المجلد الخامس - ذكر الفتنة بطرابلس الغرب

في هذه السنة كثر شغب أهل طرابلس الغرب على ولاتهم وكان إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية قد استعمل عليهم عدة ولاة فكانوا يشكون من ولاتهم فيعزلهم ويولي غيرهم فاستعمل عليهم هذه السنة سفيان بن المضاء وهي ولايته الرابعة فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم وإعادته إلى القيروان فزحفوا إليه فأخذ سلاحه وقاتلهم هو وجماعة ممن معه فأخرجوه من داره فدخل المسجد الجامع فقاتلهم فيه فقتلوا أصحابه ثم أمنوه فخرج عنهم في شعبان من هذه السنة فكانت ولايته سبعًا وعشرين يومًا‏.‏

واستعمل الجند الذين بطرابلس على البلد وأهله إبراهيم بن سفيان التميمي‏.‏

ثم وقع بين الأبناء بطرابلس أيضًا وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة وقتال حتى فسدت طرابلس فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب فأرسل جمعًا من الجند وأمرهم أن يحضروا الأبناء وبني أبي كنانة وبني يوسف فأحضروهم عنده بالقيروان في ذي الحجة فلما قدموا عليه سألوه العفوعنهم في الذي فعلوه فعفا عنهم فعادوا إلى بلدهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها كان الفداء بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به‏.‏

وحج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها ولى الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان والري ودنباوند وقومس وهمذان وهومتوجه إلى الري فقال أبوالعتاهية في مسيره إليها وكان الرشيد ولد بها‏:‏ إن أمين الله في خلقه حن به البر إلى مولده ليصلح الري وأقطارها ويمطر الخير بها من يده وفيها مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة وحميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي أبوعوف وسابق بن عبد الله الموصلي وكان من الصالحين البكائين من خشية

حوادث سنة تسعين ومائة

ذكر خلع رافع بن الليث بن نصر


وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بما وراء النهر مخالفًا للرشيد بسمرقند‏.‏

وكان سبب ذلك أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان وكانت ذات يسار ولسان ثم تركها بسمرقند وأقام ببغداد واتخذ السراري فلما طال ذلك عليها أرادت التخلص منه وبلغ رافعًا خبرها فطمع فيها وفي مالها فدس إليها من قال لها‏:‏ إنه لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قومًا أنها أشركت بالله ثم تتوب فينفسخ نكاحها وتحل للأزواج ففعلت ذلك وتزوجها رافع‏.‏

فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فشكا إلى الرشيد فكتب إلى علي بن عيسى بن ماهان يأمره أن يفرق بينهما وأن يعاقب رافعا ويجلده الحد ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار ليكون عظة لغيره ففعل به ذلك ولم يحده وطلقها رافع وحبس بسمرقند فهرب من الحبس فلحق بعلي بن عيسى ببلخ فأراد ضرب عنقه فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى وأمره بالانصراف إلى سمرقند فرجع إليها ووثب بعامل علي بن عيسى عليها فقتله واستولى عليها فوجه إليه ابنه فلقيه فهزمه رافع فأخذ

ذكر فتح هرقلة

في هذه السنة فتح الرشيد هرقلة وأخربها وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه سنة سبع وثمانين ومائة من غدر نقفور وكان فتحها في شوال وكان حصرها ثلاثين يوما وسبى أهلها وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفًا من المرتزقة سوى الأتباع والمتطوعة ومن لا ديوان له وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائرًا في أرض الروم في سبعين ألفًا يخرب وينهب ففتح الله عليه وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية واستعمل حميد بن معيوف على سواحل الشام ومصر فبلغ قبرس فهدم واحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفًا فأقدمهم الرافقة فبيعوا بها وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار‏.‏

ثم سار الرشيد إلى طوانة فنزل بها ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر‏.‏

وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير وعن رأس ولده دينارين وعن بطارقته كذلك وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان خطبها لولده فأرسلها إليه‏.‏

ذكرعدة حوادث

وخرج في هذه السنة خارجي من ناحية عبد القيس يقال له سيف بن بكير فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد ين مزيد فقتله بعين النورة‏.‏

وفيها نقض أهل قبرس العهد فعزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها‏.‏

وحج بالناس عيسى بن موسى الهادي‏.‏

وفيها اسلم الفضل بن سهل على يد المأمون وقيل بل أسلم أبوه سهل على يد المهدي وكان محبوس أن وقيل أسلم الفضل وأخوه الحسن على يد يحيى بن خالد فاختاره يحيى لخدمة المأمون فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة ويثني عليهم ولقب بذي الرئاستين لأنه تقلد الوزارة والسيف وكان يتشيع وهوالذي أشار على المامون بالعهد لعلي بن موسى الرضي عليه السلام‏.‏

وكان على الموصل هذه السنة خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب ولما دخل الموصل أنكسر لواؤه في باب المدينة فتطير منه وكان معه أبوالشيص الشاعر فقال في ذلك‏:‏

ما كان منكسر اللواء لطيرة ** تخشى ولا أمر يكون مويلا

لكن هذا الرمح أضعف ركنه صغر الولاية فاستقل الموصلا فسري عن خالد

وفيها غزا الرشيد الصائفة واستخلف المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور وكتب إليه الآفاق بذلك ودفع إليه خاتم المنصور تيمنًا به ونقشه‏:‏ الله ثقتي آمنت به‏.‏

وفيها خرجت الروم إلى عين زربي والكنيسة السوداء وأغاروا فاستنقذ أهل المصيصة ما كان معهم من الغنيمة‏.‏

وفيها توفي أسد بن عمروبن عامر أبوالمنذر البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفة‏.‏

وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوسًا بالرافقة في المحرم وعمره سبعون سنة وعمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري‏.‏

حوادث سنة إحدى وتسعين ومائة

ذكر الفتنة من أهل طليطلة وهو وقعة الحفرة

في هذه السنة أوقع الأمير الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس بأهل طليطلة فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها‏.‏

وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء وخلعوهم مرة بعد أخرى وقويت

نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد وكان قد ظهر في هذا الوقت بالثغر الأعلى فأظهر طاعة الحكم ودعا إليه فاطمأن إليه بهذا السبب وكان من أهل مدينة وشقة فاستحضره فحضر عنده فأكرمه الحكم وبالغ في إكرامه وأطلعه على عزمه في أهل طليطلة وواطأه على التدبير عليهم فولاه طليطلة وكتب إلى أهلها يقول‏:‏ إني قد اخترت لكم فلانا وهومنكم لتطمئن قلوبكم إليه وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينا ولتعرفوا جميل رأينا فيكم‏.‏

فمضى عمروس إليهم ودخل طليطلة فأنس به أهلها واطمأنوا إليه وأحسن عشرتهم وكان أول ما عمل عليهم من الحيلة أن أظهر لهم موافقتهم على بغض بني أمية وخلع طاعتهم فمالوا إليه ووثقوا بما يفعله ثم قال لهم‏:‏ إن سبب الشر بينكم وبين أصحاب الأمير إمنا هواختلاطهم بكم وقد رأيت أن أبني بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقًا بكم فأجابوه إلى ذلك فبنى في وسط البلد ما أراد‏.‏

فلما مضى لذلك مدة كتب الأمير الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سرًا يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة وطلب النجدة والعساكر ففعل العامل ذلك فحشد الحكم الجيوش

