في هذه السنة عصى بأعمال الموصل إنسان من مقدمي الأكراد اسمه جعفر ابن فهرجس وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم ممن يريد الفساد فاستعمل المعتصم عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي على الموصل وأمره بقتال جعفر فسار عبد الله إلى الموصل وكان جعفر بما نعيس قد استولى عليها فتوجه عبد الله إليه وقاتله وأخرجه ما نعيس.
فقصد جبل داسن وامتنع بموضع عال فيه لا يرام والطريق إليه ضيق فقصد عبد الله إلى
هناك وتوغل في تلك المضايق حتى وصل إليه وقاتله فاستظهر جعفر ومن معه من الأكراد على عبد الله لمعرفتهم بتلك المواضع وقوتهم على القتال بها رجالة فانهزم عبد الله وقتل أكثر من معه.
وممن ظهر منهم إنسان اسمه رباح حمل على الأكراد فخرق صفهم وطعن فيهم وقتل وصار وراء ظهورهم وشغلهم عن أصحابه حتى نجا منهم من أمكنه النجاة فتكاثر الأكراد عليه ألقى نفسه من رأس الجبل على فرسه وكان تحته نهر فسقط الفرس في الماء وجاء رباح.
وكان فيمن أسره جعفر رجلان أحدهما اسمه إسماعيل والآخر إسحاق ابن أنس وهم عم عبد الله بن السيد وكان إسحاق صهر جعفر فقدمهما جعفر إليه فظن إسماعيل أنه يقتله ولا يقتل إسحاق للصهر الذي بينهما فقال: يا إسحاق أوصيك بأولادي فقال له إسحاق: أتظن أنك تقتل وأبقى بعدك ثم التفت إلى جعفر فقال: أسألك أن تقتلني قبله لتطيب نفسه فبدأ به فقتله وقتل إسماعيل بعده.
فلما بلغ ذلك المعتصم أمر إيتاخ بالمسير إلى جعفر وقتاله فتجهز وسار إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داسن وجعل طريقه على سوق الأحد فالتقاه جعفر فقاتله قتالًا شديدا فقتل جعفر وتفرق أصحابه فانكشف شره وأذاه عن الناس.
وقيل إن جعفرًا شرب سمًا كان معه فمات وأوقع إيتاخ بالأكراد فأكثر القتل فيهم واستباح أموالهم وحشر الأسرى والنساء والأموال إلى تكريت.
وقيل: إن إيقاع إيتاخ بجعفر كان سنة ست وعشرين والله أعلم.
ذكر غزاة المسلمين بالأندلس
وفي هذه السنة سير عبد الرحمن عبد الله المعروف ابن البلنسي إلا بلاد العدو فوصلوا إلى ألبة والقلاع فخرج المشركون إليه في جمعهم وكان بينهم حرب شديدة وقتال عظيم فانهزم المشركون وقتل منهم ما لا يحصى وجمعت الرؤوس أكداسا حتى كان الفارس لا يرى من يقابله.
وفيها خرج لذريق في عسكره وأراد الغارة على مدينة سالم من الأندلس فسار إليه فوتون بن موسى في عسكر رار فلقيه وقاتله فانهزم لذريق وكثر القتل في عسكره وسار فرتون إلى الحصن الذي كان بناه أهل ألبة بإزاء ثغور المسلمين فحصره وافتتحه وهدمه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة تولى جعفر بن دينار اليمن.
وفيها تزوج الحسين بن الأفشين أتراجة ابنة أشناس ودخل بها في قصر المعتصم في جمادى الآخرة وأحضر عرسها عامة أهل سامرا وكانوا يغلفون العامة بالغالية وهي في تيغار من فضة.
وفيها امتنع محمد بن عبد الله الورثاني بورثان ثم عاود الطاعة وقدم على المعتصم بأمان سنة خمس وعشرين ومائتين.وفيها مات ناطس الرومي وصلب بسامرا.
وفيها مات إبراهيم بن المهدي في رمضان وصلى عليه المعتصم وحج بالناس محمد بن داود.
