المجلد السادس - ذكر الفتنة ببغداد

فيها كانت الحرب ببغداد بين أصحاب وصيف الخادم والبربر وأصحاب موسى ابن أخت مفلح أربعة أيام من المحرم ثم اصطلحوا وقد قتل بينهم جماعة ثم وقع بالجانب الشرقي وقعة بين أصحابه يونس قتل فيها رجل ثم انصرفوا‏.‏

ذكر وفاة الموفق

وفيها توفي أبوأحمد الموفق بالله بن المتوكل وكان قد مرض في بلاد الجبل فانصرف وقد اشتد به وجع النقرس فلم يقدر على الركوب فعمل على سرير عليه قبة فكان يقعد عليه وخادم له يبرد رجله بالأشياء الباردة حتى إنه يضع عليها الثلج ثم صارت علة برجله داء الفيل وهوورم عظيم يكون في الساق يسيل منه ماء وكان يحمل سريره أربعون رجلًا بالنوبة فقال لهم يومًا‏:‏ قد ضجرتم من حملي بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي وآكل وأنا في عافية‏.‏

وقال في مرضه‏:‏ أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالًا مني فوصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر وشاع موته بعد انصرف أبي الصفر من داره وكان تقدم بحفظ أبي العباس فأغلقت عليه أبواب دون أبواب وقوي الإرجاف بموته وكان قد اعترته غشية فوجه أبوالصقر إلى المدائن فحمل منها المعتمد وأولاده فجيء بهم إلى داره ولم يسر أبوالصقر إلى دار الموفق‏.‏

فلما رأى غلمان الموفق الماثلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بالموفق كسورا الأقفال والأبواب المغلقة على أبي العباس فلما سمع أبوالعباس ذلك ظن أنهم يريدون قتله وأخذ سيفه بيده وقال غلام عنده‏:‏ واله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح‏!‏ فلما وصلوا إليه رأى في أولهم غلامه وصيفًا موشكير فلما رآه ألقي السيف من يده وعلم أنهم ما يريدون إلا الخير فأخرجوه وأقعدوه عند أبيه فلا فتح عينه رآه فقربه وأدناه إليه‏.‏

وجمع أبوالصقر عنده القواد والجند وقطع الجسرين وحاربه قوم من الجانب الشرقي فقتل بينهم قتلى فلما بلغ الناس أن الموفق حي حضر عنده محمد بن أبي الساج وفارق أبا الصقر وتسلل القواد والناس عن أبي الصقر فلما رأى أبوالصقر ذلك حضر هووابنه دار الموفق فما قال له الموفق شيئًا مما جرى فأقام في داره الموفق فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار نزل

هووبنوه وبكتمر فركبوا زورقًا فلقيهم طيار لأبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف فحمله فيه إلى دار علي بن جهشيار‏.‏

وذكر أعداء أبي الصقر أنه أراد أن يقرب إلى المعتمد بمال الموفق أسبابه وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفق فنهبت دار أبي الصقر حتى أخرجت نساؤه منها حفاة بغير أزر ونهب ما يجاورها من الدور وكسرت أبواب السجون وخرج من كان فيها‏.‏

وخلق الموفق على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر وركبا جميعا فمضى أبوالعباس إلى منزله وأبوالصقر إلى منزله وقد نهب فطلب حصيرة يقعد عليها عارية فولى أبوالعباس غلامه بدرًا الشرطة واستخلف محمد بن غامن بن الشاة على الجانب الشرقي‏.‏

ومات الموفق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر من هذه السنة ودفن ليلة الخميس بالرصافة وجلس أبوالعباس للتعزية‏.‏

وكان الموفق عادلا حسن السيرة يجلس لمظالم وعنده القضاة وغيرهم فينتصف الناس بعضهم من بعض وكان عالمًا بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك‏.‏

قال يومًا‏:‏ إن جدي عبد الله بن العباس قال‏:‏ إن الذباب ليقع على جليسي فيؤذيني ذلك وهذا نهاية الكرم وأنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى بها إخواني والله لوتهيأ لي أن أغير أسماءهم وقال يحيى بن علي‏:‏ دعا الموفق يومًا جلساءه فسبقتهم وحدي فلما رآني وحدي أنشد يقول‏:‏ واستصحب الأصحاب حتى إذا دنوا وملوا من الإدلاج جئتكم وحدي فدعوت له واستحسنت إنشاده في موضعه وله محاسن كثيرة ليس هذا موضع ذكرها‏.‏

ذكر البيعة للمعتضد بولاية العهد

لما مات الموفق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوض ابن المعتمد ولقب المعتضد بالله وخطب له يوم الجمعة بعد المفوض وذلك لسبع ليال بقين من صفر واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولى ما كان أبوه يتولاه‏.‏

وفيها قبض المعتمد على أبي الصقر وأصحابه وانتهب منازلهم وطلب بني الفرات فاختفوا وخلع على عبيد اله بن سليمان بن وهب وولاه الوزارة وسير محمد بن أبي الساج إلى واسط ليرد غلامه وصيفًا إلى بغداد فمضى وصيف إلى السوس فعاث بها ونهب الطيب وأبى الرجوع إلى بغداد‏.‏

وفيها قتل علي بن الليث أخوالصفار قتله رافع بن هرثمة وكان قد يحنق به وترك أخاه‏.‏

وفيها غار ماء النيل فغلت الأسعار بمصر‏.‏

وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة وكان ابتداء أمرهم فيما ذكرا رجلًا منهم قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة فكان بموضع يقال له النهرين يظهر الزهد والتقشف ويسف الخوص ويأكل من كسب يده ويكثر الصلاة فأقام على ذلك مدة فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيا وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة حتى فشا ذلك عنه بموضعه ثم أعلمهم أنه يدعوإلى إمام من آل بيت الرسول فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير‏.‏

وأن يقعد إلى بقال هناك‏:‏ فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلًا يحفظ عليهم ما صرموا من نخلهم فدلهم عليه وقال لهم‏:‏ إن أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون فكلموه في ذلك فأجابهم على أجرة معلومة فكان يحفظ لهم ويصلي اكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال ودفعوا إليه أجرته وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر وحط ثمن النوى فسمع أصحاب التمر محاسبته لبقال بثمن النوى فضربوه وقالوا له‏:‏ ألم ترض بأكل تمرنا حتى بعت النوى فقال لهم البقال‏:‏ لا تفعلوا‏!‏ وقص عليهم القصة فندموا على ضربه واستحلوا منه ففعل وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده‏.‏

ثم مرض فمكث على الطريق مطروحا وكان في القرية رجل أحمر العينين يحمل على أثوار له يسمونه كرميته لحمرة عينيه وهوبالنبطية أحمر العين فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به ففعل وأقام عنده حتى برا ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه فأجابوه وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا ويزعم أنه للإمام واتخذ منهم اثني عشر نقيبًا أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم وقال‏:‏ أنتم كحواريي عيسى بن مريم‏.‏

فاشتغل أهل كور تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات‏.‏

وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فرأى تقصير الأكرة في عمارتها فسأل عن ذلك فأخبر بخبر الرجل فأخذه وحبسه وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه وأغلق باب البيت عليه وجعل مفتاح البيت تحت وسادته واشتغل بالشرب فسمع بعض من في الدار من الجواري بحبسه فرقت للرجل فلما نسام الهيصم أخذت المفتاح وقتحت الباب وأخرجته ثم أعادت المفتاح إلى مكانه فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده‏.‏

وشاع ذلك في الناس فافتتن أهل تلك الناحية وقالوا‏:‏ رفع ثم ظهر في ناحية أخرى ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم وسألوه عن قصته فقال‏:‏ لا يمكن أحدًا أن ينالني بسوء‏!‏ فعظم في أعينهم ثم خاف على نفسه فخرج إلى ناحية الشام فلم يوقف له على خبر وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأنوار ثم خفف فقيل قرمط هكذا ذكره بعض

وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له واسمه حمدان ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم فجعل على الرجل منهم في السنة دينارا فقدم قوم من الكوفة فرفعوا أمر القرامطة والطائي إلى السلطان وأخبروه أنهم قد أحدثوا دينًا غير دين الإسلام وأنهم يرون السيف على أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا من بايعهم فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم‏.‏

وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاؤوا بكتاب فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏!‏ يقول الفرج بن عثمان وهومن قرية يقال لها نصرانة داعية المسيح وهوعيسى وهوالكلمة وهوالمهدي وهو أحمد بن محمد بن الحنيفة وهوجبريل وذكرا المسيح تصور له في جسم إنسان وقال له‏:‏ إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكرياء وإنك روح القدس‏.‏

وعرفه أن الصلاة أربع ركعات‏:‏ ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان بعد غروبها وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن‏:‏ الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن آدم رسول الله أشهد أن نوحًا رسول الله أشهد أن إبراهيم رسول الله أشهد أن موسى رسول الله أشهد أن عيسى رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن أحمد ابن محمد بن الحنيفة رسول اله وأن يقرا في كل ركعة الاستفتاح وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنيفة والقبلة إلى بيت المقدس والحج إلى بيت المقدس وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء والسورة‏:‏ الحمد لله بكلمته وتعالى باسمه المتخذ لأوليائه بأوليائه‏.‏

‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب وأنا الذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم وأنا الذي أبلوعبادي وامتحن خلقي فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي وأخلدته في نعمتي ومن زال عن أمري وكذب رسلي أخذته مهانًا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت أمري على ألسنة رسلي‏.‏

وأنا الذي لم يعلوعلي جبار إلا وضعته ولا عزيز إلا أذللته وليس الذي أصر على أمري ودام على جهالته وقالوا‏:‏ لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين أولئك هم الكافرون‏.‏

ثم يركع ويقول في ركوعه‏:‏ سبحان ربي رب العزة وتعالى عما يصف الظالمون يقولها مرتين فإذا سجد قال‏:‏ الله أعلى الله أعلى الله أعظم الله أعظم‏.‏ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة وهما المهرجان والنيروز وأن النبيذ حرام والخمر حلال ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة وأن من حاربه وجب قتله ومن لم يحاربه ممن وكان مسير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج فسار قومط إليه وقال له‏:‏ إني على مذهب رأي ومعي مائة ألف ضارب سيف فتناظرني فإن اتفقنا على المذهب ملت إليك بمن معي وإن تكن الأخرى انصرفت عنك‏.‏

فتناظرا فاختلفت رؤاهما فانصرف قرمط عنه‏.‏

ذكر غزو الروم ووفاة بازمار

فيها في جمادى الآخرة دخل أحمد العجيفي طرسوس وغزا مع بازمار الصائفة فبلغوا شكند فأصابت بازمار شظية من حجر منجنيق في أضلاعه فارتحل عنها بعد أن أشرف على أخذها فتوفي في الطريق منتصف رجب وحمل إلى طرسوس فدفن بها‏.‏

وكان قد أطاع خمارويه بن أحمد بن طولون فلما توفي خلفه ابن عجيف وكتب إلى خمارويه يخبره بوته فأقره على ولاية طرسوس وأمده بالخيل والسلاح والذخائر وغيرها ثم عزله واستعمل عليها ابن عمه محمد بن موسى بن طولون‏.‏

ذكر الفتنة بطرسوس

وفيها ثار الناس بطرسوس بالأمير محمد بن موسى فقبضوا عليه‏.‏

وسبب ذلك أن الموفق لما توفي كان له خادمًا من خواصه يقال له‏:‏ راغب فاختار بالجهاد فسار إلى طرسوس على عزم المقام بها فلما وصل إلى الشام سير ما معه من دواب وآلات وخيام وغير ذلك إلى طرسوس وسار هوجريدة إلى خمارويه ليزوره ويعرفه عزمه فلما لقيه بدمشق أكرمه خمارويه وأحبه وأنس به واستحيا راغب أن يطلب منه المسير إلى طرسوس فطال مقامه عنده فظن أصحابه أن خمارويه قبض عليه فأذاعوا ذلك فاستعظمه الناس وقالوا‏:‏ يعمد إلى رجل قصد الجهاد في سبيل الله فيقبض عليه‏!‏ ثم شغبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارويه وقبضوا عليه وقالوا‏:‏ لا يزال في الحبس إلى أن يطلق ابن عمك راغبًا ونهبوا داره وهتكوا حرمه‏.‏

وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلع راغبًا عليه وأذن له على في المسير إلى طرسوس فلما بلغ إليها أطلق أهلها أميرهم فلما أطلقوه قال لهم‏:‏ قبح الله جواركم‏!‏ وسار عنها إلى البيت المقدس فأقام به ولما سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتها‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها ظهر كوكب ذو جمة وصارت الجمة ذؤابة‏.‏

وتوفي فيها عبد الكريم الدير عاقولي‏.‏

وفيها توفي إسحاق بن كنداج وولي ما كان إليه من أعمال الموصل وديار ربيعة ابنه محمد‏.‏

وتوفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي وكان كثير الحديث والصلاح‏.‏

حوادث سنة تسع وسبعين ومائتين

ذكر خلع جعفر بن المعتمد وولاية المعتضد


في هذه السنة في المحرم خرج المعتمد على الله وجلس للقواد والقضاة ووجوه الناس وأعلمهم أنه خلع ابنه المفوض إلى الله جعفرًا من ولاية العهد وجعل ولاية العهد للمعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق وشهدوا على المفوض أنه قد تبرأ من العهد وأسقط اسمه من السكة والخطبة والطراز وغير ذلك وخطب للمعتضد وكان يومًا مشهودًا‏.‏

فقال يحيى بن علي يهنئ المعتضد‏:‏ ليهنك عقد أنت فيه المقدم حباك به رب بفضلك أعلم فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا فأنت غدًا فينا الإمام المعظم وكان عمود الدين فيه تأود فعاد بهذا العهد وهومقوم وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكًا يضيء لنا منه الذي كان يظلم فدونك فاشدد عقد ما قد حويته فإنك دون الناس فيه المحكم وفيها نودي بمدينة السلام أن لا يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع قاض ولا منجم ولا زاجر وحلف الوراقون أن لا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة‏.‏

وفيها قبض على جراد كاتب أبي الصقر إسماعيل بن بلبل‏.‏

وفيها انصرف أبوطلحة منصور بن مسلم من شهرزور وكانتله فقبض عليه‏.‏

ذكر الحرب بين الخوارح وأهل الموصل والأعراب

في هذه السنة اجتمعت الخوارج ومقدمهم هارون ومعهم متطوعة أهل الموصل وغيرهم وحمدان بن حمدون التغلبي على قتال بني شيبان‏.‏

وسبب ذلك أن جمعًا كثيرًا من بني شيبان عبروا الزاب وقصدوا نينوى من أعمال الموصل للإغارة عليها وعلى البلد فاجتمع هارون الشاري وحمدان بن حمدون وكثير من المتطوعة المواصلة وأعيان أهلها على قتالهم ودفعهم‏.‏

وكان بنوشيبان نزلوا على باعشيقا ومعهم هارون بن سليمان مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيباني صاحب ديار بكر وكان قد أنفذه محمد ابن إسحاق بن كنداج واليًا على الموصل فلم يمكنه أهلها من المقام عندهم فطردوه فقصد بني شيبان معاونًا على الخوارج وأهل الموصل فالتقوا وتصافوا واقتتلوا فانهزمت بنوشيبان وتبعهم حمدان والخوارج وملكوا بيوتهم واشتغلوا بالنهب‏.‏

وكان الزاب لما عبره بنوشيبان زائدا فلما انهزموا علموا أن لا ملجأ ولا منجى غير الصبر فعادوا إلى القتال والناس مشغولون بالنهب فأوقعوا بهم وقتل كثير من أهل الموصل ومن معهم وعاد الظفر للأعراب‏.‏

وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداج يعرفه أن البلد خارج عن يده إن لم يحضر هوبنفسه فسار في جيش كثيف يريد الموصل فخافه أهلها فانحدر بعضهم إلى بغداد يطلبون إرسال وال إليهم وإزالة ابن كنداج عنهم فاجتازوا في طريقهم بالحديثة وبها محمد بن يحيى المجروح يحفظ الطريق قد ولاه المعتضد ذلك وقد وصل إليه عهد بولايته الموصل فحثوه على تعجيل الير وأن يسبق محمد بن كنداج إليها وخوفوه من ابن كنداج إن دخل الموصل قبله فسار فسبق محمد إليها ووصل محمد بن كنداج إلى بلد فبلغه دخول المجروح الموصل فندم على التباطؤ وكتب إلى خمارويه بن طولون يخبره الخبر فأرسل أبا عبد الله بن الخصاص بهدايا كثيرة إلى المعتضد ويطلب أمورًا منها إمرة الموصل كما كانت له قبل فلم يجب إلى ذلك وأخبره كراهة أهل الموصل من عماله فأعرض عن ذكرها ‏وبقي المجروح بالموصل يسيرا وعزله المعتضد واستعمل بعده علي ابن داود بن زهراد الكردي فقال شاعر يقال له العجيني‏:‏ ما رأى الناس لهذا ال دهر مذ كانوا شبيهًا ذلت الموصل حتى أمر الأكراد فيها

ذكر وفاة المعتمد

وفيها توفي المعتمد على الله ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب ببغداد وكان قد شرب على الشط في الحسني ببغداد يوم الأحد شرابًا كثيرا وتعشى فأكثر فمات ليلًا وأحضر المعتمد القضاة وأعيان الناس فنظروا إليه وحمل إلى سامرا فدفن بها وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر وكان آسن من الموفق بستة اشهر وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وستة أشهر‏.‏

وكان في خلافته محكومًا عليه قد تحكم عليه اخوة أبوأحمد الموفق وضيق عليه حتى إنه احتاج في بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها ذلك الوقت فقال‏:‏ أليس من العجائب أن نثلي يرى ما قل ممتنعاُ عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا وما من ذاك شيء في يديه إليه تحمل الأموال طرًا ويمنع بعض ما يجبى إليه وكان أول الخلفاء انتقل من سر من رأى مذ بنيت ثم لم يعد إليها أحد منهم‏.‏

ذكر خلافة أبي العباس المعتضد

وفي صبيحة الليلة التي مات فيها المعتمد بويع لأبي العباس المعتضد بالله أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بالخلافة فولى غلامه بدرًا الشرطة وعبيد الله بن سليمان الوزارة ومحمد بن الشاه بن مالك الحرس ووصله في شوال رسول عمروبن اليث ومعه هدايا كثيرة وسأله أن يوليه خراسان فعقد له عليها وسير إليه الخلع واللواء والعهد فنصب الواء في داره ثلاثة أيام‏.‏

ذكر وفاة نصر الساماني

وفيها مات نصر بن أحمد الساماني وقام بما كان إليه من العمل بما وراء النهر أخوه إسماعيل بن أحمد وكان نصر دينا عاقلا له شعر حسن منه ما قاله في رافع بن هرثمة‏:‏ أخوك فيك على خبر ومعرفة إن الذليل ذليل حيثما كانا لولا زمان خؤون في تصرفه ودولة ظلمت ما كنت إنسانًا

ذكر عزل رافع بن هرثمة من خراسان وقتله

وفيها عزل المعتضد رافع بن هرثمة عن خراسان‏.‏

وسبب ذلك أن المعتضد كتب إلى رافع بتخلية قرى السلطان بالري فلم يقبل فأشار على رافع أصحابه برد القوى لئلا يفسد حاله بكتاب فلم يقبل أيضا وكتب المعتضد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه عن الري وكتب إلى عمروبن الليث بتوليته خراسان‏.‏

ثم إن أحمد بن عبد العزيز لقي رافعًا فقاتله فانهزم رافع عن الري وسار إلى جرجان ومات أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين فعاد رافع إلى الري فلاقاه عمرووبكر ابنا عبد العزيز فاقتتلوا قتالًا شديدا فانهزم عمرووبكر وقتل من أصحابهما مقتلة عظيمة ووصلوا إلى

وأقام رافع بالري باقي سنته ومات علي بن الليث معه في الري ثم إن عمروبن الليث وافى نيسابور في جمادى الأولى سنة ثمانين واستولى عليها وعلى خراسان فبلغ الخبر إلى رافع فجمع أصحابه واستشارهم فيما يفعل وقال لهم‏:‏ إن الأعداء قد أحدقوا بنا ولا آمن أن يتفقوا علينا هذا محمد بن زيد بالديلم ينتظر فرصة لينتهزها وهذا عمروبن عبد العزيز قد فعلت به ما فعلت فهويتربص الدوائر وهذا عمروبن الليث قد وافى خراسان بجموعه وقد رأيت أن أصالح محمد بن زيد وأعيد إليه طبرستان وأصالح ابن عبد العزيز ثم أسير إلى عمروفأخرجه عن خراسان فوافقوه على ذلك وأرسل إلى ابن عبد العزيز فصالحه واستقر الأمر بينهما في شعبان سنة ثمانين‏.‏

ثم سار إلى طبرستان فوردها في شعبان سنة إحدى وثمانين وكان قد أقام بجرجان فأحكم أمورها ولما استقر بطبرستان راسل محمد ابن زيد وصالحه وعده محمد بن زيد أن ينجده بأربعة آلاف رجل من شجعان الديلم وخطب لمحمد بطبرستان وجرجان في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين‏.‏

وبلغ خبر مصالحة محمد بن زيد ورافع إلى عمروبن الليث فأرسل إلى محمد يذكره ما فعل يه ويحذره منه ومن غدره إن استقام أمره فعاد عن إنجاده بعسكر‏.‏

فلما قوي عمروعرف لمحمد ين زيد ذلك وخلى عليه طبرستان ولما أحكم رافع أمر محمد ين زيد سار إلى خراسان فورد نيسابور في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين ومائتين وجرى بينه وبين عمروحرب شديدة انهزم فيها رافع إلى أبيورد وأخذ عمرومنه المعدل والليث ولدي أخيه علي ابن الليث وكانا عنده بعد موت أخيه علي‏.‏

ولما ورد رافع أبيورد أراد المسير إلى هراة أومرو فعلم عمروبذلك فاخذ عليه الطريق بسرخس فلما علم رافع بمسير عمروبن نيسابور سار على مضايق وطرق غامضة غير طريق الجيش إلى نيسابور فدخلها وعاد إليه عمرومن سرخس فحصره فيها وتلاقيا واستأمن بعض قواد رافع إلى عمرو فانهزم رافع وأصحابه وسير أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمده ويطلب ما وعده من الرجال فلم يفعل ولم يمده برجل واحد وتفرق عن رافع أصحابه وغلمانه وكان له أربعة آلاف غلام ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله وفارقه محمد بن هارون إلى إسماعيل ابن أحمد الساماني ببخارى وخرج رافع منهزمًا إلى خوارزم على الجمازات وحمل ما بقي معه من مال وآلة وهوفي شرذمة قليلة وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين‏.‏

فلما بلغ رباط جبوه وجه إليه خوارزمشاه أبا سعيد الدرغاني له الأنزال ويخدمه إلى خوارزم فرآه أبوسعيد في قلة من رجاله وغدر به وقتله لسبع خلون من شوال سنة ثلاث وثمانين ومائتين وحمل رأسه إلى عمروبن الليث وهوبنيساور وأنفذ عمروالرأس إلى المعتضد بالله فوصل إليه سنة أربع وثمانين فنصب ببغداد وصفت خراسان إلى شاطئ جيجون لعمرو‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة من خمارويه فتزوج المعتضد ابنة خمارويه‏.‏

وفيها ملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين وكانت بيد محمد بن إسحاق بن كنداجيق‏.‏

وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد وهي آخر حجة حجها وأول حجة حجها بالناس سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة‏.‏

وفيها توفي أبوعيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي السلمي بترمذ في رجب وكان إمامًا حافظًا له تصانيف حسنة منها‏:‏ الجامع الكبير في الحديث وهوأحسن الكتب وكان ضريرًا

