المجلد السادس - ذكر ملك المسلمين مدينة سرقوسة

وفي هذه السنة رابع عشر رمضان ملك المسلمون سرقوسة وهي من أعظم صقلية‏.‏

وكان سبب ملكها أن جعفر بن محمد أمير صقلية غزاها فأفسد زرعها وزرع قطانية وطبرمين ورمطة وغيرها من بلاد صقلية التي بيد الروم ونازل سرقوسة وحصرها برًا وبحرًا وملك بعض أرباضها ووصلت مراكب الروم نجدة لها فسير إليها أسطولا فأصابوها فتمكنوا حينئذ من حصرهأن فأقام العسكر محاصرًا لها تسعة اشهر وفتحت وقتل من أهلها عدة ألوف وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفذ‏.‏

وأقاموا فيها بعد فتحها بشهرين ثم هدموهأن ثم وصل بعد هدمها من القسطنطينية أسطول فالتقوا هم والمسلمون فظفر بهم المسلمون وأخذوا منهم أربع قطع فقتلوا من فيهأن وانصرف المسلمون إلى بلدهم آخر ذي القعدة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس ابنه المنذر في جيش إلى مدينة بنبلونة وجعل طريقه على سرقسطة فقاتل أهلها ثم انتقل إلى تطيلة وجال مع مواضع بني

وفيها سار جمع من العرب إلى مدينة جليقية فكان بينهم وقعة عظيمة قتل فيها من الطائفتين كثير‏.‏

وفيها فرغ إبراهيم بن محمد بن الأغلب صاحب إفريقية من بناء رقادة وكان ابتداء عمارتها سنة ثلاث وستين ومائتين ولما فرغت انتقل إبراهيم إليها‏.‏

وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى الصيمرة مقدمة إليها واخذوا صعون فأحضروه عنده فمات‏.‏

وفيها ماتت قبيحة أم المعتز‏.‏

وفيها وقع الطاعون بخراسان جميعها وقومس فأفنى خلقًا كثيرًا وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى الهاشمي‏.‏

وفيها توفي أبوزرعة الرازي واسمه عبيد الله بن عبد الكريم وكان حافظًا للحديث ثقة ومحمد بن إسماعيل بن عليه وكان موته بدمشق‏.‏

وفيها مات أبوإبراهيم المزني صاحب الشافعي وكان موته بمصر وعلي بن حرب الطائي وكان إمامًا في الحديث‏.‏

ذكر أخبار الزنج


في هذه السنة كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه وبين سليمان بن جامع والزنج بناحية جنبلاء‏.‏

وكان سببها أن سليمان كتب إلى الخبيث يخبره بحال نهر يسمى الزهري ويسأله أن يأذن في عمله فإنه متى أنفذه تهيأ له حمل ما في جنبلاء وسواد الكوفة فأنفذ إليه نكرويه لذلك وأمره بمساعدته والنفقة على عمل النهر فمضى سليمان فيمن معه وأقام بالشريطة نحوًا من شهر وشرعوا في عمل النهر‏.‏

وكان أصحاب سليمان في أثناء ذلك يتطرقون ما حولهم فواقعه أحمد ابن ليثويه وهوعامل الموفق بجنبلاء فقتل من الزنوج نيفًا وأربعين قائدا ومن عامتهم ما لا يحصى كثرة وأحرق سفنهم فمضى سليمان مهزومًا إلى طهثا‏.‏

وفيها سار جماعة من الزنوج في ثلاثين سميرية إلى جبل فأخذوا أربع سفن فيها طعام وانصرفوا‏.‏

وفيها دخل الزنج النعمانية فأحرقوها وسبوا وساروا إلى جرجرايا ودخل أهل السواد بغداد‏.‏

وفيها استعمل الموفق مسرورًا البلخي على كور الأهواز فولى مسرور ذلك تكين البخاري فسار إليها تكين وكان علي بن أبان والزنج قد احاطوا بتستر فخاف أهلها وعزموا على تسليمها إليهم فوافاهم في تلك الحال تكين البخاري فواقع علي بن أبان قبل أن ينزع ثيابه فانهزم علي والزنج وقتل منهم كثير وتفرقوا ونزل تيكن بتستر وهذه الوقعة تعرف بوقعة باب كورك وهي مشهورة‏.‏

ثم إن عليًا قدم عليه جماعة من قواد الزنج فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس فهرب منهم غلام رومي إلى تكين وأخبره بمقامهم بالقنطرة وتشاغلهم بالنبيذ وتفرقهم في جمع الطعام فسار تكين إليهم ليلا فأوقع بهم وقتل من قوادهم جماعة فانهزم الباقون‏.‏

وسار تكين إلى علي بن أبان فلم يقف له علي وانهزم غلام له يعرف بجعفرويه ورجع علي إلى الأهواز ورجع تكين إلى تستر وكتب علي إلى تكين يسأله الكف عن قتل غلامه فحبسه ثم تراسل علي وتكين وتهاديا فبلغ الخبر مسرورًا بميل تكين إلى الزنج فسار حتى وافى تكين وقبض عليه وحبسه عند إبراهيم بن جعلان حتى مات وتفرق أصحاب تكين ففرقة سارت إلى الزنج وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي فبلغ ذلك مسرورا فأمنهم فجاءه منهم الباقون وكان بعض ما ذكرناه من أمر مسرور سنة خمس وستين وبعضه سنة ست وستين

ذكر عصيان العباس بن طولون على أبيه

وفيها عصى العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وسبب ذلك أن أباه كان قد خرج إلى الشام واستخلف انه العباس كما ذكرناه فلما أبعد عن مصر حسن للعباس جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والانشراح إلى برقة ففعل ذلك وأتى برقة في ربيع الأول‏.‏

وبلغ لخبر أباه فعاد إلى مصر وأرسل إلى ابنه ولاطفه واستعطفه فلم يرجع إليه وخاف من معه فأشاروا عليه بقصد إفريقية فسار إليها وكاتب وجوه البربر فأتاه بعضهم وامتنع بعضهم وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب يقول‏:‏ إن أمير المؤمنين قد قلدني أمر إفريقية وأعمالها ورحل حتى أتى حصن لبدة ففتحه أهله له فعاملهم أسوأ معاملة ونهبهم فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النفوسي رئيس الإباضية هناك فاستعانوا به فغضب لذلك وسار إلى العباس ليقاتله‏.‏

وكان إبراهيم بن الأغلب قد أرسل إلى عامل طرابلس جيشا وأمره بقتال العباس فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا قاتل العباس فيه بيده فلما كان الغد وافاهم إلياس بن منصور الإباضي في اثني عشر ألفًا من الإباضية فاجتمع هووعامل طرابلس على قتال العباس فقتل من أصحابه

خلق كثير وانهزم أقبح هزيمة وكاد يؤسر فخلصه مولى له ونهبوا سواده واكثر ما حمله من مصر وعاد إلى برقة أقبح عود‏.‏