وفيها وقع بإفريقية فتنة كان فيها حرب بين عيسى بن ريعان الأزدي وبين لواتة وزواغة ومكناسة فكانت الحرب بين قفصة وقسطيلية فقتلهم عيسى عن آخرهم.
وفيها اجتمع أهل سجلماسة مع مدرار بن أليسع على تقديم ميمون بن مدرار في الإمارة على سجلماسة وإخراج أخيه المعروف بابن تقية فلما استقر الأمر لميمون أخرج أباه وأمه إلى بعض قرى سجلماسة.
وفيها فتح نوح بن أسد كاسان وأورشت بما وراء النهر وكانتا قد نقضتا الصلح وافتتح أيضًا اسبيجاب وبنى حوله سورًا يحيط بكروم أهله ومزارعهم.
وفيها مات أبوعبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي وكان عمره سبعًا وستين سنة كانت وفاته بمكة.
سلام بتشديد اللام.
حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين
ذكر وصول مازيار إلى سامرا
في هذه السنة كان وصول مازيار إلى سامرا فخرج إسحاق بن إبراهيم فأخذه من الدسكرة وأدخله سامرا على بغل بأكاف لانه امتنع من ركوب الفيل فأمر المعتصم أن يجمع بينه وبين الأفشين.
وكان الأفشين قد حبس قبل ذلك بيوم فأقر مازيار أن الأفشين كان يكاتبه ويحسن له الخلاف والمعصية فأمر برد الأفشين إلى محبسه وضرب مازيار أربعمائة وخمسين سوطا وطلب ماء للشرب فسقي فمات من ساعته.
وقيل ما تقدم ذكره وقد تقدم من اعتراف مازيار بكتب الأفشين في غير موضع ما يخالف هذا وسببه اختلاف الناقلين.
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الأفشين وحبسه.
وكان سبب ذلك أن الأفشين كان أيام محاربة بابك لا تأتيه هدية من أهل أرمينية وأذربيجان إلا وجه بها إلى اشروسنة فيجتاز بذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله إلى المعتصم يعرفه الخبر فكتب إليه المعتصم يأمره بإعلامه بجميع ما يوجه به الأفشين ففعل ذلك عبد الله ذلك فكان الأفشين كلما اجتمع عنده مال يجعله على أوساط أصحابه في الهمايين ويسيره إلى أشروسنة.
فأنفذ مرة مالًا كثيرا فبلغ أصحابه إلى نيسابور فوجه عبد الله بن طاهر ففتشهم فوجد المال في أوساطهم فقال: من أين لكم هذا المال فقالوا: للأفشين فقال: كذبتم لوأراد أخي الأفشين أن يرسل مثل هذه الهدايا والأموال لكتب يعلمني ذلك الأمر بتسييره وإمنا أنتم لصوص.
وأخذ عبد الله المال فأعطاه الجند وكتب إلى الأفشين يذكره له ما قال القوم وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال ولم تعلمني وقد أعطيته الجند عوض المال الذي يوجهه أمير المؤمنين فغن كان المال لك كما زعموا فإذا جاء المال من عند أمير المؤمنين رددته عليك وإن يكن غير هذا فأمير المؤمنين أحق بهذا المال وإمنا دفعته إلى الجند لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك.
فكتب إليه الأفشين: إن مالي ومال أمير المؤمنين واحد وسأله إطلاق القوم فأطلقهم فكان ذلك سبب الوحشة بينهما.
وجعل عبد الله يتتبعه وكان الأفشين يسمع من المعتصم ما يدل على أنه يريد عزل عبد الله عن خراسان فطمع في ولايتها فكاتب مازيار يحسن له الخلاف ظنًا منه أنه إذا خالف عزل المعتصم عبد الله عن خراسان واستعمله عليها وأمره بمحاربة مازيار فكان من أمر مازيار ما تقدم وكان من عصيان منكجور ما ذكرناه أيضا فتحقق المعتصم أمر الأفشين فتغير عليه.