حوادث سنة ثمانين ومائتين

ذكر حبس عبد الله بن المهتدي


في هذه السنة أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي ومحمد بن الحسين المعروف بشميلة وكان شميلة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه ثم لحق بالموفق في الأمان فأمنه‏.‏

وكان سبب أخذه إياه أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد وأنه يدعولرجل لا يعرف اسمه وأنه قد أفسد جماعة من الجند وغيرهم فأخذه المعتضد فقرره فلم يقرر بشيء وقال‏:‏ لو كان الرجل تحت قدمي ما رفعتهما عنه‏!‏ فأمر به فشد على خشبة من خشب الخيم ثم أوقدت نار عظيمة وأدير على النار حتى تقطع جلده ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر وحبس عبد الله بن المهتدي إلى أن علم براءته وأطلقه وكان المعتضد قثال لشميلة‏:‏ بلغني أنك تدعوإلى ابن المهتدي فقال‏:‏ المشهور عني أنني أتولى آل أبي طالب‏.‏

ذكر قصة المعتضد بني شيبان وصلحة معهم

وفيها في أول صفر سار المعتضد من بغداد يريد بني شيبان بالموضع الذي يجتمعون به من أرض الجزيرة فلما بلغهم قصده جمعوا إليهم أموالهم وأغار المعتضد على أعراب عند السن فنهب أموالهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم في الزاب مثل ذلك وعجز الناس عن حمل ما غمنوه فبيعت الشاة بدرهم والبعير بخمسة دراهم‏.‏

وسار إلى الموصل وبلد فلقيه بنو شيبان يسألونه العفو ويبذلوا له رهائن فأجابهم إلى ما طلبوا وعاد إلى بغداد وأرسل إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ يطلب منه ما أخذه من أموال ابن كنداجيق بآمد فبعثه إليه ومعه هدايا كثيرة‏.‏

ذكر خروج محمد بن عبادة على هارون وكلاهما خارجيان

في هذه السنة خرج محمد بن عبادة ويعرف بأبي جوزة وهومن بني زهير من أهل قبراثا من البقعاء على هارون وكلاهما من الخوارج وكان أول أمره فقيرا وكان هووابنان له يلتقطون الكمأة ويبيعونها إلى غير ذلك من الأعمال ثم إنه جمع جماعة وحكم فاجتمع إليه أهل تلك النواحي من الأعراب وقوي أمره وأخذ عشر الغلات وقبض الزكاة وسار إلى معلثايا فقاطعه أهلها على خمسمائة دينار وجبى تلك الأعمال وعاد وبنى عند سنجار حصنا وحمل إليه الأمتعة والميرة وجعل فيه ابنه أبا هلال ومعه مائة وخمسون رجلًا من وجوه بني زهير وغيرهم‏.‏

ووصل خبرهم إلى هارون الشاري فاجتمع رأيه ورأي وجوه أصحابه على قصد الحصن أولا فإذا فرغوا منه ساروا إلى محمد بن عباده فجمع أصحابه فبلغوا مائة راجل وألفًا ومائتي فارس وسار إليه مبادرا وأحدق به وحصره ومحمد بن عبادة في قيراثا لا يعلم بذلك‏.‏

وجد هارون في قتال الحصن وكان معه سلاليم قد أخذها وزحف إليه وكان أصحابه قد منعوا أحدًا يخرج رأسه من أعلى السور فلما رأى من معه من بني تغلب تغلبه على الحصن أعطوا من فيه من بني زهير الأمان بغير أمر هارون فشق عليه ولم يقدر على تغيير ذلك إلا أنه قتل أبا هلال بن محمد بن عبادة ونفرًا معه قبل الأمان وفتحوا الحصن وملكوا ما فيه‏.‏

وساروا إلى محمد وهوبقبراثأن فلقوه وهوفي أربعة آلاف رجل فاقتتلوأن فانهزم هارون ومن معه فوقف بعض أصحابه ونادى رجالًا بأسمائهم فاجتمعوا نحوأربعين رجلأن وحملوا على ميمنة محمد بن عبادة فانهزمت الميمنة وعادت الحرب فانهزم محمد ومن معه ووضعوا السيف فيهم فقتلوا منهم ألفًا وأربع مائة رجل وحجز بينهم الليل وجمع هارون مالهم فقسمه بين أصحابه وانهزم محمد إلى آمد فأخذه صاحبها أحمد ابن عيسى بن الشيخ بعد حرب فظفر به فأخذه أسيرأن وسيره إلى المعتضد فسلخ جلده كما يسلخ الشاة‏.‏

لما افتتح محمد بن أبي الساج مراغة بعد حرب شديدة وحصار عظيم أخذ عبد الله الحسين بعد أن أمنه وأصحابه وقيده وحبسه وقرره بجميع أمواله ثم قتله‏.‏

وفيها مات أحمد بن ثور عمان وبعث برؤوس جماعة من أهلها‏.‏

وفيها توفي جعفر بن المعتمد في ربيع الآخر وكان ينادم المعتضد‏.‏

وفيها دخل عمروبن الليث نيسابور في جمادى الأولى‏.‏

وفيها وجه محمد بن أبي الساج ثلاثين نفسًا من الخوارج من طريق الموصل فضربت أعناق أكثرهم وحبس الباقون‏.‏

وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس للغزاة من قبل خمارويه بن أحمد ابن طولون ودخل بعده بدر الحمامي فغزوا جميعًا مع العجيفي أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسون‏.‏

وفيها غزا إسماعيل بن أحمد الساماني بلاد الترك وافتتح مدينة ملكهم وأسر أباه وامرأته خاتون ونحوًا من عشرة آلاف وقتل منهم خلقًا كثيرا وغمن من الدواب ما لا يعلم عددا وأصاب الفارس من الغنيمة ألف درهم‏.‏

وفيها توفي راشد مولى الموفق بالدينور وحمل إلى بغداد في رمضان‏.‏

وفي شوال مات مسرور والبلخي‏.‏وفي شوال انكسف القمر وأصبح أهل دبيل والدنيا مظلمة ودامت الظلمة عليهم فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل فلما كان ثلث الليل زلزلوا فخربت المدينة ولم يبق من منازلهم إلا قدر مائة دار وزلزلوا بعد ذلك مس مرار وكان جملة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفًا كلهم موتى‏.‏

وحج بالناس هذه السنة أبوبكر محمد بن هارون بن إسحاق المعروف بابن ترنجة‏.‏

وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن يوسف أبوإسماعيل الترمذي في رمضان وله تصنيف حسنة واحمد بن سيار بن أيوب الفقيه المروزي وكان زاهدًا عالمًا وأبوجعفر أحمد بن أبي عمران الفقيه الحنفي بمصر‏.‏

حوادث سنة إحدى وثمانين ومائتين

ذكر مسير المعتضد إلى ما ردين وملكه إياها


وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدًا لحمدان بن حمدون لأنه بلغه أن حمدان مال إلى هارون الشاري ودعا له فلما بلغ الأعراب والأكراد مسير المعتضد تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد واجتمعوأن وعبوا عسكرهم وسار المعتضد إليهم في خيله جريدة فأوقع بهم وقتل منهم وغرق منهم في الزاب خلق كثير‏.‏

وسار المعتضد إلى الموصل يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان بن حمدون فهرب حمدان منها وخلف ابنه بهأن فنازلها المعتضد وقاتل من فيها يومه ذلك فلما كان من الغد ركب المعتضد فصعد إلى باب القلعة وصاح‏:‏ يا بن حمدان‏!‏ فأجابه فقال‏:‏ افتح الباب ففتحه فقعد المعتضد في الباب وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها ثم وجه خلف ابن حمدون وطلب اشد الطلب وأخذت أموال له ثم ظفر به المعتضد بعد عوده إلى بغداد‏.‏

وفي عوده قصد السنية وبها رجل كردي يقال له شداد في جيش كثير قيل كانوا عشرة آلاف رجل وكان له قلعة فظفر به المعتضد وهدم قلعته‏.‏