وشاع بمصر أن العباس انهزم فاغتم والده حتى ظهر عليه وسير إليه العساكر لما علم سلامته فقاتلوه قتالًا صبر فيه الفريقان فانهزم العباس ومن معه وكثر القتلى في أصحابه وأخذ العباس أسيرًا وحمل إلى أبيه فحبسه في حجرة في داره إلى أن قدم باقي الأسرى من أصحابه فلما قدموا أحضرهم أحمد عنده والعباس معهم فأمره أبوه أن يقطع أيدي أعيانهم وأرجلهم ففعل فلما فرغ منه وبخه وذمه وقال له‏:‏ هكذا يكون الرئيس والمقدم كان الأحسن أنك كنت ألقيت نفسك بين يدي وسألت الصفح عنك وعنهم فكان أعلى لمحلك وكنت قضيت حقوقهم فيما ساعدوك وفارقوا أوطانهم لأجلك ثم أمر به فضرب مائة مقرعة ودموعه تجري على خديه رقة لولده ثم رده إلى الحجرة واعتقله وذلك سنة ثمان وستين ومائتين‏.‏

ذكر موت يعقوب وولاية أخيه عمرو

وفيها مات يعقوب بن الليث الصفار تاسع شوال بجند يسابور من كور الأهواز وكانت علته القولنج فأمره الأطباء بالاحتقان بالدواء فلم يفعل واختار الموت‏.‏

وكان المعتمد قد أنفذ إليه رسولًا وكتابًا يستميله ويترضاه ويقلده أعمال فارس فوصل الرسول ويعقوب مريض فجلس له وجعل عنده سيفا ورغيفًا من الخبز الخشكار ومعه بصل وأحضر الرسول فأدى الرسالة فقال له‏:‏ قل للخليفة إنني عليل فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأري أوتكسرني وتعقرني وأعود إلى هذا الخبز والبصل وأعاد الرسول فلم يلبث يعقوب أن مات‏.‏

وكان الحسن بن زيد العلوي يسمى يعقوب بن الليث السندان لثباته وكان يعقوب قد افتتح الرخج وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده وكانت مملكته واسعة الحدود وكان اسم ملكها كتير وكان يحمل على سرير من ذهب يحمله اثنا عشر رجلا وابتنى على جبل عال بيتا وسماه مكة وكان يدعي الإلهية فقتله يعقوب وافتتح الخلجية وزابل وغير ذلك ولم أعلم أي سنة كان ذلك حتى اذكره فيها‏.‏

وكان يعقوب عاقلا حازمًا‏:‏ من عاشرته أربعين يومًا فلم تعرف أخلاقه فلا تعرفها في أربعين سنة وقد تقدم من سيرته ما يدل على عقله‏.‏

ولما مات قام بالأمر بعد أخوه عمروبن الليث وكتب إلى الخليفة بطاعته فولاه الموفق خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد وأشهد بذلك وسيره إليه

ذكر عدة حوادث

وفي هذه السنة وثب القاسم بن مهاة بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان فقتله ووثب جماعة من أصحاب أبي دلف بالقاسم فقتلوه وريسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز‏.‏

وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث فأكرمه يعقوب وأحسن إليه‏.‏

فأمر الخليفة بقبض أمواله وعقاره‏.‏وفيها قتلت الأعراب جعلان المعروف بالعيار بدمما وكان خرج يسير قافلة فقتلوه فوجه في طلبهم فلم يلحقوا‏.‏وفيها حبس الموفق سليمان بن وهب وابنه عبيد اله وعدة من أصحابهما وقبض أموالهم وضياعهم خلا أحمد بن سليمان ثم صالح سليمان وابنه عبيد الله على تسع مائة ألف دينار وجعلا في موضع يصل إليهما من أرادوا وعسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجيق والفضل بن موسى بن بغا وعبروا جسر بغداد ومنعهم الموفق فلم يرجعوا ونزلوا صرصر فاستكتب أبوأحمد الموفق صاعد بن مخلد فمضى إلى أولئك القواد فردهم من صرصر فخلع عليهم‏.‏

وفيها خرج خمسة بطارقة من الروم إلى أذنة فقتلوا وأسروا وكان أرجوز والي الثغور فعزل عنها فأقام مرابطا وأسروا نحوًا من أربع مائة وقتلوا نحوًا من ألف وأربع مائة وذلك في جمادى الأولى‏.‏

وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على نيسابور وسار الحسين ابن طاهر بن عبد الله إلى مرو وهوعامل أخيه محمد بن طاهر وأخربت طوس‏.‏

وفيها استوزر أبوالصقر إسماعيل بن بلبل‏.‏

وفيها وثب جماعة من الأعراب من بني أسد على علي ين مسرور البلخي قبل وصوله إلى المغيثة بطريق مكة وكان الموفق ولاه الطريق‏.‏

وفها بعث ملك الروم إلى أحمد بن طولون عبد الله بن رشيد بن كاوس وعدة أسرى وأنفذ معهم عدة مصاحف منه هدية إليه وحج بالناس هارون ابن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي‏.‏

وفيها كانت موافاة أبي المغيرة عيسى بن محمد المخزومي إلى مكة لصاحب الزنج‏.‏

وفيها توفي أبوبكر أحمد بن منصور الزنادي وعمره ثلاث وثمانون سنة وإبراهيم بن هاني أبوإسحاق النيسابوري وكان من الأبدال قد صحب أحمد بن حنبل وعلي بن حرب بن محمد

الطائي الموصلي ومولده سنة خمس وسبعين ومائة وقيل غير ذلك وقد تقدم وعلي بن موفق الزاهد‏.‏

وفيها قتل أبوالفضل العباس بن الفرج الرياشي قتله الزنج بالبصرة أخذ العلم عن أبي عبيدة والأصمعي‏.‏

حوادث سنة ست وستين ومائتين

ذكر أخبار الزنج مع أغرتمش


في هذه السنة ولي أغرتمش ما كان يتولاه تكين البخاري من أعمال الأهواز فدخل تستر في رمضان ومعه أبا ومطر بن جامع وقتل مطر ابن جامع جعفرويه غلام علي بن أبان وجماعة معه كانوا مأسورين وساروا إلى عسكر مكرم وأتاهم الزنج هناك مع علي بن أبان فاقتتلوا فلما رأوا كثرة الزنج قطعوا الجسر وتحاجزوا ورجع علي إلى الأهواز وأقام أخوه الخليل بالمسرقان في جماعة كثيرة من الزنج‏.‏

وسار أغرتمش ومن معه نحوالخليل ليعبروا إليه من قنطرة أربك فكتب إلى أخيه علي فوافاه في النهر وأخاف أصحابه الذين خلفهم بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السدرة وتحارب علي

وأغرتمش يومهم ثم انصرف علي إلى الأهواز فلم يجد أصحابه الذي خلفهم بالأهواز فوجه من يردهم من نهر السدرة فعسر عليهم ذلك فتبعهم وأقام معهم ورجع أغرتمش فنزل عسكر مكرم واستعد علي لقتالهم‏.‏