وأحس الأفشين بذلك فلم يدر ما يصنع فعزم على أن يهيئ أطوافًا في قصره ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف ويصير إلى أرمينية وكانت ولاية أرمينية إليه ثم يصير إلى بلاد الخزر ثم يدور في بلاد الترك ويرجع إلى أشروسنة أويستميل الخزر على المسلمين فلم يمكنه ذلك فعزم على أن يعمل طعامًا كثيرا ويدعوالمعتصم والقواد ويعمل فيه سما فإن لم يجيء المعتصم عمل ذلك بالقواد مثل أشناس وإيتاخ وغيرهما يوم تشاغل المعتصم فإذا خرجوا من عنده سار في أول الليل فكان في تهيئة ذلك.فكان قواده ينوبون في دار المعتصم كما يفعل القواد فكان أواجن الأشروسني قد جرى بينه
وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث فقال أواجن: لا يتم هذا الأمر فذهب ذلك الرجل إلى الأفشين فأعلمه فتهدد أواجن فسمعه بعض من يميل إلى أواجن من خدم الأفشين فأتاه ذلك الخادم فأعلمه الحال بعد عوده من النوبة فخاف على نفسه فخرج إلى دار المعتصم فقال لإيتاخ: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة قال قد نام أمير المؤمنين فقال أواجن: لا يمكنني أن أصبر إلى غد فدق إيتاخ الباب على بعض من يخبر المعتصم بذلك فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى غد! فقال: إن انصرفت ذهبت نفسي فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته عندك الليلة.
فبيته عنده فلما أصبح الصباح بكر به على باب المعصم فأخبره بجميع ما كان عنده فأمر المعتصم بإحضار الأفشين فجاء في سواده فأمر بأخذ سواده وحبسه في الجوسق وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال على الحسين بن الأفشين وكان الحسين قد كثرت كتبه إلى عبد الله فشكا من ونوح بن الأسد الأمير بما وراء النهر وتحامله على ضياعه وناحيته فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمر الحسين ويأمره أن يجمع أصحابه ويتأهب فإذا قدم عليه الحسين بكتاب ولايته فخذه واستوثق منه واحمله إليّ.
وكتب عبد الله إلى الحسين يعلمه أنه قد عزل نوحا وأنه قد ولاه ناحيته ووجه إليه بكتاب عزل نوح وولايته فخرج ابن الأفشين في قله من أصحابه وسلاحه حتى ورد على نوح وهويظن أنه والي الناحية فأخذ نوح وقيده ووجهه إلى عبد الله بن طاهر فوجه به عبد الله إلى المعتصم فأمر المعتصم بإحضار الأفشين ليقابل على ما قيل عنه فاحضر عند محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم وعنده ابن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم وغيرهما من الأعيان وكان المناظر له ابن الزيات فأمر بإحضار مازيار والموبذ والمرزبان بن بركش وهوأحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثة فقال لهما: ما شأنكما فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم فقال للأفشين: أتعرف هؤلاء قال: نعم هذا مؤذن وهذا إمام بنيا مسجدًا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط وذلك أن بيني وبين ملك السغد عهدًا وشرطًا أن أترك كل قوم على دينهم فوثب هذان على بيت كان فيه أصنام أهل أشروسنة فأخرجا الأصنام وجعلاه مسجدا فضربتهما على هذا.
قال ابن الزيات: ما كتاب عندك قد حليته بالذهب والجوهر فيه الكفر بالله تعالى قال: كتاب ورثته عن أبي فيه من آداب العجم وكفرهم فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر ووجدته محلى فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
ثم تقدم الموبذ فقال: إن هذا يأكل لحم المخنوقة ويحملني على أكلهأن ويزعم أنها رطب من المذبوحة.
وقال لي يومًا: قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل والبغل غير أني هذه الغاية لم تسقط عني شعرة يعني أخذ شعر العانة ولم أختتن.
فقال الأفشين: أخبروني عن هذه أثقة هوفي دينه وكان مجوسيا وإمنا أسلم أيام المتوكل فقالوا: لا! فقال: فما معنى قبول شهادته ثم قال لموبذ: أليس كنت أدخلك علي وأطلعك على سري قال: بلى! قال: لست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك إذا أفشيت سرًا أسررته إليك.
