل من شيء فقيل له‏:‏ نرى كوخأن فقصدوه فإذا فيه نبطي وعنده مبقلة فسلموا عليه فرد السلام فقالوا‏:‏ هل من طعام فقال‏:‏ عندي ربيثاء وهونوع من الصحناة وعندي خبز شعير‏.‏

فقال المهدي‏:‏ إن كان عندك زيت فقد أكملت‏.‏

قال‏:‏ نعم وكراث فأتاهما بذلك فأكلا حتى شبعا‏.‏

فقال المهدي لعمر بن ربيع‏:‏ قل في هذا شعرًا فقال‏:‏ إن من يطعم الربيثاء بالزي ت وخبز الشعير بالكراث لحقيق بصفعة أوبثنيتي ن لسوء الصنيع أوبثلاث فقال المهدي‏:‏ بئس ما قلت‏!‏ إمنا هو‏:‏ لحقيق ببدرة أوبثنيتي ن لحسن الصنيع أوبثلاث قال‏:‏ ووافهم العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وسأنصرف‏.‏

وقال الحسن الوصيف‏:‏ أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي حتى ظننا أنها أسوقنا إلى المحشر فخرجت أطلب المهدي فوجدته واضعًا خده على الأرض وهويقول‏:‏ اللهم احفظ محمدًا في أمته‏!‏ اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم‏!‏ اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك‏.‏

قال‏:‏ فما لبثنا إلا يسيرًا حتى انكشفت الريح وزال عنا ما كنا فيه‏.‏

ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي الروزي الوفاة أوصى إلى المهدي فكتب‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏ الآية ثم كتب‏:‏ والقاسم يشهد بذلك ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة من بعده‏.‏

فعرضت الوصية على المهدي بعد موته فلما بلغ إلى هذا الموضع رمي بهأن ولم ينظر فيها‏.‏

وقال الربيع‏:‏ رأيت المهدي يصلي في بهوله في ليلة مقمرة فما أدري أهو احسن أم البهو أم القمر أم ثيابه فقرأ‏:‏ ‏{‏فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم‏}‏ ‏[‏محمد 22‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فتمم صلاته ثم التفت وقال‏:‏ يا ربيع‏!‏ قلت لبيك‏!‏ قال‏:‏ علي بموسى فقلت في نفسي‏:‏ من موسى ابنه أم موسى بن جعفر وكان محبوسًا عندي فجعلت أفكر فقلت‏:‏ ما هوإلا موسى ابن جعفر فأحضرته فقطع صلاته ثم قال‏:‏ يا موسى‏!‏ إني قرأت هذه الآية فخفت أن أكون قد قطعت رحمك فوثق لي أنك لا تخرج علي‏.‏

قال‏:‏ نعم فوثق له فخلاه‏.‏

وقال محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏:‏ رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية كأني دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعت رأسي فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه‏:‏ مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وإذ قائل يقول‏:‏ يمحوهذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد‏.‏

قلت‏:‏ فأنا من بني هاشم واسمي محمد فابن من قال‏:‏ ابن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فأنا ابن عبد اله فابن من قال‏:‏ ابن محمد قلت‏:‏ فأنا ابن محمد فابن من قال‏:‏ ابن علي‏.‏

قلت‏:‏ فأنا ابن علي فابن من قال‏:‏ ابن عبد الله‏.‏

قلت‏:‏ فأنا ابن عبد الله فابن من قال‏:‏ ابن عباس فلولم يبلغ العباس ما شككت أني صاحب الأمر‏.‏

قال‏:‏ فتحدثت بها ذلك الزمان ونحن لا نعرف المهدي حتى ولي المهدي فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه فرأى اسم الوليد فقال‏:‏ أرى اسم الوليد إلى اليوم فدعا بكرسي فألقي في صحن المسجد وقال‏:‏ ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه ففعل ذلك وهو جالس‏.‏

وخرج المهدي يطوف بالبيت ليل أن فسمع أعرابية تقول‏:‏ قومي مقترون نبت عنهم العيون وفدحتهم الديون وعضتهم السنون بادت رجالهم وذهبت أموالهم وكثرت عيالهم أبناء سبيل وأنضاء طريق وصية الله ووصية الرسول فهل من آمر لي بخير كلأه الله في سفره وخلفه في أهله‏!‏ قال‏:‏ فأمر لها بخمسمائة درهم‏.‏

وقال المهدي‏:‏ ما توسل أحد إلي بوسيلة هي أقرب من تذكيري يدًا سلفت مني إليه أتبعها وكان بشار بن برد قد هجا صالح بن داود أخا يعقوب حين ولي البصرة فقال‏:‏ هم حملوا فوق المنابر صالحًا خاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ يعقوب هجاؤه فدخل على المهدي فقال له‏:‏ إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ وما قال قال‏:‏ يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده‏.‏

فأبى أن يعفيه‏.‏

فأنشده‏:‏ خليفة يزني بعماته يلعب بالدبوق والصولجان أبدلنا الله به غيرة ودس موسى في حر الخيزران فوجه في حمله فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفوعنه فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الحمارة‏.‏

وماتت الياقوتة بنت المهدي وكان معجبًا بها لا يطيق الصبر عنهأن حتى إنه كان يلبسها لبسة الغلمان ويركبها معه فلما ماتت وجد عليه أن وأمر أن لا يحجب عنه أحد فدخل الناس يعزونه وأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أبلغ ولا أوجر من تعزية شبيب بن سيبة فإنه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ما عند الله خير منك وثواب الله خير لك منهأن وأنا أسأل الله أن لا يحزنك ولا يفتنك وأن يعطيك على ما رزئت أجرأن ويعقبك صبرأن ولا يجهد لك بلاء ولا ينزع منك نعمة وأحق ما صبر عليه مالا سبيل إلى ردة‏.‏

وبويع لابنه موسى الهادي في اليوم الذي مات فيه المهدي وهومقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان ولما توفي المهدي كان الرشيد معه بماسبذان فأتاه الموالي والقواد وقالوا له‏:‏ إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب والرأي أن تنادي فيهم بالرجوع حتى تواريه ببغداد‏.‏

فقال هارون‏:‏ ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد وكان يحيى يتولى ما كان إلى الرشيد من أعمال المغرب من الأنبار إلى إفريقية فاستدعي يحيى إلى الرشيد فقال‏:‏ ما تقول فيما رأى هؤلاء وأخيره الخبر‏.‏