وبلغ ذلك أغرتمش ومن معه من عسكر الخليفة فساروا إليه فكمن لهم علي وقدم الخليل إلى قتالهم فاقتتلوا فكان أول النهار لأصحاب الخليفة ثم خرج عليهم الكمين فانهزموا وأسر مطر بن جامع وعدة من القواد فقتله علي بغلامه جعفرويه وعاد إلى الأهواز وأرسل رؤوس القتلى إلى الخبيث العلوي‏.‏

وكان علي وأغرتمش بعد ذلك في حروبهم على السواء وصرف صاحب الزنج أكثر جنوده إلى علي بن أبان فلما رأى ذلك أغرتمش وادعه وجعل علي يغي على النواحي فمن ذلك أنه أغار على قرية بيروذ فهبها ووجه الغنائم إلى صاحبه‏.‏

ذكر دخول الزنج رامهرمز

وفيها دخل علي بن أبان والزنج رامهرمز وسبب ذلك أن محمد بن عبيد الله كان يخاف علي بن أبان لما في نفس علي منه لما ذكرناه فكتب إلى انكلاي بن العلوي وسأله أن يسأل أباه ليرفع يد علي عنه ويضمه إلى نفسه فزاد ذلك غيظ علي منه وكتب إلى الخبيث بالإيقاع بمحمد ويجعل ذلك الطريق إلى مطالبته بالخراج فأذن له فكتب إلى محمد يطلب منه حمل الخراج فمطله ودافعه فسار إليه علي وهوبرامهرمز فهرب محمد عنها ودخلها علي والزنج فاستباحها ولحق بأقصى معاقله وانصرف علي غامنًا‏.‏

وخاف محمد فكتب إليه يطلب المسالمة فأجابه إلى ذلك على مال يؤديه إليه فحمل إليه مائتي ألف درهم فأنفذها إلى صاحب الزنج وأمسك عن محمد بن عبيد الله وأعماله‏.‏

وقعة أكراد داربان والزنج وفيها كانت وقعة للزنج انهزموا فيها وكان سببها أن محمد بن عبيد الله كتب إلى علي بن أبان بعد الصلح يسأله المعونة على الأكراد الدارنان على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم فكتب علي إلى صاحبه يستأذنه فكتب إليه أن وجه إليه جيشا وأقم أنت ولا تنفذ أحدًا حتى تستوثق منه بالرهائن ولا يأمن غزوه والطلب ثاره‏.‏

فكتب عل إلى محمد يطلب منه اليمين والرهائن فبذل له اليمين ومطله بالرهائن فلحرص علي على الغنائم أنفذ إليه جيشا فسير محمد معهم طائفة من أصحابه إلى الأكراد فخرج إليهم الأكراد فقاتلوهم ونشبت الحرب فتخلى وكان محمد قد أعد لهم من يتعرضهم إذا انهزموا فصادفوهم وأوقعوا بهم وسلبوهم وأخذوا دوابهم ورجعوا بأسوأ حال فكتب علي إلى الخبيث بذلك فعنفه وقال‏:‏ ضيعت أمري في ترك الرهائن وكتب إلى محمد يتهدده فخاف محمد وكتب يخضع ويذل ورد بعض الدواب وقال‏:‏ إنني كبست من كانت عندهم وخلصت هذه منهم‏.‏

فأظهر الخبيث الغضب عليه فأرسل محمد إلى بهبود ومحمد بن يحيى الكرماني وكانا أقرب الناس إلى علي فضمن لهما مالًا إن أصلحا له عليًا وصاحبه ففعلا ذلك فأجابهما الخبيث إلى الرضى عن محمد على أن يخطب له على منابر بلاده وأعلما محمدًا ذلك فأجابهما إلى كل ما طلبا وجعل يراوغ في الدعاء له على المنابر‏.‏

ثم إن عليًا استعد لمتوث وسار إليها فلم يظفر بها فرجع وعمل السلاليم والآلات التي يصعد بها إلى السور واستعد لقصدها فعرف ذلك مسرور البلخي وهويومئذ بكور الأهواز فلما سار علي إليها سار إليه مسرور فوافاه قبل المغرب وهونازل عليها فلما عاين الزنج أوائل خيل مسرور انهزموا أقبح هزيمة وتركوا جميع ما كانوا أعدوه وقتل منهم خلق كثير وانصرف علي مهزوما فلم يلبث إلا يسيرًا حتى أتته الأخبار بإقبال الموفق ولم يكن لعلي بعد متوث وقعة حتى فتحت سوق الخميس وطهثا على الموفق فكتب إليه صاحبه يأمره بالعود

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ولى عمروبن الليث عبيد الله بن عبد اله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسر من رأى في صفر وخلع عليه الموفق وعمروابن الليث‏.‏

وفيها في صفر غلب اساتكين على الشرطة وهي الآن من أعمال سجستان وعلى الري وأخرج منهاخطلنخجور العامل عليها ثم مضى إلى قزوين وعليها أخو كيغلغ فصالحه ودخل اساتكين قزوين ثم رجع إلى الري‏.‏

وفيها وردت سرية من سرايا الروم إلى تل يسهى من ديار ربيعة فأسرت نحوًا من مائتين وخمسين إنسانا ومثلت بالمسلمين فنفر إليهم أهل الموصل ونصيين فرجعت الروم‏.‏

وفيها مات أبوالساج بجند يسابور منصرفًا من عسكر عمروبن الليث إلى بغداد ومات قبله سليمان بن عبد اله بن طاهر وولى عمروبن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان وولى محمد ابن أبي الساج طريق مكة والحرمين‏.‏

وفيها فارق إسحاق بن كنداج أحمد بن موسى بن بغا وكان سبب ذلك أن أحمد لما سار إلى الجزيرة وولي موسى بن اتامش ديار ربيعة أنكر ذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره

وسار إلى بلد فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم وأخذ أموالهم ثم لقي ابن مساور الخارجي فقتله وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال قد أعدوه‏.‏

وكان قائد كبير بمعلثايا اسمه علي بن داود وهوالمخاطب له عن أهل الموصل والمدافع فسار ابن كنداج إليه فلما بلغه الخبر فارق معلثايا وعبر دجلة ومعه حمدان بن حمدون إلى إسحاق بن أيوب بن أحمد التغلبي العدوي فاجتمعوا كلهم فبلغت عدتهم نحوخمسة عشر ألفا وسمع ابن كنداج باجتماعهم فعبر إلى بلد وعبر دجلة إليه وهوفي ثلاثة آلاف وسار إلى نهر أيوب فالتقوا بكراثا وهي التي تعرف اليوم بتل موسى وتصافوا للحرب فأرسل مقدم ميسرة ابن أيوب إلى ابن كنداج يقول له‏:‏ إنني في الميسرة فاحمل علي لأنهزم ففعل ذلك فانهزمت ميسرة ابن أيوب وتبعها الباقون فسار حمدان بن حمدون وعلي بن داود إلى نيسابور وأخذ ابن أيوب نحونصيبين فاتبعه ابن كنداج فسار ابن أيوب عن نصيبين إلى آمد واستولى ابن كنداج على نصيبين وديار ربيعة واستجار ابن أيوب بعيسى بن الشيخ الشيباني وهوبآمد فأنجده وطلب النجدة من أبي المعز بن موسى بن زرارة وهوبأزرن فأنجده أيضا وعاد ابن كنداج إلى الموصل ووصل إليه من الخليفة المعتمد عهد بولاية الموصل فعاد إليها فأرسل إليه ابن الشيخ وابن زرارة وغيرهما بذلوا له مائتي ألف دينار ليقرهم على أعمالهم فلم يجبهم فاجتمعوا على