ذكر عدة حوادث


وفيها ورد ترك بن العباس عامل المعتضد على ديار مضر من الجزيرة إلى بغداد ومعه نيف وأربعون من أصحاب ابن الأغر صاحب سميساط على جمال عليهم برانس ودراريع حرير فمضى بهم إلى الحبس وعاد إلى داره‏.‏

وفيها كات وقعة لوصيف خادم ابن أبي الساج لعمر بن عبد العزيز فهزمه ثم سار وصيف إلى مولاه محمد بن أبي الساج‏.‏

وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزوالصائفة من قبل خمارويه ابن احمد بن طولون فبلغ طرابزون وفتح بلودية في جمادى الآخرة‏.‏

وفيها مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى‏.‏

وفيها غارت المياه بالري وطبرستان‏.‏

وفيها سار المعتضد إلى ناحية الجبل وقصد الدينور وولى ابنه عليا وهوالمكتفي الري وقزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان والدينور وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ وقلد عمر بن عبد العزيز ابن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج وعاد إلى بغداد لأجل غلاء السعر‏.‏

وفيها استأمن الحسن بن علي كورة عامل رافع على الري إلى علي بن المعتضد في زهاء ألف رجل فوجهه ومن معه إلى أبيه‏.‏

وفيها دخل الأعراب سامرا فقتلوا ابن سيما في ذي القعدة‏.‏

وفيها غزا المسلمون الروم فدامت الحرب بينهم اثني عشر يوما فظفر المسلمون وغمنوا غنيمة

وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة‏.‏

حوادث سنة اثنتين وثمانين ومائتين

ذكر النيروز المعتضدي


فيها أمر المعتضد بالكتابة إلى الأعمال كلها جميعها بترك افتتاح الخراج في النيروز العجمي وتأخير ذلك إلى الحادي عشر من حزيران وسماه النيروز المعتضدي وأنشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها وأراد بذلك الترفيه عن الناس والرفق بهم‏.‏

ذكر قصد حمدان وانهزامه وعوده إلى الطاعة

في هذه السنة كتب المعتضد إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمسير إليه وهوفي الموصل فبادر إسحاق وتحصن حمدان بقلاعه وأودع أمواله وحرمه فسير المعتضد الجيوش نحوه مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما فصادفوا الحسن بن علي كورة وأصحابه متحصنين بموضع يعرف بدير الزعفران من أرض الموصل‏.‏

وفيها وصل الحسين بن حمدان بن حمدون فلما رأى الحسين أوائل العسكر طلب الأمان فأمن وسير إلى المعتضد وسلم القلعة فأمر المعتضد بهدمها وسار وصيف في طلب حمدان وكان بباسورين فواقعه وصيف وقتل من أصحابه جماعة وانهزم حمدان في زورق كان له في دجلة وحمل معه مالًا كان له وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة فصار في ديار ربيعة‏.‏

وعبر نفر من الجند فاقتصوا أثره حتى أشرفوا على دير قد نزله فلما رآهم هرب وترك ماله فأخذ وأتي به المعتضد وسار أولئك في طلب حمدان فضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحاق بن أيوب وهومع المعتضد واستجار به فأحضره إسحاق عند المعتضد فأمر بالاحتفاظ به وتتابع رؤساء الأكراد في طلب الامان وكان ذلك في المحرم‏.‏

ذكر انهزام هارون الخارجي من عسكر الموصل

كان المعتضد بالله قد خلف بالموصل نصرًا القشوري يجبي الأموال ويعين العمال على جبايتها فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر فوقع عليهم طائفة من الخوارج فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل وفرق بينهم وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر وهومن أعيان أصحاب هارون فعظم عليه قتله وأمر أصحابه بالإفساد في البلاد‏.‏

فكتب نصر القشوري إلى هارون الخارجي كتابًا يتهدده بقرب الخليفة وأنه إن هم به أهلكه وأهلك أصحابه وأنه لا يغتر بمن سار إلى حربه فعاد عنه بمكر وخديعة فكتب إليه هارون كتابًا منه‏:‏ أما ما ذكرت ممن أراد قصدي ورجع عني فإنهم لما رأوا جدنا واجتهادنا كانوا بإذن الله فراشًا متتابعا وقصبًا أجوف ومن صبر لنا منهم ما زاد على الاستتار بالحيطان ونحن على فرسخ منهم وما غرك إلا ما أصبت به صاحبنا فظننت أن دمه مطلول أو أن وتره متروك لك كلا إن الله تعالى من ورائك وآخذ بناصيتك ومعين على إدراك الحق منك ولم تعيرنا بغيرك وتدع أن يكون ذلك إبداء صفحتك وإظهار عداوتك وإنا كما قيل‏:‏ فلا توعدونا باللقاء وأبرزوا إلينا سوادًا نلقه بسواد ولعمر الله ما ندعوإلى البراز ثقة بأنفسنا ولا عن ظن أن الحول والقوة لنا لكن ثقة بربنا واعتمادًا على جميل عوائده عندنا‏.‏

وأما ما ذكرت من أمر سلطانك فإن سلطانك لا يزال منا قريبا وبحالنا عالما فلا قدم أجلًا ولا أخره ولا بسط رزقًا ولا قبضه قد بعثنا على مقابلتك وستعلم عن قريب إن شاء الله تعالى‏.‏

فعرض نصر كتاب هارون على المعتضد فجد في قصده وولى الحسن بن علي كورة الموصل

وأمره بقصد الخوارج وأمر مقدمي الولايات والأعمال كافة بطاعته فجمعهم وسار إلى أعمال الموصل وخندق على نفسه وأقام إلى أن رفع الناس غلاتهم ثم سار إلى الخوارج وعبر الزاب إليهم فلقيهم قريبًا من المغلة وتصافوا للحرب فاقتلوا قتالًا شديدا وانكشف الخوارج عنه ليفرقوا جمعيته ثم يعطفوا عليه فأمر الحسن أصحابه بلزوم مواقفهم ففعلوا فرجع الخوارج وحملوا عليهم سبع عشرة حملة فانكشفت ميمنة الحسن وقتل من أصحابه وثبت هو فحمل الخوارج عليه حملة رجل واحد فثبت لهم وضرب على رأسه عدة ضربات فلم تؤثر فيه‏.‏

فلما رأى أصحابه ثباته تراجعوا إليه وصبروا فانهزم الخوارج أقبح هزيمة وقتل منهم خلق كثير وفارقوا موضع المعركة ودخلوا أذربيجان‏.‏

وأما هارون فإنه تحير في أمره وقصد البرية ونزل عند بني تغلب ثم عاد إلى معلثايا ثم عاد إلى البرية ثم رجع عبر دجلة إلى حزة وعاد إلى البرية‏.‏

وأما وجوه أصحابه فإنهم لما رأوا إقبال دولة المعتضد وقوته وما لحقهم في هذه الوقعة راسلوا المعتضد يطلبون الأمان فأمنهم فأتاه كثير منهم يبلغون ثلاثمائة وستين رجلا وبقي معه بعضهم يجول بهم في البلاد إلى أن قتل سنة ثلاث وثمانين على ما نذكره‏.‏

في هذه السنة في ربيع الأول قبض على تكتمر بن طاشتمر وقيد وأخذ ماله وكان أميرًا على الموصل واستعمل بعده عليها الحسن بن علي الخراساني ويعرف بكورة‏.‏

وفيها قدم ابن الجصاص بابنة خمارويه زوجة المعتضد ومعها أحد عمومتها وكان المعتضد بالموصل‏.‏

وفيها عاد المعتضد إلى بغداد وزفت إليه ابنة خمارويه في ربيع الآخر‏.‏

وفيها سار المعتضد إلى الجبل فبلغ الكرج وأخذ أموالًا لابن أبي دلف وكتب إلى عمروبن عبد العزيز يطلب منه جوهرًا كان عنده فوجه به إليه وتنحى من بين يديه‏.‏

وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون وحمل على دواب وبغال‏.‏

وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مددًا لفتح القلانسي غلام الموفق فهرب يوسف فيمن أطاعه إلى أخيه محمد بمراغة ولقي مالًا للمعتضد فأخذه فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر‏:‏ إمام الهدى أنصاركم آل طاهر بلا سبب تخفون والدهر يذهب وقد خلطوا شكرًا بصبر ورابطوا وغيرهم يعطي ويجبي ويهرب وفيها وجه المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه الري وعاد منها‏.‏

وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد والكوفة والمدينة فسعي به إلى المعتضد فأحضر محمد عنه بدر وسئل عن ذلك فأقر أنه يوجه إليه كل سنة مثل ذلك ففرقه وأنهى بدر إلى المعتضد ذلك فقال له المعتضد‏:‏ أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها قال‏:‏ لا يا أمير المؤمنين قال‏:‏ رأيت في النوم كأني أريد ناحية انهروان وأنا في جيشي إذ مررت برجل واقف على تل يصلي ولا يلتفت إلي فعجبت فلما فرغ من صلاته قال لي‏:‏ أقبل قأقبلت إليه فقال لي‏:‏ أتعرفني قلت‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب خذ هذه فاضرب بها الأرض بمسحاة بين يديه فأخذتها فضربت بها ضربات فقال لي‏:‏ إنه سيلي من ولدك هذا الأمر بعدد الضربات فأوصهم بولدي خيرًا‏.‏

وأمر بدرًا بإطلاق المال والرجل وأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهرا وأن يفرق ما يأتيه ظاهرا وتقدم بمعونته على ذلك‏.‏

وفيها توفي أبوطلحة منصور ين مسلم في حبس المعتضد‏.‏

وفيها ولدت جارية اسمها شغب للمعتضد ولدًا سماه جعفرا وهوالمقتدر‏.‏

وفيها قتل خمارويه بن احمد بن طولون ذبحه بعض خدمه على فراشه في ذي الحجة بدمشق

وكان سبب قتله أنه سعى إليه بعض الناس وقال له إن جواري داره قد اتخذت كل واحدة منهم خصيا من خصيان داره لها كالزوج وقال‏:‏ إن شئت أن تعلم صحة ذلك فأحضر بعض الجواري فاضربها وقررها حتى تعلم صحة ذلك‏.‏

فبعث من وقته إلى نائبه بمصر يأمره بإحضار عدة من الجواري ليعلم الحال منهن فاجتمع جماعة من الخدم قرروا بينهم الاتفاق على قتله خوفًا من ظهور ما قيل له وكانوا خاصته فذبحوه ليلًا وهربوا‏.‏

فلما قتل اجتمع القواد وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه في الإمارة وكان معه بدمشق وهوأكبر ولده فبايعوه ففرقت فيهم الأموال وكان صبيًا غرًا‏.‏

وفيها توفي عثمان بن سعيد بن خالد أبوسعيد الداري الفقيه الشافعي أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي والأجرب عن ابن الأعرابي‏.‏وفيها توفي أبوحنيفة أحمد بن داود الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات وغيره‏.‏

وفيها توفي الحارث بن أبي أسامة وله مسند يروى غالبًا في زماننا هذا وأبوالعيناء محمد بن القاسم وكان يروي عن الأصمعي‏.‏

حوادث سنة ثلاث وثمانين ومائتين

في هذه السنة سار المعتضد إلى الموصل بسبب هارون الشاري وظفر به‏.‏

وسبب الظفر به أنه وصل إلى تكريت وأقام بها وأحضر الحسين بن حمدان التغلبي وسيره في طلب هارون بن عبد الله الخارجي في جماعة من الفرسان والرجالة فقال له الحسين‏:‏ إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج عند أمير المؤمنين قال‏:‏ اذكرها‏!‏ قال‏:‏ إحداهن إطلاق أبي وحاجتان أذكرهما بعد مجيئي به‏.‏

فقال له المعتضد‏:‏ لك ذلك‏.‏

فانتخب ثلاثمائة فارس وسار بهم معهم وصيف بن موشكير فقال به الحسين‏:‏ تأمره بطاعتي يا أمير المؤمنين‏.‏ فأمره بذلك‏.‏

وسار بهم الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة فقال الحسين لوصيف ولمن معه‏:‏ ليقفوا هناك فإنه ليس له طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بكم فتمنعوه عن العبور وأجيء أنا أويبلغكم أني قتلت‏.‏

ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه وقتل بينهما قتلى وأنهزم هارون وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام فقال له أصحابه‏:‏ قد طال مقامنا ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون له الفتح دوننا والصواب أن منضي في آثارهم فأطاعهم ومضى‏.‏

وجاء هارون منهزمًا إلى موضع المخاضة فعبر وجاء حسين في أثره فلم ير وصيفًا وأصحابه في الموضع الذي تركهم فيه ولا عرف لهم خبرأن فعبر في أثر هارون وجاء إلى حي من أحياء العرب فسأل عنه فكتموه فتهددهم فاعلموه أنه اجتاز بهم فتبعه حتى لحقه بعد أيام وهارون في نحومائة رجل فناشده الشاري ووعده وأبى حسين إلا محاربته فحاربه فألقى الحسين نفسه عليه فأخذه أسيرًا وجاء به إلى المعتضد فانصرف المعتضد إلى بغداد فوصلها لثمان بقين من ربيع الأول‏.‏وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان وطوقه وخلع على إخوته وأدخل هارون على الفيل وأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه والإحسان إليه ووعد بإطلاقه‏.‏

ولما أركبوا هارون على الفيل أرادوا أن يلبسوه ديباجًا مشهرا فامتنع وقال‏:‏ هذا لا يحل فألبسوه كارها ولما صلب نادى بأعلى صوته‏:‏ لا حكم إلا لله ولوم كره المشركون وكان هارون صفريًا‏.‏

ذكر عصيان دمشق على جيش بن خمارويه وخلاف جنده عليه وقتله

في هذه السنة خرج جماعة من قواد جيش بن خمارويه عليه وجاهروا بالمخالفة وقالوا‏:‏ لا نرضى بك أميرا فاعتزلنا حتى نولي عمك الإمارة‏.‏

وكان سبب ذلك أنه لما ولي وكان صبيًا قرب الأحداث والسفل وأخلد إلى استماع أقوالهم

فغيروا نيته على قواده وأصحابه وصار يقع فيهم ويذمهم ويظهر العزم على الاستبدال بهم وأخذ نعمهم وأموالهم فاتفقوا عليه ليقتلوه ويقيموا عمه فبلغه ذلك فلم يكتمه بل أطلق لسانه فيهم ففارقه بعضهم وخلعه طغج بن جف أمير دمشق‏.‏

وسار القواد الذين فارقوه إلى بغداد وهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق وخاقان المفلحي وبدر بن جف أخوطغج وغيرهم من قواد مصر فسلكوا البرية وتركوا أهاليهم وأموالهم فتاهوا أياما ومات من أصحابهم جماعة من العطش وخرجوا فوق الكوفة بمرحلتين وقدموا على المعتضد فخلع عليهم واحسن إليهم وبقي سائر الجنود بمصر على خلافهم ابن خمارويه فسألهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي أن ينصرفوا يومهم ذلك فرجعوا فقتل جيش عمين له وبكر الجند إليه فرمى بالراسين إليهم فهجم الجند عليه فقتلوه ونهبوا داره ونهبوا مصر وأحرقوها وأقعدوا أخاه هارون في الإمرة بعده فكانت ولايته تسعة أشهر‏.‏

ذكر حصر الصقالبة القسطنطينية

وفي هذه السنة سارت الصقالبة إلى الروم فحصروا القسطنطينية وقتلوا من أهلها خلقًا كثيرا وخربوا البلاد فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصًا جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوا الصقالبة وأزاحوهم عن القسطنطينية ولما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فردهم وأخذ السلاح منهم وفرقهم في البلاد حذرًا من جنايتهم عليه‏.‏

ذكر الفداء بين المسلمين والروم


في هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم فكان جملة من فدي به من المسلمين الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس‏. ‏ ذكر الحرب بين عسكر المعتضد وأولاد أبي دلف وفيها سار عبيد الله بن سليمان إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالجبل فسار عمر إليه بالأمان في شعبان فأذعن بالطاعة فخلع عليه وعلى أهل بيته‏.‏

وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز بالأمان إلى عبيد الله بن سليمان وبدر فولياه عمل أخيه على أن يسير إليه فيحاربه فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر‏:‏ إن أخاك قد دخل في الطاعة وإمنا وليناك عمله على أنه عاص والمعتضد يفعل في أمركما ما يراه فامضيا إلى بابه‏.‏

وولي النوشري أصبهان وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز فهرب بكر بن عبد العزيز فكتب عبيد الله إلى المعتضد بذلك فكتب إلى بدر ليقيم بمكانه إلى أن يعرف حال بكر‏.‏

وسار الوزير إلى علي بن المعتضد بالري ولحق بكر بن عبد العزيز بالأهواز فسير المعتضد إليه وصيف بن موشكير فسار إليه فلحقه بحدود فارس وباتا متقابلين وارتحل بكر إلى أصبهان ليلا فلم يتبعه وصيف بل رجع إلى بغداد وسار بكر إلى أصبهان فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فأمر بدر عيسى النوشري بذلك فقال بكر‏:‏ عني ملامك ليس حين ملام هيهات أجدب زائد الأيام ظأرت عنايات الصبا عن مفرقي ومضى أوان شراستي وغرامي ألقى الأحبة بالعراق عصيهم وبقيت نصب حوادث الأيام وتقاذفت بأخي النوى ورمت به رمي العبيد قطيعة الأرحام فلأقرعن صفاة دهر نابهم قرعًا يهز رواسي الأعلام ولأضربن الهام دون حريمهم ضرب القدار نقيعة القدام ولأتركن الواردين حياضهم بقرارة لمواطئ الأقدام يا بدر إنك لوشهدت مواقفي والموت يلحظ والسيوف دوامي حركتني بعد السكون وإمنا حركت من حصن جبال تهام وعجمتني فعجمت مني من حمى خشن المناكب كل يوم زحام قل للأمير أبي محمد الذي يجلوبغرته دجى الإظلام أسكنتني ظل العلا فسكنته في عيشة رغد وعز نام حتى إذا خليت عني نابني نوب أتت وتنكرت أيامي فلأشكرن جميل ما أوليتني ما غردت في الأيك ورق حمام هذا أبوحفص يدي وذخيرتي للنائبات وعدتي وسنامي ناديته فأجابني وهززته فهززت حد الصارم الصمصام من رام أن يغضي الجفون على القذى أويستكين يروم غير مرام ويخيم حين يرى الأسنة شرعًا والبيض مصلتة لضرب الهام ثم إن النوشري انهزم عن بكر فقال بكر يذكر هربه ويعير وصيفًا بالإحجام عنه ويتهدد بدرًا في أبيات منها‏:‏ قد أرى النوشري حين التقينا من إذا أشرع الرماح يفر غر بدرًا حلمي وفضل آتاني واحتمالي للعبء مما يغر سوف يأتيه من خيولي قب لاحقات البطون جون وشقر يتنادون كالسعالي عليها من بني وائل اسود تكر لست بكرًا إن لم أدعهم حديثًا ما سرى كوكب وما كر دهر

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أمر المعتضد بالكتابة إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوي الأرحام وأبطل ديوان المواريث‏.‏

وفيها في شوال مات علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي وكانت ولايته لقضاء بمدينة المنصور ستة أشهر‏.‏

وفيها قدم عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بغداد فأمر المعتضد الناس والقواد باستقباله وقعد له المعتضد فدخل عليه وأكرمه وخلع عليه‏.‏

وفيها في رمضان تحارب عمروبن الليث الصفار ورافع بن هرثمة فانهزم رافع وكان سبب ذلك أن عمرًا فارق نيسابور فخالفه إليها رافع وملكها وخطب فيها لمحمد بن زيد العلوي

فرجع عمرومن مروإلى نيسابور فحصرها فانهزم رافع منها ووجه عمروفي طلبه عسكرًا فلحقوه بطوس فانهزم منهم إلى خوارزم فلحقوه بها فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى المعتضد فوصله سنة أربع وثمانين في المحرم أمر بنصبه ببغداد وخلع على القاصد به‏.‏

وفيها مات البحتري الشاعر واسمه الوليد بن عبادة بمنبج أوحلب وكان مولده سنة ست ومائتين‏.‏

وفيها توفي محمد بن سليمان أبوبكر المعروف بابن الباغندي وأبوالحسن علي بن العباس بن جريج الشاعر المعروف بابن الرومي وقيل‏:‏ توفي سنة أربع وثمانين وديوانه معروف رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع السري ومولده سنة مائتين وقيل ومائتين‏.‏

حوادث سنة أربع وثمانين ومائتين

في هذه السنة كان فتنة بطرسوس بين راغب مولى الموفق وبين دميانة‏.‏

وكان سبب ذلك أن راغبًا ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ودعا لبدر مولى المعتضد واختلف هووأحمد بن طوغان فلما انصرف أحمد بن طوغان من الفداء سنة ثلاث وثمانين ركب البحر ومضى ولم يدخل طرسوس وخلف دميانة بها لقيام بأمرها وأمده ابن طوغان فقوي بذلك وأنكر ما كان يفعله راغب فوقعت الفتنة فظفر بهم راغب فحمل دميانة إلى بغداد‏.‏

وفيها أوقع عيسى بن النوشري ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بنواحي أصبهان فقتل رجاله واستباح عسكره ونجا بكر في نفر يسير من أصحابه فمضى إلى محمد بن زيد العلوي بطبرستان وأقام عنده إلى سنة خمس وثمانين ومات ولما وصل خبر موته إلى المعتضد أعطى القاصد به ألف دينار‏.‏

وفيها في ربيع الأول قلد أبوعمر يوسف بن يعقوب القضاء بمدينة المنصور مكان علي بن أبي الشوارب‏.‏

وفيها أخذ خادم نصراني لغالب النصراني وشهد عليه أنه شتم النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع أهل بغداد وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله وطالبوه بإقامة الحد عليه فلم يفعل فاجتمعوا على ذلك إلى دار المعتضد فسئلوا عن حالهم فذكروه للمعتضد فأرسل معهم إلى القاضي أبي عمر فكادوا يقتلونه من كثرة ازدحامهم فدخل بابًا وأغلقه ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر ولا للعامة ذكر اجتماع في أمره‏.‏

وفيها قدم قوم من أهل طرسوس على المعتضد يسألونه أن يولي عليهم واليا وكانوا قد أخرجوا عامل ابن طولون فسير إليهم المعتضد ابن الإخشيد أميرًا‏.‏

وفيها في ربيع الآخر ظهرت بمصر ظلمة وحمرة في السماء شديدة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمد فمكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة وخرج الناس من منازلهم يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه‏.‏

وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس وهوكتاب طويل قد أحسن كتابته إلا أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصح وذكر في الكتاب يزيد وغيره من بني أمية وعملت به نسخ قرئت بجانبي بغداد ومنع القضاة والعامة من القعود بالجامعين ورحابهما ونهى عن الاجتماع على قاض لمناظرة أوجدل في أمر الدين ونهى الذين يسقون الماء في الجامعين أن يترحموا على معاوية أويذكروه فقال له عبيد الله بن سليمان‏:‏ إنا نخاف اضطراب العامة وإثارة الفتنة فلم يسمع منه وحذره اضطراب العامة فلم يلتفت فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ فما نصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية ويميل إليهم خلق كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سمع الناس ما في هذا الكتاب من إطرائهم كانوا إليهم أميل وكانوا هم أبسط ألسنة وأظهر حجة فيهم اليوم‏.‏

فامسك المعتضد ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء وكان عبيد الله من المنحرفة عن علي عليه السلام‏.‏