قال‏:‏ لا أرى ذلك لأن هذا لا يخفي ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله ويقولوا‏:‏ لا نخلي حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر ويتحكموا ويشتطوأن ولكني أرى أن يوارى رحمه الله هاهنأن وتوجه نصيرًا إلى أمير المؤمنين الهادي الخاتم والقضيب والتعزية والتهنئة فإن الناس لا ينكرون خروجه إذ هو على بريد الناحية وأن تأمر لمن تبعك من الجند بجوائز مائتين مائتين وتنادي فيهم بالرجوع فلا تكون لهم همة سوى أهلهم‏.‏

ففعل ذلك فلما قبض الجند الدراهم تنادوا‏:‏ بغداد بغداد‏!‏ وأسرعوا إليهأن فلما بلغوها وعلموا خبر المهدي أتوا باب الربيع وأحرقوه وأخرجوا من كان في الحبوس وطالبوا بالأرزاق‏.‏

فلما قدم الرشيد بغداد أرسلت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تستدعيهما لتشاورهما في ذلك فأما الربيع فدخل عليها وأما يحيى فامتنع لما يعلم من غيرة الهادي وجمع الأموال حتى وكتب الهادي إلى الربيع كتابًا يتهدده بالقتل وكتب إلى يحيى يشكره ويأمره بأن يقوم بأمر الرشيد‏.‏

وكان الربيع يود يحيى ويثق به‏.‏

فاستشاره فيما يفعل خوفًا من الهادي فأشار عليه بأن يرسل ولده الفضل إلى طريق الهادي بالهدايا والتحف ويعتذر إليه ففعل ورضي الهادي عنه‏.‏

وكان الربيع قد أوصى إلى يحيى بن خالد وأخذت البيعة للهادي ببغداد وكتب الرشيد إلى الآفاق بوفاة المهدي واخذ البيعة للهادي وسار نصير الوصيف إلى الهادي بجرجان فعلم بوفاة المهدي والبيعة له فنادى الرحيل وركل على البريد مجدأن فبلغ بغداد في عشرين يومأن ولما قدمها استوزر الربيع‏.‏

وفي هذه السنة أيضًا هلك الربيع‏.‏

وفيها اشتد طلب المهدي للزنادقة فقتل منهم جماعة علي بن يقطين وقتل أيضًا يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وكان سبب قتله أنه أتى به إلى المهدي فأقر بالزندقة فقال‏:‏ لوكان ما تقول حقًا لكنت حقيقًا أن تتعصب لمحمد ولولا محمد من كنت‏!‏ أما والله لولا أني جعلت على نفسي أن لا أقتل هاشميًا لقتلتك‏.‏

قم قال للهادي‏:‏ أقسمت عليك إن وليت هذا الأمر لتقتلنه‏!‏ ثم حبسه فلما مات المهدي قتله الهادي وكذلك أيضًا كان عهده إليه بقتل ولد لداود بن علي بن عبد الله بن عباس كان زنديقأن فمات في الحبس قبل المهدي‏.‏

ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادي فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيهأن فخوفت فماتت من الفزع‏.‏


ذكر ظهور الحسين بن علي بن الحسن

وفي هذه السنة ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة وهوالمقتول بفخ عند مكة‏.‏

وكان سبب ذلك أن الهادي استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جندب الشاعر الهذلي وعمر بن سلام مولى آل عمر على شراب لهم فأمر بهم فضربوا جميعأن وجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة فجاء الحسين بن علي إلى العمري وقال له‏:‏ قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم لأن أهل العراق لا يرون به بأسأن فلم تطوف بهم فأمر بهم فردوا وحبسهم‏.‏

ثم إن الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفلا الحسن بن محمد فأخرجه العمري من الحبس وكان قد ضمن بعض آل أبي طالب بعضأن وكانوا يعرضون فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين فأحضر الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله وسألهما عنه وأغلظ لهمأن فحلف له يحيى أنه لا ينام حتى يأتيه به أويدق عليه باب داره حتى يعلم أنه جاءه به‏.‏

فلما خرجا قال له الحسين‏:‏ سبحان الله‏!‏ ما دعاك إلى هذا ومن أين تجد حسنًا حلفت له بشيء لا تقدر عليه‏.‏

فقال‏:‏ والله لا منت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ إن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا في الميعاد‏.‏

وكانوا قد تواعدوا على ألا يظهروا بمنى وبمكة في الوسم فقال يحيى‏:‏ قد كان ذلك فانطلقا وعملا في ذلك في ليلتهم وخرجوا آخر الليل وجاء يحيى حتى ضرب على العمري باب داره فلم يجده وجاؤوا فاقتحموا المسجد وقت الصبح‏.‏

فلما صلى الحسين الصبح أتاه الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد وجاء خالد البريدي في مائتين من الجند وجاء العمري ووزير بن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشروي ومعهم ناس كثير فدنا خالد منهم فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن الحسن فضربه يحيى على أنفه فقطعه ودار له إدريس من خلفه فضربه فصرعه ثم قتلاه فانهزم أصحابه ودخل العمري في المسودة فحمل عليهم أصحاب الحسين فهزمزهم من المسجد وانتهبوا بيت المال وكان فيه بضعة عشر ألف دينار وقيل سبعون ألفأن وتفرق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم‏.‏

فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بني العباس فقاتلوهم وفشت الجراحات في الفريقين واقتتلوا إلى الظهر ثم افترقوا ثم إن مباركًا التركي أتى شيعة بني العباس من الغد وكان قدم حاجأن فقاتل معهم فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار ثم تفرقوأن ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد وواعد مبارك الناس الرواح إلى القتال فلما غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق وراح الناس فلم يجدوه فقاتلوا شيئًا من قتال إلى المغرب ثم تفرقوا‏.‏

وقيل إن مباركًا أرسل إلى الحسين يقول له‏:‏ والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير أيسر علي من أن تشوكك شوكة أوأقطع من رأسك شعرة ولكن لا بد من الأعذار فتبيتني فإلي منهزم عنك‏.‏

فوجه إليه الحسن وخرج إليه في نفر فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروأن فانهزم هو وأصحابه‏.‏

وأقام الحسين وأصحابه أيامًا يتجهزون فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يومأن ثم خرجوا لست بقين من ذي القعدة فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم فدعوا عليهم‏.‏