ثم تقدم المرزبان فقال: كيف يكتب إليك أهل بلدك قال: لا أقول! قال: أليس يكتبون بكذا بالاشروسنية قال: بلى! قال: أليس تفسيره بالعربية: إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان قال: بلى! قال: محمد بن عبد الملك الزيات: المسلمون لا يحتملون هذا فما أبقيت لفرعون قال: هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي قبل أن أدخل في الإسلام فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم.
ثم تقدم مازيار قالوا للأفشين: هل كاتبت هذا قال: لا! قالوا لمازيار: هل كتب إليك قال: نعم كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك فأما
بابك فإنه لمقته قتل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى لحمقه إلا أن أوقعه فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب والمغاربة والأتراك والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة واضرب رأسه والمغاربة أكلة راس والأتراك فإمنا هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم ويعود الدين إلى ما يزل عليه أيام العجم.
فقال الأفشين: هذا يدعي أن أخي كتب إلى أخيه: لا يجب عليّ ولوكتبت هذا الكتاب إليه لأستميله إليّ ويثق بي ثم آخذه بقفاه وأحظى به عند الخليفة كما حظي عبد الله بن طاهر فزجره ابن أبي دؤاد فقال الأفشين: يا أبا عبد الله أنت ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى يقاتل جماعة.
فقال له ابن أبي دؤاد: أمطهر أنت قال: لا! قال: فما منعك من ذلك وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة فقال: أوليس في الإسلام استعمال التقية قال: بلى! قال: خفت أن أقطع ذلك العضومن جسدي فأموت فقال: أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك أن يكون ذلك في الحرب وتجزع من قطع قلفة قال: تلك ضرورة تصيبني فأصبر عليها وهذا شيء استجلبه.
فقال ابن أبي دؤاد: قد بان لكم أمره فقال لبغا الكبير: عليك به! فضرب بيده على منطقته فجذبها واخذ بمجامع القباء عند عنقه ورده إلى محبسه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غضب المعتصم على جعفر بن دينار لأجل وثوبه على من كان معه من الأصحاب وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما ثم رضي عنه وعزله عن اليمن واستعمل عليها إيتاخ.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس وولاه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها سار عبد الرحمن صاحب الأندلس في جيش كثير إلى بلاد المشركين في شعبان فدخل بلاد جليقية فافتتح منها عدة حصون وجال في أرضهم يخرب ويغمن ويقتل ويسبي وأطال المقام في هذه الغزاة ثم عاد إلى قرطبة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
وفيها توفي أبودلف العجلي واسمه القاسم بن عيسى وأبوعمرو الجرمي النحوي واسمه صالح بن إسحاق وكان من الصالحين.
وفيها توفي أبوالحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني وله ثلاث وتسعون سنة وله كتب في
حوادث سنة ست وعشرين ومائتين
فيها وثب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين عليّ بن رجاء وكان على الخراج فقتله وأظهر الوسواس ثم تكلم فيه أحمد بن أبي دؤاد فأطلق من محبسه.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر فصلى عليه المعتصم.
ذكر موت الأفشين
وفيها مات الأفشين وكان قد أنفذ إلى المعتصم يطلب أن ينفذ إليه من يثق به وأنفذ إليه حمدون بن إسماعيل فأخذ يعتذر عما قيل فيه وقال: قل لأمير المؤمنين إمنا مثلي ومثلك كرجل ربي عجلًا حتى أسمنه وكبر وكان له أصحاب يشتهون أن يأكلوا من لحمه فعرضوا بذبحه فلم يجبهم فاتفقوا جميعًا على أن قالوا: لم تربي هذا الأسد فإنه إذا كبر رجع إلى جنسه! فقال لهم: إمنا هوعجل فقالوا: هذا أسد فسل من شئت.
وتقدموا إلى جميع من يعرفونه وقالوا لهم: إن سألكم عن العجل فقولوا له: إنه أسد وكلما سأل إنسانًا قال: هوسبع فأمر بالعجل فذبح ولكني أنا ذلك العجل كيف أقدر أن أكون أسدًا الله الله في أمري.