وفيها أمر محمد بن عبد الرحمن بإنشاء مراكب بنهر قرطبة وحملها إلى البحر المحيط وكان سبب عملها أنه قيل له إن جليقية ليس لها مانع من جهة البحر المحيط وإن ملكها من هناك سهل فأمر بعمل المراكب فلما فرغت وكملت برجالها وعدتها سيرها إلى البحر المحيط فلما دخلته المراكب تقطعت ولم يجتمع منها مركبان ولم يرجع منها إلا اليسير‏.‏

وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم عند صقلية فجرى بينهم قتال شديد فظفر الروم بالمسلمين وأخذوا مراكبهم وانهزم من سلم منهم إلى مدينة بلرم بصقلية‏.‏

وفيها مكان بإفريقية غلاء شديد وقحط عظيم كادت الأقوات تعدم‏.‏

وفيها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي‏.‏

وفيها أسرى لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من رابية بني تميم إلى موسى بن أتامش وهوبرأس عين فأخذه أسيرا وسيره إلى الرقة ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى بن أتامش ومن معه من الأعراب فانهزم لؤلؤ ورجع الأعراب إلى عسكر أحمد لينهبوه فطف عليهم لؤلؤ وأصحابه فانهزموا فبلغت هزيمتهم قرقيسيا ثم ساروا إلى بغداد وسامرا وقد ذكرت فيما تقدم أن الذي أسر موسى غير لؤلؤ على ما ذكره مؤرخومصر‏.‏

وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز وبكتمر رقعة فانهزم بكتمر وسار إلى بغداد‏.‏

وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان وهوغار فلحق بآمل وغلب الخجستاني على جرجان وأطراف طبرستان وكان الحسن لما سار عن طبرستان إلى جرجان استخلف بسارية الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله ابن حسين الأصغر العقيقي فلما انهزم الحسن ين زيد أظهر العقيقي بسارية أنه قتل ودعا إلى البيعة لنفسه فبايعه قوم ووافاه الحسن بن زيد فحاربه ثم ظفر به فقتله‏.‏

وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمروبن الليث انهزم فيها عمرو ودخل الخجستاني نيسابور وأخرج منها عامل عمروومن كان يميل إليه‏.‏

وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين العلويين والجعفريين‏.‏

وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها وصار بعضها إلى صاحب الزنج وأصاب الحجاج فيها شدة شديدة‏.‏

وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة فاستنفر الأنس فنفروا في برد شديد لا يمكن فيه دخول الدرب‏.‏

وفيها غزت سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس فخرج عليهم نحومن أربعة آلاف من بلاد هرقلة فاقتتلوا قتالًا شديدا وقتل المسلمون

وفيها كانت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم حرب بين العلويين والجعفريين وغلا السعر بها حتى تعذرت الأقوات وعم الغلاء سائر البلاد من الحجاز والعراق والموصل والجزيرة والشام وغير ذلك إلا أنه لم يبلغ الشدة التي بالمدينة‏.‏

وفيها كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة جميعها في شدة عظيمة بتغلب القواد وأمراء الأجناد على الأمر وقلة المراقبة والأمن من إنكار ما يأتونه ويفعلونه لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج ولعجز الخليفة المعتمد واشتغاله بغير ذلك‏.‏

وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني ثم اشتد فيه البرد حتى جمد الماء‏.‏

وفيها قدم محمد بن أبي الساج مكة فحاربه المخزومي فهزمه محمد واستباح ماله وذلك يوم التروية‏.‏

وفيها سار كيغلغ إلى الجبل وبكتمر راجعًا إلى الدينور‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي‏.‏

وفيها توفي محمد بن شجاع أبوبكر الثلجي وكان من أصحاب الحسن ابن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة الثلجي بالثاء المعجمة بثلاث والجيم‏.‏

وفيها توفي صالح بن أحمد بن حنبل وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائتين‏.‏

ذكر أخبار الزنج

وفيها غلب أبوالعباس بن الموفق على عامة ما كان بيد سليمان بن جامع والزنج من أعمال دجلة وأبوالعباس هذا هوالذي صار خليفة بعد المعتمد فلقي المعتضد بالله‏.‏

وكان سبب مسيره أن الزنج لما دخلوا واسط وعملوا بأهلها ما ذكرنا بلغ ذلك الموفق فأمر ابنه بتعجيل المسير بين يديه إليهم فسار في ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين وشيعه أبوه وسير معه عشرة آلاف من الرجالة والخيالة في العدة الكاملة وأخذ معه الشذوات والسميريات والمعابر للرجالة فسار حتى وافى إلى دير العاقول‏.‏

وكان على مقدمته في الشذوات نصير المعروف بأبي حمزة فكتب إليه نصير يخبره أن سليمان بن جامع قد وافى بخيلة ورجله في شذوات وسميريات والحياتي على مقدمته حتى نزل الجزيرة بحضرة بردرويا وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبا بخيله ورجله في سميريات فركب أبوالعباس حتى وافى الصلح ووجه طلائعه ليعرف أخبارهم فعادوا وأعلموه بموافاة الزنج وجيشهم وأن أولهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط‏.‏

وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا‏:‏ إن أبا العباس فتى حدث غر بالحرب والرأي لنا أن نرميه بحدنا كله ونجبهه في أول مرة نلقاه في إزالته فلعل ذلك يروعه فينصرف عنا فجمعوا وحشدوا فلما علم أبوالعباس قربهم عدل عن سنن الطريق واعترض في مسيره ولقي أصحابه أوائل الزنج فتطاردوا لهم حتى طمعوا فيهم واغتروا وابتعوهم وجعلوا يقولون‏:‏ اطلبوا أميرًا للحرب فإن أميركم قد اشتغل بالصيد‏.‏

فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل وصاح بنصير‏:‏ إلى أين تتأخر عن هذه الأكلب‏!‏ فرجع نصير وركب أبوالعباس سميرية وحف به أصحابه من جميع الجهات فانهزمت الزنج وكثر القتل فيهم وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم به وأخذوا منهم خمس شذوات وعدة سميريات وأسر جماعة واستأمن جماعة فكان هذا أول الفتح فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير وسار سليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس وانحدر أبوالعباس فأقام بالعمر وهوعلى فرسخ من واسط وأصلح شذواته وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم‏.‏