ولما فارق المدينة قال‏:‏ يا أهل المدينة‏!‏ لا خلف الله عليكم بخير‏.‏

فقالوا‏:‏ بل أنت لا خلف الله عليك ولا ردك علينا‏!‏ وكان أصحابه يحدثون في المسجد فغسله أهل المدينة‏.‏

ولما أتى الحسين مكة أمر فنودي‏:‏ أيما عبد أتانا فهوحر‏.‏

فأتاه العبيد‏.‏

فانتهى الخبر إلى الهادي وكان قد حج تلك السنة رجال من أهل بيته منهم‏:‏ سليمان بن المنصور ومحمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد بن علي وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى فكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب وكان قد سار بجماعة وسلاح من البصرة لخوف الطريق فاجتمعوا بذي طوى وكانوا قد احرموا بعمرة فلما قدموا مكة طاقوا وسعوأن وحلوا من العمرة وعسكروا بذي طوى وأنضم إليه من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم‏.‏

ثم إنهم اقتتلوا يوم التروية فانهزم أصحاب الحسين وقتل منهم وجرح وانصرف محمد بن سليمان ومن معه إلى مكة ولا يعلمون ما حال الحسين فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول‏:‏ البشرى البشرى هذا رأس الحسين‏!‏ فأخرجه وبجبهته ضربة طولى وعلى قفاه ضربة أخرى وكانوا قد نادوا الأمان فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله أبوالزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعباس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس بن محمد فقتلاه فغضب محمد بن سليمان غضبًا شديدأن وأخذ رؤوس القتلى فكانت مائة رأس ونيفأن وفيها رأس الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وأخذت أخت الحسين فتركت عند زينب بنت سليمان وغضب على موسى بن عيسى كيف قتل الحسن بن محمد وقبض أمواله فلم تزل بيده حتى مات وغضب على مبارك التركي وأخذ ماله وجعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات المهدي‏.‏

وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور وكان شيعيًا لعلي فحمله على البريد إلى أرض المغرب فوقع بأرض طنجة بمدينة وليلة فاستجاب له من بها من البربر‏.‏

فضرب الهادي عنق واضح وصلبه‏.‏

وقيل‏:‏ إن الرشيد هوالذي قتله‏.‏

وإن الرشيد دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم‏.‏

وعظمه وآثره على نفسه فمال إليه إدريس وأنزله عنده ثم إن إدريس شكا إليه مرضًا في أسنانه فوصف له دواء وجعل فيه سمأن وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر فأخذه منه وهرب الشماخ ثم استعمل إدريس الدواء فمات منه فولى الرشيد الشماخ بريد مصر‏.‏

ولما مات إدريس بن عبد الله خلف مكانه إبنه إدريس وأعقب بهأن وملكوهأن ونازعوا بني أمية في إمارة الأندلس على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وحملت الرؤوس إلى الهادي فلما وضع رأس الحسين بين يدي الهادي قال‏:‏ كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت‏!‏ إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم فلم يعطهم شيئًا‏.‏

وكان الحسين شجاعا أن كريماأن قدم على المهدي فأعطاه أربعين ألف دينار ففرقها في الناس ببغداد والكوفة وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فروًا ليس تحته قميص‏.‏


ذكر عدة حوادث وغزا الصائفة

هذه السنة معيوف بن يحيى من درب الراهب وقد كانت الروم قبل ذلك جاؤوا مع بطريقهم إلى الحدث فهرب الوالي وأهل السوق فدخلها الروم فقصدهم معيوف فبلغ مدينة أشنة فغمن وسبى‏.‏

وحج بالناس هذه السنة سليمان بن منصور وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني وعلى عمان الحسن بن نسيم الحواري وعلى الكوفة موسى بن عيسى وعلى البصرة محمد بن سليمان وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي

وعلى قومس زياد بن حسان وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي وعلى الموصل هاشم ين سعيد بن خالد فأساء السيرة في أهلهأن فعزله الهادي وولاها عبد الملك بن صالح الهاشمي‏.‏

وفيها خرج الجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي وعلى خراجها منصور ين زياد فسير جيشًا إلى الخارجي فالتقوا بباعربايأن من بلد الموصل فهزمهم الخارجي وغمن أموالهم وقوي أمره في رجلان وصحباه ثم اغتالاه فقتلاه‏.‏

وفيها مات مطيع بن إياس الليثي الكناني الشاعر وأبوعبيد الله معاوية بن عبد الله بن بشار الأشعري مولاهم وكان وزير المهدي وقيل مات سنة سبعين ومائة‏.‏

وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقرئ صاحب القراءة أحد القراء السبعة والربيع بن يونس صاحب المنصور مولاه‏.‏


حوادث سنة سبعين ومائة

ذكر ما جرى للهادي في خلع الرشيد


كان الهادي قد جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر وكان السبب في ذلك أن الهادي لما عزم على خلعه ذكر لقواده فأجابه إليه يزيد بن مزيد الشيباني وعبد الله بن مالك وعلي بن عيسى وغيرهم فخلعوا هارون وبايعوا لجعفر ووضعوا الشيعة فتكلموا في ذلك وتنقصوا بالرشيد في مجلس الجماعة وقالوا لا نرضى به وصعب أمرهم وأمر الهادي أن لا يسار بين يدي هارون بالحربة فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه‏.‏

وكان يحيى بن خالد بن برمك يتولى أمور الرشيد بأمر الهادي فقيل للهادي‏:‏ ليس عليك من أخيك خلاف إمنا يحيى يفسده فبعث إليه وتهدده ورماه بالكفر ثم إنه استدعاه ليلة فخاف وأوصى وتحنط وحضر عنده فقال له‏:‏ يا يحيى‏!‏ مالي وما لك قال‏:‏ ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته‏.‏

قال‏:‏ لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي قال‏:‏ من أنا حتى أدخل بينكما إمنا صيرني المهدي معه ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك‏.‏

فسكن غضبه‏.‏

وقد كان هارون طاب نفسًا بالخلع فمنعه يحيى عنه‏.‏

فلما أحضره الهادي وقال له في ذلك قال يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة‏.‏قال‏:‏ صدقت وسكت عنه‏.‏