قال حمدون: فقمت عنه وبين يديه طبق فيه فاكهة قد أرسله المعتصم مع ابنه الواثق وهوعلى حاله فلم ألبث إلا قليلًا حتى قيل إنه يموت أوقد مات فحمل إلى دار أيتاخ فمات بها وأخرجوه وصلبوه على باب العامة ليراه الناس ثم ألقي وأحرق بالنار وكان موته في شعبان.
قال حمدون: وسألته هل هومطهر أم لا فقال: إلى مثل هذا الموضع إمنا قال لي هذا والناس مجتمعون ليفضحني إن قلت نعم قال: تكشف والموت كان أحب إليّ من أن أتكشف بين يدي الناس ولكن إن شئت أتكشف بين يديك حتى تراني فقلت عنه إلا القليل حتى مات.
قال: ولما أخذ ماله رأى في داره بيت تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر وفي أذنيه حجران مشتبكان عليهما ذهب فاخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين وظنه جوهرا وكان ذلك ليلا فلما أصبح نزع عنه الذهب ووجده شيئًا شبيهًا بالصدف يسمى الحبرون ووجدوا أصنامًا وغير ذلك والأطواف الخشب التي كان أعدها ووجدوا له كتابًا كتب المجوس وكتبًا غيره فيها ديانته.
ذكر وفاة الأغلب وولاية أبي العباس محمد بن الأغلب إفريقية وما كان منه
في هذه السنة في ربيع الآخر توفي الأغلب بن إبراهيم يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة وكانت ولايته سنتين وسبعة أشهر وسبعة أيام.ولما توفي ولي أبوالعباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب بلاد إفريقية بعد وفاة والده ودانت له إفريقية وابتنى مدينة بقرب تاهرت سماها العباسية في سنة تسع وثلاثين ومائتين فاحرقها أفلح بن عبد الوهاب الإباضي وكتب إلى الأموي صاحب الأندلس يعلمه ذلك فبعث إليه الأموي مائة ألف درهم جزاء له على فعله.وتوفي محمد بن الأغلب يوم الاثنين غرة المحرم من سنة اثنتين وأربعين ومائتين وكانت ولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وعشرة أيام.
ذكر ولاية ابنه أبي إبراهيم أحمد
لما توفي أبوالعباس محمد بن الأغلب ولي الأمر بعده أبو إبراهيم أحمد وأحسن السيرة مع الرعية واكثر العطاء للجند وبنى بأرض إفريقية عشرة آلاف حصن بالحجارة والكلس وأبواب الحديد واشترى العبيد ولم يكن في أيامه تأثر يزعجه ثم توفي رحمه الله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين وكانت ولايته سبع سنين وعشرة أشهر واثني
ذكر ولاية أخيه أبي محمد زيادة الله
ولما توفي أحمد ولي أخوه زيادة الله وجرى على سنن سلفه ولم تطل أيامه فتوفي يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة سنة خمسين ومائتين وكانت ولايته سنة واحدة وستة أيام.
ذكر ولاية محمد بن أحمد بن الأغلب
ولما توفي زيادة الله ولي بعده أبوعبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب وجرى على سنن أسلافه وكان أدبيا عاقلا حسن السيرة غير أن جزيرة صقلية تغلب الروم على مواضع منها وبنى أيضًا حصونًا ومحارس على ساحل البحر.
وبالمغرب أرض تعرف بالأرض الكبيرة بينها وبين برقة مسيرة خمسة عشر يوما وبها مدينة على ساحل البحر تدعى بارة وكان أهلها نصارى ليسوبروم فغزاها حياة مولى الأغلب فلم يقدر عليها ثم غزاها خلفون البربري ويقال إنه مولى لربيعة ففتحها في خلافة المتوكل وقام بعده رجل يسمى المفرج بن سالم ففتح أربعة وعشرين حصنا واستولى عليها فكتب إلى والي مصر يعلمه خبره وأنه لا يرى لنفسه ومن معه من المسلمين صالة إلا بأن يعقد له الإمام على ناحيته ويوليه إياها ليخرج من حد المتغلبين وبنى مسجدًا جامعًا.