من كل ناحية واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن لدخولها فأتاه وهوعندها الخبر من ذلك العامل أن عساكر الكفرة قد تفرقت وكفى الله شرها فتفرق العسكر وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة‏:‏ قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبي وإنه يلزمني الخروج إليه وقضاء حقه فإن نشطتم لذلك وإلا سرت إليه وحدي فخرج معه وجوه أهل طليطلة فأكرمهم عبد الرحمن وأحسن إليهم‏.‏

وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادمًا له ومعه كتاب لطيف إلى عمروس فأتاه الخادم وصاحه وسلم الكتاب إليه من غير أن يحادثه فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة فأشار إلى أعيان أهلها بأن يسألوا عبد الرحمن الدخول إليهم ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم ومنعتهم وقوتهم فظنوه ينصحهم ففعلوا ذلك وأدخلوا عبد الرحمن البلد ونزل مع عمروس في داره وأتاه أهل طليطلة أرسالًا يسلمون عليه‏.‏

وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة وشرع في الاستعداد لذلك وواعدهم يومًا ذكره وقرر معهم أن يدخلون من باب ويخرجون من آخر ليقل الزحام ففعلوا ذلك‏.‏

فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجا فكان كلما دخل فوج أخذوا وحملوا إلى جماعة من

الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر فضربت رقابهم عليها فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدا فقال‏:‏ أين الناس فقيل‏:‏ إنهم يدخلون من هذا الباب ويخرجون من الباب الآخر فقال‏:‏ ما لقيني منهم أحد وعلم الحال وصاح وأعلم الناس هلاك أصحابهم فكان سبب نجاة من بقي منهم فذلت رقابهم بعدها وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن ثم انجبرت مصيبتهم وكثروا فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع على ما نذكره‏.‏

ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة

وفيها عصى أصبغ بن عبد اله ووافقه أهل مدينة ماردة من الأندلس على الحكم وأخرجوا عامله واتصل الخبر بالحكم فسار إليها وحاصرها فبيمنا هومجد في الحصار أتاه الخبر عن أهل قرطبة أنهم أعلنوا العصيان له فرجع مبادرا فوصل إلى قرطبة في ثلاثة أيام وكشف عن الذين أثاروا الفتنة فصلبهم منكسين وضرب أعناق جماعة فارتدع الباقون بذلك واشتدت كراهيتهم له‏.‏

ولم يزل أهل مادرة تارة يطيعون ومرة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين فضعف أمر أصبغ لأن الحكم تابع إرسال الجيوش إليه واستمال جماعة من أعيان أهل ماردة وثقاته من أصحابه فمالوا إليه وفارقوا اصبغ حتى أخوه فتحير أصبغ وضعفت نفسه فأرسل يطلب الأمان فأمنه الحكم ففارق ماردة وحضر عند الحكم وأقام عنده بقرطبة‏.‏

ذكر غزو الفرنج بالأندلس

في هذه السنة تجهز لذريق ملك الفرنج بالأندلس وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة ليحصرها فبلغ ذلك الحكم فجمع العساكر وسيرها مع ولده عبد الرحمن فاجتمعوا في جيش عظيم وتبعهم كثير من المتطوعة فساروا فلقوا الفرنج في أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد المسلمين شيئا فاقتتلوا وبذل كل من الطائفتين جهده واستنفد وسعه فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين فانهزم الكفار وكثر القتل فيهم والأسر ونهبت أموالهم وأثقالهم وعاد المسلمون ظافرين غامنين‏.‏

ذكر عصيان حزم على الحكم

في هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة ووافقه غيره وقصدوا لشبونة وكان الحكم يسمي حزما في كتبه النبطي فلما سمع الحكم خبره سير إليه ابنه هشامًا في جمع كثير فأذله

ذكر عزل علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاية هرثمة

وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قتل ابنه عيسى فلما قتل جزع عليه أبوه فخرج عن بلخ إلى مرومخافة عليها أن يسير إليها رافع بن الليث ليأخذها وكان ابنه عيسى قد دفن في بستان في داره ببلخ أموالًا عظيمةً قيل كانت ثلاثين ألف ألف ولم يعلم بها أبوه ولم يطلع عليها إلا جارية له فلما سار علي بن عيسى إلى مرو أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم وتحدث به الناس واجتمعوا ودخلوا البستان ونهبوا المال وبلغ الرشيد الخبر فقال‏:‏ خرج عن بلخ عن غير أمري وخلف مثل هذا المال وهويزعن أنه قد باع حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع‏!‏ فعزله واستعمل هرثمة بن أعين‏.‏

وكان قد نقم الرشيد عليه ما كان يبلغه من سوء سيرته وإهانته أعيان الناس واستخفافه بهم فمن ذلك أنه دخل عليه يومًا الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين وهشام بن فرخسرو فسلما عليه فقال للحسين‏:‏ لا سلم الله عليك يا ملحد بن الملحد والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوة الإسلام والطعن في الدين ولم أنتظر بقتلك إلا أمر الخليفة ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد أن ثملت من الحزم وزعمت أنك جاءتك كتب من بغداد بعزلي اخرج إلى سخط الله لعنك الله فعن قريب ما يكون منها فاعتذر إليه فلم يقبل عذره وأمر بإخراجه فأخرج‏.‏

وقال لهشام بن فرخسرو‏:‏ صارت دارك دار الندوة يجتمع إليك السفهاء تطعن على الولادة سفك الله دمي إن لم أسفك دمك‏!‏ فاعتذر إليه فلم يعذره فأخرجه‏.‏

فأما الحسين فسار إلى الرشيد فاستجار به وشكا إليه فأجاره وأما هشام فإنه قال لبنت له‏:‏ إني أخاف الأمير على دمي وأنا مفض إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت وإن أنت كتمته سلمت‏.‏

قالت‏:‏ وما هو قال‏:‏ قد عزمت على أن أظهر أن الفالج قد أصابني فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك واقصدي فراشي وحركيني فإذا رأيت حركتي تقلت فصيحي أنت وجواريك واجمعي إخواتك فأعلميهم علتي ففعلت ما أمرها وكانت عاقلة فأقام مطروحًا على فراشه حينًا إلى أن جاء هرثمة واليا فركب إلى لقائه فرآه علي بن عيسى بن ماهان فقال‏:‏ إلى أين فقال‏:‏ أتلقى الأمير أبا حاتم‏.‏

قال‏:‏ ألم تكن عليلًا فقال‏:‏ وهب الله العافية وعزل الطاغية في ليلة واحدة فعلى هذا تكون ولاية هرثمة ظاهرة‏.‏

وقيل‏:‏ بل كانت ولايته سرا لم يطلع الرشيد عليها أحدا فقيل‏:‏ إنه لما أراد عزل علي بن عيسى استدعى هرثمة وأسر إليه ذلك وقال له‏:‏ إن علي بن عيسى قد كتب يستمدني

بالعساكر والأموال فأظهر للناس أنك تسير إليه نجدة له‏.‏

وكتب له الرشيد كتابًا بولايته بخط يده وأمر أن يكتبوا له إلي علي بن عيسى بأنه قد سير هرثمة نجدة له‏.‏

فسار هرثمة ولا يعلم بأمره أحد حتى ورد نيسابور فلما وردها استعمل أصحابه على كورها وسار مجدًا يسبق الخبر فأتى مرو والتقاه علي بن عيسى فاحترمه هرثمة وعظمه حتى دخل البلد ثم قبض عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف وكانت خزائنه وأثاثه على ألف وخمسمائة بعير فأخذ الرشيد ذلك كله وكان وصول هرثمة إلى خراسان سنة اثنتين وتسعين فلما فرغ هرثمة من أخذ أموالهم أقامهم لمطالبة الناس وكتب إلى الرشيد بذلك وسير علي بن عيسى إليه على بعير بغير وطاء ولا غطاء‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها خرج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا وتنقل في السواد فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه وقتل عامة أصحابه‏.‏