فعاد أولئك الذين بايعوه من القواد والشيعة فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع فاحضر يحيى وحبسه فكتب إليه‏:‏ إن عندي نصيحة فأحضره فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أرأيت إن كان الأمر الذي لا يبلغه ونسأل الله أن يقدمنا قبله يعني موت الهادي أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهولم يبلغ الحنث أويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم قال‏:‏ ما أظن ذلك‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أفنأمن أن يسموإليها أكابر أهلك مثل فلان ويطمع فيها غرهم فتخرج من ولد أبيك والله لوأن هذا الأمر لم يعقده المهدي لأخيك لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي له‏!‏ ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك فإذا بلغ جعفر أتيته بالرشيد فخلع نفسه له وبايعه‏.‏

فقبل قوله وقال‏:‏ نبهتني على أمر لم أنتبه له‏.‏

وأطلقه‏.‏

ثم إن أولئك القواد عاودوا القول فيه فأرسل الهادي إلى الرشيد في ذلك وضيق عليه فقال له يحيى‏:‏ استأذنه في الصيد فإذا خرجت فأبعد ودافع الأيام‏!‏ ففعل ذلك وأذن له فمضى إلى قصر بني مقاتل فأقام أربعين يوما أن فأنكر الهادي أمره وخافه فكتب إليه بالعود فتعلل عليه فأظهر الهادي شتمه وبسط مواليه وقواده فيه ألسنتهم فلما طال الأمر عاد الرشيد وقد كان الهادي في أول خلافته جلس وعنده نفر من قواده وعنده الرشيد وهوينظر إليه ثم قال له‏:‏ يا فقال له هارون‏:‏ يا موسى إنك إن تجبرت وضعت وإن تواضعت رفعت وإن ظلمت قتلت وإن أنصفت سلمت وإني لأرجوأن يفضي الأمر إلي فأنصف من ظلمت وأصل من قطعت وأجعل أولادك أعلى من أولادي وأزوجهم بناتي وأبلغ ما تحب من حق الإمام المهدي‏.‏

فقال له الهادي‏:‏ ذلك الظن بأنك يا أبا جعفر ادن مني‏!‏ فدنا منه وقبل يده ثم أرد العود إلى مكانه فقال‏:‏ لا والشيخ الجليل والملك النبيل اعني المنصور لا جلست إلا معي فأجلسه في صدر مجلسه ثم أمر أن يحمل إليه ألف ألف دينار وأن يعمل إليه نصف الخراج وقال لإبراهيم الحراني‏:‏ اعرض عليه ما في الخزائن من مالنأن وما أخذ من أهل بيت اللعنة يعني بني أمية فيأخذ منه ما أراد فليأخذ منه ما أراد‏.‏

ففعل ذلك‏.‏

فقام عنه‏.‏

وسئل الرشيد عن الرؤي أن فقال‏:‏ قال المهدي‏:‏ رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى وإلى هارون قضيبأن فأورق من قضيب موسى أعلاه وأوراق قضيب هارون من أوله إلى آخره فعبرت لهما أنهما يملكان معأن فأما موسى فقتل أيامه وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة وتكون أيامه أحسن أيام ودهره أحسن دهر فكان كذلك‏.‏

و ذكر أن الهادي خرج إلى حديثه الموصل فمرض بهأن واشتد مرضه وانصرف وكتب إلى جميع عماله شرقًا وغربًا بالقدوم إليه فلما ثقل أجمع القواد الذين كانوا بايعوا جعفرأن وتآمروا في قتل يحيى بن خالد وقالوا‏:‏ إن صار الأمر إليه قتلنأن وعزموا على ذلك ثم قالوا‏:‏ لعل الهادي يفيق فما عذرنا عنده فأمسكوأن ولما اشتد مرض الهادي أرسلت الخيزران إلى يحيى تأمره بالاستعداد فأحضر يحيى كتابأن فكتبوا الكتب من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي وأنه قد ولاهم ما كان ويكون فلما مات الهادي سيرت الكتب‏.‏

وقيل إن يحيى كان محبوسًا‏.‏

وكان الهادي قد عزم على قتله تلك الليلة وإن هرثمة بن أعين هوالذي أقعد الرشيد على ما سنذكره‏.‏

ولما مات الهادي قالت الخيزران‏:‏ قد كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة ويملك خليفة ويولد خليفة فمات الهادي وولي الرشيد وولد المأمون وكانت الخيزران قد أخذت العلم من الأوزاعي وكان موت الهادي بعيساباذ‏.‏


ذكر وفاة الهادي

وفي هذه السنة توفي الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ربيع الأول‏.‏

واختلف في سبب وفاته فقيل كان سببها قرحة كانت في جوفه وقيل مرض بحديثه الموصل وقيل إن وفاته كانت من قبل جوار لأمه الخيزران كانت أمرتهن بقتله وكان سبب أمرها بذلك أنه لما ولي الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه وتسلك به مسلك المهدي حتى مضى أربعة أشهر فانثال الناس إلى بابهأن وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابهأن فكلمته يومًا في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلأن فقالت‏:‏ لا بد من إجابتي إليه فإنني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك‏.‏

فغضب الهادي وقال‏:‏ ويلي على ابن الفاعلة‏!‏ قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها لك‏.‏

قالت‏:‏ إذًا والله لا أسألك حاجة أبدًا قال‏:‏ لا أبالي والله وغضبت فقامت مغضبة فقال‏:‏ مكانك والله وإلا أنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله‏.‏

ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك أما لك مغزل يشغلك أومصحف يذكرك أوبيت يصونك إياك‏!‏ وإياك‏!‏ لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي‏.‏

فانصرفت وهي لا تعقل فلم تنطق عنده بعدها‏.‏

ثم إنه قال لأصحابه‏:‏ أيما خير أنا أم أنتم وأمي أم أمهاتكم قالوا‏:‏ بل أنت وأمك خير‏.‏

قال‏:‏ فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقال‏:‏ فعلت أم فلان وصنعت قالوا‏:‏ لا نحب ذلك‏.‏

قال‏:‏ فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها‏.‏

ثم بعث بأرز وقال‏:‏ قد استطبتهأن فكلي منها‏.‏

فقيل لها‏:‏ أمسكي حتى تنظري‏!‏ فجاؤوا بكلب فأطعموه فسقط لحمه لوقته فأرسل إليها‏:‏ كيف رأيت الأرز قالت‏:‏ طيبًا‏.‏

قال‏:‏ ما أكلت منهأن ولوأكلت منها لاسترحت منك متى أفلح خليفة له أم‏!‏ وقيل‏:‏ كان سبب أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على الرشيد فوضعت جواريها عليه لما مرض فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه فمات فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته‏.‏