ثم إن أصحابه شغبوا عليه ثم قتلوه ثم توفي أبوعبد الله محمد رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين إنما ذكرنا ولاية هؤلاء متتابعة لقلة ما لكل واحد منهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة زلزلت الأهواز زلزلة شديدة خمسة أيام وكان مع الزلزلة ريح شديدة فخرج الناس عن منازلهم وخرب كثير منها.
وفيها حج بالناس محمد بن داود أمره أشناس بذلك وكان أشناس حاجا وقد جعل إليه ولاية كل بلد يدخله وخطب له على منابر مكة والمدينة وغيرهما من البلاد التي اجتاز بها بالإمرة إلى أن عاد إلى سامرا.
وفيها توفي أبوالهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله بن العلاف البصري شيخ المعتزلة في زمانه وزاد عمره على مائة سنة وله مسائل في الأصول قبيحة تفرد بها ويحيى بن يحيى بن بكر بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي النيسابوري أبوزكرياء وتوفي في صفر بنيسابور وسليمان بن حرب الواشجي القاضي وأبوالهيثم الرازي النحوي وكان عالمًا بنحوالكوفيين.
حوادث سنة سبع وعشرين مائتين
في هذه السنة خرج أبوحرب المبرقع اليماني بفلسطين وخالف على المعتصم.
وكان سبب خروجه أن بعض الجند أراد النزول في داره وهوغائب فمنعه بعض نسائه فضربها الجندي بسوط فأصاب ذراعها فأثر فيها فلما رجع إلى نزله شكت إليه ما فعل لها الجندي فأخذ سيفه وسار نحوه فقتله ثم هرب وألبس وجهه برقعا وقصد بعض جبال الأردن فأقام به وكان يظهر بالنهار متبرقعا فإذا جاءه أحد ذكره وأمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكر الخليفة وما يأتي ويعيبه فاستجاب له قوم من فلاحي تلك الناحية.
وكان يزعم أنه أموي فقال أصحابه: هذا السفياني فلما كثر أتباعه من هذه الصفة دعا أهل البيوتات فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية منهم رجل يقال له ابن بيهس كان مطاعًا في أهل اليمن ورجلان من أهل دمشق.
واتصل الخبر بالمعتصم في مرضه الذي مات فيه فسير إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء ألف رجل من الجند فرآه في عالم كثير يبلغون مائة ألف فكره رجاء مواقعته وعسكر في مقابلته حتى كان أوان الزراعة وعمل الأرض فانصرف من كان مع المبرقع إلى عملهم وبقي في زهاء ألف أوألفين.
وتوفي المعتصم وولي الوارثق وثارت الفتنة بدمشق على ما نذكره فأمر الواثق رجاء بقتال من
أراد الفتنة والعود إلى المبرقع ففعل ذلك وعاد إلى المبرقع فناجزه رجاء فالتقى العسكران فقال رجاء لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلًا له شجاعة غيره وإنه سيظهر لأصحابه ما عنده فإذا حمل عليكم فأفرجوا له فما لبث أن حمل المبرقع فأفرج له أصحاب رجاء حتى جاوزهم ثم رجع فأفرجوا له حتى أتى أصحابه ثم حمل مرة أخرى فلما أراد الرجوع أحاطوا به وأخذوه أسيرًا.
وقيل: كان خروجه سنة ست وعشرين ومائتين وإنه خرج بنواحي الرملة وصار في خمسين ألفا فوجه المعتصم رجاء الحضاري فقاتله وأخذ ابن بيهس أسيرا وقتل من أصحاب المبرقع نحوًا من عشرين ألفا وأسر المبرقع وحمله إلى سامرا.
ذكر وفاة المعتصم
وفي هذه السنة توفي المعتصم أبوإسحاق محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول وكان بدء عليته أنه احتجم أول يوم في المحرم واعتل عندها.