وفيها خرج أبوالنداء بالشام فسير الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ وعقد له على الشام‏.‏

وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني‏.‏

وفيها أرسل أهل نسف إلى رافع بن الليث يسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي بن عيسى وعلي بن عيسى فأرسل إليهم جمعا فقتلوا عيسى وحده في ذي القعدة‏.‏

وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضيق فقتلوه وخمسين رجلا وسلم الباقون وكان ذلك على مرحلتين من طرسوس‏.‏

وفيها استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان وضم إليه ثلاثين ألفًا من أهل خراسان ورتب الرشيد بدرب الحدث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن سلم بن قتيبة فأغارت الروم عليها فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرك سعيد من موضعه وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس‏.‏

وأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من رمضان وعاد إلى الرقة وأمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم وأمر هرثمة ببناء طرسوس وتمصيرها ففعل وتولى ذلك فرج الخادم بأمر الرشيد وسير إليها جندًا من أهل خراسان ثلاثة آلاف ثم أشخص إليهم ألفًا من أهل المصيصة وألفًا من أهل أنطاكية وتم بناؤها سنة اثنتين وتسعين ومائة وبنى مسجدها‏.‏

وحج بالناس هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي وكان أميرًا على مكة وكان على

وفيها توفي الفضل بن موسى السيناني أبوعبد الله المروزي مولى بني قطيعة وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة‏.‏

السيناين بكسر السين المهملة وبالياء المثناة من تحت وبالنون قبل الألف ثم بنون بعده منسوب إلى سينان وهي قرية من قرى مرو‏.‏

حوادث سنة اثنتين وتسعين ومائة

ذكرمسير الرشيد إلى خراسان


فيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث وكان مريضًا واستخلف على الرقة ابنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم وسار من بغداد إلى النهروان لخمس خلون من شعبان واستخلف على بغداد ابنه الأمين وأمر المأمون بالمقام ببغداد‏.‏

فقال الفضل بن سهل للمأمون حين أراد الرشيد المسير إلى خراسان‏:‏ لست تدري ما يحدث بالرشيد وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهوابن زبيدة وأخواله بنوهاشم وزبيدة وأموالها فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه فطلب إليه ذلك فأجابه بعد امتناع‏.‏

فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري فقال له‏:‏ يا صباح لا أظنك تراني أبدا فدعا فقال‏:‏ ما أظنك تدري ما أجد‏.‏

قال الصباح‏:‏ لا والله فعدل عن الطريق واستظل بشجرة وأمر خواصه بالبعد فكشف عن بطنه‏.‏

فإذا عليه عصابة حرير فقال‏:‏ هذه علة أكتمها الناس كلهم ولكل واحد من ولدي علي رقيب فمسرور رقيب المأمون وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين وما منهم أحد إلا وهويحصي أنفاسي ويستطيل دهري وإن أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعوبدابة فيأتوني بدابة أعجف قطوف لتزيد بي علتي فاكتم علي ذلك‏.‏

فدعا له بالبقاء ثم طلب الرشيد دابة فجاؤوا بها على ما وصف فنظر إلى الصباح وركبها‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها تحركت الخرمية بناحية أذربيجان فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر ووافه بقرماسين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي‏.‏

وفيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد بأبي النداء فقتله‏.‏

وفيها فارق جماعة من القواد رافع بن الليث وصاروا إلى هرثمة منهم عجيف بن عنبسة وغيره‏.‏

وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن نصر بن مالك فافتتح مطمورة‏.‏

وفيها كان الفداء بالبذندون‏.‏

وفيها خرج ثروان الحروري بطف البصرة فقاتل عامل السلطان بها‏.‏

وفيها مات عيسى بن جعفر بن المنصور بالدسكرة وهويريد اللحاق بالرشيد‏.‏

وفيها قتل الرشيد الهيصم الكناني وحج بالناس هذه السنة العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور‏.‏

وفيها كان وصول هرثمة إلى خراسان كما تقدم وحصر هرثمة رافع بن الليث بسمرقند وضايقه واستقدم طاهر بن الحسين فحضر عنده وخلت خراسان لحمزة الخارجي حتى دخلها وصار يقتل ويجمع الأموال ويحملها إليه عمال هراة وسجستان فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري فاجتمع إليه نحوعشرين ألفا فسار إلى حمزة فقاتله قتالًا شديدًا فقتل من أصحاب حمزة خلقا وسار خلفه حتى بلغ هراة وكان ذلك سنة أربع وتسعين فكتب إليه المأمون فرده وأدام هرثمة على حصار سمرقند حتى فتحها على ما نذكره إن شاء الله تعالى وقتل رافع بن الليث وجماعة من أقربائه واستعمل على ما وراء النهر بن يحيى فعاد وكان قتله رافعًا سنة خمس وتسعين‏.‏

وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي ويوسف بن أبي يوسف

وفيها كان الفداء الثاني بين المسلمين والروم وكان القيم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وكان عدة الأسرى من المسلمين ألفين وخمسمائة أسير‏.‏

حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة

ذكر موت الفضل بن يحيى


في هذه السنة مات الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة وكانت علته أنه أصابه ثقل في لسانه وشقه فعولج أشهرا فبرأ وكان يقول‏:‏ ما أحب أن يموت الرشيد لأن أمري قريب من أمره‏.‏

فلما صح من علته وتحدث عادته العلة واشتدت عليه وانعقد لسانه وطرفه فمات في المحرم وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه ثم أخرج فصلى عليه الناس وجزع الناس عليه‏.‏

وكان موته قبل الرشيد بخمسة أشهر وهوابن خمس وأربعين سنة وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله ولاشتهار أخباره وأخبار أهله وحسن سيرتهم لم نذكرها‏.‏

وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري‏.‏

وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع كان الظفر لهرثمة وافتتح بخاري وأسر بشيرًا

ذكر موت الرشيد

وفي هذه السنة مات الرشيد أول جمادى الآخرة لثلاث خلون منه وكانت قد اشتدت علته بالطريق بجرجان فسار إلى طوس فمات بها‏.‏

قال جبرائيل بن بختيشوع‏:‏ كنت مع الرشيد بالرقة وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة أتعرف حاله في ليلته ثم يحدثني وينبسط إليّ ويسألني عن أخبار العامة فدخلت عليه يوما فسلمت عليه فلم يكد يرفع طرفه ورأيته عابسًا مفكرًا مهموما فوقفت مليًا من النهار وهوعلى تلك الحال فلما طال ذلك أقدمت فسألته عن حاله وما سببه فقال‏:‏ إن فكري وهمي لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتني وملأت صدري‏.‏

فقلت‏:‏ فرجت عني يا أمير المؤمنين ثم قبلت يده ورجله وقلت‏:‏ الرؤيا إمنا تكون لخاطر أوبخارات ردية وتهاويل السوداء وهي أضغاث أحلام‏.‏

قال‏:‏ فإني أقصها عليك رأيت كأني جالس على سريري هذا إذ بدت من تحتي ذراع أعرفهأن وكف أعرفها لا أفهم اسم صاحبها وفي الكف تربة حمراء‏.‏

فقال لي قائل اسمعه ولا أرى شخصه‏:‏ هذه التربة التي تدفن فيها فقلت‏:‏ وأين هذه التربة قال‏:‏ طوس وغابت اليد فقلت‏:‏ أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان وما ورد عليك منها وانتقاض بعضها فذلك الفكر أوجب هذه الرؤيا‏.‏