ذكر وفاته ومبلغ سنه وصفته وأولاده

كانت وفاته ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول وقيل لأربع عشرة خلت من ربيع الأول وقيل لست عشرة منه وقيل كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وقيل كان أربعة عشر شهرًا وكان عمره ستًا وعشرين سنة وقيل ثلاثًا وعشرين سنة وصلى عليه الرشيد‏.‏

وكانت كنيته أبا محمد وأمه الخيزران أم ولد ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه‏.‏

وكان طويلا جسيمًا أبيض مشربًا حمرة وكانت بشفته العليا نقص وتقلص‏.‏

وكان له من الأولاد تسعة‏:‏ سبعة ذكور وابنتان فمن الذكور جعفر وهوالذي كان يريد البيعة له والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم لأمهات أولاد والابنتان أم عيسى كانت عند المأمون وأم العباس وكانت تلقب نونة‏.‏

ذكر بعض سيرته

تأخر الهادي عن المظالم ثلاثة أيام فقال له الحراني‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إن العامة لا تحتمل هذا فقال لعلي بن صالح‏:‏ إيذن للناس علي بالجفلى لا بالنقري فخرج من عنده ولم يفهم قوله ولم يجسر على مراجعته فأحضر أعرابيًا فسأله عن ذلك فقال‏:‏ الجفلى أن تأذن لعامة الناس فأذن لهم فدخل الناس عن آخرهم ونظر في أمورهم إلى الليل فلما تقوض المجلس له علي بن صالح ما جرى له وسأله مجازاه الأعرابي فأمر له بمائة ألف درهم فقال علي‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إنه أعرابي ويغنيه عشرة آلاف‏.‏

فقال‏:‏ يا علي أجود أنا وتبخل أنت‏!‏ وقيل‏:‏ خرج يومًا إلى عيادة أمه الخيزران وكانت مريضة فقال له عمر بن ربيع‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ألا أدلك على ما هو أنفع لك من هذا تنظر في المظالم‏.‏

فرجع إلى دار المظالم وأذن للناس وأرسل إلى أمه يتعرف أخبارها‏.‏

وقيل‏:‏ كان عبد الله بن مالك يتولى شرطة المهدي قال‏:‏ فكان المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنيه وحبسهم صيانة له عنهم فكنت أفعل وكان الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم ولا أفعل فلما ولي الهادي أيقنت بالتلف فاستحضرني يوما فدخلت إليه متحنطًا متكفنًا وهوعلى كرسي والسيف والنطع بين يديه فسلمت فقال‏:‏ لا سلم الله عليك‏!‏ أت ذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وضربه فلم تجبني وفي فلا وفلان فعدد ندماءه فلم تلتفت إلى قولي‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏!‏ أفتأذن في ذكر الحجة قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني المهدي وأمرتني بما أمر فبعث إلي بعض بنيك بما يخالف أمرك فاتبعت أمره وخالفت أمرك قال‏:‏ لا‏!‏ قلت‏:‏ فكذلك أنا لك وكذا كنت لأبيك‏.‏

فاستدناني فقبلت يده ثم أمر لي بالخلع وقال‏:‏ وليتك ما كنت تتولاه فامض راشدًا‏!‏ فصرت إلى منزلي مفكرًا في أمري وأمره وقلت‏:‏ حدث يشرب والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه‏.‏

قال‏:‏ فإني لجالس وعندي بنية لي والكانون بين يدي ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأطعم الصبية وآكل وإذا بوقع الحوافر فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعها ولكثرة الضوضاء فقلت‏:‏ هذا ما كنت أخافه‏.‏

وإذا الباب قد فتح وإذا الخدم قد دخلوا وإذا الهادي في وسطهم على دابته فلما رأيته وثبت فقبلت يده ورجله وحافر دابته فقال لي‏:‏ يا أبا عبد الله‏!‏ إني فكرت في أمرك فقلت يسبق إلى وهمك أنني إذا شربت وحولي أعداؤك أزالوا حسن رأيي فيك فيقلقك ذلك فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن ما كان عندي لك من الحقد قد زال فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك فيزول خوفك‏.‏

فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ فأكل ثم قال‏:‏ هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها فقال‏:‏ هذه لك فاستعن بها على أمرك واحفظ هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري ثم انصرف‏.‏

قيل‏:‏ وكان يعقوب بن داود يقول‏:‏ ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى بن ماهان فأنه دخل إلي الحبس وقال لي‏:‏ أمرني أمير المؤمنين الهادي أن أضربك مائة سوط‏.‏

فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مسًا إلى أن عد مائة سوط ثم خرج فقال‏:‏ فقال له الهادي‏:‏ ما صنعت به قال‏:‏ صنعت الذي أمرتني به وقد مات الرجل‏.‏

فقال الهادي‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون فضحتني والله عند الناس يقولون‏:‏ قتل يعقوب بن داود فلما رأى شدة جزعه قال‏:‏ هو والله حي يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ الحمد لله على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ كان إبراهيم بن سلم بن قتيبة من الهادي بمنزلة عظيمة فمات له ولد فأتاه الهادي يعزيه فقال له‏:‏ يا إبراهيم‏!‏ سرك وهو عدو وفتنة وحزنك وهو صلاة ورحمة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ما بقي مني جزء فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء فلما مات إبراهيم صارت منزلته لسعيد بن سلم‏.‏

قيل‏:‏ كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب الجزري قد تزوج رقية بنت عمروالعثمانية وكانت قبله تحت المهدي فبلغ ذلك الهادي فأرسل إليه وحمل إليه وقال له‏:‏ أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين قال‏:‏ ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأما غيرهن فلأن ولا كرامة فشجه بمحضرة كانت في يده وجلده خمسمائة سوط وأراده أن يطلقها أن فلم يفعل وكان قد غشي عليه من الضرب وكان في يده خاتم نفيس فأهوى بعض الخدم على الخاتم ليأخذه فقبض على يده فوقها فصاح وأتي الهادي فأراه يده فغضب وقال‏:‏ تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت قال‏:‏ سله واستحلفه أن يصدقك ففعل‏.‏

فأخبره الخادم وصدقه فقال‏:‏ أحسن الله أشهد أنه ابن عمي ولولم يفعل ذلك لانتفيت منه‏.‏