ثم إن سليمان استعد وحشد وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه قالوا‏:‏ إنه حدث غر يغرر بنفسه وكمنوا كناء فبلغ الخبر أبا العباس فحذروا وأقبلوا وقد كمنوا الكمناء ليغتر بأتباعهم فيخرج الكمين عليه فمنع أبوالعباس أصحابه أن يتبعوهم فلما علموا أن كيدهم لم يتم خرج سليمان في الشذوات والسميريات فأمر أبوالعباس نصيرًا أن يبرز إليهم وركب هوشذاة من شذواته سماها الغزال ومعه جماعة من خاصته وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر إلى أن ينقطع فعبروا دوابهم ونشبت الحرب بين الفريقين فوقعت الهزيمة على الزنج وغمن أبوالعباس منهم أربع عشرة شذاة وأفلت سليمان والحياتي بعد أن أشفيا على الهلاك وبلغوا طهثا وأسلموا ما كان معهم‏.‏

ورجع أبوالعباس إلى معسكره وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذوات والسميريات وأقام الزنج عشرين يومًا لا يظهر منهم أحد وجعلوا على طريق الخيل آبارا وجعلوا فيها سفافيد حديد وجعلوا على رؤوسهم البواري والتراب ليسقط فيها المجتازون فاتفق أنه سقط فيها رجل من الفراغنة ففطنوا لها وتركوا ذلك الطريق‏.‏

واستمد سليمان صاحب الزنج فأمده بأربعين سميرية بآلاتها ومقاتليها فعادوا للتعرض للحرب فلم يكونوا يثبتون لأبي العباس ثم سير إليهم عدة سميريات فأخذها الزنج فبلغه الخبر وهويتغذى فركب في سميرية ولم ينتظر أصحابه وتبعه منهم من خف فأدرك الزنج فانهزموا وألقوا أنفسهم في الماء فاستنقذ سميرياته ومن كان فيها وأخذ منهم إحدى وثلاثين سميرية ورمى أبوالعباس يومئذ عن قوس حتى دميت إبهامه فلما رجع أمر لمن معه بالخلع وأمر ثم إن أبا العباس رأى أن يتوغل في مازروان حتى يصير إلى الحجاجية ونهر الأمير ويعرف ما هناك فقدم نصيرًا في أول السميريات وركب أبوالعباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب ودخل مازوران وهويظن أن نصيرًا أمامه فلم يقف له على خبر وكان قد سار على غير طريق أبي العباس وخرج من مع أبي العباس من الملاحين إلى غمن رأوها ليأخذوها فبقي هوومحمد بن شعيب فأتاهما جمع من الزنج من جانبي النهر فقاتلهم أبون العباس بالنشاب ووافاه زيرك في باقي الشذوات فسلم أبوالعباس وعاد إلى عسكره‏.‏

ورجع نصير وجمع سليمان بن جامع أصحابه بطهشا وتحصن الشعراني وأصحابه بسوق الخميس وجعلوا يحملون الغلات إليها وكذلك اجتمع بالصينية جمع كثير فوجه أبوالعباس جماعة من قواده على الخيل إلى ناحية الصينية وأمرهم بالمسير في البر وإذا عرض لهم نهر عبروه وركب هوفي الشذوات والسميريات فلما أبصرت الزنج الخيل خافوا ولجأوا إلى الماء والسفن فلم يلبثوا أن وافتهم الشذا مع أبي العباس فلم يجدوا ملجا فاستسلموا فقتل منهم فريق وأسر فريق وألقى نفسه في الماء فريق وأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم وهي مملوءة أرزا وأخذ الصينية وأزاح الزنج عنها فانحازوا إلى طهثا وسوق الخميس‏.‏

وكان قد رأى أبوالعباس كركيا فرماه بسهم فسقط في عسكر الزنج فعرف الزنج السهم فزاد وبلغه أن جيشًا عظيمًا للزنج مع ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيين فسار إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر فقتل منهم خلقًا كثيرا منهم لؤلؤ واسر ثابتا فمن عليه وجعله مع بعض قواده واستنقذ من النساء خلقًا كثيرا فأمر بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه وأمر أصحابه أن يستريحوا لمسير إلى سوق الخميس وأمر نصيرًا بتعبئة أصحابه للمسير فقال له‏:‏ إن نهر سوق الخميس ضيق فأقم أنت ونسير نحن فأبى عليه فقال له محمد بن شعيب‏:‏ إن كنت لا بد فاعلًا فلا تكثر من الشذا ولا من الرجال فإن النهر ضيق‏.‏

فسار إليه ونصير بين يديه إلى فم نهر مساور فوقف أبوالعباس وتقدمه نصير في خمس عشرة شذاة في نهر براطق وهوالذي يؤدي إلى مدينة الشعراني التي سماها المنيعة في سوق الخميس فلما غاب عنه نصير خرج جماعة كبيرة في البر على أبي العباس فمنعوه من الوصول إلى المدينة وقاتلوه قتالًا شديدًا من أول النهار إلى الظهر وخفي عليه خبر نصير وجعل الزنج يقولون‏:‏ قد قتلنا نصيرًا‏.‏

واغتم أبوالعباس لذلك وأمر محمد بن شعيب يتعرف خبره فسار فرآه عند عسكر الزنج وقد أحرقه وأضرم النار في مدينتهم وهويقاتلهم قتالًا شديدا فعاد إلى أبي العباس فاخبره فسر بذلك‏.‏

وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة ورجع حتى وافى أبا العباس فأخبره ووقف أبوالعباس

يقاتلهم فرجعوا عنه وكمن بعض شذواته وأمر أن يظهر واحدة منها فطمعوا فيها وتبعوها حتى أدركوها فعلقوا بسكانها فخرجت عليهم السفن المكمنة وفيها أبوالعباس فانهزم الزنج وغمن أبوالعباس منهم ست سميريات وانهزموا لا يلوون على شيء من الخوف ورجع إلى عسكره سالما وخلع على الملاحين وأحسن إليهم‏.‏

ذكر وصول الموفق إلى قتال الزنج وفتح المنيعة

وفيها في صفر سار الموفق عن بغداد إلى واسط لحرب الزنج وكان سبب تأخره عن ابنه أبي العباس هذه المدة انه يجمع ويحشد الفرسان والرجالة ويستكثر من العدة التي يقوى بها على حرب الزنج ويسد الجهات التي يخاف فيها لئلا يبقى له ما يشغل قلبه‏.‏

إلا أن الخبيث رئيس الزنج قد أرسل إلى علي بن أبان المهلبي يأمره بالاجتماع مع سليمان بن جامع على حرب أبي العباس فخاف وهنًا يتطرق إلى ابنه أبي العباس فسار عن بغداد في صفر فوصل إلى واسط في ربيع الأول فلقيه ابنه واخبره بحال جنده وقواده فخلع عليه وعليهم ورجع أبوالعباس إلى معسكره بالعمر ثم نزل الموفق على نهر شداد بإزاء قرية عبد الله

وأمر ابنه أن يسير لما معه من آلات الحرب إلى فوهة نهر مساور فرحل في نخبة أصحابه ورحل الموفق بعده فنزل فوهة نهر مساور فأقام يومين‏.‏