وفيها سير المعتضد إلى عمروبن الليث الخلع والواء بولاية الري وهدايا‏.‏

وفيها فتحت قرة من بلد الروم على بد راغب مولى الموفق وابن كلوب في رجب‏.‏

وفيها في شعبان ظهر بدار المعتضد إنسان بيده سيف فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو فضربه بالسيف فجرحه وهر بالخادم ودخل الشخص في زرع البستان فتوارى فيه فطلب باقي ليلته ومن الغد فلم يعرف له خبر فاستوحش المعتضد وكثر الناس في أمره بالظنون حتى قالوا‏:‏ إنه من الجن وظهر مرارًا كثيرة حتى وكل المعتضد بسور داره وأحكمه بالظنون حتى قالوا‏:‏ ثم أحضر المجانين والمعزمين بسبب ذلك الشخص فسألهم عنه فقال المعزمون‏:‏ نحن نعزم على بعض المجانين فإذا سقط الجني عنه فاخبره خبره فعزموا على امرأة مجنونة فصرعت والمعاضد ينظر إليهم فلما صرعت أمرهم بالانصراف‏.‏

وفيها وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين ذكر أنهم من القرامطة فقروا بالضرب فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه منهم فقبض عليه وحبسه‏.‏

وفيها وثب الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم فقتله وكان أخوه عمر بن عبد العزيز قد أخذه وقيده وحبسه في قلعته زر ووكل به شفيعًا الخادم ومعه جماعة من غلمان عمر فلما استأمن عمر إلى المعتضد وهرب بكر بقيت القلعة بما فيها من الأموال بيد شفيع فكلمه أبوليلى في إطلاقه فلم يفعل وطلب من غلام كان يخدمه مبردا فادخله في الطعام فبرد مسمار قيده‏.‏

وكان شفيع في كل ليلة يأتي إلى أبي ليلى يفتقده ويمضي ينام وتحت رأسه سيف مسلول فجاء شفيع في ليلة إليه فحادثه فطلب منه أن يشرب معه أقداحا وقام الخادم لحاجته فجعل أبوليلى في فراشه ثيابًا تشبه إنسانًا نائما وغطاها باللحاف وقال لجارية كانت تخدمه‏:‏ إذا عاد شفيع قولي له هونائم‏.‏

ومضى أبوليلى فاختفى ظاهر الدار وقد اخرج قيده من رجله فلما عاد شفيع قالت له الجارية‏:‏ هونائم‏!‏ فأغلق الباب ومشى إلى داره ونام فيها‏.‏

فخرج أبوليلى وأخذ السيف من عند شفيع وقتله فوثب الغلمان فقال لهم أبوليلى‏:‏ قد قتلت شفيعا ومن تقدم إلي قتلته فأنتم آمنون‏!‏ فخرجوا من الدار واجتمع الأنس إليه فكلمهم ووعدهم الإحسان وأخذ عليهم الإيمان وجمع الأكراد وغيرهم وخرج مخالفًا على المعتضد وكان قتل شفيع في ذي القعدة‏.‏

ولما خرج أبوليلى على اللطان قصده عيسى النوشري فاقتتلوا فأصاب أبا ليلى في حلقه سهم وفيها كان المنجمون يوعدون بغرق أكثر الأقاليم إلا إقليم بابل فإنه يسلم منه اليسير وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة الأنهار والعيون فقحط الناس وقلت الأمطار وغارت المياه حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء فاستسقوا ببغداد مرات‏.‏

وفيها ظهر اختلال حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر واختلفت القواد وطمعوا فانحل النظام وتفرقت الكلمة ثم اتفقوا على أن جعلوا مدير دولته أبا جعفر بن أبا وكان عند والده وجده مقدما كبير القدر فأصلح من الأحوال ما استطاع وكم جهد الصناع إذ اتسع الخرق وكان من بدمشق من الجند قد خالفوا على أخيه جيش كما ذكرنا فلما تولى أبوجعفر الأمور سير جيشًا إلى دمشق عليهم بدر الحمامي والحسين بن أحمد الماذرائي فأصلحا حالها وقررا أمور الشام واستعملا على دمشق طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال ورجعا إلى مصر والأمور فيها اختلال والقواد قد استولى كل واحد منهم على طائفة من الجند وأخذهم إليه وهكذا يكون انتقاض الدول وإذا أراد الله أمرًا فلا مرد لحكمه وهوسريع الحساب‏.‏

وفيها توفي إسحاق بن موسى بن عمران أبويعقوب الاسفرايني الفقيه الشافعي والغياثي واسمه عبد العزيز بن معاوية من ولد غياث بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين‏.‏

حوادث سنة خمس وثمانين ومائتين

فيها قطع صالخ بن مدرك الطائي الطريق على الحاج بالأجفر في المحرم فحاربه حبي الكبير وهوأمير القافلة فلم يقوبه وبمن معه من الأعراب وظفر بالحج ومن معه بالقافلة فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات وأخذوا جماعة من النساء والجواري والمماليك فكانت قيمة ما أخذوه ألفي ألف دينار‏.‏

وفيها ولي عمروبن الليث ما وراء النهر وعزل إسماعيل بن أحمد‏.‏

وفيها كان بالكوفة ريح صفراء فبقيت إلى المغرب ثم اسودت فتضرع الناس ثم مطروا مطرًا شديدًا برعود هائلة وبروق متصلة ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمداباذ ونواحيها أحجار بيض وسود مختلة الألوان في أوساطها طبق وحمل منها إلى بغداد فرآه الناس‏.‏

وفيها سار فاتك مولى المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية والجزرية وإصلاحها مضافًا إلى ما كان يتقلده من البريد بها‏.‏

وفيها كان بالبصرة ريح صفراء ثم عادت خضراء ثم سوداء ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثله ثم وقع برد كبار وزن البردة مائة وخمسون درهمًا فيما قيل‏.‏

وفيها ولى المعتضدمحمد بن أبي الساج أعمال أذربيجان وأرمينية وكان قد تغلب عليها وخالف وبعث إليه بخلع‏.‏

وفيها غزا راغب مولى الموفق في البحر فغمن مراكب كثيرة فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم كانوا فيهأن وأحرق المراكب وفتح حصونًا كثيرة وعاد سالمًا ومن معه‏.‏

وفيها توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ وقام بعده ابنه محمد بآمد وما يليها على سبيل التغلب فسار المعتضد إلى آمد بالعساكر ومعه ابنه أبومحمد علي المكتفي في ذي الحجة وجعل طريقه على الموصل فوصل آمد وحصرها إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ومائيتن ونصب عليها المجانيق فأرسل محمد بن أحمد بن عيسى يطلب الأمان لنفسه ولمن معه ولأهل البلد فأمنهم المعتضد فخرج إليه وسلم البلد فخلع عليه المعتضد وأكرمه وهدم سورها‏.‏

ثم بلغه أن محمد بن الشيخ يريد الهرب فقبض عليه وعلى آله‏.‏

وفيها وجه هارون بن خمارويه إلى المعتضد ليسأله أن يقاطعه على ما في يده ويد نوابه من مصر والشام ويسلم أعمال قنسرين إلى المعتضد ويحمل كل سنة أربع مائة ألف وخمسين ألف دينار وفأجابه إلى ذلك وسار من آمد واستخلف فيها ابنه المكتفي ووصل إلى قنسرين والعواصم فتسلمها من أصحاب هارون وكان ذلك سنة ست وثمانين ومائيتن‏.‏

وفيها غزا ابن الأخشيد بأهل طرسوس فتح اله على يديه وبلغ إسكندرون وحج بالناس محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن إسحاق الحربي ببغداد وهومن أعيان المحدثين وإسحاق بن إبراهيم الديري صاحب عبد الرزاق بصنعاء وهوآخر من روى عن عبد الرزاق‏.‏

الدبري بفتح الدال المهملة والباء الموحدة وبعدها راء‏.‏

وفيها توفي أبوالعباس محمد بن يزيد الأزدي اليماني الخوي المعروف بالمبرد وكان قد أخذ النحوعن أبي عثمان المازني‏.‏

حوادث سنة ست وثمانين ومائيتن

وفي هذه السنة وجه محمد بن أبي الساج المعروف بأبي المسافر إلى بغداد برهينة بما ضمن من الطاعة والمناصحة ومعه هدايا جليلة‏.‏

وفيها أرسل عمروبن الليث هدية إلى المعتضد من نيسابور فكانت قيمتها أربعة آلاف درهم‏.‏     ‏  ‏   ‏ ‏ ‏