قال زنام الزامر: أفاق المعتصم في علته التي مات فيها فركب في الزلال في دجلة وأنا معه فمر يا منزلًا لم تبل أطلاله حاشًا لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنني بكيت عيشي فيك إذ ولى والعيش أولى ما بكاه الفتى لا بد للمخزون أن يسلى قال: فما زلت أزمر له هذا الصوت وأكرره وقد تناول منديلًا بين يديه فما زال يبكي فيه وينتحب حتى رجع إلى منزله.
ولما احتضر المعتصم جعل يقول: ذهبت الحيل ليست حيلة حتى صمت ثم مات ودفن بسامرا.
وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين وكان مولده سنة تسع وسبعين ومائة وقيل: سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن وهوثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس ومات عن ثمانية بنين وثماني بنات وملك ثماني سنينوثمانية أشهر فعلى القول الأول يكون عمره سبعًا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وعلى القول الثاني يكون عمره سبعًا وأربعين سنة وسبعة أشهر.
وكان أبيض أصهب الحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين وكان مولده بالخلدقار وقال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه: اذهب فنعم الحفيظ كنت على ال دنيا ونعم المعين لدين لا يخبر الله أمة فقدت مثلك إلا بمثل هارون وكانت أمه ماردة من مولدات الكوفة وكانت أمها صغدية وكان أبوها نشأ بالبندنيجين.
ذكر بعض سيرته
ذكر عن أحمد بن أبي دؤاد أنه ذكر المعتصم فأسهب في ذكره وأكثر في وصفه وذكر من طيب أعراقه وسعة أخلاقه وكريم عشرته قال: وقال يوما ونحن بعمورية: ما تقول في البسريا عبد الله فقلت: يا أمير المؤمنين نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق فقال: قد جاؤوا منه بشيء من بغداد وعلمت أنك تشتهيه ثم أحضره فمد يده فأخذ العذق فارغا قال: وكنت أزامله كثيرًا في سفره ذلك.
ذكر باقي الخبر
قال: وأخذت لأهل الشاش منه ألفي درهم لعمل بهر كان لهم اندفن في صدر الإسلام فأضر بهم.
وقال غيره: إنه كان لا يبالي إذا غضب من قتل وما فعل ولم يكن له لذة في تزيين البناء ولم يكن بالنفقة أسمح منه بها في الحرب.
قال أحمد بن سليمان بن أبي شيخ: قدم الزبير بن بكار العراق هاربًا من العلويين لأنه كان ينال منهم فتهددوه فهرب منهم وقدم على عمه مصعب بن عبد الله بن الزبير وشكا إليه حاله وخوفه من العلويين وسأله إنهاء حاله إلى المعتصم فلم يجد عنده ما أراد وأنكر عليه حاله ولامه.
قال أحمد: فشكا ذلك إلي وسألني مخاطبة عمه في أمره فقلت له في ذلك وأنكرت عليه إعراضه عنه فقال لي: إن الزبير فيه جهل وتسرع فأشر عليه أن يستعطف العلويين ويزيل ما في نفوسهم منه أما رأيت المأمون ورفقه بهم وعفوه عنهم وميله إليهم قلت: بلى فهذا أمير المؤمنين والله على مثل ذلك أوفوقه ولا أقدر أذكرهم عنده بقبيح فقل له ذلك حتى يرجع عن الذي هوعليه من ذمهم.
قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي دعاني المعتصم يوما فدخلت عليه فقال: أحببت أن أضرب معك بالصوالجة فلعبنا بها ساعة ثم نزل وأخذ بيدي منشي إلى أن صار إلى حجرة الحمام فقال: خذ ثيابي فأخذتها ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت: ودخلت وليس معنا غلام فقمت إليه فخدمته ودلكته وتولى المعتصم مني مثل ذلك فاستعفيته فأبى علي ثم خرجنا ومشى وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فنام وأمرني فمنت حذاءه بعد الامتناع ثم قال لي: يا إسحاق إن في قلبي أمرًا أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة وإمنا بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك فقلت: قل يا أمير المؤمنين فإمنا أنا عبدك وابن عبدك.
قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة فلم يفلح أحد منهم قلت: ومن الذين اصطنعهم المأمون قال: طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت وابنه عبد الله بن طاهر فهوالرجل الذي لم ير مثله وأنت فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان عنك أبدًا وأخوك محمد بن إبراهيم وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره وأشناس ففشل وإيتاخ فلا شيء ووصيفًا فلا معنى فيه.