ثم رحل إلى المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من ربيع الآخر من هذه السنة وسلك بالسفن في نهر مساور وسارت الخيل بإزائه شرقي نهر مساور حتى جاوزوا براطق الذي يوصل إلى المنيعة وأمر بتعبير الخيل وتصييرها من الجانبين وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا بعامة الجيش ففعل فلقيه الزنج فحاربوه حربًا شديدة ووافاهم أبوأحمد الموفق والخيل من جانبي النهر فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرقوا وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا السيوف فيمن لقيهم ودخلوا المدينة فقتلوا فيها خلقًا كثيرأن وأسروا عالمًا عظيمأن وغمنوا ما كان فيهأن وهرب الشعراني ومن معه وتبعه أصحاب الموفق إلى البطائح فغرق منهم خلق كثير ولجأ الباقون إلى الآجام‏.‏

ورجع أبوأحمد إلى معسكره من يومه وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات وأمر أبوأحمد بحفظ النساء وحملهم إلى واسط ليدفعن إلى أهلهن ثم بكر إلى المدينة فأمر الناس بأخذ ما فيهأن فأخذ جميعه وأمر بهدم سورهأن وطم خندقهأن وإحراق ما بقي بها من السفن وأخذوا من الطعام والشعير والأرز وغير ذلك ما لأحد

ولما انهزم سليمان ولحق بالمزار وكتب إلى الخائن صاحب الزنج بذلك فورد الكتاب عليه وهويتحدث فانحل بطنه فقام إلى الخلاء دفعات وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني ويأمره بالتيقظ‏.‏

وأقام الموفق بنهر مساور يومين يتعرف أخبار الشعراني وسليمان ابن جامع فأتاه من أخبره أن سليمان بن جامع بالحوانيت فسار حتى وافى الصينينة وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا والسميريات إلى الجوانيت مختفيا فسار أبوالعباس إليها فلم ير سليمان بها ورأى هناك جميعًا من الزنج مع قائدين لهم خلفهم سليمان بن جامع هناك لحفظ غلات كثيرة لهم فيها فحاربهم أبوالعباس ودامت الحرب إلى أن حجز بينهم الليل واستأمن إلى أبي العباس رجل فسأله عن سليمان بن جامع وأخبره أنه مقيم بطهثا بمدينته التي سماها المنصورة فعاد أبوالعباس إلى أبيه بالخبر فأمره بالمسير إليه فسار حتى نزل بردودا فأقام بها لإصلاح ما يحتاج إليه واستكثر من الآلات اليت يسد بها الأنهار ويصلح بها الطرق لخيل وخلف ببردودا بفراج التركي‏.‏

ذكر استيلاء الموفق على طهثا

لما فرغ الموفق من الذي يحتاج إليه سار عن بردودا إلى كهثا لعشر بقين من ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين وكان مسيره على الظهر في خيله وانحدرت السفن والآلات فنزل بقرية الجوزية وعقد جسرا ثم غدا فعبر خيله عليه ثم عبر بعد ذلك فسار حتى نزل معسكرًا على ميلين من طهثا فأقام هنالك يومين‏.‏

ومطرت السماء مطرًا شديدا فشغل عن القتال ثم ركب لينظر موضعًا للحرب فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثا وهي التي سماها المنصورة فتلقاه خلق كثير وخرج عليهم كمناء من مواضع شتى واشتدت الحرب وترجل جماعة من الفرسان وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذي كانوا فيه واسروا من غلمان الموفق جماعة‏.‏

ورمي أبوالعباس بن الموفق أحمد بن هندي الحيامي بسهم خالط دماغه فسقط وحمل إلى العلوي صاحب الزنج فلم يلبث أن مات فحضره الخبيث وصلى عليه وعظمت لديه المصيبة بموته إذ كان أعظم أصحابه غناء عنه‏.‏وانصر ف الموفق إلى عسكره وقت المغرب وأمر أصحابه بالتحاس ليلتهم والتأهب للحرب فلما أصبحوا وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر عبأ الموفق أصحابه وجعلهم كتائب يتلوبعضهم بعضا فرسانًا ورجالة وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها إلى النهر الذي يشق مدينة سليمان وهوالنهر المعروف بنهر المنذر ورتب أصحابه في المواضع التي يخاف منها ثم نزل فصلى أربع ركعات وابتهل إلى الله تعالى في النصر ثم لبس سلاحه وأمر ابنه أب العباس أن يتقدم إلى السور فتقدم إليه فرأى خندقا فأحجم الناس عنه فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم فاقتحموه وعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم‏.‏

فلما رأى الزنج تسرعهم إليه ولوا منهزمين واتبعهم أصحاب أبي العباس فدخلوا المدينة وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق وجعلوا أمام كل خندق سورا فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق فكشفهم أصحاب أبي العباس ودخلت الشذا والسميريات المدينة من النهر فجعلت تغرق كل ما مرت له به من سميرية وشذاة وقتلوا من بجانبي النهر وأسروا حتى أجلوهم عن المدينة وعما اتصل بها وكان مقدار العمارة فيها فرسخًا‏.‏

وحوى الموفق ذلك كله وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه وكثر القتل فيهم والأسر واستنقذ أبوأحمد من نساء أهل واسط والكوفة والقرى وغيرها وصبيانهم أكثر من عشرين ألفًا فأمر أبوأحمد بحملهم إلى واسط ودفعهم إلى أهليهم وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال وأمر بصرفه إلى الأجناد وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفق ونجا جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه برجل منهم جعلا فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه وضمه إلى قواده وغلمانه لما كان دبره من استمالتهم‏.‏

وأرسل في طلب سليمان بن جامع حتى بلغوا دجلة العوراء فلم يظفروا به وأمر زيرك بالمقام بطهثا ليتراجع إلى تلك الناحية أهلها ويأمنوا‏.‏

ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنها

فلما فرغ أبوأحمد الموفق من المنصورة رحل نحوالأهواز لإصلاحها وإجلاء الزنج عنها فأمر ابنه العباس أن يتقدمه فأمر بإصلاح الطريق للجيوش واستخلف على من ترك من عسكره بواسطة ابنه هارون ولحقه زيرك فأخبره بعود أهل طهثا إليها وأمن الناس فأمره الموفق بالانحدار في الشذا والسميريات مع نصير وتتبع المنهزمين والإيقاع بهم وبمن ظفروا به من الزنج حتى ينتهي إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب وسار‏.‏

وارتحل الموفق مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس وأمر مسرورًا بالقدوم عليه وهوعامله هناك فأتاه‏.‏

وكان الخبيث لما بلغه ما عمل الموفق بسليمان بن جامع والزنج خاف أن يأتيه وهوعلى حال تفرق أصحابه عنه وكتب إلى علي بن أبان بالقدوم إليه وكان بالأهواز في ثلاثين ألفا فترك جميع ما كان عنده من طعام ودواب وأغنام وغير ذلك واستخلف عليه محمد بن يحيى

وكتب صابح الزنج أيضًا إلى بهبود بن عبد الوهاب وهوبالفيدم والباسيان وما اتصل بهما يأمره بالقدوم عليه فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه فحوى ذلك جميعه الموفق وقوي به على حرب الخبيث‏.‏