وأمر بإطلاقه‏.‏

قيل‏:‏ وكان المهدي قد قال للهادي يوما وقد قدم إليه زنديق فقتله وأمر بصلبه‏:‏ يا بني إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة يعني أصحاب ماني فإنها تدعوالناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجأن ثم تخرجها إلى عبادة اثنين‏:‏ أحدهما النور والآخر الظلمة ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور فارفع فيها الخشب وجرد السيف فيهأن وتقرب بأمرها إلى الله فإني رأيت جدي العباس رضي الله عنه في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين‏.‏

فلما ولي الهادي قال‏:‏ لأقتلن هذه الفرقة‏.‏

وأمر أن يهيأ له ألف جذع‏.‏

فمات بعد هذا القول بشهرين‏.‏

قيل‏:‏ وكان عيسى بن دأب من أكثر أهل الحجاز أدبا وأعذبهم ألفاظا وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله وكان يدعوله بما يتكئ عليه في مجلسه وما كان يفعل ذلك بغيره وكان يقول له‏:‏ ما استطلت بك يومًا ولا ليلأن ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غيرك وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانه إلى الحاجب في قبضهأن فقال الحاجب‏:‏ هذا ليس إلي فانطلق إلى صاحب التوقيع وإلى الديوان فبيمنا الهادي في مستشرف له ببغداد رأى دأب وليس معه إلا غلام واحد فقال للحراني‏:‏ ألا ترى ابن دأب ما غير حاله وقد وصلناه ليرى أثرنا عليه فقال‏:‏ إن أمرتني عرضت له بالحال‏.‏

فقال‏:‏ لأن هوأعلم بحاله‏.‏

ودخل ابن دأب وأخذ في حديثه فعرض له الهادي بشيء وقال‏:‏ أرى ثوبك غسيلا وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد‏.‏

فقال‏:‏ باعي قصير‏!‏ فقال‏:‏ وكيف وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك فقال‏:‏ ما وصل إلي شيء‏.‏ فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال‏:‏ عجل الساعة ثلاثين ألف دينار فأحضرت وحملت بين يديه‏.‏

ذكر خلافة الرشيد بن المهدي

وفي هذه السنة بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي وكان عمره حين ولي اثنتين وعشرين سنة وأمه الخيزران أم ولد يمانية جرشية وكان مولده بالري في آخر ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة وقيل‏:‏ ولد مستهل محرم سنة تسع وأربعين‏.‏

وكان مولد الفضل بن يحيى البرمكي قبله بسبعة أيام وأرضعت أم ابن يحيى الرشيد وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد‏.‏

ولما مات الهادي كان يحيى بن خالد البرمكي محبوسا في قول بعضهم وكان الهادي عازمًا على قتله فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة فأرسل الرشيد إلى يحيى فأخرجه من الحبس واستوزره وأمر بإنشاء الكتب إلى الأطراف بجلوسه للخلافة وموت الهادي‏.‏

وقيل‏:‏ لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهونائم في فراشه فقال له‏:‏ قم يا أمير المؤمنين‏!‏ فقال‏:‏ كم تروعني إعجابًا منك بخلافتي فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه فبيمنا هويكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشره بمولود فسماه عبد الله وهوالمأمون ولبس ثيابه وخرج فصلى على الهادي بعيساباذ وقتل أبا عصمة وسار إلى بغداد‏.‏

وكان سبب قتل أبي عصمة أن الرشيد كان سائرًا هو وجعفر بن الهادي فبلغا قنطرة من قناطر عيساباذ فقال له أبوعصمة‏:‏ مكانك حتى يجوز ولي العهد‏!‏ فقال الرشيد‏:‏ السمع والطاعة للأمير‏!‏ ووقف حتى جاز جعفر فكان هذا سبب قتله‏.‏

ولما وصل الرشيد إلى بغداد وبلغ الجسر دعا الغواصين وقال‏:‏ كان المهدي قد وهب لي خاتمًا شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل فأتاني رسول الهادي يطلب الخاتم وأنا هاهنا فألقيته في الماء فغاصوا عليه وأخرجوه فسر به‏.‏

ولما مات الهادي هجم خزيمة بن حازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه وقال له‏:‏ لتخلعنها أولأضربن عنقك فأجاب إلى الخلع وركب من الغد خزيمة وأظهر جعفرًا للناس فأشهدهم بالخلع وأحل الناس من بيعتهم فحظي بها خزيمة‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها ولد الأمين واسمه محمد في شوال فكان المأمون أكبر منه‏.‏

وفيها استوزر الرشيد يحيى بن خالد وقال له‏:‏ قد قلدتك أمر الرعية فاحكم فيها بما ترى واعزل من رأيت واستعمل من رأيت ودفع إليه خاتمه‏.‏

فقال إبراهيم الموصلي في ذلك‏:‏ ألم تر أن الشمس كانت سقيمة فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندي فهارون واليها ويحيى وزيرها وكان يحيى يصدر عن أمر الخيزران أم الرشيد‏.‏

وفيها توفي يزيد بن حاتم المهلبي والي إفريقية واستخلف عليها ابنه داود وانتقضت جبال باجة وخرج فيها الإباضية فسير إليهم داود جيشا فظفر بهم الإباضية وهزمزهم فجهز إليهم جيشًا آخر فهزمت الإباضية فتبعهم الجيش فقتلوا منهم فأكثروا وبقي داود أميرًا إلى أن وفيها عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة على ساكنها السلام واستعمل عليها إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها ظهر من كان مستخفيا منهم طباطبا العلوي وهوإبراهيم بن إسماعيل وعلي بن الحسين بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وبقي نفر من الزنادقة لم يظهروا منهم‏:‏ يونس بن فروة ويزيد بن الفيض‏.‏

وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزًا واحدا وسميت العواصم وأمر بعمارة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس‏.‏

وحج بالناس الرشيد وقسم بالحرمين عطاء كثيرًا وقيل إنه غزا الصائفة بنفسه وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله البكائي‏.‏

وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم وعلى الكوفة موسى بن عيسى وعلى البصرة والبحرين واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي وكان على خراسان الفضل بن سليمان الطوسي وعلى الموصل عبد الملك‏.‏

وفيها أوقع عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ببرابر نفزة فأذلهم وقتل فيهم‏.‏

وفيها أمر عبد الرحمن ببناء جامع قرطبة وكان موضعه كنيسة وأخرج عليه مائة ألف دينار‏.‏