فقلت: أجيب على أمان من غضبك قال: نعم! قلت له: يا أمير المؤمنين نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت واستعمل أمير المؤمنين فروعا فلم تنجب إذ لا أصول لها.
فقال: يا أبا إسحاق لمقاساة ما مر بي طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.
وقال ابن دؤاد: تصدق المعتصم ووهب على ديد مائة ألف ألف درهم.
وحكي أن المعتصم قد انقطع عن أصحابه في يوم مطر فبيمنا هويسير رحله إذ رأى شيخًا معه حمار عليه حمل شوك وقد زلق الحمار وسقط والشيخ قائم ينتظر من يمر به فعينه على حمله فسأله المعتصم عن حاله فأخبره فنزل عن دابته ليخلص الحمار عن الوحل ويرفع عليه
حمله فقال له الشيخ: بأبي أنت وأمي لا تبلل ثيابك وطيبك! فقال: لا عليك ثم إنه خلص الحمار وجعل الشوك عليه وغسل يديه ثم ركب فقال الشيخ: غفر الله لك يا شاب! ثم لحقه أصحابه فأمر له بأربعة آلاف درهم ووكل معه من يسير إلى بيته.
ذكر خلافة الواثق بالله
وفيها بويع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه أبوه وذلك يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر وأمه أم ولد رومية تسى قراطيس.
وفيها هلك توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وملكت بعده امرأته تدورة وابنها ميخائيل بن توفيل صبي وحج بالناس جعفر ابن المعتصم وحجت معه أم الواثق فماتت بالحيرة في ذي الحجة ودفنت بالكوفة.
ذكر الفتنة بدمشق
لما مات المعتصم ثارت القيسية بدمشق وعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم فبعث الواثق إليهم رجاء بن أيوب الحضاري وكانوا معسكرين بمرج راهط فنزل رجاء بدير مران ودعاهم
فلما كان يوم الأحد وقد تفرقت سار رجاء إليهم فوافاهم وقد سار بعضهم إلى دومة وعضهم في جوائجه فقاتلهم وقتل منهم نحوألف وخمسمائة وقتل من أصحابه نحوثلاثمائة وهرب مقدمهم ابن بيهس وصلح أمر دمشق.
وسار رجاء إلى فلسطين إلى قتال أبي حرب المبرقع الخارج بها فقاتله فانهزم المبرقع واخذ أسيرًا على ما ذكرناه.
ذكر عدة حوادث
وفيها توفي بشر بن الحارث الزاهد المعروف بالحافي في ربيع الأول وعبد الرحمن بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن موسى بن عبيد الله ابن معمر التيمي المعروف بابن عائشة البصري وإمنا قيل له ابن عائشة لأنه من ولد عائشة بنت طلحة وتوفي أبوه عبيد الله بعده لسنة وإسماعيل ابن أبي أويس ومولده سنة تسع وثلاثين ومائة واحمد بن عبد الله بن يونس وأبوالوليد الطيالسي والهيثم بن خارجة.
وفيها سير عبد الرحمن صاحب الأندلس جيشًا إلى أرض العدو فلما كان بين أربونة وشرطانية تجمعت الروم عليهم وأحاطوا بالعسكر وقاتلوهم الليل كله فلما أصبحوا أنزل الله تعالى نصره على المسلمين وهزم عدوهم وأبلى موسى بن موسى في هذه العدوة بالء عظيما وكان على مقدمة العسكر وجرى بينه وبين جرير بن موفق وهومن أكابر الدولة أيضا شر فكان سببًا لخروج موسى عن طاعة عبد الرحمن.
وفيها توفي أذفونس ملك الروم بالأندلس وكانت إمارته اثنتين وستين سنة.وفيها توفي محمد بن عبد الله بن حسان اليحصبي الفقيه المالكي وهومن أهل إفريقية.
شرطانية بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح الطاء المهملة وبعدها نون ثم ياء تحتانية ثم هاء.