فقال‏:‏ كان ذلك فأمرته باللهو والانبساط ففعل ونسينا الرؤيا وطالت الأيام ثم سار إلى خراسان لحرب رافع فلما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة فلم تزل تزيد حتى دخلنا طوس فبينا هويمرض في بستان في ذلك القصر الذي هوفيه إذ ذكرتلك الرؤيا فوثب متحاملًا يقوم ويسقط فاجتمعنا إليه نسأله فقال‏:‏ أت ذكررؤياي بالرقة في طوس ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال‏:‏ جئني من تربة هذا البستان‏!‏ فأتاه بها في كفه حاسرًا عن ذراعه فلما نظر إليه قال‏:‏ هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه الكف بعينها وهذه التربة الحمراء ما خرمت شيئًا وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات بعد ثلاثة أيام‏.‏

قال أبوجعفر‏:‏ لما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في صفر وقد اشتدت علته فسير ابنه المأمون إلى مرو وسير معه من القواد عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي الحرشي ونعيم بن حازم وسار الرشيد إلى طوس واشتد به الوجع حتى ضعف عن الحركة فلما أثقل أرجف به الناس فبلغه ذلك فأمر بمركوب ليركبه ليراه الناس فأتي بفرس فلم يقدر على النهوض فأتي ببرذون فلم يطق

ووصل إليه وهو بطوس بشير بن الليث أخو رافع أسيرا فقال الرشيد‏:‏ والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت اقتلوه‏.‏

ثم دعا بقصاب فأمر به ففصل أعضاءه فلما فرغ منه أغمي عليه وتفرق الناس عنه‏.‏

فلما أيس من نفسه أمر بقبره فحفر في موضع من الدار التي كان فيها وأنزل إليه قوما فقرأوا فيه القرآن حتى ختموا وهوفي محفة على شفير القبر يقول‏:‏ ابن آدم تصير إلى هذا وكان يقول في تلك الحال‏:‏ واسوأتاه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وقال الهيثم بن عدي‏:‏ لما حضرت الرشيد الوفاة غشي عليه ففتح عينيه منها فرأى الفضل بن الربيع على رأسه فقال‏:‏ يا فضل‏:‏ أحين دنا ما كنت أرجو دنوه رمتني عيون الناس من كل جاني فأصبحت مرحومًا وكنت محسدًا فصبرًا لي مكروه أمن العواقب سأبكي على الوصل الذي كان بيننا وأندب أيام السرور الذواهب قال سهل بن صاعد‏:‏ كنت عند الرشيد وهو يجود بنفسه فدعا بملحفة غليظة فاجتبى بها وجعل يقاسي ما يقاسي فنهضت فقال‏:‏ اقعد فقعدت طويلًا لا يكلمني ولا أكلمه فنهضت فقال‏:‏ أين سهل فقلت‏:‏ ما يتسع قلبي يا أمير المؤمنين يعاني من المرض ما يعاني فلواضطجعت يا أمير المؤمنين فضحك ضحك صحيح ثم قال‏:‏ يا سهل‏!‏ اذكرفي هذه الحال قول الشاعر‏:‏

وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماسًا وصبرًا شدة الحدثان

ثم مات وصلى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد‏.‏

وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وقيل ملك ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا وستة عشر يوما وكان عمره سبعًا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان جميلا وسيمًا أبيض جعدًا قد وخطه الشيب قال‏:‏ وكان في بيت المال لما توفي تسعمائة ألف ألف ونيف‏.‏

ذكر ولاة الأمصار أيام الرشيد

ولاة المدينة إسحاق بن عيسى بن علي عبد الملك صالح بن علي محمد بن عبد الله موسى بن عيسى بن موسى إبراهيم بن محمد بن إبراهيم علي بن عيسى بن موسى محمد بن إبراهيم عبد الله ولاة مكة العباس بن محمد بن إبراهيم سليمان بن جعفر بن سليمان موسى بن عيسى بن موسى عبد الله بن محمد بن إبراهيم عبد الله بن قثم بن العباس عبيد الله بن قثم عبد الله بن محمد بن عمران عبيد الله بن محمد بن إبراهيم العباس بن موسى بن عيسى علي بن موسى بن عيسى محمد بن عبد الله العثماني حماد البربري سليمان بن جعفر بن سليمان الفضل بن العباس بن محمد أحمد بن إسماعيل بن علي‏.‏

ولاة الكوفة موسى بن عيسى بن موسى محمد بن إبراهيم عبيد الله بن محمد بن إبراهيم يعقوب بن أبي جعفر موسى بن عيسى بن موسى العباس بن عيسى بن موسى إسحاق بن الصباح الكندي موسى بن عيسى بن موسى العباس بن عيسى بن موسى موسى بن عيسى بن موسى جعفر بن أبي جعفر‏.‏

ولاة البصرة محمد بن سليمان بن علي سليمان بن أبي جعفر عيسى بن جعفر بن أبي جعفر خزيمة بن خازم عيسى بن جعفر جرير بن يزيد جعفر بن سليمان جعفر بن أبي جعفر عبد الصمد بن علي مالك بن علي الخزاعي إسحاق بن سليمان بن علي سليمان بن أبي جعفر عيسى بن جعفر الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين عيسى بن جعفر بن أبي جعفر جرير بن يزيد عبد الصمد بن علي إسحاق بن عيسى بن علي‏.‏

ولاة خراسان أبو العباس الطوسي جعفر بن محمد بن الأشعث العباس بن جعفر الغطريف بن عطاب سليمان بن راشد على الخراج حمزة بن مالك الفضل بن يحيى بن خالد منصور بن يزيد بن منصور جعفر بن يحيى وخليفته بها علي بن عيسى بن ماهان هرثمة بن أعين العباس بن جعفر للمأمون بها علي بن الحسن بن قحطبة‏.‏

ذكر نسائه وأولاده

قيل‏:‏ تزوج زبيدة وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور وأعرس بها سنة خمس وستين ومائة فولدت محمدًا الأمين وماتت سنة ست وعشرين ومائتين‏.‏

وتزوج أمه العزيز أم ولد الهادي فولدت له علي بن الرشيد‏.‏

وتزوج أم محمد بنت صالح المسكين‏.‏

وتزوج العباسة بنت سليمان بن المنصور‏.‏

وتزوج عزيزة ابنة خاله الغطريف‏.‏

وتزوج العثمانية وهيس ابنة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمروبن عثمان بن عفان وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي‏.‏

ومات الرشيد عن أربع مهائر‏:‏ زبيدة وأم محمد بنت صالح وعباسة والعثمانية‏.‏

وكان قد ولد له من الذكور‏:‏ محمد الأمين من زبيدة وعبد الله المأمون لأم ولد اسمها مراجل والقاسم المؤتمن وأبوإسحاق محمد المعتصم وصالح وأبوعيسى محمد وأبويعقوب محمد وأبوالعباس محمد وأبو سليمان محمد وأبوعلي محمد وأبومحمد وهواسمه وأبوأحمد محمد كلهم لأمهات أولاد‏.‏

وله من البنات سكينة وأم حبيب وأروى وأم الحسن وأم محمد وهي حمدونة وفاطمة وأم أبيه أن وأم أبيه أن وأم سلمة وخديجة وأم القاسم ورملة وأم جعفر وأم علي والعالية وريطة كلهن لأمهات أولاد‏.‏

ذكر بعض سيرته

قيل‏:‏ كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدني أن إلا من مرض وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم فإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الطاهرة‏.‏