ذكر وفاة عبد الرحمن الأموي

وفيها مات عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس في ربيع الآخر وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة وهوأصح وكان مولده بأرض دمشق وفيها بالعلياء من ناحية تدمر سنة ثلاث عشرة ومائة وكان موته بقرطبة وصلى عليه ابنه عبد الله وكان عهد إلى ابنه هشام وكان هشام بمدينة ماردة واليًا عليها وكان ابنه سليمان بن عبد الرحمن وهوالأكبر بطليطلة واليًا عليها فلم يحضرا موت أبيهما وحضره عبد الله المعروف بالبلنسي وأخذ البيعة لأخيه هشام وكتب إليه بنعي أبيه وبالإمارة فسار إلى قرطبة‏.‏

وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثًا وثلاثين سنة وأشهرا وكانت كنيته أبا المطرف وقيل‏:‏ أبا سليمان وقيل‏:‏ أبا زيد وكان له من الولد‏:‏ أحد عشر ذكرا وتسع بنات وكانت أمه بربرية من سبي إفريقية‏.‏

وكان أصهب خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم أعور له ضفيرتان وكان فصيحًا لسنا شاعرا حليما عالما حازما سريع النهضة في طلب الخارجين عليه لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمور إلى غيره ولا ينفرد في الأمور برأيه شجاعًا مقدامًا بعيد الغور شديد الحذر سخيأن جوادأن يكثر لبس البياض وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته وضبط المملكة‏.‏

وبنى الرصافة بقرطبة تشبهًا بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام ولما سكنها رأى فيها نخلة منفردة فقال‏:‏ تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت‏:‏ شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بني وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي سقتك غوادي المزن من صوبها الذي يسح ويستمري السماكين بالوبل وقصده بنوأمية من المشرق فمن المشهورين‏:‏ عبد الملك بن عمر بن مروان وهوقعدد بني أمية وهوالذي كان سبب قطع الدعوة العباسية بالأندلس على ما تقدم وكان معه أحد عشر ولدًا له‏.‏

ذكر إمارة ابنه هشام

كان عبد الرحمن قد عهد إلى ابنه هشام ولم يكن أكبر ولده فإن سليمان كان أكبر منه وإمنا ولما توفي أبوه كان هوبماردة متوليًا لها وناظرًا في أمرهأن وكان أخوه سليمان وهوأكبر منه بمدينة طليطلة وكان يروم الأمر لنفسه ويحسد أخاه هشامًا على تقديم والده له عليه وأضمر له الغش والعصيان وكان أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي حاضرًا بقرطبة عند والده‏.‏

فلما توفي جدد عبد الله البيعة لأخيه هشام بعد أن صلى على والده وكتب إلى أخيه هشام يعرفه موت والده والبيعة له فسار من ساعته إلى قرطبة فدخلها في ستة أيام واستولى على الملك وخرج عبد الله إلى داره مظهرًا لطاعته وفي نفسه غير هذأن وسن ذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر الصحصح الخارجي

وفيها خرج الصحصح الخارجي بالجزيرة وكان عليها أبوهريرة فوجه عسكرًا إلى الصحصح فلقوه فهزمهم وسار الصحصح إلى الموصل فلقيه عسكرها بباجرمى فقتل منهم كثيرأن ورجع إلى الجزيرة فغلب على ديار ربيعة فسير الرشيد إليه جيشًا فلقوه بدورين فقتلوه وعزل الرشيد أبا هريرة عن الجزيرة‏.‏

ذكر قتل روح بن صالح

وفيها استعمل الرشيد على صدقات بني تغلب روح بن صالح الهمداني وهومن قواد الموصل فجرى بينه وبين تغلب خلاف فجمع جمعا وقصدهم فبلغهم الخبر فاجتمعوأن وساروا إلى روح فبيتوه فقتل هو وجماعة من أصحابه فسمع حاتم بن صالح وهوبالسكير فجمع جمعًا كثيرأن وسار إلى تغلب فبيتهم وقتل منهم خلقًا كثيرأن وأسر مثلهم‏.‏

وفيها عزل الرشيد بن الملك بن صالح الهاشمي عن الموصل واستعمل عليها إسحاق بن محمد‏.‏

ذكر استعمال روح بن حاتم على إفريقية

وفيها استعمل الرشيد على إفريقية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة لما بلغه وفاة أخيه يزيد بن حاتم بهأن على ما ذكرناه فقدمها في رجب وكان داود بن يزيد أخيه على إفريقية فلما وصل عمه روح ساد داود إلى الرشيد فاستعمله‏.‏

قال روح‏:‏ كنت عاملًا في فلسطين فأحضرني الرشيد فوصلت وقد بلغه موت أخي يزيد فقال‏:‏ أحسن الله عزاءك في أخيك وقد وليتك مكانه لتحفظ صنائعه ومواليه‏.‏

فسار إليهأن ولم تزل البلاد معه آمنة ساكنة من فتنة لأن أخاه يزيد كان قد أكثر القتل في الخوارج بإفريقية فذلوا‏.‏

ثم توفي روح بالقيروان ودفن إلى جانب قبر أخيه يزيد وكانت وفاته في رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ولما استعمل المنصور يزيد بن حاتم على إفريقية استعمل أخاه روحًا على السند فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد باعدت ما بين قبريهما فتوفي يزيد بالقيروان ثم وليها روح فتوفي بها ودفن إلى جانب أخيه يزيد‏.‏

وكان روح أشهر بالشرق من يزيد ويزيد أشهر بالغرب من روح لطول مدة ولايته وكثرة خروجه فيها والخارجين عليه‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها قدم أبوالعباس الفضل بن سليمان الطوسي من خراسان واستعمل الرشيد عليها جعفر بن محمد بن الأشعث فلما قدم خراسان سير ابنه العباس إلى كابل فقاتل أهلها حتى افتتحهأن ثم افتتح سانهار وغمن ما كان بها‏.‏

وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ وكان على الجزيرة فوجه إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلى بغداد وقتله‏.‏

وفيها أمر الرشيد بإخراج الطالبيين من بغداد إلى مدينة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلا العباس وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبوخالد المروروذي‏.‏