ولما سار علي بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه زهاء ألف رجل فأرسلوا إلى الموفق يطلبون الأمان فأمنهم فقدموا عليه فأجرى عليهم الأرزاق ثم رحل عن السوس إلى جند يسابور وتستر وجبى الأموال ووجه إلى محمد بن عبيد الله الكردي وكان خائفًا منه فأمنه وعفا عنه فطلب منه الأموال والعساكر فحضر عنده فأحسن إليه‏.‏

ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون ليوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك فلقيه الجيش بالمبارك منتصف رجب‏.‏

وكان زيرك ونصيرًا لما خلفهما الموفق ليتتبعا الزنج انحدرا حتى وافيا الأبلة فاستأمن إليهما رجل أخبرهما أن الخبيث قد أنفذ إليهما عددًا كثيرًا في الشذا والسميريات إلى دجلة ليمنع عنها من يريدها فإنهم يريدون عسكر نصير وكان عسكره بنهر المرأة فرجع نصير إلى عسكره من الأبلة لما بلغه ذك وسار زيرك من طريق آخر لأنه قدر أن الزنج يأتون عسكر نصير من ذلك الوجه فكان ذلك فلقيهم في طريقهم فظفر بهم وانهزموا منه وكانوا قد جعلوا كمينا فدل زيرك عليه فتوغل حتى أتاه فقتل من الكمناء جماعة واسر جماعة‏.‏

وكان ممن ظفر به مقدم الزنج وهوأبوعيسى محمد بن إبراهيم البصري وهومن أكابر قوادهم وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية فجزع لذلك جميع الزنج فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفي رجل فكتب بذلك إلى الموفق فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك فوافاه هناك‏.‏

وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى محاربة العلوي بنهر أبي الخصيب فسار إليه فحاربه من بكرة إلى الظهر فاستأمن إليه قائد من قواد العلوي ومعه جماعة فكسر ذلك الخبيث وعاد أبوالعباس بالظفر وكتب الموفق إلى العلوي كتابًا يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان واستحلال الفروج والأموال وادعاء النبوة والرسالة ويبذل له الأمان فوصل الكتاب إليه فقرأه ولم يكتب جوابه‏.‏

ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج

لما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي ولم يرد جوابه عرض عسكره وأصلح آلاته ورتب قواده ثم سار هووابنه العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة وأشرف عليها وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق وغور الطريق إليها وما أعد من المجانيق والعرادات والقسي وسائر الآلات على سورها مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان ورأى من كثرة عدد المقاتلة ما استعظمه‏.‏

فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة والرمي لمن عليه بالسهام فتقدم حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخبيث فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أوحجر‏.‏

وثبت أبوالعباس فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لم ير مثله من أحد حاربهم ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوا واستأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين فأمنهم فخلع على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم وكان ذلك من أنجع المكايد فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه وابتدروا إليه فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات فعمهم بالخلع والصلات‏.‏

فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحاب السميريات إلى نهر أبي الخصيب ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج وأمر بهبود وهومن أشرس قواده أن يخرج في الشذوات فخرج وبرزإليه أبوالعباس في شذواته وقاتله واشتدت الحرب فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث وأصابته طعنتان وجرح بالسهام وأوهنت أعضاؤه بالحجارة فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت فقتل ممن كان معه قائد ذوبأس يقال له عميرة وظفر أبوالعباس بشذاة فقتل أهلها وهوومن معه سالمين فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم فأمنهم وأحسن إليهم وخلع عليهم‏.‏

ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير فأمنهم وخلع عليهم ووصلهم وأثبت أسماءهم مع أبي العباس وأقام في عسكره يومين ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل‏.‏ثم ركب منتصف شعبان ف يالخيل والرجال وأعد الشذا والسميريات وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفا وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان كلهم ممن يقاتل بسيف أورمح أوقوس أومقلاع أومنجنيق وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم وهم النظارة والنساء تشركهم في ذلك فأقام أبوأحمد ذلك اليوم ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث وكتب الأمان في رقاع ورماها في السهام ووعد فيها الإحسان فمالت قلوب أصحاب الخبيث واستأمن ذلك اليوم خلق كثير فخلع عليهم ووصلهم ولم يكن ذلك اليوم ثم رحل من نهر جطى من الغد فعسكر قرب مدينة الخبيث ورتب قواده وأجناده وعين لكل طائفة موضعًا يحافظون عليه ويضبطونه وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات والشذوات والزواريق والإكثار منها ليضبط بها الأنهار ليقطع الميرة عن الخبيث وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان وأقام ينتظر ذلك شهرا فوردت عليه الميرة متتابعة وجهز التجار صنوف التجارات إلى الموفقية واتخذت فيها الأسواق ووردتها مراكب البحر وبنى الموفق بها المسجد الجامع وأمر الناس بالصلاة فيه فجمعت هذه المدينة من المرافق وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة وحملت الأموال وأدرت الأرزاق‏.‏وعبرت طائفة من الزنج فنهبوا أطراف عسكر نصير وأوقعوا به فأمر الموفق نصيرًا بجمع عسكره وضبطهم وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسر إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة فقاتلهم فقتل منهم خلقًا كثيرا وغمن ما كان معهم فصار إليه طائفة منهم في الأمان فأمنهم وخلع عليهم ووصلهم وأقام أبوأحمد يكايد الخبيث ببذل الأموال لمن صار إليه ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم‏.‏

وكانت قافلة قد أتت من الأهواز وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذها وعظم ذلك على الموفق وغرم لأهلها ما أخذ منهم وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار وقلد ابنه أبا العباس الشذا وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به‏.‏

وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير فنذر بهم الناس فخرجوا إليهم فردوهم خائبين وظفروا بصندل الزنجي وكان يكشف رؤوس المسلمات ويقلبهن تقليب الإماء فلما أتي به أمر الموفق أن يرمي بالسهام ثم قتله‏.‏

واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير فبلغت عدة من استأمن إليه في آخر رمضان خمسين ألفًا‏.‏

وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكر ه خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق فكان فيهم أكثر من مائتي قائد فعبروا ليلا واختفوا في آخر النخل وأمرهم إذا ظهر أصحابهم وقاتلوا الموفق من بين يديه ظهروا وحملوا على عسكره وهم غارون مشاغيل بحرب من أمامهم فاستأمن منهم إنسان من الملاحين فاخبر الموفق فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونها فقاتلوا قتالًا شديدا وأسر أكثرهم وغرق منهم خلق كثير وقتل بعضهم ونجا بعضهم فأمر أبوالعباس أن يحمل وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه‏:‏ إن الأسرى من المستأمنة وإن الرؤوس تمويه عليهم فأمر بإلقاء الرؤوس في منجنيق إليهم فلما رأوها عرفوها فأظهروا الجزع والبكاء وظهر لهم كذب الخبيث‏.‏

وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات فعملت له فكانت له خمسون شذاة فقسمها بين ثلاثة من قواده وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق وكان شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث فخافهم أصحاب الموفق فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملها فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفًا عليهم من الزنج فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم وقاتلهم فانكشفوا بين يديه وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبي الخصيب وانقطع عن أصحابه فعطفوا عليه فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة فقتلوا وسلمت الشذوات مع أبي العباس وأصلحها ورتب فيها من يقاتل‏.‏

ثم أقبلت شذوات العلوي على عاداتها فخرج إليهم أبوالعباس في أصحابه فقاتلهم فهزمهم وظفر منهم بعدة شذوات فقتل منهم من ظفر به فيها فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره وقطع أبوالعباس الميرة عنهم فاشتد جزع الزنج وطلب جماعة من وجوه أصحابه

الأمان فأمنوأن وكان منهم محمد بن الحرث القمي وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق فخرج ليلأن فأمنه الموفق ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتهأن وأراد إخراج زوجته فلم يقدر فأخذها الخبيث فباعها ومنهم أحمد اليربوعي وكان من أشجع رجال العلوي وغيرهمأن فخلع عليهم ووصلهم بصلات كثيرة‏.‏

ولما انقطعت الميرة والمواد عن العلوي أمر شبلًا وأبوالبذي وهما من رؤساء قواده يثق بهم بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة على المسلمين وقطع الميرة عن الموفق فسر الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه فلقيهم بنهر ابن عمر فرأى كثرتهم فراعه ذلك ثم استخار الله تعالى في قتالهم فحمل عليهم وقاتلهم فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموأن ووضع فيهم السيف وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم مثل ذلك وأسر خلقًا كثيرأن وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه وغرق ما أمكنه تغريقه وكان ما أخذه من سفنهم نحوأربع مائة سفينة وأقبل بالأسارى والرؤوس إلى مدينة الموفق‏.‏

ذكر عبور الموفق مدينة صاحب الزنج

وفيها عبر الموفق إلى مدينة الخبيث لست بقين من ذي الحجة وكان سبب ذلك أن جماعة من

قواد الخبيث لما رأوا ما حل بهم من البلاء من قبل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة وحال من خرج بالأمان جعلوا يهربون من كل وجه ويخرجون إلى الموفق بالأمان‏.‏

فلما رأى الخبيث ذلك جعل على الطرق التي يمكنهم الهرب منها من يحفظها فأرسل جماعة من القواد إلى الموفق يطلبون الأمان وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشًا ليجدوا طريقًا إلى المصير إليه فأمر ابنه أبا العباس بالمسير إلى النهر الغربي وبه علي بن أبان يحميه فنهض أبوالعباس ومعه الشذوات والسميريات والمعابر فقصده وتحارب هووعلي بن أبان واشتدت الحرب واستظهر أبوالعباس على الزنج وأمد الخبيث أصحابه بسليمان بن جامع في جمع كثير فاتصلت الحرب من بكرة إلى العصر وكان الظفر لأبي العباس وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان‏.‏

واجتاز أبوالعباس بمدينة الخبيث عند نهر الأتراك فرأى قلة الزنج هناك فطمع فيهم فقصدهم أصحابه وقد انصرف أكثرهم إلى الموفقية فدخلوا ذلك المسلك وصعد جماعة منهم السور وعليه فريق من الزنج فقتلوهم وسمع العلوي فجهز أصحابه لحربهم فلما رأى أبوالعباس اجتماعهم وحشدهم لحربه مع قلة أصحابه رحل فأرسل إلى الموفق يستمده فأتاه من خف من الغلمان فظهروا على الزنج فهزموهم‏.‏

وكان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أبي العباس سار في النهر مصعدًا في جمع كبير ثم أتى

أصحاب أبي العباس من خلفهم وهم يحاربون من بإزائهم وخففت طبوله فانكشف أصحاب أبي العباس ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم فأخذ الزنج عدة أعلام وحامى أبوالعباس عن أصحابه فسلم أكثرها ثم انصرف‏.‏

وطمع الزنج بهذه الوقعة وشدت قلوبهم فأجمع الموفق على العبور إلى مدينتهم بجيوشه أجمع وأمر الناس بالتأهب وجمع المعابر والسفن وفرقها عليهم وعبر يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة وفرق أصحابه على المدينة ليضطر الخبيث إلى تفرقة أصحابه وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة وهوأحصن ما فيها وقد أنزله الخبيث ابنه وهوانكلاي وسليمان ابن جامع وعلي بن أبان وغيرهم وعليه من المجانيق والآلات للقتال ما لا حد له‏.‏

فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه بالدنومن ذلك الركن وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك وهونهر عريض كثير الماء فأحجموا عنه فصاح بهم الموفق وحرضهم على العبور فعبروا سباحة والزنج ترميهم بالمجانيق والمقاليع والحجارة والسهام فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور ولم يكن عبر معهم من الفعلة من كان أعد لهدم السور فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وسهل اله تعالى ذلك وكان معهم بعض السلاليم فصعدوا على ذلك الركن ونصبوا علمًا من أعلام الموفق فانهزم الزنج عنه وأسلموه بعد قتال شديد وقتل من الفريقين خلق كثير ولما علا أصحاب الموفق السور أحرقوا ما عليه من منجنيق وقوس وغير ذلك‏.‏

وكان أبوالعباس قصد ناحية أخرى فمضى علي بن أبان إلى مقاتلته فهزمه أبوالعباس وقتل جمعًا كثيرًا من أصحابه ونجا علي ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور فثلموا فيه ثلمة ودخلوه فلقيهم سليمان ابن جامع فقاتلهم حتى درهم إلى مواضعهم ثم أن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع فعملوا على الخندق جسرا فعبر عليه الناس من ناحية الموفق فانهزم الزنج عن سور باب كانوا قد اعتصموا به وانهزم الناس معهم وأصحاب الموفق يقتلونهم حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان وقد صارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق فأحرقوها وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان الخبيث فركب في جمع من أصحابه فانهزم أصحابه عنه وقرب منه بعض رجالة الموفق فضرب وجه فقرسه بترسه وكان ذلك مع مغيب الشمس فأمر الموفق الناس بالجوع فرجعوا ومعهم من رؤوس أصحاب الخبيث شيء كثير‏.‏

وكان قد استأمن إلى أبي العباس أول النهار نفر من قواد الخبيث فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن وأظلم الليل وهبت ريح عاصف وقوي الجزر فلصق أكثر السفن بالطين فخرج جماعة من الزنج فنالوا منها وقتلوا فيها نفرا وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي فأوقع

وكان بعض أصحاب الخبيث قد انهزم على وجهه نحونهر الأمير والقندل وعبادان وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة وأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم الموفق وخلع عليهم وأجرى الأرزاق عليهم وكان ممن رغب في الأمان من قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي وكان من رؤساء أصحابه أرسل يطلب الأمان وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم ففعل الموفق فصار إليه فخلع عليه واحسن إليه ووصله وضمه إلى أبى العباس واستأمن من بعده جماعة من أصحابه وكان خروج ريحان لليلة بقيت من ذي الحجة من السنة‏.‏      ‏  ‏   ‏ ‏ ‏