وكان يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر ذلك‏.‏

وكان يحب الشعر الشعراء ويميل إلى أهل الأدب والفقه ويكره المراء في الدين وكان يحب المديح لا سيما من شاعر فصيح ويجزل العطاء عليه ولما مدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدته التي منها‏:‏ وسدت بهارون الثغور فأحكمت به من أمور المسلمين المرائر أعطاه خمسة آلاف دينارن وخلعة وعشرة من الرقيق الرومي وبرذون من خاص مركبه‏.‏

وقيل‏:‏ كان مع الرشيد ابن أبي مريم المديني وكان مضحاكًا فكها يعرف أخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان فكان الرشيد لا يصبر عنه وأسكنه في قصره فجاء ذات ليلة وهو نائم فقام الرشيد إلى صلاة الفجر فكشف اللحاف عنه وقال‏:‏ كيف أصبحت فقال‏:‏ ما أصبحت بعد اذهب إلى عملك‏.‏

قال‏:‏ قم إلى الصلاة‏!‏ قال‏:‏ هذا وقت صلاة أبي الجارود وأنا من أصحاب أبي يوسف‏.‏

فمضى الرشيد يصلي وقام ابن أبي مريم وأتى الرشيد فرآه يقرأ في الصلاة‏:‏ ‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ ما أدري والله‏!‏ فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم قال له وهومغضب‏:‏ في الصلاة أيضًا‏!‏ قال‏:‏ وما صنعت قال‏:‏ قطعت علي صلاتي‏.‏

قال‏:‏ والله ما فعلت إمنا سمعت منك كلامًا غمني حين قلت‏:‏ ‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فقلت‏:‏ لا أدري‏:‏ فعاد الرشيد فضحك ثم قال له‏:‏ إياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدهما‏.‏

وقيل‏:‏ استعمل يحيى بن خالد رجلًا على بعض أعمال الخراج فدخل على الرشيد يودعه وعنده يحيى وجعفر فقال لهما الرشيد‏:‏ أوصياه‏!‏ فقال يحيى‏:‏ وقر واعمر‏!‏ وقال جعفر‏:‏ أنصف وانتصف‏!‏ فقال الرشيد‏:‏ اعدل وأحسن‏.‏

وقيل‏:‏ حج الرشيد مرة فدخل الكعبة فرآه بعض الحجبة وهوواقف على أصابعه يقول‏:‏ يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمير الصامتين فإن لكل مسأله منك ردًا حاضرا وجوابًا عتيدأن ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايأن يا من كبس الأرض على الماء وسد الهواء بالسماء واختار لنفسه أحسن الأسماء صل على محمد وعلى آل محمد وخر لي في جميع أموري يا من خشعت له الأصوات بأنواع اللغات يسألونه الحاجات إن من حاجتي إليك أن تغفر لي ذنوبي إذا توفيتني وصيرت في لحدي وتفرق عني أهلي وولدي اللهم لك الحمد حمدًا يفضل كل حمد كفضلك على جميع الخلق اللهم‏!‏ صل على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون له رضى وصل عليه صلاة تكون له ذخرًا وأجزه عنا الجزاء لا أوفى اللهم‏:‏ أحينا سعداء وتوفنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء مرجومين‏.‏

وقيل دخل ابن السماك على الرشيد فبيمنا هوعنده إذ طلب ماء فلما أراد شربه قال له ابن السماك‏:‏ مهلأن يا أمير المؤمنين بقرابتك من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لومنعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال‏:‏ بنصف ملكي‏.‏

قال‏:‏ اشرب فلما شرب قال‏:‏ أسألك بقرابتك من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لومنعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها قال‏:‏ بجميع ملكي‏.‏

قال‏:‏ إن ملكًا لا يساوي شربة ماء وخروج بولة لجدير أن لا ينافس فيه‏!‏ فبكى الرشيد‏.‏

وقيل‏:‏ كان الفضيل بن عياض يقول‏:‏ ما من نفس أشد علي موتًا من هارون الرشيد ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره فعظم ذلك على أصحابه فلما مات وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس عليه من القول بخلق القرآن قالوا‏:‏ الشيخ أعلم بما تكلم به‏.‏

وقال محمد بن منصور البغدادي‏:‏ لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عينًا يأتيه بما يقول‏:‏ فرآه يومًا قد كتب على الحائط‏:‏ أما والله إن الظلم لؤم وما زال المسيء هوالظلوم إلى ديان يوم الدين بمضي وعند الله تجتمع الخصوم فأخبر بذلك الرشيد فبكى وأحضره واستحله وأعطاه ألف دينار‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ صنع الرشيد يومًا طعامًا كثيرًا وزخرف مجالسه وأحضر أبا العتاهية فقال له‏:‏ صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا فقال‏:‏ عش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور فقال‏:‏ أحسنت‏!‏ ثم قال‏:‏ ماذا فقال‏:‏ يسعى عليك بما اشتهي ت لدى الرواح وفي البكور فقال‏:‏ أحسنت‏!‏ ثم ماذا فقال‏:‏ فإذا النفوس تقعقعت في ظل حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلا في غرور فبكى الرشيد‏.‏

وقال الفضل بن يحيى‏:‏ بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته‏.‏

فقال‏:‏ دعه فإنه خلافة الأمين وفي هذه السنة بويع الأمين بالخلافة في عسكر الرشيد صبيحة الليلة التي توفي فيها وكان المأمون حينئذ بمرو فكتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد إلى نائبه ببغداد وهو سلام بن مسلم يعلمه بوفاة الرشيد فدخل أبو مسلم على الأمين فعزاهن وهنأه بالخلافة فكان أول الناس فعل ذلك‏.‏

وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين يخبره بوفاة الرشيد مع رجاء الخادم وأرسل معه الخاتم والقضيب والبردة فلما وصل رجاء انتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة وصلى بالناس الجمعة ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزى نفسه والناس ووعدهم الخير وأمن الأبيض والأسود وفرق في الجند الذين ببغداد رزق أربعة وعشرين شهرا ودعا إلى البيعة فبايعه جلة أهل بيته وكل عم ابنه وأمر سليمان بن المنصور بأخذ البيعة على القواد وغيرهم وأمر السندي أيضًا بمبايعة من عداهم‏.‏

ذكر ابتداء الاختلاف بين الأمين والمأمون

في هذه السنة ابتدأ الاختلاف بين الأمين والمأمون ابني الرشيد‏.‏

وكان سبب ذلك أن الرشيد لما سار إلى خراسان وأخذ البيعة للمأمون على جميع من في عسكره من القواد وغيرهم وأقر له بجميع ما معه من الأموال وغيرها على ما سبق ذكره عظم على الأمين ذلك ثم بلغه شدة مرض الرشيد فأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها في قوائم صناديق المطبخ وكانت منقورة وألبسها جلود البقر وقال‏:‏ لا تظهرن أمير المؤمنين ولا غيره على ذلك ولوقتلت فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم ما معك‏.‏

فلما قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به وسأله عن سبب قدومه فقال‏:‏ بعثني الأمين لآتيه بخبرك قال‏:‏ فهل معك كتاب قال‏:‏ لا فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا شيئا فأمر به فضرب فلم يقر بشيء فحبسه وقيده ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره فإن أقر وإلا ضرب عنقه فقرره فلم يقر بشيء ثم غشي على الرشيد فصاح النساء فأمسك الفضل على قتله وحضر عند الرشيد فأفاق وهوضعيف قد شغل عن بكر وغيره ثم مات‏.‏

وكان بكر قد كتب إلى الفضل يسأله أن لا يعجل في أمره بشيء فإن عنده أشياء يحتاج إلى عمله أن فأحضره الفضل وأعلمه بموت الرشيد وسأله عما عنده فخاف أن يكون الرشيد حيا فلما تيقن موته أخرج الكتب التي معه وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع وأخذ البيعة على الناس لهما ولأخيهما المؤتمن ولم يكن المأمون حاضرا كان بمرو وكتاب إلى

أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر وأصحاب ما فيه وأن يتصرف هوومن معه برأي الفضل وكتاب إلى الفضل يأمره بالحفظ ولا احتياط على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك وأقر كل من كان له عمل على عمله كصاحب الشرطة والحرس والحجابة‏.‏

فلما قرأوا الكتب تشاوروا هم والقواد في اللحاق بالأمين فقال الفضل بن الربيع‏:‏ لا أدع ملكًا حاضرًا لآخر ما أدري ما يكون من أمره‏.‏

وأمر الناس بالرحيل فرحلوا محبة منهم لأهلهم ووطنهم وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون‏.‏

فلما بلغ المأمون ذلك جمع من عنده من قواد أبيه وهم‏:‏ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى هارون وهو على حجابته والعباس بن المسيب بن زهير وهوعلى شرطته وأيوب بن أبي سمير وهوعلى كتابته وعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح وذو الرياستين وهو أعظمهم عنده قدر أن وأخصهم به واستشارهم فأشاروا أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة فيردهم فخلا به ذو الرياستين وقال‏:‏ إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابًا وتوجه رسولًا يذكرهم البيعة ويسألهم الوفاء ويحذرهم الحنث وما فيه دنيا وآخرة‏.‏

ففعل ذلك ووجه سهل بن صاعد ونوفلًا الخادم ومعهما كتاب فلحقا الجند والفضل بنيسابور فأوصلا إلى الفضل كتابه فقال‏:‏ إمنا أنا واحد من الجند وشد عبد الرحمن بن جبلة الأنباري على سهل بالرمح ليطعنه فأمره على جنبه وقال له‏:‏ قل لصاحبك‏:‏ لوكنت حاضرًا لوضعته في فيك‏.‏ وسب المأمون‏.‏ فرجعا إليه بالخبر فقال ذوالرياستين‏:‏ أعداء استرحت منعهم ولكن أفهم عني أن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام المنصور‏.‏

فخرج عليه المقنع وهويدعي الربوبية وقيل طلب بدم أبي مسلم فضعضع العسكر بخروجه بخراسان وخرج بعده يوسف البرم وهوعند المسلمين كافر فتضعضعوا أيضًا له فأخبرني أنت أيها الأمير كيف رأيت الناس عندما ورد عليهم خبر رافع قال‏:‏ رأيتهم اضطربوا اضطرابًا شديدًا‏.‏

قال‏:‏ فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد اصبر وأنا أضمن لك الخلافة‏.‏

قال المأمون‏:‏ قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به‏.‏

قال ذو الرياستين‏:‏ والله لأصدقنك إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع مني برياستهم المشهورة وبما عندهم من القوة على الحرب فمن قام بالأمر كنت خادمًا له حتى تبلغ أملك وترى رأيك‏.‏

وقام ذو الرياستين وأتاهم في منازلهم وذكرهم ما يجب عليهم من الوفاء قال‏:‏ فكأني جئتهم بجيفة على طبق‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ هذا لا يحل اخرج‏!‏ وقال بعضهم‏:‏ من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه فجئت وأخبرته فقال‏:‏ قم بالأمر‏!‏ قال‏:‏ قلت له‏:‏ قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقهت في الدين فأرى أن تبعث إلى من بحضرتك من الفقهاء فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة وتقعد على الصوف وترد المظالم‏.‏

ففعل ذلك جميعه وأكرمه القواد والملوك وأبناء الملوك وكان يقول للتميمي‏:‏ نقيمك مقام موسى بن كعب وللربعي‏:‏ نقيمك مقام أبي داود وخالد بن إبراهيم ولليماني‏:‏ نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم وكل هؤلاء نقباء الدولة العباسية‏.‏

ووضع عن خراسان ربع الخراج فحسن ذلك عند أهلها وقالوا‏:‏ ابن أختنا وابن عم نبينان وأما الأمين فلما سكن الناس ببغداد أمر ببناء ميدان حول قصر المنصور بعد بيعته بيوم للوالجة واللعب فقال شاعرهم‏:‏ بنى أمين الله ميدانًا وصير الساحة بستانًا وكانت الغزلان فيه بانًا يهدي إليه فيه غزلانا وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري وأهدى إلى الأمين وكتب إليه وعظمه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة دخل هرثمة بن أعين حائط سمرقند فأرسل رافع بن الليث إلى الترك فأتوه وصار هرثمة بين رافع والترك ثم إن الترك انصرفوا فضعف رافع‏.‏

وفيها قدمت زبيدة امرأة الرشيد من الرقة إلى بغداد فلقيها ابنها الأمين بالأنبار ومعه جمع من بغداد من الوجوه وكان معه أخوه ابن الرشيد‏.‏

وفيها قتل نقفور ملك الروم في حرب برجان وكان ملك سبع سنين وملك بعده ابنه استبراق وكان مجروحا فبقي شهرين ومات فملك بعده ميخائيل بن جورجس ختنه على أخته‏.‏

وفيها عزل الأمين أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة وأقره على قنسرين والعواصم واستعمل على الجزيرة خزيمة بن خازم‏.‏

وحج بالناس هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد وهوأمير مكة‏.‏

وفيها توفي صقلاب بن زياد الأندلسي وهومن أصحاب مالك وكان فقيهًا زاهدًا‏.‏

وفي هذه السنة مات مروان بن معاوية الفزازي وقيل سنة أربع وتسعين ومائة في ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي إسماعيل بن علية وأبوبكر بن عياش وله ست وتسعون سنة عياش بالياء المثناة من تحت والشين المعجمة‏.‏

ذكر خلاف أهل حمص على الأمين

في هذه السنة خالف أهل حمص على الأمين وعلى عامهم إسحاق بن سليمان فانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي فقتل عدة من وجوههم وحبس عدة وألقى النار في نواحيها فسألوا الأمان فأجابهم ثم هاجوا بعد ذلك فقتل عدة منهم‏.‏

ذكر ظهور الخلاف بين الأمين والمأمون

وفي هذه السنة أمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى‏.‏وكان السبب في ذلك أن الفضل بن الربيع لما قدم العراق من طوس ونكث عهد المأمون أفكر في أمره وعلم أن المأمون إن أفضت إليه الخلافة وهوحي لم يبق عليه فسعى في إغراء الأمين وحثه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد ولم يكن ذلك في عزم محمد الأمين فلم يزل الفضل يصغر عنده أمر المأمون ويزين له خلعه وقال له‏:‏ ما تنتظر بعبد الله والقاسم فإن البيعة كانت لك قبلهما وإمنا أدخلا فيها بعدك‏.‏

ووافقه على هذا علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما فرجع الأمين إلى قولهم‏.‏

ثم إنه أحضر عبد الله بن خازم فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل وكان مما قال عبد الله‏:‏ أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهدهن ونقض ميثاقه ورد رأي الخليفة قبله فقال‏:‏ اسكت‏!‏ فعبد الملك كان أفضل منك رأيا وأكمل نظرا يقول‏:‏ لا يجتمع فحلان في أجمة‏.‏

ثم جمع القواد عليهم خلع المأمون فأبوا ذلك وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك فإن الغادر مخذول والناكث مغلول‏.‏

فأقبل الأمين على علي بن عيسى بن ماهان فتبسم وقال‏:‏ لكن شيخ الدعوة ونائب هذه الدولة لا يخالف على إمامه ولا يوهن طاعته‏.‏

ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلها لأنه كان هووالفضل بن الربيع يعينانه على الخلع ولج الأمين في خلع المأمون حتى إنه قال يومًا للفضل بن الربيع‏:‏ يا فضل‏!‏ أحياة مع عبد الله لا بد من خلعه والفضل يعده وهويقول‏:‏ فمتى ذلك إذا غلب خراسان وما فيها فأول ما فعله أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء للمأمون وللمؤتمن‏.‏

فلما بلغ ذلك المأمون مع عزل المؤتمن عما كان بيده أسقط اسم الأمين من الطراز وقطع البريد عنه‏.‏

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار لما بلغه حسن سيرة المأمون طلب الأمان فأجابه إلى ذلك فحضر عند المأمون وأقام هرثمة بسمرقند ومعه طاهر بن الحسين ثم قدم هرثمة على المأمون فأكرمه وولاه الحرس فأنكر ذلك كله الأمين فكان مما وتر عليه أن كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك وهوعامل المأمون على الري يأمره أن ينفذ بغرائب غروس الري يريد امتحانه فبعث إليه بما أمره وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستين فبلغ المأمون فعزله بالحسن بن علي المأموني‏.‏

ثم وجه الأمين إلى المأمون أربعة أنفس وهم‏:‏ العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي وعيسى بن جعفر بن المنصور وصالح صاحب المصلى ومحمد بن عيسى بن نهيك ويطلب إليه أن يقدم ابنه موسى على نفسه ويحضر عنده فقد استوحش لبعده فبلغ الخبر المأمون فكتب إلى عماله بالري ونيسابور وغيرهما يأمرهم بإظهار العدة والقوة ففعلوا ذلك وقدم الرسل على المأمون وأبلغوه الرسالة وكان ابن ماهان أشار بذلك وأخبر الأمين أن أهل خراسان معه‏.‏

فلما سمع المأمون هذه الرسالة استشار الفضل بن سهل فقال له‏:‏ أحضر هشامًا والد علي وأحمد ابني هشام واستشره فأحضره واستشاره فقال له‏:‏ إمنا أخذت البيعة علينا على أن لا تخرج من خراسان فمتى فعل محمد ذلك فلا بيعة له في اعناقنا والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومتى هممت بالمسير إليه تعلقت بك بيميني فإذا قطعت تعلقت بيساري فإذا قطعت تعلقت بلساني فإذا ضربت عنقي كنت أديت ما علي‏.‏

فقوي عزم المأمون على الامتناع فأحضر العباس وأعلمه أنه لا يحضر وأنه لا يقدم موسى على نفسه فقال العباس بن موسى‏:‏ ما عليك أيها الامير من ذلك فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره فصاح به ذوالرياستين‏:‏ اسكت‏!‏ إن جدك كان أسيرًا في أيديهم وهذا بين أخواله وشيعته‏.‏

ثم قاموا فخلا ذوالرياستين بالعباس بن موسى واستماله ووعده إمرة الموسم ومواضع من مصر فأجاب إلى بيعه المأمون وسمي المأمون ذلك الوقت بالإمام فكان العباس يكتب إليهم بالاخبار من بغداد‏.‏

ورجع الرسل إلى الامين فأخبروه بامتناع المأمون وألح الفضل وعلي بن عيسى على الأمين في خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بن الأمين وكان الأمين قد كتب إلى المأمون يطلب منه أن ينزل عن بعض كور خراسان وأن يكون له عنده صاحب البريد يكاتبه بالأخبار

فاستشار المأمون خواصه وقواده فأشاروا باحتمال هذا الشر والإجابة إليه خوفًا من شر هون أعظم منه‏.‏

فقال لهم الحسن بن سهل‏:‏ أتعلمون أن الأمين طلب ما ليس له قالوا‏:‏ نعم‏!‏ ويحتمل ذلك لضرر منعه قال‏:‏ فهل تثقون بكفه بعد إجابته فلا يطلب غيرها قالوا‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فإن طلب غيرها فما ترون قالوا‏:‏ مننعه فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قال‏:‏ استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من مكروهه في يومك ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك‏.‏

فقال المأمون لذي الرياستين‏:‏ ما تقول أنت فقال‏:‏ أسعدك الله هل تؤمن أن يكون الأمين طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك بل إمنا أشار الحكماء بحمل ثقل ترجون به صلاح العاقبة‏.‏

فقال المأمون‏:‏ بأيثار دعة الاجل صار إلى فساد العاقبة في دنياه وآخرته فامتنع المأمون من إجابته إلى ما طلب وأنفذ المأمون ثقته إلى الحد فلا يمكن أحدًا من العبور إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته فحضر أهل خراسان أن يستمالوا برغبة أورهبة وضبط الطرق بثقات أصحابه فلم يمكنوا من دخول خراسان إلا من عرفوه وأتى بجواز أوكان تاجرًا معروفا وفتشت الكتب‏.‏

وقيل‏:‏ لما اراد الأمين أن يكتب إلى المأمون يطلب بعض كور خراسان قال له إسماعيل بن صبيح‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إن هذا مما يقوي التهمة وينبه على الحذر ولكن أكتب إليه فأعلمه حاجتك وما تحب من قربه والاستعانة به على ما ولاك الله وتسأله القدوم عليك لترجع إلى رأيه فيما تفعل‏.‏

فكتب إليه بذلك وسير الكتاب مع نفر وأمرهم أن يبلغوا الجهد في إحضاره وسير معهم الهدايا الكثيرة فلما حضر الرسل عنده وقرأ الكتاب أشاروا عليه بإجابة الأمين وأعلموه ما في إجابته من المصلحة العامة والخاصة فأحضر ذا الرياستين وأقرأه الكتاب واستشاره فأشار عليه بملازمة خراسان وخوفه من القرب من الأمين فقال‏:‏ لا يمكنني مخالفته وأكثر القواد والاموال معه والناس مائلون إلى الدرهم والدينار لا يرغبون في حفظ عهد ولا أمانة ولست في قوة حتى أمتنع وقد فارق جيغويه الطاعة والتوى خاقان ملك التبت وملك الكابل قد استعد للغارة على ما يليه وملك اتردبنده قد منع الضريبة ومالي بواحد من هذه الأمور بد ولا أرى إلا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به لعليّ آمن على نفسي‏.‏

فقال ذو الرياستين‏:‏ إن عاقبة الغدر شديدة وتبعة البغي غير مأمونة ورب مقهور قد عاد قاهرا وليس النصر بالكثرة والقلة والموت أيسر من الذل والضيم وما أرى أن تصير إلى أخيك  متجردًا من قوادك وجندك كالرأس الذي فارق بدنه فتكون عنده كبعض رعيته يجري عليك حكمه من غير أن تبلي عذرًا في قتال واكتب إلى جيغويه وخاقان فولهما بلادهما وابعث إلى ملك كابل ببعض هدايا خراسان ووادعه واترك لملك اترابنده ضريبته ثم اجمع أطرافك وضم جندك وأضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال فإن ظفرت وإلا لحقت بخاقان‏.‏

فعرف المأمون صدقه ففعل ما أشار به فرضي أولئك الملوك العصاة وضم جنده وجمعهم عنده وكتب إلى الأمين‏:‏ أما بعد فقد وصل إليّ كتاب أمير المؤمنين وإمنا أنا عامل من عماله وعون من أعوانه أمرني الرشيد بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كايد أهله من عدوأمير المؤمنين ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين أعظم غناء عنه المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين فإن كنت مغتبطًا بقربه مسرورًا بمشاهدة نعمة الله عنده فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرني على عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل إن شاء الله‏.‏