وفيها قدم روح بن حاتم إفريقية‏.‏

وحج بالناس هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائة

ذكر خروج سليمان وعبد الله على هشام


في هذه السنة وقيل سنة ثلاث وسبعين ومائة وهو الصحيح خرج سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أمير الأندلس عن طاعة أخيهما هشام بالأندلس وكان هشام قد ملك بعد أبيه كما ذكرناه فلما استقر له الملك كان معه أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي وكان هشام يؤثره ويبره ويقدمه فلم يرض عبد الله إلا بالمشاركة في أمره‏.‏

ثم إنه خاف من أخيه هشام فمضى هاربًا إلى أخيه سليمان وهو بطليطلة فلما خرج من قرطبة أخرج هشام جمعًا في أثره ليردوه فلم يلحقوه فجمع هشام عساكره وسار إلى طليطلة فحضر أخويه بهأن وكان سليمان قد جمع وحشد خلقًا كبيرأن فلما حصرهما هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلد وسار هو إلى قرطبة ليملكه أن فعلم وسار سليمان فوصل إلى شقندة فدخلها وخرج إليه أهل قرطبة مقاتلين ودافعين عن أنفسهم‏.‏

ثم إن هشامًا سير في أثره ابنه عميد الملك في قطعة من الجيش فلما قاربه مضى سليمان هارب أن فقصد مدينة ماردة فخرج إليه الوالي بها لهشام فحاربه فانهزم سليمان وبقي هشام على طليطلة شهرين وأيامًا محاصرًا لها ثم عاد عنه أن وقد قطع أشجارها وسار إلى قرطبة فأتاه أخوه عبد الله بغير أمان فأكرمه وأحسن إليه‏.‏

فلما دخلت سنة أربع وسبعين سير هشام ابنه معاوية في جيش كثيف إلى تدمير وبها سليمان فحاربه وخربوا أعمال تدمير ودوخوا أهلها ومن بهأن وبلغوا البحر فخرج سليمان من تدمير هارب أن فلجأ إلى البرابر بناحية بلنسية فاعتصم بتلك الناحية الوعرة المسلك فعاد معاوية إلى قرطبة‏.‏

ثم أن الحال استقر بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن تركة أبيه عبد الرحمن فسار إلى بلد البرابر فأقام به‏.‏

وفيها خرج بالأندلس أيضًا سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بشاغنت من أقاليم طرطوشة في شرق الأندلس وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه كما تقدم ودعا إلى اليمانية وتعصب لهم فاجتمع لهم خلق كثير وملك مدينة طرطوشة وأخرج عامله يوسف القيسي فعارضه موسى بن فرتون وقام بدعوة هشام ووافقته مضر فاقتتلأن فانهزم سعيد وقتل وسار موسى إلى سرقسطة فملكهأن فخرج عليه مولى للحسين بن يحيى اسمه جحدر في جمع كثير فقاتله وقتل موسى‏.‏

وخرج أيضًا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة وخرج معه جمع كثير فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقه وتغلب على تلك الناحية وقوي أمره وكان هشام مشغولًا بمحاربة أخويه سليمان وعبد الله‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها عزل الرشيد إسحاق بن محمد عن الموصل واستعمل سعيد بن سلم الباهلي وعزل الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة وهو ابن أخي معن بن زائدة عن أرمينية واستعمل عليها أخاه عبيد الله بن المهدي‏.‏

وفيها وضع الرشيد على أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف‏.‏

وحج بالناس يعقوب بن المنصور‏.‏

وفيها مات الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهوأخوعبد الملك وتوفي سليمان بن بلال مولى ابن أبي عتيق وتوفي أبويزيد رباح بن يزيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان وكان مجاب الدعوة‏.‏

حوادث سنة ثلاث وسبعين ومائة

فيها توفي محمد بن سليمان بن علي بالبصرة فأرسل الرشيد من قبض تركته وكانت عظيمة من المال والمتاع والدواب فحملوا منه ما يصلح للخلافة وتركوا مال لا يصلح‏.‏

وكان من جملة ما أخذوا ستون ألف ألف فلما قدموا بذلك عليه أطلق منه للندماء والمغنين شيئًا كبير أن ورفع الباقي إلى خزانته‏.‏

وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى الرشيد حسدًا له ويقول‏:‏ إنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدث به نفسه يعني الخلافة وإن أمواله حل طلق لأمير المؤمنين وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه فلما توفي محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر أخيه واحتج عليه بهأن ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غير جعفر فأقر بهأن فلهذا قبضت أمواله‏.‏

وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد فحمل الرشيد جنازتها ودفنها في مقابر قريش ولما فرغ من دفنها أعطى الخاتم الفضل بن الربيع وأخذه من جعفر بن يحيى بن خالد‏.‏

وفيها استقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان واستعمل عليها ابنه العباس بن جعفر وحج بالناس الرشيد أحرم من بغداد‏.‏

وفيها مات مورقاط ملك جليقية من بلاد الأندلس وولي بعده برمند بن قلورية القس ثم تبرأ من الملك وترهب وجعل ابن أخيه في الملك وكان ملك ابن أخيه سنة خمس وسبعين ومائة‏.‏

وفيها توفي سلام بن أبي مطيع بتشديد اللام وجريرية بن أسماء بن عبيد البصري ومروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري أبوعبد الله وكان موته بمكة فجاءة‏.‏

حوادث سنة أربع وسبعين ومائة

وفيها استعمل الرشيد إسحاق بن سليمان على السند ومكران‏.‏

وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف وأبوه حي‏.‏

وفيها هلك روح بن حاتم وسار الرشيد آل الجودي ونزل بقردي وبازبدى من أعمال جزيرة ابن عمر فابتنى بها قصرًا‏.‏

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح‏.‏

وحج بالناس الرشيد فقسم في الناس مالًا كثيرًا‏.‏

وفيها عزل علي بن مسهر عن قضاء الموصل وولي القضاء بها إسماعيل بن زياد الدولابي‏.‏

حوادث سنة خمس وسبعين ومائة

في هذه السنة عقد الرشيد لابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد ولقبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين‏.‏

وكان سبب البيعة أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد فسأله في ذلك وقال له‏:‏ إنه ولدك وخلافته لك‏.‏

فوعده بذلك وسعى فيهأن حتى بايع الناس له بولاية العهد‏.‏

وفيها عزل الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر وولاها خالدًا الغطريف بن عطاء‏.‏

وغزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ أقريطية وقيل غزاها عبد الملك نفسه وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن ين علي إلى الديلم فتحرك هناك وحج بالناس هذه السنة هارون الرشيد‏.‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