والسلام‏.‏

فلما قرأ الأمين كتاب المأمون علم أنه لا يتابعه على ما يريده فكتب إليه يسأله أن ينزل عن بعض كور خراسان كما تقدم ذكره فلما امتنع المأمون أيضًا من إجابته إلى ما طلب أرسل جمعًا ليناظروه في منع ما طلب منه فلما وصلوا إلى الري منعوا ووجدوا تدبيره محكما وحفظوا في حال سفرهم وإقامتهم من أن يخبروا ويستخبروا وكانوا معدين لوضع الأخبار في

وقيل إن الأمين لما عزم على خلع المأمون وزين له ذلك الفضل وابن ماهان دعا يحيى بن سليم وشاوره في ذلك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ كيف تفعل ذلك مع ما قد أكد الرشيد من بيعته وأخذ الشرائط والأيمان في الكتاب الذي كتبه فقال الأمين‏:‏ إن رأي الرشيد كان فلتةً شبهها عليه جعفر بن يحيى فلا ينفعنا ما نحن فيه إلا بخلعه وقلعه واحتشاشه‏.‏

فقال يحيى‏:‏ إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره فيستنكر الناس ذلك ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد وتؤنسهما بالألطاف والهدايا وتفرق ثقاته ومن معه وترغبهم بالأموال فإذا وهنت قوته واستفرغت رجاله أمرته بالقدوم عليك فإن قدم صار إلى الذي تريد منه وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وانقطع عزه‏.‏فقال الأمين‏:‏ أنت مهذار خطيب ولست بذي رأي مصيب قم فالحق بمدادك وأقلامك‏.‏

وكان ذو الرياستين الفضل بن سهل قد اتخذ قومًا يثق بهم ببغداد يكاتبونه بالاخبار وكان الفضل بن الربيع قد حفظ الطرق وكان أحد أولئك النفر إذا كاتب ذا الرياستين بما تجدد ببغداد سير الكتاب مع امرأة وجعله في عود اكفاف وتسير كالمجتازة من قرية إلى قرية فلما ألح الفضل بن الربيع في خلع المأمون أجابه الأمين إلى ذلك وبايع لولده موسى في صفر وقيل في ربيع الأول سنة خمس وتسعين ومائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وسماه الناطق بالحق ونهى عن

ذكر المأمون والمؤتمن على المنابر وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة فأتاه بالكتابين اللذين وضعهما الرشيد في الكعبة بيعة الأمين والمأمون فأحضرهما عنده فمزقهما الفضل‏.‏

فلما أتت الأخبار إلى المأمون بذلك قال لذي الرياستين‏:‏ هذه أمور أخبر الرأي عنها وكفانا أن نكون مع الحق‏.‏

فكان أول ما دبره ذو الرياستين حين بلغه ترك الدعاء للمأمون وصح عنده أن جمع الأجناد الذين كان اتخذهم بجنبات الري مع الاجناد الذين كانوا بها وأمدهم بالأقوات وغيرها وكانت البلاد عندهم قد أجدبت فأكثر عندهم ما يريدونه حتى صاروا في أرغد عيش وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ثم أرسل إليهم طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن أسعد أبا العباس الخزاعي أميرًا فيمن من قواده وأجناده فسار مجدًا حتى ورد الري فنزلها فوضع المسالح والمواصل فقال بعض شعراء خراسان‏:‏ رمى أهل العراق ومن عليها إمام العدل والملك الرشيد بأحزم من نشا رأيًا وحزمًا وكيدًا نافذًا مما يكيد بداهية تأدى خنفقيق يشيب لهول صولتها الوليد فأما الأمين فإنه وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل وأمره أن يوجه مقدمته إلى ساوة ويقيم بهمذان وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يبعثان الأمين ويغريانه بحرب المأمون‏.‏

ولما بايع الأمين لولده موسى جعله في حجر علي بن عيسى وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك وعلى رسائله علي بن صالح صاحب المصلى‏.‏

ذكر خلاف أهل تونس على ابن الأغلب

في هذه السنة عصى عمران بن مجالد الربيعي وقريش بن التونسي بتونس على إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية واجتمع فيها خلق كثير وحصر إبراهيم بن الأغلب بالقصر وجمع من أطاعه وخالف عليه أيضًا أهل القيروان في جمادى الآخرة فكانت بينهم وقعة وحرب قتل فيها جماعة من رجال ابن الأغلب‏.‏

وقدم عمران بن مجالد فيمن معه فدخل القيروان عاشر رجب وقدم قريش من تونس غليه فكانت بينهم وبين ابن الأغلب وقعة في رجب فانهزم أصحاب ابن الأغلب ثم التقوا في العشرين منه فانهزموا ثانية أيضا ثم التقوا ثالثة فيه أيضا فكان الظفر بن الأغلب وأرسل عمران بن مجالد إلى أسد بن الفرات الفقيه ليخرج معهم فامتنع فاعاد الرسول يقول له‏:‏ تخرج معنا وإلا أرسلت إليك من يجر برجلك فقال أسد للرسول‏:‏ قل له‏:‏ واله إن خرجت لأقولن لناس إن القاتل والمقتول في النار‏.‏

فتركه‏.‏

ذكر عصيان أهل ماردة وغزو الحكم بلاد الفرنج

في هذه السنة عاود أهل ماردة الخلاف على الحكم بن هشام أمير الأندلس وعصوا عليه فسار بنفسه إليهم وقاتلهم ولم تزل سراياه وجيوشه تتردد وتقاتلهم هذه السنة وسنة خمس وسنة ست وتسعين ومائة‏.‏

وطمع الفرنج في ثغور المسلمين وقصدوها بالغارة والقتل والنهب والسبي وكان الحكم مشغولًا بأهل ماردة فلم يتفرغ للفرنج فأتاه الخبر بشدة الأمر على أهل الثغر وما بلغ العدومنهم وسمع أن امرأة مسلمة أخذت سبية فنادت‏:‏ واغوثاه يا حكم‏!‏ فعظم الأمر عليه وجمع عسكره واستعد وحشد وسار إلى بلد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة وأثخن في بلادهم وافتتح عدة حصون وخرب البلاد ونهبها وقتل الرجال وسبى الحريم ونهب الأموال وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة فأمر لهم من الأسرى بما يفادون به أسراهم وبالغ في الوصية في تخليص تلك المرأة فتخلصت من الأسر وقتل باقي الأسرى فلما فرغ من غزاته قال لأهل الثغور‏:‏ هل أغاثكم الحكم فقالوا‏:‏ نعم ودعوا له واثنوا عليه خيرا وعاد إلى قرطبة مظفرًا‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها وثبت الروم على ملكهم ميخائيل فهرب وترهب وكان ملك نحوسنتين وملك بعده أليون القائد‏.‏

وكان على الموصل إبراهيم بن العباس استعمله الأمين‏.‏

وفي هذه السنة قتل شقيق اللخي في غزاة كولان من بلاد الترك‏.‏

وفيها مات الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي وقيل سنة خمس وتسعين ومائة وكان مولده سنة عشر ومائة‏.‏

وفيها مات حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة وكان مولده سنة سبع عشرة ومائة‏.‏

غياث بالغين المعجمة‏.‏

وفيها توفي عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وكان مولده سنة ست عشرة ومائة وكان قد وفيها توفي سيبويه النحوي واسمه عمروبن عثمان بن قنبر أبوبشير وقيل‏:‏ كان توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة وقيل‏:‏ كان عمره قد زاد على أربعين سنة وقيل كان عمره اثنتين وثلاثين سنة‏.‏

وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص وعمره أربع وسبعون سنة‏.‏ ‏ ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